قصة داوود – الجزء السادس
قصة داوود – الجزء السادس
حاولنا
في الأجزاء السابقة تصوير ما كان يجري – حسب خيالنا المفترى- مع الصبي داوود في
ذلك المهد (التابوت) في الغابة بعيدا عن أعين الناظرين. فظننا بأن ذلك الصبي قد
وصل إلى الغابة في التابوت الذي كانت تحمله الملائكة
بسبب
أمواج سيل العرم العاتية التي ضربت منطقة سبأ كعذاب من الله على القوم الذين كذبوا
رسولهم (لقمان)، فتعلم منطق الطير الذي كان أول الواصلين للتابوت خلال حصول سيل
العرم وبعده. كما افترينا القول من عند أنفسنا بأن ذلك الفتى قد تعلم من المخلوقات
الكثيرة في الغابة طبائع أخرى، مثل:
· طريقة المشي
· طريقة الكلام
· طريقة القتال
· الخ
ومن
هذا الباب جاء – حسب ظننا- جهد الوالد (لقمان) في تأهيل الولد (داوود) الذي عاد
إليه بعد غياب طويل، مقدما له العظة على النحو التالي:
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا
بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (31:13)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ
الْمَصِيرُ (31:14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (31:15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ
تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ (31:16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
(31:17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (31:18) وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ (31:19)
فحاولنا ربط جزيئات هذه العظة
على وجه التحديد بالقصة التي صنعها خيالنا عما كان يجري من أحداث حينئذ (للتفصيل
انظر الجزء السابق).
ثم انتقلنا إلى مواقع آخر على
الأرض محاولين تصور ما كان يجري هناك. فقدمنا افتراءاتنا عن الأحداث أولا في بابل
(حيث وجود الملوك) وثانيا عن الأحداث التي كانت تجري (حسب مخيلتنا) في الأرض
المقدسة (حيث يوجد القوم الجبارون) وعلى مقربة منها (حيث يتواجد التائهون من بني
إسرائيل). وكانت أهم الافتراءات التي حاولنا جلب انتباه القارئ لها فيما يتعلق
بأحداث بابل هي على النحو التالي:
-
وجود الملوك؛
-
نشاط شياطين الجن والإنس لاستغلال ما
أنزل على الملكين هاروت وماروت هناك؛
-
وصول لقمان الحكيم إلى بابل؛
-
مساندته قوى الحق في مقارعة قوى
الباطل؛
-
استتباب حكم الملوك في بابل وما حولها؛
-
حصول الحضوة للقمان عند أولئك الملوك؛
-
استطاعة لقمان أن يرسل أولئك الملوك للقتال
في مناطق أخرى كتلك التي طلبها منه الملأ من بني إسرائيل لمقارعة جالوت (جبار
الأرض المقدسة) الذي سلب الحكم من أخيه طالوت وجرده من المال؛
-
الخ
أما افتراءاتنا بالنسبة لما
كان يجري في الأرض المقدسة وحولها، فكانت على النحو التالي:
-
كان "التيه" الذي وقع فيه
بنو إسرائيل مدة أربعين سنة قد حصل على مقربة من الأرض المقدسة؛
-
أن التيه كان يتمثل بعدم قدرتهم على
الاهتداء إلى طريقة الدخول في الأرض المقدسة، مادام أنهم لم يهتدوا بعد إلى الباب
الحقيقي الذي يدخلهم إليها، ومادام أنهم لا يملكون تابوت العهد القديم الذي هو
مفتاح ذلك الباب (انظر الأجزاء السابقة)؛
-
عمد القوم إلى محاولة دخول الأرض من أبواب
أخرى مستغلين ما عندهم من العلم (ما دام أن فيهم العلماء) وما لديهم من المال
(الذي جلبوه معهم من مصر)، متبعين طرق متعددة كانوا جميعا مختلفين فيها؛
-
نجاح بني إسرائيل (نحن نرى) في دخول
مؤقت إليها؛
-
إخراج بني إسرائيل منها على يد القوم
الجبارين. ومن هذا المنطلق فهمنا (ربما مخطئين) قولهم للنبي الذي طلبوا منه أن
يبعث لهم رسولا بأنهم قد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم منها:
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا
لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ
هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا
وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (2:246)
وقدمنا سيناريو افتراضي (لم
نتحقق بعد من واقعيته حتى الآن) عمّا كان يجري داخل الأرض المقدسة بين القوم
الجبارين. فافترينا الظن بما يلي:
-
وجود بني إسرائيل بأعداد غفيرة ولفترة
