قصة داوود - الجزء 24
قصة نبي الله داوود - الجزء الرابع والعشرون
من هو داوود - 24
تعرضنا في الجزء السابق من هذه المقالة (في خضم حديثنا عن الفرق بين الفعل والعمل) إلى قصة ذبح البقرة في بني إسرائيل مع نبيهم موسى. وافترينا القول من عند أنفسنا بأن القوم لم يكونوا مجادلين، وإنما كانوا محاورين، ينشدون ما عند موسى من علم في الألواح التي كانت بين يديه عن ماهية طقس ذبح البقرة في قضية إحياء الموتى. وكانت الافتراءات الرئيسية هي على النحو التالي:
حصول حادثة قتل في بني إسرائيل
محاولة نفر من بني إسرائيل التستر على الجريمة، بعدم كشف هوية الفاعل الحقيقي
احتمالية حصول الفتنة في القوم، والحاق الضرر بموسى من جهة وببني إسرائيل من جهة أخرى
تدخل موسى في الحادثة لإيقاف الفتنة وكف العذاب الذي كان من الممكن أن يصيب القوم
تفاجأ القوم من طلب موسى أن يذبحوا بقرة، وذلك لغرابة الطلب، فظنوا أن كلامه يقع في باب الاستهزاء بهم
نفى موسى عن نفسه أن يكون مستهزأ، لأن ذلك يجعله في باب الجاهلين الذين يقولون بما ليس لهم به علم
استقر بعد فترة وجيزة لدى القوم بأن طلب موسى هو أمر إلهي كان لزاما على المؤمنين منهم الإنصياع له
بدأ القوم يتجادلون في ماهية تلك البقرة، فبدأوا يسألون عنها طلبا للعلم، من أجل أن ينفذوا الأمر بحرفيته حتى يتحصلوا على النتيجة المرجوة
قدّم لهم موسى المعلومة من تلك الألواح التي كانت بين يديه، بناءً على التساؤلات التي طرحوها عليه تباعا
قدّم لهم موسى المعلومة مجزّأة (ردا على تساؤلاتهم)، ليرقب عن كثب ردة فعل القوم كلهم، فيعلم المؤمنين منهم والذين هم أدنى من ذلك
كانت نتيجة تقديم المعلومة بهذا الشكل أن بان لموسى الذين صدقوا من بين القوم مقابل المجادلين الذين كانوا يتسللون لواذا منهم
عندما بان لموسى حقيقة الجمع، قدم لهم المعلومة كاملة
أقدم القوم على جلب البقرة المنشودة
عندما ذبح القوم تلك البقرة، عمدوا إلى استخراج بعض تلك البقرة (وهي المادة المتكون منها الجنين داخل بطن البقرة – انظر الجزء السابق)
عمد القوم إلى حقن تلك المادة (البعض) في سرة ذلك المريض
كانت النتيجة أن دبت الحياة في ذلك المقتول، فتجلت الحقيقة للجمع، وتم وأد الفتنة التي كادت أن تحصل بينهم
كان نتيجة تلك التجربة أن تحصّل لبني إسرائيل علم إحياء الموتى ورؤية آيات الله بأم أعينهم
الخ.
(للوقوف على تفاصيل افترائتنا هذه، انظر الجزء السابق من هذه المقالة)
لمتابعة النقاش في تفاصيل تلك القصة العظيمة، نطرح ابتداء السؤال التالي: ما هي المشكلة التي حصلت في بني إسرائيل في تلك الفترة من الزمن؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن القوم اختلفوا في حادثة "قتل نفس" حصلت فيهم، فحاول نفر منهم أن "يدّارأوا" فيها، وذلك في محاولة منهم أن يكتموا شيئا في أنفسهم:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:72)
لذا، نحن نظن بأن الأمر الإلهي لهم بذبح البقرة كان هدفه أن يخرج الله ما كان يكتمه أولئك النفر من القوم (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). ولو دققنا في هذه الآية الكريمة، سنجد بأن قتل تلك النفس التي "ادارأ" القوم فيها كانت لغاية في نفوسهم يحاولون التستر عليها. وإذا صح هذا الافتراء، فإن بعض التساؤلات الملحّة الآن ستكون على النحو التالي:
ما هي تلك النفس التي قتلها نفر من القوم؟
كيف تمت عملية القتل؟
أين تمت عملية القتل؟
لماذا تمت عملية القتل؟
كيف "ادارأ" القوم في قتل تلك النفس؟
الخ
يجد المدقّق في الآيات الكريمة على مساحة النص القرآني أن "الكتمان" هو النقيض المقابل للجهر من القول، قال تعالى:
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (21:110)
فالذي "يكتم" هو الذي لا يجهر بالقول، لنصل إلى النتيجة المهمة التي مفادها بأن عملية القتل التي حصلت في بني إسرائيل حينئذ كان يحيطها الكتمان، أي عدم الجهر بالقول. فلقد اكتنف الغموض - نحن نتخيل - حادثة القتل حتى أصبح من العسير أن تجد من يدلي بمعلومة تفيد في معرفة حيثيات الجريمة أو المتورطين فيها. ليكون السؤال الآن هو: لماذا أصبح الكتمان يكتنف تلك الجريمة، فلم لم ينبري (نحن نسأل) من يدلي بشهادة تفيد في معرفة القاتل أو طريقة القتل أو حتى الغاية من قتل تلك النفس؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن (ربما مخطئين) أن السبب في ذلك يعود إلى أن جريمة القتل تلك قد خُطّطت بإحكام تام. فالمتورطون في الجريمة قد خططوا تنفيذها بدقة حتى أصبح من العسير كشف مخططهم دون تدخل إلهي مباشر يفضح أمرهم، ويكشف حقيقة ما فعلوا. فجريمتهم - بكلماتنا الدارجة - "جريمة كاملة"، وهذا يعود لمجموعة من الأسباب، نذكر منها:
أن القتلة كانوا على درجة عالية من الذكاء (لا بل الدهاء والمكر)
أن القتلة ربما كانوا على مكانة اجتماعية رفيعة بين القوم
أن الجريمة كانت مكتملة الأركان من حيث الزمان والمكان وطريقة التنفيذ
أن الجريمة كانت لغاية كبرى، يصعب على الناس العاديين فهم ماهيتها
الخ
لمّا كان المتورطون في الجريمة مجتمعين على مصلحة مشتركة تطالهم جميعا، كانوا متفقين (نحن نرى) فيما بينهم على ما يكتمونه. فهناك إذا غاية في نفوسهم لا يريدون أن تظهر على العلن. ولو دققنا بحرفية المفردات الواردة في هذا السياق عن قصة هؤلاء النفر من بني إسرائيل، وهي ما جاء في قوله تعالى:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:72)
سنجد أن عبارة "مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ" لم ترد في كتاب الله بهذه الحرفية إلا في سياق الحديث عن الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم:
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:33)
فقد أظهرت الملائكة - كما أسلفنا - شيئا من "عدم الرضا" عن ذلك القرار الإلهي، وعلّلوا "عدم رضاهم" على النحو التالي:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (2:30)
لكن، نحن نعلم أنه على الرغم من جهرهم بشيء من القول، إلا أن أنهم (نحن نظن) قد كتموا الغاية الحقيقية من "عدم رضاهم" التام عن القرار الإلهي، فبيّن لهم الله أنه يعلم ما يبدون ويعلم كذلك ما كانوا يكتمون:
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:33)
