قصة داوود - الجزء الرابع عشر
من
هو داوود –
الجزء الرابع عشر
خلصنا
في نهاية الجزء السابق من هذه المقالة إلى محاولة التمييز بين نوعين من المنّة
الإلهية بالنعمة على عباد له:
نعمة ظاهرة كثيرة (عامة) ونعمة باطنة محددة (خاصة):
أَلَمْ
تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (31:20)
وقد
افترينا الظن (ربما
مخطئين) بأن
نعمة الله الظاهرة هي التي تكون للخلق عامة، مؤمنهم وكافرهم:
وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(16:18)
ولكن
نعمة الله الباطنة – بالمقابل- لا تكون إلا
للخاصة من عباده (أفرادا
أو جماعات).
وبناء
عليه، ظننا بأن النعمة التي طالب الله نبيه الكريم بأن يحدّث بها كما جاء في نهاية
سورة الضحى:
وَالضُّحَىٰ
(93:1) وَاللَّيْلِ
إِذَا سَجَىٰ (93:2) مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (93:3) وَلَلْآخِرَةُ
خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ (93:4) وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (93:5) أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (93:6) وَوَجَدَكَ
ضَالًّا فَهَدَىٰ (93:7) وَوَجَدَكَ
عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (93:8) فَأَمَّا
الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (93:9) وَأَمَّا
السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (93:10) وَأَمَّا
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (93:11)
كانت
خاصة بالعلم الذي آتاه الله نبيه الكريم، فما كان لأحد من الناس فضل في العلم الذي
حصل عليه النبي الكريم لأنه نعمة باطنة من الله، اختص بها نبيه الكريم. فالله هو من وعد نبيه الكريم أن يعطيه حتى يرضى:
وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (93:5)
وبالفعل كان عطاء الله لمحمد هو الكوثر، نبع العلم:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ (108:1)
فكان
خيالنا على نحو أن ينشأ النبي المصطفى بالرسالة بعيدا عن الناس حتى لا يتأثر بما عندهم
من المعارف البشرية، فيبقى العلم الذي يحصل عليه هذا العبد المصطفى علما خالصا
نقيا، لا تطاله شائبة مما عند الناس من المعارف التي ربما يصدق بعضها ويخطئ كثيرها.
وحاولنا
الترويج –
ابتداء- بأن
واحدة من الأسباب الرئيسية التي جعلت ذلك الشخص محل العناية الإلهية (غير
المباشرة) يعود
إلى صلاح والده (عبدالله) وإيمان
أمه (آمنة). فنشأ ذلك
اليتيم في مكان كان الله هو من أواه إليه (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا
فَآوَىٰ).
وبالفعل،
مكث في ذلك المأوى بعيدا عن الناس بين تضاريس الطبيعة القاسية
ومخلوقاتها الموحشة، يتعلم ويتدرب بطريقة لا يشاركه مثلها أقرانه من أبناء
العالمين في ذلك الزمان والمكان.
أما
بعد،
سنتابع
في هذا الجزء من المقالة نسج خيوط القصة ذاتها من خيالنا حول سبب انعزال النبي
المصطفى (في
ذلك المأوى) عن
الناس فترة من الزمن، طارحين السؤال الأولي التالي: ماذا كان
يفعل النبي الكريم في ذلك المكان المنعزل عن الناس؟ وما الذي استفاده من تلك
العزلة الطويلة منذ أيام طفولته وصباه؟
رأينا
المفترى: نحن
نظن أن من مسلتزمات الإجابة على هذا التساؤل اثبات الظن أولا بأن هذه العزلة كانت
نهجا لرسل الله وأنبيائه، والخاصة من عباده المؤمنين، فهذا إبراهيم يعتزل من هم
حوله:
وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ
بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (19:48) فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (19:49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا
وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (19:50)
وها
هم فتية الكهف يعتزلوا قومهم، ويأوون إلى الكهف:
وَإِذِ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ
مِرْفَقًا (18:16)
وهذا
موسى يفر من آل فرعون ويعيش فترة من الزمن بعيدا عنهم:
فَفَرَرْتُ
مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ (26:21)
وهذا
يوسف يلبث في السجن بضع سنين:
وَقَالَ
لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ
الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (12:42)
ليكون
السؤال الآن هو: ما أهمية
تلك العزلة بعيدا عن الناس؟
رأينا
المفترى: علينا أن نميّز
بين نوعين من العزلة: العزلة في
الطفولة والصبا مقابل العزلة في الشباب والكهولة. فالمتدبر
لسير حياة الرسل والأنبياء وقصصهم، سيجد أن بعضهم قد انعزل عن الناس في مكان ما
فترة من الزمن منذ طفولته كمريم مثلا وابنها المسيح عيسى. ومنهم
من أعتزل قومه بعد أن بلغ سن الرشد كإبراهيم وموسى مثلا أو كفتية الكهف. لذا، يمكن أن ننظر إلى الأمر على نحو أن هناك
اعتزال – لنقل- مفروضا على الشخص مقابل اعتزال اختياري طوعي من الشخص نفسه. ليكون السؤال الآن: من
أين نوع كانت عزلة نبينا الكريم عن قومه؟
رأينا
المفترى: لو دققنا
في الآية الكريمة التالية، لوجدنا بأن عزلته كانت إلى حد ما عزلة مفروضة، فهو لم
يختارها طواعية، وإنما فرضت عليه مادام أنها قد حصلت في الفترة الزمنية التي كان
فيها يتيما (أي قبل سن
البلوغ).
أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (93:6)
ليكون
السؤال الآن: ماذا كانت
فائدة تلك العزلة؟ أو لنسأل بطريقة أخرى: ما
عواقب العزلة على الشخص نفسه إن كانت في سن مبكرة؟
جواب
مفترى خطير جدا (لا تصدقوه): اختلاف اللسان.
مقدمات
بسيطة: عندما
ينشأ الطفل سنوات عمره الأولى في مجتمع بشري، يكون أول ما يكتسبه ذلك الطفل من
الناس من حوله هو لسانهم الذي يتحدثون به، وتعزز قدرته في اكتساب ذلك اللسان
بمقدار انخراطه فيهم وتفاعله معهم. لذا، إن نشأ ذلك الطفل في مكان منعزل عن
الناس، فسيتأثر لسانه بمقدار ذلك الإنعزال، وكلما كان الإنعزال أطول في المدة،
وأبكر في العمر، كلما كان التأثير العكسي أكبر. فإذا ما
كانت العزلة تامة منذ نعومة أظفار الطفل، كان انعقاد اللسان أكبر وأشد.
السؤال: هل هذا
شيء إيجابي أم شيء سلبي؟
رأينا
المفترى: نحن
نفتري الظن بأن هذا شيء إيجابي في حالة وجود البديل. فقد كان
لسان عيسى بن مريم يختلف عن لسان العالمين أجمعين، فما تحدث عيسى بلسان الناس من
حوله لأنه جاء منذ اليوم الأول يتكلم، فكان مؤيدا بروح القدس الذي كان عيسى يتكلم
بلسانه. لكن
مريم (أم المسيح عيسى) نشأت في خلوتها في المحراب، فكانت تعرف لسان الناس من
حولها، ولكن تلك العزلة أكسبتها شيئا آخر، ألا وهو القدرة على محادثة الروح الذي
جاءها في الحجاب:
وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (19:16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا
فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (19:17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ
مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (19:18) قَالَ
إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19:19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (19:20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ
عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ
أَمْرًا مَقْضِيًّا (19:21)
وهو
الذي ناداها من تحتها بعد أن وضعت المسيح عند تلك النخلة:
فَنَادَاهَا
مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (19:24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (19:25)
فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (19:26)
لذا،
كانت مريم تتقن الخطابين، خطاب الناس من حولها، وخطاب الروح الذي أرسله إليها ربها:
قَالَ
إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19:19) قَالَتْ
أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
(19:20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (19:21) قَالَتْ
أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
(19:20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (19:21)
ولو
عدنا إلى قصة داوود كما افتريناها في الأجزاء السابقة من هذه المقالة، لوجدنا بأنه
قد عاش طفولته كلها بعيدا عن الناس بين مخلوقات الغابة، فاستطاع أن يتعلم طريقة التواصل
معها، لكن لسانه انعقد عن مخاطبة الناس حتى استطاع والده لقمان أن "يلقّمه"
الكلام بعد أن عاد إليه على مشارف سن البلوغ.
ولو
عدنا إلى سيرة نبينا الكريم، لوجدنا أن العزلة كانت طاغية عليه في الطفولة، لكن
هذا لم يمنعه من اكتساب لسان الناس من حوله، ولكن بطريقة –
نحن نتخيل- محدودة
بسبب قلة اتصاله معهم. فنحن
نتخيل ذلك الصبي في الفترة التي كان يتيما يقضي جلّ وقته في ذلك المأوى بعيدا عن
الناس من حوله، لكنه يتصل بهم في بعض الأوقات لغايات سنتعرض لها لاحقا بإذن الله.
إن
ما يهمنا طرحه هنا هو أن العزلة المبكرة وطول مدتها تؤثر على لسان الشخص، لكن يبقى
السؤال قائما: ما الذي
يستفيده ذلك الشخص من اعتزل الناس فترة من الزمن حتى وإن كان على حساب لسانه؟
جواب
مفترى خطير جدا: cogitating،
أي قضاء الوقت الطويل يفكّر مليّا بالقضايا الوجودية التي كانت تقلقه. فلا شك
أن العزلة تجبر الشخص على أن ينظر من حوله ليتفكر في كل ما يرى ويسمع. لكن الذي
يجب أن نجلب له الانتباه هنا هو: ما هي آلية التفكير (والتأمل) عند
الإنسان ابتداء؟ أي كيف يحدث ذلك التفكير والتأمل؟
رأينا
المفترى والخطير جدا (لا
تصدقوه):
نحن
نظن باستحالة أن يحدث التفكير (والتأمل) بمعزل عن
اللسان. فالإنسان
محكوم بتفكيره بما لديه من المفردات المخزنة في "ذهنه" ويمكن
أن ينطق بها لسانه. فإذا
كانت تلك المفردات حقيقية، كان التفكير حقيقيا، وسليما. وإذا كانت
المفردات مزيفة كاذبة، كان التفكير كذلك. فالشخص يصف بما يتوافر على لسانه ما يدور في
"خلده". فهو
إذا محكوم بذلك المخزون من المفردات التي في ذهنه وتنطلق على لسانه. لهذا. نحن نظن
بأن عيسى بن مريم كان الشخص الوحيد الذي لا يخطئ في التفكير مادام أن ما هو متوافر
على لسانه مصدره روح القدس.
لذا،
لما كان كثير مما على لسان الناس العاديين من الأسماء ليست أكثر من أسماء ما أنزل
الله بها من سلطان:
قَالَ
قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي
أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ
سُلْطَانٍ ۚ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (7:71)
كان
تأثير ذلك عليهم سلبيًا. فالأسماء
التي سمّاها الناس هم وآباؤهم هي من التي ما أنزل الله بها من سلطان. وذلك لأن فيها اتباع للظن وما تهوى الأنفس:
إِنْ
هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى
الْأَنْفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ (53:23)
السؤال: إذا كانت هذه أسماء ما أنزل الله بها من
سلطان، فهل هناك أسماء أنزل الله بها من سلطان؟
جواب: نعم. هي
الأسماء التي علمها الله لآدم منذ بدء الخليقة:
وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (2:31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا
إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2:32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2:33)
السؤال: أين ذهبت
تلك الأسماء؟
رأينا
المفترى: نسيها
آدم بسبب المعصية:
وَلَقَدْ
عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (20:115)
السؤال:
متى حصل ذلك؟
جواب
مفترى: عندما
وسوس له الشيطان، وتقبل نصيحته، ونزل عندها:
وَقَاسَمَهُمَا
إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (7:21) فَدَلَّاهُمَا
بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ
عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ
(7:22)
السؤال: ماذا حصل لآدم وزوجه حينئذ؟
جواب
مفترى: أهبطا من
الجنة (إلى واد غير ذي زرع):
قَالَ
اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (20:123) وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَعْمَىٰ (20:124)
السؤال: كيف أصبح لسان آدم وزوجه بعد الهبوط؟
رأينا
المفترى: أصبح هناك
كلمات (وليس أسماء) تلقاها آدم من ربه:
فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ
إِلَىٰ حِينٍ (2:36) فَتَلَقَّىٰ
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (2:37)
نتيجة
مفتراة 1: ما قبل
المعصية كانت أسماء عند آدم (في الجنة)
نتيجة
مفتراة 2: ما بعد
المعصية أصبحت كلمات عند آدم (خارج الجنة)
السؤال: ما الذي يجري على لسان الناس أجمعين؟
-
كلمات من
عند ربهم (جاءتهم بعد هبوط آدم وزوجه من الجنة)، و
-
أسماء ما
أنزل الله بها من سلطان (من عند أنفسهم ومن عند آبائهم)
فأصبح
لسان الناس في رحلتهم بعد خلقهم على النحو التالي:
أسماء
يعلمها الله لآدم – كلمات
يتلقاها آدم من ربه – أسماء
يسميها الناس ما أنزل الله بها من سلطان
السؤال:
ما فائدة هذا الطرح؟
رأينا
المفترى: ربما يساعدنا مثل هذا الطرح في فهم آلية التحريف التي كان يقوم بها بعض
الناس، ليكون السؤال على نحو: ما سبب تحريف الكلم عن مواضعه؟
أَفَتَطْمَعُونَ
أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ
اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (2:75)
مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِنْ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (4:46)
فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (5:13)
يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ
الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ
الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ
أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَنْ يُرِدِ
اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (5:41)
نتيجة
مفتراة: نحن نظن بأن قدرة بعض الناس على تحريف الكلم عن مواضعه هو توافر الأسماء
التي ما أنزل الله بها من سلطان. فهؤلاء يستخدمون تلك الأسماء لتحريف الكلمات التي
تلقاها آدم من ربه بعد أن تاب عليه. فتكون الآلية على نحو استبدال الأسماء التي ما
أنزل الله بها من سلطان بالكلمات التي تلقاها آدم من ربه. فيستبدلون الذي هو أدنى
بالذي هو خير (وهذه هي صنعة أهل العلم الذين ما انفكوا يحرفون الكلم من بعد
مواضعه. وسنقدم لاحقا أمثلة عديدة على هذا التحريف). لكن هناك مفارقات عجيبة وجب
التنبيه إليها قبل المضي قدما في هذا النقاش.
أولا،
هذا إبراهيم يكون من نصيبه اتمام تلك الكلمات:
وَإِذِ
ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ (2:124)
ثانيا،
هذه مريم تصدق بكلمات ربها:
وَمَرْيَمَ
ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ
بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (66:12)
ثالثا،
هذا محمد يؤمن بكلمات ربه:
قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (7:158)
تساؤلات
-
ما هي
الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم ثم أتمهن؟
-
ما هي
الكلمات التي صدقت بهن مريم؟
-
ما هي
الكلمات التي كان يؤمن بها النبي الأمي؟
رأينا
المفترى: لن أدخل أكثر في هذا الموضوع لأنه موضوع غاية في التعقيد من الناحية
النظرية ربما يحتاج من يلقى عليه أن يكون حاضرا في ذهنه كثير من المقدمات الأولية. لكني سانتهي هنا بالافتراء البسيط جدا
التالي: كلما قلت
في ذهنك الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، زاد مخزونك من الكلمات التي تلقاها
آدم من ربه وأتمها إبراهيم وصدقت بها مريم وآمن بها محمد.
نتيجة
مفتراة: لقد كان
لعزلة محمد (وأي رسول
آخر أو عبد من عباد الله) عن
الناس نوعين من التأثيرات الايجابية:
-
تقليل كمية
الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان
-
زيادة عدد
الكلمات التي هي من عند ربه:
قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (7:158)
فمحمد
رسول الله، وهو نبي
أمي يؤمن بالله وبكلماته. ليكون
السؤال على الفور هو: ما معنى
أن محمدا نبي أمي يؤمن بكلمات الله؟
رأينا
المفترى: نحن نظن أن مفردة أميّ، كما افترينا في سابق الأيام، تعني العودة إلى الأصل
(المنبع الأول). فالأم هي التي تجمع. لذا، كان إبراهيم أمة، لأن كل العقائد (وإن
اختلفت فيما بينهما) تجمعت عند إبراهيم. وكانت مكة هي أم القرى، لأن كل القرى
انبثقت منها. فهي القرية الوحيدة التي لها بطن:
وَهُوَ
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ
مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا
(48:24)
(للتفصيل
في هذه القضية، انظر المقالات السابقة)
وكانت
واحدة من الافتراءات الرئيسية التي قدمناها سابقا أن محمدا نبي أمي، لأن بُعث من
تلك القرية، فكان رسولا للناس كافة:
وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (34:28)
وبالتالي،
كا هو وحدة الرسول المبعوث رحمة للعالمين:
وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (21:107)
وها
نحن اليوم نضيف افتراء جديدا كسبب آخر في أن يكون محمد نبيا أميا، ويتمثل هذا
الافتراء الجديد بأن العلم الذي كان يأخذ منه محمد هو أم الكتاب:
هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (3:7)
فالكتاب
الذي أنزل على محمد كان فيه الآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب. فكانت مهمة ذلك
النبي أن يفصل تلك الآيات قرآنا عربيا بلسان قومه:
الر
ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
(11:1)
فكان
تفصيلها قرآنا عربيا:
كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (41:3)
فأم
الكتاب موجود عند الله نفسه:
يَمْحُو
اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (13:39)
وكان
القرآن مأخوذا مباشرة من أم الكتاب:
حم
(43:1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (43:2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (43:3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
(43:4)
نتيجة
مفتراة: كان مصدر العلم الذي ينهل منه محمد هو الكوثر (أي نبع العلم)، أي أم
الكتاب.
السؤال:
كيف استطاع النبي الكريم الحصول على ذلك العلم الذي مكّنه من تفصيل الكتاب المحكم
قرآنا عربيا؟
جواب
مفترى: نحن نفتري الظن أن ذلك كان بسبب ضلالته فترة من الزمن.
الدليل
قال
تعالى:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (93:6)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (93:7)
افتراء:
بعد أن وجد الله محمدًا يتيما، آواه. وبعد أن وجده ضالا، هداه.
السؤال: ما معنى
أن محمدًا كان حينئذ ضالًا؟
جواب
مفترى: نحن
نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الضال هو من كان باحثًا عن المعلومة (العلم).
فعندما
يضلّ شخص الطريق، فهو إذا سائر في تلك الطريق باحثًا عن مقصده، لكن عندما تتشعب الطريق
أمامه في أكثر من اتجاه، يصبح ضالًا ما لم يجد الاتجاه الصحيح الذي يقوده إلى
مقصده، ويبقى في حالة ضلال مازال باحثا عنها لم يصل إليها بعد، وينتهي ضلاله عندما
يسلك الاتجاه الصحيح الذي يقوده إلى مقصده، فيهتدي، وينتهي ضلاله.