زمنية طويلة على مقربة من الأرض المقدسة ربما كان سببا في حصول شقاق بين طالوت
وجالوت داخل الأرض المقدسة في تلك الفترة من الزمن؛
-
كان طالوت – كما تخيلنا الأمر حينئذ –
هو صاحب الحق في الملك في الأرض المقدسة؛
-
لم يكن طالوت معاد لفكرة مشاركة بني
إسرائيل الأرض المقدسة (لا ننسى أنه قد زاده الله بسطة في العلم)؛
-
كان أخوه جالوت - بالمقابل- طامعا في
الحكم الذي هو من حق أخيه الأكبر طالوت، ومعاديا لفكرة مشاركة بني إسرائيل الأرض؛
-
استطاع جالوت هذا من تجريد أخاه طالوت
من السلطة والمال بالقوة العسكرية بسبب استثارته للنزعة القومية بين القوم
الجبارين. وبالفعل، استطاع (نحن ما زلنا نتخيل) أن يسلب الحكم منه؛
-
ذهب جالوت مطاردا لأخيه طالوت خارج
حدود الأرض المقدسة. فافترينا القول م عند أنفسنا بوجود صراع على السلطة داخل الأرض
المقدسة بين القوم الجبارين:
-
أشرنا إلى أن لهذا علاقة (حسب خيالنا)
بقصة الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا، وهي تلك الحادثة (نحن نظن ربما مخطئين) التي
صورها لنا العبد الصالح في بداية رحلته مع موسى:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ
فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (18:79)
-
ظننا (كسيناريو أولي) بأن ذلك الملك
الذي كان يأخذ كل سفينىة غصبا هو الذي كان محكما سيطرته على الأرض المقدسة عندما
وصل إليها موسى مع بني إسرائل بعد خروجهم من مص؛
-
استمر حكم ذلك الملك للأرض المقدسة
فترة طويلة جدا خلال سنوات التيه لبني إسرائيل؛
-
ما أن مات هذا الملك حتى كان غدا
لزاما أن يؤول الملك إلى واحد من اثنين، هما طالوت وجالوت؛
-
استغل جالوت فكرة عدائه لبني إسرائيل،
وشن هجوما على طالوت، فاستطاع أن يجرده من السلطة والمال؛
-
وجد طالوت نفسه مطاردا، مخرجا من
الأرض التي كان من المفترض أن يكون هو الملك فيها، مسلوبا من كل أسباب القوة
العسكرية والمالية؛
-
كان لابد لطالوت من أن يبحث عمن
يستطيع أن يكون عونا له في استعادة ملكه المسلوب من قبل "أخيه" الظالم
الذي جرده من ذلك الملك دون وجه حق؛
-
الخ.
فأصبح السؤال المطروح الآن
هو: لماذا عندما طلب الملأ من بني إسرائيل من ذلك النبي أن يبعث لهم ملكا يقاتلون
في سبيل الله معه ضد جالوت (المستبد في الأرض المقدسة) وقع الاختيار على طالوت
الذي كان أصلا ملكًا لكن ليس له سعة من المال؟
رأينا المفترى: بالرغم من
توافر أكثر من ملك عند ذلك النبي يستطيع أن يبعثه لهم بدليل قولهم له (ابْعَثْ
لَنَا مَلِكًا)، لم
يقع اختيار ذلك النبي لهم (لبني إسرائيل) على ملك (من بين كل الملوك عنده حينئذ)
يقاتلون معه في سبيل الله إلا طالوت، وذلك – برأينا- لسببين اثنين على الأقل:
-
أن طالوت كان رجلا مؤمنا، فما كان لنبي
كهذا أن يثق إلا بمن كان مؤمنا حقا ليقود مثل تلك الحرب التي - لا شك -ستكون حربا
ضروسا مادام أنها مواجهة عسكرية ضد جالوت والقوم الجبارين معه؛
-
أن طالوت هو الأحق بالملك في تلك
الأرض متى حصلت الهزيمة لجالوت وجنوده.
الدليل
لو تدبرنا قصة طالوت في
السياق القرآني، سنجد على الفور بأن هذا الرجل هو من كان ملكًا يقاتل المؤمنون من
بني إسرائيل معه (تحت قيادته)، كما نجد بأن داوود (ولد لقمان الذي ما يزال شابا
يافعا) قد كان أحدَ الجنود في جيشه (أي في جيش طالوت). لكن المفارقة العجيبة تكمن
في أن طالوت لم يكن هو نفسه من قتل جالوت بالرغم من التكافئ الظاهر بين الشخصيتين
من حيث المكانة (ملكا مقابل ملكا) ومن حيث القوة البدنية (فهما من القوم
الجبارين). فالسؤال المطروح هو: لماذا لم يكن طالوت هو من واجه جالوت في تلك
المعركة؟ ولماذا انبرى داوود لقتل جالوت؟
رأينا المفترى: لما كان
افتراؤنا بأن طالوت هو ربما "الأخ" الأكبر لجالوت، ما كان من طالوت
(المؤمن) أن يُقدِم شخصيا على قتله بيده، فهو في نهاية المطاف (نحن نظن ربما
مخطئين) أخوه البيولوجي بالرغم من الاختلاف بينهم في العقيدة وفي التوجه. لذا،
كانت مهمة الرجل (طالوت) تنحصر في أمرين اثنين:
-
استعادة ملكه المسلوب
-
إرجاع الحق إلى أصحابه متمثلا في إعادة
المخرجين من بني إسرائيل من الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم إليها.
