فقه الصيام - الجزء 1
فقه الصيام: الجزء الأول
سنحاول في هذه السلسة من المقالات (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) تقديم رؤية (نظن أنها جديدة) تخص مشروعية الصيام، طارحين كل التساؤلات التي يمكن أن يكون لها علاقة بهذه العبادة العظيمة، لذا سنبدأ النقاش بطرح جملة أولية من التساؤلات، نذكر منها:
- ما هو الصيام؟
- لماذا الصيام؟
- متى الصيام؟
- كم الصيام؟
- على من يجب الصيام؟
- ما هي أحكام الصيام؟
- ما هي الشعائر الأخرى التي ترتبط بالصيام؟
- الخ
- ما هو الصيام؟
- لماذا الصيام؟
- متى الصيام؟
- كم الصيام؟
- على من يجب الصيام؟
- ما هي أحكام الصيام؟
- ما هي الشعائر الأخرى التي ترتبط بالصيام؟
- الخ
وقبل الدخول في تفصيلات هذه التساؤلات في محاولات أولية لتقديم إجابات مفتراة من عند أنفسنا عليها، نجد لزاما أن نعيد التأكيد (كالعادة) أن كل افتراء نتجرأ على تقديمه لا يمكن أن يتجاوز (بأي حال من الأحوال) أن يكون رأيا بشريا قابلا للصواب والخطأ، فلا يظنن أحد أن هذا هو فقه الصيام كما شرعه الله في كتابه العزيز، بل هو فقط فهمنا (نحن) لما نظن أنه تشريع إلهي لفقه الصيام. فنحن نقدم رأيا علميا أكاديميا قابلا للتصحيح على الدوام، ولا نتجرأ على تقديم فتاوى للناس ليأخذوا بها دون تمحيص ولا تدقيق. فمن أراد أن يتخذ كلامنا هذا تشريعا دينينا، فهو وحده المسئول عن ذلك، ونحن على استعداد أن نتبرأ منه في الدنيا قبل أن يتبرأ منا في الآخرة. لذا، نكرر الطلب من القارئ الكريم أن ينظر إلى الرأي المقدم هنا بعين الناقد المتفحص وليس بأذن السامع المقلد، ونتوقع منه أن يحاول إيجاد الخلل حيثما وجد للوقوف عليه، وبالتالي إعادة النظر في المسألة في كل وقت وحين حتى يبين لنا (بحول الله وتوفيقه) صراطه المستقيم الذي ندعو الله مخلصين له الدين أن يهدينا إياه. فالله وحده ندعوه أن يهدينا رشدنا، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله، فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو السميع البصير- آمين.
أما بعد،
الباب الأول: الصيام مطلوب من الذين آمنوا
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
لو دققنا في هذه الآية الكريمة، لوجدنا على الفور بأن الصيام قد كُتب ( بصريح اللفظ القرآني) على الذين آمنوا فقط (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ). ليكون السؤال الذي لا مفر منه الآن هو: كيف يمكن أن نفهم بأن الصيام قد كُتب فقط على "الَّذِينَ آمَنُواْ"؟
افتراء خطير جدا جدا 1: ما دام أن الصيام قد كُتب فقط على الَّذِينَ آمَنُواْ، فهو إذن فعل تعبدي إلزامي للذكور من الرجال.
افتراء خطير جدا جدا 2: الصيام لم يكتب على المؤمنات (الإناث) ولا على الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم
الدليل
نحن نظن أن عبارة "الَّذِينَ آمَنُواْ" (كما ترد في كتاب الله) لا تنطبق (كما نفهمها) إلا على الذكور من المؤمنين، ويأتي الدليل على ذلك – برأينا- من الآيات الكريمة الكثيرة التي تبرز الَّذِينَ آمَنُواْ فقط بأفعال محددة بذاتها، كما في الآية الكريمة التالية مثلا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
فـ "الَّذِينَ آمَنُواْ" هم من ينهاهم الله أن يرثوا النساء كرها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا). أليس كذلك؟ وهم المأمورون بأن لا يعضلوا النساء ليذهبوا ببعض ما آتوهن (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ)، أليس كذلك؟
السؤال: ألا يجبرنا مثل هذا القول الفصل من العزيز الحكيم أن لا نخلط بين الألفاظ؟ ألا يجب علينا أن نقف عند دلالة الألفاظ كما بيّنها الله في كتابه الكريم لا كما تعلمناها في المدارس والجامعات والجوامع ومنابر الخطابة التقليدية؟
رأينا المفترى: إن دقة اللفظ القرآني تدعونا أن نفصل بين الذين آمنوا (من الذكور) من جهة والنساء من جهة أخرى.
نتيجة مفتراة (1): هناك في النص القرآني لفظ "الَّذِينَ آمَنُواْ"
نتيجة مفتراة (2): هناك لفظ النِّسَاء
نتيجة مفتراة (3): جاء النص القرآني ليتحدث عن الَّذِينَ آمَنُواْ من جهة و النِّسَاء من جهة أخرى في الآية نفسها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
ولو تدبرنا الآية الكريمة الأخرى التالية، لوجدنا أن الذين آمنوا هم الذين ينكحوا المؤمنات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
لذا، يستحيل (نحن نفتري القول) أن تكون المؤمنات من ضمن مجموعة الذين آمنوا مادام أن الَّذِينَ آمَنُوا هم من يقومون بفعل نكاح الْمُؤْمِنَاتِ.
ثانيا، لو أن المؤمنات مشمولات ضمن فئة الذين آمنوا (كما يرغب أن يظن أهل الفكر التقليدي)، لأصبح لزاما عليهن (أي على المؤمنات) السعي لذكر الله من يوم الجمعة كما جاء في الآية الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
السؤال: من أين جاء التشريع أن السعي لذكر الله من يوم الجمعة فعل إلزامي بالذكور من الرجال فقط بينما غير إلزامي بالنسبة للنساء والأطفال؟ لم لا نجد النساء على مر التاريخ الإسلامي يشاركن في السعي لذكر الله من يوم الجمعة على سبيل الإلزام كما الرجال؟ فهل يقبل سادتنا العلماء (|أهل الدراية) أن ينطبق اللفظ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" على الذكور والإناث في هذه الآية الكريمة؟ لم تنطلق حناجرهم على الدوام أن هذا الفعل (السعي لذكر الله من يوم الجمعة) لا يشمل النساء في حين أنه إلزامي للذكور من الرجال؟
السؤال المربك: لم لا تنطلق حناجرهم بمثل ذلك في حالة الصيام بالرغم أن الخطاب موجه في الحالتين لنفس الفئة وهم الذين آمنوا بالصيغة اللفظية نفسها (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
أم تراهم يفرقون بين الذين آمنوا في آية الصيام عن الذين آمنوا في حالة السعي إلى ذكر الله من يوم الجمعة؟ من يدري؟!!!
رأينا المفترى: مادام أن المخاطب في الحالتين جاء بصيغة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ"، فإن عقيدتنا التي نؤمن بها تقضي بأن لا نقبل أن يقع الصيام في باب الإلزام على النساء إلا في اليوم الذي يقع الإلزام عليهن كذلك في السعي لذكر الله من يوم الجمعة. فمتى طلب علماؤنا الأجلاء من النساء السعي لذكر الله من يوم الجمعة على سبيل الإلزام (وأعتقد جازما أنهم لن يفعلوا)، يكون الصيام عليهن إلزاميا كذلك. وبخلاف ذلك، تكون تلك عقيدة مشوهة اخترعوها من عند أنفسهم، ما أنزل الله بها من سلطان. انتهى.
نتيجة مفتراة خطيرة جدا: هناك فصل واضح في كتاب الله بين الذين آمنوا (من الذكور) والمؤمنات (من الإناث)، لتكون النتيجة التي نريد أن نعود إليها (وربما لا يرغب أهل الدين أن تقع على مسامعهم) هي أن الصيام قد كتب فقط على الذين آمنوا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
السؤال: هل مطلوب من النساء الصيام على سبيل الإلزام؟
جواب مفترى: كلا، فالصيام بالنسبة للنساء ليس مفروض عليهن فرضا، وإنما هو بالنسبة لهن فعل تطوعي (إن أردن ذلك). فمن شاءت أن تصوم منهن، فلها ذلك، ومن شاءت أن لا تصوم، فلها ذلك، ولا يترتب على عدم صيامها عقوبة، ولكن يترتب على صيامها أجرا عظيما من عند الله:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
ثالثا، لو دققنا في السياق القرآني نفسه، لوجدنا أن الخطاب جاء بصيغة التذكير بدليل الضمائر المستخدمة (مِنكُم، لَّهُ، لَّكُمْ) حتى في حالة تعذر الصيام لسبب كالمرض أو السفر:
أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
ولا نجد أن ضمائر التأنيث (مِنكُنَّ، لَهُنَّ) قد استخدمت في حالة الصيام إطلاقا، بالرغم من ورودها في آيات أخرى في كتاب الله:
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228)
لذا، نحن نتجرأ أيضا على الظن بأن القضاء في حالة تعذر الصيام بسبب المرض أو السفر لا يقع إلا على الرجل المكلّف بالصيام. فالمرأة التي لا تصوم بسبب الدورة الشهرية أو الحمل والوضع مثلا ليس مطلوب منها (نحن نفتري القول) القضاء مادام أن الصيام في الأصل بالنسبة لها يقع في باب التطوع الاختياري وليس التطوع الإلزامي.
رابعا، نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الرجل الذي يطيق الصيام (أي يقدر عليه) يمكن له هو أيضا أن لا يقوم بفعل الصيام، ويستبدل ذلك بالفدية (طَعَامُ مِسْكِينٍ):
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
ولكن التطوع في الصيام هو خير حتى للذين يطيقونه (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (1): الصيام فعل تطوعي مفروض على الرجل، لكن يمكن له (إن كان يطيق الصيام) أن يقدم بدل ذلك الفدية وإن كان الصيام هو خير له.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (2): أما بالنسبة للمرأة فالصيام فعل اختياري يمكن أن تقوم به من أجل الثواب إن هي أرادت، ولكن يمكن لها أن لا تقوم به، وليس مطلوب منها الفدية أو القضاء إن لم تقم بفعل الصيام مادام أن الأمر برمته بالنسبة لها ليس أكثر من فعل اختياري.
الباب الثاني: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
السؤال: ما معنى أن الإنسان يطيق الصيام في قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
رأينا المفترى: نحن نظن أن من يطيق "فعل ما" هو من يستطيع القيام به لكن بحصول المشقة في ذلك، بدليل قوله تعالى:
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
فنحن نظن أن الطاقة تحتمل معنى الاستطاعة على الفعل مع وجود المشقة في ذلك، فلو كان لجنود طالوت طاقة بجالوت وجنوده، لما ترددوا في المواجهة، ولو كان لهم طاقة بهم، لهزموهم بجهدهم الذاتي. ولكن لما لم يكن لهم طاقة بجالوت وجنوده، عبروا عن ذلك صراحة (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ)، فكانوا بحاجة لنجدة تساعدهم في الخروج من هذا المأزق (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
نتيجة مفتراة: فالطاقة تحتاج إلى الصبر للقيام بالفعل لأنها هي – برأينا- القدرة على العمل مع وجود المشقة في ذلك.
استراحة قصيرة: لماذا للبيت الذي نسكن فيه طاقة (نافذة صغيرة مرتفعة)؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نعتقد أن طاقة البيت هي عبارة عن منفذ ضيق وصعب لا يُلجأ إليه إلا في حالة تعذر الخروج من الباب الرئيسي. ولنتصور المشهد على النحو التالي: يكون في البيت فتحة واسعة معروفة للجميع يتم الدخول والخروج منها بسهولة في الحالات الطبيعية وتسمى الباب:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
لكن ربما يكون هناك منافذ جانبية لا تستخدم للدخول والخروج إلى البيت إلا ربما في حالة تعذر استخدام الباب، وهذه تسمى منافذ (كالشباك أو النافذة مثلا)، وقد تسمى أحيانا طاقة، وكلما ارتفعت هذه الفتحة عن الأرض أكثر وضاق اتساعها، كلما أصبحت تعرف أكثر باسم "طاقة" (على الأقل في اللهجة الأردنية)، ولكن لماذا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأنها منفذ صعب لا يلجأ إليه إلا عند تعذر استخدام المنافذ الأخرى كلها. فلو أنت أردت أن تخرج بنفسك أو أن تخرج شيئا من أغراض البيت، لاستخدمت الباب أولا ثم الشباك (النافذة) إن تعذر استخدام الباب. ولو تعذر استخدام الشباك (النافذة) أيضا، لوجدت أن الطاقة هي المنفذ الوحيد على صعوبته.
لذا نحن نتخيل أنه عندما يطيق الشخص منّا شيئا، فإنه يستطيع القيام به لكن ذلك يتطلب منه مشتقة كبيرة، وكذلك (نحن نفتري القول) هو "طياق" الصوم (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ). فمن وجد أنه يستطيع الصيام ولكن ذلك يسبب له المشقة، يكون إذا من الذين يطيقونه، وهنا (نحن لازلنا نفتري الظن) يجوز له الفدية (طعام المسكين)، ولا يطلب منه القضاء في أيام أخر.
السؤال: على من ينطبق هذا السيناريو؟ من الذي يمكن أن يكون من الذين يطيقون الصيام (أي يستطيعون الصيام لكن بمشقة كبيرة)؟
جواب: نحن نظن أن هذا ينطبق على من كانت حرفته (فيها مشقة) دائمة يتعذر معها قضاء الصيام في أيام أخر؟
السؤال: هل لك أن تعطي مثالا على ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: دعنا نتخيل أصحاب الحرف اليدوية الشاقة، كالبناء والخباز مثلا. فكيف يستطيع من كان يعمل في هذه الحرف الشاقة أن يصوم رمضان؟ وكيف له أن يقوم بالقضاء في أيام أخر مادام أن حرفته مستمرة طوال أيام العام؟ فمتى يستطيع أن يصوم ومتى يستطيع أن يقوم بالقضاء؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: مادام الرجل المكلف بالصيام يعمل في حرفة كهذه، فإن الصيام يقع عنده في باب التطوع، فيجوز له (نحن نفتري الظن) أن يقدم الفدية (وهي طعام مسكين عن كل يوم يفطره من أيام الصيام)، ولكن إن كان في إجازة من ذلك العمل كيوم عطلته الأسبوعية مثلا، فيجب عليه الصيام في ذلك اليوم مادام أنه لم يعد من الذين يطيقون الصيام في ذلك اليوم.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الفدية (طعام مسكين) مرتبطة إذن بالطاقة على الصيام، فكلما وجد الشخص نفسه في طاقة أن يصوم، أصبحت الفدية ممكنة (وإن كان التطوع بالصيام هو خير له)، ومتى ذهبت هذه الطاقة، أصبح الصيام واجبا مفروضا عليه.
نتائج مفتراة من عند أنفسنا حتى الآن
- الصيام فرض واجب على الرجال من الذين آمنوا، ويجب القضاء إن تعذر عليهم الصيام بسبب المرض أو السفر
- الصيام تطوعي على الذين يطيقونه من الرجال، فتجوز هنا الفدية ولا يجب القضاء، ولكن الصيام خير له
- لم يكن الصيام إلا فعلا اختياريا على النساء، ولا يجب القضاء في حالة تعذر الصيام بسبب العذر الشرعي كالدورة الشهرية أو كالحمل والوضع.
- الخ.
الباب الثالث: شهادة الشهر
لما كان شهر رمضان هو أيام معدودات، يمكن للإنسان (الرجال من الذين آمنوا) أن يشهد الشهر كله، ويمكن أن لا يشهده كله، ليكون السؤال الآن هو: كيف يتحدث القرآن عن وجوب الصيام على من شهد الشهر (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)؟ ألا يمكن مثلا أن يكون الإنسان في حالة غيبوبة في بداية شهر رمضان ثم يستفيق من غيبوبته في منتصف الشهر أو في آخره، فيشهد من الشهر بعضه وليس كله؟ ثم ألا يمكن أن يكون واع تماما في بداية الشهر ثم يذهب في غيبوبة في منتصفه أو في آخره أو في بعض منه؟ فلماذا جاء النص القرآني على نحو (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ)؟
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
السؤال: فهل يصبح بذلك الصيام مفروضا على من شهد الشهر كله؟ وبكلمات أخرى نحن نسأل: هل يجب عليّ أن أشهد الشهر كله حتى أكون ملزما بصيامه؟ وما المطلوب من الذي شهد بعض الشهر وليس كل الشهر؟
رأينا المفترى: نحن نجد لزاما ضرورة الوقوف عند معنى مفردة الشهر؟ لنطرح السؤال على النحو التالي: كيف يمكن لي أن أشهد الشهر؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نظن أننا قد تعرضنا في مقالات سابقة كثيرة لنا عن معنى مفردة الشهر، وحاولنا التمييز بين مفردة الشهر التي تدل على الشهر الشمسي (أي اليوم والليلة معا) ومفردة الشهر التي تدل على الشهر القمري (دورة القمر كاملة). وزعمنا الظن بأن العربية تميز بين مفردتين للشهر على النحو التالي:
- شهر وتجمع على أشهر، وهذه هي دورة الشهر الشمسي، أي غياب الشمس وظهورها بالكلية، وهذا يحدث كل 24 ساعة مرة واحدة، وينتج عنه اليوم والليلة، فنسمي اليوم والليلة معا (أي الدورة الشمسية كاملة) شهرا.
- شهر وتجمع على شهور، وهذه هي دورة الشهر القمري، أي غياب القمر وظهوره بالكلية، وهذا يحدث كل 29- 30 يوما مرة واحدة، وينتج عنه أشهر العام الاثنا عشر.
(للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته: باب الشهر)
السؤال: ما علاقة هذا كله بقوله تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) في الآية الكريمة التالية؟
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نفتري القول أن هذا ينطبق على الشهر الشمسي (أي اليوم والليلة)، فأنت مطلوب منك (كواحد من الذين آمنوا) الذي يقع عليهم تكليف الصيام أن تصوم كل شهر شمسي أنت تشهده فقط. ولا يطلب منك أن تصوم الشهر الشمسي الذي لم تشهده.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن هذا يتطلب منا معرفة كيفية أن نشهد الشهر، فمتى يمكن أن يعتبر الإنسان قد شهد شهرا من رمضان؟ ومتى يعتبر غير شاهد لشهر من رمضان؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن شهر رمضان يبدأ من بعد صلاة المغرب مباشرة:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
فلو تدبرنا هذه الآية الكريمة، لوجدناها أنها قد ابتدأت بالحديث عن ليلة الصيام التي أحل الله لنا فيها الرفث إلى نسائنا (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ)، ويشرع لنا فيها أن نأكل ونشرب حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)، ثم انتقلت لتبيان أن الصيام يبدأ من هناك، فنتوقف عن الأكل والشرب وعن مباشرة النساء، حتى نتم الصيام إلى الليل. فيكون بذلك قد تم شهر واحد من أشهر رمضان، أي شهر شمسي واحد (ليلة ويوم معا). وهكذا يتكرر الشهر الشمسي الثاني والثالث والرابع، الخ. حتى ينتهي شهر رمضان القمري كله.
السؤال: متى إذن تشهد شهر رمضان (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)؟
جواب مفترى: إن شهادة شهر رمضان الشمسي تبدأ من الليل، وهناك تبدأ ليلة الصيام التي يجوز لنا فيها أن نرفث إلى النساء وأن نأكل ونشرب في تلك الليلة على نية الصيام (أي الامتناع عن ما كنا نفعل في ليلة الصيام) عندما يتبين لنا الخيط الأبيض والأسود من الفجر حتى نتم الصيام إلى الليل، وفي هذه الحالة يكون المؤمن المكلف بالصيام قد شهد شهرا واحدا من رمضان، فوجب عليه أن يصومه، ويتكرر السيناريو نفسه في كل شهر شمسي (ليلة ويوم معا) طوال شهر رمضان القمري كله.
نتيجة مفتراة: شهر الصيام يبدأ من ليلة الصيام (أي بعد آذان المغرب) ويستمر إلى الليل (آذان المغرب) من الشهر الثاني. وليس أدل على ذلك من مراقبة هلال شهر رمضان وما يسمى بصلاة التراويح، فما أن يظهر هلال شهر رمضان من ليلة الصيام من الشهر الأول للصيام حتى يكون ذلك هو شهادة الشخص على الشهر الأول، وهكذا في الشهر الثاني والثالث إلى نهاية آخر شهر (شمسي) من شهر رمضان (القمري). ويقوم المسلمون بصلاة التراويح في أول ليلة من رمضان ويتوقفون عن ذلك في آخر ليلة بعد رمضان (التي ستكون صبيحتها هو يوم العيد).
السؤال: لماذا؟
جواب: دعنا نتصور السيناريو التالي: تخيل لو أنك كنت في غيبوبة خلال شهر شمسي واحد من رمضان، ثم استيقظت من هذه الغيبوبة في نهار رمضان، فهل يعتبر ذلك شهر من أشهر رمضان التي وجب عليك صيامه؟ وماذا لو أنك بدأت تصوم من الساعة الثانية عشر ظهرا عندما استفقت من غيبوبتك، فهل يعتبر ذلك شهر من أشهر رمضان التي شهدتها؟
جواب مفترى، كلا وألف كلا، فحتى يحسب لك أنك قد صمت شهرا من أشهر رمضان الشمسية، وجب عليك (نحن نفتري الظن) أن تشهد ليلة الصيام السابقة لبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وتكون قد عقدت النيّة على صيام ذلك الشهر متى ما تبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ولعلي أكاد أجزم الظن أن توافر النية المسبقة في الصيام التي اختلف فيها أهل العلم قد جاءت من هذا الباب، أي أن تكون قد شهدت شهر الصيام (من ليلة الصيام) وليس أن تشهد فقط يوم الصيام أو ليلة الصيام فقط، فالصيام يحسب للمسلم بالشهر (اليوم والليلة معا). وشهر الصيام يبدأ (كما بدأت الآية الكريمة السابقة) بليلة الصيام ثم يمتد إلى يوم الصيام حتى الليل، حيث يبدأ الشهر الثاني وهكذا بالنسبة للشهر الثالث والرابع والخامس حتى الشهر التاسع والعشرين أو الثلاثين منه. وما أن تتم تلك الأشهر كلها حتى يكون شهر الصيام القمري كله قد تم.
الباب الرابع: تحديد وقت الإمساك والإفطار في شهر رمضان
لو تتبعنا السياقات القرآنية التي تتحدث عن الصيام، لوجدنا الآية الكريمة التالية تحدد لنا الفترة الزمنية التي يجب علينا أن نصوم فيها، قال تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
لنخرج بنتيجة قلما يستطيع أحد أن يجادل فيها تتمثل في أن الصيام يبدأ مع تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وينتهي مع بداية الليل:
وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ
لكن بالرغم من وضوح مفردات الآية الكريمة التي تدل على بداية الصيام (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ونهايته (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)، إلا أنّ أهل العلم قد اختلفوا في تحديد هذه الأوقات على أرض الواقع. فوضوح اللفظ في الآيات الكريمة لم ينعكس على التطبيق العملي على أرض الواقع بسبب كثرة آراء أهل العلم حول تفسيرات هذه المفردات القرآنية ودلالتها الحقيقية على أرض الواقع.
ولكن بالرغم من الاختلافات الفقهية بين أهل العلم، ظلّ الناس يطبقون هذا التشريع الإلهي بفطرتهم السليمة، فيحرصون على الصيام بأفضل طريقة ممكنة. فأخذوا يتحرزون الدقة في الإمساك في الفجر وكذلك في الإفطار مع بداية الليل.
لكن ما يجب التنبيه له هو أن الناس لم تعهد الدقة في تحديد الوقت في كل الأزمان والعصور، فاختراع الساعة اليدوية لم يبدأ مع الرسالة الدينية، فكان الناس يلجئون إلى أساليب بدائية في تحديد وقت الفجر ووقت الغروب. ولا شك أن المناخ كان حاسما في كثير من الأحيان، فتحديد الوقت في نهار الصيف ولياليه أكثر سهولة من تحديده في الشتاء خاصة عندما تتكبد السماء بالغيوم متغيرة الألوان.
وقد تعرضنا لهذه الجزئية في واحدة من مقالاتنا السابقة وافترينا الظن بأن هناك طريقة طبيعية للتغلب على عوامل الطقس في تحديد وقت الفجر ووقت الغروب حتى في أشد أيام وليال الشتاء المعتم. وكان افتراؤنا حينئذ هو أن هناك في الطبيعة كائنات لا يمكن أن يفوتها وقت الفجر ووقت الغروب وذلك لأن هذا هو وقت تسبيحها، وأخص بالذكر هنا الطيور التي تطير بجناحيها.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
فالطير تبدأ يومها مع طلوع الفجر، فتصطف معا وتنطلق أصواتها بالتسبيح بحمد ربها، وإن كنا لا نفقه ذلك التسبيح:
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
وما أن تنهي اصطفافها الصباحي وتسبيحها حتى تنطلق في البلاد متفرقات تبحث عن رزقها.
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن وقت الإمساك عن الطعام والشراب وشهوة الجنس في يوم رمضان تبدأ مع بيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وهو الوقت الذي تصطف فيه الطيور لتبدأ يومها بالتسبيح بحمد ربها.
عندما ينتهي اليوم ويبدأ ظلام الليل بالاقتراب تبدأ هذه الطيور رحلة العودة إلى مساكنها، فتتجمع وتصطف معا من جديد في تسبيحها الثاني بحمد ربها، فتنطلق أصواتها من جديد في التسبيح الجماعي الذي لا نفقهه، لتحمد ربها من جديد على ما رزقها في يومها هذا.
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن وقت الإفطار في رمضان يبدأ مع بداية الليل، وهو الوقت الذي تعود فيه الطيور إلى مساكنها مع قدوم الليل
ولا شك عندنا أن هذه الكائنات الحية (أي الطيور التي تطير بجناحيها) مزودة بنظام توقيت لا يمكن أن تخدعه عوامل المناخ. فالطير يستطيع أن يحدد طلوع الفجر كما يستطيع أن يحدد بداية الليل بكل دقة ويسر، فلا مجال للخطأ في ذلك. ولو بحث أهل العلم عن هذه الساعة البيولوجية في الطيور، لوجدوها، ويمكن أن يستفيدوا منها أكثر من استفادتهم من الساعات الرقمية التي صنعها البشر في عصر التكنولوجيا الحديثة.
الباب الخامس: باب إتمام الصيام إلى الليل
قال تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
السؤال: ما معنى إتمام الصيام إلى الليل؟ هل يجوز الإفطار بمجرد سماع آذان المغرب؟ هل رفع الآذان لصلاة المغرب يقع في الليل؟ الخ
افتراء خطير جدا جدا (لا تصدقوه): نحن نظن (مخطئين) أنه يمكن للصائم أن يفطر في أي وقت شاء لكن هذا يجعله ممن لم يتم الصيام إلى الليل. انتهى.
السؤال: لم أفهم ما تريد قوله؟ هل يمكن توضيح ذلك أكثر؟ يطلب صاحبنا على عجل.
حسنا، لكن قبل الدخول في جلب الدليل على هذا الافتراء الخطير جدا (الذي هو لا شك من عند أنفسنا)، دعنا نحاول الوقوف على معنى مفردة أَتِمُّواْ التي نظن أنها مفتاح الفهم في هذا الموضوع. لذا، وجب الوقوف على معناها بشكل جلي قبل المضي قدما في نقاش نظن أن طريقه محاطة بالألغام الخطيرة التي يجب أن نكون على حذر للخروج منها سالمين بإذن الله.
أما بعد،
لقد حاولنا في الجزء السادس والثلاثين من سلسلة مقالاتنا تحت عنوان "قصة يونس" التفريق بين معنى الإتمام من جهة والإكمال من جهة أخرى كما جاء في الآية الكريمة التالية:
... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)
ولا أجد ضيرا في إعادة الخطوط العريضة للتفريق بين المفردتين من أجل الوقوف على معنى إتمام الصيام إلى الليل الذي هو موضوع النقاش هنا. ولنبدأ بالتساؤلات التالية:
- ما معنى إكمال الدين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؟
- ما معنى إتمام النعمة (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)؟
- لماذا جاء الدين بلفظ الإكمال؟
- لماذا جاءت النعمة بلفظ الإتمام؟
- الخ.
افتراء خطير جدا 1: نحن نظن أن إكمال الشيء يعني عدم النقص فيه أو الزيادة عليه.
افتراء خطير جدا 2: نحن نظن أن الإتمام يحتمل الزيادة والنقص.
الدليل
بداية، دعنا نجلب مثال العدة، لنطرح التساؤل التالي: هل المطلوب إتمام العدة أم إكمال العدة؟
جواب مفترى: لو دققنا في الآية الكريمة التالية التي تبين لنا العدة المطلوبة:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
لوجدنا على الفور أن هناك عدّة مطلوب من الشخص إكمالها (وليس إتمامها)، وذلك لأن العدة (لا محالة) محددة بعدد ثابت، فلا يمكن أن تكون كاملة لو أنها أُنقصت يوما واحد.
وهذا المنطق ذاته ينطبق في حالة الصيام في الحج وبعد الرجوع منه. فمطلوب ممن تمتع بالحج إلى العمرة أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع، فتكون بذلك عشرة كاملة:
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
فلا يمكن إذن أن تكتمل الفترة إلا بصيام عشرة كاملة (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، فلو صام من تمتع بالعمرة إلى الحج تسعة أيام، لما أكتمل المطلوب، ولا يجوز أن يصوم أكثر من ذلك، لأن ذلك يصبح زيادة على المطلوب، أي كمن يصلي خمس ركعات بدلا من أربعة، فهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال، لأن المطلوب هو حالة الاكتمال.
ولا تكتمل الرضاعة إلا بالحولين الكاملين:
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
والكافرون يحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة، فلا ينقص منها شيء، ولا يزاد عليها مثقال ذرة، وإلا لأصبح ذلك ظلما للعباد:
لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25)
ونحن لا ننعت البدر بالاكتمال كأن نقول (اكتمل البدر) إلا عندما يصل إلى المرحلة التي لا يمكن أن يزاد فيها شيء. فيبقى القمر غير كامل حتى يصبح بدرا، فبعد ذلك يتعذر الزيادة فيه، بل يعود مرة أخرى إلى مرحلة التناقص بعد أن يكون قد اكتمل.
وإذا ما كنت جالسا في امتحان في قاعة الدرس، وقمت بتسليم ورقة الإجابة إلى المدرس، فأنت بذلك تكون قد أكملت الامتحان، لأنه من الاستحالة (في الوضع الطبيعي) أن تعاد إليك ورقة الامتحان لتضيف إليها شيئا جديدا. فتسليم ورقة الامتحان للمراقب على الامتحان يعني أنك وصلت إلى مرحلة لا يمكن الزيادة على ما كتبت.
نتيجة مهمة: الاكتمال يعني وصول المرحلة التي لا يمكن الزيادة عليها.
أما الإتمام - بالمقابل- فهو قابل للزيادة حتى وإن وصلت إلى مرحلة التمام.
الدليل
لا شك أننا جميعا نتمتع بنعمة الله علينا، فنعمة الله أصابتنا جميعا، لكننا نعلم يقينا أننا لا نستطيع أن نحصي نعمة الله:
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)
فمهما تحصلت لك من هذه النعمة (بغض النظر عن عددها)، فإن نعمة الله تكون قد تمت عليك، لكن ذلك لا يعني أن هذه النعمة لا تزاد. فقد تكون نعمة الله تامة عليك، فتصيبك نعمة أخرى، فيكون ذلك من فضل ربك عليك. وتبقى النعمة دائمة الزيادة فيها مادام أننا لا نستطيع أن نحصي نعمة الله، وبذلك تكون النعمة قابلة للإتمام على الدوام.
نتيجة مفتراة: الإتمام لا يعني الوصول إلى مرحلة نهائية مادامت قابلة للزيادة دائما.
(ملحوظة: للأمانة العليمة أود أن أؤكد بأن مثل هذا التفريق بين معنى الإكمال والإتمام قد سمعته من الأستاذ الكبير فاضل السامرائي الذي هو عندنا أستاذ كبير، ولغوي من الطراز الأول الذي يعتد كثيرا بكلامه)
وليس أدل على أن الإتمام قابل للزيادة من هذا الحوار الذي دار بين موسى وشعيب:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
فالأجل المتفق عليه الذي لا يجوز لطرف منهما أن يخل به هو ثماني حجج، لكن كان بمقدور موسى (إن هو رغب في ذلك) أن يتمم ذلك الأجل، فيصبح عشر حجج بدلا من ثمانية. ولو كان الاتفاق المسبق بينهما على عشرة حجج فقد لا زيادة فيها ولا نقص، لكانت تلك عشر حجج كاملة.
السؤال: كيف يمكن الاستفادة من هذه الأفهام في قضية إتمام الصيام إلى الليل كما جاء في قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ):
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
السؤال بطريقة أخرى: لماذا قال الله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)؟ لماذا لم يقل (ثم أكملوا الصيام إلى الليل)؟
جواب مفترى: لا شك عندنا أن الإفطار من الصيام يحصل في وقت محدد، وهو وقت قدوم الليل (أي عند صلاة المغرب)، لكن لمّا كان الله قد طلب منا إتمام الصيام إلى الليل، فإن هناك فسحة وافرة في الزيادة في وقت الصيام حتى تتحقق من قدوم الليل. فيمكن للإنسان أن يفطر مباشرة عند أذان المغرب (كما تفعل الغالبية الساحقة من أبناء المسلمين)، لكن هذا لا يقع في باب إتمام الصيام. فمن أفطر مباشرة مع آذان المغرب، فهو قد صام إلا أنه لم يتم صيامه إلى الليل. فقد جاء الطلب الإلهي منّا أن نتم الصيام إلى الليل، فمن المستحب إذن (وربما من الواجب علينا) أن لا يفطر الصائم مباشرة عند أذان المغرب، بل عليه أن يحاول إتمام الصيام (أي الزيادة فيه قليلا) للتحقق من بلوغ الليل. فهذه الزيادة القليلة (وإن كانت دقائق معدودة) تقع في باب إتمام الصيام. ويستحيل – نحن نرى – أن يأتي النص على نحو (ثم أكملوا الصيام إلى الليل) لأن ذلك يصبح وقتا محددا لا يمكن الزيادة فيه، وهذا غير ممكن لأن الله قال عند الحديث عن الليل (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ):
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)
فما دام أننا لن نستطيع أن نحصي الليل والنهار، فإننا لن نكون قادرين على تحديد اللحظة التي يكتمل فيها الليل أو النهار، لذا لا يمكن أن يطلب الله منا (نحن نفتري القول) أن نفطر باكتمال النهار وبدء الليل، لذا جاء الطلب الإلهي على نحو أن نتم الصيام إلى الليل.
رسالة إلى العامة من الناس: نحن نرى أن من واجب المسلم الذي يريد أن يلتزم بالطلب الإلهي (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) أن يتحرى قدوم الليل، فلا ضير أن ينتظر دقائق معدودة بعد أذان المغرب، ليفطر من صيامه، ويكون بذلك قد أتم الصيام إلى الليل. ولعل أفضل طريقة إلى ذلك تتمثل (نحن نرى) في أن يقوم المسلم بتأدية صلاة المغرب التي يقع وقتها في زلفا من الليل، ثم ما أن ينهي صلاته حتى يكون بذلك قد ضمن إلى حد كبير حلول الليل، فيظفر بالأجرين، أجر الصلاة على وقتها، وأجر إتمام الصيام إلى الليل. والله أعلم.
ولعلي أكاد أجزم الظن بأن مثل هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا يحل إشكالات عديدة مثل صيام المرأة والطفل والمسافر والمريض ومن يسكن البلاد التي يطول فيها النهار عن الحد الطبيعي. وهو ما سنتعرض له لاحقا بإذن الله وتوفيق منه، فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو العليم الحكيم.
الباب السادس: الحكمة من الصيام
لو تدبرنا الآية الخاصة بإلزامية الصيام للمؤمنين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
لوجدنها تتحدث أن ذلك قد حصل على نحو أنه قد كُتِب على الَّذِينَ آمَنُواْ كتابة كما كتب على الذين من قبلنا، وأن الهدف من ذلك احتمالية حصول التقوى:
ولو أمعنا في هذه الآية الكريمة، لربما وجب علينا أن نطرح عدة تساؤلات، نذكر منها:
- لماذا كتب الصيام على الذين آمنوا؟
- لماذا كُتب علينا كما كُتب على الذين من قبلهم؟
- ومن هم الذين قبلنا الذين كُتب عليهم الصيام؟
- متى كان ذلك؟ أي متى حصلت الكتابة؟
- من الذي كتبها على الذين آمنوا؟
- كيف يمكن أن تتحقق التقوى من الصيام؟
- الخ
المبحث الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
افترينا الظن في بداية هذه المقالة بأن الصيام إلزامي على البالغين المكلفين من الرجال، القادرين على الرفث إلى النساء:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
فالصيام مكتوب على من بلغ مرحلة القدرة على الرفث إلى النساء، لذا فهو مكتوب فقط على البالغين المكلفين من الذكور. أما صيام المرأة والطفل، فهو يقع في باب الزيادة في الأجر، لأن الصيام لم يكتب على الأطفال ولا على النساء. انتهى.
لكن دعنا نذهب إلى أبعد من ذلك، فنجلب الآيات الكريمة التالية:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
لماذا جاء الأمر للأهل بالصلاة (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ) على وجه التحديد ثم بالزكاة (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)؟ فأين أمر الأهل بالصيام أو بالحج؟ هل نجد أحدا من الرسل كان يأمر أهله بالصيام؟ نحن نسأل.
جواب مفترى: على الأقل أنا لم أجد ذلك في كتاب الله، وعلى من يجده أن يهديني إليه وله مني الثناء والشكر، ومن الله الأجر بإذنه، إنه هو السميع المجيب.
السؤال: ما المطلوب من النساء إذا؟ يرد صاحبنا مستغربا.
وقد يرد صاحبنا مستغربا على النحو التالي: لا نجد آية في كتاب الله تحرم على النساء القتل أو شرب الخمر أو الإفساد في الأرض، فهل يعني (حسب منطقك) أن النساء يستطعن القيام بذلك دون مخالفة للشرع؟
رأينا المفترى: كلا وألف كلا. فالمطلوب من النساء المؤمنات هو ما جاء في الآية الكريمة التالية التي تبين ما بايعن النبي الكريم عليه:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)
إذن، كانت مبايعة المؤمنات للنبي على الشروط التالية:
- أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا
- وَلَا يَسْرِقْنَ
- وَلَا يَزْنِينَ
- وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ
- وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ
- وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
وهنا يجدر الإشارة إلى أن كل الأعمال التي يطلب من المرأة أن لا تقوم بها لأنها تخالف الشرع (كالخمر والميسر والأنصاب والأزلام) تقع – برأينا- في باب الشرط الأخير في المبايعة، ألا وهو (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ). فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، مطلوب منا أن نجتنبه، ومطلوب كذلك من المرأة أن تجتنبه لأنها بخلاف ذلك تكون قد عصت بما هو معروف، الأمر الذي قد يخرجها من دائرة الإيمان كليا إن هي لم تلتزم بما هو معروف.
السؤال: وكيف ذلك؟ كيف نعلم أن امرأة ما هي من المؤمنات التي لا تعصي في معروف؟
جواب مفترى: علينا أن نمتحنهن لنعلم بإيمانهن؟
السؤال: وكيف نمتحنهن؟
جواب مفترى: كما جاء في الآية الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
لو تدبرنا هذه الآية الكريمة جيدا، لوجدنا بأنها تبين لنا ضرورة (لا بل إلزامية) امتحان النساء لنعلم أنهن مؤمنات (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ).
افتراء خطير جدا جدا 1: لابد من امتحان النساء لنعلم أنهن مؤمنات
تساؤلات مثيرة:
- كيف يتم الامتحان؟
- من الذي يكتب الأسئلة؟
- ما هي مادة الامتحان المقررة؟
- ما هي الموضوعات المطلوب من النساء الدراسة عليها؟
- من الذي سيصحح الامتحان؟
- متى وقت كتابة الامتحان ووقت تقدمه؟
- ما طبيعة الامتحان: نظري أم عملي؟
- متى تظهر النتائج؟
- الخ.
إذن، نحن بحاجة أن نتوقف عند هذه الجزئية بعضا من الوقت لنعلم كيف لنا أن نمتحن المؤمنات من النساء. ولعلي أكاد أجزم الظن بأن في هذا الأمر خيرا كثيرا للطرفين: الرجل والمرأة. فامتحان المرأة يعطي صورة حقيقية للرجل، يستطيع بناء على ذلك، اتخاذ قرارات صائبة بإذن الله. ولا شك أن معرفة ماهية هذا الامتحان مقدما تعطي المرأة فرصة حقيقية أن تجتاز هذا الامتحان بكل يسر وسهولة إن هي أرادت ذلك، أي إن أرادت أن تكون حقا من المؤمنات.
السؤال: ما هي طبيعة هذا الامتحان الذي يعقد للنساء لمعرفة المؤمنات منهن حقا؟
رأينا المفترى: لا شك عندنا أن العلاقة بين المؤمنين من جهة والمؤمنات من جهة أخرى هي علاقة بين طرفين، يتعين على طرف أن يكون طرف أعلى درجة من طرف آخر. ولا شك أن للرجال على النساء درجة:
... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228)
وبذلك تحققت القوامة للرجل على النساء:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
السؤال: ما متطلبات هذا التفضيل؟
رأينا المفترى: بداية، يجب أن نفهم بأن التفضيل – كما أسلفنا في أكثر من مقالة سابقة لنا- لا يعني الخيرية، وإنما ازدياد في المهام الموكلة للطرف المفضل.
فالله قد فضل بني إسرائيل على العالمين لأنه (نحن نرى) قد أوكل لهم مهام لم يوكلها لغيرهم من العالمين، فتضاعفت مسؤولياتهم.
فالله هو من فضل بعض الرسل على بعض بالرغم أنه لا تفريق بينهم، وذلك لأن الرسل المفضلين هم من أوكلت لهم مهام إضافية، فتضاعفت مسؤولياتهم، وهكذا. (للتفصيل انظر مقالاتنا السابقة)
إن ما يهمنا طرحه هنا هو أن تفضيل الرجال على النساء (بالقوامة) يعني مضاعفة مسؤوليات الرجل مقابل مسئوليات المرأة.
السؤال: كيف يقوم كل بدوره بنجاح؟
رأينا المفترى: إذا حصل الانسجام بين الطرفين، فعرف كل طرف حدود مسئولياته، وأقر للآخر بمسئولياته.
السؤال: وكيف يمكن أن نستكشف هذا الانسجام بين الطرفين؟
جواب مفترى خطير جدا: نحن نظن أن امتحان العلاقة بين طرفين (لمعرفة ماهية هذه العلاقة بينهما) تتحقق بما جاء في الآية الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
فهذه الآية الكريمة تبين طبيعة العلاقة بين النبي الكريم من جهة والمؤمنين من حوله من جهة أخرى. كما تبين حصول الامتحان لقلوب من هم حول النبي لبيان طبيعة هذه العلاقة من قبل كل شخص اتجاه النبي الكريم حينئذ.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نعلم يقينا بأن طاعة النبي واجبة، فإذا ما قضى أمرا، فلا يحق لمؤمن ولا مؤمنة بعد ذلك أن يكون لهم الخيرة، ولا يحق لمن حوله أن لا يطيعه في شيء. واقرأ – عزيزي القارئ الكريم – الآيات الكريمة التالية:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)
إذن، لابد من معرفة المؤمن من غير المؤمن من الرجال والنساء ممن هم حول الرسول، فكيف كان يعرف المؤمن من غير المؤمن منهم؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: بامتحان قلوبهم (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الآية الكريمة التالية ترشدنا إلى طرقة امتحان المؤمن من غير المؤمن:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
السؤال: ما الذي تفهمه من ذلك؟
افتراء خطير جدا جدا: نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأن معرفة المؤمن من غير المؤمن تنطوي على وجود عنصرين اثنين فقط، ألا وهما:
- عدم رفع الصوت (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)
- عدم الجهر بالقول (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)
افتراء خطير جدا جدا: بخلاف ذلك (أي إذا حصل رفع الصوت فوق صوت النبي أو الجهر له بالقول) فإنه سيؤدي إلى أن يحبط عمل المؤمن كله (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).
إذن، كان لزاما على من كان من المؤمنين من حول النبي أن يكون متبعا للرسول، لكن لا يمكن أن يصل درجة الإيمان الحقيقي إلا أن يكون من الذين:
- لا يرفعون أصوتهم فوق صوت النبي، و
- لا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض،
- لأنه بخلاف ذلك ستحبط أعمالهم وهم لا يشعرون.
وقد جاء ذلك جليا في قوله تعالى:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)
فالفرق بين الأعرابي المسلم والأعرابي المؤمن هو طاعة الله ورسوله التي إن تحققت لا يلتهم من أعمالهم شيئا، أي لا يحبط منها شيئا. أما عدم طاعة الرسول (التي هي أصلا طاعة لله)، فإنها تؤدي إلى أن تحبط أعمال الشخص وهو لا يعلم:
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)
هناك إذا فرق بين من كان يطيع الرسول حقا مقابل من كان يقول فقط طاعة وهو في الحقيقة يبيت في نفسه غير الذي يقول بفيه.
السؤال: مرة أخرى: كيف يمكن تمييز الذي يطيع الرسول حقا من الذي يطيع الرسول نفاقا (أي فقط يقول طاعة)؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الذي يطيع الرسول هو من التزم بغض صوته عند الرسول، فيكون من الذين امتحن الله قلوبهم بالإيمان.
السؤال: وما هي ماهية عض الصوت عند رسول الله؟
رأينا المفترى: نحنن نظن أن غض الصوت تتمثل في أمرين أثنين، وهما:
- عدم رفع الصوت فوق صوت النبي
- عدم الجهر بالقول له كجهر بعضكم لبعض.
السؤال: وما الفرق بين رفع الصوت فوق صوت النبي وعدم الجهر له بالقول؟
رأينا المفترى: دعنا بداية نستعرض ما جاء في واحدة من أمهات كتب التفسير كتفسير الطبري مثلا، الذي جاء فيه عن هذه الآية الكريمة:
أما بعد،
الباب الأول: الصيام مطلوب من الذين آمنوا
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
لو دققنا في هذه الآية الكريمة، لوجدنا على الفور بأن الصيام قد كُتب ( بصريح اللفظ القرآني) على الذين آمنوا فقط (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ). ليكون السؤال الذي لا مفر منه الآن هو: كيف يمكن أن نفهم بأن الصيام قد كُتب فقط على "الَّذِينَ آمَنُواْ"؟
افتراء خطير جدا جدا 1: ما دام أن الصيام قد كُتب فقط على الَّذِينَ آمَنُواْ، فهو إذن فعل تعبدي إلزامي للذكور من الرجال.
افتراء خطير جدا جدا 2: الصيام لم يكتب على المؤمنات (الإناث) ولا على الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم
الدليل
نحن نظن أن عبارة "الَّذِينَ آمَنُواْ" (كما ترد في كتاب الله) لا تنطبق (كما نفهمها) إلا على الذكور من المؤمنين، ويأتي الدليل على ذلك – برأينا- من الآيات الكريمة الكثيرة التي تبرز الَّذِينَ آمَنُواْ فقط بأفعال محددة بذاتها، كما في الآية الكريمة التالية مثلا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
فـ "الَّذِينَ آمَنُواْ" هم من ينهاهم الله أن يرثوا النساء كرها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا). أليس كذلك؟ وهم المأمورون بأن لا يعضلوا النساء ليذهبوا ببعض ما آتوهن (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ)، أليس كذلك؟
السؤال: ألا يجبرنا مثل هذا القول الفصل من العزيز الحكيم أن لا نخلط بين الألفاظ؟ ألا يجب علينا أن نقف عند دلالة الألفاظ كما بيّنها الله في كتابه الكريم لا كما تعلمناها في المدارس والجامعات والجوامع ومنابر الخطابة التقليدية؟
رأينا المفترى: إن دقة اللفظ القرآني تدعونا أن نفصل بين الذين آمنوا (من الذكور) من جهة والنساء من جهة أخرى.
نتيجة مفتراة (1): هناك في النص القرآني لفظ "الَّذِينَ آمَنُواْ"
نتيجة مفتراة (2): هناك لفظ النِّسَاء
نتيجة مفتراة (3): جاء النص القرآني ليتحدث عن الَّذِينَ آمَنُواْ من جهة و النِّسَاء من جهة أخرى في الآية نفسها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
ولو تدبرنا الآية الكريمة الأخرى التالية، لوجدنا أن الذين آمنوا هم الذين ينكحوا المؤمنات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
لذا، يستحيل (نحن نفتري القول) أن تكون المؤمنات من ضمن مجموعة الذين آمنوا مادام أن الَّذِينَ آمَنُوا هم من يقومون بفعل نكاح الْمُؤْمِنَاتِ.
ثانيا، لو أن المؤمنات مشمولات ضمن فئة الذين آمنوا (كما يرغب أن يظن أهل الفكر التقليدي)، لأصبح لزاما عليهن (أي على المؤمنات) السعي لذكر الله من يوم الجمعة كما جاء في الآية الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
السؤال: من أين جاء التشريع أن السعي لذكر الله من يوم الجمعة فعل إلزامي بالذكور من الرجال فقط بينما غير إلزامي بالنسبة للنساء والأطفال؟ لم لا نجد النساء على مر التاريخ الإسلامي يشاركن في السعي لذكر الله من يوم الجمعة على سبيل الإلزام كما الرجال؟ فهل يقبل سادتنا العلماء (|أهل الدراية) أن ينطبق اللفظ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" على الذكور والإناث في هذه الآية الكريمة؟ لم تنطلق حناجرهم على الدوام أن هذا الفعل (السعي لذكر الله من يوم الجمعة) لا يشمل النساء في حين أنه إلزامي للذكور من الرجال؟
السؤال المربك: لم لا تنطلق حناجرهم بمثل ذلك في حالة الصيام بالرغم أن الخطاب موجه في الحالتين لنفس الفئة وهم الذين آمنوا بالصيغة اللفظية نفسها (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
أم تراهم يفرقون بين الذين آمنوا في آية الصيام عن الذين آمنوا في حالة السعي إلى ذكر الله من يوم الجمعة؟ من يدري؟!!!
رأينا المفترى: مادام أن المخاطب في الحالتين جاء بصيغة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ"، فإن عقيدتنا التي نؤمن بها تقضي بأن لا نقبل أن يقع الصيام في باب الإلزام على النساء إلا في اليوم الذي يقع الإلزام عليهن كذلك في السعي لذكر الله من يوم الجمعة. فمتى طلب علماؤنا الأجلاء من النساء السعي لذكر الله من يوم الجمعة على سبيل الإلزام (وأعتقد جازما أنهم لن يفعلوا)، يكون الصيام عليهن إلزاميا كذلك. وبخلاف ذلك، تكون تلك عقيدة مشوهة اخترعوها من عند أنفسهم، ما أنزل الله بها من سلطان. انتهى.
نتيجة مفتراة خطيرة جدا: هناك فصل واضح في كتاب الله بين الذين آمنوا (من الذكور) والمؤمنات (من الإناث)، لتكون النتيجة التي نريد أن نعود إليها (وربما لا يرغب أهل الدين أن تقع على مسامعهم) هي أن الصيام قد كتب فقط على الذين آمنوا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
السؤال: هل مطلوب من النساء الصيام على سبيل الإلزام؟
جواب مفترى: كلا، فالصيام بالنسبة للنساء ليس مفروض عليهن فرضا، وإنما هو بالنسبة لهن فعل تطوعي (إن أردن ذلك). فمن شاءت أن تصوم منهن، فلها ذلك، ومن شاءت أن لا تصوم، فلها ذلك، ولا يترتب على عدم صيامها عقوبة، ولكن يترتب على صيامها أجرا عظيما من عند الله:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
ثالثا، لو دققنا في السياق القرآني نفسه، لوجدنا أن الخطاب جاء بصيغة التذكير بدليل الضمائر المستخدمة (مِنكُم، لَّهُ، لَّكُمْ) حتى في حالة تعذر الصيام لسبب كالمرض أو السفر:
أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
ولا نجد أن ضمائر التأنيث (مِنكُنَّ، لَهُنَّ) قد استخدمت في حالة الصيام إطلاقا، بالرغم من ورودها في آيات أخرى في كتاب الله:
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228)
لذا، نحن نتجرأ أيضا على الظن بأن القضاء في حالة تعذر الصيام بسبب المرض أو السفر لا يقع إلا على الرجل المكلّف بالصيام. فالمرأة التي لا تصوم بسبب الدورة الشهرية أو الحمل والوضع مثلا ليس مطلوب منها (نحن نفتري القول) القضاء مادام أن الصيام في الأصل بالنسبة لها يقع في باب التطوع الاختياري وليس التطوع الإلزامي.
رابعا، نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الرجل الذي يطيق الصيام (أي يقدر عليه) يمكن له هو أيضا أن لا يقوم بفعل الصيام، ويستبدل ذلك بالفدية (طَعَامُ مِسْكِينٍ):
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
ولكن التطوع في الصيام هو خير حتى للذين يطيقونه (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (1): الصيام فعل تطوعي مفروض على الرجل، لكن يمكن له (إن كان يطيق الصيام) أن يقدم بدل ذلك الفدية وإن كان الصيام هو خير له.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (2): أما بالنسبة للمرأة فالصيام فعل اختياري يمكن أن تقوم به من أجل الثواب إن هي أرادت، ولكن يمكن لها أن لا تقوم به، وليس مطلوب منها الفدية أو القضاء إن لم تقم بفعل الصيام مادام أن الأمر برمته بالنسبة لها ليس أكثر من فعل اختياري.
الباب الثاني: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
السؤال: ما معنى أن الإنسان يطيق الصيام في قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
رأينا المفترى: نحن نظن أن من يطيق "فعل ما" هو من يستطيع القيام به لكن بحصول المشقة في ذلك، بدليل قوله تعالى:
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
فنحن نظن أن الطاقة تحتمل معنى الاستطاعة على الفعل مع وجود المشقة في ذلك، فلو كان لجنود طالوت طاقة بجالوت وجنوده، لما ترددوا في المواجهة، ولو كان لهم طاقة بهم، لهزموهم بجهدهم الذاتي. ولكن لما لم يكن لهم طاقة بجالوت وجنوده، عبروا عن ذلك صراحة (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ)، فكانوا بحاجة لنجدة تساعدهم في الخروج من هذا المأزق (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
نتيجة مفتراة: فالطاقة تحتاج إلى الصبر للقيام بالفعل لأنها هي – برأينا- القدرة على العمل مع وجود المشقة في ذلك.
استراحة قصيرة: لماذا للبيت الذي نسكن فيه طاقة (نافذة صغيرة مرتفعة)؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نعتقد أن طاقة البيت هي عبارة عن منفذ ضيق وصعب لا يُلجأ إليه إلا في حالة تعذر الخروج من الباب الرئيسي. ولنتصور المشهد على النحو التالي: يكون في البيت فتحة واسعة معروفة للجميع يتم الدخول والخروج منها بسهولة في الحالات الطبيعية وتسمى الباب:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
لكن ربما يكون هناك منافذ جانبية لا تستخدم للدخول والخروج إلى البيت إلا ربما في حالة تعذر استخدام الباب، وهذه تسمى منافذ (كالشباك أو النافذة مثلا)، وقد تسمى أحيانا طاقة، وكلما ارتفعت هذه الفتحة عن الأرض أكثر وضاق اتساعها، كلما أصبحت تعرف أكثر باسم "طاقة" (على الأقل في اللهجة الأردنية)، ولكن لماذا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأنها منفذ صعب لا يلجأ إليه إلا عند تعذر استخدام المنافذ الأخرى كلها. فلو أنت أردت أن تخرج بنفسك أو أن تخرج شيئا من أغراض البيت، لاستخدمت الباب أولا ثم الشباك (النافذة) إن تعذر استخدام الباب. ولو تعذر استخدام الشباك (النافذة) أيضا، لوجدت أن الطاقة هي المنفذ الوحيد على صعوبته.
لذا نحن نتخيل أنه عندما يطيق الشخص منّا شيئا، فإنه يستطيع القيام به لكن ذلك يتطلب منه مشتقة كبيرة، وكذلك (نحن نفتري القول) هو "طياق" الصوم (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ). فمن وجد أنه يستطيع الصيام ولكن ذلك يسبب له المشقة، يكون إذا من الذين يطيقونه، وهنا (نحن لازلنا نفتري الظن) يجوز له الفدية (طعام المسكين)، ولا يطلب منه القضاء في أيام أخر.
السؤال: على من ينطبق هذا السيناريو؟ من الذي يمكن أن يكون من الذين يطيقون الصيام (أي يستطيعون الصيام لكن بمشقة كبيرة)؟
جواب: نحن نظن أن هذا ينطبق على من كانت حرفته (فيها مشقة) دائمة يتعذر معها قضاء الصيام في أيام أخر؟
السؤال: هل لك أن تعطي مثالا على ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: دعنا نتخيل أصحاب الحرف اليدوية الشاقة، كالبناء والخباز مثلا. فكيف يستطيع من كان يعمل في هذه الحرف الشاقة أن يصوم رمضان؟ وكيف له أن يقوم بالقضاء في أيام أخر مادام أن حرفته مستمرة طوال أيام العام؟ فمتى يستطيع أن يصوم ومتى يستطيع أن يقوم بالقضاء؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: مادام الرجل المكلف بالصيام يعمل في حرفة كهذه، فإن الصيام يقع عنده في باب التطوع، فيجوز له (نحن نفتري الظن) أن يقدم الفدية (وهي طعام مسكين عن كل يوم يفطره من أيام الصيام)، ولكن إن كان في إجازة من ذلك العمل كيوم عطلته الأسبوعية مثلا، فيجب عليه الصيام في ذلك اليوم مادام أنه لم يعد من الذين يطيقون الصيام في ذلك اليوم.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الفدية (طعام مسكين) مرتبطة إذن بالطاقة على الصيام، فكلما وجد الشخص نفسه في طاقة أن يصوم، أصبحت الفدية ممكنة (وإن كان التطوع بالصيام هو خير له)، ومتى ذهبت هذه الطاقة، أصبح الصيام واجبا مفروضا عليه.
نتائج مفتراة من عند أنفسنا حتى الآن
- الصيام فرض واجب على الرجال من الذين آمنوا، ويجب القضاء إن تعذر عليهم الصيام بسبب المرض أو السفر
- الصيام تطوعي على الذين يطيقونه من الرجال، فتجوز هنا الفدية ولا يجب القضاء، ولكن الصيام خير له
- لم يكن الصيام إلا فعلا اختياريا على النساء، ولا يجب القضاء في حالة تعذر الصيام بسبب العذر الشرعي كالدورة الشهرية أو كالحمل والوضع.
- الخ.
الباب الثالث: شهادة الشهر
لما كان شهر رمضان هو أيام معدودات، يمكن للإنسان (الرجال من الذين آمنوا) أن يشهد الشهر كله، ويمكن أن لا يشهده كله، ليكون السؤال الآن هو: كيف يتحدث القرآن عن وجوب الصيام على من شهد الشهر (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)؟ ألا يمكن مثلا أن يكون الإنسان في حالة غيبوبة في بداية شهر رمضان ثم يستفيق من غيبوبته في منتصف الشهر أو في آخره، فيشهد من الشهر بعضه وليس كله؟ ثم ألا يمكن أن يكون واع تماما في بداية الشهر ثم يذهب في غيبوبة في منتصفه أو في آخره أو في بعض منه؟ فلماذا جاء النص القرآني على نحو (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ)؟
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
السؤال: فهل يصبح بذلك الصيام مفروضا على من شهد الشهر كله؟ وبكلمات أخرى نحن نسأل: هل يجب عليّ أن أشهد الشهر كله حتى أكون ملزما بصيامه؟ وما المطلوب من الذي شهد بعض الشهر وليس كل الشهر؟
رأينا المفترى: نحن نجد لزاما ضرورة الوقوف عند معنى مفردة الشهر؟ لنطرح السؤال على النحو التالي: كيف يمكن لي أن أشهد الشهر؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نظن أننا قد تعرضنا في مقالات سابقة كثيرة لنا عن معنى مفردة الشهر، وحاولنا التمييز بين مفردة الشهر التي تدل على الشهر الشمسي (أي اليوم والليلة معا) ومفردة الشهر التي تدل على الشهر القمري (دورة القمر كاملة). وزعمنا الظن بأن العربية تميز بين مفردتين للشهر على النحو التالي:
- شهر وتجمع على أشهر، وهذه هي دورة الشهر الشمسي، أي غياب الشمس وظهورها بالكلية، وهذا يحدث كل 24 ساعة مرة واحدة، وينتج عنه اليوم والليلة، فنسمي اليوم والليلة معا (أي الدورة الشمسية كاملة) شهرا.
- شهر وتجمع على شهور، وهذه هي دورة الشهر القمري، أي غياب القمر وظهوره بالكلية، وهذا يحدث كل 29- 30 يوما مرة واحدة، وينتج عنه أشهر العام الاثنا عشر.
(للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته: باب الشهر)
السؤال: ما علاقة هذا كله بقوله تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) في الآية الكريمة التالية؟
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نفتري القول أن هذا ينطبق على الشهر الشمسي (أي اليوم والليلة)، فأنت مطلوب منك (كواحد من الذين آمنوا) الذي يقع عليهم تكليف الصيام أن تصوم كل شهر شمسي أنت تشهده فقط. ولا يطلب منك أن تصوم الشهر الشمسي الذي لم تشهده.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن هذا يتطلب منا معرفة كيفية أن نشهد الشهر، فمتى يمكن أن يعتبر الإنسان قد شهد شهرا من رمضان؟ ومتى يعتبر غير شاهد لشهر من رمضان؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن شهر رمضان يبدأ من بعد صلاة المغرب مباشرة:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
فلو تدبرنا هذه الآية الكريمة، لوجدناها أنها قد ابتدأت بالحديث عن ليلة الصيام التي أحل الله لنا فيها الرفث إلى نسائنا (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ)، ويشرع لنا فيها أن نأكل ونشرب حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)، ثم انتقلت لتبيان أن الصيام يبدأ من هناك، فنتوقف عن الأكل والشرب وعن مباشرة النساء، حتى نتم الصيام إلى الليل. فيكون بذلك قد تم شهر واحد من أشهر رمضان، أي شهر شمسي واحد (ليلة ويوم معا). وهكذا يتكرر الشهر الشمسي الثاني والثالث والرابع، الخ. حتى ينتهي شهر رمضان القمري كله.
السؤال: متى إذن تشهد شهر رمضان (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)؟
جواب مفترى: إن شهادة شهر رمضان الشمسي تبدأ من الليل، وهناك تبدأ ليلة الصيام التي يجوز لنا فيها أن نرفث إلى النساء وأن نأكل ونشرب في تلك الليلة على نية الصيام (أي الامتناع عن ما كنا نفعل في ليلة الصيام) عندما يتبين لنا الخيط الأبيض والأسود من الفجر حتى نتم الصيام إلى الليل، وفي هذه الحالة يكون المؤمن المكلف بالصيام قد شهد شهرا واحدا من رمضان، فوجب عليه أن يصومه، ويتكرر السيناريو نفسه في كل شهر شمسي (ليلة ويوم معا) طوال شهر رمضان القمري كله.
نتيجة مفتراة: شهر الصيام يبدأ من ليلة الصيام (أي بعد آذان المغرب) ويستمر إلى الليل (آذان المغرب) من الشهر الثاني. وليس أدل على ذلك من مراقبة هلال شهر رمضان وما يسمى بصلاة التراويح، فما أن يظهر هلال شهر رمضان من ليلة الصيام من الشهر الأول للصيام حتى يكون ذلك هو شهادة الشخص على الشهر الأول، وهكذا في الشهر الثاني والثالث إلى نهاية آخر شهر (شمسي) من شهر رمضان (القمري). ويقوم المسلمون بصلاة التراويح في أول ليلة من رمضان ويتوقفون عن ذلك في آخر ليلة بعد رمضان (التي ستكون صبيحتها هو يوم العيد).
السؤال: لماذا؟
جواب: دعنا نتصور السيناريو التالي: تخيل لو أنك كنت في غيبوبة خلال شهر شمسي واحد من رمضان، ثم استيقظت من هذه الغيبوبة في نهار رمضان، فهل يعتبر ذلك شهر من أشهر رمضان التي وجب عليك صيامه؟ وماذا لو أنك بدأت تصوم من الساعة الثانية عشر ظهرا عندما استفقت من غيبوبتك، فهل يعتبر ذلك شهر من أشهر رمضان التي شهدتها؟
جواب مفترى، كلا وألف كلا، فحتى يحسب لك أنك قد صمت شهرا من أشهر رمضان الشمسية، وجب عليك (نحن نفتري الظن) أن تشهد ليلة الصيام السابقة لبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وتكون قد عقدت النيّة على صيام ذلك الشهر متى ما تبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ولعلي أكاد أجزم الظن أن توافر النية المسبقة في الصيام التي اختلف فيها أهل العلم قد جاءت من هذا الباب، أي أن تكون قد شهدت شهر الصيام (من ليلة الصيام) وليس أن تشهد فقط يوم الصيام أو ليلة الصيام فقط، فالصيام يحسب للمسلم بالشهر (اليوم والليلة معا). وشهر الصيام يبدأ (كما بدأت الآية الكريمة السابقة) بليلة الصيام ثم يمتد إلى يوم الصيام حتى الليل، حيث يبدأ الشهر الثاني وهكذا بالنسبة للشهر الثالث والرابع والخامس حتى الشهر التاسع والعشرين أو الثلاثين منه. وما أن تتم تلك الأشهر كلها حتى يكون شهر الصيام القمري كله قد تم.
الباب الرابع: تحديد وقت الإمساك والإفطار في شهر رمضان
لو تتبعنا السياقات القرآنية التي تتحدث عن الصيام، لوجدنا الآية الكريمة التالية تحدد لنا الفترة الزمنية التي يجب علينا أن نصوم فيها، قال تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
لنخرج بنتيجة قلما يستطيع أحد أن يجادل فيها تتمثل في أن الصيام يبدأ مع تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وينتهي مع بداية الليل:
وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ
لكن بالرغم من وضوح مفردات الآية الكريمة التي تدل على بداية الصيام (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ونهايته (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)، إلا أنّ أهل العلم قد اختلفوا في تحديد هذه الأوقات على أرض الواقع. فوضوح اللفظ في الآيات الكريمة لم ينعكس على التطبيق العملي على أرض الواقع بسبب كثرة آراء أهل العلم حول تفسيرات هذه المفردات القرآنية ودلالتها الحقيقية على أرض الواقع.
ولكن بالرغم من الاختلافات الفقهية بين أهل العلم، ظلّ الناس يطبقون هذا التشريع الإلهي بفطرتهم السليمة، فيحرصون على الصيام بأفضل طريقة ممكنة. فأخذوا يتحرزون الدقة في الإمساك في الفجر وكذلك في الإفطار مع بداية الليل.
لكن ما يجب التنبيه له هو أن الناس لم تعهد الدقة في تحديد الوقت في كل الأزمان والعصور، فاختراع الساعة اليدوية لم يبدأ مع الرسالة الدينية، فكان الناس يلجئون إلى أساليب بدائية في تحديد وقت الفجر ووقت الغروب. ولا شك أن المناخ كان حاسما في كثير من الأحيان، فتحديد الوقت في نهار الصيف ولياليه أكثر سهولة من تحديده في الشتاء خاصة عندما تتكبد السماء بالغيوم متغيرة الألوان.
وقد تعرضنا لهذه الجزئية في واحدة من مقالاتنا السابقة وافترينا الظن بأن هناك طريقة طبيعية للتغلب على عوامل الطقس في تحديد وقت الفجر ووقت الغروب حتى في أشد أيام وليال الشتاء المعتم. وكان افتراؤنا حينئذ هو أن هناك في الطبيعة كائنات لا يمكن أن يفوتها وقت الفجر ووقت الغروب وذلك لأن هذا هو وقت تسبيحها، وأخص بالذكر هنا الطيور التي تطير بجناحيها.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
فالطير تبدأ يومها مع طلوع الفجر، فتصطف معا وتنطلق أصواتها بالتسبيح بحمد ربها، وإن كنا لا نفقه ذلك التسبيح:
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
وما أن تنهي اصطفافها الصباحي وتسبيحها حتى تنطلق في البلاد متفرقات تبحث عن رزقها.
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن وقت الإمساك عن الطعام والشراب وشهوة الجنس في يوم رمضان تبدأ مع بيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وهو الوقت الذي تصطف فيه الطيور لتبدأ يومها بالتسبيح بحمد ربها.
عندما ينتهي اليوم ويبدأ ظلام الليل بالاقتراب تبدأ هذه الطيور رحلة العودة إلى مساكنها، فتتجمع وتصطف معا من جديد في تسبيحها الثاني بحمد ربها، فتنطلق أصواتها من جديد في التسبيح الجماعي الذي لا نفقهه، لتحمد ربها من جديد على ما رزقها في يومها هذا.
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن وقت الإفطار في رمضان يبدأ مع بداية الليل، وهو الوقت الذي تعود فيه الطيور إلى مساكنها مع قدوم الليل
ولا شك عندنا أن هذه الكائنات الحية (أي الطيور التي تطير بجناحيها) مزودة بنظام توقيت لا يمكن أن تخدعه عوامل المناخ. فالطير يستطيع أن يحدد طلوع الفجر كما يستطيع أن يحدد بداية الليل بكل دقة ويسر، فلا مجال للخطأ في ذلك. ولو بحث أهل العلم عن هذه الساعة البيولوجية في الطيور، لوجدوها، ويمكن أن يستفيدوا منها أكثر من استفادتهم من الساعات الرقمية التي صنعها البشر في عصر التكنولوجيا الحديثة.
الباب الخامس: باب إتمام الصيام إلى الليل
قال تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
السؤال: ما معنى إتمام الصيام إلى الليل؟ هل يجوز الإفطار بمجرد سماع آذان المغرب؟ هل رفع الآذان لصلاة المغرب يقع في الليل؟ الخ
افتراء خطير جدا جدا (لا تصدقوه): نحن نظن (مخطئين) أنه يمكن للصائم أن يفطر في أي وقت شاء لكن هذا يجعله ممن لم يتم الصيام إلى الليل. انتهى.
السؤال: لم أفهم ما تريد قوله؟ هل يمكن توضيح ذلك أكثر؟ يطلب صاحبنا على عجل.
حسنا، لكن قبل الدخول في جلب الدليل على هذا الافتراء الخطير جدا (الذي هو لا شك من عند أنفسنا)، دعنا نحاول الوقوف على معنى مفردة أَتِمُّواْ التي نظن أنها مفتاح الفهم في هذا الموضوع. لذا، وجب الوقوف على معناها بشكل جلي قبل المضي قدما في نقاش نظن أن طريقه محاطة بالألغام الخطيرة التي يجب أن نكون على حذر للخروج منها سالمين بإذن الله.
أما بعد،
لقد حاولنا في الجزء السادس والثلاثين من سلسلة مقالاتنا تحت عنوان "قصة يونس" التفريق بين معنى الإتمام من جهة والإكمال من جهة أخرى كما جاء في الآية الكريمة التالية:
... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)
ولا أجد ضيرا في إعادة الخطوط العريضة للتفريق بين المفردتين من أجل الوقوف على معنى إتمام الصيام إلى الليل الذي هو موضوع النقاش هنا. ولنبدأ بالتساؤلات التالية:
- ما معنى إكمال الدين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؟
- ما معنى إتمام النعمة (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)؟
- لماذا جاء الدين بلفظ الإكمال؟
- لماذا جاءت النعمة بلفظ الإتمام؟
- الخ.
افتراء خطير جدا 1: نحن نظن أن إكمال الشيء يعني عدم النقص فيه أو الزيادة عليه.
افتراء خطير جدا 2: نحن نظن أن الإتمام يحتمل الزيادة والنقص.
الدليل
بداية، دعنا نجلب مثال العدة، لنطرح التساؤل التالي: هل المطلوب إتمام العدة أم إكمال العدة؟
جواب مفترى: لو دققنا في الآية الكريمة التالية التي تبين لنا العدة المطلوبة:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
لوجدنا على الفور أن هناك عدّة مطلوب من الشخص إكمالها (وليس إتمامها)، وذلك لأن العدة (لا محالة) محددة بعدد ثابت، فلا يمكن أن تكون كاملة لو أنها أُنقصت يوما واحد.
وهذا المنطق ذاته ينطبق في حالة الصيام في الحج وبعد الرجوع منه. فمطلوب ممن تمتع بالحج إلى العمرة أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع، فتكون بذلك عشرة كاملة:
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
فلا يمكن إذن أن تكتمل الفترة إلا بصيام عشرة كاملة (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، فلو صام من تمتع بالعمرة إلى الحج تسعة أيام، لما أكتمل المطلوب، ولا يجوز أن يصوم أكثر من ذلك، لأن ذلك يصبح زيادة على المطلوب، أي كمن يصلي خمس ركعات بدلا من أربعة، فهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال، لأن المطلوب هو حالة الاكتمال.
ولا تكتمل الرضاعة إلا بالحولين الكاملين:
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
والكافرون يحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة، فلا ينقص منها شيء، ولا يزاد عليها مثقال ذرة، وإلا لأصبح ذلك ظلما للعباد:
لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25)
ونحن لا ننعت البدر بالاكتمال كأن نقول (اكتمل البدر) إلا عندما يصل إلى المرحلة التي لا يمكن أن يزاد فيها شيء. فيبقى القمر غير كامل حتى يصبح بدرا، فبعد ذلك يتعذر الزيادة فيه، بل يعود مرة أخرى إلى مرحلة التناقص بعد أن يكون قد اكتمل.
وإذا ما كنت جالسا في امتحان في قاعة الدرس، وقمت بتسليم ورقة الإجابة إلى المدرس، فأنت بذلك تكون قد أكملت الامتحان، لأنه من الاستحالة (في الوضع الطبيعي) أن تعاد إليك ورقة الامتحان لتضيف إليها شيئا جديدا. فتسليم ورقة الامتحان للمراقب على الامتحان يعني أنك وصلت إلى مرحلة لا يمكن الزيادة على ما كتبت.
نتيجة مهمة: الاكتمال يعني وصول المرحلة التي لا يمكن الزيادة عليها.
أما الإتمام - بالمقابل- فهو قابل للزيادة حتى وإن وصلت إلى مرحلة التمام.
الدليل
لا شك أننا جميعا نتمتع بنعمة الله علينا، فنعمة الله أصابتنا جميعا، لكننا نعلم يقينا أننا لا نستطيع أن نحصي نعمة الله:
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)
فمهما تحصلت لك من هذه النعمة (بغض النظر عن عددها)، فإن نعمة الله تكون قد تمت عليك، لكن ذلك لا يعني أن هذه النعمة لا تزاد. فقد تكون نعمة الله تامة عليك، فتصيبك نعمة أخرى، فيكون ذلك من فضل ربك عليك. وتبقى النعمة دائمة الزيادة فيها مادام أننا لا نستطيع أن نحصي نعمة الله، وبذلك تكون النعمة قابلة للإتمام على الدوام.
نتيجة مفتراة: الإتمام لا يعني الوصول إلى مرحلة نهائية مادامت قابلة للزيادة دائما.
(ملحوظة: للأمانة العليمة أود أن أؤكد بأن مثل هذا التفريق بين معنى الإكمال والإتمام قد سمعته من الأستاذ الكبير فاضل السامرائي الذي هو عندنا أستاذ كبير، ولغوي من الطراز الأول الذي يعتد كثيرا بكلامه)
وليس أدل على أن الإتمام قابل للزيادة من هذا الحوار الذي دار بين موسى وشعيب:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
فالأجل المتفق عليه الذي لا يجوز لطرف منهما أن يخل به هو ثماني حجج، لكن كان بمقدور موسى (إن هو رغب في ذلك) أن يتمم ذلك الأجل، فيصبح عشر حجج بدلا من ثمانية. ولو كان الاتفاق المسبق بينهما على عشرة حجج فقد لا زيادة فيها ولا نقص، لكانت تلك عشر حجج كاملة.
السؤال: كيف يمكن الاستفادة من هذه الأفهام في قضية إتمام الصيام إلى الليل كما جاء في قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ):
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
السؤال بطريقة أخرى: لماذا قال الله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)؟ لماذا لم يقل (ثم أكملوا الصيام إلى الليل)؟
جواب مفترى: لا شك عندنا أن الإفطار من الصيام يحصل في وقت محدد، وهو وقت قدوم الليل (أي عند صلاة المغرب)، لكن لمّا كان الله قد طلب منا إتمام الصيام إلى الليل، فإن هناك فسحة وافرة في الزيادة في وقت الصيام حتى تتحقق من قدوم الليل. فيمكن للإنسان أن يفطر مباشرة عند أذان المغرب (كما تفعل الغالبية الساحقة من أبناء المسلمين)، لكن هذا لا يقع في باب إتمام الصيام. فمن أفطر مباشرة مع آذان المغرب، فهو قد صام إلا أنه لم يتم صيامه إلى الليل. فقد جاء الطلب الإلهي منّا أن نتم الصيام إلى الليل، فمن المستحب إذن (وربما من الواجب علينا) أن لا يفطر الصائم مباشرة عند أذان المغرب، بل عليه أن يحاول إتمام الصيام (أي الزيادة فيه قليلا) للتحقق من بلوغ الليل. فهذه الزيادة القليلة (وإن كانت دقائق معدودة) تقع في باب إتمام الصيام. ويستحيل – نحن نرى – أن يأتي النص على نحو (ثم أكملوا الصيام إلى الليل) لأن ذلك يصبح وقتا محددا لا يمكن الزيادة فيه، وهذا غير ممكن لأن الله قال عند الحديث عن الليل (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ):
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)
فما دام أننا لن نستطيع أن نحصي الليل والنهار، فإننا لن نكون قادرين على تحديد اللحظة التي يكتمل فيها الليل أو النهار، لذا لا يمكن أن يطلب الله منا (نحن نفتري القول) أن نفطر باكتمال النهار وبدء الليل، لذا جاء الطلب الإلهي على نحو أن نتم الصيام إلى الليل.
رسالة إلى العامة من الناس: نحن نرى أن من واجب المسلم الذي يريد أن يلتزم بالطلب الإلهي (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) أن يتحرى قدوم الليل، فلا ضير أن ينتظر دقائق معدودة بعد أذان المغرب، ليفطر من صيامه، ويكون بذلك قد أتم الصيام إلى الليل. ولعل أفضل طريقة إلى ذلك تتمثل (نحن نرى) في أن يقوم المسلم بتأدية صلاة المغرب التي يقع وقتها في زلفا من الليل، ثم ما أن ينهي صلاته حتى يكون بذلك قد ضمن إلى حد كبير حلول الليل، فيظفر بالأجرين، أجر الصلاة على وقتها، وأجر إتمام الصيام إلى الليل. والله أعلم.
ولعلي أكاد أجزم الظن بأن مثل هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا يحل إشكالات عديدة مثل صيام المرأة والطفل والمسافر والمريض ومن يسكن البلاد التي يطول فيها النهار عن الحد الطبيعي. وهو ما سنتعرض له لاحقا بإذن الله وتوفيق منه، فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو العليم الحكيم.
الباب السادس: الحكمة من الصيام
لو تدبرنا الآية الخاصة بإلزامية الصيام للمؤمنين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
لوجدنها تتحدث أن ذلك قد حصل على نحو أنه قد كُتِب على الَّذِينَ آمَنُواْ كتابة كما كتب على الذين من قبلنا، وأن الهدف من ذلك احتمالية حصول التقوى:
ولو أمعنا في هذه الآية الكريمة، لربما وجب علينا أن نطرح عدة تساؤلات، نذكر منها:
- لماذا كتب الصيام على الذين آمنوا؟
- لماذا كُتب علينا كما كُتب على الذين من قبلهم؟
- ومن هم الذين قبلنا الذين كُتب عليهم الصيام؟
- متى كان ذلك؟ أي متى حصلت الكتابة؟
- من الذي كتبها على الذين آمنوا؟
- كيف يمكن أن تتحقق التقوى من الصيام؟
- الخ
المبحث الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
افترينا الظن في بداية هذه المقالة بأن الصيام إلزامي على البالغين المكلفين من الرجال، القادرين على الرفث إلى النساء:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
فالصيام مكتوب على من بلغ مرحلة القدرة على الرفث إلى النساء، لذا فهو مكتوب فقط على البالغين المكلفين من الذكور. أما صيام المرأة والطفل، فهو يقع في باب الزيادة في الأجر، لأن الصيام لم يكتب على الأطفال ولا على النساء. انتهى.
لكن دعنا نذهب إلى أبعد من ذلك، فنجلب الآيات الكريمة التالية:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
لماذا جاء الأمر للأهل بالصلاة (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ) على وجه التحديد ثم بالزكاة (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)؟ فأين أمر الأهل بالصيام أو بالحج؟ هل نجد أحدا من الرسل كان يأمر أهله بالصيام؟ نحن نسأل.
جواب مفترى: على الأقل أنا لم أجد ذلك في كتاب الله، وعلى من يجده أن يهديني إليه وله مني الثناء والشكر، ومن الله الأجر بإذنه، إنه هو السميع المجيب.
السؤال: ما المطلوب من النساء إذا؟ يرد صاحبنا مستغربا.
وقد يرد صاحبنا مستغربا على النحو التالي: لا نجد آية في كتاب الله تحرم على النساء القتل أو شرب الخمر أو الإفساد في الأرض، فهل يعني (حسب منطقك) أن النساء يستطعن القيام بذلك دون مخالفة للشرع؟
رأينا المفترى: كلا وألف كلا. فالمطلوب من النساء المؤمنات هو ما جاء في الآية الكريمة التالية التي تبين ما بايعن النبي الكريم عليه:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)
إذن، كانت مبايعة المؤمنات للنبي على الشروط التالية:
- أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا
- وَلَا يَسْرِقْنَ
- وَلَا يَزْنِينَ
- وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ
- وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ
- وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
وهنا يجدر الإشارة إلى أن كل الأعمال التي يطلب من المرأة أن لا تقوم بها لأنها تخالف الشرع (كالخمر والميسر والأنصاب والأزلام) تقع – برأينا- في باب الشرط الأخير في المبايعة، ألا وهو (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ). فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، مطلوب منا أن نجتنبه، ومطلوب كذلك من المرأة أن تجتنبه لأنها بخلاف ذلك تكون قد عصت بما هو معروف، الأمر الذي قد يخرجها من دائرة الإيمان كليا إن هي لم تلتزم بما هو معروف.
السؤال: وكيف ذلك؟ كيف نعلم أن امرأة ما هي من المؤمنات التي لا تعصي في معروف؟
جواب مفترى: علينا أن نمتحنهن لنعلم بإيمانهن؟
السؤال: وكيف نمتحنهن؟
جواب مفترى: كما جاء في الآية الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
لو تدبرنا هذه الآية الكريمة جيدا، لوجدنا بأنها تبين لنا ضرورة (لا بل إلزامية) امتحان النساء لنعلم أنهن مؤمنات (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ).
افتراء خطير جدا جدا 1: لابد من امتحان النساء لنعلم أنهن مؤمنات
تساؤلات مثيرة:
- كيف يتم الامتحان؟
- من الذي يكتب الأسئلة؟
- ما هي مادة الامتحان المقررة؟
- ما هي الموضوعات المطلوب من النساء الدراسة عليها؟
- من الذي سيصحح الامتحان؟
- متى وقت كتابة الامتحان ووقت تقدمه؟
- ما طبيعة الامتحان: نظري أم عملي؟
- متى تظهر النتائج؟
- الخ.
إذن، نحن بحاجة أن نتوقف عند هذه الجزئية بعضا من الوقت لنعلم كيف لنا أن نمتحن المؤمنات من النساء. ولعلي أكاد أجزم الظن بأن في هذا الأمر خيرا كثيرا للطرفين: الرجل والمرأة. فامتحان المرأة يعطي صورة حقيقية للرجل، يستطيع بناء على ذلك، اتخاذ قرارات صائبة بإذن الله. ولا شك أن معرفة ماهية هذا الامتحان مقدما تعطي المرأة فرصة حقيقية أن تجتاز هذا الامتحان بكل يسر وسهولة إن هي أرادت ذلك، أي إن أرادت أن تكون حقا من المؤمنات.
السؤال: ما هي طبيعة هذا الامتحان الذي يعقد للنساء لمعرفة المؤمنات منهن حقا؟
رأينا المفترى: لا شك عندنا أن العلاقة بين المؤمنين من جهة والمؤمنات من جهة أخرى هي علاقة بين طرفين، يتعين على طرف أن يكون طرف أعلى درجة من طرف آخر. ولا شك أن للرجال على النساء درجة:
... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228)
وبذلك تحققت القوامة للرجل على النساء:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
السؤال: ما متطلبات هذا التفضيل؟
رأينا المفترى: بداية، يجب أن نفهم بأن التفضيل – كما أسلفنا في أكثر من مقالة سابقة لنا- لا يعني الخيرية، وإنما ازدياد في المهام الموكلة للطرف المفضل.
فالله قد فضل بني إسرائيل على العالمين لأنه (نحن نرى) قد أوكل لهم مهام لم يوكلها لغيرهم من العالمين، فتضاعفت مسؤولياتهم.
فالله هو من فضل بعض الرسل على بعض بالرغم أنه لا تفريق بينهم، وذلك لأن الرسل المفضلين هم من أوكلت لهم مهام إضافية، فتضاعفت مسؤولياتهم، وهكذا. (للتفصيل انظر مقالاتنا السابقة)
إن ما يهمنا طرحه هنا هو أن تفضيل الرجال على النساء (بالقوامة) يعني مضاعفة مسؤوليات الرجل مقابل مسئوليات المرأة.
السؤال: كيف يقوم كل بدوره بنجاح؟
رأينا المفترى: إذا حصل الانسجام بين الطرفين، فعرف كل طرف حدود مسئولياته، وأقر للآخر بمسئولياته.
السؤال: وكيف يمكن أن نستكشف هذا الانسجام بين الطرفين؟
جواب مفترى خطير جدا: نحن نظن أن امتحان العلاقة بين طرفين (لمعرفة ماهية هذه العلاقة بينهما) تتحقق بما جاء في الآية الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
فهذه الآية الكريمة تبين طبيعة العلاقة بين النبي الكريم من جهة والمؤمنين من حوله من جهة أخرى. كما تبين حصول الامتحان لقلوب من هم حول النبي لبيان طبيعة هذه العلاقة من قبل كل شخص اتجاه النبي الكريم حينئذ.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نعلم يقينا بأن طاعة النبي واجبة، فإذا ما قضى أمرا، فلا يحق لمؤمن ولا مؤمنة بعد ذلك أن يكون لهم الخيرة، ولا يحق لمن حوله أن لا يطيعه في شيء. واقرأ – عزيزي القارئ الكريم – الآيات الكريمة التالية:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)
إذن، لابد من معرفة المؤمن من غير المؤمن من الرجال والنساء ممن هم حول الرسول، فكيف كان يعرف المؤمن من غير المؤمن منهم؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: بامتحان قلوبهم (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الآية الكريمة التالية ترشدنا إلى طرقة امتحان المؤمن من غير المؤمن:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
السؤال: ما الذي تفهمه من ذلك؟
افتراء خطير جدا جدا: نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأن معرفة المؤمن من غير المؤمن تنطوي على وجود عنصرين اثنين فقط، ألا وهما:
- عدم رفع الصوت (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)
- عدم الجهر بالقول (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)
افتراء خطير جدا جدا: بخلاف ذلك (أي إذا حصل رفع الصوت فوق صوت النبي أو الجهر له بالقول) فإنه سيؤدي إلى أن يحبط عمل المؤمن كله (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).
إذن، كان لزاما على من كان من المؤمنين من حول النبي أن يكون متبعا للرسول، لكن لا يمكن أن يصل درجة الإيمان الحقيقي إلا أن يكون من الذين:
- لا يرفعون أصوتهم فوق صوت النبي، و
- لا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض،
- لأنه بخلاف ذلك ستحبط أعمالهم وهم لا يشعرون.
وقد جاء ذلك جليا في قوله تعالى:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)
فالفرق بين الأعرابي المسلم والأعرابي المؤمن هو طاعة الله ورسوله التي إن تحققت لا يلتهم من أعمالهم شيئا، أي لا يحبط منها شيئا. أما عدم طاعة الرسول (التي هي أصلا طاعة لله)، فإنها تؤدي إلى أن تحبط أعمال الشخص وهو لا يعلم:
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)
هناك إذا فرق بين من كان يطيع الرسول حقا مقابل من كان يقول فقط طاعة وهو في الحقيقة يبيت في نفسه غير الذي يقول بفيه.
السؤال: مرة أخرى: كيف يمكن تمييز الذي يطيع الرسول حقا من الذي يطيع الرسول نفاقا (أي فقط يقول طاعة)؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الذي يطيع الرسول هو من التزم بغض صوته عند الرسول، فيكون من الذين امتحن الله قلوبهم بالإيمان.
السؤال: وما هي ماهية عض الصوت عند رسول الله؟
رأينا المفترى: نحنن نظن أن غض الصوت تتمثل في أمرين أثنين، وهما:
- عدم رفع الصوت فوق صوت النبي
- عدم الجهر بالقول له كجهر بعضكم لبعض.
السؤال: وما الفرق بين رفع الصوت فوق صوت النبي وعدم الجهر له بالقول؟
رأينا المفترى: دعنا بداية نستعرض ما جاء في واحدة من أمهات كتب التفسير كتفسير الطبري مثلا، الذي جاء فيه عن هذه الآية الكريمة:
{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له
بالقول كجهر بعضكم لبعض
} يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين
صدقوا الله ورسوله , لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام ,
وتغلظون له في الخطاب { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } يقول : ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا : يا
محمد , يا محمد , يا نبي الله , يا نبي الله , يا رسول الله . وبنحو الذي قلنا في
ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 24520 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا
أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء
جميعا , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , في قوله
: { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } , قال لا
تنادوه نداء , ولكن قولا لينا يا رسول الله . 24521 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال :
ثنا سعيد , عن قتادة , قوله
: { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } كانوا يجهرون له بالكلام , ويرفعون أصواتهم
, فوعظهم الله , ونهاهم عن ذلك . * - حدثني ابن عبد الأعلى , قال : ثنا ابن ثور , عن معمر , عن
قتادة , كانوا
يرفعون , ويجهرون عند النبي صلى الله عليه وسلم , فوعظوا , ونهوا عن ذلك . 24522 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ
يقول : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله
: { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } . .. الآية ,
هو كقوله
: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } 24 63 نهاهم
الله أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وأمرهم أن يشرفوه ويعظموه , ويدعوه إذا دعوه
باسم النبوة
. 24523
- حدثنا أبو كريب , قال : ثنا زيد بن
حباب , قال : ثنا أبو ثابت ابن ثابت قيس بن الشماس , قال : ثني عمي إسماعيل بن
محمد بن ثابت بن شماس , عن أبيه , قال
: لما نزلت هذه الآية { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول } قال :
قعد ثابت في الطريق يبكي , قال : فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان , فقال : ما
يبكيك يا ثابت ؟ قال : لهذه الآية , أتخوف أن تكون نزلت في , وأنا صيت رفيع الصوت
قال : فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال : وغلبه البكاء ,
قال : فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي بن سلول , فقال لها : إذا دخلت بيت
فرسي , فشدي علي الضبة بمسمار , فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال : لا أخرج
حتى يتوفاني الله , أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ; قال : وأتى عاصم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره , فقال : " اذهب فادعه لي "
فجاء عاصم إلى المكان , فلم يجده , فجاء إلى أهله , فوجده في بيت الفرس , فقال له
: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك , فقال : اكسر الضبة , قال : فخرجا فأتيا
نبي الله صلى الله عليه وسلم , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما
يبكيك يا ثابت " ؟ فقال : أنا صيت , وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في { لا
ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول } فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أما ترضى أن تعيش حميدا , وتقتل شهيدا , وتدخل الجنة " ؟ فقال : رضيت
ببشرى الله ورسوله , لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله , فأنزل الله { إن الذين
يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } . .. الآية . 49 3 24524 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يعقوب ,
عن حفص , عن شمر بن عطية , قال : جاء ثابت بن قيس بن الشماس إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو محزون , فقال
: " يا ثابت ما الذي أرى بك " ؟ فقال :
آية قرأتها الليلة , فأخشى أن يكون قد حبط عملي { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق
صوت النبي
} وكان في أذنه صمم , فقال : يا نبي الله أخشى أن أكون قد رفعت صوتي ,
وجهرت لك بالقول , وأن أكون قد حبط عملي , وأنا لا أشعر : فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : " امش على الأرض نشيطا فإنك من أهل الجنة " 24525 -حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا
ابن علية , قال : ثنا أيوب , عن عكرمة , قال : لما نزلت
: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } ... الآية ,
قال ثابت بن قيس : فأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم , وأجهر
له بالقول , فأنا من أهل النار , فقعد في بيته , فتفقده رسول الله صلى الله عليه
وسلم , وسأل عنه , فقال رجل : إنه لجاري , ولئن شئت لأعلمن لك علمه , فقال :
" نعم " , فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفقدك ,
وسأل عنك , فقال : نزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } ... الآية
وأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأجهر له بالقول ,
فأنا من أهل النار , فرجع إلى رسول الله فأخبره , فقال : " بل هو من أهل
الجنة " ; فلما كان يوم اليمامة انهزم الناس , فقال : " أف لهؤلاء وما
يعبدون , وأف لهؤلاء وما يصنعون " , يا معشر الأنصار خلوا لي بشيء لعلي أصلى
بحرها ساعة قال : ورجل قائم على ثلمة , فقتل وقتل . 24526 - حدثنا ابن عبد الأعلى , قال : ثنا ابن
ثور , عن معمر , عن الزهري , أن ثابت بن قيس بن شماس , قال
: لما نزلت{
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } قال : يا نبي الله , لقد خشيت أن أكون قد
هلكت , نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك , وإني امرؤ جهير الصوت , ونهى الله
المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل , فأجدني أحب أن أحمد ; ونهى الله عن الخيلاء
وأجدني أحب الجمال ; قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ثابت
أما ترضى أن تعيش حميدا , وتقتل شهيدا , وتدخل الجنة ؟ " فعاش حميدا , وقتل
شهيدا يوم مسيلمة
. 24527
-حدثني علي بن سهل , قال : ثنا مؤمل ,
قال : ثنا نافع بن عمر بن جميل الجمحي , قال : ثني ابن أبي مليكة , عن الزبير ,
قال : " قدم وفد
أراه قال تميم , على النبي صلى الله عليه وسلم , منهم الأقرع بن حابس , فكلم أبو
بكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمله على قومه , قال : فقال عمر : لا تفعل يا
رسول الله , قال : فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم , قال
: فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي , قال : ما أردت خلافك . قال : ونزل
القرآن : { يا أيها
الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } . .. إلى قوله : { وأجر
عظيم } قال :
فما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك , فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم ,
قال : وما ذكر ابن الزبير جده , يعني أبا بكر .
السؤال: فهمتوا إشيء؟
جواب مفترى: أنا لا. لم أفهم شيئا. فقط كلام مكرر يقتل شهية القارئ في إتمام البحث عن الحقيقة.
تساؤلات
- كيف يكون رفع الصوت فوق صوت النبي؟
- كيف يكون الجهر للنبي بالقول؟
- ما الفرق بين رفع الصوت فوق صوت النبي من جهة والجهر له بالقول من جهة أخرى؟
أما بعد،
نحن نظن أن الجهر بالقول على وجه التحديد هو ما يعرف بيننا على نحو ارتفاع نبرة الكلام (أو volume بالمفردات الأجنبية) بدليل قوله تعالى:
قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (110)
فالجهر في الصلاة (سماع صوت القارئ من قبل من هم حوله) تقابله المخافتة (التي قد لا يسمعها إلا القارئ نفسه).
وكذلك الجهر بالسوء من القول لا بد أن يكون مسموعا:
لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
والله يدعونا أن نذكره في أنفسنا دون الجهر من القول:
وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205)
والله هو يعلم ما نجهر من القول وما نكتم:
إنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
والله يعلم الجهر وما يخفى:
سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
نتيجة مفتراة: الجهر بالقول عملية تدرجية تبدأ من بعد الكتمان وتصل إلى أعلى درجات ارتفاع النبر كما في الشكل التوضيحي التالي:
فالمؤشر يعمل على رفع وحفظ حجم الصوت (volume). فكلما تحرك المؤشر إلى اليمين، ازدادت نبرة وحدة الصوت الذي تتلقاه أذن السامع، كما في الشكل التوضيحي التالي:
إن ما يهمنا قوله (ربما مخطئين) بأن من أخلاقيات من دخل الإيمان في قلبه أنه لا يجهر للرسول بالقول، أي لا يرفع من بنيرة وحدة صوته عند الحديث مع الرسول مباشرة.
نتيجة مفتراة مهمة جدا: الجهر بالقول هو عبارة عن معيار كمي (أي حجم الصوت الذي يستخدم في حضرة الرسول الكريم)
السؤال: إذا كان هذا هو الجهر بالقول، فما هو إذن رفع الصوت عند الرسول (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
رأينا المفترى: نحن نظن أن رفع الصوت عند النبي لا علاقة له بارتفاع أو انخفاض حجم الصوت (أو Volume بالمفردات الأجنبية) لأن ذلك نحن نرى يقع في باب الجهر بالقول (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ)، ولكن له علاقة بنوعية الصوت. انتهى.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الصوت تعني الرأي. فعندما تدلي بصوتك في الانتخابات الحديثة، فإنك تدلي برأيك فيمن ستختار. وعندما نقول فلان له صوت عالي، فهو ذو رأي معروف وربما مسموع، وهكذا.
السؤال: ما علاقة هذا برفع الصوت فوق صوت النبي؟
رأينا المفترى: لا شك – عندنا- أن للرسول صوت (رأي) ولمن حوله أصوات (آراء)، فهل بالضرورة أن يتطابق (على الدوام) صوت النبي (أي ما يقوله) مع أصوات من هم حوله جميعا؟ وبكلمات أكثر وضوحا نحن نسأل: هل كان إذا قضى الله ورسوله أمرا يأخذ كل من حول الرسول ذلك دون جدال ولا مناقشة؟
دعنا ندقق في الآيات الكريمة التالية:
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)
ألا يبين لنا من هذه الآية الكريمة بأن من كانوا حول الرسول لم يكونوا لينزلوا جملة واحدة عند قوله؟ ألم يكن مطلوب منهم أنه إذا قضى الله ورسوله أمرا أن لا يكون لهم الخيرة من أمرهم؟
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)
ألم يكن يعلم هؤلاء بأن طاعة الرسول هي طاعة الله؟
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
فكيف يبعضهم يبيت غير الذي يقوله الرسول:
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)
ما الذي يريده هؤلاء عندما يبيتون غير الذي يقوله الرسول؟
جواب مفترى: إنهم يريدون أن يكون هناك صوت من أصواتهم يرتفع فوق صوت النبي.
نتيجة مفتراة: ارتفاع الصوت فوق صوت النبي يعني أن يكون هناك رأي يعلو على رأي النبي نفسه. أي عدم الامتثال الكلي لما يقوله النبي.
منطقنا المفترى: في زمن وجود النبي كرسول بين القوم، كان من المفترض أن يكون صوت النبي هو الأعلى، فصوته (أي رأيه) نافذ لا جدال فيه، لأنه ما ينطق عن الهوى، إنما هو وحي يوحي، مادام أن الذي علمه هو شديد القوى:
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
لكن هذه الحقيقة لم تجد صداها في قلوب كل من كان حول النبي حينئذ، فكان هناك على الدوام من يحاول أن يحتج على ما يقوله النبي، فأنزل الله قوله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)
ووصلت الجرأة يبعضهم أن يتوعد النبي والذين آمنوا معه:
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
فما كان هؤلاء من المؤمنين، فانقسم الناس من حول النبي إلى فئات ثلاثة، وهم:
- المنافقون
- المسلمون
- المؤمنون
فالمنافقون هم الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم:
وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
أما المسلمون فهم الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، لأن الأيمان مرتبط مباشرة بطاعة الله ورسوله. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في تكملة سياق الآية نفسها:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)
فما كان هؤلاء - نحن نتخيل - يغضون أصواتهم عند رسول الله. ولا غرابة في ذلك مادام أنهم لازالوا حديثي عهد بالإسلام. لذا، كانوا يبدون رأيهم، وقد يحاولون أن يجعلوا صوتهم (أي رأيهم) يعلوا فوق صوت النبي، كما حصل في القصة التاريخية عن معركة أحد عندما كان رأيهم أن يخرجوا للقتال خارج المدينة، فعلى صوتهم فوق صوت النبي (أي كان رأيهم هو الذي أخذ به)، فكانت النتيجة كارثية كما راءوها بأم أعينهم. والسبب في ذلك هو أن هؤلاء الفئة كانوا مسلمين لكن الإيمان لم يدخل في قلوبهم بعد.
أما الفئة الثالثة، فهي الفئة المؤمنة، وهم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، فكانوا يغضون أصواتهم عند رسول الله، فلا يحاولوا أن يجعلوا رأيهم (أو رأي غيرهم) يعلو فوق رأي النبي، فلا صوت – عندهم- يعلو فوق صوت النبي، فكانوا هم المؤمنون حقا.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
تلخيص ما سبق: لما كان الرسول متواجدا فيمن حوله حينئذ، كان للرسول صوت (رأي)، وكان لغيره أصوات (آراء)، فكان لزاما على كل من حول النبي أن يلتزم بصوت النبي لأنه لا ينطق عن الهوى، فجاء الامتحان الإلهي لقلوب من حول النبي من هذا الباب، فما نجح في الامتحان إلا الذين كانوا يغضون أصواتهم عند رسول الله، وذلك لأيمانهم المطلق بأن ما ينطق به الرسول هو وحي يوحي. فهؤلاء هم الذين لم يكونوا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وهؤلاء هم الذين لم يكونوا ليقبلوا أن يرتفع صوتهم (أي رأيهم الشخصي) فوق صوت النبي. وذلك لأنهم متبعين لما يقوله النبي الذي يأتيه الأمر من ربه.
نتيجة مفتراة: الرسول متبع لما يوحى إليه من ربه:
قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9)
وبالتالي كان المؤمنين من حوله يغضون أصواتهم عند رسول الله، فلا يجهروا له بالقول ولا يرفعوا أصواتهم فوق صوته.
السؤال: ما علاقة هذا كله بامتحان المؤمنات المهاجرات (موضوع النقاش الرئيس هنا)؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
رأينا المفترى: نحن نظن أن علمنا بإيمان النساء المؤمنات من النساء غير المؤمنات تتم بالطريقة نفسها (الامتحان):
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
فالله هو من فضل الرجال على النساء، فكانت مسئوليات الرجل مضاعفة على مسئوليات المرأة. فكانت الزوجة تابعة لزوجها، تأتمر بأمره بدليل قوله تعالى:
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
والله هو من طلب من النبي أن يوصل الرسالة قولا لنسائه وبناته ونساء المؤمنين:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (59)
والرجل هو المطلوب منه أن يقي نفسه وأهله نارا وقودها الناس والحجارة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
السؤال: ما الذي يجب على الرجل أن يفعله حيال امرأته؟ وما الذي يجب على المرأة أن تعمله حيال بعلها؟
افتراء خطير جدا جدا: أظن على الرجل أن يمتحن امرأته ليعلمن أن كانت من المؤمنات حقا أم هي فقط من اللواتي يقلن طاعة ويبيتن غير الذين يقلن
افتراء خطير جدا جدا: أظن أن على المرأة أن تنجح في ذلك الامتحان لتكون من المؤمنات
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن مبايعة النساء للنبي كانت على الأمور التالية:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)
وجاء الطلب الإلهي للرسول أن يقول للمؤمنات ما جاء في الآية التالية:
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
لكن السؤال: هل لو فعلت المرأة هذه الأمور جميعا، هل يمكن أن نتيقن من إيمانها؟ ألا يمكن أن يكون ذلك في باب النفاق؟
السؤال: كيف نتيقن من إيمان المرأة؟
جواب مفترى: أن لا تعصي في معروف؟
سؤال: وكيف نستطيع أن نتأكد بأنها لا تعصي في معروف؟
جواب مفترى: علينا أن نمتحنهن.
السؤال: وكيف نمتحنهن؟ وكيف نعرف أن المرأة قد اجتازت الامتحان بنجاح أو أنها قد فشلت به؟
جواب مفترى: أن تكون من الذين يغضون أصواتهن
السؤال: ما معنى ذلك؟
رأينا المفترى: أن تلتزم بأمرين اثنين:
- أن لا تجهر بالقول
- أن لا ترفع صوتها فوق صوت وليها
السؤال: ما معنى ذلك؟
رأينا: على المرأة إن كانت مؤمنة أن تبقى نبرة صوتها في حدود المعقول الذي يعكس مقدار الأدب عندها، فلا تجهر بالقول (كجهر الرجال بعضهم لبعض)، فلا ترفع نبرة وحدة صوتها (أي كثافة الصوت أو الـ Volume بالمفردات الأجنبية) فوق حاجر المنتصف على المؤشر في أسوأ الحالات كما في الشكل التالي:
نتيجة مفتراة مهمة جدا: الجهر بالقول هو عبارة عن معيار كمي (أي حجم الصوت الذي يستخدم في حضرة الرسول الكريم)
السؤال: إذا كان هذا هو الجهر بالقول، فما هو إذن رفع الصوت عند الرسول (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
رأينا المفترى: نحن نظن أن رفع الصوت عند النبي لا علاقة له بارتفاع أو انخفاض حجم الصوت (أو Volume بالمفردات الأجنبية) لأن ذلك نحن نرى يقع في باب الجهر بالقول (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ)، ولكن له علاقة بنوعية الصوت. انتهى.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الصوت تعني الرأي. فعندما تدلي بصوتك في الانتخابات الحديثة، فإنك تدلي برأيك فيمن ستختار. وعندما نقول فلان له صوت عالي، فهو ذو رأي معروف وربما مسموع، وهكذا.
السؤال: ما علاقة هذا برفع الصوت فوق صوت النبي؟
رأينا المفترى: لا شك – عندنا- أن للرسول صوت (رأي) ولمن حوله أصوات (آراء)، فهل بالضرورة أن يتطابق (على الدوام) صوت النبي (أي ما يقوله) مع أصوات من هم حوله جميعا؟ وبكلمات أكثر وضوحا نحن نسأل: هل كان إذا قضى الله ورسوله أمرا يأخذ كل من حول الرسول ذلك دون جدال ولا مناقشة؟
دعنا ندقق في الآيات الكريمة التالية:
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)
ألا يبين لنا من هذه الآية الكريمة بأن من كانوا حول الرسول لم يكونوا لينزلوا جملة واحدة عند قوله؟ ألم يكن مطلوب منهم أنه إذا قضى الله ورسوله أمرا أن لا يكون لهم الخيرة من أمرهم؟
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)
ألم يكن يعلم هؤلاء بأن طاعة الرسول هي طاعة الله؟
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
فكيف يبعضهم يبيت غير الذي يقوله الرسول:
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)
ما الذي يريده هؤلاء عندما يبيتون غير الذي يقوله الرسول؟
جواب مفترى: إنهم يريدون أن يكون هناك صوت من أصواتهم يرتفع فوق صوت النبي.
نتيجة مفتراة: ارتفاع الصوت فوق صوت النبي يعني أن يكون هناك رأي يعلو على رأي النبي نفسه. أي عدم الامتثال الكلي لما يقوله النبي.
منطقنا المفترى: في زمن وجود النبي كرسول بين القوم، كان من المفترض أن يكون صوت النبي هو الأعلى، فصوته (أي رأيه) نافذ لا جدال فيه، لأنه ما ينطق عن الهوى، إنما هو وحي يوحي، مادام أن الذي علمه هو شديد القوى:
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
لكن هذه الحقيقة لم تجد صداها في قلوب كل من كان حول النبي حينئذ، فكان هناك على الدوام من يحاول أن يحتج على ما يقوله النبي، فأنزل الله قوله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)
ووصلت الجرأة يبعضهم أن يتوعد النبي والذين آمنوا معه:
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
فما كان هؤلاء من المؤمنين، فانقسم الناس من حول النبي إلى فئات ثلاثة، وهم:
- المنافقون
- المسلمون
- المؤمنون
فالمنافقون هم الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم:
وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
أما المسلمون فهم الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، لأن الأيمان مرتبط مباشرة بطاعة الله ورسوله. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في تكملة سياق الآية نفسها:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)
فما كان هؤلاء - نحن نتخيل - يغضون أصواتهم عند رسول الله. ولا غرابة في ذلك مادام أنهم لازالوا حديثي عهد بالإسلام. لذا، كانوا يبدون رأيهم، وقد يحاولون أن يجعلوا صوتهم (أي رأيهم) يعلوا فوق صوت النبي، كما حصل في القصة التاريخية عن معركة أحد عندما كان رأيهم أن يخرجوا للقتال خارج المدينة، فعلى صوتهم فوق صوت النبي (أي كان رأيهم هو الذي أخذ به)، فكانت النتيجة كارثية كما راءوها بأم أعينهم. والسبب في ذلك هو أن هؤلاء الفئة كانوا مسلمين لكن الإيمان لم يدخل في قلوبهم بعد.
أما الفئة الثالثة، فهي الفئة المؤمنة، وهم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، فكانوا يغضون أصواتهم عند رسول الله، فلا يحاولوا أن يجعلوا رأيهم (أو رأي غيرهم) يعلو فوق رأي النبي، فلا صوت – عندهم- يعلو فوق صوت النبي، فكانوا هم المؤمنون حقا.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
تلخيص ما سبق: لما كان الرسول متواجدا فيمن حوله حينئذ، كان للرسول صوت (رأي)، وكان لغيره أصوات (آراء)، فكان لزاما على كل من حول النبي أن يلتزم بصوت النبي لأنه لا ينطق عن الهوى، فجاء الامتحان الإلهي لقلوب من حول النبي من هذا الباب، فما نجح في الامتحان إلا الذين كانوا يغضون أصواتهم عند رسول الله، وذلك لأيمانهم المطلق بأن ما ينطق به الرسول هو وحي يوحي. فهؤلاء هم الذين لم يكونوا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وهؤلاء هم الذين لم يكونوا ليقبلوا أن يرتفع صوتهم (أي رأيهم الشخصي) فوق صوت النبي. وذلك لأنهم متبعين لما يقوله النبي الذي يأتيه الأمر من ربه.
نتيجة مفتراة: الرسول متبع لما يوحى إليه من ربه:
قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9)
وبالتالي كان المؤمنين من حوله يغضون أصواتهم عند رسول الله، فلا يجهروا له بالقول ولا يرفعوا أصواتهم فوق صوته.
السؤال: ما علاقة هذا كله بامتحان المؤمنات المهاجرات (موضوع النقاش الرئيس هنا)؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
رأينا المفترى: نحن نظن أن علمنا بإيمان النساء المؤمنات من النساء غير المؤمنات تتم بالطريقة نفسها (الامتحان):
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
فالله هو من فضل الرجال على النساء، فكانت مسئوليات الرجل مضاعفة على مسئوليات المرأة. فكانت الزوجة تابعة لزوجها، تأتمر بأمره بدليل قوله تعالى:
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
والله هو من طلب من النبي أن يوصل الرسالة قولا لنسائه وبناته ونساء المؤمنين:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (59)
والرجل هو المطلوب منه أن يقي نفسه وأهله نارا وقودها الناس والحجارة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
السؤال: ما الذي يجب على الرجل أن يفعله حيال امرأته؟ وما الذي يجب على المرأة أن تعمله حيال بعلها؟
افتراء خطير جدا جدا: أظن على الرجل أن يمتحن امرأته ليعلمن أن كانت من المؤمنات حقا أم هي فقط من اللواتي يقلن طاعة ويبيتن غير الذين يقلن
افتراء خطير جدا جدا: أظن أن على المرأة أن تنجح في ذلك الامتحان لتكون من المؤمنات
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن مبايعة النساء للنبي كانت على الأمور التالية:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)
وجاء الطلب الإلهي للرسول أن يقول للمؤمنات ما جاء في الآية التالية:
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
لكن السؤال: هل لو فعلت المرأة هذه الأمور جميعا، هل يمكن أن نتيقن من إيمانها؟ ألا يمكن أن يكون ذلك في باب النفاق؟
السؤال: كيف نتيقن من إيمان المرأة؟
جواب مفترى: أن لا تعصي في معروف؟
سؤال: وكيف نستطيع أن نتأكد بأنها لا تعصي في معروف؟
جواب مفترى: علينا أن نمتحنهن.
السؤال: وكيف نمتحنهن؟ وكيف نعرف أن المرأة قد اجتازت الامتحان بنجاح أو أنها قد فشلت به؟
جواب مفترى: أن تكون من الذين يغضون أصواتهن
السؤال: ما معنى ذلك؟
رأينا المفترى: أن تلتزم بأمرين اثنين:
- أن لا تجهر بالقول
- أن لا ترفع صوتها فوق صوت وليها
السؤال: ما معنى ذلك؟
رأينا: على المرأة إن كانت مؤمنة أن تبقى نبرة صوتها في حدود المعقول الذي يعكس مقدار الأدب عندها، فلا تجهر بالقول (كجهر الرجال بعضهم لبعض)، فلا ترفع نبرة وحدة صوتها (أي كثافة الصوت أو الـ Volume بالمفردات الأجنبية) فوق حاجر المنتصف على المؤشر في أسوأ الحالات كما في الشكل التالي:
لأن ارتفاع المؤشر فوق نقطة الوسط (نحن نرى) دليل على ضعف إيمان المرأة. وكلما كانت المرأة جاهرة بصوتها أكثر، كلما قلّ إيمانها، والعكس صحيح. فإيمان المرأة يتناسب تناسبا عكسيا مع الجهر بصوتها:
فعلى المرأة (إن أرادت أن تكون من المؤمنات حقا) أن لا تجهر بالقول كجهر الرجال بعضهم لبعضا، فيبقى خطابها هادئا في نبرته، منسجما مع أنوثتها. ولا شك أن هذا لا يتنافى مع طبيعة المرأة الهادئة المتزنة على عكس طبيعة الرجل الثائرة الجامحة غير المتزنة في أكثر الحالات.
ولا يتوقف الأمر عند عدم الجهر بالقول، بل عليها أن لا ترفع صوتها فوق صوت زوجها (أي لا تجعل رأيها فوق رأي زوجها) أيضا. فتقديم رأيها على رأي زوجها يعني أنها هي من تملك زمام الأمر، وهي من تصدر الأوامر. وهي من تعتبر نفسها مفضلة على بعلها (أي تمتلك مسئوليات أكبر من مسئولياته)، فتتصرف ويكأنها هي صاحبة العقد والحل.
السؤال: وما العيب في ذلك؟ أليس بعض النساء أكثر رجاحة عقل من بعولتهن؟ ما المانع أن يكون رأيها مقدما على رأي بعلها إن كانت فعلا جديرة بذلك؟
رأينا المفترى: لا نجد في ذلك ضير، لكن دعنا نوجه السؤال إلى النساء أنفسهن، وليتوقف الرجال عند هذه المرحلة في دسن أنفوهم فيما لا يفهمون.
السؤال للنساء فقط: هل تقبلين (عزيزي المرأة الكريمة) أن تظهري على الملأ بهذا المظهر: أن يرتفع صوتك فوق صوت بعلك الكريم؟ هل تحبين أن يعرف من حولك أن صوتك (أي رأيك) هو دائما فوق صوت (أي رأي) بعلك؟ هل تحبين أن يعرف الناس من حولك أنك أنت صاحبة القرار الأول والأخير في البيت وأن صوت بعلك تابعا لصوتك لا سابقا لصوتك؟ مَن مِن النساء ترضى بذلك حتى وإن كانت نوال السعداوي نفسها (المرأة الأشد دفاعا عن حقوق النساء في مجتمعات التخلف)؟
رأينا المفترى: صحيح أن كثيرا من النساء قد نذرن أنفسهن للدفاع عن المرأة، ومحاولة انتزاع بعض المكاسب للنساء من يد الرجال الظالمين، لكن لا يجب أن يفهم دفاعهن عن المرأة هذا على أنه انسلاخ عن أنوثتهن. فأنا (كرجل) من أشد المدافعين عن حقوق المرأة في مجتمعات التخلف الأعرابي، لكني لا أدعو إلى أن تنسلخ المرأة عن أنوثتها. فالمرأة (كبنت وأخت وزوجة) لا تقبل بأي حال من الأحوال أن يترفع صوتها (أي رأيها) فوق رأي وليها (أبوها أو أخوها أو زوجها). فحتى أم بدر (في باب الحارة) كانت تفرح عندما يحاول أبو بدر أن يتسلم زمام المبادرة بأن يرفع صوته فوق صوتها، أليس كذلك؟!!!
السؤال: لماذا على المرأة أن يكون صوتها أدنى من صوت وليها؟
جواب مفترى: نحن نظن أن السبب في ذلك يعود إلى وجود القلبين في جوف المرأة (انظر المقالة السابعة في سلسلة مقالات فقه الزكاة)، الأمر الذي يجعلها غير قادرة على اتخاذ القرار بشكل حاسم. فالمرأة لا تحب أن تكون مسئولة عن اتخاذ القرار حتى لا تكون مسئولة أيضا عن تبعاته. وتفضل – بالمقابل- أن يقوم أحد آخر (الرجل) باتخاذ القرار عنها، وبالتالي تحمل مسئوليات قراره. لذا جاء الأمر للرجال بأن يقوا أنفسهم وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة:
عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
السؤال: وماذا لو كان قرار الرجل غير صائب؟ هل على المرأة أن تطيعه؟
جواب مفترى: كلا. لأن طاعة المرأة للرجل في المعروف:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)
السؤال: ماذا لو أجبرها على المعصية؟
جواب مفترى: نحن نفتري الظن بأن على المرأة في كل الحالات أن لا تجهر بالقول ولا ترفع صوتها، ولقد ضرب الله المثل للمؤمنات بامرأة فرعون:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
فلا يمكن أن توضع امرأة في موقف أشد حرجا من موقف امرأة فرعون، فما جهرت بقولها ولا رفعت صوتها، ولكن توجهت إلى ربها أن ينجيها من فرعون وعمله.
ولا شك عندنا أن حالة امرأة فرعون أسوأ من حالة أي امرأة أخرى، وذلك لسبب بسيط أن امرأة فرعون لا تستطيع أن تطلب الطلاق من فرعون. فمن يجرؤ أن يبدي امتعاضا (ولو قليلا) من فرعون؟ ماذا تتوقع أن تكون نتيجة من يبدي امتعاضا (ولو قليلا) من فرعون؟
أما النساء الأخريات، فقد شرع الله أن يطلبن الفراق عن بعولتهن:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
ولا شك أن فطرة النساء تتقبل بهذا المنطق، وليس أدل على ذلك بأن المرأة ترضى أن تفعل كل ما يطلبه منها وليها، مقتنعة تماما أنه هو من يتحمل تبعات هذا كله. فحتى لو كان بعلها سارقا للمال، قد لا ترى غضاضة في أن تصرفه حتى على الكماليات في حياتها وهي مبتهجة مسرورة. وكل ما على المرأة أن تفعله هو أن تنصح بعلها بهدوء (فلا تجهر له بالقول) ولا تحاول أن تجعل صوتها يعلو على صوته (أي أن تشعره بأنه هو صاحب الرأي الأول في البيت – يعني تضحك عليه على الأقل). فحتى لو كان الرأي رأيها، يجب أن تكون ذكية لدرجة أن تظهره على الملأ أنه رأي زوجها. وبهذا تخلي نفسها من مسئولية عواقب القرار، وتحفظ ماء وجه زوجها. والأهم من هذا تلتزم بالهدي الإلهي يبن لا تكون من اللواتي لا يغضضن أصواتهن.
ولعلي أكاد أجزم الظن بأن المرأة التي لا تغض من صوتها، لن تغض من بصرها.
السؤال: كيف ذلك؟
قال تعالى:
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
السؤال: لكي تكون المرأة مؤمنة، عليها أن تغض من بصرها أيضا. ليكون السؤال: ما هو غض البصر؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: لا شك عندنا أن غض البصر له علاقة مباشرة بحفظ الفرج، فعدم غض البصر هو مقدمات عدم حفظ الفرج.
السؤال: ما الذي يضطر المرأة أن لا تغض بصرها وقد لا تحفظ فرجها بعد ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن جهرها بالقول ورفعها لصوتها هو ما قد يجعلها لا تغض من بصرها ولا تحفظ فرجها.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن هناك حالتان يمكن للمرأة أن لا تغض من بصرها، وهاتان الحالتان إما أن يكون سببهما الرجل نفسه أو المرأة نفسها.
الحالة الأولى، عندما تجد المرأة بأن بعلها غير قادر على الأخذ بزمام الأمور، وأن صوتها قد يرتفع فوق صوته، فإنها تفقد فيه كل معنى الرجولة التي تبحث عنها في زوجها الذي تحلم به، قد يجرها هذا إلى أن تبدأ رحلة النظر فيمن هم حولها، لتقارن بعلها بمن يمكن أن يقع عليه بصرها من حولها من الرجال، وربما يقع بصرها على الرجل الذي تظنه مثالي بالنسبة لها، ولو تطورت الأمر أكثر من ذلك، لربما كان ذلك مدعاة فيما بعد إلى عدم حفظ الفرج (لا سمح الله).
أما الحالة الأخرى، فهي أن يذهب الرجل في ذلك إلى أبعد من اللازم، كأن يجعل صوت زوجته دون صوته على الدوام، فلا يأخذ برأيها، حتى تبدأ تشعر بأنها ليست ذات قيمة فاعلة عنده، فهي لا تستطيع أن ترفع صوتها فوق صوته (ربما لأسباب وضوابط اجتماعية)، لكنها في الوقت ذاته تجد بأنه قد تعدى عليها، فجعلها أقل اعتبارا عنده مما يجب. وفي هذه الحالة يدخل الصراع إلى قلبها، فتبدأ بعملية النفاق الاجتماعي الذي تبين فيه بأنها راضية بذلك في العلن، لكنها تكتم في سرها ما لا تستطيع أن تبديه في العلن، فتبدأ مرحلة عدم غض البصر، أي البحث فيمن حولها عن شخص يهدأ لها نفسها، ويشعرها بقيمتها الحقيقية، وهنا قد يقع بصرها على من تظن أنه الشخص المثالي بالنسبة لها، ولو تطور الأمر إلى أكثر من ذلك، لكان ذلك مدعاة فيما بعد إلى عدم حفظ الفرج (لا سمح الله)
السؤال الأول: ما المطلوب من الرجل؟
لعلي أكاد أجزم الظن بأن الرجل يجب أن يكون مبادرا إلى أخذ زمام الأمر، ليكون صوته هو المرتفع (أي هو صاحب الرأي)، لكن ذلك لا يمنع من أن يعطي الاهتمام لرأي زوجته بالمشورة. وعليه أن يتأكد بأن قرار زوجته يتماشى مع قراره، وفي حالة وجود الخلاف، لابد من المحاورة واللين من قبل الطرفين.
السؤال: هل يمكن أن لا يحصل التوافق بينهما؟
رأينا المفترى: نعم، ربما لا يحصل التوافق التام بينهما، وعندها تبدأ الإشارات تبين بذلك الاتجاه، وربما أهم تلك الإشارات هي عدم غض البصر من قبل الزوجة، التي قد تبدأ رحلة البحث على من تظن أنه قد يكون الخيار الأمثل بالنسبة لها. ولعلي أجد من الضروري التنبيه أن رحلة المرأة في البحث عن الشخص الآخر بعدم غض بصرها ليس مصدره رغبة جنسية كما قد يظن كثيرا من الرجال الذين قد يقع عليهم الاختيار، لكنها رحلة لإيجاد الذات أو للانتقام، فالمرأة التي لا تغض بصرها في ظل وجود بعلها هي امرأة تحاول إيجاد ذاتها مع رجل آخر يستطيع أن يحتويها أو أن تنتقم من زوجها بطريقة أخرى لأنه أهملها ولم يستطع أن يلبي لها حاجاتها النفسية قبل حاجاتها المادية، فربما تريد منه أن يعاود التفكير من جديد، ويحاول أن يتفهم حاجتها أكثر مما كان عليه الحال من ذي قبل. فالمرأة تحب أن تجد الغيرة عليها من قبل بعلها، وإن هي رأت أنه فاتر الغيرة عليها، لجأت إلى أساليب متنوعة (منها عدم غض البصر) لتستثير الغيرة فيه عليها.
السؤال: ما الذي يجب على الرجل فعله في هذه الحالات:؟
رأينا المفترى: إذا وجد الرجل أن صوت امرأته قد يعلو على صوته، وأن ليس هناك فرصة للإصلاح، فالتفريق بينهما هو الأولى، لأن الله سيغني كل من سعته:
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
فالرجل يجب أن يكون صوته هو المرتفع في بيته وفي أهله، وإلا حدث خلل اجتماعي في البيت كله. ولا يعني ذلك أن تنتشر في بيوتنا صورة "سي السيد"، المستبد الظالم، بل هي أقصى درجات الديمقراطية، الأخذ بمشورة الجميع، لكن على الجميع أن ينزلوا على رأي واحد، يكون الرجل هو صاحب الصوت الأعلى. بالضبط كنظام الدولة الديمقراطية أو المؤسسة الناجحة، فيستحيل أن تنجح إذا كان هناك أكثر من ربان يقود السفينة، ويستحيل أن تنجح إذا لم يكن الشخص المناسب في المكان المناسب. فالرجل هو قائد سفينة البيت الذي يجب أن يقودها إلى بر الآمان، وعلى جميع أفراد الأسرة أن يدلوا برأيهم، لكن عليهم جميعا أن يحترموا صاحب الحق في الصوت الأعلى، وهو الرجل.
ولكن إن سكتت المرأة، وبان بأنها قد قبلت بالوضع الراهن على مضض بسبب الظروف والضوابط الاجتماعية المحيطة، ولكنها لجأت إلى أسلوب عدم غض البصر، فإن على الرجل أن يسكت على ذلك ما لم تأتي بفاحشة مبينة:
... لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: لأن الله قد سن لنا طرق الخلاص من هذا الموقف، فحتى من أتت منهن الفاحشة (غير المبينة)، فلا يجوز إخراجها من البيت، بل يجب أن تمسك في البيت:
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)
السؤال: على من يقع الحق، على الرجل أم على المرأة؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الحق يقع على من تعدى الحدود:
... وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: ربما يقع التقصير من طرف واحد أو من الطرفين، فقد تتجاوز المرأة بعض الحدود العادية، وقد حصل ذلك مع نساء النبي، فجاء التهديد المباشر باستبدالهن:
عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
وقد يتجاوز الرجل بعض الحدود، فيقع الظلم منه على زوجه، وما أكثر الأمثلة على ذلك!
لكن ما الواجب على الزوج أو الزوجة أن يفعلاه حتى في حالة وقوع الظلم من طرف على طرف آخر؟
رأينا المفترى: على المرأة أن تختار أحد الطريقين، إما طريق التي ضرب الله بها مثلا للذين آمنوا (امرأت فرعون)، فتصبر وتحتسب ذلك عند الله، وتدعو الله النجاة إنْ تجاوز الرجل كل الحدود (كما فعل فرعون). أو أن تختار – بالمقابل – طريق اللاتي ضرب الله بهن مثلا للذين كفروا (امرأت نوح وامرأت لوط). فالمرأة المؤمنة هي التي لا شك ستختار طريق الجنة، فسيكون لها بيتا في الجنة أفضل من بيت بعلها الذي ظلمها وسلبها حقها في الحياة الدنيا.
السؤال: ما الواجب على الرجل أن يفعله؟
رأينا المفترى: أن يتقي الله فلا يظلم زوجته، وأن يحاول توفير أقصى ما يستطيع، فينفق من سعته كما أمره الله، ومن قدر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها:
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
وعلى الرجل أن يختار بين طريقين، إما طريق الظلم والاستبداد (أي منهج فرعون)، أو منهج الصالحين من عباد الله كنوح ولوط. فلا تظن عزيزي الرجل الكريم أنك يمكن أن تكون أكثر ذكاء أو أكثر فطنة من نبي الله نوح أو من نبي الله لوط، ولكن مع ذلك صبرا على خيانة امرأتيهما. وتركا الأمر لله لينتقم لهما منهما، فكانتا من الداخلين في النار:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
نعم، تستطيع عزيزي الرجل أن تنتقم لنفسك إذا ما حصلت الخيانة (كعدم غض البصر من طرف امرأتك)، لكن تأكد بأنك لن تستطيع أن تنتقم لنفسك بالطريقة الأمثل، وربما يقع بسبب الغل الذي في قلبك بعضا من الظلم من طرفك، عندها قد تندم على ما قدمت يمينك، لأنك قد تصبح حينئذ من الجاهلين. لكن – بالمقابل- عندما توكل أمرك إلى الله، فيجب أن تعلم أنك إن غفلت أنت، فالله ليس بغافل عما يعمل الظالمون. وإن حاولوا أن يمكروا بك، فأعلم أن الله خير الماكرين. فأدعو الله وحده بأن لا تكون من الغافلين وبأن لا تكون من الجاهلين وبأن لا تكون من الظالمين. وأتي ربك بقلب سليم – آمين.
وللحديث بقية في الجزء الثاني القادم إن شاء الله.
فالله وحده أسأل أن يعلمني، وأن يزيدني علما، وأن يهدين لأقرب من هذا رشدا. وأعوذ به وحده أن أكون ممن يفترون عليه الكذب أو ممن يقولون عليه ما ليس لهم بحق، وأعوذ به أن يكون أمري كأمر فرعون، إنه هو العليم الحكيم – آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
فعلى المرأة (إن أرادت أن تكون من المؤمنات حقا) أن لا تجهر بالقول كجهر الرجال بعضهم لبعضا، فيبقى خطابها هادئا في نبرته، منسجما مع أنوثتها. ولا شك أن هذا لا يتنافى مع طبيعة المرأة الهادئة المتزنة على عكس طبيعة الرجل الثائرة الجامحة غير المتزنة في أكثر الحالات.
ولا يتوقف الأمر عند عدم الجهر بالقول، بل عليها أن لا ترفع صوتها فوق صوت زوجها (أي لا تجعل رأيها فوق رأي زوجها) أيضا. فتقديم رأيها على رأي زوجها يعني أنها هي من تملك زمام الأمر، وهي من تصدر الأوامر. وهي من تعتبر نفسها مفضلة على بعلها (أي تمتلك مسئوليات أكبر من مسئولياته)، فتتصرف ويكأنها هي صاحبة العقد والحل.
السؤال: وما العيب في ذلك؟ أليس بعض النساء أكثر رجاحة عقل من بعولتهن؟ ما المانع أن يكون رأيها مقدما على رأي بعلها إن كانت فعلا جديرة بذلك؟
رأينا المفترى: لا نجد في ذلك ضير، لكن دعنا نوجه السؤال إلى النساء أنفسهن، وليتوقف الرجال عند هذه المرحلة في دسن أنفوهم فيما لا يفهمون.
السؤال للنساء فقط: هل تقبلين (عزيزي المرأة الكريمة) أن تظهري على الملأ بهذا المظهر: أن يرتفع صوتك فوق صوت بعلك الكريم؟ هل تحبين أن يعرف من حولك أن صوتك (أي رأيك) هو دائما فوق صوت (أي رأي) بعلك؟ هل تحبين أن يعرف الناس من حولك أنك أنت صاحبة القرار الأول والأخير في البيت وأن صوت بعلك تابعا لصوتك لا سابقا لصوتك؟ مَن مِن النساء ترضى بذلك حتى وإن كانت نوال السعداوي نفسها (المرأة الأشد دفاعا عن حقوق النساء في مجتمعات التخلف)؟
رأينا المفترى: صحيح أن كثيرا من النساء قد نذرن أنفسهن للدفاع عن المرأة، ومحاولة انتزاع بعض المكاسب للنساء من يد الرجال الظالمين، لكن لا يجب أن يفهم دفاعهن عن المرأة هذا على أنه انسلاخ عن أنوثتهن. فأنا (كرجل) من أشد المدافعين عن حقوق المرأة في مجتمعات التخلف الأعرابي، لكني لا أدعو إلى أن تنسلخ المرأة عن أنوثتها. فالمرأة (كبنت وأخت وزوجة) لا تقبل بأي حال من الأحوال أن يترفع صوتها (أي رأيها) فوق رأي وليها (أبوها أو أخوها أو زوجها). فحتى أم بدر (في باب الحارة) كانت تفرح عندما يحاول أبو بدر أن يتسلم زمام المبادرة بأن يرفع صوته فوق صوتها، أليس كذلك؟!!!
السؤال: لماذا على المرأة أن يكون صوتها أدنى من صوت وليها؟
جواب مفترى: نحن نظن أن السبب في ذلك يعود إلى وجود القلبين في جوف المرأة (انظر المقالة السابعة في سلسلة مقالات فقه الزكاة)، الأمر الذي يجعلها غير قادرة على اتخاذ القرار بشكل حاسم. فالمرأة لا تحب أن تكون مسئولة عن اتخاذ القرار حتى لا تكون مسئولة أيضا عن تبعاته. وتفضل – بالمقابل- أن يقوم أحد آخر (الرجل) باتخاذ القرار عنها، وبالتالي تحمل مسئوليات قراره. لذا جاء الأمر للرجال بأن يقوا أنفسهم وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة:
عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
السؤال: وماذا لو كان قرار الرجل غير صائب؟ هل على المرأة أن تطيعه؟
جواب مفترى: كلا. لأن طاعة المرأة للرجل في المعروف:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)
السؤال: ماذا لو أجبرها على المعصية؟
جواب مفترى: نحن نفتري الظن بأن على المرأة في كل الحالات أن لا تجهر بالقول ولا ترفع صوتها، ولقد ضرب الله المثل للمؤمنات بامرأة فرعون:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
فلا يمكن أن توضع امرأة في موقف أشد حرجا من موقف امرأة فرعون، فما جهرت بقولها ولا رفعت صوتها، ولكن توجهت إلى ربها أن ينجيها من فرعون وعمله.
ولا شك عندنا أن حالة امرأة فرعون أسوأ من حالة أي امرأة أخرى، وذلك لسبب بسيط أن امرأة فرعون لا تستطيع أن تطلب الطلاق من فرعون. فمن يجرؤ أن يبدي امتعاضا (ولو قليلا) من فرعون؟ ماذا تتوقع أن تكون نتيجة من يبدي امتعاضا (ولو قليلا) من فرعون؟
أما النساء الأخريات، فقد شرع الله أن يطلبن الفراق عن بعولتهن:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
ولا شك أن فطرة النساء تتقبل بهذا المنطق، وليس أدل على ذلك بأن المرأة ترضى أن تفعل كل ما يطلبه منها وليها، مقتنعة تماما أنه هو من يتحمل تبعات هذا كله. فحتى لو كان بعلها سارقا للمال، قد لا ترى غضاضة في أن تصرفه حتى على الكماليات في حياتها وهي مبتهجة مسرورة. وكل ما على المرأة أن تفعله هو أن تنصح بعلها بهدوء (فلا تجهر له بالقول) ولا تحاول أن تجعل صوتها يعلو على صوته (أي أن تشعره بأنه هو صاحب الرأي الأول في البيت – يعني تضحك عليه على الأقل). فحتى لو كان الرأي رأيها، يجب أن تكون ذكية لدرجة أن تظهره على الملأ أنه رأي زوجها. وبهذا تخلي نفسها من مسئولية عواقب القرار، وتحفظ ماء وجه زوجها. والأهم من هذا تلتزم بالهدي الإلهي يبن لا تكون من اللواتي لا يغضضن أصواتهن.
ولعلي أكاد أجزم الظن بأن المرأة التي لا تغض من صوتها، لن تغض من بصرها.
السؤال: كيف ذلك؟
قال تعالى:
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
السؤال: لكي تكون المرأة مؤمنة، عليها أن تغض من بصرها أيضا. ليكون السؤال: ما هو غض البصر؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: لا شك عندنا أن غض البصر له علاقة مباشرة بحفظ الفرج، فعدم غض البصر هو مقدمات عدم حفظ الفرج.
السؤال: ما الذي يضطر المرأة أن لا تغض بصرها وقد لا تحفظ فرجها بعد ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن جهرها بالقول ورفعها لصوتها هو ما قد يجعلها لا تغض من بصرها ولا تحفظ فرجها.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن هناك حالتان يمكن للمرأة أن لا تغض من بصرها، وهاتان الحالتان إما أن يكون سببهما الرجل نفسه أو المرأة نفسها.
الحالة الأولى، عندما تجد المرأة بأن بعلها غير قادر على الأخذ بزمام الأمور، وأن صوتها قد يرتفع فوق صوته، فإنها تفقد فيه كل معنى الرجولة التي تبحث عنها في زوجها الذي تحلم به، قد يجرها هذا إلى أن تبدأ رحلة النظر فيمن هم حولها، لتقارن بعلها بمن يمكن أن يقع عليه بصرها من حولها من الرجال، وربما يقع بصرها على الرجل الذي تظنه مثالي بالنسبة لها، ولو تطورت الأمر أكثر من ذلك، لربما كان ذلك مدعاة فيما بعد إلى عدم حفظ الفرج (لا سمح الله).
أما الحالة الأخرى، فهي أن يذهب الرجل في ذلك إلى أبعد من اللازم، كأن يجعل صوت زوجته دون صوته على الدوام، فلا يأخذ برأيها، حتى تبدأ تشعر بأنها ليست ذات قيمة فاعلة عنده، فهي لا تستطيع أن ترفع صوتها فوق صوته (ربما لأسباب وضوابط اجتماعية)، لكنها في الوقت ذاته تجد بأنه قد تعدى عليها، فجعلها أقل اعتبارا عنده مما يجب. وفي هذه الحالة يدخل الصراع إلى قلبها، فتبدأ بعملية النفاق الاجتماعي الذي تبين فيه بأنها راضية بذلك في العلن، لكنها تكتم في سرها ما لا تستطيع أن تبديه في العلن، فتبدأ مرحلة عدم غض البصر، أي البحث فيمن حولها عن شخص يهدأ لها نفسها، ويشعرها بقيمتها الحقيقية، وهنا قد يقع بصرها على من تظن أنه الشخص المثالي بالنسبة لها، ولو تطور الأمر إلى أكثر من ذلك، لكان ذلك مدعاة فيما بعد إلى عدم حفظ الفرج (لا سمح الله)
السؤال الأول: ما المطلوب من الرجل؟
لعلي أكاد أجزم الظن بأن الرجل يجب أن يكون مبادرا إلى أخذ زمام الأمر، ليكون صوته هو المرتفع (أي هو صاحب الرأي)، لكن ذلك لا يمنع من أن يعطي الاهتمام لرأي زوجته بالمشورة. وعليه أن يتأكد بأن قرار زوجته يتماشى مع قراره، وفي حالة وجود الخلاف، لابد من المحاورة واللين من قبل الطرفين.
السؤال: هل يمكن أن لا يحصل التوافق بينهما؟
رأينا المفترى: نعم، ربما لا يحصل التوافق التام بينهما، وعندها تبدأ الإشارات تبين بذلك الاتجاه، وربما أهم تلك الإشارات هي عدم غض البصر من قبل الزوجة، التي قد تبدأ رحلة البحث على من تظن أنه قد يكون الخيار الأمثل بالنسبة لها. ولعلي أجد من الضروري التنبيه أن رحلة المرأة في البحث عن الشخص الآخر بعدم غض بصرها ليس مصدره رغبة جنسية كما قد يظن كثيرا من الرجال الذين قد يقع عليهم الاختيار، لكنها رحلة لإيجاد الذات أو للانتقام، فالمرأة التي لا تغض بصرها في ظل وجود بعلها هي امرأة تحاول إيجاد ذاتها مع رجل آخر يستطيع أن يحتويها أو أن تنتقم من زوجها بطريقة أخرى لأنه أهملها ولم يستطع أن يلبي لها حاجاتها النفسية قبل حاجاتها المادية، فربما تريد منه أن يعاود التفكير من جديد، ويحاول أن يتفهم حاجتها أكثر مما كان عليه الحال من ذي قبل. فالمرأة تحب أن تجد الغيرة عليها من قبل بعلها، وإن هي رأت أنه فاتر الغيرة عليها، لجأت إلى أساليب متنوعة (منها عدم غض البصر) لتستثير الغيرة فيه عليها.
السؤال: ما الذي يجب على الرجل فعله في هذه الحالات:؟
رأينا المفترى: إذا وجد الرجل أن صوت امرأته قد يعلو على صوته، وأن ليس هناك فرصة للإصلاح، فالتفريق بينهما هو الأولى، لأن الله سيغني كل من سعته:
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
فالرجل يجب أن يكون صوته هو المرتفع في بيته وفي أهله، وإلا حدث خلل اجتماعي في البيت كله. ولا يعني ذلك أن تنتشر في بيوتنا صورة "سي السيد"، المستبد الظالم، بل هي أقصى درجات الديمقراطية، الأخذ بمشورة الجميع، لكن على الجميع أن ينزلوا على رأي واحد، يكون الرجل هو صاحب الصوت الأعلى. بالضبط كنظام الدولة الديمقراطية أو المؤسسة الناجحة، فيستحيل أن تنجح إذا كان هناك أكثر من ربان يقود السفينة، ويستحيل أن تنجح إذا لم يكن الشخص المناسب في المكان المناسب. فالرجل هو قائد سفينة البيت الذي يجب أن يقودها إلى بر الآمان، وعلى جميع أفراد الأسرة أن يدلوا برأيهم، لكن عليهم جميعا أن يحترموا صاحب الحق في الصوت الأعلى، وهو الرجل.
ولكن إن سكتت المرأة، وبان بأنها قد قبلت بالوضع الراهن على مضض بسبب الظروف والضوابط الاجتماعية المحيطة، ولكنها لجأت إلى أسلوب عدم غض البصر، فإن على الرجل أن يسكت على ذلك ما لم تأتي بفاحشة مبينة:
... لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: لأن الله قد سن لنا طرق الخلاص من هذا الموقف، فحتى من أتت منهن الفاحشة (غير المبينة)، فلا يجوز إخراجها من البيت، بل يجب أن تمسك في البيت:
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)
السؤال: على من يقع الحق، على الرجل أم على المرأة؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الحق يقع على من تعدى الحدود:
... وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: ربما يقع التقصير من طرف واحد أو من الطرفين، فقد تتجاوز المرأة بعض الحدود العادية، وقد حصل ذلك مع نساء النبي، فجاء التهديد المباشر باستبدالهن:
عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
وقد يتجاوز الرجل بعض الحدود، فيقع الظلم منه على زوجه، وما أكثر الأمثلة على ذلك!
لكن ما الواجب على الزوج أو الزوجة أن يفعلاه حتى في حالة وقوع الظلم من طرف على طرف آخر؟
رأينا المفترى: على المرأة أن تختار أحد الطريقين، إما طريق التي ضرب الله بها مثلا للذين آمنوا (امرأت فرعون)، فتصبر وتحتسب ذلك عند الله، وتدعو الله النجاة إنْ تجاوز الرجل كل الحدود (كما فعل فرعون). أو أن تختار – بالمقابل – طريق اللاتي ضرب الله بهن مثلا للذين كفروا (امرأت نوح وامرأت لوط). فالمرأة المؤمنة هي التي لا شك ستختار طريق الجنة، فسيكون لها بيتا في الجنة أفضل من بيت بعلها الذي ظلمها وسلبها حقها في الحياة الدنيا.
السؤال: ما الواجب على الرجل أن يفعله؟
رأينا المفترى: أن يتقي الله فلا يظلم زوجته، وأن يحاول توفير أقصى ما يستطيع، فينفق من سعته كما أمره الله، ومن قدر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها:
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
وعلى الرجل أن يختار بين طريقين، إما طريق الظلم والاستبداد (أي منهج فرعون)، أو منهج الصالحين من عباد الله كنوح ولوط. فلا تظن عزيزي الرجل الكريم أنك يمكن أن تكون أكثر ذكاء أو أكثر فطنة من نبي الله نوح أو من نبي الله لوط، ولكن مع ذلك صبرا على خيانة امرأتيهما. وتركا الأمر لله لينتقم لهما منهما، فكانتا من الداخلين في النار:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
نعم، تستطيع عزيزي الرجل أن تنتقم لنفسك إذا ما حصلت الخيانة (كعدم غض البصر من طرف امرأتك)، لكن تأكد بأنك لن تستطيع أن تنتقم لنفسك بالطريقة الأمثل، وربما يقع بسبب الغل الذي في قلبك بعضا من الظلم من طرفك، عندها قد تندم على ما قدمت يمينك، لأنك قد تصبح حينئذ من الجاهلين. لكن – بالمقابل- عندما توكل أمرك إلى الله، فيجب أن تعلم أنك إن غفلت أنت، فالله ليس بغافل عما يعمل الظالمون. وإن حاولوا أن يمكروا بك، فأعلم أن الله خير الماكرين. فأدعو الله وحده بأن لا تكون من الغافلين وبأن لا تكون من الجاهلين وبأن لا تكون من الظالمين. وأتي ربك بقلب سليم – آمين.
وللحديث بقية في الجزء الثاني القادم إن شاء الله.
فالله وحده أسأل أن يعلمني، وأن يزيدني علما، وأن يهدين لأقرب من هذا رشدا. وأعوذ به وحده أن أكون ممن يفترون عليه الكذب أو ممن يقولون عليه ما ليس لهم بحق، وأعوذ به أن يكون أمري كأمر فرعون، إنه هو العليم الحكيم – آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
14 حزيران 2018