ماذا ستفعل النساء في الجنة؟ الجزء الخامس
ماذا ستفعل النساء في
الجنة؟ – الجزء الخامس
خلصنا في الجزء السابق من هذه المقالة إلى افتراء الظن بأنه عندما
وقع آدم وزوجه في شرك الشيطان، واستطاع الشيطان أن ينزع عنهما لباسهما الذي كان
يواري سوءاتهما، كان لهذا الفعل هزات ارتدادية كبيرة جدا على مسيرة الخلق البشري،
ذكرنا منها:
-
لم يعد
بالإمكان أن يتم التزاوج بين آدم وزوجه بالنفخ (أي التزاوج اللاجنسي)، وانقلب
ليصبح بالعلاقة الجنسية (أي باستخدام
الأعضاء التناسلية)
-
بدت لهما
سوءاتهما التي كانت قد وريت عنهما بذلك اللباس، فأصبح خروجهما من الجنة أمر حتمي
-
خسر آدم الخلافة
(التي أرادها الله له) وكسب الملك (الذي نصحه الشيطان به)، فتحولت طريقة تحصيل
الذرية من الخلافة (النفخ)، وأصبحت ممكنة فقط بالملك (الحمل تسعة أشهر)
-
لمّا لم
يكن ذلك ليتم عنوة، كان القرار الإلهي (نحن نفتري الظن من عند أنفسنا) أن يأخذ
الذرية كلها من ظهور بني آدم ليشهدهم على أنفسهم بأن الله هو ربهم، وأن تكاثرهم قد
أصبح حتمي بطريقة الملك فقط، وأن من أراد المضي قدما للعودة للجنة من جديد، فعليه
أن يقبل بهذه الطريقة التي لم يعد هناك بديل عنها. فأصبح هناك الذرية من الآباء
والأولاد (الابناء). فكان لابد أن يأخذ عليهم شهادتهم بأن يقبلوا بالوضع الجديد إن
هم أرادوا المضي قدما في البحث عن أنفسهم (أزواجهم) ليدخلوا الجنة أزواجا من جديد (للتفصيل
انظر المقالات السابقة).
-
الخ
وقد وعدنا القارئ الكريم أن نتابع البحث في هذه القضايا (وما
ينبثق عنها لاحقا)، لنطرح وجهة نظرنا فيما حصل بعد ذلك.
أما بعد،
دعنا نبدأ النقاش هنا بالآية الكريمة التي اقتبسناها مرارا من
أجل تسليط الضوء على قصة الخلق الأول من منظور جديد، ربما لم يعهده القارئ الكريم في
مؤلفات السابقين من أهل الدراية والرواية، قال تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)
فهذه الآية تبين بما لا يدع مجالا للشك (نحن نظن) بأن خلق
البشر جميعًا قد جاء سابقًا لسجود الملائكة لآدم وتعليمه الأسماء كلها، وقد حاولنا
تبيان انعكاسات هذا التصور المفترى من عند أنفسنا على تسلسل الأحداث فيما بعد،
فافترينا القول بأن آدم كان أول المصطفين من الخلق مصداقا لقوله تعالى:
إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ (33)
وذلك لأنه الشخص الوحيد الذي كان قادرا على ايجاد زوجه الذي/التي
خلقها الله من نفسه، فكانا أول المؤهلين للسكن في الجنة معا، قال تعالى:
وَقُلْنَا
يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا
رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ (35)
وَيَا
آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ
شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
(19)
وزعمنا الظن من عند أنفسنا بأنه من الاستحالة بمكان أن يدخل
أحد الجنة إلا بعد أن يجد زوجه التي خلقها الله له من نفسه. لذا، سيكون هناك مراسم
تزويج للنفوس قبل الحساب:
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ
(7)
فيصبح الحشر للأزواج سواء كانوا من أصحاب النار
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
أو من المؤمنين في
جنات النعيم:
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي
ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ
ونحن نظن بأن السبب في ذلك يعود إلى أن أصل الخلق كان أزواجا:
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا
(8)
لتكون النتيجة التي حاولنا الترويج لها على نحو أن السكن / الخلود
في الجنة أو في النار لن يتم إلا أزواجا. فرحلة البحث عن الأزواج الحقيقية هي –
برأينا- سبب ما نحن فيه منذ بدء الخلق حتى العودة إلى ما كنا فيه من ذي قبل.
