قصة داوود - الجزء الثالث
من هو داوود؟ الجزء الثالث
قصة النبوة في بيت آل داوود
في المرة السابقة، حاولنا ربط الايتين
التاليتين معا:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (46:15)
قَالَ فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا
تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (5:26)
وكان الهدف هو أن نثبت بأن فترة تحريم
الأرض على بني إسرائيل مدة أربعين سنة على وجه التحديد مرتبطة ارتباطا مباشرا
بتأهيل رسول جديد يستطيع أن يعيد بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة بشرعية حيازة
تابوت العهد القديم الذي هو مفتاح الأرض المقدسة. (للتفصيل انظر الجزئين السابقين)
أما اليوم، لنبدأ النقاش بالافتراء الذي
ربما يصعب المجادلة فيه، ألا وهو إيماننا القاطع بأن كتاب الله قد جاء مفصلا
على علم:
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ
فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (7:52)
لذا، لما جاءت كل
قصصه مفصلة، كانت مهمة كل من يحاول تدبرها منصبة في البحث عن التفصيل الحكيم لهذه
القصص. ولما كانت مهمتنا في هذه السلسة منصبة في البحث في تفصيل قصة داوود، أصبح
لزاما علينا ايجاد تقاطعات هذه القصة مع كل ما في كتاب الله. فكانت أول المحطات
التي وجدنا أنفسنا نبحث فيها هي الربط الواضح بين قصة داوود من جهة وقصة موسى من
جهة أخرى. وقد كان حلقة الوصل بينهما هو ذلك النبي الذي توسط خط الرسالة بين موسى
من جهة وداوود من جهة أخرى، وهو النبي نفسه الذي يرد ذكره في الآيات الكريمة التي
كان جلّ نقاشنا في الأجزاء السابقة منصبا عليها، قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ
لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا
لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا
وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا
قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا
أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ
وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ
يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ
بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ
غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ
هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ
وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ (249)
وَلَمَّا بَرَزُوا
لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ
مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا
عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
فيصبح التسلسل التاريخي لسيرة الأنبياء مع
بني إسرائيل على النحو التالي:
موسى (نبي من بني إسرائيل) نبي لبني إسرائيل داوود سليمان
فحاولنا في الجزئين السابقين
الاجابة على على تساؤلين اثنين هما:
·من هو ذلك النبي الذي جاء من بعد موسى
ومن قبل داوود؟
·كيف انتقل خط النبوة من آل موسى إلى
آل داوود؟
وخلصنا إلى تقديم بعض الافتراءات
التي ربما هي غير مسبوقة، نذكر منها:
-
أن ذلك النبي الذي جاء من بعد موسى ومن قبل داوود هو لقمان
-
أن لقمان هذا هو من أبدل الله به الأبوين المومنين اللذين
قتل صاحب موسى ابنهما
-
أن قتل ذلك الغلام قد كانت نتيجته
المباشرة بداية اصطفاء لبيت نبوة جديد في غير بني إسرائيل، وكان ذلك عن طريق
الأبوين المؤمنين اللذين قتل صاحب موسى (العبد الصالح) ابنهما خشية أن يرهقهما طغيانا وكفرا.
وَأَمَّا الْغُلَامُ
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا (18:80)
فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (18:81)
-
كان ذلك البيت المؤمن هو حلقة الوصل
بين خط النبوة في بني إسرائيل (آل موسى) وفي غير بني إسرائيل (آل داوود).