ولو دققنا في السياق القرآني
ذاته أكثر، لوجدنا بأن ذلك قد جاء صراحة في قول النبي لبني إسرائيل في قوله لهم (إِنَّ
آيَةَ مُلْكِهِ):
وَقَالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(2:248)
إذن، يقرّ ذلك النبي بأن
لطالوت ملك (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ)، وأن آية ذلك المُلك هو أن يأتيهم
التابوت (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ). ولو دققنا في السياق ذاته
أكثر، لربما حقّ لنا أن نفتري القول – على غير ما يظن العامة من الناس- بأن
التابوت لم يكن في حيازة طالوت، ولكنه كان آية ملك لطالوت. فالنص جليّ يبين بأن
التابوت يأتي بذاته (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ)، ولكنه لم يأت مع طالوت (وَقَالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ). ولو كان التابوت في حيازة
طالوت، أو أنه جاء مع طالوت شخصيا، لربما (نحن نظن) جاء النص على نحو:
-
أن يأتيكم بالتابوت، أو
-
أن يأتي معه التابوت
-
الخ
ونحن لا نشك قيد أنملة بأن
التابوت قد جاء آيةً على ملك طالوت، لكنه كان بحيازة الفتى داوود الذي انبرى ليقتل
جالوت في تلك المواجهة الشرسة بين الطرفين. وسنتعرض - بإذن الله- لتفاصيل المواجهة
لاحقا لنحاول أن نبيّن - من وجهة نظرنا - كيف استطاع داوود بقدراته الذاتية التي
اكتسبها في الغابة وبما لديه من إرث النبوة المتوافر في التابوت أن يقتل جالوت
الذي ظن جيش المؤمنين بمجموعهم بأنه لا طاقة لهم به وبجنوده:
فَلَمَّا
فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ
شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا
مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ
فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (2:249)
ولعل المتابعين لهذه السلسة
من المقالات قد تسآءلوا من أولها عن كيفية معرفة لقمان الأب (لقمان) بأن هذا الولد
المفقود في الغابة (منذ سنين خلت) هو ابنه. فنرد على ذلك بالمنطق البسيط المفترى
من عند أنفسنا على نحو بأن لقمان لم يكن يبحث – كما ذكرنا سابقا- عن ولده المفقود
فقط، ولكنه كان يبحث أيضا عن ذلك التابوت الذي كان مستودعا – كأمانة- في بيت أبويه
المؤمنين من قبل موسى الذي فارق بني إسرائيل قبل أربعين سنة. لذا لمّا وجد ذلك
الغلام المفقود في الغابة وبحيازته التابوت الذي مازال فيه ما تبقى من إرث النبوة
من آل موسى وآل هارون، لم يكن ذلك ليشكل على لقمان أن يعلم يقينا بأنه ما كان لأحد
الحق بأن يتواجد في ذلك التابوت ويستطيع الاستفادة من مقتنياته إلا من كان التابوت
في بيتهم من ذي قبل. وسنتعرض لتفاصيل ذلك عندما يرجع بنا الحديث - بإذن الله- إلى
تفاصيل قصة لقمان مع أهل بيته في سبأ. (فالله وحده أسأل ألا أفتري عليه الكذب ولا
أكون ممن يقولون عليه ما ليس لهم بحق. وأدعوه وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن
يزدني علما، وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو السميع البصير).
لكن السؤال الذي سيبرز مباشرة
من هذا السيناريو الخيالي هو: مادام أن التابوت لم يأت مع طالوت، فكيف كان آية على
ملكه؟ وبكلمات أخرى – نحن نسأل- ما علاقة طالوت بالتابوت؟ وكيف أصبح التابوت آية
على ملك الرجل؟
رأينا المفترى: سأحاول في
الأسطرالقليلة التالية تقديم سيناريو افتراضي – من مخيلتنا- كاجابة على هذه
التساؤلات الأولية، لنغوص في تفاصيلها لاحقا – بإذن الله- عندما نجلب الدليل الذي ربما
يثبتها من مكان آخرى.
أما بعد،
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا:
كان طالوت – برأينا- غير معاد لفكرة مشاركة الأرض المقدسة مع بني إسرائيل، لكنه
غير متيقن تماما من شرعية كتابة الأرض لهم بأمر إلهي كما جاء على لسان نبي بني إسرائيل
موسى من ذي قبل:
يَا
قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا
تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (5:21)
ولما قاربت فترة التيه (الأربعين
سنة) أن تنقضي، احتدم الصراع بين طالوت وجالوت على الملك بعد موت والدهم الذي كان
يأخذ كل سفينة غصبا، يغذيه فكرة مشاركة (أو عدم مشاركة) بني إسرائيل الأرض. فكانت الشكوك تراود طالوت (الذي زاده اله بسطة
في العلم بالإضافة إلى بسطة في الجسم) بأن بني إسرائيل لا محالة سيدخلون الأرض
المقدسة شاء أم أبى، لكنه يعلم أيضا بأن ذلك غير ممكن إلا بوجود مفتاح باب الأرض
المقدسة كما جاء على لسان الرجلين المؤمنين الذين حثا قومها على دخول الأرض من
بابها:
قَالَ
رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (5:23)
في هذه الأثناء، كان على
طالوت (كسياسي وكصاحب علم) أن يزن كل الاحتمالات الممكنة بما فيها السؤال التالي:
ماذا لو أن دخول بني إسرائيل حتمي؟ ماذا عساه أن يفعل لو أن ذلك فعلا وعد إلهي
لزاما أن يصبح حقيقة على أرض الواقع في يوم من الأيام؟ ألا يتوجب عليه أن يتصرف
بحكمة وروية (عكس أخيه جالوت العسكري الذي لا يكاد يفقه قولا)؟
لكن ألا يتوجب عليه أيضا أن
يتأكد من صحة منطق بني إسرائيل الذين يروجون لشرعية دخولهم الأرض التي كتب الله
لهم؟ ألا يتوجب أن يتأكد من صحة خبر الباب الذي سيدخلون منه، والمفتاح الذي
سيمكنهم من دخول ذلك الباب؟ فما الذي يمكن له أن يفعله ليتأكد من صحة ما يروج له
بنو إسرائيل على لسان علمائهم حينئذ؟
تخيلات مفتراة: ما أن وجد
طالوت نفسه مدحورا من الأرض المقدسة على يد أخيه جالوت، حتى أصبح لزاما عليه – نحن
نظن- أن يبحث عن صحة خبر التابوت الذي ينتظر قدومَه بنو إسرائيل. فأين سيجد خبره؟
رأينا المفترى: لو كنت أنا
شخصيا مكان طالوت في تلك الفترة، لعمدت إلى التأكد من صحة الخبر من طرف محايد. فلن
أقبل الخبر من لسان بني إسرائيل أنفسهم، لأن ذلك طرف غير محايد في الصراع حينئذ.
وسأبحث - في المقابل- عن مصدر معلومات موثوق في غير بني إسرائيل. فأين يمكن أن
أبحث عن ذلك المصدر المعلوماتي المحايد؟
تخيلات مفتراة: عند أخذ جميع
الظروف التي كانت تجري في المنطقة وما حولها (كحصول سير العرم في سبأ في الجنوب
الغربي، وكبداية استتباب حكم الملك في بابل في الشرق)، فلن أجد بدا من البحث عن
ذلك الشخص الذي كان عاملا رئيسيا في ذلك كله. لذا، لم يكن خبر وجود (لقمان) كنبي عنده
من العل ما يكفي ليخفى عن باحث عن الحقيقة كهذا الرجل الذي فقد مصدر السلطة
(الملك) ومصدر الثروة (المال).
تخيلات مفتراة: نحن نتخيل بأن
طالوت قد ذهب في رحلة مليئة بالأحداث المثيرة (التي سنتعرض لها لاحقا بإذن الله)
باحثا رجل ذاع صيته في البلاد شرقا وغربا لما يتمتع به من الحكمة، فكانت قبلته ذلك
المسمى لقمان الحكيم. فطالوت الآن في أمس الحاجة إلى حكمة هذا الرجل، وذلك لسببين
اثنين على الأقل:
-
محاولة إرشاده إلى الطريقة السليمة في
استعادة ما سلب منه من الملك والمال
-
التأكد من صحة ما يتناقله بنو إسرائيل
بأن دخولهم الأرض المقدسة لا محالة حاصل متى ما جاءهم التابوت
السؤال: ما الذي حصل فعلا على
أرض الواقع؟
رأينا المفترى: بعد رحلة شاقة
تخللتها الأحداث التي أقل ما يمكن أن توصف بالمغامرات الجرئية والخطرة في ذات
الوقت، وصل طالوت (نحن نتخيل) للقمان الحكيم. فما كان منه إلا أن يقص عليه القصص،
طالبا المشورة والرأي، مادام أن لقمان ليس من بني إسرائيل، ما دام أن الرجل يملك
كثيرا من الحقائق التي يبحث عنها طالوت.
السؤال: كيف استقبل لقمان
طالوت هذا؟
رأينا المفترى: ما أن قص
طالوت القصص على لقمان حتى كان أول ردة فعل له تتمثل بأن يطمئن الرجل على أنه قد
نجا من القوم الظالمين (ولنتخيل خروج موسى من مصر بعد حادثة القتل وتوجهه إلى مدين
حيث وجد شعيب)، وأنه يستطيع تقديم يد العون له لاستعادة ملكه المسلوب، لكنه أكد له
شرعية حيازة الأرض المقدسة من قبل بني إسرائيل متى ما جاء الإذن الإلهي لهم
بدخولها. وهنا يفاجئ لقمان طالوت بالخبر الصاعق: أن ذلك غير ممكن إلا بحيازة تابوت
العهد القديم الذي هو مفتاح باب الأرض المقدسة الحقيقي. فما يكون من طالوت (نحن
نتخيل) إلا أن يسأل لقمان عن ذلك التابوت.
السؤال على لسان طالوت: أين
هو تابوت العهد القديم؟ هل تعرف مكانه؟
الجواب على لسان لقمان: لقد
كان مستودعا في بيت والدي المؤمنين، لكن سيل العرم ذهب به (مع مقتنايته بعيدا).
السؤال: وأين يجب أن نبحث
عنه؟
الجواب: في مكان ما حيث يمكن
للسيل أن يأخذه.
تخيلات مفتراة: في هذا الوضع،
لا يمكن لطالوت أن ينكر منطق بني إسرائيل الذي كان يسمعه منهم منذ زمن بعيدد مادام
أنه قد جاء على لسان هذا الحكيم الذي ليس من بني إسرائيل. لذا، لابد من البحث عن
ذلك التابوت، وذلك لسبب بسيط يتمثل في أن الحصول عليه سيثبت له أمرين مهمين:
-
أن كل ما سمعه من الرجل الآن، وما كان
يسمعه من بني إسرائيل من ذي قبل، صحيحا، وبالتالي فإنه لا طائلة من المكابرة بانكار
ذلك (حق بني إسرائيل في الأرض المقدسة إن جاء الإذن الإلهي بذلك).
-
أن حصوله على ذلك التابوت سيكون السبب
المباشر في استعادة ملكه المسلوب
السؤال: لو كنت – عزيزي
القارئ- في مثل هذا الموقف فكيف ستتصرف؟ هل ستترك الأمر كله وتذهب باحثا عن طريقة
أخرى لتحقيق هدفك المنشود؟ أم ستذهب باحثا عن ذلك التابوت الذي هو بصيص الأمل في
استعادة حقك المهضوم؟
رأينا المفترى: لما كان طالوت
رجلا يبحث عن الحق، ما كان له أن ينكره، ولما كان صاحب حق مسلوب، ما كان منه ليسكت
عنه. لذا، تصرف الرجل (نحن ما زلنا نتخيل) ببرغماتية مدفوعة بالعقلانية وبالإيمان.
فما كان منه إلا أن يقدّم خدماته للقمان بالبحث عن ذلك التابوت المفقود، ويصبح من
الملوك الذين يأخذون برأيه بعد ذلك.
السؤال: ما الذي أقدم عليه
طالوت في بحثه عن ذلك التابوت المفقود؟
رأينا المفترى: نحن نتخيل بأن
طالوت قد بدأ يتدبر خارطة المنطقة كلها التي وضعها أمامه داوود، في محاولة لتحديد
المكان الذي يمكن للتابوت أن يستقر به بقوة سيل العرم الذي بدأ بسبأ. وهنا انطلق
الرجل (نحن نتخيل) – كمحقق يقتفي الأثر - باحثا عن التابوت المفقود بعد أن أخذ ما
يكفي من المعلومات الأولية التي يحتاجها ذلك المحقق من مصدر المعلومات الأول وهو
لقمان. فأخذ ينسج خيوط القصة شيئا فشيئا، ويسقطها على الأرض، لينظر من أين يبدأ
رحلة البحث عن التابوت المفقود.
تخيلات مفتراة: ما أن جمع
طالوت ما يكفي من المعلومات الضرورية في رحلة بحثه عن التابوت حتى انطلق في رحلة
شاقة وغريبة تملئها المفاجئات الخطرة، ولا تخلو – في ذات الوقت- من الإثارة
والغرابة في الأحداث التي واجهته خلال تلك المغامرة غير المحسوبة النتائج حتى
الساعة. فطاف بلدانا عديدة، وزار مناطق غريبة، وقابل إناس كثيرين، ودخل في مغامرات
خطيرة، باحثا عن ظالته التي لن يرجع دونها مهما كلف الأمر. ونترك لكاتب السيناريو
وللمخرج تصوير الأحداث المثيرة (الشيقة والصعبة في ذات الوقت)، لنصل إلى نتيجتها
النهائية هنا: وصول طالوت إلى قلب تلك الغابة الموحشة والخطرة التي سيجد بها ضالته،
وهناك بالفعل تقع عينه لأول مرة على ما لا يمكن تجاوزه: وجود صندوق يشبه "المهد"
معلقا في الفضاء فوق أشجار الغابة الكثيفة. لكن ما أن حاول هذا الجبار بجسمه
(وزاده بسطة في الجسم) وقدراته البدنية الهائلة الوصول إليه (أي إلى التابوت) حتى
تهاجمه مخلوقات الغابة من كل اتجاه. فما كانت تلك الكائنات لتترك فرصة ليد غريبة أن
تمتد إلى هذا التابوت الذي يعرفونه جيدا، ويعرفون صاحبه الحقيقي الذي يستطيع
التحكم فيه. فانطلقت تلك الكائنات (نحن نتخيل) تنادي (كل بطريقته) صاحب التابوت
بأصوات يعرفها فتى الغابة الذي تربى بينهم منذ نعومة أظفاره. وما هي إلا دقائق
قليلة (نحن مازلنا نتخيل) حتى يكون ذلك الصبي قد هاجم طالوت بعنف بطريقة بهلونانية
غير متوقعة من طالوت، داحرا إياه عن ذلك التابوت. لكن المفاجأة كانت صادمة
للاثنين:
-
فتى (أي داوود) يرى لأول مرة كيانا فيزيائيا
يشبه في الشكل ويختلف عنه في طريقة الانتقال والكلام والقتال؛
-
رجل (اي طالوت) يرى لأول مرة شخصا من
بني جلدته يتصرف كمخلوقات الغابة في القفز والصوت والقتال.
السؤال: كيف سيتصرف كل منهما؟
رأينا المفترى: لم يكن
الطرفان ليتقبلا بعضهما البعض بيسر وسهولة. لذا بدأ – نحن نتخيل- مسلسل المطاردة
بينهما في الغابة الكثيفة. فالغلام يحاول الابتعاد عن هذا الكائن الغريب تسانده في
ذلك مخلوقات الغابة، والرجل يحاول الوصول إليه لأن كل حياته المستقبلية مرتكزة على
الحصول على ذلك التابوت، ويسانده في ذلك غريزة بشرية بمعرفة سر هذا الصبي غريب
الأطوار في هذا المكان الغريب والبعيد. فما كان في ذهنه في تلك اللحظة (نحن نتخيل)
إلا سؤالين اثنين محيرين: من هذا الفتى؟ وكيف جاء إلى هنا؟.
وهنا نتوقف أما سيناروهين
اثنين لابد من وضعهما معا على طاولة النقاش للتأكد من صحة أحدهما لاحقا بإذن الله:
-
أن لقمان قد كان يعرف أن التابوت
موجود معه ذلك الصبي الذي هو ابنه، فاخبر طالوت بذلك، وبالتالي لم يتفاجأ طالوت
بوجود الغلام مع التابوت
-
أن لقمان لم يكن يعلم بأن له ولد مع
التابوت المفقود، فلم يخبر طالوت عن أمر الصبي، وبالتالي تفاجأ طالوت من وجود غلام
في الغابة البعيدة عن الناس.
السؤال: أي الاحتمالين هو
ربما أقرب للحقيقية؟
رأينا المفترى: لما كنا حتى
الساعة لا نملك الدليل على صحة هذا أو أو بطلان ذاك، فإننا سنتبنى – مبدئيا- الخيار
الأخير، وهو عدم معرفة لقمان بأن ولده موجود مع التابوت المفقود. لذا، سأحاول
تصوير المشاهد على نحو أن طالوت الباحث عن
التابوت قد تفاجأ بوجود الصبي مع التابوت. لكن ما الذي يمكنه فعله حيال ذلك؟
تخيلات مفتراة 1: حاول طالوت
الحصول مرارا وتكرارا على التابوت لكن دون جدوى، فما كان منه إلا أن يحاول الوصول
إلى الصبي ليتمكن من الوصول بعد ذلك إلى التابوت. فيمكث طالوت فترة من الزمن في
الغابة، يرقب ذلك الصبي وما يفعله في الغابة مع تلك المخلوقات الغريبة فيها. فتشده
العلاقة القائمة بين ذلك الصبي وتلك المخلوقات، وكيف يتفاعلون معا بانسجام تام لم
يكن ليعهده في أي مكان آخر.
تخيلات مفتراة 2: وبالمقابل
نجد هذا الصبي قد اعتاد – بعد فترة من الزمن- وجود ذلك الرجل معهم في الغابة،
فتنشأ علاقة تفاهم بينهما بشكل تدريجي حتى يتمكنا في نهاية المطاف من التواجد معا
دون خوف أو قلق. وهناك تبدأ رحلة العودة إلى لقمان المتواجد بعيدا عن الغابة. وخلال
تلك الرحلة تقع (نحن نتخيل) أحداث مثيرة وشيقة بالنسبة للطرفين، خاصة للصبي داوود
الذي بدأ يرى بأم عينه عالما آخر غير الذي تربى فيه فترة من الزمن، حتى يحط بهما الترحال
في نهايته هناك عند لقمان.
