باب: فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
عند متابعة حديثنا عن قصة إبراهيم، كان لابد من أن تكون الآية الكريمة التالية حاضرة في النقاش، قال تعالى:
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
لتنهال الأسئلة حول ما جاء في هذه الآية الكريمة من كل حدب وصوب في محاولة منا أن نفهم ما حصل فعلا على أرض الواقع حينئذ. ومن أجل هذه الغاية، سنحاول ابتداء طرح سؤال واحد، علّنا -بحول الله وتوفيق منه- أن نصل إلى بعض الأجابات التي يمكن أن تجلّي لنا صورة الأحداث كما حصلت على أرض الواقع. والسؤال الذي نطرحه هنا هو: كيف هوت أفئدة من الناس إلى ذلك المكان المقفر الذي كان يتواجد فيه من أسكنهم إبراهيم من ذريته هناك؟ وبكلمات أكثر دقة، نحن نحاول أن نفهم السبب الذي جعل أفئدة من الناس تهوي إليهم (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) والآلية التي من خلالها هوت تلك الأفئدة إلى ذلك المكان غير ذي الزرع الذي كان للتو مهجورا، مقفرا، لا يسكنه أحد من الناس في تلك الفترة من الزمن.
أما بعد،
في أطار محاولتنا للإجابة على هذا التساؤل، وجب علينا (كالعادة) أن نضع مفردات الآية الكريمة ذاتها تحت المجهر، علّنا نستطيع (إن أذن الله لنا بشيء من علمه فيها) أن نستنبط منها ما يرشدنا إلى مبتغانا من طرحنا هذا. لذا، لابد من التعرض لمفردات الآية الكريمة الواحدة تلو الأخرى قبل التجرؤ على تقديم افتراءاتنا حول الحادثة ذاتها. والمفردات التي سنضعها حالا على طاولة البحث هما مفردتان اثنتان: تهوي و أفئدة.
السؤال الأول: ما معنى تهوي؟
رأينا المفترى: عند استعراض مفردة تهوي (ومشتقاتها) من السياقات القرآنية التي وردت فيها، سنجد أن الفعل هوى يحصل على نحو حركة سريعة جدا من الأعلى، بدليل قوله تعالى:
حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
نتيجة مفتراة 1: الهوى يتم إلى مكان سحيق (كالوادي)، وليس أدل على ذلك من الهاوية، وهي مصير من خفت موازينه:
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
لذا، لابد أن نفهم بان النجم إذا هوى مثلا:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
فهو يهوي إلى واد، وليس أدل على ذلك – برأينا- من أن المكان الذي يهوي فيه النجم هو الواد المقدس طوى. (للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان أين تمت مناداة الله نبيه موسى؟)
نتيجة مفتراة: الفعل "هوى" يحدث بسرعة كبيرة جدا، كالذي يهوي في مكان سحيق، أو كما يهوي النجم في الواد المقدس. لذا نحن نتخيل (ربما مخطئين) بأن أفئدة الناس قد هوت إلى من كان من ذرية إبراهيم في ذلك الواد غير ذي الزرع بسرعة كبيرة جدا. وهنا يظهر السؤال التالي مباشرة: ما الذي جعل أفئدة الناس تهوي إلى ذلك المكان بسرعة كبيرة جدا بعد دعوة إبراهيم تلك؟
رأينا المفترى: قبل محاولتنا الإجابة على هذا التساؤل، علينا أيضا أن نطرح التساؤل التالي: لماذا هوت الأفئدة أصلا؟
رأينا المفترى: لو دققنا في النص القرآني في مفردة الهوى، لوجدنا بأن الهوى غالبا ما يكون للأنفس، كما جاء في الآيات الكريمة التالية:
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
ليكون السؤال الآن هو: ما الفرق بين هوى النفس وهوى الفؤاد؟
رأينا المفترى: لو تدبرنا النص القرآني جيدا، لوجدنا بأن هوى النفس هو أمر مذموم على الدوام، لذا نهى الله عن اتباع ما تهوى الأنفس:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (40)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40)
فجميع الذين اتبعوا الهوى، قد ضلوا عن سواء السبيل:
وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71)
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (20)
فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم (14)
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3)
وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- مصير الذين اتبعوا هواهم جميعا:
لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
فهناك من اتبع هواه عن علم:
وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
وهناك من اتبع هواه بغير علم:
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
بلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (20)
وهناك من اتبع الهوى بغير هدى من الله:
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
واتباع الهوى يحصل عندما يتعطل عمل القلب، سواء بأن يطبع الله على قلبه أو من أغفل الله قلبه عن الذكر:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
وهنا نجد من اتبع هواه بسبب ما زُين له من سوء عمله:
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم (14)