-
كان موطن ذلك البيت المؤمن هو سبأ
-
أصبح لقمان هذا رسول سبأ التي وقع عليهم عذاب سيل العرم
-
أنجب لقمان ولده داوود الذي بدوره أنجب سليمان، فأصبح خط
الرسالة الجديد على النحو التالي:
الأبوين
المؤمنين لقمان داوود سليمان
وهولاء هم من القوم الآخرين
الذين تشاركوا وراثة مغارب الأرض مع بني إسرائيل بعد هلاك فرعون ملئه:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ
الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي
إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (7:137)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي
لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (44:23)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (44:24) كَمْ
تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (44:25)
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ
كَرِيمٍ (44:26)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا
فَاكِهِينَ (44:27)
كَذَٰلِكَ
ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (44:28)
فلقد ذكرنا مرارار بأن وراثة
الأرض من بعد فرعون لم تكن حكرا على بني إسرائيل ولكن شاركهم في ذلك قوم آخرون،
فكانت تلك هي أرض طيبة، أي
تلك البلدة الطيبة التي كانت مطمئنة ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (16:112)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ
مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (16:113)
نتيجة مفتراة: كانت العائلة المؤمنة التي وعد الله
أن يبدلهما خيرا من ابنهما الذي قتله العبد الصالح تقطن في تلك القرية المطمئنة:
وَأَمَّا الْغُلَامُ
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا (18:80)
فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (18:81)
ولما كانت إرادة الله (نحن نؤمن يقينا) لا محالة نافذة، تحقق لاؤلئك الأبوين
المؤمنين "ولدا صالحا" هو خير زكاة من الذي قتله العبد
الصالح وأقرب رحما. ونحن نؤمن بأن الغلام الجديد
كان شاكرا لله ولوالديه، فينشأ هذا الغلام الصالح الشاكر لله ولوالديه في تلك
العائلة المؤمنة هناك في تلك البلدة التي كانت مطمئنة، والتي كان يأتيها رزقها من
كل مكان. وما أن يبلغ سن الرسالة حتى
يكون هو رسول تلك القرية التي كفرت بأنعم الله:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (16:112)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ
مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (16:113)
ونحن نفتري الظن بأن تلك
القرية قد كانت سبأ التي كانت قرية مطمئنة قبل أن يرسل الله عليها العذاب:
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (34:15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ
ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (34:16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا
كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (34:17) وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً
وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (34:18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ (34:19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (34:20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي
شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (34:21)
الدليل
إن الترابط الزمني بين آل
داوود من جهة وسبأ من جهة أخرى لا يمكن أنكاره، وسنجلب دليلين اثنين فقط لاثبات
التزامن التاريخي بين الطرفين.
أولا، لو جلبنا الآيات
الكريمة التي تسبق الحديث عن قصة سبأ، سنجد أن قصة داوود وسليمان هي التي كانت
محور الحديث من ذي قبل. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في السياق الأوسع لهذه الآيات
الكريمة، قال تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ
مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ (34:10)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ
وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (34:11)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ
وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (34:12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا
آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (34:13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ
الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ
ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ
مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (34:14)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (34:15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ
ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (34:16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا
ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (34:17)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا
السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (34:18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ (34:19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (34:20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي
شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (34:21)
ثانيا، ربما لا يغيب عن
الأذهان ذكر سبأ في قصة سليمان (ابن داوود) التي جاءه الهدهد منها بخبر يقين بعد أن
تفقد سليمان الطير وتوعد الهدهد الذي كان من الغائبين في واد النمل:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ
فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (27:20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا
أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (27:21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ
أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (27:22)
لذا، نحن نؤكد مرة أخرى بإن التزامن
التاريخي بين داوود وسليمان (أي آل داوود) من جهة وحضارة سبأ من جهة أخرى يصعب انكاره. فداوود
وسليمان كانا متواجدين في الفترة الزمنية التي كانت فيها حضارة سبأ قائمة. ليكون السؤال الآن هو: كيف كانت علاقة آل داوود بسبأ؟
رأينا المفترى: كانت سبأ قرية
آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكانت قرية طيبة، يشطرها نهر عظيم،
فأصبحت عباره عن جنتين عن يمين وشمال، فكانوا مطالبين أن يأكلوا من رزق ربهم
ويشكروا له. لكن – كعادة الأمم السابقة- ما كان من أهل تلك القرية إلا الاعراض.