السؤال: ما الذي
كان محمد باحثًا عنه في تلك الفترة من حياته؟
جواب: إنه
العلم، ولنقرأ الآن ما حصل عندما وجده الله ضالا، فهداه. إنه (نحن نرى) ما جاء في
أول ما أُنزل عليه من ربه: إنها سورة العلق:
اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (96:1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (96:2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ (96:3) الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (96:4) عَلَّمَ
الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (96:5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (96:6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (96:7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ
الرُّجْعَىٰ (96:8) أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهَىٰ (96:9) عَبْدًا
إِذَا صَلَّىٰ (96:10) أَرَأَيْتَ
إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (96:11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (96:12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ
وَتَوَلَّىٰ (96:13) أَلَمْ
يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (96:14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا
بِالنَّاصِيَةِ (96:15) نَاصِيَةٍ
كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (96:16) فَلْيَدْعُ
نَادِيَهُ (96:17) سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ (96:18) كَلَّا
لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ۩ (96:19)
رأينا
المفترى: دعنا
نحاول مناقشة بعض ما جاء في هذه السورة العظيمة بعيدًا عمّا وصلنا في التراث من
عند أهل الدراية على ألسنة أهل الرواية. ظانين أنه بامكاننا خلق تصور جديد، يختلف عن
كل ما يمكن للعقل المتدين أن يصل إليه أو ربما أن يتحمل سماعه لأول مرة. وسنبدأ
بتقديم الافتراءات الأبسط التي نظن أن الآيات الكريمة ترشدنا إليها:
-
كان محمد يتفكر بالرب الذي خلق (اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
-
كان محمد يتفكر بكيفية خلق الإنسان (خَلَقَ
الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)
-
كان محمد يتفكر بالرب الذي هو أكرم (اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)
-
كان محمد يتفكر بالرب الذي علم، وبكيفية
التعليم (الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)
-
كان محمد يتفكر بما علم الله الإنسان (عَلَّمَ
الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)
-
كان محمد يتفكر بكيفية طغيان الإنسان (كَلَّا
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ)
-
كان محمد يتفكر بما يمكّن الإنسان أن يطغى (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ)
تخيلات
مفتراة: لما وجد محمد نفسه في ذلك المأوى، ولما بلغ سن الرشد، كانت القضايا المشغلة
لتفكيره تتمثل بالسؤال الأكبر المتعلق بالرب الذي خلق، وكيفية خلق الإنسان، وكيفية
تعليم الإنسان، وما هو العلم الذي يستطيع الإنسان الحصول عليه، ومصدر ذلك العلم،
وسبب طغيان الإنسان، الخ.
السؤال:
ما الذي يمكن أن نستفيده من هذا النوع من التفكير؟
رأينا
المفترى: إن أول ما يمكننا افتراؤه هنا هو أن النبي الكريم كان (على عكس ما ألفناه
من عند آبائنا الأولين) يستطيع القراءة، ولكن التوجيه الإلهي جاءه هنا ليقرأ بسم
ربه الذي خلق. ليكون
السؤال الآن: لماذا
طلب الله منه أن يقرأ بسم ربه الذي خلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)؟
جواب
مفترى خطير جدا جدا (لا
تصدقوه):
عندما
كان محمد ضالًا يبحث عن الهداية، كان يقرأ، ولكنه لم يكن يقرأ بسم الرب الذي خلق، لذا جاءه الأمر الإلهي
باعادة توجيه البوصلة، وأن يبدأ منذ هذه اللحظة
القراءة بسم الرب الذي خلق.
السؤال: إن صح ما
تقول – يسأل
صاحبنا-
بسم من كان محمد يقرأ قبل هذه اللحظة التي جاءه الأمر الإلهي فيها أن يبدأ القراءة
بسم الرب الذي خلق؟
جواب
مفترى: للاجابة
على مثل هذا التساؤل الخطير، وربما غير المألوف في ذهن المسلم المتدين، يتوجب
علينا أن نجلب الكثير من الآيات الكريمة التي وُجهت لمحمد نفسه في بداية دعوته،
نذكر منها:
يَا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (73:1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (73:2) نِصْفَهُ
أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (73:3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلًا (73:4)
إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (73:5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ
وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (73:6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا
طَوِيلًا (73:7)
وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (73:8) رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (73:9) وَاصْبِرْ
عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (73:10) وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (73:11)
يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (74:1) قُمْ فَأَنْذِرْ (74:2) وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ (74:3)
وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ (74:4)
وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ (74:5)