وفي جميع هذه الحالات، تكون النتيجة وخيمة:
لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16)
ليكون السؤال الآن هو: ما الفرق بين أن يهوى الفؤاد وما تهوى الأنفس؟
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
إن هذا العرض السابق يوصلنا إلى النتيجة المفتراة بأن الهوى شيء مذموم، منهي عنه، لأن عاقبته وخيمة. لكن يبرز التساؤل الآن على نحو: ماذا عن هوى الأفئدة؟ هل هو أمر مذموم؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا. وذلك لأن إبراهيم قد طلب من ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى من أسكن من ذريته هناك عند بيت الله المحرم؟
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
فلو كان الأمر فيه شيء من الذم، لما طلب إبراهيم من ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم في ذلك المكان الذي ما زال للتو مقفرا موحشا، فهو - لا شك - واد غير ذي زرع. فما هو إذا هوى الفؤاد؟
رأينا المفترى: من أجل التعرف على هوى الفؤاد، علينا أن نطرح التساؤل حول معنى الفؤاد، فما هو الفؤاد؟
جواب مفترى: عند البحث في النص القرآني عن مفردة الفؤاد، وجدناها قد وردت في الآيات الكريمة التالية:
وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11)
ولو دققنا في هذه الآيات الكريمة، لوجدنا الترابط واضحا بين كينونات ثلاثة هي: السمع والبصر والفؤاد:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (78)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23)
ليكون السؤال الذي يجب أن يطرح على الفور هو: لماذا؟ أي لماذا تلازم التجاور بين هذه الكينونات الثلاثة وبهذا الترتيب (سمع ثم بصر ثم فؤاد)؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن هذه هي أدوات استقبال المعلومة عند الإنسان، فالمعلومة تستقبل سمعيا عن طرق الآذان أو بصريا عن طريق الأعين أو حدسيا عن طريق الفؤاد، والسمع يسبق البصر الذي بدوره يسبق الفؤاد. ويقوم القلب بمعالجة المعلومة التي تستقبلها هذه الأجهزة الثلاثة بالتعقل:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
السؤال المحوري: إذا كانت الأذان تسمع والأعين تبصر والقلوب تعقل، فماذا تفعل الأفئدة؟
رأينا المفترى: نحن نظن بأن مفردة الأفئدة هي جمع لمفردة الفؤاد، وقد جاء ذكر الفؤاد والأفئدة في السياقات القرآنية التالية:
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (26)
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43)
ومن خلال هذه السياقات، نستطيع تسطير الافتراءات التالية:
- الأفئدة يمكن أن تثبت، لأنها تقلّب
- الأفئدة تصغي
- الأفئدة ترى
- الأفئدة قد تكون هواء
- الأفئدة قد تكون فارغة
- الخ
السؤال: ما هو الفؤاد؟
رأينا المفترى: بداية دعنا نسطر الافتراء الخطير التالي: الفؤاد هو الأداة التي تمكّن الإنسان من القدرة على التخيل (imagine). فالمعلومة قد تدخل إلى عقل الإنسان (أي قلبه) من خلال السمع بالأذان أو من خلال البصر بالأعين أو من خلال الأفئدة بالتخيل.
الدليل
لو دققنا في الآيات الكريمة التي جمعت عمليات استقبال المعلومة بهذه الطرق الثلاثة، لوجدنا شيئا يسترعي الانتباه، ألا وهو صيغة المفرد والجمع لهذه الكينونات الثلاثة (السمع والبصر والفؤاد).
السؤال: كيف ذلك؟
جواب مفترى: لو تفقدنا الآية الكريمة التالية، لوجدناها قد جاءت كلها بصيفة المفرد (السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ):
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)
لكن لو دققنا في الآيات الكريمة التالية، لوجدنا أن السمع على وجه التحديد لا يرد بصيغة الجمع (الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ):
وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (78)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23)
ليكون السؤال: لماذا؟ أي لماذا يأتي السمع في النص القرآني بصيغة المفرد ولا نجد صيغة جمع (مثل الأسماع) كما قد يحلو لأهل التقعيد أن يسطروا بأقلامهم؟
رأينا المفترى: نحن نظن أنه في حين تختلف الأبصار والأفئدة من شخص إلى آخر أو حتى عند الشخص الواحد، فإن السمع واحد لا يتعدد إطلاقا. فإن نظرت أنا وأنت بأعيننا إلى صورة ما، فقد ترى فيها أنت ما لا أراه أنا، والعكس صحيح. ولو رأى عشرات الناس موقفا (حدثا) حصل أمام أعينهم، ثم طلب من كل واحد منهم أن يصف ما رءاه بأم عينه، لحصلنا على روايات غير متطابقة، فكل واحد منهم سيروى ما أبصره بعينه، ولا شك ستختلف الرؤية باختلاف الشخص، فالأبصار يمكن أن تعدد.
وكذلك تتعدد الأفئدة التي ترى (بالتخيل). فلو طلب من كل واحد أن يتخيل مكانا أو شخصا ما لم يره بأم عينه من قبل، لأعطى كل واحد منهم صورة ذهنية مختلفة عن تلك التي أعطاها الآخرون.