وكحال كل تلك القرى التي كفرت بأنعم ربها من ذي قبل، كان لزاما أن يبعث الله فيهم رسولا
منهم ليكون بشيرا ونذيرا، حتى يحق على قريتهم العذاب إن هم كذبوه. فمن هو الرسول
الذي سيبعثه الله لسبأ؟
رأينا المفترى: لم يكن هناك
من هو مؤهل في سبأ أن يكون رسولا حتى الساعة. ولكن كان فيها بيت من المؤمنين، وكان
للأبوين المؤمنين في هذا البيت غلاما شقيا. فيحالو الأبوان المؤمنان جهدهما أن
يصداه عن كفره، إلا أن الولد يرفض أن يطعهما، ويقل لهما أف، فيكون من الذين حق
عليهم القول في واحدة من الأمم التي خلت:
وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ
الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
(46:17) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ
(46:18)
لا بل، ويكاد ذلك الوالد
العاق أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا. ويتزامن ذلك مع قصة موسى في رحلته مع العبد
الصالح الذي طلب صحبته ليتعلم مما علم هذا الرجل رشدا:
قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (18:66)
فما كان من العبد الصالح إلا
أن يقدم على قتل الغلام العاق لوالديه:
فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا
لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (18:74)
ويعلل العبد الصالح قتله
للغلام على نحو أن الإدراة الإلهية قد قضت بأن يبدل الله الأبوين المؤمنين خيرا من
هذا الذي قتله غلاما آخر هو خيرا زكا وأقرب رحما.
وبالفعل، يبدل الله هذين
الأبوين غلاما خيرا من أخيه المقتول، ويكون هو رسول سبأ في قادم الأيام، ويكون
عذاب قومه على نحو أن أرسل الله عليهم سيل العرم، فأفسد عليهم الجنتين، فما ترك
فيهما إلا جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. واقرأ
– إن شئت- الآيات الخاصة بسبب مرة أخرى:
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (34:15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ
ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (34:16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا
كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (34:17) وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً
وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (34:18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ (34:19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (34:20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي
شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (34:21)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن
نفتري الظن بأن رسول سبأ هو لقمان، الذي هو ابن الابوين المؤمنين اللذين قتل صاحب
موسها ولدهما، تحقيقا للإرادة الإلهية بأن يبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما.
وَأَمَّا الْغُلَامُ
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا (18:80)
فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (18:81)
فكان قتل الغلام – نحن نرى-
التمهيد الإلهي لأن يبعث رسولا في سبأ ليحق عليهم العذاب إن هم كذبوه، فكان الرسول
في بيت الأبوين المؤمنين اللذين قتل صاحب موسى ابنهما، ففي ذلك الوقت على وجه
التحديد وفي ذلك المكان على وجه الدقة، تنشأ ذرية طيبة جديدة، وتكون النبوة في بيت
الأبوين المؤمنين، فيكون ولدهما الجديد رسولا في قومه:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (16:112)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ
مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (16:113)
السؤال: كيف حصل كل هذا على
أرض الواقع؟
رأينا المفترى: للإجابة على
هذا التساؤل، يلزمنا العودة مرة أخرى للنبش أكثر في قصة الأبوين المؤمنين اللذين
قتل صاحب موسى ابنهما، لتحقيق الإرادة الإلهية بأن يبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب
رحما:
وَأَمَّا الْغُلَامُ
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا (18:80)
فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (18:81)
لنطرح هذه المرة التساؤلات
التالية:
-
من هما الأبوان المؤمنان اللذان قتل
موسى ولدهما؟ هل نعرف اسمهما؟
-
من هو الولد المقتول؟ هل نعرف اسمه؟
-
هل ذلك ممكنا؟
افتراء: إن صح منطقنا هذا،
وإن كان افتراؤنا بأن الغلام الجديد الذي أصبح رسولا في قومه ونبيا إلى بني
إسرائيل بعد ذلك هو لقمان، وإن صح افتراؤنا بأن لقمان هو والد داوود الذي ورثه
سليمان، فإن منطقنا ذاته يدفعنا لأن نفتري القول بأن الولد المقتول كان اسمه (هارون)
وأن الوالدين المؤمنين اللذين قتل صاحب موسى ابنهما سابقا هما (عمران وزوجته)،
ليكون الافتراء الأكبر حتى اللحظة هو أن العائلة التي قتل صاحب موسى ولدهما هي
عائلة عمران الأول، وأن عمران هذا هو ما جاءت منه سلالة النبوة في لقمان وداوود
وسليمان، الذين جاء ذكرهم في قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ
آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (3:33)
الدليل
غالبا ما ظن العامة من الناس
(مدفوعين طبعا بما وصلهم من عند سادتهم وكبرائهم من أهل العلم) بأن آل عمران قد
تواجدوا في زمن زكريا، فظنوا بأن آل عمران محصورين بمريم وابوها عمران. فعمران قد
جاء ذكره في سياق الحديث عن مريم كشخص مرتين فقط في قوله تعالى:
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ
عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ
مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (3:35)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
(66:12)
ليكون السؤال الآن هو: هل كان
لعمران هذا آل؟ ومن هم آل عمران هذا إن كان ذلك صحيحا؟ هل كانت مريم هي جلّ آل
عمران هذا؟ الخ.
افتراء من عند نفسي: أنا
افتري الظن (ربما مخطئنا) بأن عمران هذا الذي يأتي ذكره في سياق الحديث عن قصة
مريم هو ليس أكثر من اسم على مسمى، فهو شخص تعود جذوره إلى عمران الأول الذي في
بيته تأسست ذرية طيبة كانت تضم لقمان وداوود وسليمان.
الدليل
لو دققنا النظر في قصة والدة
مريم ابنت عمران، لوجدنا أن هناك اسمان بارزان، هما زكريا وعمران، أليس كذلك؟
فكان زكريا ينتمي لآل يعقوب
بدليل أنه طلب الذرية ليرث فيهم:
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ
آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (19:6)
الذين هم في الأصل من ذرية آل يعقوب
الأول:
وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ
رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (12:6)
وهؤ- لا شك – هم جميعا من آل
إبراهيم الذين اصطفاهم الله.
وكان هناك – في المقابل – عمران
(والد مريم) الذي لم يكن له آل بحد ذاته، ولكنه ينتمي عرقيا لآل عمران الذين هم
امتداد لبيت النبوة الآخر الذي ضم لقمان وداوود وسليمان. فأصبح الاصطفاء الإلهي
لآلين اثنين، هما آل إبراهيم وآل عمران فقط:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ
آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (3:33)
فمن هم آل
عمران المصطفين الذين يتقابلون مع آل عمران المصطفين بنص الآية السابقة؟
رأينا
المفترى: نحن نظن بأن الاصطفاء الإلهي في هذين الآلين هو على النحو التالي:
السؤال: كيف تحصل الاصطفاء الإلهي
لآل عمران؟
رأينا المفترى: لما كان عمران
مقابلا لإبراهيم، وجب علينا أن نتفكر بشخصية هذا الرجل كما هي حالنا عندما نتفكر
بشخصية إبراهيم. فللرجل من الامكانات ما يجعله محل الاصطفاء الإلهي. ونحن نظن بأن
هذا الرجل قد كان باحثا عن ربه بكل الطرق الممكنة (كما فعل إبراهيم)، كما نعتقد
بأنه قد تزوج هذا الرجل من امرأة مؤمنة (من ذرية من آل إبراهيم – سنتعرض لها لاحقا
بإذن الله). وانجب هذا الرجل ولده الأول (وسنتحدث عن تفاصيل ذلك لاحقا بإذن الله)،
وتزامن كل ذلك مع هلاك فرعون، فكبر هذا الابن حتى أصبح غلاما، لكن كانت المفاجأة
بأن هذا الغلام الأول قد سلك مسلك الهالكين الذين حق عليهم القول (كفرعون)، وانكر
البعث، وظن أن كل ذلك من باب أساطير الأولين، فكان هو الذي قال لوالديه أف لكما،
كما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ
أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ
قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (46:17) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (46:18)
فكانت خسارة الأبوين المؤمنين
عظيمة، وكادا أن يقنطا من رحمة الله، بعد أن كاد أن يرهقهما ولدهما هذا طغيانا
وكفرا. ولكن كانت الرحمة الإلهية حاضرة بأن جاء صاحب موسى، قاصدا هذا المكان ليعلم
موسى، فكانت واحدة من الأحداث الرئيسية التي مرا بها معا هي قتل ذلك الغلام الذي
كاد أن يرهق أبويه المؤمنين طغيانا وكفرا:
وَأَمَّا الْغُلَامُ
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا (18:80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ
زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (18:81)
ولا شك عندنا أن الابوين (عمران
وزوجته) كانا في سن متقدمة عندما قتل صاحب موسى ابنهما، ربما أصبح من المتعذر
عليهما الانجاب بالطريقة الطبيعية الاعتيادية، فكيف ستتحصل لهما الذرية في ذلك
السن؟
رأينا المفترى: لما علم موسى
بإن الإرادة الإلهية حاضرة بأن يبدل هذين الأبوين المؤمنين خيرا من ولدهما
المقتول، كان لزاما عليه أن يفعل شيئا تجاههما يساعدهما على الانجاب. فما الذي
سيفعله موسى؟
جواب مفترى خطير جدا: أن يترك
عندهما شيئا من إرث النبوة – إنه القميص (الموجود في التابوت). انتهى
عودة على بدء
عندما ترك موسى قومه بعد أن
فرق الله بينهما، لم يكن موسى ليدع إرث النبوة (التابوت ومقتنايته) في بني إسرائيل
الذي أصبحوا فاسقين، كما لم يكن ليدع ذلك في عهدة هارون الذي عهد إليه بالعصا في
قديم الزمان، فما حافظ عليها حتى وقعت بيد السامري وأخرج لهم بقبضة منها ذلك العجل
الذي اشربوه بنو إسرائيل في قلوبهم. لذا عمد موسى نحن نتخيل أن يأخذ التابوت
(بمقتنايته) معه في رحلته مع فتاه إلى مجمع البحرين ليلاقي العبد الصالح.
ما أن تعلم موسى من العبد
الصالح عن هذا البيت من المؤمنين حتى أصبح يعلم يقينا بأن هذا البيت من المؤمنين
هو المكان الأكثر أمنا للمحافظة على التابوت ومقتنايته. فعلم موسى بأن الغلام الذي
سيولد في هذا البيت سيكون رسولا في قومه لكنه أيضا سيساعد بني إسرائيل على دخول
الأرض المقدسة بعد انقضاء فترة التيه، وبعد أن يرفع عنهم حضر دخولها. فاستودع
التابوت بمقتنياته في هذا البيت الطيب.
ما أن انقضت فترة التيه حتى
سمع الملأ من بني إسرائيل بخبر هذا الرسول، فأجروا هم المراسلات معه، طالبين أن
يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله، للعودة إلى ديارهم:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ
بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ
أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
(2:246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ
لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ
سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ
بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (2:247)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2:248)
ولعل هدف بني إسرائيل – كما
أسلفنا هو أن يتأكدوا من أمرين اثنين:
-
أن هذا النبي هو فعلا نبي حقيقي
-
أنه سيعلم خبر التابوت (إرث النبوة)
إن كان فعلا نبيا حقيقيا
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا:
ما أن كبر لقمان حتى أصبح رسولا في قومه الذين كفروا بأنعم الله بعد أن متعهم
بالجنات والخير الوفير في بلدتهم المطمئنة:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (16:112)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ
مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (16:113)
فكانت تلك هي سبأ:
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (34:15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ
ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (34:16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا
كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (34:17) وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً
وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (34:18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ (34:19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (34:20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي
شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (34:21)
ليكون السؤال المحوري هو: هل وقع العذاب على سبأ دون وجود رسول
فيهم؟
رأينا المفترى: نحن ننفي احتمالية أن يكون العذاب
الإلهي قد وقع على سبأ إلا بعد أن جاءهم رسول منهم. فالسنة
الإلهية في إنزال العذاب تقتضي وجود الرسول المنذر:
مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (17:15)
السؤال: من هو رسول سبأ؟
السؤال: كيف حصل كل ذلك على أرض الواقع؟
تلخيص ما سبق: عندما حصل الفراق بين موسى وأخيه
هارون من جهة وبني إسرائيل من جهة أخرى، ذهب موسى مع فتاه إلى مجمع البحرين حيث
وجد العبد الصالح. فطلب موسى صحبته، فانطلقا معا. وكانت الانطلاقة الثانية (نحن نتخيل) إلى
سبأ حيث لقيا ذلك الغلام (وهو من نظن أن اسمه هارون) الذي كاد أن يرهق أبويه
المؤمنين (عمران وزوجته) طغيانا وكفرا، سارع العبد الصالح إلى قتله على الفور،
لتحقيق الإرادة الإلهية بأن يبدل الله أبويه المؤمنين خيرا منه زكاة وأقرب رحما. فتحققت تلك الإرادة الإلهية فعلا للأبوين
المؤمنين بالرغم من تقدهما في السن، فكان لقمان، وحصل ذلك ذلك ببركة إرث النبوة (القميص)
الموجود في تابوت العهد القديم الذي استودعه موسى عند أهل هذا البيت المؤمن،
لسببين اثنين:
-
تحقيق الإرادة الإلهية بالذرية الطيبة
(زكاة)، فيكون لهما ذرية طيبة خيرا مما فقدا. فكان
لهما غلاما شاكرا لله كما كان شاكرا لوالديه.
-
ليبقى التابوت في هذا البيت الطيب حتى انقضاء فترة التيه،
فيكون مفتاح الأرض المقدسة للمؤمنين التائبين العائدين من بني إسرائيل بعد انتهاء
فترة التيه ورفع الحضر عنهم لدخول الأرض المقدسة
فكان الغلام الجديد (نحن نفتري الظن من عند أنفسنا) هو لقمان، صاحب الحكمة العظيمة، الذي
جاء ذكر اسمه صراحة في الآيات الكريمة التالية:
وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (31:12)
ولو دققنا فيما قاله العبد الصالح لموسى مبررا قتله
الغلام، لوجدنا بأنه يصف الغلام الذي سيرزقانه هذين الأبوين على نحو أنه خير زكاة
وأقرب رحما:
وَأَمَّا الْغُلَامُ
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا (18:80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ
زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (18:81)
ولو بحثنا عن مفردة الزكاة مع مولود جديد، لوجدناها
في موضعين اثنين، أولهما في وصف عيسى بن مريم:
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (19:18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ
رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19:19)
وثانيهما، في وصف يحيى بن زكريا:
يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ
بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (19:12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا
وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (19:13)
ولو دققنا في اللفظ أكثر، لوجدنا بأن التقاطع
اللفظي مع يحيى أقرب من اللتقاطع اللفظي مع المسيح. ففي حالة يحيى وهذا الغلام،
جاء اللفظ على نحو (زَكَاةً)، بينما جاء في وصف المسيح على أنه (زَكِيًّا). لنخرج – بناء على ذلك - بالافتراء التالي
الذي هو لا شك من عند أنفسنا: كانت ولادة هذا الغلام الزكي بطريقة عجيبة كما كانت
ولادة عيسى ويحيى من بعد ذلك، ولكنها أقرب إلى حالة يحيى منها إلى حالة المسيح.
فكما ولد يحيى لأبوين تقدم بهما العمر، فكان (زَكَاةً)، كان هذا الولد الجديد للأبوين المؤمنين (زَكَاةً).
نتيجة مفتراة: نحن نظن بأن الله قد أبدل أولئك الأبوين
بالغلام الذي هو خير زكاة وأقرب رحما من سابقة عندما كانا في مرحلة عمرية متقدمة. لذا، كان من المفترض أن تحل بهما
البركة الإلهية حتى يستطيعا أن ينجبا من جديد. فعلم موسى بأن التابوت الذي يحوي
على القميص يجب أن يبقى مدخرا ومحفوظا عند هذه العائلة. فببركة
ذلك القميص المتواجد في التابوت حلت البركة في ذلك البيت، وانجبا طفلهما لقمان
الذي اصبح مصدرا للحكمة.
(للتفصيل حوال فاعلية القميص
في الإنجاب انظر سلسلة مالاتنا لقصة يوسف وقصة أصحاب الجنة).
ولو دققنا في عبارة أقرب
رحما، لوجدنا أن هذا الغلام سيحسن لوالديه عندما يصبح في سن النبوة:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (46:15)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقمان ابن عمران هو رسول الله إلى سبأ. انتهى
تخيلات غريبة عجيبة: نشأ لقمان في تلك القرية الطيبة
المطمئنة (سبأ)،
فتزوج منها بامرأة جميلة جدا، وأنجب منها غلاما، وجاهد في الدعوة إلى الله في
قومه، لكن العذاب أخذهم بما ظلموا، فكان سيل العرم هو عذابهم:
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (34:15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ
خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (34:16) ذَٰلِكَ
جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (34:17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا
السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (34:18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ (34:19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (34:20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي
شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (34:21)
السؤال: ما الذي حل بالقوم بسبب سيل العرم؟
رأينا المفترى: لا شك عندنا بأن الله لا محالة منجي
المؤمنين من العذاب، فكانت نجاة لقمان وأهله، بمن فيهم ذلك الغلام الذي رزقه إياه
الله من تلك المرأة التي تزوجها في سبأ.
لكن كانت المفارقة العجيبة
التي يجب التنبه لها تتمثل بما حلّ بذلك الغلام (ولد
لقمان) وأمه (امرأة
لقمان) بسبب سيل العرم. فالسؤال الذي يطرح ذاته هنا
هو: ما الذي حل بذلك الولد وأمه؟
رأينا المفترى الخطير جدا (لا
تصدقوه): عندما نحاول تتبع سير الأنبياء والرسل
مع أبناءهم ونسائهم، نجد أن المشاكل كانت تحاصرهم من هذا الباب. فلا يفوتنا تذكير الجميع مثلا بمشاكل
آدم مع ابنيه اللذين قتل أحدهما الآخر، ومشكلة نوح مع ابنه الذي رفض الركوب مع
أبيه في السفينة، ومشكلة إبراهيم مع إسماعيل وإسحاق، وكيف فرق بينهما، ومشكلة
يعقوب مع أبنائه، ومشكلة لوط مع امرأته، الخ. ليكون
السؤال الآن: هل كانت هناك مشاكل عائلية
عند لقمان مع أهل بيته؟
رأينا المفترى: نحن نظن بأن لقمان لم يكن استثناء في
هذا الباب. لذا سنحاول طرح سيناريو تخيلي
ربما يصلح للأفلام السينمائية العالمية، ونطلب من القارئ الكريم أن لا يصدقه إن لم
يجد الدليل على ما يثبته.
أما بعد،
مشاهد سينمائية متخيلة: تنشب المشاكل العائلية بين لقمان
وامرأته، وتحصل تلك المشاكل عندما كان الولد الذي يجمعهما مايزال وليدا صغيرا،
فكان في حضن أمه التي كانت (نحن نتخيل ربما مخطئين) في صف القوم الظالمين. وعندما وقع العذاب على القوم، حلّ بها
ما لقومها. فكانت (نحن ما زلنا نتخيل) من
الهالكين.
السؤال: أين الدليل على ما تفتري؟ وإن
كان ما تقول صحيحا، فقل لنا ما حلّ
بالطفل الرضيع الذي كان بين يديها. أليس هذا الطفل هو ابن نبي شاكر، ألا وهو لقمان
ابن عمران (رسول سبأ الذين حل بهم عذاب سيل العرم) – كما تزعم؟ يسأل صاحبنا
متعجلا.
رأينا المفترى: نحن نؤمن بأن الله – لا محالة- منجي
الذين آمنوا وذريتهم الطيبة، فكانت النجاة للوليد حتى بعد هلاك والدته.
السؤال: كيف نجا ذلك الطفل من ذلك الطوفان
العظيم الذي كان على شكل سيل العرم؟
رأينا المفترى: نحن نتخيل بأن الماء الذي حمل تابوت
موسى في اليم، فأنجاه مع الغرق، قد حمل أيضا
ذلك الطفل الرضيع في التابوت
ذاته، فكانت نجاته من الغرق.
السؤال: أين تقاذفت الأمواج ذلك الطفل؟
جواب أغرب من الخيال: لقد تقاذفت الأمواج ذلك الطفل حتى حط
به المقام في غابة شجرية عظيمة.
السؤال: كيف عاش ذلك الطفل في تلك الغابة؟
الخيال المفترى: لقد عاش ذلك الطفل مع الكائنات الحية
في الغابة، فرضع منها، وتربى بينها، فكان داوود. انتهى.
السؤال: من هو داوود؟
الجواب: إنه فتى الغابة (Da wood)
المدكرون: رشيد سليم الجراح
بقلم: د. رشيد الجراح
تاريخ النشر: 17 نيسان 2023