تخيلات مفتراة 3: ما أن يصل
التابوت إلى لقمان حتى يتأكد من أصالته، فتكون فرحته عارمة باستعادة الأمانة المفقودة
التي وضعها موسى في بيت والديه المؤمنين قبل ما يقرب من أربعين سنة خلت، فما عاد
ليشغله مسألة رجوع التائهين من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة مادام أن مفتاح
الأرض المقدسة قد أصبح اليوم في حيازته. لكن تأخذ لقمان نفسه المفاجأة عندما يرى
ذلك الصبي الذي لا يكاد التابوت يفارقه، ولا تنفك الكائنات الأخرى عن حراسته. فمن
هو ذلك الصبي؟ يسأل لقمان
الحكيم نفسه؟
تخيلات مفتراة 4: ما أن يحاول
لقمان أن يربط الأحداث بعضها ببعض حتى يصل إلى النتيجة التي لا مفر منها: لابد أن
هذا الصبي صاحب الشرعية في حيازة التابوت واستخدام مقتنايته. فمن يكون إذًا؟
تخيلات مفتراة 5: يتذكر لقمان
أنه قد غادر سبأ وترك فيها أهل بيته، ولا تنقصه الفطنة أن يستنتج بأن امرأته كانت
تحمل في بطنها جنينا عندما غادرهم. فهل يا ترى هو نفسه ذلك الذي تركه جنينا في بطن
امرأته؟
تخيلات مفتراة 6: ما كان من لقمان
إلا أن يأخذ الأمر على محمل الجد، وأن يعود إلى سبأ باحثا عن امرأته هناك. وبالفعل
يصل هناك ويجدها، ويعلم يقينا بأن هذا الصبي هو من وضعته امرأته في ذلك التابوت في
غياب بعلها (كما فعلت أم موسى) لتنقذه من خطر سيل العرم الذي أصاب المنطقة.
نتيجة مفتراة: كانت امرأة لقمان
ما زالت على قيد الحياة عندما عاد داوود إلى حضن والديه، بدليل ما جاء في قول
لقمان لابنه وهو يعضه بما يتعلق بعلاقته بالوالدين:
وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (31:14)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (31:15)
فالآية الكريمة تثبت بأن
والدي الابن الاثنين مازالا على قيد الحياة، وإلا لما تحدث الأب – برأينا- عن
احتمالية مجاهدة ابنهما بصيغة المثنى (وَإِنْ جَاهَدَاكَ).
تخيلات مفتراة 7: في تلك
الاثناء، وخلال الرحلة ذهابا وأيابا مع طالوت، يرافقهم تابوت العهد القديم الذي
تحمله الملائكة، ويتحكم بمقتنايته ذلك الصبي، وتحرسه مخلوقات الغابة الكثيرة التي
جاءت معه، يبدأ لقمان تقديم العظة واحدة تلو الأخرى لابنه (داوود) الذي جاءه من
مكان لم يشاركه فيه أحد من البشر:
وَإِذْ
قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (31:13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي
عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (31:14) وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (31:15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ
يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (31:16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ
مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (31:17) وَلَا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (31:18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ
صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (31:19)
والآن اقرأ – عزيزي القارئ- هذه
الموعظة ضمن هذا الخيال المفترى، لترى كيف يمكن أن تطبق تفاصيلها على أرض الواقع
شيئا فشيئا، حتى يصبح داوود (فتى الغابة) مؤهلا للانخراط بالمجتمع البشري الذي ما
عهده من ذي قبل.
السؤال: ما الذي سيفعله الجمع
بعد ذلك؟
رأينا المفترى: هذا طالوت
يسدي خدمة عظيمة للقمان، فهو من استطاع أن يعيد له المفقودات الثمينة، وعلى رأسها الآن
ابن له مفقود منذ زمن بعيد، وتابوت كان أمانة في بيت أبويه المؤمنين.
السؤال: مرة أخرى: ما الذي
سيقدمه لقمان لطالوت بالمقابل؟
رأينا المفترى: لما جاء طلب
الملأ من بني إسرائيل من ذلك النبي (لقمان) أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل
الله، لم يكن ليقع اختياره على أحد (من بين جميع الملوك الذي كان يستطيع أن
يرسلهم) غير طالوت:
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا
لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ
هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا
وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (2:246) وَقَالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا
أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ
وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ
يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (2:247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ
آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ
ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2:248)
السؤال: هل كان إرسال طالوت
ملكا لبني إسرائيل مشروطا باتفاق مبرم بين الطرفين (لقمان من جهة وطالوت من جهة
أخرى)؟
جواب مفترى: نعم، نحن نظن أن
الطرفين قد توصلا إلى اتفاق يحدد مكتسبات كل طرف وواجباته تجاه الطرف الآخر. ونحن
نظن أن الخطوط العريضة لذلك الاتفاق كانت على النحو التالي:
-
أن يكون طالوت ملكا؛
-
أن يقود الحملة العسكرية مع بني
إسرائيل ضد جالوت؛
-
أن يكون لطالوت الملك على تلك الأرض
مادام على قيد الحياة؛
-
أن يدخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة،
فلا يخرجهم طالوت منها مادام ملكا عليها؛
-
أن يكون داوود جنديا في جيش طالوت؛
-
أن يظل التابوت (ومقتناياته) في حيازة
داوود؛
-
أن تكون المواجهة بين داوود وجالوت في
المعركة المرتقبة؛
-
أن يؤول الملك لداوود من بعد طالوت؛
-
أن يصبح داوود خليفة في الأرض؛
-
أن لا يفسد بنو إسرائيل في الأرض
ماداموا فيها؛
-
الخ
الدليل
ما أن تضع تلك الحرب بين
الفئتين أوزارها بانتصار مؤزر لطالوت وجيشه (الذي كان داوود أحد أفراده) على جالوت
وجنوده حتى يصبح ذلك الرجل (طالوت) هو الملك الآن في تلك البلاد المستعادة من يد
الظالم جالوت. ويستمر ملك ذلك الرجل (طالوت) في تلك الأرض فترة من الزمن حتى أصبح
داوود رجلا سويا بينهم. لكن المفارقة العجيبة أن طالوت الملك (نحن نتخيل) لم يكن
له ذرية من بعده، فكان لزاما أن ينتقل الملك إلى داوود من بعده. قال تعالى:
فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْعَالَمِينَ (2:251)
نتيجة مفتراة مهمة: لقد كانت
السنة الإلهية على الدوام أن لا تفسد الأرض (خاصة الأرض المقدسة) عن طريق دفع الله
الناس بعضهم ببعض (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ). وهنا
ندعو القارئ الكريم إلى ضرورة التفريق بين فساد الناس من جهة وفساد الأرض من جهة
أخرى. فالأرض لن تفسد وذلك لأن سنة الله كانت على نحو:
وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (21:105) إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ
عَابِدِينَ (21:106)
فالبلاغ الإلهي للقوم
العابدين تتمثل بأن تطمئن نفوسهم بدوام صلاح الأرض، فلا تفسد مادام أنها محرمة على
القوم الفاسقين، كما حصل مع بني إسرائيل في نهاية رحلة موسى معهم إلى الأرض
المقدسة خارجين من مصر:
قَالَ
رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (5:25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ
أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ (5:26)
(دعاء: اللهم نسألك وحدك أن
نكون من القوم العابدين، ونعوذ بك أن نكون من القوم الفاسقين، إنك كنت بنا بصيرا.
وسنتعرض لهذه التفاصيل بإذن الله في نهاية سلسلة هذه المقالات عندما نحاول اسقاط
فهمنا لها على أرض الواقع في ضوء مجريات الأحداث عبر التاريخ الطويل للأمم التي
تعاقبت على هذه الأرض).
لكن نعود إلى فحوى الموضوع قيد
البحث بالإشارة إلى أن داوود قد أصبح بعد ذلك (أي بعد الملك طالوت) خليفة في الأرض
مادام أن المُلك لم يصله بالوراثة، ولكن بالخلافة (أي من شخص لا تربطه به صلة دم).
قال تعالى:
يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا
يَوْمَ الْحِسَابِ (38:26)
الدليل
إن جلب الدليل على هذه
الافتراءات الخيالية، تتطلب منا (نحن نرى) أن نتدبر التقاطعات بين هذا النبي
الكريم (دا-وود) من جهة وبقية الأنبياء والأشخاص الذين
جاءت قصصهم مفصّلة في كتاب الله الكريم، ولنبدأ بالتقاطع الأول مع آدم.
الباب الأول: داوود وآدم
لو رجعنا إلى قصة آدم،
وحاولنا أن نتدبرها من هذا الجانب، سيكون لزاما علينا أن نجلب الآية الكريمة
التالية التي تتحدث عن آدم الذي كانت مهمته الأولى تتمثل في أن يكون في الأرض
خليفة، قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (2:30)
فهذه الآية الكريمة تبين لنا - بما لا يدعو مجالا للشك - بأن آدم كان في الأرض خليفة، أليس
كذلك؟
ولو انطلقنا نبحث عن مفردة "خليفة"
في النص القرآني على مساحته، لما وجدناها ترد مرة أخرى إلا بحق داوود في الآية
الكريمة التالية:
يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ
الْحِسَابِ (38:26)
ليكون السؤال (الذي نريد من القارئ الكريم أن يتدبره
مليًا) هو: لماذا
كان آدم وداوود فقط هما خليفة؟ لِم لَم يكن غيرهما من الأنبياء أو من عباد الله
الصالحين خليفة؟ لِم لَم يكن نوح أو إبراهيم أو موسى أو عيسى أو محمد أو حتى
سليمان أو لقمان خليفة؟ هل تظن – عزيزي القارئ الكريم- بأن تكون الخلافة في آدم
وداوود فقط من قبيل المصادقة؟ من يدري؟!
المدّكرون: رشيد سليم الجراح
بقلم: د. رشيد الجراح
تاريخ النشر