فأنت قد تظهر سببا لتعلل به موقفك تجاه قضية ما، لكنك قد تكتم الغاية الحقيقة من وراء ذلك. فالأسباب المعلنة قد لا تكون هي السبب الحقيقي لموقفك المعلن. فالملائكة كتمت (نحن نظن) السبب الحقيقي من وراء موقفهم بالرغم من أنهم قدموا علانية أسبابا لتبرير رأيهم. فالسبب الحقيقي الذي كانت الملائكة تكتمه هو ما أظهره إبليس علانية: ألا وهو الكبر الذي كان في أنفسهم. لكن على الرغم من وجود شيء من ذلك الكبر في أنفسهم، إلا أنهم نزلوا في نهاية المطاف عند الأمر الإلهي، فتغلبوا على ذلك الكبر، وأقروا بأفضلية آدم عليهم بما عهد الله عنده من علم الاسماء، فسجدوا، وأصر إبليس من بينهم جميعا على موقفه، فهو فقط مِن بينهم جميعا مَن لم يتراجع عن موقفه السابق، فأبى واستكبر:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (2:34)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (7:11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (7:12)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (15:30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (15:31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (15:32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (15:33)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (17:61)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (18:50)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ (20:116)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (38:73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (38:74) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (38:76)
والمدقق في هذه الآيات الكريمة التي تبين لنا ما كان من أمر إبليس سيجدها سبع آيات في عددها، وقد يظن القارئ لهذه الآيات الكريمة أنها تكرار لموقف إبليس في حالة واحدة. وهذا ما نرفضه جملة وتفصيلا. فنحن نظن (ربما مخطئين) بأن هذه الآيات السبعة تتكامل مع بعضها (ولا تكرر ذاتها) لتبين لنا ما كان من أمر إبليس بكل تفاصيله. فهي إذن سبع حالات متكاملة. فإبليس قد أبى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ (20:116)
وهو قد استكبر:
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (38:74)
وهو قد أبى واستكبر:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (2:34)
وهو قد فسق عن أمر ربه:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (18:50)
وكان من الكافرين:
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (38:74)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (2:34)
وهو لم يكن من الساجدين:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (7:11)
وهو قد أبى أن يكون مع الساجدين:
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (15:31)
والمهم عندنا هنا أنه قد علّل ذلك قائلا:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (17:61)
فعلى الرغم من وجود إبليس في بداية الأمر مع جمع الملائكة الذين أظهروا الاحتجاج على النحو التالي:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (2:30)
إلا أن الله قد أخرج ما كان يكتمه إبليس الذي رفض النزول عند الأمر الإلهي:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (7:12)
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (38:76)
... قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (17:61)
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (15:33)
إن هذا الطرح يفيدنا في الوصول إلى افتراء مفاده أن الذي يكتم شيئا هو من يحاول ألا يبوح بالغاية الحقيقية "المبطنة" لموقفه المعلن. ولا شك عندنا أن الكتمان في حالة القتل يتمثل بوجود "دافع" عند القاتل يكتمه في نفسه. وهذا يقودنا إلى محاولة الإجابة على السؤال التالي: لماذا دبّر أولئك النفر حادثة القتل كما جاء ذلك صريحا في كتاب الله؟
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:72)
رأينا المفترى: دعنا نطرح السيناريو المقترح التالي في قصة حادثة القتل في بني إسرائيل: كان هناك نفر في بني إسرائيل يكتمون السوء ضد طائفة أخرى يرون أنهم قد فضّلوا عليهم (كما ظن إبليس أن الله قد فضل عليه آدم). ولا شك أن هؤلاء يرون أنهم أكثر أهلية من الطرف الآخر الذي يرون بأم أعينهم تفضيله عليهم (كما ظن إبليس أنه خير من آدم). فدبروا حادثة القتل تلك (نحن نرى) انتقاما لأنفسهم، واحراجا للطرف الآخر عندما يستطيعوا (بناء على حساباتهم غير المعلنة) التشكيك بأهلية ذلك الطرف الآخر بذلك التفضيل. وإن صح هذا الطرح (على غرابته)، سيكون السؤال التالي هو: كيف دبّر أولئك النفر حادثة القتل؟ أي كيف نُفّذت جريمة القتل تلك على أرض الواقع؟
رأينا المفترى: نحن نعتقد (غير جازمين) بأنه لابد لجريمة قتل كهذه أن تكون مكتملة الأركان من حيث التوقيت والمكان وطريقة التنفيذ. وبالتالي، لابد أن تكون قد حصلت (نحن نتخيل) في وقت محدد وفي مكان معين حيث لا يكون لأعين الناظرين الى ذلك سبيلا. فلا ضير أن نتخيل - ابتداءً - بأن الوقت كان يغطيه جنح الظلام، وأنّ المكان يخلو من وجود الناس، كأن يكون - مثلا- مكانا غير مسكون، كما جاء في الآية الكريمة التالية التي ختمت بالفكرة ذاتها وهي علم الله بما يبدي الناس وما يكتمون:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (24:29)
فمثل هذا المكان (البيوت غير المسكونة) يمكن أن يدبر بها الأمر بليل، فلا تطاله أعين الناظرين. ولا ننسى أن نذكّر القارئ الكريم بأن القوم كانوا للتو خارجين من أرض مصر، حاملين أوزارهم، فقذفوها في مكان ما، فأصبح مكانا فيه متاع لهم:
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (20:87)
ولا شك أنه كان هناك فرصة أن يرى البعض ما لا يراه الآخرون، كما حصل مع السامري عندما بصر بما لم يبصر به القوم:
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (20:96)
نتيجة مفتراة: نحن نتخيل أن القوم في رحلتهم إلى الأرض المقدسة وصلوا مكانا ما، حيث وضعوا أوزارهم التي كانوا يحملونها، فأصبح مكانا فيه متاع لهم. فكانوا يستطيعون الدخول إليه بحجة وجود المتاع فيه. وهذا المكان يتصف بصفتين متضادتين تماما:
إما أن يكون مكتضا بالناس لكثرة الواضعين متاعهم فيه (كحالته في النهار المبصر)
أن يكون مكانا خال من الناس بحجة حراستة حتى لا يسرق متاع الناس (كحالته في الليل المظلم)
ليكون السؤال الآن هو: كيف يمكن أن نتخيل القوم وقد قتلوا تلك النفس، فدارأوا فيها كما جاء في قوله تعالى:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:72)
مادام أن القوم قد "ادارأوا" في تلك النفس التي قتلوها، أصبح لزاما علينا أن نبحث في استخدام هذه المفردة على مساحة النص القرآني، آملين أن نستطيع تحديد معنى دقيق لها، يفيدنا في فهم بعض تفاصيل القصة كما نفّذت فعلا على أرض الواقع.
باب فَادَّارَأْتُمْ
لو فتشنا إذًا عن مفردة ادَّارَأْتُمْ - ومشتقاتها - على مساحة النص القرآني، سنجد قوله تعالى:
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (13:22)
أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (28:54)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (24:8)
فالمدقق في هذه الآيات سيجد بأن "المدارأة في شيء" تكون على نحو ابعاد (أو لنقل تجنب) شيء ما (غالبا ما يكون غير محمود) بالقيام بشيء آخر. فأنت تدرء السيئة بالحسنة، أي تريد التخلص من السيئة على نحو أن تعمل الحسنة حتى يتحصل لك ذهاب السيئات بعمل الحسنات كما جاء في قوله تعالى :
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ (11:114)
والمدقق في الآيات الكريمة يجد بأن درء شيء سيئ (كالسيئة) بشيء حسن (كالحسنة) يؤدي في نهاية المطاف إلى نتيجة محمودة (أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار):
... وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (13:22)
في مقابل الذي يجيء بالسيئة فتكون عاقبته على نحو أن تكبّ وجوههم في النار:
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (27:90)
لذا، فإن درء شيء سيئ بشيء سيء (مثله أو أشد سوء منه) يجلب لك العقوبة. فالزانية التي تدرء عن نفسها العقاب الدنيوي بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين:
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (24:8)
ستكون عاقبتها عند الله على النحو التالي:
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (24:9)
السؤال: كيف "ادارأ" نفر من بني إسرائيل بقتل تلك النفس؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا (لا تصدقوها): نحن نفتري الظن بأن نفرا من بني إسرائيل قد قاموا بفعل القتل (قتلوا نفسا) ليدرأوا عن أنفسهم عذابا كان من المفترض أن يقع عليهم لو أنهم لم يفعلوا ذلك. لذا، كان قتلهم لتلك النفس - برأينا ربما المغلوط - ليس أكثر من وسيلة ليدرأوا (أي ليكفوا) عن أنفسهم عذابا بسبب "عمل ما" قاموا به لغاية (كتموها) في أنفسهم. فتكون الصورة (في ذهننا حتى الساعة) على النحو التالي: يقوم نفر من بني إسرائيل بعمل مشين ضد شخص محدد بعينه (حسدا من عند أنفسهم)، ويعلمون يقينا بأنه لو ظهر هذا العمل إلى العلن، سيتجرعون - لا محالة - عاقبته الوخيمة أمام الناس وعلى رؤوس الأشهاد. ولكي لا يصبيهم ذلك، فيفتضح أمرهم (المشين) بين الناس، كان عليهم (نحن نتخيل) أن يدرأوا عن أنفسهم عاقبة ما فعلوا. فلم يكن متاح أمامهم خيارا (بعد تدارسهم القضية بكل حيثياتها) إلا أن يقتلوا تلك النفس من بينهم، فـ "يدارأوا" فيها. ليكون السؤال الآن هو: ما هو العمل الذي اضطروا بسببه إلى أن يقوموا بفعل القتل حتى يكفوا عن أنفسهم عذابا كاد أن يقع عليهم (لو افتضح أمرهم وبانت فعلتهم أمام العالمين)؟
رأينا المفترى: لا شك عندنا أن هناك - حتى الساعة - أكثر من سيناريو محتمل لحادثة القتل تلك. وحتى نستطيع أن نحدد أيّا من تلك السيناريوهات هي الأكثر وجاهة، وبالتالي الأكثر واقعية لتصوير ما حصل فعلا على أرض الواقع، علينا أن نطرح جمّلة من التساؤلات، نذكر منها:
ما هي تلك النفس المقتولة؟ هل هي نفس ذكر أم نفس أنثى؟ أي هي المقتول كان ذكرا أم أنثى؟
من المشتركون في عملية القتل؟
كيف تمت عملية القتل؟
الخ
رأينا المفترى: لو دققنا في مفردات القصة كما يبينها النص القرآني، سنجد بأن المقتول كان ذكرا وليس أنثى، بدليل قوله تعالى:
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2:73)
فالمقتول إذا شخص ذكرا، بدليل مفردة (اضْرِبُوهُ)، فلو كان المقتول أنثى، لربما جاء النص على نحو (اضْرِبُوهُا).
نتيجة مهمة جدا: كانت النفس التي قتلها نفر من بني إسرائيل هي نفس شخص ذكرا.
السؤال: ما هي القضية "المشكلة" التي من أجلها أقدم القوم على قتل تلك النفس؟
رأينا المفترى: نحن نظن (ربما مخطئين) بأنه مادام أن القوم قد "ادارأوا" في تلك النفس التي قتلوها، فإن لذلك علاقة بحادثة زنا. انتهى.
الدليل
لو فتشنا مرة أخرى عن مفردة (فَادَّارَأْتُمْ) ومشتقاتها على مساحة النص القرآني، لوجدنا أن واحدة من مشتقات المفردة، ألا وهي "ادرء" قد جاءت في سياق ايقاع العذاب:
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (3:168)
ولو دققنا أكثر، لوجدنا بأنها قد وردت في سياق كفّ العذاب على من قد يثبت عليه الوقوع في فعل الزنا:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (24:6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (24:7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (24:8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (24:9)
ولو أمعنا النظر في هذا السياق القرآني على وجه التحديد، سنجد أن درء العذاب قد ورد في سياق وقوع الأنثى في فعل الزنا. ويكون درء العذاب عمن وقعت به في حالة عدم وجود شهداء إلا الزوج هو أن تشهد أربع شهادات بالله إنه من الكاذبين. في ضوء هذه الطرح (ربما المغلوط) حول فعل "المدارأة"، سنطرح التساؤل التالي: كيف يمكن أن نتخيل القصة (إن صح خيالنا هذا) كما حدثت على أرض الواقع؟
سيناريو خيالي غريب عجيب (لا تصدقوه): دعنا نتبنى حتى حين السيناريو الخيالي العجيب الغريب التالي الذي نطلب من القارئ أن لا يصدقه ما لم يثبه الدليل لاحقًا، فهو ليس أكثر من خيال جامح غير مضبوط - حتى الساعة - بالدليل الحاسم: كان في بني إسرائيل رجل صالح، وكان له امرأة (جميلة) خائنة. وكان هناك في عِلية القوم من يكيد بهذا الرجل وبغيره من الذين فضلهم الله عليهم، فما كان منهم إلا أن يقدموا على ايقاع الأذى به عن طريق امرأته غير الصالحة، فاخذوا يترددون على تلك المرأة في جنح الظلام. ولكن لمّا كان بعلها - نحن نتخيل - رجلا صالحا، كان يعرف ما يدور حوله بعيدا عن ناظريه، فهداه الله - نحن مازلنا نفتري القول من عند أنفسنا - لأن يكتشف العلاقة غير السوية القائمة بين امرأته من جهة وبعض الرجال من علية القوم من جهة أخرى. وبالفعل استطاع ذلك الزوج أن يملك الدليل على تلك العلاقة غير الشرعية بين الطرفين. فكان يستطيع أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين على فعلة امرأته:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (24:6)
وهنا ينتهى للخائنين خبر اكتشاف أمرهم مع تلك المرأة، وبالتالي فضح تلك العلاقة المشبوهة. فما الذي سيفعله أولئك النفر (الخائنين المتربصين كيدا بالذين آمنوا) إزاء ما يمكن أن يقع عليهم من الفضيحة بين القوم أولا ثم العذاب الذي سيلحق بهم إن ثبت صحة شهادة الزوج ثانيا؟
رأينا المفترى: عندما وجد أولئك النفر بأن فضيحتهم ستكون معلنة على رؤوس الأشهاد، استقرت عندهم القناعة بأن تكلفة تلك الفضيحة (إن ظهرت) ستكون كبيرة عليهم، ربما لا يستطيعون تحمل تبعاتها. فهم يعلمون أن تلك المرأة (محط الشبهة) ربما ستشهد أربع شهادات بالله أن زوجها من الكاذبين، وبالتالي ربما ستستطيع أن تدرأ العذاب عن نفسها أولا وعن القوم الخائنين معها ثانيا، لكن ذلك لن يسكت ألسنة الناس التي ستتناقل الشكوك حول أولئك النفر المتورطين في القضية، آخذين بعين الاعتبار مكانتهم العليا في القوم. فحتى لو استطاعت المرأة أن تدرأ عن نفسها العذاب بشهادتها، إلا أن الناس من حولها لن يتوقفوا عن إثارة الشبهات حول من كان متورطا معها في فعل مشين كهذا من بين القوم جميعا. ولا شك أن ألسنة الناس لن تكف عن البحث مادام أن زوج تلك المرأة - هم يعرفون - رجل صالح من غير المتوقع أن يكون من الكاذبين. فالقوم يعلمون يقينا بأن مثل هذا الرجل المؤمن لن يرمي المحصنات الغافلات، لأن ذلك أمرا منهي عنه في الدين. قال تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (24:4)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (24:23)
فرمي المحصنات (أي لم يبرم عليهن عقد نكاح اطلاقا) أمر غير وارد عند من كان مؤمنا إلا تحت شرط وجود الشهداء. ولكن على الرغم من أن رمي المحصنات يحتاج إلى وجود الشهداء، فإن رمي الأزواج لا يحتاج إلى الشهداء، فيستطيع الرجل أن يرمي زوجته، شريطة أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (24:6)
وهو يعلم أن عاقبة ذلك وخيمة إن كان من الكاذبين:
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (24:7)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: إن صحّ افتراؤنا بأن ذلك الرجل كان رجلا صالحا، فإن قناعة الناس من حوله ستكون على نحو استحالة أن يكون من الكاذبين الذين يمكن أن تصيبهم لعنت الله إن هو أقدم على فعل كهذا. لذا، لن يتوقف الناس حينها (نحن ما زلنا نتخيل) عن تصديق شهادته حتى لو استطاعت تلك المرأة أن تدرأ عن نفسها العذاب بشهاداتها الأربعة:
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (24:8)
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: كان القوم يعلمون طبيعة ذلك الرجل الصالح مقابل طبيعة امرأته غير الصالحة، فلو أقدم ذلك الرجل على رمي امرأته بشهاداته الأربعة، فسيستقر لدى العامة من الناس أنه يستحيل أن يكون من الكاذبين حتى لو استطاعت المرأة أن تدرأ عن نفسها العذاب بأربع شهادات مقابلة لشهادة بعلها. وبالتالي لن يتوانى القوم عن التشكيك بشهادة تلك المرأة، وبالتالي توجيه أصابع الاتهام نحو بعض النفر من القوم خاصة أولئك الذين يعلمون أنهم يبيتون المكيدة (وربما العداء) ضد ذلك الرجل. وسيصبح كل من كان له عداء مع ذلك الرجل الصالح محل اتهام غير مباشر من الناس من حولهم.
السؤال: ما الذي سيفعله المتآمرون (نحن نسأل) حيال هذا الوضع حتى لا تسوء سمعتهم في قومهم، ويكونوا محط الشبهة على ألسنة الكثيرين من بني إسرائيل من حولهم، فتضيع جزء من هيبتهم، ويفقدون جزءا كبيرا من المكاسب التي كانوا يتمتعون بها بين الناس حينئذ، والتي يطمعون أن تزيد؟
رأينا المفترى: نحن نتخيل بأنه ما كان منهم إلا أن يحاولوا أن يدارأوا في تلك النفس وذلك بقتلها، والتستر على الأمر برمته:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:72)
ولو راقبنا مفردات هذه الآية جيدا، لوجدنا بأن الفاعلين الذين ادارأوا بقتل النفس كانوا – كما أسلفنا القول- يكتمون شيئا (مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)، وقد جاء وصف حالهم - كما أسلفنا - بالمفردات ذاتها التي صورت بها قصة "تلكأ" الملائكة بالسجود لآدم من ذي قبل:
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:33)
فمادام أن القوم كانوا يكتمون شيئا، فهم - برأينا ربما المغلوط - يحاولون أن لا يظهر ذلك الشيء على العلن. ومادام أنهم يكتمونه، فهو إذا أمر سيء. وهؤلاء - لا شك عندنا - من المنافقين الذين لا تتطابق أقوالهم مع ما في قلوبهم، وانظر كيف ختمت الآية الكريمة التالية التي تصوّر حال هؤلاء المنافقين:
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (3:167)
فهم الذين يظهرون بثياب الإيمان، ولكن حقيقتهم هي ما تصوره الآية الكريمة التالي:
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (5:61)
نتيجة مفتراة: نحن نتخيل وجود نفر في بني إسرائيل يظهرون الإيمان على العلن ولكنهم ممن دخلوا بالكفر، وهم قد خرجوا به
السؤال: لماذا أقدم أولئك النفر على تلك الفعلة؟
رأينا المفترى: نحن نظن بأن القوم قد أقدموا على تلك الفعلة لأنهم كانوا يكتمون شيئا في أنفسهم، مصداقا لقوله تعالى في السياق ذاته:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:72)
السؤال: ما هو ذلك الشيء الذين كان أولئك النفر من بني إسرائيل يكتمونه حينئذ؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: إنه الحسد المدفوع بالكبر. انتهى
السؤال: ما هو الحسد الذي كان في نفوسهم؟
رأينا المفترى: للاجابة على هذا التساؤل، لابد لنا أن نطرح جملة من التساؤلات حول القصة، نبدأها بهذه المجموعة:
لماذا تدخل الله لإخراج ما كان القوم يكتمونه؟ فهل يتدخل الله لإخراج ما يكتمه كل من وقع في فعل قتل نفس؟
لماذا جاء موسى نفسه بالأمر الإلهي بأن يذبحوا البقرة؟
لماذا تلقى منهم موسى التساؤلات تباعا (الواحدة تلو الأخرى)؟
لماذا أجابهم موسى على كل تساؤلاتهم؟
الخ.
رأينا المفترى: نحن نظن أن التدخل الإلهي لإخراج ما كان القوم يكتمونه ما كان ليحصل لولا أن الأمر جلل، كما نظن أن موسى ما كان ليجاريهم في جميع تساؤلاتهم لولا أن الأمر كان يتطلب ذلك. فمراد القول هنا هو أن حادثة القتل تلك كانت ذات طابع جدّي، لذلك جاءت - برأينا - الإرادة الإلهية لإخراج ما كان القوم يكتمونه. ليكون السؤال الآن هو: ما الذي كان يميّز تلك الحادثة حتى استدعت التدخل الإلهي لإخراج ما كان القوم يكتمونه كما استدعت تدخل موسى شخصيا في تلك الحادثة ومجاراة القوم في كل تساؤلاتهم؟
رأينا المفترى: لمّا كنّا نظن بأن تلك الحادثة ذات طابع جدي، كان من الممكن (نحن نتجرأ على الظن هنا) أن تكون تداعياتها خطيرة جدا، وذلك لسببين اثنين على الأقل:
أولا، أن تطال تبعاتها موسى شخصيا،
ثانيا، أن تحدث ضررا كبيرا في مسيرة بني إسرائيل كلهم أجمعين.
لهذا استوجبت التدخل الإلهي المباشر فيها، ومجاراة موسى لجميع تساؤلاتهم التي ما انفكوا يطرحونها الواحدة تلو الأخرى.
نتيجة مفتراة مهمة جدا: نحن نفتري الظن أن التدخل الإلهي في هذه القضية قد جاء لكشف المؤامرة التي كانت تحاك ضد نبيه موسى شخصيا أولا وضد بني إسرائيل كلهم أجمعين ثانيا. فليس كل حادثة قتل تقع بين الناس يأتي التدخل الإلهي ليكشف جوانبها بالطريقة التي كُشفت بها تفاصيل تلك الحادثة. ليكون السؤال مرة أخرى: لماذا كشف الله تلك الجريمة وأخراج ما كان القوم يكتمونه؟
رأينا المفترى: لو دققنا فيما حصل في تلك القصة كما يبينها الله في قوله تعالى:
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2:73)
سنجد بأن هناك سببين رئيسيين لهذا التدخل، وهما:
أولا: أن يبين الله لنا كيف يحي الموتى (كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ). وهذا ما حاولنا مناقشته في الجزء السابق من هذه المقالة
ثانيا: أن يرينا الله آياته (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ). وهذا ما سنحاول مناقشته في هذا الجزء.
السؤال: ما علاقة تبيان الله احياء تلك النفس بضربه ببعض البقرة لكشف الجريمة من جهة ورؤية آيات الله من جهة أخرى؟ وبكلمات أخرى نحن نسأل: لماذا ختمت مسألة إحياء الله تلك النفس ببعض البقرة (كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ) بأن يري الله آياته للناس (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ)؟
رأينا المفترى العجيب الغريب (فلا تصدقوه): إنها الأنعام
السؤال: ما علاقة الأنعام بهذه القصة؟
رأينا المفترى: دعنا نحاول ربط الآيات التي بيّن الله لنا فيها قصة ذبح البقرة من جهة بالآيات القرآنية التي جاء فيها الحديث عن الأنعام من جهة أخرى. وانظر عزيزي القارئ - إن شئت - في السياقين معا، لترى كيف يرد فيهما عبارة (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) ذاتها:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2:73)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (40:79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (40:80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (40:81)
سنجد إذًا بأن عبارة (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) لم ترد بالحرفية ذاتها على مساحة النص القرآني إلا في هذين السياقين. ففي سياق الحديث عن ذبح البقرة جاءت العبارة (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) كما جاءت أيضا في سياق الحديث عن الأنعام (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ).
السؤال: كيف يمكن أن نربط السياقين معا؟
رأينا المفترى الذي نطلب من القارئ مرارا وتكرارا ألا يصدقه هو على النحو التالي: كان هناك نفر من بني إسرائيل لديهم من العلم الذي يمكّنهم من مجادلة من يأتيهم بعلم يتنافى مع ما عندهم منه. وقد كان ديدنهم - كغيرهم من الذين سبقوهم والذين لحقوا بهم من المكذبين بالرسل - على نحو أن يستهزوا (لا بل ويسخرون) ببعض آيات الله، لأن عندهم من العلم ما يتعارض معها:
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ۚ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ۖ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (18:56)
ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (18:106)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (45:9)
ذَٰلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (45:35)
وقد كانت سنة الله أن يبعث الرسل بالآيات ليحيق بهؤلاء ما كانوا به يستهزءون:
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (40:83)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (46:26)
لذلك، نحن نتخيل بأنه لمّا جاء موسى قومه بالآيات والبينات، كان من بينها ما هو خاص بماهية الأنعام، فكان مفاد ما جاءهم به موسى في هذا الجانب يتمثل في أن تلك الأنعام فيها من آيات الله التي أرنا الله إياها بأم أعينا. فكان مما جاء به موسى قومه من بني إسرائيل في وقت ما هو ما ورد في قوله تعالى:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (16:66)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (23:21)
ولما كان القوم أهل علم، كان سؤالهم لنبيهم موسى عن "العبرة" في تلك الأنعام، فكان (نحن مازلنا نتخيل) مما قاله موسى لهم أن واحدة من "العبرة" في تلك الأنعام تتعلق بإحياء الموتى. ويكأني (ما زلت أتخيل) أسمع موسى يقول لهم بأن سر إحياء الموتى موجود في الأنعام، وذلك من العبرة المتوافرة في الأنعام. وهنا ما كان من القوم - خاصة أهل العلم منهم - إلا أن يتخذوا آيات الله ورسله هزوا:
ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (18:106)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (45:9)
ولو عدنا إلى بداية تفصيل قصة البقرة في كتاب الله، لوجدنا أول رد من القوم على طلب موسى الذي جاءهم بذلك الأمر الإلهي هو على النحو التالي:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (2:67)
فهم – إذا- ظنوا أن ما يقوله موسى لهم يقع في باب الاستهزاء بهم، لذا ستكون ردة فعلهم هي أيضا تقع في باب الاستهزاء بما يقوله الطرف الآخر، وسكونوا فرحين بما عندهم من العلم:
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (40:83)
فالقوم إذا يستهزءون بما يقوله لهم نبيهم موسى، لأنهم يظنون أن ما عندهم من العلم أكثر صدقا مما جاءهم به رسولهم. فكانوا فرحين بما عندهم من العلم (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)، مستهزئين بما عند الطرف الآخر. وقد افترينا في أكثر من مكان سابق أن من كان فرحا، هو الذي ظن أن رأيه مطلق الصحة والثبات (للتفصيل انظر مقالاتنا السابقة). لذا نجد أنفسنا ملزمين – بناء على هذا الطرح الغريب- أمام سيناريو خيالي هو على النحو التالي: ينشب هناك خلاف بين موسى من جهة وبعض أهل العلم من بني إسرائيل من جهة أخرى حول ماهية العبرة في الأنعام (فيكون جدالا علميا بين طرفين كل لدى كل طرف منهم رأيه الذي يتعارض مع رأي الطرف الآخر). فيكون مفاد موقف موسى المبني على ما عنده من علم في الألواح التي بين يديه على نحو أن العبرة من الأنعام تتمثل بوجود سر إحياء الموتى فيها، ويكون رأي أهل العلم من بني إسرائيل مغايرا تماما. فيتشبث الطرف الآخر برأيهم، فرحين بما عندهم من العلم، مستهزئين في ذات الوقت بما يقوله موسى بهذا الصدد. فكيف سيفض الخلاف بين الطرفين؟
لننظر – ابتداء- في بعض الآيات التي وردت فيه قصة العبرة من خلق الأنعام في سياقها الأوسع حيث سنجد بأنها تختم بفكرة مجادلة الرسل من قبل الطرف المكذب الذي يفرح بما عنده من العلم، فيستهزء بما يأتي به الرسل من البينات:
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (40:79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (40:80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (40:81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (40:82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (40:83)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا مهمة جدا: لما سمع القوم - خاصة أهل العلم منهم - ما جاءهم به موسى من العلم (البينات) في هذه الجزئية، ماكان منهم إلا أن:
يستهزءوا بما يقوله لهم رسولهم
يتحدون ذلك الرسل لإثبات ما يقدم لهم من البينات
تساؤلات:
كيف سيتحدون رسولهم موسى؟
كيف سيثبت لهم موسى صدق ما يقول؟
كيف سيحيق بهم ما كانوا به يستهزءون؟
الخ.
رأينا المفترى: لمّا كان بعض أولئك النفر من القوم يكيدون بموسى شخصيا، حسدا من عند أنفسهم، سنحت لهم الفرصة الآن أن يكشفوا (حسب ظنهم) خطأ موسى أمام الناس، وبالتالي الايقاع بكل بني إسرائيل في المصيدة، ليكذبوا رسولهم موسى. فهم سيدبّرون الأمر على نحو أن يضطروا موسى أن يثبت ما يأتيهم به من البينات بالتطبيق العملي على أرض الواقع. فيصطادون (حسب ظنهم) عصفورين بحجر واحد:
تكذيب الرسول والاستهزاء بالآيات، إن صدق ظنهم
اكتساب ذلك العلم الذي عند موسى إن كان صحيحا
ولا ننسى أن علماء بين اسرائيل ينقسمون إلى فئتين متضادتين:
فئة تريد تكذيب الرسل وصدّ الناس عن الحق حتى بعد أن جاءهم العلم:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (3:19)
فئة تريد الوصول إلى الحقيقة:
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (26:197)
السؤال: كيف سينفذ المتأمرون خطتهم الماكرة على أرض الواقع؟
رأينا المفترى الخطير جدا جدا الذي نطلب من القارئ الكريم مرة أخرى ألا يصدقه هو: أن يتهموا موسى نفسه بحادثة قتل نفس من بينهم. انتهى.
الدليل
لابد – ابتداء - أن نثبت وجود الحسد عند القوم تجاه موسى شخصيا. فالآيات الكريمة التالية تبيّن لنا أن نفرا من القوم قد سألوا موسى مجادلين، مدفوعين بما عندهم من الحسد، محاولين أن يردوا الذين آمنوا كفارا حتى بعد أن يتبين لهم الحق:
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ ۗ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (2:108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2:109)
ولا يتوقف موقفهم من موسى عند مستوى الحسد، بل تجاوزوا كل الخطوط الحمراء، محاولين إيقاع الأذى بموسى شخصيا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ ... (33:69)
ولكن لما وصل بهم الأمر إلى درجة إلحاق الأذى بموسى شخصيا، ما كان الله ليذرهم وطغيانهم، فكان لابد من فضح أمرهم أولا، وتبرئة نبيه موسى من ذلك الأذى الذي ألحقوه به ثانيا. وانظر تتمة السياق القرآني الخاص بمحاولتهم إلحاق الأذى بموسى، قال تعالى:
... فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (33:69)
ولتكون النتيجة النهائية على نحو أن يحيق الله بهم بما كانوا به يستهزءون، وذلك باثبات صدق كلامه (وصحة الآيات البينات التي جاء بها رسله)، وبطلان قول الذين هم من دونه مهما كان لديهم من العلم:
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (40:83)
تساؤلات جديدة
ما الذي سأله القوم لموسى وجاء الأمر الإلهي لمن كان حول محمد من المؤمنين ألا يسألوا نبيهم كما سأل نفر من بني إسرائيل نبيهم موسى؟
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ ۗ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (2:108)
ما هو الأذى الذي نهى الله المؤمنين من حول محمد أن يلحقوه بنبيهم كما فعل من كانوا حول موسى؟ أي ما هو الأذى الذي ألحقه بنو إسرائيل بنبيهم موسى؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ ... (33:69)
كيف برأ الله نبيه موسى مما قال أولئك القوم؟
... فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (33:69)
ما وجه الشبهة بين قصة موسى في هذا الصدد مع قصة محمد حتى جاء الأمر الإلهي لمن حول محمد ألا يفعلوا برسولهم كما فعل بنو إسرائيل برسولهم؟ أي لماذا جاءت المقارنة في هذه الآيات على وجه التحديد بين محمد وموسى فقط؟
الخ
افتراءات يصعب على الآذان سماعها، فلا تصدقوها
الافتراء الأول: لقد اتهم نفر من بني إسرائيل موسى بالزنا
الافتراء الثاني: لقد اتهم نفر من بني إسرائيل موسى بقتل نفس
الافتراء الثالث: لقد أشاع أولئك النفر خبرا كاذبا بأن موسى قتل الرجل لرغبة عنده في زوجته الجميلة
دعوة كريمة: نحن ندعو القارئ الكريم ألا يتعجل باسقاط هذه الافتراءات في قصة نبينا الكريم مع من كانوا حوله قبل فهم تفاصيل قصة موسى بكل حيثياتها. ومن يحاول افتراء شيء من عنده، فهو من يقع عليه واجب جلب الدليل على كلامه، وهو من يتحمل تباعات ما يفتري من عند نفسه. لذا، أرجو أن لا يضع أحد من القراء (أو المستمعين) كلاما من عنده في فمنا، ثم يتهمنا بما لم نقل.
ملخص القصة: لمّا كان أولئك النفر من بني إسرائيل يعادون موسى شخصيا حسدا من عند أنفسهم، ولما كانت بغيتهم أن يردوا المؤمنين كفارا من بعد إيمانهم، كان شغلهم الشاغل أن يلحقوا بموسى أذى يحقق لهم غاياتهم غير المعلنة. فما كان منهم إلا أن يقيموا علاقة غير شرعية مع زوجة رجل من بني إسرائيل، تتصف بالجمال. ويقدموا على قتل زوجها، ثم القاء تهمة الزنا والقتل على موسى شخصيا.
الدليل: باب وجيها
لو تفقدنا السياقات القرآنية الخاصة بموسى، سنجد قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (33:69)
ليكون السؤال المحوري الآن هو: لماذا ختمت الآية التي تبين لنا محاولة نفر من بني إسرائيل إلحاق الأذى بموسى بقوله تعالى واصفا نبيه موسى بأن كان عند الله وجيها؟ وبكلمات أخرى نحن نسأل: ما علاقة أن موسى كان عند الله وجيها بالأذى الذي ألحقوه أولئك النفر بموسى؟
رأينا المفترى: حتى نستطيع الإجابة على هذا التساؤل، يصبح لزاما علينا أن نبحث في معنى هذه المفردة (وَجِيهًا)، طارحين التساؤل التالي: ما معنى وجيها في النص القرآني؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: عندما حاولنا البحث عن هذه المفردة على مساحة النص القرآني، وجدنا قوله تعالى:
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (3:45)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (33:69)
لنجد أن المفردة ما وردت في كتاب الله إلا في سياق الحديث عن عيسى بن مريم وفي سياق الحديث عن موسى. لكن المفارقة تكمن بأن عيسى كان وجيها في الدنيا والآخرة، بينما كان موسى وجيها عند الله. فكيف يمكن أن نفهم ذلك؟
رأينا المفترى: تعرضنا في مقالات سابقة لنا لهذه الجزئية، وافترينا الظن حينئذ بأن عيسى كان وجيها في الدنيا والآخرة، لأنه كلمة الله وروح منه؛ وبالتالي كان من الاستحالة بمكان أن ينظر الناس لعيسى إلا من جهة وجهه. فحيثما نظر الشخص إلى عيسى، كان في مقابلة مع وجه عيسى، وكان ذلك واحدة من أسباب فتنة الناس بعيسى حتى ظن بعضهم أن عيسى هو الله، وظن البعض أنه ابن الله. فالناس يعلمون أن الإله لا يمكن النظر إليه إلا ويكون وجهه حيثما تولي وجهك، مصداقا لقوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (2:115)
وربما لهذا السبب، ظننا أن الإله سيسأل عيسى ابن مريم على وجه الخصوص إن كان فعلا قال للناس أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (5:116)
لذلك، فتن الناس - نحن نرى - بعيسى في الدنيا، وسيفتنون به في الآخرة، لأنهم لن يستطيعوا النظر إليه إلا جهة وجهه. فكان عيسى وجيها في الدنيا والآخرة.
أما موسى فقد اكتسب تلك الخاصية في الدنيا فقط عندما طلب من الله أن ينظر إليه، فتجلى الله للجبل، وارتد النور الإلهي من الجبل إلى وجه موسى، فخر صعقا:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (7:143)
فكان موسى وجيها عند الله.
لكن ما يهمنا طرحه الآن هو أن مفردة وجيها تحمل في ثناياها أمرا آخر، ونحن نتجرأ على الظن بأن من كان وجيها، فقد كان له شأن مختلف في علاقته بالنساء. ليكون السؤال الآن هو: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: إن أبسط ما يمكن أن نفتريه عن عيسى بن مريم هو أنه ما قرب النساء في حياته في الدنيا قط، ولن يقربهن في الآخرة. فعيسى – كما ذكرنا أكثر من مرة – ليس من الناس، لذا فهو لم ولن يطأ النساء قط. وبالتالي يستحيل أن تلقى عليه تهمة الاقتراب من النساء بأي صيغة كانت.
أما موسى، فقد كان إنسانا عاديا، بدليل أن الرجل الذي جاءه في مدين وقص عليه القصص، قد أنكحه احدى ابنتيه:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (28:27)
ولكن عندما اكتسب موسى خاصية الوجاهة عند الله في تلك الحادثة الشهيرة، أصبح من الاستحالة بمكان أن تكون علاقته بالنساء مشبوهة. فيستحيل بعد تلك الحادثة أن تلقى عليه تهمة انشاء علاقة غير شرعية مع النساء، فوجهه الذي اكتسب شيئا من النور الإلهي لا يمكن أن تلطخه تمهة (أو لنقل) علاقة غير شرعية مع النساء.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نعلم بأن الإنسان يمكن أن يرتكب كثيرا من الفواحش والذنوب والسيئات، لكن من بين جميع تلك الموبقات، تبرز واحدة فقد لتلطخ "وجه" الرجل، فيظل وجهه مسودا أمام العالمين، ألا وهي فاحشة الزنا:
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (17:32)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (4:22)
فالزنا - على وجه الخصوص - هو الفاحشة التي تكون نتيجتها على نحو (ساء سبيلا). وينعكس ذلك على وجه من يقع فيها. فالعار – بكلماتنا الدارجة – لا يلحق بالرجل إلا من جراء الوقوع في فاحشة الزنا التي تظهر نتيجته على وجهه عندما يبقى يحاول أن يتوارى من القوم من سوء ما فعل.وليس أدل على ذلك من التصاق العار بوجه الرجل من غصته من الحصول على ذرية من الإناث (مقابل الذرية من الذكور). فقد بين القرآن بأنه حتى بشرى الرجل بالأنثى تجعله يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، وذلك لأن وجهه يكون مسودا:
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (16:57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (16:58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (16:59)
المعضلة: إذا كانت البشرى بالإنثى تنعكس على الوجه بأن يصبح مسودا:
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (43:16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (43:17)
فكيف إذا سيكون وجهه لو أنه فعلا وقع هو (أو أحد من محارمه) في تلك الفاحشة؟ فهل سيبقى وجيها بين الناس؟
رأينا المفترى: إن الفكرة التي نحاول جاهدين الوصول إليها هنا هي على نحو أن ما يتعلق بالعلاقة غير الشرعية مع الإناث تجلب للرجل من السوء ما تتجلى آثاره على وجهه، فلا يصبح وجيها إن طالته تلك الفاحشة في شخصه أو في أجد من محارمه. لذا، فإن من كان وجيها، هو الذي لم يسود وجهه بعلاقة غير شرعية مع النساء. ولا يمكن أن يقع في فاحشة الزنا شخصيا، ولا أن تطال تلك الفاحشة أحدا من محارمه، فيبقى وجهه (كما نقول بالعامية) أبيضا (غير مسود)، ولن يكون ممن يواري وجهه عن الآخرين خجلا مما فعل. ولو عدنا إلى قضة "العِرض" في الثقافات المختلفة، لوجدنا بأن ما يسمى بتبيض الوجه له علاقة بالتبرئة من حادثة الزنا.
افتراء خطير جدا: لقد كان موسى عند الله وجيها، لأن القوم (نحن نظن ربما مخطئين) اتهموه بحادثة الزنا، فكان ذلك مما أوقعوا به من الأذى على موسى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ ... (33:69)
فما كان الله إلا أن يرد كيدهم، بأن يبرأ موسى مما قالوا، ويثبت وجاهة موسى (اي كرامة وجهه) الذي ما كان ليسود أمام العالمين بمثل تلك التهمة:
... فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (33:69)
فيبقى وجه موسى مرفوعا نظيفا لم يمسه العار (الزنا). ويكون موسى وجيها عند الله، فما بالك به عند الناس؟! من يدري؟!
السؤال: كيف تمت تبرئة موسى مما قالوا، فكان موسى وجيها؟
جواب مفترى: بذبح البقرة. وإحياء النفس التي قتلها القوم.
ولا ننسى في هذا المقام التذكير بالتوجيه الإلهي للمؤمنين من حول محمد ألا يقعوا بنفس الأمر المحضور الذي وقع فيه من كان من حول موسى، وطلب الله منهم أن يكونوا ممن يتقون الله ويقولون قولا سديدا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (33:69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (33:70)
تلخيص ما سبق: لقد كانت واحدة من أساليب المجرمين الذين يكيدون بأنبياء الله ورسله تتمثل بإلقاء تهمة الزنا به أو بأحد من محارمه، طامعين أن يسود وجهه أمام الناس. ولا أريد الدخول في تفاصيل هذا الأمر فيما يتعلق بما جرى من محاولة إيذاء نبينا الكريم من قبل المتربصين المعادين الذين يكيدون بالنبي وبالدين الذي جاء به، خاصة ما يتعلق بقصص زواجه ببعض نسائه، واترك للقارئ الكريم التحليق بخياله لوحده حتى يأذن الله لنا بشيء من علمه في ذلك. ولكني سأحاول الدخول في تفاصيل ما يشبه ذلك عند بني إسرائيل في قصتهم الشهيرة مع نبي الله داوود، كما حاولوا تسويقها في تفسيراتهم لنبأ الخصم الذين تسوروا المحراب على داوود:
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (38:21) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (38:22) إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (38:23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ (38:24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (38:25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (38:26)
السؤال: من هو داوود؟
المدّكرون: رشيد سليم الجراح وآخرون
بقلم: د. رشيد الجراح