(وسنحاول التعرض لهذه القضية الخطيرة جدا لاحقا إن أذن الله لنا بشيء من علمه
فيها، لأنها (نحن نتخيل) ستحل اشكاليات وجودية كبيرة جدا مثل قضايا المرض والموت
والغنى والفقر، وما شابه ذلك. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن
يهديني لأقرب من هذا رشدا، وأن يزدني علما، إنه هو السميع البصير.
وزعمنا الظن بعد ذلك بأنه ما أن يدخل المؤمنون الجنة أزواجا
حتى يتم تزويجهم من جديد بالحوار العين، فيصبحوا أزواجا ثلاثة:
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)
وما أن يدخل الكافرون النار حتى يتم تقرينهم بالقرين، فيصبحوا
ثلاثة:
فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ
قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا
أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا
نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
نتيجة مفتراة 1: العلاقة في الجنة مع الحور العين هي علاقة
تزاوج
-
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ
الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
-
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَٰئِكَ
لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ ۖ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (43) عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ
مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا
هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ
(49)
-
مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۚ
وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
(55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ
وَلَا جَانٌّ (56)
-
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ
آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ
وَلَا جَانٌّ (74)
نتيجة مفتراة 2: العلاقة في النار مع القرين هي علاقة تقرين
وَالَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ
لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
قَالَ قَائِلٌ
مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ
الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا
قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا
مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا
مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
نتيجة مفتراة مهمة
جدا: الأزواج يدخلون الجنة كما يدخلون النار، لكن الفرق بين الحالتين هي في حين أن
داخلي الجنة من الأزواج يتم تزويجهم بالحور العين، فإن داخلي النار من الأزواج يتم
تقرينهم بالشياطين.
ولكن دعنا الآن نركز على قضية مهمة في النقاش الأولي حول هذه
القضايا وهو ما جاء في الآية الكريمة التي ابتدأنا النقاش بها، وهي قوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)
وفي هذا الصدد سنطرح أسئلة محورية حول جزئية مهمة في هذه
الآية الكريمة تخص مفردة (صَوَّرْنَاكُمْ) التي
قلما وجدنا من يتعرض لها بشيء من التفصيل. ومحرك البحث هنا هو سؤال رئيسي واحد، ألا
وهو: ما معنى "صَوَّرْنَاكُمْ"
الواردة في هذه الآية الكريمة؟
إن أول الافتراءات التي سنقدمها هنا هو أن التصوير قد كان
المرحلة الثانية الفاصلة بين الخلق (المرحلة الأولى) والطلب الإلهي من الملائكة
السجود لآدم (المرحلة الثالثة). فالآية الكريم تبين لنا تسلسل الأحداث على مراحل
ثلاثة، ألا وهي:
-
مرحلة
الخلق (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)
-
مرحلة
التصوير (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)
-
مرحلة
الطلب الإلهي من الملائكة السجود لآدم (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)
وقد حاولنا في مقالات سابقة لنا التعرض للمرحلة الأولى بشيء
من التفصيل، كما حاولنا التعرض للمرحلة الثالثة بشي من التفصيل أيضا، لكنّا لم
نتعرض حتى الساعة للمرحلة الوسطى بينهما، وهذا ما سنحاول التعرض له هنا، والهدف من
ذلك أن نربط الأحداث بعضها ببعض، محاولين أن نبيّن علاقة التصوير بالدخول في الجنة
(أو النار) أزواجا، وبالتالي تسليط الضوء على قضية الحور العين بعد ذلك من هذا
المنظار. فالله نسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يزدني علما، وأن يهديني لأقرب
من هذا رشدا، إنه هو السميع البصير.