لكن – بالمقابل- لو نطق الخطيب على مسمع جمهور من الناس بجملة ما، ثم طلب منهم جميعا أن يرددوا ما سمعوا، لوجدناهم جميعا يكررون الجملة ذاتها (طبعا إذا لم يكن عند أحدهم مشاكل بيولوجية في السمع). فعندما يقول المدرس جملة ما، ويطلب من الطلبة ترددادها، تراهم جميعا يرددونها بحرفيتها.
لنخلص من هذا إلى النتائج المفتراة من عند أنفسنا التالية:
- السمع لا يتعدد، لذا تأتي بصيغة المفرد على الدوام
- البصر يتعدد، لذا يأتي بصيغة المفرد كما يأتي بصيغة الجمع
- الفؤاد يتعدد، لذا يأتي بصيغة المفرد كما يأتي بصيغة الجمع
السؤال: كيف نفهم آلية عمل الفؤاد؟
رأينا المفترى: لمّا كان الفؤاد هو – برأينا- الجهاز الموجود في داخل جسم الإنسان الذي يجعله قادرا على التخيل، فإنه يرسم صورا مختلفة للشيء الواحد بناء على عوامل وظروف معينة خاصة بالشخص. فالشخص يرسم صورة ذهنية لشيء ما بناء على ما سمع بأذنيه وعلى ما أبصر بعينيه، لذا فإن فاقد البصر مثلا يتخيل بناء على ما سمع فقط، ولا يستطيع أن يستفيد من البصر لكي يرسم صورة أكثر وضوحا في فؤاده عن الشيء الذي يتخيله. ولكن الإنسان أيضا قادر على رسم صورة ذهنية حتى للأشياء التي لم يسمع بها ولم يبصرها، كما في حالة تشبيه نسوة العزيز ليوسف بالملائكة:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
فبالرغم من عدم رؤيتهن للملك من ذي قبل، إلا أن الصورة الذهنية حاضرة في أفئدتهن، فما أن رأين يوسف حتى تم استدعاء تلك الصورة الذهنية على الفور، ونحن نفتري الظن بأن هذا الاستدعاء يتم عن طريق الفؤاد.
السؤال: أين هو الفؤاد في جسم الإنسان؟
رأينا المفترى: لو دققنا التلازم بين الأعضاء الثلاثة السمع والبصر والفؤاد كما ترد في الآيات الكريمة التالية:
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)
وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (78)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23)
لكان السؤال الغريب التالي مطروحا على الفور: لماذا لم يُذكر لنا صراحة أين تتواجد الآذان أو الأعين؟
جواب مفترى: لأن مكانهما معروف لا يحتاج لتفصيل. فالآذان والأعين متواجدة كأجزاء من رأس الإنسان.
السؤال: ما دام كذلك، لم لم يذكر لنا أين يتواجد الفؤاد (الأفئدة) في جسم الإنسان كجهاز استقبال للمعلومة؟
رأينا المفترى الخطير جدا: لأنه موجود في نفس العضو الأكبر الذي يشمل الآذان والأعين (أي في الرأس). انتهى.
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن واحدة من أساسيات القص القرآني (كما نفهمها طبعا) هي أن النص لا يذكر المعلومة بحد ذاتها إلا إن كانت مخالفة. انتهى
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأنه لا داع أن يذكر النص القرآني أن نساء الرسل مؤمنات لأن ذلك من البديهيات (لا بل فإن ذكر ذلك يقع في باب الحشو الذي لا طائلة منه)، ولكن إن وجد أن أحد نساء الأنبياء ليست مؤمنة، وجب حينئذ ذكرها بالنص كما حصل مع امرأت نوح وامرأت لوط:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَت نُوحٍ وَاِمْرَأَت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
وبالمقابل، لا يوجد مبرر أن يذكر القرآن بصريح اللفظ أن نساء الكافرين كوافر إلا إن كان هناك مخالفة كامرأة فرعون:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
ولا تستدعي الحاجة أن يذكر صراحة في النص القرآني أن أبناء الأنبياء مؤمنين لأن ذلك من البديهيات، لكن إن كان هناك مخالفة وجب ذكرها كما حصل مع ابن نوح:
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
السؤال: ما علاقة هذا بموضوع تواجد الفؤاد في الجسم (وبالتحديد في الرأس)؟
رأينا المفترى: مادام أن الفؤاد قد لازم السمع والبصر في القص القرآني، ومادام أنه لم يذكر مكان أي منهما، فالاستنباط هو أن تكون جميعها مجتمعة في العضو الواحد الذي يحويهم جميعا، وهو الرأس.
السؤال: هل هناك دليل على قاعدتك المشبوهة هذه؟ يسأل صاحبنا.