وَلَا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (74:6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (74:7) فَإِذَا
نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (74:8) فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (74:9) عَلَى
الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (74:10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (74:11) وَجَعَلْتُ
لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (74:12) وَبَنِينَ شُهُودًا (74:13) وَمَهَّدْتُ
لَهُ تَمْهِيدًا (74:14)
ثُمَّ
يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (74:15) كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا
عَنِيدًا (74:16)
سَأُرْهِقُهُ
صَعُودًا (74:17)
إِنَّهُ
فَكَّرَ وَقَدَّرَ (74:18)
فَقُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ (74:19)
ثُمَّ
قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (74:20) ثُمَّ نَظَرَ (74:21) ثُمَّ
عَبَسَ وَبَسَرَ (74:22)
ثُمَّ
أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (74:23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ
يُؤْثَرُ (74:24)
إِنْ
هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (74:25)
أَلَمْ
نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (94:1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (94:2) الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (94:3)
وَرَفَعْنَا
لَكَ ذِكْرَكَ (94:4)
فَإِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (94:5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (94:6) فَإِذَا
فَرَغْتَ فَانْصَبْ (94:7)
وَإِلَىٰ
رَبِّكَ فَارْغَبْ (94:8)
لو
دققنا في هذه السياقات القرآنية، لربما خرجنا ببعض الافتراءات التي قد تساعدنا على
إعادة رسم المشهد كله من أوله إلى آخره على غير تلك الصورة العالقة في أذهاننا،
نذكر منها:
-
دعوة
النبي بتحمل المسئولية بأن يلقى عليه قولًا ثقيلًا (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ
قَوْلًا ثَقِيلًا)
-
ذكر اسم
ربه، وأن لا إله إلا هو، وأن يتخذه وكيلًا (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (73:8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا
إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)
-
الصبر على
ما يقوله الآخرون وهجران المكذبين أولى النعمة، وأن يذر أمرهم إلى الله الذي
سيتعامل معهم بطريقته (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ
وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (73:10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي
النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا)
-
تطيهر
ثيابه (وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ)
-
هجر الرجز
(وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ)
-
عدم
الاكثار من الاستمناء (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)
-
الصبر على
ذلك كله (وَلِرَبِّكَ
فَاصْبِرْ)
-
انشراح
صدر النبي (أَلَمْ
نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)
-
وضع الوزر
عنه (وَوَضَعْنَا
عَنْكَ وِزْرَكَ)
-
انقاض
ظهره (الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)
-
رفع ذكره (وَرَفَعْنَا
لَكَ ذِكْرَكَ)
-
أن يكون
راغبًا إلى ربه (وَإِلَىٰ
رَبِّكَ فَارْغَبْ)
-
الخ
السؤال: كيف يمكن
ربط كل هذه الأمور معا للخروج بتصور ربما يكون أكثر دقة عما ألفناه من ذي قبل؟
رأينا
المفترى: نحن
نطلب من الذي يقدسون تراثهم القديم أن لا تتجاوز أعينهم هذا السطر من الكتابة،
لأننا سنتجرأ على البوح بما لا يمكن للعقل المتبع المقلّد أن يتحمله. وفي الوقت
ذاته، ندعو أصحاب العقول الناقدة أنّ ينظروا لما سنقدمه عل أساس أنها آراء بشرية
ربما يصيب بعضها ويخطئ بعضها الآخر. لذا وجب الحذر والتريث قبل المضي قدمًا بعد
كل افتراء يقرأه في السطور التالية، ليمحصه، فيبحث عن الدليل الذي قد يثبته وربما
ينفيه جملة وتفصيلًا. ويكون
ذلك بالجرأة على طرح كل التساؤلات التي قد ترد إلى الأذهان حول هذه الآيات
الكريمة، علّنا نستطيع أن نهتدي صراط الله المستقيم بعد هذا الضلال المبين الذي
نحن فيه. فالله
وحده أسأل أن يسبغ عليّ من نعمه الباطنة التي لا تكون لأحد غيري، وأعوذ به وحده أن
أفتري عليه الكذب، أو أن أقول عليه ما ليس لي بعلم، إنه هو العليم الحكيم.
أما
بعد،
إن
صحّ افتراؤنا بأن محمدًا كان ضالًا يبحث عن الحقيقة بعيدًا عن المعارف التي كانت
بين أيدي الناس، وأنه كان يقرأ، ولكن لم يكن حتى الساعة يقرأ بسم الرب الذي خلق،
فعلينا أن نطرح التساؤل الجريء التالي: بسم مَنْ كان محمد يقرأ قبل أن يجده الله
ضالا، فهداه؟ أي بسم من كان محمد يقرأ في الفترة التي كان ضالًا فيها؟
جواب
مفترى خطير جدا: لقد
كان يقرأ بسم الذي كان يراه. انتهى.
السؤال: من هو
الذي كان محمد يراه؟
جواب: إنه الذي
إن رايته، استغنيت.
السؤال: ومن هو
ذلك الذي إن رأيته استغنيت؟
جواب
مفترى: إنه
... . (لن
استطيع أن أصرح بكنيته هنا حتى لا يقتص هذا النص خارج سياقه قبل تقديم الدليل الذي
نظن أنه يثبت هويته، فذلك سيكون صيدا ثمينا لمن في قلبه مرض لا يشغله شيء أكثر من
اثبات فسقنا على رؤوس الأشهاد)
السؤال: وأين
الدليل على ذلك؟ يسأل صاحبنا الذي ما يزال يظن بأن في كلامنا شيئا من المنطق الذي
يستحق المتابعة لدقائق معدودة.
رأينا
المفترى: دعنا
نضع بين يدي القارئ الكريم – إن أراد- السورة
التي اتفق غالبية المسلمين أنها كانت أول ما نزل على قلب النبي من القول الثقيل،
إنها سورة العلق:
اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (96:1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (96:2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ (96:3) الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (96:4) عَلَّمَ
الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (96:5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (96:6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (96:7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ
الرُّجْعَىٰ (96:8)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (96:9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (96:10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى
الْهُدَىٰ (96:11) أَوْ
أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (96:12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (96:13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ
اللَّهَ يَرَىٰ (96:14) كَلَّا
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (96:15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ
خَاطِئَةٍ (96:16) فَلْيَدْعُ
نَادِيَهُ (96:17) سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ (96:18) كَلَّا
لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ۩ (96:19)
لنثير
حولها بعض التساؤلات التي نطلب من القارئ الكريم – إن أراد- أن
يتدبرها قبل أن يكمل القراءة ليرى ما عندنا من افتراءات حولها. ونجمل
معظم التساؤلات التفصيلية اللاحقة بالملاحظة التالية: ألا تجد - عزيزي
القارئ- أن
الآيات الكريمة بمجملها تشير باستخدام ضمير الغائب إلى كينونة "غائبة لم يصرح
بها"؟
التساؤلات
-
على من
يعود الضمير في الآيات التالية؟
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (96:6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (96:7)
-
على من
يشير اسم الإشارة "الذي" في
الآيات التالية؟
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (96:9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ (96:10)
-
على من
يعود الضمير في الآيات التالية؟
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (96:11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (96:12)
-
على من
يعود الضمير في الآية التالية؟
-
أَرَأَيْتَ
إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (96:13)
-
على من
يعود الضمير في الآية التالية؟
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (96:14)
-
على من
يعود الضمير في الآيات التالية؟
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا
بِالنَّاصِيَةِ (96:15) نَاصِيَةٍ
كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (96:16)
-
على من
يعود الضمير في الآية التالية؟
-
فَلْيَدْعُ
نَادِيَهُ (96:17)
-
على من
يعود الضمير في الآية التالية؟
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ ۩ (96:19)
نتيجة
مفتراة من عند أنفسنا 1: نحن نظن بأن الآيات الكريمة السابقة تبين
وجود كينونة لم تذكر صراحة، ولكن تمت الإشارة إليها باستخدام ضمير الغائب المستتر
والمتصل (كما
يحب أهل اللغة أن يصفوه). ليكون السؤال الآن: من هي تلك
الكينونة التي يشير إليها ضمير الغائب في هذه الآيات الكريمة؟
رأينا
المفترى: لو
دققنا في السورة بمجملها، لوجدنا أنها تتحدث عن ثلاثة أشياء رئيسية:
-
دعوة
للنبي بأن يقرأ بسم ربه الذي خلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (96:1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ
عَلَقٍ (96:2) اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (96:3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (96:4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ (96:5))
-
تحذيره من
ذلك الذي ينهى عبدا إذا صلى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (96:9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ)
-
دعوة
النبي بأن لا يطعه، فيسجد ويقرب من ربه الذي خلق (كَلَّا لَا تُطِعْهُ
وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ۩ (96:19))
تخيلات
مفتراة من عند أنفسنا: منذ
أن كان محمد يتيمًا، قضت الحكمة الإلهية بأن يؤويه، فكان المكان الذي وجد ذاك
اليتيم نفسه فيه هو ذلك المأوى المنعزل في بعض جبال مكة بعيدا عن الناس، ومادام
أنه كان ذرية لرجل صالح وأم مؤمنة، فقد كان محل العناية الإلهية. لكن ما أن
بلغ ذلك اليتيم سن الرشد، حتى أصبح ضالا، أي باحثا عن الحقيقة بنفسه. لذا، نحن
نجزم القول بأن نتيجة الضلالة للشخص (الإيمان أو الكفر) مرتبطة
بمشيئة الشخص نفسه، ولا علاقة لأي شخص آخر (سواء كان ولدا أو والدا) بذلك:
وَمَا
جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ
إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ
اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَا
يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ (74:31)
نتيجة
مفتراة مهمة جدا: كانت الرعاية الإلهية لمحمد يتيما مدفوعة بصلاح والده وإيمان أمه،
لكن كانت هدايته نابعة من محمد نفسه. وهذا المنطق المفترى من عند أنفسنا يدعونا
إلى تقديم الإفتراء التالي: أن الهداية والضلالة لا تتأتى من الشخص نفسه
ما لم يصل سن الرشد، وذلك لأن مشيئة الشخص لن تتبلور إلا بهذا السن. فالطفل
الصغير لا يستطيع أن يهتدي أو أن يضل مادام أن مشيئته لم تتبلور بالصورة المطلوبة
بعد. لذا،
نحن نتخيل (ربما
مخطئين) بأن
محمدا قد نشأ يتيما ترعاه الأعين حتى وصل إلى سن الرشد، وهناك كان مطلوب منه أن
يتخذ القرار إما بالضلالة أو في الهداية بنفسه. فماذا فعل
محمد الشاب بعد أن بلغ سن الرشد في ذلك المأوى البعيد عن أعين الناظرين؟
رأينا
المفترى: ما
أن وصل محمد سن البلوغ (الرشد) حتى بدأ
رحلة الضلالة، أي مرحلة البحث عن الحقيقة، فوقف في لحظة من حياته على مفترق
الطريق، إما أن يذهب يمينا تجاه الهداية أو شمالا تجاه الاستمرا في الضلالة. فكيف وصل
إلى مفترق الطريق تلك؟ وماذا فعل حينها؟
تخيلات
مفتراة من عند أنفسنا (لا تصدقوها): في بداية رحلة الضلال، وجد محمد نفسه (نحن نتخيل) أمام
مجموعة من الخيارات التي يستطيع الاستفادة منها. فكان
مؤهلا لتلقي المعلومات من عدة مصادر توافرت له حينئذ، وكانت واحدة من تلك المصادر
هي الجن. فتعامل
محمد (نحن
ما زلنا نتخيل) مع
بعضها، وكان قادرا (نحن
نفتري الظن) على
الحصول منهم على كثير مما يريد، فكان يستطيع أن يحدث الرِجز، وتحصل جراء ذلك على
الوزر. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في قوله
تعالى:
يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (74:1) قُمْ فَأَنْذِرْ (74:2) وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ (74:3)
وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ (74:4)
وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ
(74:5) وَلَا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (74:6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (74:7)
أَلَمْ
نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (94:1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ
(94:2) الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (94:3)
ولو
دققنا في معنى الرِجز كما يرد في السياقات القرآنية التالية:
فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (2:59)
وَلَمَّا
أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا
تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ
مِنَ الْغَابِرِينَ (29:33)
إِنَّا
مُنْزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (29:34)
وَلَقَدْ
تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (29:35)
وَلَمَّا
وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ
عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ
مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (7:134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ
إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (7:135)
فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (7:162)
لوجدنا
بأن الرِجز (بكسر
الراء) هو
عذاب من نوع معين قد ينزل من السماء.
ولو
دققنا في الآية الكريمة التالية، لوجدنا بأن الرِجز يمكن أن يحدثه الشيطان:
إِذْ
يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (8:11)
ولو
دقننا في الآيات الكريمة التالية، لوجدنا بأن الرِجز قد يصيب المعاجزين في آيات
الله الذين يكفرون بها:
وَالَّذِينَ
سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ (34:5)
هَٰذَا
هُدًى ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ (45:11)
سؤال: بناء على
هذا الفهم الأوّلي (ربما
المغلوط) لمعنى
الرجز، فلماذا طُلب من محمد أن يهجر الرُجز (بضم الراء) منذ بداية
الدعوة؟
جواب
مفترى خطير جدا: مادام
أن الرجز (بكسر
الراء) هو
عذاب قد يقع على بعض الناس، وقد يكون مصدره السماء أو الشيطان أو أي مصدر آخر، فإن
عملية إحداث الرِجز (بكسر
الراء) هي
الرُجز (بالضم). فقد كان
محمد (نحن
نفتري القول من عند أنفسنا) قادرا على إحداث الرجز (بكسر
الراء) بما
لديه من العلم من قبل أن يأتيه الوحي الإلهي. ليكون
السؤال الآن هو: ما
هو الرِجز (بالكسر) الذي كان
محمد قادرا على أن يحدثه وأمر أن يهجر إحداثه منذ بداية الدعوة؟
رأينا
المفترى الخطير جدا: نحن
نظن أنه ما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَقَالُوا
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (17:90) أَوْ
تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا
تَفْجِيرًا (17:91)
أَوْ
تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (17:92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ
أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ
عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا
بَشَرًا رَسُولًا (17:93)
لا
شك أن هذه الآيات تصوّر لنا منطق المعاجزين في آيات الله المكذبين بها. لكن تبرز
الحاجة لإثارة التساؤلات هنا حول واحدة منها وهي قولهم:
أَوْ
تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا...
تساؤلات:
-
هل فعلا
هدد محمد القوم من ذي قبل بأن يسقط عليهم السماء كسفا؟
-
هل كان
محمد قادرا على ذلك؟
-
من أين
جاءته القدرة على إسقاط السماء عليهم كسفا؟
-
ماذا يسمى
إسقاط السماء عليهم كسفا (لو حصل طبعا)؟ فهل يقع ذلك في باب الرجز؟
-
إن كان
فعلا هددهم بذلك قولا، فلِم لَم ينفذه فعلا على أرض الواقع؟
-
الخ
لو
عدنا إلى فكرة إسقاط السماء كسفا، لما وجدناه تبرز إلاّ في هذه الآية التي تتحدث
عن المعاجزين في آيات الله من قوم النبي محمد، وفي آية أخرى تتحدث عن المعاجزين من
قوم شعيب (أصحاب
الأيكة):
كَذَّبَ
أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (26:176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ
أَلَا تَتَّقُونَ (26:177)
إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (26:178) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (26:179)
وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (26:180)
أَوْفُوا
الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (26:181) وَزِنُوا
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (26:182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (26:183) وَاتَّقُوا
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (26:184) قَالُوا
إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (26:185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (26:186) فَأَسْقِطْ
عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (26:187)
ليكون
السؤال المطروح عن سبب ارتباط إسقاط السماء كسفا بهذين النبيين الكريمين: محمد
وشعيب؟
المدّكرون:
رشيد سليم الجراح وآخرون
بقلم:
د. رشيد الجراح