قصة داوود - الجزء السادس عشر
من
هو داوود –
الجزء السادس عشر
من
هو داوود – الجزء 16
تشابكت
خيوط قصة داوود مع غيرها من القصص القرانية. وكان الهدف من ربط خيوط تلك القصص
بعضها ببعض هو محاولة تجلية طبيعة الشخصيات المذكورة في النص القرآني حتى تبين لنا
الجوانب الاستثنائية في تلك الشخصيات، التي امتلكت من المقومات ما جعلها محلّ
الاصطفاء الإلهي. ونحن على يقين بأن المستمع لهذه القصص (كما نحاول تجليتها في هذه
المقالات) هو واحد من اثنين:
-
مكذّب لا
يستطيع أن ينكر ما نقول، أو
-
مصدّق لا
يستطيع أن يثبت ما نفتري
فالصمت
المحيّر هو الصبغة الغالبة عند الطرفين، وذلك لأنهما على حافة خطرة بين تراث متجذر
في عقول العامة وأهل العلم من حولهم على الطرف الأول وانفلات عن ذلك التراث لا يدرون
أين سينتهي بهم على الطرف الآخر. فالمستمع لافتراءاتنا حائر (نحن نرى) بين قديم
مشكوك فيه من جهة وجديد لا يدري درجة صحته من جهة أخرى.
لكن
مهما كانت دقّة توصيف الحالة الراهنة، فالخط العريض الذي لا يمكن انكاره هو أن
الشخصيات القرآنية هي شخصيات استثنائية تملك من المقومات ما يجعلها مختلفة ومتميزة
في آن واحد. ولعل الفكرة التي حاولنا في الأجزاء الأخيرة تبيانها تتمثل في
محاولتنا رسم صورة جديدة لشخص النبي الكريم ليست بالضرورة كالصورة التقليدية التي
عهدناها من ذي قبل. فحاولنا أن نختط طريقا آخر يتمثل بأن الاصطفاء الإلهي لمحمد
(كما لغيره من أنبياء الله ورسله) لم يكن مدفوعا فقط بمكارم الأخلاق التي كان
يتمتع به ذلك الشخص، وإنما بامتلاكه قدرات استثنائية هائلة أكتسبها بجهده، جعلته
مؤهلا لأن يُلقى عليه القول الثقيل، فكان جديرا بتحمل شرف الرسالة الإلهية التي
تأتيه وحيًا من ربه، بعد أن مرّ بتجارب مضنية منذ طفولته، ساهمت في صقل شخصيته
بدنيا ونفسيا وروحانيا، حتى أصبح شخصا – لنقل- استثنائيا من المنظور البشري الذي
نعرف.
فمن
الناحية البدنية، كانت قدراته هائلة، لأنه بدأ اكتسابها منذ نعومة أظفاره من مقارعته
للطبيعة القاسية وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة عليه. فما دام أن الله قد آواه
إلى ذلك الجبل بعيدا عن بيوت العالمين، كان عليه أن يتعلم المهارات اللازمة للبقاء
حيّا في تلك الطبيعة القاسية.
أما
من الناحية النفسية، فكان عليه أن يمرّ بتجارب مضنية مع قوى غير مرئية في الطبيعة،
فكان عليه أن يتحمل أعباء ذلك، فيتجاوز كل العقبات حتى يصل إلى السمو الروحي الذي
يؤهّله أن يتواصل مع قوى غيبية، تسمو فوق مستوى البشر العاديين.
وقد
زعمنا الظن في الجزء الأخير من هذه المقالة بأن محمدا قد قارع القوى التالية:
-
قوى
الطبيعة من الطيور والدواب ونحوها،
-
قوى عالم
الجن وتأتثراتها على النفس البشرية وشهواتها
-
عالم
الروح والسمو البشري
وكان
أول موجبات تخطي عقبات هذه القوى هو نجاحه في اكتشاف طريقة التواصل معها، وبالتالي
الاستفادة منها. فطوّر بنفسه طرق تواصل من قوى الطبيعة المادية ومع عالم الجن
وعالم الروح حتى أصبح قادرا أن يستفيد منها بالطريقة المُثلى. فكان وصوله إلى
مراتب عالية في السمو البشري نتاج جهد مضني، وليس محض صدفة عابرة.
وبعد
أن حاولنا تسطير الافتراءات الخاصة بمقارعة اليتيم قوى الطبيعة المرئية في البرية
من الطيور والدواب ونحوها بسبب وجوده في ذلك المأوى منذ نعومة أظفاره (أي عندما
كان صغيرا يقطن ذلك المأوى في جبال مكة الجرداء)، سنحاول في هذا الجزء الجديد من
المقالة التعريج على مسألة التأهيل النفسي لشخص النبي الكريم في مقارعته القوى غير
المرئية، وخاصة شهوات النفس البشرية التي تتطور في مرحلة عمرية معينة من حياة
الإنسان وما يزيّن تلك الشهوات للنفس البشرية.