أما بعد،
السؤال الأول: ما معنى "صَوَّرْنَاكُمْ "؟
جواب مفترى: عندما حاولنا البحث عن هذه المفردة في النص
القرآني، وجدنا سياقات قرآنية عديدة نظن أن لها علاقة مباشرة بهذه المفردة. فدعنا
نحاول جلب هذه السياقات تباعا، لنرى إن كنا نستطيع أن نفهم مفردة
"صورناكم" الواردة في الآية قيد البحث بطريقة جديدة، في ضوء هذه السياقات
القرآنية المتعددة.
أولا، الله هو المصور، قال تعالى:
هُوَ
اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
وما دام أن الله هو
المصور، جاءت صورنا هي الأحسن:
اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ
فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
السؤال: متى صورنا
الله، فأحسن صورنا؟
جواب مفترى: بعد
الخلق مباشرة وقبل السجود لآدم
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)
ثانيا، لو تابعنا البحث
في السياقات القرآنية، لوجدنا الآية الكريمة التالية:
هُوَ
الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ
إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
السؤال: هل تصويرنا في
الأرحام هو تصويرنا ذاته في مرحلة ما بعد الخلق الأول وقبل السجود لآدم؟
جواب مفترى: كلا.
فذاك تصوير هو الأحسن، أما هذا التصوير فهو ليس الأحسن لأنه عرضة للتغير مصداقا
لقوله تعالى:
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا
شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
نتيجة مفتراة من عند
أنفسنا: إن ما يهمنا طرحه حتى الساعة هو جلب انتباه القارئ الكريم إلى عمليتين من
التصوير لنا، وهما:
-
التصوير بعد الخلق الأول وقبل السجود لآدم،
فكان ذلك هو التصوير الأحسن:
اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (64)
خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
-
التصوير في الأرحام، فكان ذلك هو التصوير
المركب:
هُوَ
الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ
إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
فِي
أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
إن أبسط ما يمكن أن
نفهمه من ذلك أن كل واحد منا (نحن البشر) قد حصل له تصويران، كان أحدهما في الخلق
الأول، فكان تصويره ذاك هو الأحسن، ثم حصل له تصوير آخر في الأرحام فكان ذلك
تصويرا ليس الأحسن ولكنه مركب. ليكون السؤال الآن هو: ما الفرق بين الحالتين؟
باب التصوير الأحسن
عندما خلقنا الله
كبشر من طين:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71)
جاء ذلك الخلق مصورا،
فكان في صورته الأحسن:
اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (64)
خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
فما كان فيه عيب، وما
كان يمكن أن يجرى عليه أي تعديل أو تحسين أضافي، فأي تعديل على تلك الصورة سيحدث
فيها عيبا. فمفردة "الأحسن" تدل على أن عملية التحسين قد وصلت نهايتها
(للتفصيل في هذه الجزئية انظر مقالتنا في قصة يوسف التي هي أحسن القصص). إن ما
يهمنا طرحه هنا هو أن تلك الصور كانت في منتهى الدقة والاتقان مادام أن الله هو
الذي صورها.
