قصة داوود - الجزء الثالث عشر
من هو داوود – الجزء الثالث عشر
حاولنا في الجزء السابق من هذه
المقالة تمرير افتراء من عند أنفسنا مفاده أن صلاح الوالد ينفع الولد، خاصة إذا
نشأ ذلك الولد يتيما. ولكي نثبت زعمنا هذا وجدنا من الضرورة بمكان التمييز بين
نوعين من عباد الله الذين كانت منّة الله عليهم حاضرة منذ نعومة أظفارهم، وهما:
-
من كان أبوهم "من الصالحين"
-
من كان أبوهم صالحا
وقد افترينا القول بأن هناك
كثير من الناس من هم ضمن الفئة الثانية "أي من كان أبوهم صالحا"، لكن
هناك قلّة من عباد الله من الفئة الأولى، أي من كان أبوهم "من
الصالحين". والسبب في ذلك – حسب ظننا – هو أن من كان "من الصالحين"
فهو رسول من رسل الله أو نبي من أنبيائه (انظر الجزء السابق حول هذه الجزئية في
البحث)، وكانت المنة الإلهية على هؤلاء سابغة بأن تكون النبوة مستمرة في ذريتهم من
بعدهم. ولتوضيح الفكرة أكثر نقول: لمّا كان إبراهيم نبيا "من الصالحين"،
كانت ذريته (إسماعيل وإسحاق) من الصالحين، ولما كان إسحاق "من الصالحين"،
كان ولده يعقوب "من الصالحين"، ولما كان يعقوب "من الصالحين"،
كان ولده يوسف "من الصالحين". لكن لمّا كان يوسف قد هلك:
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ
فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ
لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ
هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (40:34)
أي لم يكن (نحن نظن) له ذرية من
بعده:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا
نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ۚ فَإِنْ
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِنْ كَانُوا
إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ۗ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(4:176)
توقف خط النبوة هذا عند ذلك
الحد. فقد استمر من عند إبراهيم وانتهى عند يوسف. فكانوا جميعا أنبياء من
الصالحين.
والمنطق نفسه ينطبق على سليمان
ابن داوود ويحيى ابن زكريا، فهؤلاء رسل "من الصالحين" لأن أبآءهم
المباشرين (أي والديهم) هم أصلا "من الصالحين" (أي رسل مصطفين). وبهذا
المنطق ربما يحق لنا أن نجلب قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (3:33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا
مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (3:34)
لكن يبرز هنا سؤال آخر أكثر إثارة
من سابقه، ألا وهو: كيف يتجدد خط النبوة بعد انقطاع طويل؟ وكيف ينتقل من بيت إلى
آخر؟
رأينا المفترى: نحن نظن (ربما
مخطئين) بأنه إذا توقف خط النبوة في ذرية عباد الله الذين كانوا من الصالحين (أي رسل
سابقين)، فإنها تتجد في ذرية من كان من عباد الله صالحا. انتهى.
الدليل
دعنا نجلب الدليل على ذلك بطرح
السؤال التالي: إذا كان إسماعيل وإسحق – مثلا- قد تحصلا على خط النبوة من والدهم
المباشر إبراهيم الذي كان رسولا من قبل، فكيف تحصل لإبراهيم نفسه الاصطفاء الإلهي؟
فهل كان والد إبراهيم مثلا من الصالحين (أي رسولا) من قبل؟ وماذا عن نوح نفسه؟ كيف
حصل الاصطفاء الإلهي له؟ ولماذا كان الاصطفاء الإلهي له؟ فهل كان والده "من
الصالحين" (أي رسولا من قبله)؟ وماذا عن موسى؟ هل كان والد موسى رسولا من
الصالحين؟ وماذا عن محمد؟ هل كان والد محمد رسولا؟
السؤال المحوري: هل كان والد كل
واحد من هؤلاء رسولا "من الصالحين" (من ذي قبل)؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن
بأن الوالد المباشر لكل واحد من هؤلاء الرسل المصطفين (نوح وإبراهيم وموسى ومحمد –
ويضاف إليهم مريم) لم يكن "من الصالحين" (أي لم يكن رسولا من قبل) ولكنه
كان رجلًا صالحا، وكفى.
وقد ظننا بأن من كان صالحًا من
عباد الله هم من الذين يتقون الله، ويقولون قولًا سديدًا. وأن واحدة من نعمة الله
على هؤلاء تتمثل في رعاية ذريته من بعده، خاصة عندما يتركوا من خلفهم ذرية ضعفاء
خافوا عليهم، فيتوكل الله بالذرية من الأيتام بسبب صلاح والديهم:
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا (4:9)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا خطيرة جدا (لا تصدقوها): نحن
نفتري الظن بأن والد كل من نوح وإبراهيم وموسى ومحمد – على وجه التحديد – كان رجلا
صالحا، ممن كانوا يخشون الله ويقولون قولا سديد، توفاهم الله بالموت تاركين ذرية ضعفاء من خلفهم،
لكن ما كانت نعمة الله عليهم لتتوقف بموتهم، فأتمها الله عليهم برعاية ذريتهم
الضعفاء (أيتاما) من بعدهم حتى كبروا، وأصبحوا قادرين على رعاية أنفسهم بأنفسهم.
ولا شك عندنا أن اليتيم يخرج من الحالة بوصوله مرحلة البلوغ،
وأن تدفع إليهم أموالهم منى أُنس منهم الرشد:
وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ۚ
وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (4:6)
لنصل من خلال هذا الطرح إلى جملة من الافتراءات الأولية
التي ستكون مثابة أحجار رئيسية في البناء الذي نحاول تشيده في هذا المقام:
نتيجة مفتراة 1: كان والد كل من نوح وإبراهيم وموسى
ومحمد (يضاف إليهم مريم) رجلا صالحا
نتيجة مفتراة 2: توفى الله بالموت والد كل من نوح
وإبراهيم وموسى ومحمد (يضاف إليهم مريم)
نتيجة مفتراة 3: ترك كل والد منهم ذرية له ضعفاء، فكانوا
أيتاما
نتيجة مفتراة 4: نشأ كل من نوح وإبراهيم وموسى ومحمد
(يضاف إليهم مريم) يتيما في قومه
نتيجة مفتراة 5: تكفل الله برعاية نوح وإبراهيم وموسى
ومحمد (يضاف إليهم مريم) في المرحلة الأولى من حياتهم
تنبيه: وهنا يجب التنبيه إلى قضية مهمة جدا في هذا
الصدد: إن هذا الطرح لا يعني أن تستمر الرعاية الإلهية لهذا اليتيم متى بلغ مبلغ
الرجال ووصل سن التكليف والرشد. وذلك لأنه يصبح حينها قادرا على أن يتخذ قراره
بالإيمان أو الكفر بنفسه. فالله قد تكفل برعاية اليتامى من أبناء من كان صالحا من
عباده ماداموا دون سن الرشد والتكليف، لكن ما أن يبلغ ذلك اليتيم سن التكليف
والرشد، يصبح هو نفسه من يتخذ قراره فيما يتعلق بالهداية أو الضلال. وهذا ما
سنحاول تبيانه عند تعرضنا لقصص هؤلاء الرسل المصطفين كذرية من عباد الله الذين كان
كل واحد منهم صالحا، توفاه الله بالموت، وتعهد الله برعاية ذريته الضعفاء من بعده،
حتى وصلوا سن التكليف. لكن حصول هؤلاء على شرف التكليف بالرسالة كان نتيجة
لاستمرار صلاح كل واحد منهم بعد صلاح والده من ذي قبل.