جواب مفترى: نعم. هناك دليل نظن أنه يثبت ما نقول. فلو تفقدنا السمع والأبصار، لوجدناها مصاحبة كذلك لمفردة القلب (القلوب) كما صاحبت مفردة الفؤاد (الأفئدة):
خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
لو كانت هذه الآيات هي وحدها التي وردت في كتاب الله، لربما وقعنا في اشكالية تحديد مكان القلوب لأنها (كما الأفئدة) قد صاحبت الأذان والأعين، ولربما اضطررنا حينئذ أن نظن بأن القلوب جزءا من الرأس إن أردنا التسليم بقاعدتنا المشبوهة تلك، أو أن نتخلى كليا عن تلك القاعدة المشبوهة ونبحث عن ما هو خير منها. لكن ما يثير الألباب هو الملاحظة التالية: لم جاءت آية كريمة واحدة فقط تحدد مكان القلوب على وجه التحديد؟
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
السؤال مرة أخرى: لم جاء تحديد مكان القلوب واضحا في الصدور (وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)؟ ولم لم يأت النص القرآني ليحدد مكان الآذان أو الأسماع أو الأفئدة كما حدد مكان القلوب؟ فكيف سنتعرف على مكانها جميعا دون تحديد واضح؟ ألا يمكن أن يخرج علينا أهل المجاز ليذهب بالبصر حيث يشاء وبالسمع إلى حيث يريد؟
رأينا المفترى: كلا وألف كلا. فالنص القرآني لا يدع مجالا للتقول عليه، لأنه ببساطة قد فصل كل شيء، فأنا أستطيع تحديد مكان واحدة منها (كالعيون التي تبصر)، والتلازم شبه الدائم بين الثلاثة (الآذان والأسماع والأفئدة) تكون متواجدة في العضو نفسه.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: لو دققنا في الآية الكريمة التالية:
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
لوجب علينا تحديد مكان العينين في الجسم. وحتى لا يبقى النص عرضة للأهواء وتجويز ما لا يجوز عند أهل المجاز، نجد النص القرآني يقدم لنا الآية الكريمة التالية:
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
فالقميص قد ألقي على الوجه لأن العينين اللتين ابيضتا متواجدة في تلك المنطقة، ولكنها بالتأكيد (نحن نفتري الظن) ليست جزءا من الوجه، وإلا لأصبحنا واقعين في مشكلة عندما نقرأ الآية الكريمة التالية:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
فحتى لا تبيض العيون (فيغيب البصر كما حصل ليعقوب) عندما تبيض الوجوه في يوم القيامه، كانت الأعين ليست جزءا من الوجه، وإنما جزء من الرأس، فهي تسمح مسحا خارجيا في الوضوء، ولا تغسل غسلا كباقي مكونات الوجه ومنها الفم والأنف. وكذلك هي الآذان تمسح مسحا خارجيا لأنها جزء من الرأس، وكذلك هو الفؤاد يمسح مسحا خارجيا بتمرير الماء على أعلى الرأس من مقدمته حتى نهايته الخلفية. (للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان: لماذا نصلي خمس مرات في اليوم والليلة؟).
نتيجة مفتراة 1: الأذان والأعين والأفئدة محلها الرأس، وهي جميعها أدوات استقبال المعلومة
نتيجة مفتراة 2: أما القلب فمحله الصدر وهو أداة معالجة المعلومة
السؤال: كيف أصبح فؤاد أم موسى فارغ؟
رأينا المفترى: افترينا الظن في مقالات سابقة لنا أن ذلك حصل عندما جمع فرعون قومه وبني إسرائيل معا ليستبين جنسية الطفل البرمائي (موسى)، فتخيلنا بفؤادنا بأن فرعون قد أمسك ذلك الطفل في الصباح بعد أن حشر الناس أجمعين. وتل الطفل للجبين، ووضع سكين الذبح على رقبة الطفل، وطلب من الحضور أن يشاهدوا ذلك بأم أعينهم، وكان مراده من ذلك (نحن نتخيل) أن يدلي من يعرف من الحضور عن هوية الكفل بكل ما في جعبته، وإلا فإنه ذابح الطفل بالسكين التي كادت تحز رقبة الطفل أمام أعينهم جميعا. وكانت أم موسى حينئذ من الحاضرين لذلك المشهد الرهيب. فأصبح فؤادها فارغا (أي ممتلأ حتى نهايته) بالصور الذهنية (التخيلات) لما سيكون من أمر الطفل بعد أن تمشي سكين فرعون الحادة في رقبته التي لازالت غضة طريّة. ولك عزيزي القارئ أن تتخيل – إن شئت- شعور الأم في تلك اللحظة التي ترى ذبح ولدها بالسكين الحادة بأم عينها. فكادت أم موسى لتبدي به (نحن نتخيل) من كثرة الخيالات والصور الذهنية التي تبدّت لها حينئذ في فؤادها من منظر دم الطفل (ولدها) الذي سيسيل بعد لحظات، وانفصال رأسه عن جثته، فما عادت قادرة (نحن ما زلنا نتخيل) على تحمل تلك الصور التي جلبها لها فؤادها في تلك اللحظة، فكادت أن تبدي به، أي كادت أن تصرخ بأعلى صوتها، لتبوح بهويته (أي لتعترف بنسب الطفل)، ظانة أن فرعون سيتوقف حينئذ عن ذبحه. وهنا بالضبط تدخلت الإرادة الإلهية، فربطت على قلبها الذي في صدرها، عضو اتخاذ القرار:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
السؤال: كيف يمكن الاستفادة من هذه الافتراءات لبيان ما بدأنا به في الآية الكريمة الخاصة بما حصل على أرض الواقع من جراء دعاء إبراهيم التالي:
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
السؤال: كيف هوت أفئدة من الناس إلى ذلك المكان؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: كان العهد الأول لإبراهيم بذلك المكان هو أن الله قد بوأ له مكان البيت:
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
فكان إبراهيم هو أول من أعاد التوطين في مكان البيت بعد أن كان قد أصبح أثرا بعد عين على مر الزمان منذ الخلاف الذي نشب بين ابني آدم على ملكيته. فالذي يتبوأ مكانا هو الذي يستخدمه عن اختيار منه، وليس أدل على ذلك مما حصل عندما تبوأ موسى وأخوه هارون لقومها بمصر بيوتا:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
وهذا يوسف هو من كان يتبوأ في أرض مصر ما يشاء منها بعد أن مكن الله له فيها:
وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وهكذا يكون تبوء الدار والإيمان في الدنيا والآخرة:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
فإبراهيم قد تبوأ مكان البيت بأمر من الله:
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
فما كان من إبراهيم إلا أن يختار هذا المكان ليُسكِن فيه من ذريته:
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
وطلب من ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم. لنعيد السؤال الأول ذاته هنا، ألا وهو: كيف هوت أفئدة من الناس إلى ذلك المكان (الواد) غير ذي الزرع؟ ولماذا؟
رأينا المفترى: لو دققنا في السياق التاريخي لذلك الحدث، لوجدنا الناس حينئذ على عادة عبادة الأصنام، بدليل أن إبراهيم قد طلب من ربه هناك أن يجنبه وبنيه أن يعبدوا الأصنام:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
السؤال: ماذا يفيدنا هذا في موضوع هوى أفئدة من الناس إلى المكان؟
رأينا المفترى: لقد كانت عبادة الأصنام شائعة في البلاد التي تركها إبراهيم وراء ظهره في قومه:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74)
كما انتشرت عبادة الأصنام في أماكن أخرى بدليل ما وجده موسى وقومه يوم أن نجاهم الله من فرعون وجاوز بهم البحر حيث كان القوم في تلك القرية التي مروا بها على عادة عبادة الأصنام:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
نتيجة مفتراة: كانت عبادة الأصنام عبارة عن عكوف
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
السؤال: ما معنى العكوف على عبادة الأصنام؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن العكوف على عبادة الأصنام تتطلب وجود تلك الأصنام في مكان محدد بذاته. انتهى.
السؤال: وهل يمكن أن تتواجد الأصنام للاعتكاف في أي مكان؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا. فالاعتكاف على عبادة الأصنام تتطلب تواجد تلك الأصنام في مكان له مواصفات معينة حتى تكون مقبولة عند العامة من الناس.
السؤال: وأي مكان يمكن أن تتواجد فيه الأصنام التي يمكن أن يعكف عليها الناس؟
رأينا المفترى: إنه المكان الذي يتخذه الناس وجهة لهم لأداء فريضة الحج (المنسك). انتهى.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67)
والمنسك مرتبط على الدوام بشعيرة الحج:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200)
تخيلات مفتراة: كان الناس في زمن إبراهيم على عادة الاعتكاف على عبادة الأصنام. لكن تلك الأصنام لم تكن في موطنها الحقيقي. فالناس كانوا (نحن نتخيل) يظنون أن مكان الحج الذي يجب أن تكون فيه الأصنام هو مكان البيت العتيق:
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
فمناسك كل أمة لا يمكن أن تطبق إلا في مكان محدد بذاته، وقد كان هوى الناس على مر الزمان قبل إبراهيم (نحن نتخيل) متعلقا بالبيت العتيق، لكن كانت مشكلة تلك الأقوام هو عدم قدرتهم على تحديد مكانه بالضبط بعد أن جرت عليه عوامل البيئة، فمحت آثاره عن وجه الأرض وإن بقيت قواعده تحت الأرض. فكان ما فوق الأرض منه أثرا بعد عين. وقد اختلف الناس حينئذ (نحن نتخيل) في تحديد مكان البيت العتيق. فاتخذت كل أمة منهم منسكا، ليذكروا اسم الله فيه، فكانت أصناهم في أماكن مختلفة ومتناثره، وكانت تلك الأصنام هي التي– برأيهم- تقربهم إلى الله زلفى:
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
فتشتت المناسك لتلك الأمم، لاختلاف الناس في ألهتهم التي كانوا يظنون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وذلك بسبب عدم اتفاقهم على مكان البيت العتيق الذي كانت أفئدتهم معلقة به حتى وهم لا يستطيعون العثور عليه.
السؤال: ما الذي حصل عندما بوأ الله لإبراهيم مكان البيت؟
رأينا المفترى: ما أن بوأ الله لإبراهيم مكان البيت حتى جاءه الأمر الإلهي بأن يؤذن في الناس بالحج إلى مكان البيت العتيق:
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
السؤال: كيف أذن إبراهيم في الناس بالحج؟
رأينا المفترى: حتى نفهم معنى الآذان وكيفية تنفيذه على أرض الواقع، علينا أن نحاول التمييز بين الآذان (وأذن في الناس بالحج) من جهة والنداء (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) من جهة أخرى، لتكون التساؤلات الآن هي على النحو التالي:
- ما هو الآذان؟
- كيف ينفذ الآذان؟
- لماذا يحصل الآذان؟
- متى يحصل الآذان؟
- ما هو النداء؟
- كيف ينفذ النداء؟
- لماذا يحصل النداء؟
- متى يحصل النداء؟
- ما فائدة التفريق بين الآذان والنداء؟
- الخ.
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن بأن الفرق بين الآذان من جهة والنداء من جهة أخرى يتمثل في أمر بسيط جدا مفاده أنه في حين أن الآذان ليس أكثر من بلاغ يتم إيصاله إلى أذن الشخص المقابل، فإن النداء هو عبارة عن طلب يتم إيصاله إلى الطرف الآخر ليتم الاستجابة عليه. انتهى.
الدليل
لو حاولنا بداية التفكر بمفرد الآذان، لوجدنا بأن لها علاقة مباشرة بالأذن (أداة السمع):
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
فالشخص الذي يؤذن يحاول (نحن نظن) أن يوصل رسالة إلى أذن المستمعين كخبر للعلم به، ولا يتوجب على السامع أن يتخذ أي اجراء يتعلق بشخص المؤذن نفسه. فالآذن ليس طلبا خاصا من المؤذن يوجهه للطرف المقابل لينعكس اثره على المؤذن نفسه. فلو تدبرنا السياق القرآني التالي، لوجدنا أن المؤذن قد أذن في العير (وهنا انتهت مهمته):
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71)
فالمدقق في هذا السياق القرآني يجد أن مهمة المؤذن هو إيصال الخبر للعير بحصول حادثة سرقة، وكفى. كما يجب التنبه إلى أن العير لم يكونوا على دراية بذلك من قبل، لذا جاءت ردة فعلهم على نحو الاستغراب ومحاولة الاستفسار عن تفاصيل تلك السرقة (الخبر الذي نشره المؤذن فيهم). فكان آذان المؤذن بمثابة نشر خبر حصول السرقة. ولتبسيط الفكرة دعنا نضرب المثال التالي: عندما يطلق الناطق الرسمي باسم الدولة خبرا رسميا لإعلام الناس، فإن ذلك الخبر يكون بمثابة آذن فيهم، وعلى الجمهور الموجه لهم هذا الآذان أن يمتثلوا لما جاء في ذلك الإعلان الرسمي، كما امتثلت العير لآذان المؤذن فيهم عندما انتظروا اجراء التحقيق للتأكد من الخبر.
أما النداء – بالمقابل - فهو عبارة عن دعوة يقوم بها المنادي طالبا حاجة خاصة له من المنادى عليه الذي له الحق في الاجابة أو الرفض. فهذا – مثلا- نوح ينادى ابنه، طالبا منه أن يركب معه:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42)
لكن الابن رفض الدعوة التي وجهت له على النحو التالي:
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
وها هو نوح ينادي ربه مستفسرا عن نجاة ابنه الذي أصابه الغرق، فكان الرد الإلهي قاطعا بالرفض لأن ابنه ليس من أهله:
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
وها هم أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة، وكان طلبهم على نحو أن يفيضوا عليهم من الماء أو مما رزقهم الله، لكم كان رفض أصحاب الجنة طلب أصحاب النار الذي جاء بصيغة النداء واضحا:
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
لكن – بالمقابل- ها هو نوح ينادي ربه، فتأتي الاستجابة له بالنجاة:
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
وكذلك كانت الاستجابة حاصلة جراء نداء زكريا ربه:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
وكذلك كان نداء أيوب:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
نتيجة مفتراة: النداء عبارة عن طلب ما (دعاء) من قبل المنادي يوجهه إلى المنادى عليه الذي يمكن أن يستجيب لذلك النداء بالايجاب أو بالرفض، وذلك لأن النداء يكون محكوم بظروف الحالة:
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا مهمة جدا: في حين أن الآذان هو عبارة عن نشر خبر يوجهه المؤذن للناس لتسمعه آذانهم، فيتحققوا منه، فإن النداء عبارة عن طلب موجه إلى المنادى عليه لكي يلبي دعوة (حاجة) المنادي. ولو تفقدنا السياق القرآني التالي:
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
لوجدنا بأن الآية الكريمة قد اشملت على نداء وآذان معا. ففي بدايتها نجد بأن المنادي هنا هم أصحاب الجنة (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)، والمنادى عليه هم أصحاب النار (أَصْحَابَ النَّارِ)، والطلب هو التحقق مما وجد الطرفان (أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا)، فيرد أصحاب النار بالاقرار (قَالُواْ نَعَمْ)، ثم يأتي بعد هذا النداء في نهاية الآية الكريمة الآذان التالي الذي هو بمثابة خبر لتسمعه آذان الجميع (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
نتيجة مفتراة: الآذن موجه لأذن السامع فقط، ولا يستطيع السامع أن يتخذ قرار بحق الرسالة الموجة له ليردها للمؤذن نفسه. فالمؤذن عبارة عن مخبر فقط. أما النداء – بالمقابل- فهو موجه للطرف المقابل من أجل اتخاذ قرار بحق الطلب الذي يطلبه المنادي. فلا يكفي من المنادي عليه أن يسمع النداء بإذنه، بل عليه أن يتخذ القرار بحق الطلب الموجه له من المنادي. فالمنادي هو طالب حاجة من المنادى عليه.
تلخيص ما سبق: نحن نظن أن الآذان هو اطلاق خبر، ليتناقله الناس، قال تعالى:
وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
فالمتدبر لهذه الآية الكريمة يجد أن الآذان قد جاء هنا من الله ورسوله، فكان عبارة عن رسالة موجهة إلى الناس جميعا يوم الحج الأكبر (وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ)، ومفاد الخبر (أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فعلى جميع الناس أن يسمعوا هذه الرسالة يوم الحج الأكبر. فالمعلومة التي يجب أن تنشر يوم الحج الأكبر بين الناس تحتوي على هذه الرسالة التي محاورها أربعة:
- أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ
- فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
- وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ
- وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(وسنتعرض لهذه المحاور لاحقا إن شاء الله متى اذن لنا بشيء من علمه فيها، فالله أدعو أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو العليم الحكيم).
ولا شك عندنا أن الآذان يحتاج إلى مؤذن كما حصل في حالة المؤذن الذي أذن في العير في قصة يوسف:
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
ومهمة المؤذن هو إيصال الخبر للآخرين. فهذا مؤذن يوسف قد أوصل الخبر للعير الذين كانوا لا يعلمون بذلك الخبر إلا بعد أن أذن المؤذن فيهم.
أو كالمؤذن الذي سيؤذن بين أصحاب الجنة وأصحاب النار:
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
فعلى الرغم أن أصحاب الجنة هم من أطلقوا النداء لأصحاب النار، كان طرفا النداء على علم بالمعلومة (وهو ما وجدوا ما وعدهم ربهم). فأصحاب الجنة يعلمون الآن أنهم قد وجدوا ما وعدهم ربهم (أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا)، وكان أصحاب النار يعلمون ذلك أيضا بدليل جوابهم بالإيجاب (قَالُواْ نَعَمْ). لكن بعد ذلك جاء الخبر من المؤذن بينهم (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) على النحو التالي: أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
والنداء كذلك يحتاج أيضا إلى منادي، كما جاء في قوله تعالى:
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41)
لكن ما يسترعي الانتباه هنا هو ما جاء في آية النداء للصلاة من يوم الجمعة، فدعنا ندقق في الآية الكريمة ذاتها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
لنجد أن الفعل (نُودِي) قد جاء بصيغة المبني للمجهول (كما يصفه النحويون)، ليكون السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن نداء الصلاة من يوم الجمعة ليس طلبا يخص المنادي نفسه. فتلبية النداء ليس من أجل المنادي وإنما من أجل الفعل ذاته (وهو الصلاة). لذا، مادام أن الدعوة قد انطلقت للذين آمنوا أن يسعوا إلى ذكر الله، فعليهم أن يلبوا هذا النداء ليس لحاجة تعود فائدتها على المنادي وإنما تلبية للنداء ذاته. وإذا لم يلبي المنادى عليهم هذا النداء، فإنهم لا محالة محاسبون على عدم تلبية النداء، فكما أن ابن نوح محاسبا على عدم تلبية نداء أبيه، فكل من نودي عليه محاسب على عدم تلبية النداء شريطة أن يكون ذلك بالحق. فالنبي محاسب أن يلبي نداء من ينادونه من وراء الحجرات لو أن المنادين قد صبروا حتى يخرج عليهم، فنداءهم عليه من وراء الحجرات في ذلك الوقت بالتحديد هو ما حال دون اجابته ندائهم عليه في الحال. فلو لم يجب النبي الكريم نداءهم عليه في تلك الساعة وبتلك الطريقة، فهو غير محاسب على ذلك. ولو كان نداء نوح ربه بحق ولده نداء مشروعا، لكانت اجابة الله له في الحال. ولو كان نداء أصحاب النار أصحاب الجنة بأن يفيضوا عليهم من الماء أو مما رزقهم الله نداء مشروعا، لتمت استجابة ندائهم، وهكذا.
نتيجة مفتراة: قد يكون النداء نداء مشروعا (فتتم اجابته في الحال) وقد لا يكون نداء مشروعا (فلا تتم استجابته). وإذا كان نداء مشروعا ولم تتم الاستجابة عليه، فإن المنادي عليه يتحمل المسئولية في ذلك.
السؤال: ماذا نستفيد من ذلك؟
رأينا المفترى: مادام النداء للصلاة من يوم الجمعة هو نداء مشروع، فإن كل من لا يلبي نداء الصلاة من يوم الجمعة من الذين آمنوا مسئول عن عدم الاستجابة، وسيحاسب على ذلك. فاستجابة نداء الصلاة من يوم الجمعة إلزاميا على الذين آمنوا جميعا.
السؤال: ماذا عن الصلوات الأخرى؟
رأينا المفترى: لما لم يأت صريح اللفظ القرآني على صيغة النداء للصلوات الأخرى، فإنه يصبح من باب الآذان، أي الإخبار للسامع بأن وقت الصلاة قد حان، وهو غير ملزم بالحضور إلى المسجد (كما هو ملزم من يوم الجمعة)، فيستطيع (نحن نفتري الظن) بأن يقيم تلك الصلاة في بيته أو في أي مكان آخر. ويصبح القدوم إلى المسجد لإقامة باقي الصلوات غير إلزاميا، محكوما بظروف الشخص واستطاعته على الوصول إلى المسجد. فيصبح ذلك واقعا في باب الاستطاعة.
ولو دققنا في شعيرة الحج، لوجدنا بأن الدعوة إليها قد جاء على شكل آذان:
وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
ومادام أن الدعوة لهذه الشعيرة قد جاءت على نحو آذان، فإن تلبيتها ليست الزامية إذا لم تتوافر الاستطاعة لذلك:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
فالآذان للحج ليست أكثر من دعوة اطلقت لكي تسمعها آذان الناس، ويتطلب الاجابة عليها فقط لمن استطاع إلى ذلك سبيلا.
نتيجة مفتراة: الآذان بمثابة خبر يبثه المؤذن إلى الطرف الآخر (السامع للآذان والمقصود به) ليعلم بالخبر (الرسالة) الموجه له.
عودة على بدء
السؤال: لماذا انطلقت دعوة إبراهيم في الناس بالحج على شكل آذان؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: عندما أذن إبراهيم في الناس بالحج، لم يكن الجمهور الموجه لهم الآذن على علم بخبر أن مكان البيت العتيق قد تكشف لإبراهيم. فتناقله الناس آذان إبراهيم خبرا صاعقا مفاده أن مكان البيت العتيق قد تم العثور عليه، وكما هي حال الناس في كل زمان ومكان، ستكون النتيجة أن من كان منهم يهوي فؤاده (مخيلته) إلى ذلك البيت العتيق قد سارع إلى الذهاب إلى هناك للتحقق من الخبر، للاستفادة منه إن كان الخبر صحيحا. وهنا بدأت أفواج الناس (نحن نتخيل) تأتي البيت العتيق رجالا وعلى كل ضامر تأتي نساؤهم إلى هناك.
وبالفعل تجمع حشد كبير من الناس إلى مكان البيت، لأن صورة البيت العتيق كانت على الدوام في أفئدتهم (مخيالهم)، فكانت أملا يتمنون تحققه على أرض الواقع مع تقلب الزمان، وكان إبراهيم هو من تحقق على يديه هوى أفئدة الناس.
تلخيص ما سبق: كان الناس في زمن إبراهيم على اختلاف في مكان البيت العتيق، فاتخذ كل منهم منسكا هم ناسكوه في مكان ما، وكانت عبادة الأصنام هي الشائعة هناك. وما أن أذن إبراهيم بالناس بالحج (أي نشر الخبر) حتى تناقل الناس خبر اكتشاف مكان البيت في زمن إبراهيم، ولما كانت أفئدة (خيالات) بعض الناس حينئذ تهوى ذلك البيت لمكانته الدينية في تراثهم، سارع الكثير منهم للوصول إليه، لإقامة شعائرهم هناك. وبالفعل سكن كثير من هؤلاء هناك عند من أسكنهم إبراهيم من ذريته، وكانت عبادة الله وحده هي التي سادت في زمن إبراهيم وولده إسماعيل. لكن مع تقادم الزمن، وعادة الناس في تحريف العقائد، عادت عبادة الأصنام شيئا فشيئا إلى ذلك المكان، وكان إبراهيم على علم بأن هذا لا محالة سيحدث في قادم الأيام، لذا جاءت دعوته ربه على النحو التالي:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36)
وللحديث بقية بإذن الله
(دعاء: اللهم أدعوك وحدك أن أكون ممن علمتهم من لدنك علما لا ينبغي لغيري إنك أنت العليم الحكيم. وأدعوك وحدك أن تعلمني ما لم أكن أعلم، وأن تزدني علما وأن تهديني لأقرب من هذا رشدا. وأدعوك وحدك أن تؤتيني رشدي، فأكون من عبادك المحسنين. وأعوذ بك أن أكون ممن يفترون عليك الكذب، أو ممن يقولون عليك ما ليس لهم بحق. وأسألك وحدك أن لا يكون أمري كأمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد، إنك أنت العليم الخبير).
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
4 أيلول 2019