باب التصوير المركب
لكن عندما انحرفت قصة
البشرية في الجنة من مبدأ الخلافة (كما أرادها الله) إلى مبدأ الملك (كما أرادها
آدم بسبب نصيحة الشيطان)، ضاعت الأزواج الحقيقية، فما عاد التكاثر بين الأزواج
الحقيقين، وأصبح التكاثر جنسيا بين الذكر والأنثى، فكان لزاما (نحن نتخيل) أن يحصل
تصوير جديد لنا في الأرحام، فكان هذا التصوير الجديد في الأرحام ليس الأحسن وإنما أصبح
تصويرا مركبا. ولندقق في السياقات ذاتها مرة أخرى:
هُوَ
الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ
إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
فِي
أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
فهذه الآيات الكريمة
تثبت (ربما بما لا يدع مجالا للشك) إن التصوير الذي حصل في الأرحام هو تصوير مختلف
عن التصوير الذي حصل في الخلق الأول، وأن من خصائص هذا التصوير أنه مبني على
المشيئة:
هُوَ
الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ
كما أنه تصوير مركب:
فِي
أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
ليكون السؤال الآن:
ما هو التصوير المركب؟
لو دققنا في معنى
الفعل ركَب وركَّب ومشتقاتها، لوجدنا أن الفعل لا يمكن أن يتم إلا بوجود كينونتين
منفصلتين، مختلفتين عن بعضهما البعض. فأنت كشخص – مثلا- تركب الخيل والبغال
والحمير:
وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (8)
فالراكب هو الذي
يمتطي شيئا آخر ليعتليه:
فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
إِذْ أَنتُم
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ
الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ
لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن
بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
كما هي الحال في ركوب
الدواب والأنعام:
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)
أو السفن والفلك
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا
بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ
تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي
مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ
(42)
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ
إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا
لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى
الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا
حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا
لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ
مَا تَرْكَبُونَ (12)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا
عَن طَبَقٍ (19)
ولو دققنا في هذه
الآيات الكريمة، لربما خرجنا بافتراءات غريبة جدا، نذكر منها:
-
أن هدف الركوب هو الانتقال، فأنت تركب
الدواب والأنعام والسفن والفلك، لتنتقل من مكان إلى آخر
-
أن أداة الانتقال في المجمل هي الدواب
والأنعام والسفن (الفلك)
-
أن الآيات تجمع بين أدوات الركوب هذه مع
خلق الأزواج:
وَالَّذِي
خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ
مَا تَرْكَبُونَ (12)
-
أن المركوب هو أداة نقل الراكب (أو متاعه) إلى
مبتغاه
إن ما يهمنا طرحه هو
أن نجلب انتباه القارئ الكريم إلى أن يتخيل بطن الأنثى كما السفينة (الفلك) الذي
ينقل الذرية إلى بر الأمان، كما حصل مع نجاة من ركب في الفلك مع نوح:
فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن
مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
فالذرية التي تركب
ذلك الفلك تصل إلى البر، وهناك في الفلك يكون دعائهم مخلصين لله الدين، ولكن ما أن
تتم لهم النجاة حتى ينكثوا ما عاهدوا الله عليه (بأنه هو ربهم)، فتكون النتيجة
الإشراك به:
فَإِذَا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى
الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
ولو دققنا في الفعل
ركّب (بتشديد الكاف) لوجدنا أنه يحمل في ثناياه معنى التغيير من شكل إلى آخر، ولنا
في دروس الكيمياء في صفوف المدرسة عبرة، عندما كنا نقوم بتجارب المركبات
الكيميائية، فهي ليست أكثر من وضع عنصر ما على عنصر آخر، لينتج لك عنصرا جديدا
(شكلا جديدا).
كما لنا في دروس
الزراعة في المدارس ذاتها عبرة، في تركيب الأشجار، فالتركيب يتم بوضع برعم حي من
شجرة في غصن آخر من شجرة أخرى، ليتم التزاوج وانتاج "عنصر" جديد. أليس
كذلك؟
وهذا بالضبط (نحن
نرى) ما يتم في الأرحام، أنه التصوير بالتركيب. فماء الرجل (الحيوان المنوي) يحمل
خصائص معينة (قليلة اساسية)، وبويضة الأنثى تحمل خصائص معينة (كثيرة ثانوية)،
فعندما يحصل التركيب بينهما، ينتج "مخلوق" جديد يحمل الصفات الوراثية
لكليهما، فيكون مخلوقا مركبا. ويكون تصويرا جديدا مختلف تماما عن الصورة الأولى
التي كانت لك في الخلق الأول، وذلك لأن صورتك الأولى لم تكن نتاج تركيب. ولكن صورتك
الآن هي نتاج ذلك التركيب بين ما كان من الذكر (والدك) وما كان من الأنثى
(والدتك).