نتيجة مفتراة 1: الله هو من يتكفل بالعناية بذرية من كان
من عباده صالحا ماداموا يتامى (قبل سن البلوغ)
نتيجة مفتراة 2: الشخص نفسه هو يتخذ قراره بالهداية أو
الضلال بعد وصول سن التكليف (البلوغ)
الدليل
مادام أن افتراءنا على نحو بأن الله يتولى رعاية الأيتام
من ذرية من كان من عباده صالحا حتى يصلوا مرحلة البلوغ والتكليف فقط، فسيكون السؤال
المطروح على الفور هو: كيف تتم (تتحقق) هذه الرعاية على أرض الواقع؟
رأينا المفترى: نحن نظن بأن ذلك يتم – على الأقل- بواحدة
من طريقين:
-
وجود من يكفل الأيتام كما في حالة موسى ومريم ابنت عمران
-
تسخير الآخرين (كافرين ومؤمنين) لخدمة هؤلاء الأيتام مقابل أجر مدفوع لهم
الطريقة الأولى: باب الكفالة
لقد افترينا الظن منذ أمد بعيد
في أكثر من مقالة سابقة لنا بأن كفالة اليتيم لا تتم إلا بالزواج بأمه. فبعد مولد
موسى، تزوجت أم موسى برجل من آل فرعون، فكان موسى في كفالته، فكان هو – كما
افترينا حينئذ- ذو الكفل الذي تربى موسى في كنفه. وكذلك نشأت مريم في كفالة زكريا
الذي تزوج بأمها (امرأت عمران) بعد وفاة عمران (للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا
السابقة). فتتطابق قصة موسى (كرسول) اصطفاه الله برسالاته وبكلامه على الناس
أجمعين:
قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا
آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (7:144)
مع قصة مريم (مصطفاه) على نساء
العالمين أجمعين:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
(3:42)
وبهذا المنطق المفترى من عند
أنفسنا الذي يبين التطابق العجيب بين موسى من جهة (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي) ومريم من جهة أخرى (وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، لا استبعد بأن يكون والد موسى
كان اسمه عمران كما كانت مريم ابنت عمران، كما لا استبعد أن يكون اسم نبي الله ذو
الكفل (كافل موسى) هو زكريا، كما كان اسم كافل مريم (زكريا). ليصبح التقابل الذي
صورناه في الجزء السابق بين قصة موسى وقصة مريم على النحو التالي:
موسى (أبن عمران) |
مريم (مريم ابنت عمران) |
والد موسى متوفى بالموت أم موسى (امرأت عمران) أخ موسى (هارون) كافل موسى (ذو الكفل - زكريا) |
والد مريم متوفى بالموت أم مريم (امرأت عمران) أخ مريم (هارون) كافل مريم (زكريا) |
ولا يظنن أحد أننا نقصد أنها نفس الشخصيات، أو هي
الشخصيات ذاتها، بل هي شخصيات متباعدة في الزمان والمكان، فكانت أسماء جديدة (في
قصة مريم) سميت على أسماء قديمة (في قصة موسى)، لتكون القصتان في خطوطهما العريضة
هي ذات القصة وإن تعددت الشخصيات فيها، وتنوعت الأحداث خلالها. فهؤلاء – لا شك
عندنا- من أهل العلم الذين يعلمون قصص بعضهم البعض، فيستفيدون من تفاصيلها على
أكمل وجه. فأعيد حبك القصة ذاتها بشخصيات وأحداث جديدة في مكان آخر وزمان آخر.
خلاصة: إن أكثر ما يهمنا هنا هو أن موسى ومريم كانا
يتيمين، بسبب عدم وجود الأب البيولوجي (أي الوالد عمران) في مرحلة الحياة الأولى
لذريتهما (أي موسى ومريم). فكانت العناية الإلهية بهما قد تمت في بعض جوانبها
بالكفالة: زواج الأم برجل آخر يتولى رعاية اليتيم.
الطريقة الثانية: باب الإجارة
أما إذا لم تتزوج الأم برجل آخر
بعد موت زوجها الصالح من ذي قبل، فإن اليتيم لا تقع عليه كفالة من أحد. وهنا يهيئ
الله لهذا اليتيم الظروف التي تكفل له رعاية إلهية بطريقة أخرى، تتجسد على أرض
الواقع (نحن نظن) بقيام الناس من حول اليتيم بتقديم خدماتهم له مقابل أجر مدفوع
لهم من مال اليتيم نفسه. وسنقدم المثال على ذلك من قصة موسى مع العبد الصالح في
انطلاقتهم الثالثة:
فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ
اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْرًا (18:77)
فكان تبرير العبد الصالح لموسى عمله في إقامة الجدار على
النحو التالي:
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ
فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا
لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (18:82)
وقد حاولنا في مقالة سابقة لنا تحت عنوان "قصة موسى
– الجزء السادس" مع العبد الصالح أن نتدبر السبب في أن يعمد صاحب موسى إلى
إقامة الجدار بالرغم أن أهل القرية قد أبوا أن يضيفوهما (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا). وقد كانت أول الملاحظات التي حاولنا جلب انتباه
القارئ لها في هذه القصة تتمثل في أن الغلاميين اليتميين كان في المدينة بينما كان
الجدار الذي أقامه صاحب موسى في القرية.
الحدث |
التأويل |
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا
أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن
يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) |
وَأَمَّا
الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ
تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن
يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82) |
وقد
حاولنا حينها أن ندحض الفهم الشعبي للقصة والذي مفاده بأن أهل القرية كانوا بخلاء
لأنهم أبوا أن يضيفوا موسى وصاحبه. وافترينا الظن – بالمقابل- أن أهل القرية لم
يرفضوا أن يضيفوا موسى وصاحبه لأنهم بخلاء، ولكن لأنهم مؤتمنون على أموال اليتامى.
فأهل القرية الذين استطعمهم موسى وصاحبه هم أناس يقومون على رعاية أموال اليتمين
التي لا حق لهم في أن يضيفوا أحداً منها، فأهل القرية التي أتى عليهم موسى وصاحبه
كانوا أصحاب ضمائر حيّة وعقائد سليمة، فكانوا من الذين يحافظوا على أموال الأيتام
ولا يتصرفوا بشي منها بغير وجه حق، متمثلين الهدي الإلهي الخاص برعاية أموال
اليتامى في كل وقت وحين:
وَلَا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا
قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (6:152)
وَلَا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (17:34)
لذا،
كان ظننا على نحو أنه لمّا وجد ذلك العبد الصالح (صاحب موسى) أن أهل تلك القرية الذين
أتوا عليهم يحافظون على أموال الأيتام كما يجب، ما كان منه إلا أن يشمّر عن ساعديه
ليساعدهم في المحافظة على أموال أولئك الأيتام بإقامة الجدار الذي كان يريد أن
ينقض (للتفصيل انظر قصة موسى الجزء السادس على المدونة).
نتيجة
مفتراة: نحن نظن بأنه هذين اليتيمين كانا من ذرية رجل صالح مادام أن الله قد هيأ
لهم من خلقه من يحافظ على أموالهم حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما. ولو عدنا
نبحث في قصة موسى من أولها عن رجل كان يتق الله ويقول قولا سديدا، لوجدنا ذلك
الشخص الذي غامر بحياته لينقذ موسى من تآمر ملأ فرعون به:
وَجَاءَ رَجُلٌ
مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
(28:20)
نتيجة مفتراة: مادام أن ذلك الرجل كان صالحا، ومادام أنه
كان له ذرية ضعفاء (أيتام)، هيأ الله الظروف لأن يقوم على رعاية أموالهم من يراعي
حق الله فيهم، فيحافظ عليها حتى يبلغ الأيتام أشدهما، فيستخرجا كنزهما، وكان ذلك
من الرحمة الإلهية:
وَأَمَّا
الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ
كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا
أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
(18:82)
وسنرى لاحقًا انعكاس مثل هذا الظن على حياة نبينا الكريم
في طفولته، خاصة ما يتعلق بمرحلة رضاعته من غير أمه. فنحن سنحاول أن ندحض الاتهام
عنه بأن ما تسمى حليمة السعدية قد أشفقت عليه لترضعه صدقة منها، وذلك لظننا
باستحالة أن ينبت الله نبيه الكريم من صدقات الآخرين. لذا، سنتبنى الرأي بأن أحدا
من أهله لم يدفع لقاء رضاعة محمد وذلك لأن والدة النبي الكريم قد رفضت بأن يدفع
لرضاعة ولدها من مال غير مال والده الذي تركه له (وسنرى تفصيل ذلك لاحقا إن شاء
الله).
إن هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا يدعونا عند النظر إلى قصص الأنبياء
المصطفين إلى الظن بأن هناك خطوطا رئيسية تتشابك بطرق متماثلة
منذ أيام حياتهم الأولى (الطفولة والصبا)، فتصبح حياة هؤلاء مميزة بطريقة عجيبة،
تجعل منهم أناسا قادرين على تحمل المسئولية الثقيلة التي ستلقى عليهم في قادم
الأيام. ولبّ القول أن حياة هؤلاء النفر من الصالحين من عباد الله قد امتازت بالقسوة
والشدة، فلم تكن فترة طفولتهم وصباهم فترة تنعّم، وعيشا رغدا في كنف والديهم، فلم
يكونوا أطفالا مدللين، ولا شبابا متنعمين برغد العيش وملذات الحياة. ولكنها حياة
تتمثل بقساوة الظروف وشدّة الأحداث التي كان عليهم أن يتجاوزوها بكل عزم وثبات.
لذا، عندما نحاول التفكر بهذه الشخصيات الاستثنائية منذ يومهم الأول في الحياة، يجب
أن تكون هناك ثوابت رئيسية تكون ناظمة للتفكير عند محاولة تدبر سيرهم منذ البداية
وحتى النهاية، نذكر منها:
· أن الاصطفاء الإلهي هو منّة من الله نفسه
على المستضعفين في الأرض:
وَنُرِيدُ
أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (28:5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (28:6)
فبالرغم
من مكانة فرعون وملئة في قومهم، إلا أن المنّة الإلهية والاصطفاء الإلهي كان من
نصيب المستضعفين في الارض حينئذ.
·أن الاصطفاء لم يكن للسادة من الأقوام.
فمعظم رسل الله قد جاءوا من المستضعفين في الأرض:
شعيب: قَالُوا يَا
شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا
ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
(11:91)
لوط: قَالَ لَوْ
أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ (11:80)
موسى: قَالُوا
أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ
عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (7:129)
محمد: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ
رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (43:31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (43:32)
فليس
من عيب القول ولا من عواره، ولا من تنزيل قدر الرسول (أي رسول) أن يكون من المستضعفين في الأرض. فالمكانة
الاجتماعية الرفيعة لعائلته لا تزيده قدرا، والمكانة الاجتماعية المتدنية لعائلته
لا تقلل له شأنا ولا تنزل له قدرا.
·كانت المعارضة ومن ثم المواجهة لهؤلاء
المستضعفين قوية من قبل الذين استكبروا:
قَالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ
آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ۚ قَالُوا
إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (7:75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا
بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (7:76)
· لم يتوقف الأمر عند المعارضة، بل تجاوز إلى
السخرية والاستهزاء:
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ
مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ
مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (11:38)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6:10)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (21:41)
·أن الاصفاء الإلهي قابل للتحول من طائفة إلى
طائفة أخرى. فهذا زكريا نفسه يجد بأن الاصطفاء الإلهي قد انتقل من آل يعقوب إلى
الموالي (آل عمران)، فطلب ذرية من الذكور تكون بمثابة امتداد لآل يعقوب من بعده:
وَإِنِّي
خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا (19:5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ
رَضِيًّا (19:6)
فكان له يحيى نبيا من الصالحين، لأن والده زكريا كان
أيضا من الصالحين:
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ
وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ
مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (3:39)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ
وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (6:85)
·وجود الخلافات العائلية بين المستضعفين من
الناس أنفسهم، فلا يناصر بعضهم بعضا، لا بل ربما يبغي بعضهم على بعض. فهذا قارون
يبغي على المؤمنين من بني إسرائيل بالرغم أنه منهم، انحيازا إلى جانب الطاغية
فرعون وملئه:
إِنَّ
قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ
الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ
قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (28:76)
وهذا
أب إبراهيم ينحاز لدين قومه حتى وإن كلفه الأمر أن يرجم ابنه:
قَالَ
أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (19:46)
·الخ
إن أول ما نريد أن نسطره
كافتراء ربما يساعدنا في إعادة حبكة قصص الأنبياء من جديد هو التالي: ليس من جميل
الكلام أن يُنسب الرسول (أي رسول) إلى عِلية القوم في المكانة الاجتماعية. وليس من
عيب القول ولا من عواره أن ينسب الرسول (أي رسول) إلى طائفة المستضعفين من القوم.
فالمنّة الإلهية حاضرة على المستضعفين إن كانوا من الصالحين. انتهى.
وليس من جميل الكلام أن يتم
تصوير عائلة الرسول الممتدة (أي رسول) على
أنها عائلة متماسكة الكيان والبنيان، وليس من عيب القول ولا من عواره أن تبرز
الخلافات بين أفراد العائلة الضيقة التي خرج منها ذلك الرسول.
وليس من جميل الكلام أن ينظر
الناس إلى المبعوث فيهم نظرة ايجابية، وليس من عيب القول ولا من عواره أن تكون
نظرتهم إليه نظرة استعلائية.
وليس من جميل الكلام أن نصور
أتباع ذلك الرسول ينحدرون من طبقة اجتماعية "راقية"، وليس من عيب القول
ولا من عواره أن يكون جلّ اتباع الرسول من الذي تزدريهم أعين الناس في زمنهم وفي
منطقتهم الجغرافية.
وليس من جميل الكلام أن نصور
طفولة الرسل بأنها حياة الطفل المدلّل الذي يعيش حياة الرفاهية، ولا من عيب القول
ولا من عواره أن نجدها طفولة محاطة بالصعاب والمخاطر.
الخ.
السؤال: في ضوء هذه الافتراءات،
كيف يمكن أن نتخيل حياة الرسل؟
رأينا المفترى: دعنا نبدأ بسيرة
نبينا الكريم. ولكن قبل تقديم افتراءاتنا في هذا الصدد، وجب التنبيه مرة أخرى إلى
أن ما سنقوله تاليًا ليست عقائد مسلم بها، ولا حقائق قطع الدليل بها، ولكنها
تصورات مبينة على افتراءات مسبقة، نحاول من خلالها النظر إلى الأمور من زوايا
جديدة، ربما تتقاطع مع بعض ما جاءنا من عند أهل التراث، وربما تتضارب معه، وربما
تسد فجوة أو تحدث شرخا فيه. لكن يبقى الأمر في باب الظن والشك الذي يتطلب المزيد
من البحث والتمحيص.
وبناء عليه، ستكون الافتراءات
على نحو سيناريوهات تخيليه، ربما لم تكن يوما تمت للواقع بصلة؛ فمن أراد أن يستخدم
خياله، ويمضي قدما معنا في النقاش، فله ذلك شريطة أن يتحمل هو بنفسه مسئولية نتائج
فعلته هذه. ومن أراد أن يطوي هذا الملف ويبقي في عالم الواقع والحقيقة، فله ذلك
مشكورا منا سلفا على تركه عناء الرحلة الشاقة معنا. فكُتب أهل الدراية والرواية
ومؤلفاتهم الجليلة واصداراتهم المحسنة على مواقف التواصل الاجتماعي الحديثة حبلى
بالعلم النافع الذي يستثمر فيه وقته وجهده.
سيناريو تخيلي 1: دعنا نتخيل
ابتداء السيناريو الذي يصور لنا أن الرسول الكريم لم يكن مولودا لعائلة تنتمي إلى
طبقة الأسياد في مكة، وإنما ولد لعائلة من المستضعفين فيهم، وهم الذين لم يكن ينظر
إليهم بأنهم من أهل الحلّ والربط في مكة، ولا من طبقة الأثرياء فيها. لا بل ونزيد
على ذلك بالخيال الجامح بأنه كان ممن تزدريهم أعين القوم، الذين يظنون أنهم أصحاب
الأحقية في الرسالة. وربما يدعم مثل هذا الافتراء ما جاء في قوله تعالى:
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ
هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (43:31)
فالقوم - إذا- يظنون أن الرجل
الذي بعث فيهم ليس رجلا عظيما من القريتين، ولا يأتي الرد الإلهي ليكذّب ادعائهم
بأنه رجل عظيم على غير ما يدّعون، ولكن جاء الرد الإلهي ليؤكد بأن ذلك من رحمة
الله التي قسمها بين العباد في الحياة الدنيا. فرحمة الله تقتضي العدل المطلق،
فحتى لو لم يكن الرسول مبعوثا من طبقة اجتماعية "مرموقة" كما يريدون،
فإنه من العدل الإلهي أن يتم تعويض المستضعفين في الأرض عمّا لحق بهم من اتخاذهم
سخريا من قبل من هم أعلى مكانة اجتماعية أو أكبر نفوذا سياسيًا واقتصاديًا. وانظر
عزيزي القارئ – إن شئت- كيف تأتي تتمة السياق القرآني السابق:
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ
هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (43:31) أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (43:32)
فالقصة ذاتها تكررت في أكثر من
وقت وفي غير مكان. فها هم الملأ من بني إسرائيل يحتجون على أن يكون طالوت ملكًا
مبعوثا فيهم، لظنهم أنه ليس من الملأ فيهم ولا من ذوي النفوذ الاقتصادي:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا
أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا
وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا
قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (2:246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ
قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ
عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ
الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي
الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (2:247)
فحجة الملأ في كل الأقوام
واحدة: إنها الاستكبار في الأرض. فها هم ملأ فرعون يصبّون جام غضبهم على
المستضعفين في الأرض حينئذ، ألا وهم بنو إسرائيل:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (7:127)
فلا تكون ردة فعل موسى على ذلك
إلا على هذا النحو:
قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (7:128)
فيأتي رد قوم موسى على نحو ما
يصور لنا ما لحق بهم من الأذى على يد فرعون وملئه:
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ
أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ (7:129)
وهنا تأتي المنّة الإلهية بالانتقام
من فرعون وملئه لاستكبارهم في الأرض بغير الحق و باستخلاف بني إسرائيل بما كانوا
يؤمنون:
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا
عَنْهَا غَافِلِينَ (7:136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
(7:137)
لكن المفارقة العجيبة هنا تتمثل
في أنه ما أن يصبح في بني إسرائيل أنفسهم ملأ بعد نجاتهم من الاستعباد حتى يكون
تصرفهم على نحو ما كان يفعل ملأ فرعون فيهم، أي الاستكبار على من لم يكن جزءا
منهم، وظنهم بأنهم أصحاب الأحقية في الملك كما فعل ملأ ذلك النبي من بعد موسى،
عندما احتجوا على الاصفاء الإلهي لطالوت عليهم:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا
أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا
وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا
قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (2:246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ
قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ
عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ
الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي
الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (2:247)
إن النتيجة التي نحاول جاهين
الوصول إليها تتمثل في أن الملأ من أي قوم (أي عِلية القوم) يتصرفون باستعلاء على
من هم دونهم في المكانة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فتزدري أعينهم من هو
ليس منهم. فيكون هناك – على الأقل- طبقتان اجتماعيتان متنافرتان: طبقة من سادة القوم
وكبرائهم مقابل طبقة من المستضعفين الذين تزدريهم أعين الطبقة الأولى. وهنا تأتي
المنّة الإلهية على المستضعفين في الأرض ليكونوا هم الوارثين. فقد كانت واحدة من
الحجج التي استخدمها الملأ من قوم نوح على النحو التالي:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي
لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (11:25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (11:26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ
اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ
لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (11:27)
نتيجة مفتراة: إن صح افتراؤنا
بأن الاصطفاء الإلهي يكون بمنّة منه على المستضعفين في الأرض، وأن هذه سنة من سنن
الله التي لا تتدبل، فإننا سنضطر أن نعتقد جازمين (ربما مخطئين) بأن تلك المنّة
الإلهية كانت حاضرة في حالة اصطفاء النبي الكريم على القوم المتكبرين من أهل مكة.
فبالرغم أن محمدا لم يكن في أعينهم عظيما لأنه (نحن نظن ربما مخطئين) لم يكن من
عِلية القوم، إلا أنه كان من المستضعفين في الأرض حينئذ، فشملته المنّة الإلهية
بالاصطفاء عليهم. وبهذا الفهم المفترى (ربما غير الدقيق)، نطلب من القارئ الكريم – إن أراد- أن
يقرأ الآيات الكريمة التالية:
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ
هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (43:31) أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (43:32)
وقد كانت النتيجة الحتمية على
النحو التالي:
أَلَمْ
تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (23:105)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (23:106)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (23:107) قَالَ
اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (23:108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ
عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (23:109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ
أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (23:110) إِنِّي
جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (23:111)
وَقَالُوا
مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (38:62) أَتَّخَذْنَاهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (38:63)
سيناريو تخيلي 2: دعنا نتخيل
سيناريو آخر لا يصوّر لنا أن الرسول الكريم كان مولودا في طبقة المستضعفين في
الأرض فقط، وإنما في عائلة بسيطة غير متماسكة إجتماعيا، لا يساند أفرادها بعضهم
بعضا. فقصة زواج والد النبي الكريم بامرأة لم يصلنا الكثير من الأخبار عن أهلها،
وتضارب الروايات حول نسبها العائلي، وقصة موت والده التي لا نعرف الكثير عنها،
وترك زوجته وحيدة خلفة تحمل في بطنها جنينا، تصارع الحياة وحيدة في بلاد لا يوجد
فيها من أهلها من يساندها ويشد من أزرها، وقصة رضاعة النبي الكريم عند امرأة من
الأعراب تحن عليه لأنها لم تجد من يدفع لها مقابل رضاعته، وقصة انتقاله إلى مربية
تسمى أم بركة لا نعرف الداع بأن ينتهي هذا الطفل بين يديها، وغياب الأخبار عن خالاته
وعماته عن مشهد الأحداث، ثم قصة انتقاله إلى بيت جده أبو طالب – كما تقول
الروايات – الذي كان
شيخا طاعنا في السن، فلا ندري من الأولى بالرعاية الطفل الصغير أم الشيخ الطاعن في
السن. وقصة انتقاله إلى بيت أبي طالب – كما جاءنا في الروايات- الذي كان رجلا معيلا، وعدم ورود أي إشارات
لدور أعمامه الآخرين في رعاية هذا الطفل في صغره، تثير كلها تساؤلات حول ترابط تلك
الأسرة اجتماعيا. فنحن نفتري القول (ربما مخطئين) بأنه لو كانت الأسرة التي وُلد
فيها محمد أسرة متماسكة اجتماعيا، لما وجدناهم يتركون أم ذلك الطفل تضعه بين أيدي
من ترضعه غيرها، ولما وجدنا تلك المرضعة المسماة حليمة السعدية تحنّ على ذلك
اليتيم، فتأخذه لترضعه دون أجر يدفعه لها أهل ذلك الطفل، ولما وجدنا أنّ شيخا
طاعنا في السن يحتاج أن يرعى هذا الطفل وهو نفسه الأحق بالرعاية، ولما وجدنا واحدا
من أعمامه فقط يأتي ذكره في قصة نشأة هذا الطفل اليتيم في مكة، ولما وجدنا أن ذلك
الطفل يكبر ليجد نفسه يرعي الغنم عند قوم آخرين، ولما وجدنا ذلك الشاب يقضي جلّ
وقته بين الجبال بعيدا عن الناس من حوله. فوفاة والد النبي قبل ولادة طفله،
وابتعاد أمه عنه في طفولته المبكرة، وانتقاله إلى يد امرأة اخرى لترضعة، وثالثة
لتعنى بتربيته، وشيخ كبير يضطر أن يحتضنه في بيته، وغياب دور معظم أقاربه من حوله،
هي كلها عوامل جعلت طفولة النبي طفولة شاقة، تكبّد خلالها عناء التعامل مع ظروف
الحياة القاسية صغيرا. ولو دققنا في سيرة حياة الرسل المصطفين جميعا، لوجدنا بأن
الابتعاد عن حضن الوالدين الدافئ كان من أبرز سمات طفولتهم القاسية. فحتى يوسف
عانى مما نسميه حنان الوالدين، فنشأ بعيدا عنهم، وكذلك كانت طفولة موسى، ونشأ عيسى
مع أمه بعيدا عن أعين الناظرين، وكبُر اسماعيل بواد غير ذي زرع بعيدا عن بقية
أفراد أسرته، وصارع والده إبراهيم جفاء أبيه وقومه له، وهكذا. وعاش داوود في تلك
الغابة البعيدة عن أعين الناظرين معظم أيام سنوات حياته الأولى. ونحن نتجرأ على
افتراء الظن من عند أنفسنا بأن طفولة محمد لم تكن استثناءا. فأين عاش ذلك الطفل؟
ومن الذي تكفل برعايته؟
جواب مفترى: نحن لا نريد أن
نكذب الروايات التي وصلتنا من عند أهل العلم ولا نريد الدخول في جدال مع المؤمنين
بها. لكننا نريد فقط أن نقدم رؤية مفتراة من عند أنفسنا عن طفولة ذلك النبي
الكريم، ظانين أنها ربما تحل بعض الاشكالات والتناقضات التي في أذهاننا (نحن على
وجه التحديد) عمّا ألفناه من عند آبائنا الأولين.
إن الخطوط العريضة لهذه الرؤية
مبنية على الافتراءات المتخيّلة التالية:
·أن عائلة النبي الكريم الممتدة لم تكن من
طبقة الملأ، وإنما من طبقة المستضعفين في الأرض
·أن عائلة النبي المصغرة لم تكن عائلة
متماسكة يشد بعضها إزر بعض
·أن طفولة الرسول المصطفى تميزت بالمشقة
وتحمل الصعاب بعيدا عن أعين الناس من حوله
·أن العناية الألهية كانت حاضرة على النبي
الكريم منذ أيام حياته الأولى بسبب صلاح والده المباشر "عبدالله" وإيمان
أمه (آمنة).
الدليل
لو دققنا في الآيات الكريمة
التالية، لوجدنا (حسب فهمنا طبعا) ما قد يرشدنا إلى تصور حياة النبي في طفولته،
قال تعالى:
وَالضُّحَىٰ (93:1)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (93:2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (93:3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ
(93:4) وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (93:5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (93:6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (93:7) وَوَجَدَكَ
عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (93:8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (93:9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (93:10) وَأَمَّا
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (93:11)
نحن نظن جازمين بأن هذه السورة
الكريمة ترشدنا إلى أن نقف عند ثلاث مراحل في حياة النبي الكريم، ألا وهي:
-
حالة النبي الكريم في وقت تنزيلها عليه، أي
في حاضره حينئذ،
-
ما سيكون له في قادم الأيام،
-
تذكيره بما كان له في ماضيها.
وتنتهي السورة العظيمة بمجموعة
من التوجيهات للنبي بناء على ذلك كله.
أما ما يخص حاضره حينئذ، فنحن
نقرأ:
وَالضُّحَىٰ (93:1)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (93:2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (93:3)
وأما ما سيكون له في المستقبل
منها، فنقرأ:
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ
مِنَ الْأُولَىٰ (93:4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (93:5)
وأما ما كان له في الماضي منها،
فنقرأ:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا
فَآوَىٰ (93:6) وَوَجَدَكَ
ضَالًّا فَهَدَىٰ (93:7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (93:8)
وأما التوجيهات له، فهي:
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ
(93:9) وَأَمَّا
السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (93:10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (93:11)
إن ما يهمنا في الدرجة الأولى في
هذا المقام من البحث، فهو ما كان للرسول الكريم في ماضي الزمان قبل بعثته، وهي
تتلخص بأمور ثلاثة على وجه التحديد، وهي:
·عندما كان يتيما: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (93:6)
·عندما كان ضالا: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (93:7)
·عندما كان عائلا: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (93:8)
إن أول ما يمكن الحديث عنه هو
أن هذه الآيات الكريمة تقطع الشك باليقين بأن النبي الكريم قد عاش فترة من الزمن
يتيما (أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ). لذا، وجب التعرض لمفردة اليتيم كما ترد في النص
القرآني، علّنا نخرج بعد ذلك ببعض الافتراءات التي ربما تساعدنا على فهم حالة
النبي الكريم عندما كان يتيما.
لو تدبرنا الآيات الكريمة
التالية، سنجد أن اليتيم هو الذي لم يبلغ سن النكاح:
وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ
يَكْبَرُوا ۚ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (4:6)
وَآتُوا الْيَتَامَىٰ
أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (4:2)
فاليتيم هو من كان هناك من
يتولى كفالته، برعاية أمواله حتى يبلغ سن الحلم، فيدفع لهم أموالهم متى تم إيناس
الرشد منهم، وذلك لأن والد اليتيم قد توفي بالموت.
نتيجة مفتراة: كان محمد يتيمًا،
لذا نحن نصدق الرواية التاريخية بأن والده لم يكن على قيد الحياة عندما كان هذا
الصبي صغيرًا. فجاء النص القرآني ليوضح لنا هذه الحقيقة عن طفولة النبي الكريم.
ولكن الأهم من هذا هو أن الله هو من وجده يتيما، فآواه:
·أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (93:6)
فتكون أول موجبات هذا الطرح هو
الكفّ عن البحث عمن تكفّل رعاية النبي الكريم يتيمًا، لأن النص القرآني يبينها
صراحة بأن الله هو نفسه من آوى محمدا يتيمًا.
نتيجة مفتراة 1: نشأ محمد يتيما
(وهذا ما نعرفه جميعا مما وصلنا في الروايات)
نتيجة مفتراة 2: كان الله هو من
آوى محمدا، فلا حق لأحد من الناس أن يدعي الفضل على محمد طفلا يتيما (وهذا ما لا
نجده في الروايات، ونفتريه الآن من عند آنفسنا)
السؤال: ما معنى أن الله هو من
آوى محمدا يتيمًا؟ وما الذي نستفيده من ذلك؟
تخيلات من عند أنفسنا: نحن
نتخيل ذلك الطفل اليتيم وحيدا، يصارع الحياة، فلا يجد من يتكفل رعايته من الناس
بما في ذلك أفراد أسرته الضيقة، فلا جدّه - كما تقول الروايات- رعاه، ولا عمه
حماه. فالله وحده هو من تكفّل برعايته، فما ودعه الله وما قلاه، وهذا مما تثبته
بداية سورة الضحى التي تتحدث عن حياة النبي الكريم نفسه:
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (93:3)
لكن السؤال المطروح من هذا
النقاش هو: كيف آواه الله؟
رأينا المفترى: لو حاولنا البحث
عن مفردة "آوى" على مساحة النص القرآني، سنجد (كما زعمنا في أكثر من
مكان سابق) بأن المفردة تتعلق بالذهاب إلى مكان مرتفع كالجبل أو الركن أو إلى مكان
أعلى من المكان المتواجد فيه الآخرون فترة من الوقت، فتكون العزلة عن الآخرين هي
من أهم ميزات من أوى إلى مكان ما. قال تعالى:
قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
إِلَّا مَنْ رَحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
(11:43)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ
قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ (11:80)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ
يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12:69)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ
يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ (12:99)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (23:50)
إن هذا الطرح يدعونا إلى تصديق
الرواية التاريخية بأن النبي الكريم كان يأوى إلى جبل حيث يمكث في الغار فيه فترة
طويلة من الزمن.
السؤال: ما تبعات هذا الفهم؟
رأينا: نحن نظن أن لهذا الطرح
تبعات جمة، نذكر منها:
-
عدم الصاق منّة بشرية على ذلك الصبي "اليتيم"
من أحد من العالمين، فالله هو من تكفل برعايته طوال الفترة التي كان فيها يتيمًا
(أي قبل سن البلوغ)،
-
لم يكن لأفراد أسرة النبي الكريم فضل في
تربيته ونشأته،
-
انعزال النبي عن القوم الذي ولد فيهم طفلًا صغيرًا.
فكان له عالمه الخاص الذي طوّره بعيدا عن التأثيرات المجتمعية في ذلك الزمان.
وسنحاول فتح هذه الملفات
الثلاثة تباعا، لنرى ما ستؤول إليه الأمور بعد ذلك.
باب المنة الإلهية
السؤال: لماذا قضت الحكمة
الإلهية بأن لا يكون للناس منّة على من اصطفى من عباده ليكونوا رسله؟
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ
إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (14:11)
فكيف تكون المنّة الإلهية على
عبد من عباده؟
جواب مفترى: سنعود بهذا السؤال
إلى قصة الوالدين كما تجليها الآيات الكريمة التالية:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (46:15)
والتي جاءت في سياق من كان قد
قال لوالديه أف لكما من ذي قبل. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت – هذه الآية الكريمة
في سياقها الأوسع:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (46:15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا
عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ
الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (46:16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ
أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ
قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (46:17)
وقد افترينا سابقا أن هذا ما
كان من أمر لقمان الذي ما أن بلغ أشده حتى لهج لسانه بالشكر لله ولوالديه، وبذكر
النعم الإلهاية عليه وعلى والديه اللذين أبدلهما الله غلامًا خيرًا من سابقه زكاة
وأقرب رحمًا. كما حاولنا تبيان أنّ هذا السلوك كان مميزا لآل داوود كما جاء على
لسان سليمان لاحقا:
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ
قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (27:19)
ولو تفقدنا سورة الضحى التي
جاءت بتفاصيل حياة النبي الكريم، سنجدها تختم ذلك كله بالآية الكريمة التي تطالب
النبي بأن يحدث بنعمة ربه:
وَالضُّحَىٰ (93:1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (93:2) مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (93:3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ
(93:4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (93:5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا
فَآوَىٰ (93:6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (93:7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا
فَأَغْنَىٰ (93:8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (93:9) وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلَا تَنْهَرْ (93:10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (93:11)
وهنا يتوجب علينا – نحن نرى- أن
نتعرض لمفهوم النعمة الإلهية على عبد من عباده. طارحين السؤال التالي: ما هي
النعمة التي كانت خاصة بمحمد على وجه التحديد فجاءه التوجيه الإلهي بأن يحدث بها (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)؟
رأينا الممفترى: لو تفقدنا
السياقات القرآنية الخاصة بالنعمة الإلهية، لوجدنا على الفور الآية الكريمة
التالية:
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (16:18)
فنعمة الله على عبادة يمكن أن
تعدّ ولكنها - بالتأكيد- لا تحصى. وهذا أمر لا يحتاج إلى كثير عناء لإثباته، لكن
يبقى السؤال قائما عن نعمة الله على بعض عباده، الذين اسبغ الله عليهم نعمة منها لم
تكن لغيرهم. فلو قرأنا في سورة الفاتحة، سنجد أننا دائمي الدعاء بأن يهدنا الله
صراط الذين أنعم عليهم، قال تعالى:
اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ (1:6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (1:7)
فنحن إذا ندعو الله أن يهدينا
صراط فئة من المؤمنين هم الذين أنعم الله عليهم، فهؤلاء ليسوا من عامة الناس الذين
يتمتعون بنعمة الله التي قد تعد ولكن لا تحصى، ولكنهم مجموعة خاصة، أسبغ الله عليهم
نعمة خاصة لم تكن لغيرهم، ونحن نظن أن هؤلاء هم من جاء وصفهم في قوله تعالى:
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ
حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ
هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ
خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ (19:58)
فهناك إذا نعمة خاصة من الله
للنبيين من ذرية آدم وممن حمل مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدى الله
واجتبى. إنهم إذا من كان لهم الاصطفاء من الخلق ليكونوا رسل الله للناس. ونحن
الناس العاديين يمكن أن نحظى بصحبة هؤلاء تحت شرط واحد، ألا وهو ما جاء في الآية
الكريمة التالية:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ
أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (4:69)
ليكون السؤال الآن هو: ما طبيعة
النعمة التي اسبغها الله على عباده من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟
وبكلمات أكثر وضوحا نحن نسأل: ما هي النعمة التي اسبغها الله على محمد وحثه بأن
يحدّث بها كما في قوله تعالى:
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (93:11)
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن
بأنه يمكن لنا تحديد تلك النعمة بعد دراسة الآية الكريمة التالية:
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ
وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا
وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولًا (33:37)
لقد حاولنا تقديم تصور مفترى من
عند أنفسنا عن قصة زيد في هذه الآية الكريمة، ومن أراد التفصيل في هذا الموضوع
فليرجع إلى تلك المقالات. لكن ما يهمنا هنا هو التركيز على نقطة واحدة تخص النعمة
التي كانت من الله على زيد وتلك التي كانت من النبي على زيد. لذا، نحن نطرح
التساؤل المثير التالي: ما هي النعمة التي كانت من الله ومن النبي على زيد على وجه
التحديد؟ ولماذا جاء ذكر زيد باسمه على وجه التحديد في سياق الحديث عن نعمة أنعمها
الله عليه وعن نعمة أنعمها النبي عليه (أى على زيد)؟
جواب مفترى: نحن ننفي جملة
وتفصيلا أن يبقى الطرح في إطار العموميات التي ربما لا تسعفنا في فهم حقيقة الأمر،
فنعمة الله التي قد تعد ولا تحصى تشمل جميع عباده، مؤمنهم وكافرهم، لكن هناك نعمة
خاصة أصابت "زيد" على وجه التحديد أبرزها القرآن الكريم في آية من
آياته. لذا، سنعاود طرح التساؤل ذاته بهذه الطريقة: إذا كانت نعمة الله تصيب عباده
جميعهم، فما هي نعمة الله الخاصة التي أصابت زيد دون بقية المؤمنين من حول النبي
الكريم؟ وعلينا أن لا ننسى كذلك بأن هناك نعمة من النبي كذلك على زيد على وجه
التحديد دون بقية المؤمنين من حوله حينئذ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)، فما هي؟
رأينا المفترى: لو حاولنا تفقد
السياقات القرآنية الخاصة بالنعمة، لوجدنا بأن نعمة الله قد أصابت مجموعة من الناس
على وجه التحديد، ولو حاولنا البحث عن هذه المجموعة، لوجدناهم بني إسرائيل. قال
تعالى:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (2:40)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (2:47)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (2:122)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ
الْعَالَمِينَ (5:20)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ
آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2:211)
ليكون السؤال الآن على النحو
التالي: بماذا تميّز بنو إسرائيل عن غيرهم عندما كانت نعمة الله عليهم أكثر من تلك
التي كانت على غيرهم؟ وبكلمات أخرى – نحن نسأل- ما سر التميز لبني إسرائيل حتى
كانت نعمة الله عليهم بهذا الوضوح في النص القرآني؟ فهل كان لبني إسرائيل في وقت
من الأوقات نعمة خاصة ما كانت لغيرهم؟
جواب مفترى: نحن نظن بأن النعمة
الإلهية الخاصة على عبد من عباده (دون الآخرين كزيد) أو على مجموعة معينة (دون
المجموعات الأخرى كبني إسرائيل) تكمن في حصولهم على شيء مميز لم يكن لغيرهم. فما
هو هذا الشيء المميز الذي حظي به من جاءته نعمة الله الخاصة؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن
الآية الكريمة التالية ترشدنا إلى مبتغانا، قال تعالى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ
أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۖ
وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا
فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ
وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ
هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (5:110)
فنعمة الله الخاصة على عيسى بن
مريم (إِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) قد فصلت في هذه الآية الكريمة
على نحو:
-
التأييد بروح القدس ليكلم الناس في المهد
وكهلا (إِذْ
أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)
-
تعليم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ)
-
أن يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه
فيكون طيرا (وَإِذْ
تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا
فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي)
-
يبرئ الأكمه والأبرص (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ
وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي)
-
يخرج الموتى (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي)
-
كف بني إسرائيل عنه إذ جاءهم بالبينات (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)
السؤال: ما الذي يجمع كل هذا
معا؟
جواب مفترى مهم جدا جدا: إنه
العلم الذي لم يكن لغيره.
السؤال: ما الذي نفهمه من ذلك
كله؟
رأينا المفترى: لا شك أن نِعمة
الله على عباده قد تعد ولكنها لا تحصى، وهذه تقع في باب النعمة العامة التي تشمل
الجميع، لكن هناك نعمة خاصة يختص الله بها بعضا من عباده (أفرادا أو مجموعات)،
وهذه النعمة الخاصة تتمثل (نحن نرى) بشيء واحد، ألا وهو الحصول على العلم الذي لم
يكن إلا للخاصة من عباد الله.
(دعاء: اللهم أدعوك وحدك أن
تسبغ علي نعمة منك لا تكون لأحد غيري، إنك أنت السميع العليم).
والآن دعنا نعد بهذا الفهم
المفترى من عند أنفسنا لمعنى النعمة الخاصة إلى قصة زيد في الآية الكريمة التي
نعيدها هنا لأغراض النقاش:
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ
وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا
وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولًا (33:37)
لنطرح الآن تساؤلنا السابق مرة
أخرى: ما هي النعمة التي حظي بها زيد من الله ومن النبي الكريم (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)؟
رأينا المفترى: لقد جاءنا من
عند أهل الدراية من أهل العلم كما نقل لنا ذلك أهل الرواية منهم الكثير عن علاقة
زيد على وجه التحديد بالرسول الكريم حتى ذهب الكثير منهم إلى محاولة اثبات أن
النبي قد اتخذ زيدًا إبنا له، ثم حاولوا بعد ذلك فك تلك العلاقة عندما نزلت الآية
الكريمة التالية التي تثبت عكس ما ظنوا وروجوا له في مؤلفاتهم:
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (33:40)
ثم وقعنا في جدل (نحن نظن بأنه
لا طائلة منه) بجواز أو بعدم جواز التبني من المنظور العقائدي. ونحن هنا لا نريد
أن ندخل في هذه الجدلية بالاثبات أو بالنفي أو حتى بمحاولة الالتفات على الأمر بأي
وسيلة كانت، لكن الذي نريد أن نركز عليه هو شيء واحد: ما سرّ العلاقة الوطية بين
النبي الكريم من جهة وزيد من جهة أخرى؟
رأينا المفترى: نحن نتجرأ على
اثبات وجود علاقة فريدة بين النبي وزيد (دون بقية المؤمنين من حول النبي) أولًا،
ونثبت كذلك بأن الله قد منّ على زيد بنعمة خاصة، ونثبت أيضا بأن النبي قد منّ على
زيد بنعمة خاصة لم تكن لغيره من المؤمنين من حول النبي حينئذ. ونفتري القول من عند
أنفسنا ( ربما مخطئين) بأن تلك النعمة كانت تتعلق بالعلم، ولا شيء غير العلم.
انتهى.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن بأن
نعمة الله على زيد كانت خاصة بالعلم، فقد كان زيد (نحن نرى) من أكثر الاشخاص
الضالين في حينه، أي أولئك الباحثين عن الهداية، الراغبين في الحصول على العلم.
فكانت نعمة الله عليه بأن هداه إلى مصدر المعلومات التي يبحث عنها، فما وجد نفسه
إلا تلميذّا نجيبًا عند محمد، فما بخل عليه النبي الكريم بالعلم، فكان دائم
الالتصاق بالنبي، ليتعلم منه، وينهل من الكوثر الذي بين يديه، فأصبح زيد بمثابة
الحواري (طالب العلم) عند محمد (المعلم). لذا، عندما أراد محمد أن ينفذ زواجه
بزينب بنت جحش بطريقة مختلفة تماما، ولغاية عظيمة في نفسه، ما وجد بين أصحابه من
يستطيع أن يفهم الرسالة بالشكل الصحيح، وأن ينفذها على أفضل وجه غير زيد (طالبه
النجيب). (للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان حديث الإفك).
إن هذا الطرح يعيدنا إلى أن
المنّة الإلهية بالنعمة على عباد له مميزين تكون على نحو أن يختصهم بالعلم الذي لم
يكن لغيرهم. ولم يكن مؤهلا لمثل هذه النعمة أكثر ممن اصطفاهم الله من رسله. فهؤلاء
المصطفين من العباد هم من كانت نعمة الله عليهم ظاهرة وباطنة:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ
نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (31:20)
لذا، علينا أن نميز الآن بين
نوعين من النعمة الإلهية على عباده: نعمة الله الظاهرة مقابل نعمة الله الباطنة.
ونحن نفتري الظن (ربما مخطئين) بأن نعمة الله الظاهرة هي التي تكون للخلق عامة،
مؤمنهم وكافرهم، ولكن نعمة الله الباطنة – بالمقابل- فهي التي تكون للخاصة من
عباده (أفرادا أو جماعات). لذا، عندما نقرأ قوله تعالى:
اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ (1:6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (1:7)
نتيجة مفتراة مهمة جدا: هناك
نعمة ظاهرة تصيب جميع عباد الله، وهناك نعمة باطنة تصيب بعضا من عباده أفرادا أو
مجموعات. انتهى. (فالله وحده أسأل أن يهديني صراطه المستقيم، فيمن علي بنعمة باطنة
منه لا تكون للأحد غيري، إنه هو البصير العليم).
لذا، نحن نطلب هداية الصراط
المستقيم الذي كان لمن أسبغ الله عليهم نعمه الباطنة، وهؤلاء هم الذين نطلب
معيتهم، كما جاء في قوله تعالى:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ
أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (4:69)
السؤال: ما هي النعمة التي
أنعمها الله على نبيه محمد وطلب منه أن يحدث بها كما جاء في نهاية سورة الضحى:
وَالضُّحَىٰ (93:1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (93:2) مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (93:3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ
(93:4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (93:5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا
فَآوَىٰ (93:6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (93:7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا
فَأَغْنَىٰ (93:8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (93:9) وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلَا تَنْهَرْ (93:10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (93:11)
رأينا المفترى من عند أنفسنا:
نحن نفتري الظن بأنه تلك النعمة هي ما آتاه الله لمحمد من العلم، فما كان لأحد من
الناس فضل في العلم الذي حصل عليه النبي الكريم لأنه نعمة باطنة من الله، اختص بها
نبيه الكريم، ومصداق ذلك قوله تعالى:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (16:103)
نتيجة مفتراة مهمة جدا: نحن نرى
أنه من الحكمة الإلهية أن ينشأ المصطفى من العباد بالرسالة بعيدا عن الناس حتى لا
يتأثر بما عندهم من المعرفة، فيكون العلم الذي يحصل عليه هذا العبد المصطفى علما
خالصا نقيا، لا تطاله شائبة مما عند الناس من المعارف التي ربما يصدق بعضها ويخطئ أكثرها.
السؤال: ما سبب تأهيل محمد
ليحظى بهذه النعمة الخاصة (العلم) من ربه؟
جواب مفترى: إنه صلاح والده
(عبدالله) وإيمان أمه (آمنة)
السؤال: كيف تم له ذلك؟
جواب مفترى: إيواء الله له يتيما
بعيدا عن الناس
خلاصة: إن هذا الطرح – على
ركاكته- ينقلنا مباشرة إل الحديث في باب انعزال النبي عن الناس في مكان بعيد بين
تضاريس الطبيعة القاسية ومخلوقاتها الموحشة.
السؤال: ما فائدة العزلة لمن أسبغ
عليه الله نعمة باطنة بالعلم الذي لا يكون لغيره؟
جواب مفترى: ليصبح من أسبغ عليه
الله تلك النعمة الخاصة (الباطنة) مؤهلا لأن يختصه الله برحمة منه:
يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (3:74)
نتيجة مفتراة 1: اسباغ النعمة
الباطنة تكون بالعلم
نتيجة مفتراة 2: اختصاص الرحمة
يكون بالوحي
قال تعالى:
فَوَجَدَا
عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْمًا (18:65)
السؤال: ما الفرق بين أن يؤتي
الله أحدا من عباده رحمة من عنده من جهة وأن يعلمه من لدنه علما من جهة أخرى؟
رأينا المفترى: هذا ما سنتناوله
في الأجزاء القادمة من هذه المقالة إن أذن الله لنا بشيء من علمه فيها. لكن السؤال
الآن هو: هل يذكّرك هذا الطرح بقصة داوود التي حاولنا رسمها في الأجزاء الأولى من
هذه المقالة؟ فمن هو داوود إذًا؟
المدّكرون: رشيد سليم الجراح
وآخرون
بقلم د. رشيد الجراح