أما
بعد،
لعل
أول الافتراءات التي سنسطرها في هذا المقام هو ظننا بأن النفس البشرية لا تكتمل ولا
تبدأ العمل لتكون محط تكليف إلا مع وصول صاحبها سنّ البلوغ. فالنفس هي المكلّفة
وهي المسئولة:
كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (74:38)
وتكون
الهداية (أو الضلال) واقعة على النفس:
وَلَوْ
شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (32:13)
ويكون
الجزاء (خيرا أو شرا) للنفس بما كسبت:
لِيَجْزِيَ
اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (14:51)
وفي
اللحظة التي يقع فيها التكليف على النفس، يصبح عليها حافظ، ويجعل الله معها شهيدا:
إِنْ
كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (86:4)
وَجَاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (50:21)
ويكون
هداية الشخص أو ضلاله بمقدار ما استقامت نفسه بالتزكية أو خابت بالتدسية:
وَنَفْسٍ
وَمَا سَوَّاهَا (91:7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (91:8) قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (91:9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (91:10)
فالنفس
لها شهوات:
زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (3:14)
قد
تؤدي بصاحبها إلى التهلكة إن هو لم يكبح جماحها:
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ
مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (66:6)
فالنفس
بطبيعتها أمّارة بالسوء:
وَمَا
أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ
رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (12:53)
لكن
هناك - لا شك عندنا - قوة أخرى قد تؤثر على النفس، فتحرك شهواتها فقط، ألا وهي قوة
الشيطان، فيكون فعل الشيطان لا يتعدى أن يزين تلك الشهوات لنفس الإنسان، ثم ما
يلبث أن يتبرأ من ذلك، ملقيا اللائمة في ذلك على النفس:
وَقَالَ
الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ
إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي
كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (14:22)
لذا،
تصبح مهمة الإنسان الذي يريد أن يهتدي تتمثل في أن يكبح جماح شهواته التي تحثه
عليها نفسه، كما عليه أن يكبح جماح من يوسوس له ويحثّه على اتباع شهوات نفسه من
الجنَّة والناس:
قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (114:1) مَلِكِ النَّاسِ (114:2) إِلَٰهِ النَّاسِ
(114:3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (114:4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي
صُدُورِ النَّاسِ (114:5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (114:6)
نتيجة
مفتراة: لا تكتمل النفس وتصبح مؤهلة لأن تكسب (وبالتالي أن تحاسب على) ما اكتسبت
إلا عندما يبلغ الإنسان سن الرشد، فيكون تحت تأثيرين اثنين:
-
نفس تحثه
على تلبية الشهوات
-
وشيطان
(من الجنة والناس) يوسوس له في صدره لاتباع تلك الشهوات:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (114:1)
مَلِكِ النَّاسِ (114:2) إِلَٰهِ النَّاسِ (114:3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ
الْخَنَّاسِ (114:4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (114:5) مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (114:6)
ولعل
أول شهوات النفس التي تبدأ بقوة عند الإنسان مع سنّ البلوغ هي شهوة النساء
(الجنس). فكيف يحدث ذلك؟
جواب
مفترى: سأحاول الآن تقديم افتراء من عند نفسي خطير جدا يتعلق بهذه القضية. وأطلب
من الجميع ألا يصدقوه لأنّه ربما لا يعدو أكثر من ضرب من الجنون. لكن إن صح هذا
الافتراء، فالعواقب - لا شك - هائلة في فهم كيفية عمل النفس البشرية.
الافتراء
1: يكون عند الذكر قلبان قبل سن البلوغ، وما أن يبلغ سن البلوغ حتى يضمر أحدهما،
ويبقى أحدهما.
الافتراء
2: يكون عند الأنثى قلبان قبل سن المحيض وبعده. فيظلا يعملان معا.
الدليل
دعنا
نجلب من الموسوعة العلمية (الويكيبيدا) المعلومة التالية عن غدة في جسم الإنسان
تسمى الغدة الزعترية (Thymus):
الغدة الزعترية أو الغدة السعترية[1] أو غدة التوتة[2][3] أو الغدة التيموسية[4] (بالإنجليزية: Thymus)
هي غدة صماء
تقع على القصبة الهوائية أعلى القلب خلف عظمة القص، تكون كبيرة لدى الأطفال وتستمر في الضمور طوال سن المراهقة
لان حجمها يتناقص عندما تبدأ الغدد التناسلية بالنضج والإفراز، تفرز هذه الغدة
هرمون ثيموسين Thymosin
الذي ينظم بناء المناعة في الجسم ويساعد على إنتاج الخلايا
اللمفاوية ويشرف على تنظيم المناعة في الجسم.[5][6][7] ويتم فيها تمايز خلايا T.
المصدر:
https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D8%BA%D8%AF%D8%A9_%D8%B2%D8%B9%D8%AA%D8%B1%D9%8A%D8%A9
إن
ما يهمنا طرحه هنا هو أن هذه الغدة الواقعة أعلى القلب تضمر ويتناقض حجمها مع نضوج
الغدد التناسلية. ونحن نفتري الظن بأن تناقص حجم هذه الغدة يكون لصالح اكتمال
النفس. فمادامت هذه الغدة فعالة عند الأطفال، فأنفسهم لم تكتمل بعد، وبالتالي لن
تكون شهوة النساء عندهم حاضرة. وسنرى لاحقا (إن أذن الله لنا بشيء من علمه في ذلك)
كيف يكون لتلك الغدة علاقة مباشرة باكتساب اللسان عند الإنسان. لكن الأهم من ذلك
هو ظننا بأن هذا سببا في أنه لا ضير من اطلاع الاطفال على عورات النساء حتى يبلغوا
الحلم حيث يصبحوا مأمورين بالاستذان كما استذن الذين من قبلهم:
وَإِذَا
بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ۗ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (24:59)
ولعلي
أجزم الظن بأن سبب ذلك يعود إلى أن القلب الثاني للذكر يضمر مع سن البلوغ، فيبقى
له قلب واحد يتخذ القرار على عكس الأطفال والنساء اللذان يكون لهما قلبان:
مَا
جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ وَمَا جَعَلَ
أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ
أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (33:4)
فرحلة
الرجولة تبدأ (نحن نظن ربما مخطئين) بضمور هذه الغدة التي تعتبر القلب الثاني. وفي
هذه المرحلة، تصبح نفس الذكر البالغ (الرجل) مكتملة، فتميل إلى الشهوات، وفي هذه
المرحلة يبدأ الشيطان يوسوس للناس (الذكور البالغين المكلّفين)، فتصبح النفس ذاتها
توسوس لصاحبها:
وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (50:16)
ولعل
وسوسة النفس لا تكون إلا لتلبية الشهوات التي جاء ذكرها في قوله تعالى:
زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (3:14)
ولو
راقبنا الفعل "زُيِّن" في هذه الآية الكريمة، لوجدنا بأنه قد جاء على
صيغة – ما يسميه أهل اللغة - بالمبني للمجهول، ليكون السؤال هو: من الذي يزين
للناس حب هذه الشهوات؟
رأينا
المفترى: لو دققنا في الآيات الكريمة التالية، لوجدنا بأن أحد القوى العاملة في
تزين السوء للإنسان هو الشيطان:
فَلَوْلَا
إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (6:43)
وَإِذْ
زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ
عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا
تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (8:48)
تَاللَّهِ
لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (16:63)
وَجَدْتُهَا
وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ
(27:24)
وَعَادًا
وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا
مُسْتَبْصِرِينَ (29:38)
نتيجة
مفتراة: ما أن يبلغ الإنسان سن التكليف (البلوغ) حتى تبدأ نفسه توسوس له بحب
الشهوات، وحينها يبدأ الشيطان بتزين العمل السيء للإنسان، ليصده عن السبيل:
وَجَدْتُهَا
وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ
(27:24)
وَعَادًا
وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا
مُسْتَبْصِرِينَ (29:38)
عودة
على بدء
ما
أن خرج محمد من مرحلة أن يكون يتيما عندما بلغ الحلم، حتى أصبحت نفسه مكتملة تشتهي
ما تشتهي نفس أي إنسان من جيله، فكانت الشهوات التي تميل لها نفسه هو ما جاء ذكرها
في قوله تعالى:
زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (3:14)
ولكن
السؤال الذي يجب أن يطرح الآن هو: أين سيجد محمد تلك الشهوات وهو قابع بين جبال
مكة بعيدا عن العالمين؟
تخيلات
مفتراة من عند أنفسنا: في هذه المرحلة بدأ محمد (نحن نتخيل) يشعر بالحاجة للانخراط
مع المجتمع القريب منه، ألا وهو مجتمع مكة، باحثا عن تلك التي تحثه عليه نفسه.
فبدأ رحلاته المتكررة إلى مكة حيث سيجد فيها ما تشتهي نفسه.
وفي
هذا المقام، علينا ألا ننسى أن سكان مكة كانوا "قريش". ولو دققنا في
الآية الكريمة التالية:
لِإِيلَافِ
قُرَيْشٍ (106:1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (106:2)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (106:3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (106:4)
سنجد
أن هذه الآيات الكريمة تبيّن لنا بأن "قريش" هم عبارة عن إيلاف، أي
بمعنى قوم متألفون، يتفقون على المكان ويختلفون في الأصول. فهم عبارة عن تجمع من
الناس، ألفوا المكان الذي أتوه من شتى أصقاع المعمورة، وكان هذا منذ اليوم الأول
لبدء التجمع في مكة بعد أن أسكن إبراهيم فيه من ذريته عند البيت المحرم، وأطلق
دعوته الشهيرة بأن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إليهم:
وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (14:35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ
النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (14:36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (14:37)
فأصبح
ذلك التجمع البشري متعدد الأصول والمنابت، فكان عبارة عن إيلاف. فمكة ليست حكرا
لعشيرة معينة، ولا تسكنها قومية واحدة كالأعراب مثلا، ولكنها عبارة عن خليط متجانس
من القوميات المتعددة. تجمعوا كلهم عند البيت العتيق، وذلك لهدف ديني، ألا وهو
عبادة رب هذا البيت وإقامة الصلاة، ونشطت فيه التجارة، فكانت رحلة الشتاء والصيف.
وكانوا جميعا على يقين بأن هذا المكان بلد آمن، لأن الله قد تكفل بحماية بيته
العتيق من أي خطر قد يتهدده. فالله سيرسل طيره الأبابيل التي سترمي المعتد على
البيت بحجارة من سجيل حتى يجعلهم كعصف مأكول كما فعل مع أصحاب الفيل:
أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (105:1) أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (105:2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ
(105:3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (105:4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ
مَأْكُولٍ (105:5)
وما
أن وجد محمد نفسه في مكة حتى كان يعلم:
-
أن البيت
آمن
-
أن قريشا
إيلاف
-
أن
التجارة في مكة رائجة
-
أن رحلة
الشتاء والصيف غير منقطعة
-
أن قدوم
الناس إلى مكة دائم (تنقل أخبارا من أماكن مختلفة)
-
أن كل ما
تشتهيه النفس متوافر ويمكن الحصول عليه
-
الخ
السؤال:
كيف تصرّف محمد ليلبي شهوات نفسه مما جاء في الآيات الكريمة التالية:
زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (3:14)
تخيلات
مفتراة: كانت التجارة واقتناء الأنعام ونحوها من الأمور التي اشتغل بها محمد في
بادئ الأمر. لكن حبّه لهذه الشهوات لم يكن ليثنيه عن التفكر بالأمر العقائدي، ألا
وهو: "ما هو خير من كل ذلك"، فحصوله على النساء أو البنين أو القناطير
المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، لا يلبي طموحه، فهو لا
شك يسمو إلى ما هو أكثر من ذلك. فكان دائم الانشغال بالرب الذي خلق وأعطى. وسنرى
لاحقا إن شاء الله كيف استطاع محمد أن يتحكم بشهوات نفسه، ويكبح جماحها، وبالتالي
حصوله على الوعد الإلهي أن يعطيه ربه حتى رضى:
وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (93:5)
وكان
من أهم ما فعل في خضم صراعه مع شهوات نفسه هو زواجه بامرأة تكبره في السن. (فالله
أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يأذن لي فيها بعلم في ذلك لا ينبغي لأحد غيري،
إنه هو العليم الحكيم)
السؤال:
كيف سيحصل على كل ما تشتهي نفسه؟ (سؤال جميل لمن أراد أن يقتصه من سياقه، أليس
كذلك؟)
رأينا
المفترى: لما كانت امكانيات هذا الشاب عظيمة في الحصول على ما يريد، كان الشيطان
يرقب ذلك عن كثب. فكان يريد أن يصد هذا الشاب عن السبيل، فحاول أن يزين له،
وبالفعل نجح الشيطان بادئ الأمر أن يحدث عند محمد الرجز، فيكسبه الوزر، وذلك بأن
زين له ومده بالوسيلة التي تحقق له ما عظم من هذه الشهوات. فكان له ما أراد.
السؤال:
كيف تواصل الشيطان مع محمد في تلك الفترة من حياته؟
رأينا
المفترى: لمّا كان محمد يقطن المأوى (الغار) في جبال مكة، كان عليه أن يقطع الوادي
الفاصل بين تلك الجبال من جهة ومكة من جهة أخرى. وخلال تلك الرحلات (نحن نتخيل)
بين الجبال ومكة، حصلت مع ذلك الشاب تجارب تشيب لها الرؤوس وذلك لكثرة وجود الجن
في ذلك الواد.
السؤال:
لماذا تتواجد الجن بكثرة في ذلك الواد القريب من مكة (واد منى)؟
جواب
مفترى: نحن
نفتري الظن بأن كثافة تواجد الجن في هذا المكان يعود إلى قصة الخلق الأول عندما
قضت الإرادة الإلهية باهباط الجميع (الجن والإنس) من الجنة
بعد معصية آدم لربه. فالمدقق
في النص القرآني الخاص بتلك الحادثة، سيجد أن الهبوط قد شمل الجميع. قال تعالى:
فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ
إِلَىٰ حِينٍ (2:36) فَتَلَقَّىٰ
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (2:37) قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ
تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (2:38)
وقد
افترينا القول في أكثر من مقالة سابقة لنا بأن ذلك الهبوط من الجنة (جنة المأوى وليس جنة الخلد) كان إلى الواد غير ذي الزرع حيث وضع أول بيت
للناس في بكة:
إِنَّ
أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ (3:96)
فكان
هناك (نحن
نرى) موطن
الإنسان (ابني
آدم) الأول
بعد الخروج من الجنة. وهناك
استوطن الجن، فأنشأ الشيطان الذي أخرج آدم وزوجه من الجنة مملكته الأرضية. وتكاثر
وجودهم هناك قريبا من البيت العتيق، وهناك أسكن إبراهيم من ذريته (ولده
إسماعيل)
في ذلك الواد حيث البيت العتيق. قال تعالى:
رَبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (14:37)
وكان
تطهير البيت (كما
افترينا القول في أكثر من مكان من مقالاتنا السابقة) يكون
بإراقة الدم (الذبح). وذلك لأنّ الدم
هو الذي يطهر المكان من الجن المتواجدين فيه. لذا، أصبح
تطهير البيت منهم بالذبح واحدة من شعائر حج ذلك البيت:
وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (2:125)
(للتفصيل
في ها الموضوع، انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: فقه الحج).
نتيجة
مفتراة: كان
ذلك الواد ببطن مكة يعجّ بالجن، فكان على محمد الصبي ومحمد الشاب أن يتعامل معهم
بطريقته. فكيف
فعل محمد ذلك؟
تخيلات
مفتراة من عند أنفسنا: نحن
نتخيل محمد الشاب الذي يعيش في ذلك الغار في جبال مكة يريد أن يصل إلى مكة، فكان
لابد أن يمر في ذلك الواد الذي يفصل مكة (حيث البيت العتيق) عن جبالها. لذا،
حصلت خلال رحالاته تلك معه (نحن نتخيل) أحداث
تشيب لها الولدان، وذلك لأن عنصري الخوف والمفاجئة كانا حاضرين في كل رحلة من الغار
وإليه. ولكن
طبيعة هذا الغلام وشخصيته التي طوّرها في الجبال (في الغار) مع الكائنات الحيّة من
الدواب والطيور مكّنته من الاصرار على قبول الصراع (التحدي)، فانتهى
الأمر (نحن
نفتري القول) بتسخيره
تلك القوى لصالحه، فكانت أول النتائج المباشرة لهذا الصراع هو أن أصبح قلب هذا
الغلام (والشاب) قادرًا على أن يتحمل ما لا يمكن للجبل أن يتحمله، فبدأت رحلته في
تحمل القول الثقيل:
إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (73:5)
ونحن
نتوقف هنا لنطلب من القارئ الكريم – إن أراد- أن يقارن
بين ما جاء في الآيتين الكريمتين التاليتين:
لَوْ
أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ (59:21)
نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (26:193) عَلَىٰ
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (26:194)
نتيجة
مفتراة من عند أنفسنا: نحن
نفتري القول بأن التجارب التي مر بها محمد طفلا (ثم شابا) قد طوّرت من شخصيته حتى
أصبح قلبه أقوى من الجبل. ففي حين أن الجبل سيتصدع من ذلك القول
الثقيل إلا أن قلب محمد استطاع أن يتحمله.
السؤال: كيف استطاع
محمد في فترة من حياته (قبل البعثة) أن يتواصل
معه الجن في ذلك الواد الذي يعج بهم؟
جواب
مفترى: لو
حاولنا تدبر الآيات الكريمة التالية، لوجدنا ما كان يتوجّب على محمد فعله في ذلك
المكان الذي وجد فيه نفسه بعيدا عن الناس، قال تعالى:
يَا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (73:1) قُمِ
اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (73:2) نِصْفَهُ
أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (73:3) أَوْ
زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (73:4) إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (73:5)
إِنَّ
نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (73:6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا
طَوِيلًا (73:7) وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (73:8) رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (73:9) وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ
وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (73:10)
فالآيات
الكريمة تخاطب محمد (كـ
مزمل) بمجموعة
من التوجيهات، نذكر منها:
-
أن يقوم
الليل من منتصفه (أو
حول منتصفه)
-
ترتيل
القرآن
-
القاء
القول الثقيل
-
الحديث عن
ناشئة الليل، وما يتوجب عليه فعله في الليل
-
الحديث عن
النهار، وما يتوجب علي فعله في النهار
-
ذكر اسم
الرب والتبتل إليه تبتيلا
-
اتخاذ رب
المشرق والمغرب إلها واحدا وكيلا
-
الصبر على
ما يقولون، وهجرانهم هجرا جميلا
-
الخ
السؤال: كيف نفهم
هذه التوجيهات الربانية لمحمد كما جاءت في بداية هذه السورة الكريمة؟
رأينا
المفترى: نحن
نفتري القول ابتداء بأن مفردة المزمل هي حالة وصفية لما كان عليه محمد في مرحلة
معينة من حياته، وليس أدل على ذلك من أن هناك سورة أخرى لاحقة مباشرة للسورة
السابقة تخاطب محمدا بصفة المدثر، قال تعالى:
يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (74:1) قُمْ
فَأَنْذِرْ (74:2) وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ (74:3) وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ (74:4) وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ (74:5) وَلَا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (74:6) وَلِرَبِّكَ
فَاصْبِرْ (74:7)
فيصبح
الترتيب على النحو التالي:
-
محمد مزمل
(يَا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)
-
محمد مدثر
(يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)
والفكرة
البسيطة التي نحاول أن نجلب انتباه القارئ الكريم لها هنا هي أن المطلوب من محمد
المزمل هو أن يهجرهم هجرا جميلا ولينشغل بأمور تعبدية فردية بعيدا عنهم، في حين أن
المطلوب من محمد المدثر هو أن يقوم لينذر. لذا، نحن
نفتري القول بأن محمدا كان مزملا عندما كان في مرحلة الاعداد الذاتي لأن يكون
لاحقا رسولا فينذر.
نتيجة
مفتراة: محمد
كان "مزمل" قبل أن يصبح "مدثر"، فيصبح الترتيب على النحو
التالي:
-
محمد مزمل في مرحلة الإعداد لتلقي الرسالة
-
محمد مدثر في مرحلة الرسالة، فيقوم فينذر
ولو
حاولنا أن نستكشف المرحلة التي سبقت هاتين المرحلتين، سنجد على الفور أن السورة
التي تسبق هاتين السورتين الكريمتين (المزمل والمدثر) هي سورة الجن. قال تعالى:
قُلْ
أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (72:1) يَهْدِي
إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (72:2) وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا
اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (72:3) وَأَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (72:4) وَأَنَّا
ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (72:5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (72:6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ
أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (72:7)
وَأَنَّا
لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (72:8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا
مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (72:9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (72:10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا
دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (72:11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ
اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (72:12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ
آمَنَّا بِهِ ۖ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (72:13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا
الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (72:14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (72:15) وَأَنْ
لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (72:16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَنْ يُعْرِضْ
عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (72:17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا
تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (72:18) وَأَنَّهُ
لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (72:19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا
أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (72:20) قُلْ
إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (72:21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ
أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (72:22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ
وَرِسَالَاتِهِ ۚ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (72:23) حَتَّىٰ
إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ
عَدَدًا (72:24) قُلْ
إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (72:25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ
غَيْبِهِ أَحَدًا (72:26) إِلَّا
مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا (72:27) لِيَعْلَمَ
أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ
كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (72:28)
فيصبح
الترتيب على النحو التالي:
-
مرحلة تواصل
مع الجن
-
مرحلة
التحضير الذاتي للرسالة
-
مرحلة تبليغ
الرسالة
فالمشهد
(كما نفهمه) هو الآن على النحو التالي:
-
يصرف الله
نفرا من الجن لمحمد يستمعون القرآن
-
يطالب
الله محمدا )كمزمل(
بمجموعة من التوجيهات الشخصية الفردية
-
يطالب
الله محمد (كمدثر) بمجموعة
أخرى من التوجيهات الدعوية
السؤال: ما الذي
نفهمه بشكل أولي من هذا الطرح؟
رأينا
المفترى: نحن
نفتري القول بأن هذه كانت مراحل ثلاثة في حياة محمد الشاب الذي يجري إعداده ليكون
رسولا للعالمين، وهذه المراحل هي:
-
مرحلة
تواصل الجن به (سورة
الجن 71)
-
مرحلة
القاء القول الثقيل عليه (المزمل 72)
-
مرحلة أن
يصبح نذيرا للناس (المدثر
73)
ليكون
السؤال الآن هو: لماذا
جاء نفر من الجن يستمعون القرآن؟ أو بكلمات أخرى – نحن نسأل: ما الذي
دفع بنفر من الجن (محددين
بذاتهم) أن
يحضروا قراءة محمد القرآن في مأواه؟
رأينا
المفترى: إن
أبسط ابجديات التفكير هو أن ننطلق من الملاحظة الأولية التالية: أن الجن
هم من جاءو ا يستمعون القرآن:
قُلْ
أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (72:1)
ليكون
السؤال الآن هو: ما
الذي دفع بذلك النفر من الجن أن يستمعوا القرآن؟
جواب
مفترى خطير جدا: نحن
نظن (ربما
مخطئين) بأن
الذي دفع بنفر من الجن لأن يستمعوا القرآن هو حدوث "تغيّر كوني" ما
عهدوه من ذي قبل.
السؤال: ما هو ذلك
التغيّر الكوني الذي وجده الجن، فاضطرهم لأن يحضروا استماع القرآن؟
جواب
مفترى: أنه
منعهم من استراق السمع من السماء. انتهى
الدليل
لو
دققنا في الآيات الكريمة في هذه السورة العظيمة، لوجدناها (حسب فهمنا
طبعا) تبيّن
لنا السبب الذي دفع بنفر من الجن أن يأتوا بأنفسهم إلى محمد ليستمعوا قراءته
القرآن في ذلك المأوى، ألا وهو ما جاء في قوله تعالى:
وَأَنَّا
لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (72:8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا
مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (72:9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (72:10)
السؤال: ما الذي
نفهمه من ذلك؟ كيف يكون هذا هو السبب الذي دفع بالجن ليستمعوا للقرآن؟ يسأل صاحبنا.
تخيلات
مفتراة من عند أنفسنا: لو
دققنا في هذه الآيات الكريمة، لوجدنا الحقيقة التي لا جدال فيها بأن الجن كانوا
يستطيعون لمس السماء، ولكن في لحظة ما وجد الجن (خاصة المتواجدون بكثرة في واد
مكة) بأن السماء التي كان يستطيعون لمسها قد ملئت حرسا شديدا وشهبا:
وَأَنَّا
لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (72:8)
وأن
الجن كانوا –
قبل هذه اللحظة - يقعدون
مقاعد للسمع، فيسترقونه، لكنهم الآن يجدون بأن من يقعد منهم منها مقاعد للسمع سيجد
له شهابا رصدا:
وَأَنَّا
كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ
لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (72:9)
وفي
تلك اللحظة (نحن
نفتري الظن) حصل
ارتباك للجن بسبب ما يحصل الآن من أمر القعود من السماء مقاعد للسمع، فما استطاعوا أن يدركوا (نحن نتخيل) سبب هذا
التغيير المفاجئ في السماء، فها هم يقولونها بأنفسهم بأنهم ما كانوا يدركون إن كان
ذلك التغيير هو شر أريد بمن في الارض أم أرد بهم ربهم رشدا:
وَأَنَّا
لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَدًا (72:10)
لذا،
نحن نعيد رسم المشهد (كما
هو في مخيلتنا) على
النحو التالي: يجد
الله محمدا يتيما فيؤويه، فينشأ ذلك الطفل في مكان منعزل عن الناس، فلم يكن له من
بدّ إلا أن يتعامل مع عناصر الطبيعة القاسية بعيدا عن أعين الناظرين من الناس،
فيطوّر بنفسه مهارات تواصل مع الكائنات الحيّة من الدواب والطير المتواجدة في تلك
البيئة. وعلى
الرغم من قساوة التجربة، إلا أنه (نحن نتخيل) نجح في
تخطي مرحلة الخوف من خطر تلك الكائنات، ويكبر ذلك اليتيم هناك، فيجد نفسه يقارع
أيضا قوى الطبيعة غير المرئية من عالم الجن من حوله في بطن مكة، فيستطيع أن يتخطى
تلك العقبات، ويستطيع بعد جهد مضني أن يسخرها لخدمته، فيصبح قلبه أقوى من الجبال،
فيكون مؤهلا لتلقي القول الثقيل الذي سيُلقى عليه. وهناك
تبدأ مرحلة تنزيل القرآن عليه، فيكون أول ما أنزل عليه قولُه تعالى:
اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (96:1) خَلَقَ
الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (96:2) اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (96:3) الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (96:4) عَلَّمَ
الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (96:5) كَلَّا
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (96:6) أَنْ
رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (96:7) إِنَّ
إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (96:8) أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهَىٰ (96:9) عَبْدًا
إِذَا صَلَّىٰ (96:10) أَرَأَيْتَ
إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (96:11) أَوْ
أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (96:12) أَرَأَيْتَ
إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (96:13) أَلَمْ
يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (96:14) كَلَّا
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (96:15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (96:16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (96:17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (96:18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ ۩ (96:19)
فيطلب
الله منه أن يبدأ من هذه اللحظة القراءة بسم ربه الذي خلق، وأن يترك (نحن نظن) القراءة
السابقة التي ربما كانت بسم كينونة غير ربه الذي خلق. فيرشده
إلى ترك تلك الكينونة، ويحذره من مغبة الاستمرار في التعامل معها. ليكون السؤال الآن هو: ما هي تلك الكينونة التي أُمر محمد في هذه
السورة الكريمة أن يتوقف عن التعامل معها؟
جواب
مفترى من عند أنفسنا خطير جدا جدا (لا
تصدقوه): إنه هامان
(الشيطان).
الدليل
لو
دققنا في الآيات الكريمة في هذه السورة، لوجدنا (كما افترينا سابقا) أن هناك
كينونة يُشار إليها بضمير الغائب في أكثر من آية كريمة في هذه السورة. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- مرة أخرى في قوله تعالى:
أَنْ
رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (96:7) إِنَّ
إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (96:8) أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهَىٰ (96:9) عَبْدًا
إِذَا صَلَّىٰ (96:10) أَرَأَيْتَ
إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (96:11) أَوْ
أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (96:12) أَرَأَيْتَ
إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (96:13) أَلَمْ
يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (96:14) كَلَّا
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (96:15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (96:16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (96:17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (96:18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ ۩ (96:19)
ليكون
السؤال الآن هو: من
هي تلك الكينونة التي يطلب الله من نبيه الكريم ألا يطعه؟
رأينا
المفترى: نحن
نفتري القول من عند أنفسنا بأن تلك الكينونة هو هامان (الشيطان).
السؤال: ما الدليل
على أن تلك الكينونة هو فعلا هامان (الشيطان)؟
رأينا
المفترى: لو
حاولنا أن نستعرض السياقات القرآنية التي نظن بأن هامان (الشيطان) كان حاضرا
فيها بقوة سنجدها التالية:
-
هو الذي
أخرج آدم من الجنة
-
هو الذي
كان يعبده أب إبراهيم
-
هو الذي
كان يؤيد فرعون
ليكون
السؤال الآن: لماذا
برز الشيطان (هامان) في هذه
المواقف على وجه التحديد؟
رأينا
المفترى: للإجابة
على هذا التساؤل لابد من جلب انتباه القارئ للملاحظة التالية: بالرغم أن
الشيطان هو سبب الفتنة للناس أجمعين، وهو حاضر في كل حالة يكون فيها انحراف عن
الحق، إلا أن التصريح بسم هامان (الشيطان) لم يرد
إلا في حالة فرعون، بينما جاء في جميع الحالات الأخرى (كحالة آدم وحالة أب إبراهيم) بلفظ
الشيطان. ففي حالة آدم، جاء قوله تعالى:
فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ
إِلَىٰ حِينٍ (2:36)
فَوَسْوَسَ
لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا
مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (7:20)
فَدَلَّاهُمَا
بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (7:22)
يَا
بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ
الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ
يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (7:27)
فَوَسْوَسَ
إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ
وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ (20:120)
وفي
حالة أب إبراهيم، جاء قوله تعالى:
إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا
يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (19:42) يَا
أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي
أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (19:43) يَا
أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ
عَصِيًّا (19:44)
وأما
في حالة فرعون:
وَنُمَكِّنَ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا
كَانُوا يَحْذَرُونَ (28:6)
فَالْتَقَطَهُ
آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (28:8)
وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي
فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي
أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (28:38)
وَقَارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (29:39)
إِلَىٰ
فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (40:24)
وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (40:36)
ليكون
السؤال الآن هو: لماذا جاء
اسم الشيطان (هامان) صراحة في قصة فرعون بينما لم يُصرّح به في
جميع الحالات الأخرى؟
رأينا
المفترى: نحن نفتري
الظن بأن السبب في ذلك هو أن الشيطان كان يتعامل مع كل شخص بطريقة سرية، فما كان
يعرف ذلك إلا الشخص نفسه، لذا أُحيط بالسرية التامة، فما يحتاج الشخص الذي يتعامل
معه الشيطان أن يفصح عن هوية تلك الكينونة الحقيقة التي يتعامل معها. فأب إبراهيم يتعامل مع الشيطان بعيدا عن
أعين الناس، فلِم سيصرح باسمه مادام أن الأمر برمته أمر سري لا يعلم به الآخرون؟
أما
في حالة فرعون. فقد تم التصريح بسم الشيطان
هامان. وذلك لأن تعامل فرعون مع الشيطان لم يكن أمرا خاصا
بفرعون بمفرده، ولكنّه أصبح معروفا لآخرين في ذات الوقت، ولو تدبرنا الآيات التي
تتحدث عن هامان (الشيطان) في سياقات الحديث عن فرعون، لوجدناه مصاحبا
لقارون بالإضافة إلى فرعون. ففي
زمن فرعون، كان الشيطان يتعامل مع فرعون وقارون معا، فهو إذا شخصية ليست محتكرة
فقط على فرعون حينئذ. وقد
افترينا القول في أكثر من مقالة سابقة لنا بأن الآية الكريمة التالية تصوّر لنا ما
حصل بين فرعون من جهة والشيطان من جهة أخرى:
وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (7:175)
وَلَوْ
شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ
تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (7:176)
فالمتدبر
لهذه الآيات الكريمة من هذا المنظور (ربما
الخاطئ)، سيجد
على الفور بأنّ الله هو من آتى ذلك الشخص المتحدث عنه آياته كلها، ولكن كان القرار
الذي اتخذه ذلك الشخص هو أن ينسلخ من آيات الله.
وما دام أنه قد انسلخ من آيات الله بعد أن جاءته، وضع الشيطان (هامان) قدراته
الهائلة تحت تصرف هذا الشخص. لذا، نجد
فرعون يطلب من هامان أن يبني له صرحا لعله يبلغ الأسباب:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ
لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ
فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي
لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (28:38)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا
لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (40:36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ
إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ
لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ
إِلَّا فِي تَبَابٍ (40:37)
وبذلك
يكون الشيطان قد كان سببا في أن يصد فرعون عن السبيل، فحرف البوصلة عن مسارها
الصحيح، لأن في ذلك مصلحة له، لأنه هو من توعد البشرية بالضلال:
إِنْ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا
مَرِيدًا (4:117) لَعَنَهُ
اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (4:118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (4:119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (4:120)
وهو
لا شك من يزين للناس أعمالهم، ولكنه هو نفسه من ينكص على عقبيه عندما يتأكد من
إنفاذ المهمة كما يريدها:
وَإِذْ
زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ
عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا
تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (8:48)
كَمَثَلِ
الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي
بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (59:16)
وهو
لا شك من يريد أن ينتهي غالبية الناس معه في العذاب الأليم:
وَقَالَ
الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ
إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي
كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (14:22)
إن
ما يهمنا طرحه هنا هو السؤال التالي: لماذا يقدّم الشيطان (هامان) خدماته الكبيرة
لأشخاص محددين؟ وبكلمات أخرى: متى يظهر الشيطان (هامان) لأي إنسان ظهورا
علنيا وليس مجرد وسوسة (غير معلنة)؟
السؤال:
ما علاقة هذا بقصة داوود؟ من يدري؟!
المدّكرون:
رشيد سليم الجراح وآخرون
بقلم:
د. رشيد الجراح