فعندما تنجح عملية
التزاوج بين الذكر والأنثى في الأرحام، تكون النتيجة صورة جديدة بناء على– لنقل-
هذه العجينة العجيبة الجديدة. فأنا مركب من تزاوج الحيوان المنوي من والدي مع
البويضة من والدتي، فكانت صورتي الحالية. ولكن لو كنت أنا نتاج التزاوج بين أبي
ذاته مع امرأة اخرى ليست أمي هذه، لكانت صورتي لا شك ستختلف. فالذي يغير الشكل
(الصورة) هي الأم بما تحدث من تأثير في خصائص الحيواني المنوي الذي تحمله في بطنها
بعد عملية التزاوج. فأنت - كذرية - موجود أصلا في ظهر والدك، كنت ستأتي إلى الوجود
سواء كان ذلك عن طريق أمك هذه أو أم غيرها، وكل الذي سيختلف هو الصورة المركّبة.
فشكلك وتركيبك الحالي هو نتيجة تزاوج والدك مع هذه المرأة، ولو اختلفت المرأة،
لاختلف التركيب، وبالتالي لاختلفت الصورة.
ونحن نظن جازمين بأن
مثل هذا الطرح – على ركاكته - سيحل ابتداء اشكاليات كثيرة جدا، نذكر منها:
-
مشاكل الجمال
-
مشاكل المرض
-
مشاكل الوراثة، كقضايا المعاقين
-
مشاكل العقم
-
الخ.
وسنتعرض لهذه القضايا
تباعا لاحقا إن شاء الله عندما يأذن الله لنا بشيء من علمه فيها، فالله وحده أسأل
أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، وأن يزدني علما، إنه هو
العليم الحكيم.
أما الآن، نحن ندعو
القارئ الكريم أن يركز الانتباه على الفصل بين التصوير الأول الذي كان في الخلق
الأول والتصوير الثاني الذي كان في الأرحام، ففي حين أن الأول كان الأحسن، كان
الثاني مركبا.
الافتراء الأول:
عندما خلقنا الله (كبشر) كنا مصورين بأحسن الصور
الافتراء الثاني:
عندما كنا ذرية (ناس) خرجنا من بطون امهاتنا مصورين بالتركيب.
وربما المشاهدات
البسيطة في أثر العامل البيولوجي الوراثي في شكل الشخص لا يمكن انكاره، لأنه واضح
للعيان من التشابه بين الأقارب، كما أن التأثير السلبي للعامل البيولوجي في ظهور
الاعاقات والتشوهات الخلقية عند الولادة واضحة للعيان كذلك. فالإنسان هو المسئول
عن هذه المشاكل لأنه يستطيع أن يتجنبها بكل يسر وبساطة، فلو بذل الانسان الجهد
لمراقبة هذه المشاكل في محاولة لتجنبها، لوجد الحلول وافرة أمامه. فمن غير المنطقي
أن تُحدِث أنت المشكلة بيدك، ثم تلقي باللائمة على الأقدار فيما حصل لك نتيجة تلك
المشاكل التي كنت أنت سببها.
ولو راقبنا عملية
التزاوج داخل البطون، لوجدنا أن الحيوانات المنوية تنزل في البطون بأعداد كبيرة،
لكن لا تنجح إلا واحدة منها بعملية التلقيح، وذلك لأن عملية التركيب (كما هي تركيب
الأشجار) ليس بالضرورة أن تنجح إلا أن كانت العملية قد تمت بالظروف الملائمة.
فالعقم الناتج عن فشل عملية التلقيح يختلف عن العقم الناتج عن عدم وجود الحيوانات
المنوية أصلا. قال تعالى:
لِّلَّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن
يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ
وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
وهذا يعني أن بويضة
الأنثى لا تتقبل كل الحيوانات المنوية الزاحفة إليها، وإنما تنتقي من يلائمها
منهم. فهي الحاضنة، وبالتالي هي التي تقرر نجاح عملية التركيب أو فشلها. ففي حين
أن الذكر هو المسئول عن وجود أو عدم وجود الحمل، فالأنثى هي من تقرر نجاح العملية
أو فشلها. وسنتعرض لهذه القضية بشيء من التفصيل إن أذن الله لنا بشيء من علمه فيها
لاحقا إن شاء الله. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يهديني لأقرب من
هذا رشدا وأن يزدني علما، إنه هو العليم الحكيم.
لكن دعنا نتابع
الحديث هنا في قضيتنا الرئيسية وهي التصوير، ولو تابعنا البحث في السياقات
القرآنية عن مفردة صور ومشتقاتها، لوجدنا آيات عديدة خاصة بالنفخ في الصور، قال
تعالى:
وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن
فَيَكُونُ ۚ قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ
فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ (73)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ
يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ
جَمْعًا (99)
يَوْمَ يُنفَخُ
فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
فَإِذَا نُفِخَ
فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا
يَتَسَاءَلُونَ (101)
وَيَوْمَ
يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي
الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ
يَنسِلُونَ (51)
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا
مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ
(68)
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
فَإِذَا نُفِخَ
فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
يَوْمَ يُنفَخُ
فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
ليكون السؤال الآن
هو: هل لمفردة الصور (الذي سينفخ فيه) علاقة بمفردة التصوير التي جاءت في الآية
الكريمة محور البحث، وهي قوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)
جواب مفترى: غالبا ما
تبادر لذهن القارئ للنص القرآني بأن الصور الذي سينفخ فيه ليصعق الناس،
والذي سينفخ فيه مرة أخرى لبعث الحياة فيهم من جديد الوارد ذكره في قوله تعالى
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا
هُمْ قِيَامٌ
يَنظُرُونَ (68)
هو شيء أقرب ما يكون للبوق،
وهذا الفهم مصدره ما نقله لهم أهل الرواية من بطون أمهات كتب التفسير من عند أهل
الدراية. والقارئ الكريم مدعو للذهاب هناك ليتفقد ما قاله الأقدمون في هذا الصدد.
ولمّا كنا لا نتفق كثيرا
– كعادتنا- معهم، نجد لزاما أن ننشد ضالتنا بأن نسلك طريقا جديدا يربط اللفظين
معنا، وهما مفردة الصور الذي سينفخ فيه:
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنظُرُونَ (68)
ومفردة صَوَّرْنَاكُمْ الواردة
في الآية الكريم قيد البحث.
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)
السؤال مرة أخرى: هل
هناك علاقة بين مفردة الصور الواردة في الآية الأولى ومفردة صورناكم الواردة في
الآية الثانية؟
جواب مفترى: نعم. نحن
نظن أن المفردتين تتشاركان في المصدر اللفظي ذاته وهو الجذر الثلاثي (ص و ر). فما
معنى هذا الجذر اللفظي الثلاثي؟
في محاولتنا الاجابة
على هذا السؤال، علينا أن نطرح اسئلة عديدة نظن أنه لها علاقة بفحوى النقاش هنا،
نذكر منها؟
-
ما معنى التصوير؟
-
ما الغاية من التصوير؟
-
لماذا ترتبط مفردة الصور بالنفخ؟ أي كيف
ينفخ في الصور؟
-
هل عندما خلقنا الله وصورنا، هل تمت عملية
النفخ؟
-
وأين تم النفخ إن كان ذلك قد حصل فعلا؟
-
لماذا ينفخ في الصور مرتين؟
-
كيف تؤدي النفخة الأولى إلى أن يصعق من في
السماوات والأرض؟
-
كيف تؤدي النفخة الأخرى إلى قيامهم ينظرون؟
-
الخ.
نحن نظن أن التصوير
(أخذ الصورة) هي أهم طريقة لتحديد هوية الشخص، لذا نجد أن جميع الوثائق الشخصية
تعتمد على الصورة لتحديد هوية الشخص، فالهوية الشخصية، وجواز السفر، وبطاقة
التأمين الصحي، وغيرها تحمل صورة الشخص، حتى تقلل من عمليات النصب والاحتيال.
فالصورة تحدد ملامح الشخص للتعرف عليه من قبل الآخرين. كما نجد بأن الناس مغرمون
بالتصوير لأنها طريقة لحفظ الذكريات، مادام أن شكل الشخص يتغير مع مرور الزمن.
فشكلي أنا شخصيا في بداية عشرينيات العمر ليس مطابقا تماما لشكلي في نهاية
أربعينياته أو بداية خمسينياته. فالصور تخلد الذكريات. وقديما كان الناس يلجؤون
إلى الرسم، فازدهرت مهنة الرسام في معظم ثقافات الأرض إلا في المجتمعات الدينية
التي حرم كهنتها مثل هذه المهنة العظيمة.
ولو دققنا في مفردة
الصور، لوجدنا بأنها قد ارتبطت على الدوام بمفردة النفخ. فالصور ينفخ فيه، لكن
عندما خلقنا الله وصورنا، هل نفخ فينا؟
جواب مفترى: نعم،
وذلك واضح في قوله تعالى:
وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن
صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
إِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ (72)
نحن نفتري الظن بأن
النفخ الإلهي في ذلك الخلق لم يكن قد حصل بعد الخلق مباشرة، ولكن بعد التسوية (أي
ادخال النفس فيه). فعندما خلقنا الله وأدخل في ذلك الخلق النفس، جاءت عملية النفخ،
فكان النفخ في الصور:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)
لذا، جاءت عملية
التصوير (صَوَّرْنَاكُمْ)،
منفصلة ولاحقة لعملية الخلق. فكيف تم ذلك؟
رأينا المفترى: نحن
نظن أنه ما أن خلقنا الله (كجسم) وسوّانا (كجسم فيه نفس) حتى جاءت عملية النفخ في
تلك الصور التي شكّلها الله في أحسن ما يكون:
اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (64)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
فدبت الحياة في تلك
الصور بسبب تلك النفخة. انتهى.
نتيجة مفتراة 1:
النفخ في الصور يحدث فيها الحياة
وهذا يفسر لنا لماذا
النفخة الأخرى في الصور تؤدي إلى أن تدب الحياة في كل ما في السماوات والأرض فإذا
هم قيام ينظرون.
نتيجة مفتراة 2:
النفخ في الصور يحدث الصعق لمن ما في السماوات والأرض
فلو دققنا النظر في
النفخة الأولى، لوجدنا بأنها تؤدي بهم إلى أن يصعقون:
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنظُرُونَ (68)
ليكون السؤال على
النحو التالي: لماذا تؤدي النفخة الأولى إلى أن يصعق الناس بينما تؤدي النفخة
الثانية إلى قيامهم ينظرون؟
رأينا المفترى: نحن
نظن أن السبب في ذلك يعود إلى فعل النفخ ذاته. فمفردة النفخ تحمل في ثناياها إحداث
الحرارة بقدر محدد. فإذا ما زادت كمّية النفخ، أدت إلى رفع درجة الحرارة أكثر من
اللازم، فكانت النتيجة الصعق:
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ
فالنفخة الأولى في
الصور تؤدي إلى رفع درجة الحرارة أكثر من اللازم، كما هي الحال – مثلا- عندما نفخ
ذو القرنين:
آتُونِي
زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ
انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ
عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
لكن النفخة الأخرى
تكون بالقدر الذي يحدث الحياة في الأجسام. فهي إذا بمفرداتنا الدارجة عملية شحن.
فإذا زادت كمية الحرارة الناجمة عن الشحن، كأن تشحن جهاز يعمل بفولتية 110 بفولتية
220، فإن ذلك يؤدي إلى عطب ذلك الجهاز كليا. ولكن إن أنت شحنته بالفولتية المقدرة،
سيعمل
الجهاز حتى بعد أن تكون قد نفذت منه الحياة من ذي قبل. فذلك هو النفخ. ولا شك أن
هذا يذكرنا بما كان يفعله عيسى بن مريم:
وَرَسُولًا
إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم
بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم
مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا
بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ
بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي
بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)
إِذْ قَالَ
اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ
وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (110)
نتيجة مفتراة: النفخ
يودي إلى اعطاب الجسم، فيهلك
نتيجة مفتراة: النفخ
يؤدي إلى بث الحياة في الجسم، فيحيى
نتيجة مفتراة: النفخ
هو الشحن بالحرارة، فإذا زادت عن المطلوب أهلكت الجسم، وإذا كانت بقدر معلوم أحيته
لكن السؤال الآن هو:
أين يتم النفخ؟
جواب مفترى: في
الصور؟
السؤال: وما هو
الصور؟
رأينا المفترى: نحن
نظن أن الصور ليس ما يشبه البوق (كما يتخيله العامة من الناس بسبب تأويلات أهل
الدراية من ذي قبل)، ولكنه يشبه (نحن نتخيل) ما نعرفه اليوم بألبوم الصور (album).
السؤال: ما هو الصور
أو ما هو album؟
لو دققنا في المفردة
جيدا، لوجدنا أنه ليس أكثر من وعاء يحتوي على صور متعددة، منظمة بطريقة يسهل
الوصول إليها من قبل المستخدم.
السؤال: كيف يتم
النفخ (احداث الحرارة) في ذلك الألبوم؟ وكيف تؤدي النفخة فيه إلى أن يصعق من في
السماوات والأرض؟ وكيف تؤدي النفخة الأخرى إلى قيامهم ينظرون؟
تخيلات أغرب من
الخيال نفسه: نحن نظن بأنه عندما خلقنا الله وسوانا ونفخ فينا من روحه، قد صورنا
في أحسن تقويم، فجعل لكل واحد منا صورة في ذلك الصور (الألبوم) وهي صورة حقيقية
تتأثر بالنفخ، فإذا ما نفخ فيها بدرجة حرارة عالية فقد هلكت، وإذا ما نفخ فيها
أخرى بالقدر المعلوم، ردت لها الحياة. وما يحصل لتلك الصور في ذلك الكتاب المكنون
(الصور) ينعكس مباشرة على الاجسام الحقيقية التي لها تلك الصور في ذلك الكتاب.
فصورتك في الكتاب مربوطة مباشرة معك، فإذا نفخ في تلك الصورة النفخة الأولى ستصعق
أنت في العالم الدنيوي، وإذا ما نفخ في صورتك مرة أخرى، ستقوم تنظر ما يجري حولك.
الدليل
دعنا نتفقد عالم
البيض، لنجد أن البيضة التي يخرج منها الحياة تتكون من جزئين رئيسيين، ألا وهما
المادة البيضاء (White
part)
والمادة الصفراء (Yellow
Part أو Egg Yolk)، ليكون السؤال
الآن هو: ما الحاجة لهاتين المادتين مجتمعتين معا في البيضة الواحدة التي تنتج
الحياة؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الحياة تنتج من المادة الصفراء الداخلية، وأن
المادة البيضاء المحيطة بها ليست أكثر من صور، يضمن احداث عملية النفخ بدرجة
الحرارة المناسبة لها لتنتج الكائن الحي الذي نبت من المادة الصفراء. وهذا الشيء
ينطبق على مادة المني التي يقذفها الرجل في رحم الأنثى. فالسائل يتكون من جزئين
اثنين، مادة صفراء فيها الكائن، ومادة بيضاء محيطة به تكفل وصول الحيوان المنوي
إلى البويضة بظروف حرارية مناسبة، فلا تموت قبل وصولها إلى الحاضنة الجديدة وهي
البويضة.
نتيجة مفتراة: الحياة تخرج من المادة الصفراء ولكن المادة البيضاء هي النفخ
(الحرارة المناسبة). ولو بحثنا عن الاسم العلمي للمادة البيضاء في البيضة، لوجدناه
albumen
السؤال: هل تظن عزيزي
القارئ أن هذه التسمية عبثية؟
رأينا المفترى: نكمل
في المرة القادمة بإذن الله تعالى.
المدّكرون
رشيد الجراح
محمد إبراهيم
علي الشرمان
زكريا مصباح
محمد مقدادي
زيد النمرات
بقلم: د. رشيد
الجراح: