فقه الزكاة - الجزء 1
فقه الزكاة – الجزء الأول
بعد أن تجرأنا على تسطير بعض الخطوط العريضة التي ربما تبيّن بعض تفاصيل عقيدتنا فيما يخص فقه الصيام وفقه الصلاة كما فهمناها من كتاب الله، دعنا ننتقل إلى تسطير بعض الافتراءات الخاصة بنا عن فقه الزكاة كما نفهمه أيضا من كتاب الله. ولعلنا نحتاج بداية أن ننبه إلى أننا سنتجرأ على بعض الافتراءات التي قد تكون غير مسبوقة في الفكر الديني، والتي نعتقد جازمين بأنه سيكون لها (إن صحّت طبعا) تبعات جمّة على العقيدة الدينية وعلى التطبيق الفعلي لها على أرض الواقع. فمن أراد أن يجازف باللحاق بنا في رحلة متهورة إلى أرض بكر لا ندري طبيعة تضاريسها بعد، فله ذلك شريطة أن يتحمل هو بنفسه تبعات قراره، ولا نملك إلا أن نسدي له النصيحة دائما بأن لا يملّ من دعاء ربه (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)). ومن أراد الرجوع إلى الوراء، خاصة إذا لم يكن من المغرمين بقصيدة روبرت فرُست (The Road Not Taken)، فله أن يتابع المسير في الطريق التي يعرف تفاصيلها جيدا، فهو الأكثر دراية بمصلحته مادام أنه يعتقد أنه لم يبتعد يوما عن ذلك الصراط الذي ألفى عليه آباءه.
(دعاء: ربنا اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا – أمين)
أما بعد
إن الذي أشغل تفكيرنا في هذه القضية على وجه التحديد هو تناوب اللفظ في كتاب الله بين مفردتين متقاربتين في المعنى، وهما مفردة الزكاة (الزكوة) من جهة ومفردة الصدقة (الصدقات) من جهة أخرى. فطرحنا على أنفسنا التساؤل المثير التالي: ما الفرق بين الزكاة والصدقة كما تردا في النص القرآني؟
وكانت محاولتنا في الإجابة على هذا التساؤل تتمثل بداية في استعراض السياقات القرآنية كلها الخاصة بالمفردتين على مساحة النص القرآني، ثم محاولة تدبرها في تلك السياقات متفرقة أولا ثم مجتمعة بعد ذلك، علّنا نستطيع (بحول الله وتوفيق منه) الخروج باستنباطات ربما تساعدنا في تجلية الفروقات الحقيقية بين المفردتين، ومن ثم محاولة إسقاط تلك الاستنباطات المفتراة من عند أنفسنا على أرض الواقع، والنظر فيما ستؤول إليه الأمور بعد ذلك.
فعند استعراض الآيات القرآنية الخاصة بالصدقة (الصدقات)، وجدناها متعددة ومتنوعة، فحاولنا الخروج باستنباطات نذكر منها:
أولا، أن الصدقة فعل يتعلق بتوافر الأموال:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
ثانيا، يمكن أن يقوم الإنسان بفعل الصدقة في الحج، قال تعالى:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
ثالثا، يمكن لفعل الصدقة أن يجر وراءه الأذى، قال تعالى:
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
ويمكن لهذه الصدقات أن تُبطل بالمن والأذى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
رابعا، يمكن لنا (كبشر) أن نأمر غيرنا بالصدقة:
لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
خامسا، يمكن أن تقدم الصدقة بين يدي النبي نفسه، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ۚ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)
سادسا، لا مانع من إبداء الصدقات ولكن إخفاؤها هو خير، قال تعالى:
إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
سابعا، الربا هو النقيض المقابل للصدقات، ففي حين أن الله يمحق الربا فهو نفسه من يربي الصدقات، قال تعالى:
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
ثامنا، ما يؤتي الرجال النساء من مال يقع في باب الصدقة، قال تعالى:
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4)
ولا يؤخذ منه شيئا إلا عن طيب نفسن منهن:
وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (21)
تاسعا، توزيع الصدقات يكون واضحا للجميع بدليل أن البعض قد يلمز النبي في طريقة توزيعها، قال تعالى:
وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
عاشرا، جاء تحديد الفئات التي تأخذ من الصدقات واضحا لا لبس فيه في الآية الكريمة التالية:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
أحد عشر، لم يكن هناك حد أدنى للقدرة المالية لمن أراد أن يتصدق، فقد يتطوع المؤمن بأي مقدار من الصدقة ما دام أن هذا هو جهده، قال تعالى:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
اثنا عشر، جاءت آية كريمة تبين بصريح اللفظ أن الله هو من يأخذ الصدقات، قال تعالى:
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
ثالث عشر، يمكن للرجال وللنساء إخراج الصدقات، قال تعالى:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
رابع عشر، جاء الفصل واضحا في كتاب الله بين تقديم الصدقات وإيتاء الزكاة، فتقديم الصدقات هو فعل يختلف عن فعل إيتاء الزكاة، قال تعالى:
أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ۚ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
السؤال المحوري: إذا كان فعل تقديم الصدقات يختلف عن فعل إيتاء الزكاة، فما هي الاستنباطات التي يمكن الخروج منها من الآيات الكريمة التي تتحدث عن فعل إيتاء الزكاة؟
جواب مفترى، دعنا نستعرض الآن بعض الاستنباطات التي استطعنا الخروج بها من السياقات القرآنية الخاصة بفعل إيتاء الزكاة.
أولا، ربما لا يخفى على الكثيرين أن فعل إيتاء الزكاة قد ورد مجاورا وملاحقا لفعل إقامة الصلاة في كثير من السياقات القرآنية، قال تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ۚ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
ثانيا، جاء فعل إيتاء الزكاة غير مصاحب لفعل إقامة الصلاة في الآية الكريمة التالية:
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
ثالثا، جاء فعل إيتاء الزكاة منفصلا بشكل لا لبس فيه عن إقراض الله قرضا حسنا، كما في الآية الكريمة التالية:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)
رابعا، جاء الأمر الإلهي بالكف عن قتال المشركين متى ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، قال تعالى:
فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
خامسا، كان إيتاء الزكاة (بالإضافة إلى التوبة وإقامة الصلاة) هو الشرط الثلاث لتحقيق الإخوة في الدين، قال تعالى:
فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
سادسا، جاء فعل إيتاء الزكاة مصاحبا وتابعا لعمارة المساجد، قال تعالى:
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
ثامنا، جاء فعل إيتاء الزكاة في سياق الحديث عن المؤمنين والمؤمنات، قال تعالى:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
تاسعا، كانت الزكاة واحدة من ما أوصى به الله نبيه عيسى بن مريم، قال تعالى:
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
عاشرا، كانت من سمات نبي الله إسماعيل هو أنه كان يأمر أهله بالزكاة مباشرة بعد أمره إياهم بالصلاة، قال تعالى:
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
أحد عشر، كان فعل إيتاء الزكاة من أهم ميزات من مكّن الله لهم في الأرض، قال تعالى:
الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
اثنا عشر، جاء فعل إيتاء الزكاة واحد من الأفعال المحددة التي يقوم بها من كان من المسلمين: قال تعالى:
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
ثالث عشر، كان فعل إيتاء الزكاة واحدة من أهم الأفعال التي يقوم بها من يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهم الموقنون بالآخرة، قال تعالى:
رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
وكان عدم إيتاء الزكاة (على وجه التحديد) واحدة من أهم الأفعال التي تدل على الكافرين بالآخرة، قال تعالى:
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
رابع عشر، جاء فعل إيتاء الزكاة كواحد من الأفعال التي يمكن أن تجلب لنا الرحمة من الله، قال تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
خامس عشر، جاء الحث واضحا لأزواج النبي على إيتاء الزكاة، قال تعالى:
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
سادس عشر، من أراد أن يكون مخلصا لله الدين، فلابد أن يؤتي الزكاة كما يقيم الصلاة، قال تعالى:
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
سابع عشر: جاء فعل إيتاء الزكاة (بالإضافة إلى إقامة الصلاة) منفصلا عن فعل الخيرات، قال تعالى:
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
السؤال: ما الذي يمكن أن نفهمه بعد هذا السرد للاستنباطات التي حاولنا تسويقها لما فهمنا من السياقات الخاصة بالصدقة والسياقات الخاصة بالزكاة؟
جواب مفترى: بداية، لمّا كان فعلا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قد وردا مصاحبين لـ ومنفصلين عن فعل الخيرات، وجب علينا الخروج بالاستنباط التالي المهم جدا جدا وهو أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ليست من أفعال الخير. ففعل الخيرات هو شيء وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شيء آخر تماما. انتهى.
السؤال: لماذا؟ أي لماذا هذا الفصل بين فعل الخيرات من جهة (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من جهة أخرى (وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ)؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن فعلي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من الأفعال المفروضة على المسلم المُلزمة له (شاء أو أبى) التي لا يتحصل له من أدائها الخيرات.
السؤال: لماذا لا يتحصل للمسلم الخيرات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟
جواب مفترى: مادام أنه (نحن نفتري الظن) من الأفعال المفروضة على المسلم شاء أو أبى، فهي إذن حق الله على عباده. انتهى.
نتيجة مفتراة (1): إقامة الصلاة هي حق لله على عباده
نتيجة مفتراة (2): إيتاء الزكاة هي حق لله على عباده
نتيجة مفتراة مهمة جدا: نحن نظن أن الذي لا يقيم الصلاة ولا يؤتي الزكاة فهو كمن لا يقوم بأداء دَيّن مفروض عليه، والذي يتهاون فيها هو كمن يتهاون في أداء ذلك الدين.
السؤال: ما الذي يمكن أن نستنبطه من هذا التصاحب الذي يكاد لا ينفك في كتاب الله بين فعلي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في كتاب الله؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نرى أن هناك أسباب عديدة هي محرك هذا التصاحب، نذكر منها:
1. إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي أفعال مفروضة على العبد، ملزمة له شاء أو أبى
2. إن العلانية في أدائهما واجبة، فلا مجال لإخفائها. ففي حين أنه يمكن إبداء الصدقات ويمكن إخفائها، فإن إيتاء الزكاة تجب فيه العلانية. بالضبط كما الحال بالنسبة للصلاة، ففي حين أن العلانية واجبة في إقامة الصلاة (المفروضة)، فإن العلانية غير ملزمة في التسبيح بحمد الرب (أو ما يعرف بين المسلمين بصلاة السنّة).
3. إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي أفعال محددة لا يجوز الزيادة فيها أو التنقيص منها، بينما يمكن أن نزيد وننقص من الصدقات بمقدار الجهد. بالضبط كما الحال بالنسبة للصلاة، ففي حين أن عدد الصلوات وركعاتها محددة لا يزاد فيها ولا ينقص منها في إقامة الصلاة (المفروضة)، فإن الباب مفتوح في التسبيح بحمد الرب (أو ما يعرف بين المسلمين بصلاة السنّة).
4. إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي أفعال محددة بأزمان ثابتة، بينما يمكن تقديم الصدقات في أوقات متفاوتة. بالضبط كما الحال بالنسبة للصلاة، ففي حين أن إقامة الصلاة هي كتاب موقوت، فإن التسبيح بحمد الرب (أو ما يعرف بين المسلمين بصلاة السنّة) يمكن أن يتم في أي وقت.
5. الخ.
تلخيص ما سبق: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأنه كما ينقسم فعل الصلاة إلى فعلين أساسيين وهما إقامة الصلاة (المفروضة) والتسبيح بحمد الرب (التطوعية) كما حاولنا توضيح هذا سابقا تحت عنوان فقه الصلاة، فإن تقديم المال ينطبق عليه المنطق نفسه، فهو أيضا فعل ينقسم إلى فعلين أساسيين وهما إيتاء الزكاة (المفروضة) وتقديم الصدقات (التطوعية) كما في الشكل التوضيحي التالي:
إقامة
الصلاة
|
التسبيح
بحمد الرب
|
إيتاء
الزكاة
|
تقديم
الصدقات
|
-
حق
الله على العباد
-
واجبة
لا مفر من أدائها
-
علانية
-
لا
تجلب للإنسان مصلحة دنيوية
-
لا
تقع في باب فعل الخيرات
-
ثابتة
في المقدار فلا نزيد فيها ولا ننقص منها
الخ
|
-
حق العباد على الله
-
تطوعية
-
قد تبدى وقد تخفى
-
تجلب للإنسان مصلحة دنيوية
-
تقع في باب فعل الخيرات
-
متفاوتة في المقدار يمكن أن نزيد
فيها أو أن ننقص منها
الخ
|
-
حق
الله على العباد
-
واجبة
لا مفر من أدائها
-
علانية
-
لا
تجلب للإنسان مصلحة دنيوية
-
لا
تقع في باب فعل الخيرات
-
ثابتة
في المقدار فلا نزيد فيها ولا ننقص منها
الخ
|
-
حق العباد على الله
-
تطوعية
-
قد تبدى وقد تخفى
-
تجلب للإنسان مصلحة دنيوية
-
تقع في باب فعل الخيرات
-
متفاوتة في المقدار يمكن أن نزيد
فيها أو أن ننقص منها
الخ
|
لسؤال: ما هي الزكاة على أرض الواقع؟ وما هي الصدقة على أرض الواقع (إن صح ما تقول)؟ يسأل صاحبنا.
جواب مفترى من عند أنفسنا: إن صحت استنباطاتنا هذه عن الزكاة، فإننا نتجرأ إذن على افتراء الظن بأن فعل الزكاة ينقسم إلى فعلين رئيسيين هما فعل إيتاء الزكاة وفعل تقديم الصدقات، ففي حين أن فعل إيتاء الزكاة هو فعل إلزامي، محدد بالمقدار والكيفية، ولا يجلب للإنسان مصلحة دنيوية لأنه حق مفروض عليهم:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24)
فإن تقديم الصدقات – بالمقابل- هو فعل تطوعي غير محدد بالمقدار، وهو الذي يجلب للإنسان منفعة دنيوية مادام أنه تطوعي، يقوم به المسلم عن رغبة منه، وهو يتفاوت في المقدار بحسب جهد الشخص نفسه:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
السؤال: كيف يمكن إسقاط هذه الأفعال (إيتاء الزكاة وتقديم الصدقات) على أرض الواقع؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن أنه يمكن إسقاط ذلك على أرض الواقع على النحو المفترى من عند أنفسنا التالي: نحن نظن (ربما مخطئين) بأن فعل إيتاء الزكاة على وجه التحديد هو ما يعرف بالمفردات الدراجة على أرض الواقع تحت عنوان "دفع الضرائب". فهو – برأينا- الضريبة المفروضة والملزمة في كل ما يتحصل عليه للإنسان من مال (أي في كل غنيمة)، يدفعه هذا المسلم كحق معلوم للدولة، ليستفيد من جراء ذلك الجميع بالقسط (أي بالتساوي في التوزيع والمنفعة)، فهو إذن حق للجميع، السائل منهم والمحروم:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
أما الصدقات فهي – بالمقابل- من الأعمال التطوعية التي يمكن للإنسان أن يقوم بها بنفسه إن شاء، بحسب جهد كل شخص منهم:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
ولها مصارف محددة، خاصة فقط بالفئات ذات الحاجة الملحة من المجتمع، وهم من جاء ذكرهم واضحا لا لبس فيه في الآية الكريمة التالية:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
ولا شك عندنا أن فعل إيتاء الزكاة (كما هو فعل إقامة الصلاة) واجب فيه الإظهار (أي يجب أن يكون باديا على غير الصدقات التي قد تبدى وقد تخفى)، فلا يجوز فيه الإخفاء تحت أي ظرف من الظروف:
فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
فحتى تبين إخوة الناس في الدين وجب أن يكون معلوم لدى الجميع أن هذا الشخص من الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. وسنرى تبعات هذا الافتراء الجمة لاحقا (بحول الله وتوفيقه) عند الحديث عن كيفية تطبيقها على أرض الواقع.
بينما تقديم الصدقات – بالمقابل- فهو فعل يمكن أن يكون ظاهرا (فيعلم به الناس الآخرون) ولكن الخيرية – لا شك- تكون في إخفاءه، كما جاء في الآية الكريمة التالية:
إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
والهدف من إخفائه هو حتى لا يحدث من جراء فعله الأذى:
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
السؤال: ما هو المنّ؟ وما هو الأذى؟ وكيف يمكن أن تُبطل الصدقات بالمنّ أو بالأذى؟
رأينا: عندما يقوم شخص بتقديم الصدقة لشخص آخر، قد يقع الشخص الذي تصدّق بإبطال صدقته هذه بواحدة من طريقتين، وهما المن أو الأذى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ)، أليس كذلك؟
السؤال الأول: كيف يمكن أن يبطل المؤمن صدقاته بالمنّ؟
السؤال الثاني: كيف يمكن أن يبطل المؤمن صدقاته بالأذى؟
رأينا المفترى: للإجابة على هذين التساؤلين، وجب علينا التوقف على الأمور التالية، كما نفهمها من الآية الكريمة نفسها:
1. أن ذلك سلوك قد يقوم به بعض المؤمنون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ)
2. أن ذلك السلوك يشبه سلوك من يقوم بذلك أصلا من أجل الرياء (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ)
3. أن ذلك السلوك يشبه ما يقوم به الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)
4. أن ذلك كله يشبّه بالصفوان الذي عليه تراب فأصابه وابل، فأزاح ذلك التراب عنه بالكلية حتى عاد به إلى حالته الأولى (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا)
5. الخ.
السؤال: ما الفرق بين المنّ والأذى إذن؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن المنّ هو أن يقوم الشخص الذي تصدّق "بمعايرة" من تصدق عليه شخصيا، فالمنّة تقع من "المنعِم" على "المنعَم عليه"، فالله هو الذي منّ علينا:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17)
نتيجة مفتراة: المنّة تقع مباشرة من الذي أَعطى إلى الذي أُعطي. لذا، فإن الشخص الذي قدّم الصدقة لشخص آخر قد يبطل صدقته هذه إن هو منّ مباشرة على الشخص الذي أعطاه نفسه، كأن يذكّره بين الفينة والأخرى بأنه قد تصدق عليه، وبأن له منّة عليه.
رسالة قصيرة: كم نجد في حياتنا اليومية من يقوم بفعل الصدقة، ثم إذا ما حصل خصام بين الطرفين لأس سبب، رأيت المتصدِّق يذكّر من تصدق عليه بتلك الصدقة التي أعطاه إياها في يوم من الأيام! فنحن ندعوك عزيزي المتصدق أن هذه المنّة (أي المعايرة بالكلمات الأردنية الدارجة) ستبطل لا محالة كل الصدقة التي قدمتها، ولن تستفيد منها، وذلك لأن مثل هذا السلوك لا يصدر إلا من الذي يتصدق من أجل الرياء، ولا يصدر إلا ممن كان لا يؤمن بالله واليوم والآخر (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). وهذا السلوك يشبه من وضع شيئا قليلا من التراب على الصخرة الكبيرة (صَفْوَانٍ) ظانا أنها ستكون أرضا خصبة للنماء، لكنه لا يعرف أن منّته هذه قد أزالت التراب من المكان كله، فعادت به صلدا، أي ربما أكثر قسوة مما كان عليه سابقا.
والذي ينفق من أجل الرياء هو الذي يكف عن الإنفاق إن لم يجد مردودا مباشرا من الذين أنعم عليهم بصدقته، ويكأن لسان حاله يقول يجب على هؤلاء الذين تصدّقت عليهم أن تبقى ألسنتهم تلهج بذكري الطيب في كل وقت وحين. ولو توقف هؤلاء عن ذكره وذكر آباءه ونعمهم عليهم، لاستشاط غضبا، وربما ما تردد بأن يذكّرهم بصدقته عليهم، فذاك هو – برأينا- المنّ الذي يبطل الصدقات كلها.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: المنّ هو أن "يعاير" المتصدق من تصدق عليهم بصدقته مباشرة.
السؤال: وكيف يمكن أن تبطل الصدقات بالأذى؟
جواب مفترى: للإجابة على هذا التساؤل، دعنا نطرح بداية التساؤل الأولي التالي: ما هو الأذى؟
أولا، نحن نظن أن الأذى هو "عيب أو خلل أصيب به الشخص" لا يمكن إخفاءه عن بعض الناس الآخرين مهما حاول المصاب تغطية ذلك الأذى.
الدليل
قد يصيب الأذى الرأس، وهو الجزء الأكثر وضوحا في جسم الإنسان كله، قال تعالى:
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
فمن أصابه ذلك الأذى (أي أذى الرأس) قد يحاول (وقد يلجأ إلى) تغطية ذلك الأذى بشيء من القماش أو ما شابه. لكن حتى لو فعل ذلك، فإنه لن يستطيع أن يمنع الآخرين من معرفة حدوث الأذى في الرأس بسبب التغطية. فسواء تمت تغطية الأذى أو لم تتم، فإن العلم به لن يكون فقط للشخص الذي أصابه ذلك الأذى من رأسه، وإنما لمن حوله. فكلُ من يقترب إلى مسافة معينة من الشخص الذي أصاب رأسه الأذى، يعلم به، وكلما اقترب أكثر، كلما اتضح له الأذى أكثر. فيزداد العلم بالأذى كلما ازداد القرب من الشخص الذي يعاني منه، ويقل العلم به كلما ابتعد عن الشخص الذي أصاب رأسه الأذى. وليس أدل على ذلك من العلم بالمحيض، الذي هو أيضا أذى:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
فأكثر الناس علما بمحيض المرأة هو زوجها، لأنه – لا شك- هو الأقرب لها. فمهما حاولت المرأة التي تعاني من أذى المحيض تغطية الخبر عن الآخرين، إلا أن ذلك لابد أن ينكشف خبره على البعض ممن هم حولها، كالعائلة مثلا (عندما تتوقف المرأة المصابة بأذى المحيض عن إقامة الصلاة أو عن الصيام في وقت حدوث الأذى)، أو كالزوج الذي لا يمكن أن يخفى عليه أذى محيض زوجته لأنه مأمور أن يعتزلها في تلك الفترة الزمنية (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ). فنصل إلى النتيجة التي نظن أنها مهمة جدا وتتمثل بافترائنا بأن أقل عدد من البشر يمكن له أن يعرف عن الأذى هو شخص واحد (كالزوج)، ولكن يمكن أن يعرف عن الأذى أشخاص كثيرون كحاله كأذى الرأس في الحج.
نتيجة: العلم بالأذى قد يصل إلى أكثر من شخص، ولكن أقل عدد ممكن أن يعرف عن الأذى هو شخص واحد.
ثانيا، نحن نفتري الظن بأن خبر الأذى (أي العلم به) قد ينتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم، فقد يخبر البعض من الناس بأذى الآخرين للبعض الآخر:
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
فالعلم بخبر الأذى قد يكون بالسمع (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا)، وهنا يزداد الأذى، فيصبح أذى كثيرا.
نتيجة مهمة: نحن نظن أنه كلما ازداد عدد العارفين بالأذى، كلما كثر ذلك الأذى. فلو عرف بالأذى شخص واحد لكان أذى محدودا، ولكن لو عرف به أكثر من شخص لاتسعت رقعة الأذى بازدياد عدد من يعلم به.
ثالثا، نحن نظن أن الأذى يستحيل إخفاءه كالذي قد يلحق بالناس من المطر، ولكنه يحدث أيضا فوضى عارمة، كلما ازداد عدد العالمين به:
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102)
فلك – عزيزي القارئ- أن تتخيل طبيعة الفوضى (غير المنظمة) التي تنتج عن نزول المطر عندما تدوس أقدام الناس الأرض التي ابتلت بماء المطر (أي ما يعرف بالطين أو mud بالمفردات الأجنبية. فيصبح من الصعب السيطرة عليه، وربما من الاستحالة بمكان تنظيمه، كما في الشكل التوضيحي التالي:
Source: https://www.google.jo/search?q=mud+images&biw=1708&bih=770&tbm=isch&imgil=PCbY4Ct4dtW4aM%253A%253BQYq-496Og1ujvM%253Bhttps%25253A%25252F%25252Fen.wikipedia.org%25252Fwiki%25252FMud&source=iu&pf=m&fir=PCbY4Ct4dtW4aM%253A%252CQYq-496Og1ujvM%252C_&dpr=0.8&ved=0ahUKEwjQs_eq5rXKAhWG2RoKHT36CUEQyjcILQ&ei=rSGeVpCpD4aza730p4gE#imgrc=PCbY4Ct4dtW4aM%3A
رابعا، ونحن نفتري الظن أيضا بأن الأذى قد يلحق بشخص واحد (كأذى الرأس أو المحيض) وقد يلحق بالمجموعة كلها، كما حصل عندما لحق الأذى ببني إسرائيل كلهم في أرض مصر:
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
السؤال: ما علاقة هذا كله بإبطال الصدقات بالأذى؟
رسالة قصيرة: كم نجد – عزيزي القارئ- في حياتنا اليومية من يقوم بفعل الصدقة، ولا تراه يقوم بفعل المّن على من تصدق عليه مباشرة، ولكنه يذهب لنشر خبر صدقته هذه للآخرين. فتراه يقول لمن حوله بأنه قد تصدق على فلان بكذا وبكذا. وأقلهم من يسر إلى بعض أصدقائه أو عائلته أو ربما زوجته (التي تتولى نقل الخبر بكل براعة واحتراف في جلسات الشاي الصباحية أو جلسات القهوة المسائية مع صاحباتها وبعض أقاربها) بأنه قد تصدق على بعض الناس فيذكرهم بالاسم. ثم ما هي إلا فترة قصيرة جدا حتى تجد أن خبر تلك الصدقة قد انتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم. وربما أخذ كثير من الناس يتحدثون بذلك الخبر في مجالسهم، وتكثر التأويلات والتفسيرات، وربما تصدر من البعض ألفاظ غير لائقة بحق المتصدق عليهم، فتدب الفوضى في فهم الغاية والمقصد، فهذا التصرف هو – برأينا- أذى، يكثر بمقدار عدد العالمين به، وذلك لأنه يلحق الضرر بالمتصدق عليه بشخصه كما يلحق الأذى بمن حوله (كعائلته وأقربائه وأصحابه).
مثال: عندما يخرج بعض المتصدقين ممن آتاهم الله الأموال الضخمة (وما أكثرهم) لتوزيع بعض صدقاتهم على الآخرين الذين يظنون أنهم أقل حظا منهم، تراهم يجلبون معهم جيشا من الإعلاميين وقنوات التلفزة لتغطية الخبر، ونقلها للناس ربما في بث على الهواء مباشر، كما يتولى هؤلاء الإعلاميون المحترفون نقل الخبر أولا بأول على شبكات التواصل الاجتماعي.
السؤال: هل هذا فعل محمود؟
جواب: لعلي أكاد أجزم الظن بأن هذا سلوك اجتماعي غير مرغوب به لأنه يبطل الصدقات، فهو بذاته أذى.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: ما ذنب البنت الصغيرة (أو الولد الصغير) التي صورتها شاشات التلفزة عندما كانت عائلتها تتلقى الصدقات العينية وغير العينية؟ هل عندما تكبر هذه الطفلة أو عندما يكبر هذا الطفل، هل ستمحي هذه الحادثة من ذهنهم؟ هل هذه الحادثة هي مثار فخر تسجل في تاريخ الطفل أو الطفلة ليحتفظ بها كجزء من سيرتهم الذاتية؟ وماذا لو أن أحد ألأصحاب والمعارف قرر أن يحتفظ بتلك الصور في ذاكرة أجهزة التسجيل المتنوعة عنده؟ وماذا لو عُرضت هذه التسجيلات على مرأى ومسامع من المتصدق عليهم بعد حين؟!
السؤال: هل حفظ هذا المتصدق (صاحب النعمة) للناس كرامتهم عندما أخذ في جيبه حفنة من النقود المتعفنة في خزائنه وألقى بها على هؤلاء "الغلابى" كما يظهر في التسجيل البطيء لتلك الحادثة على شاشات التلفزة؟ فهل جلب لهم خيرا بمقدار الضرر الذي ألحقه بهم طوال حياتهم؟ هل إذا كان أبي أو أمي من الفقراء والمساكين الذين يتلقون الصدقات، هل يجب عليّ أن أتحمل "العار" الذي جلبوه لي منذ نعومة أظفاري؟ من يدري؟!
ربما يرد البعض بالقول أن هذا لا يقع في باب العار. وربما يظن أن هذه من الأمور التي لا يجب أن تتصف بالحساسية المفرطة عند الفقراء والمساكين.
رأينا: إن كان كذلك، فهل تقبل عزيزي القارئ هذا لنفسك؟ هل تقبل أن يتم التقاط الصور (التي قد تبث على شاشات التلفزة وعلى محطات التواصل الاجتماعي) التي تصور أباك أو أمك أو أخاك أو أختك أو أنت نفسك وأيديهم ممدودة للآخرين بالصدقة؟ من يدري؟!
رأينا: إذا كنت ترضى هذا لنفسك، فأعلم (رحمك الله) أن هناك الملايين من الفقراء والمساكين الذين لا يرضون بهذا، وأعلم بأن هناك الملايين من الفقراء والمساكين الذين يأخذون الصدقات وقلوبهم منكسرة، ثم لتتأكد أن هناك الملايين من الناس الذين ما كانوا ليقبلوا بالصدقة لولا أن الحاجة فاقت التصور؟ وتأكد أن هناك الآلاف الآباء الذين ما كانوا ليمدوا أيديهم للآخرين لولا أنهم عجزوا عن إطعام أطفالهم الجياع أو عن ستر عورة بناتهم، وتأكد بأن هناك ملايين الملايين من الناس الذين يفضلون الجوع على الذل، فلا يسألون الناس إلحافا، وهم الذين قد يفضلون الموت على منّة الآخرين عليهم. فالله هو من أحسن وصفهم في قوله:
لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
السؤال: لماذا؟ لماذا لا يسألون الناس إلحافا؟
جواب: لأن ما ينتج عن الصدقة التي ربما تقدم لهم هو فعلا أذى، بالضبط كالذي ينتج عن المحيض، الذي هو أيضا أذى:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
السؤال: وما علاقة أذى الصدقة بأذى المحيض؟ ولم جاء وصف الحالتين بالمفردة نفسها (أَذًى)؟
خيال أغرب من الخيال نفسه: نحن نفتري أن ما يتحصل من أذى الصدقة هو مطابق تماما لما يتحصل من أذى المحيض.
السؤال: وكيف ذلك؟ ربما يريد صاحبنا أن يسأل.
جواب مفترى من عند أنفسنا: أن المحيض هو أذى لأنه مقابل للطهارة، فالمرأة التي أصابها المحيض تنقصها الطهارة، ولا تتحصل لها الطهارة من جديد إلا بعد أن تتخلص منه، فما أن تتخلص المرأة من المحيض حتى تكون طاهرة، وهنا يحق لزوجها أن يقربها بعد أن يكون قد اعتزلها في فترة المحيض كاملة. دقق – عزيزي القارئ- في الآية الكريمة مرة أخرى:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
وقد حاولنا تسويق افترائنا سابقا بأن هذا سببه أن الدم الذي يخرج من فرج المرأة بالمحيض هو عبارة عن كمية قليلة جدا مقارنة بالدم الذي يسري في عروقها كلها. فلو حاولنا قياس كمية الدم الخارج بالمحيض من فرج المرأة مع كمية الدم الباقية في جسم المرأة كله، لوجدنا أنه لا يتجاوز كسرا بسيطا من الكمية كلها.
ولو حاولنا مقارنة ذلك بكمية المال الذي يتصدق به الغني من ماله كله، لما وجدنا أن ما يخرج منه بالصدقة قد يتجاوز الكسر البسيط من مجموع المال كله.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن ما يخرجه المتصدق من ماله (بشكل عام) قد لا يتجاوز في مقداره كمية الدم الذي يخرج بالمحيض من فرج المرأة إذا ما فكرنا بالكميات بمنظور النسبة والتناسب.
منطقنا المفترى (1): إن كمية المال الذي يخرج بالصدقة مقارنة مع كمية المال المتوافر للغني يعادل كمية الدم الذي يخرج من فرج المرأة بالمحيض مقارنة مع كمية الدم المتوافر في جسمها كله.
ولو حاولنا دراسة حالة المرأة في فترة خروج الدم بالمحيض من فرجها، لوجدنا أنها لا تكون بأحسن حالاتها النفسية، فالغم والحزن والاضطراب وعدم السكينة هي من ميزات الحالة النفسية التي تصيبها في فترة خروج المحيض من فرجها. ولو حاولنا تفقد نفسية المتصدق عندما يخرج الصدقات من ماله، لما وجدنا نفسيته (في أغلب الأحيان) بأفضل من ذلك.
ولو حاولنا فحص طبيعة ذلك الدم الذي يخرج بالمحيض لوجدنا أنه يختلف عن الدم الذي قد يخرج من جسم الإنسان بالجرح.
السؤال: لماذا يختلف دم المحيض عن الدم الذي يخرج من أي مكان آخر من جسم المرأة (أو حتى أي إنسان)؟
جواب مفترى: نحن نظن أن السبب في ذلك هو "ما يجعل المرأة تتوقف عن الصلاة والصيام في وقت المحيض". فلو حصل نزيف للمرأة من أنفها أو من يدها أو من رأسها أو من أي عضو آخر من جسمها بسبب جرح أصابها، فذلك لا يكون مانعا لها عن إقامة الصلاة أو الصيام مهما كانت كمية الدم التي نزفت منها. لكن – بالمقابل- فإن خروج قطرات قليلة من الدم من فرجها بالمحيض هو سبب كاف أن تتوقف عن الصلاة وعن الصيام، أليس كذلك؟
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى: لأن خروج قطرات الدم القليلة من فرجها بالمحيض هو عملية تطهير لجسمها كله. ولو حاولنا تفقد الآيات الكريمة الخاصة بالصدقة لوجدنا فيها العجب من هذه الزاوية، قال تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
منطقنا المفترى: نحن نفتري الظن بأن إخراج الصدقات من المال كله هو مطابق تماما لخروج دم المحيض من فرج المرأة، وذلك لأن في خروج هذا وذاك هو طهارة لما تبقى هنا وهناك. انتهى.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نريد أن نرسم صورة بشعة للصدقة حتى لا يقربها ولا يرضى بها إنسان مسلم (مؤمن بربه أنه هو الرزاق الكريم) إلا إن فاقت قدرته تحمل حاجته الماسة. فالإنسان المسلم لا يلجأ للصدقة إلا إن سدت الطرق كلها في وجهه، وأصبح لا مناص من قبولها، كما حصل مثلا مع موسى يوم أن وجد نفسه فقيرا في أهل مدين:
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
نتيجة مفتراة خطيرة جدا جدا: نحن ننصح بأن لا يتم الاقتراب إلى الصدقة إلا في أقصى درجات الحاجة، ونتجرأ على القول بأن من يقتات على مال الصدقة هو كمن يقتات على دم المحيض.
رسالة قصيرة: لتعلم (أخي المسلم) أنك عندما ترضى أن تطعم زوجتك وأطفالك من مال الصدقة، فأنت كمن يضع الأذى (كأذى المحيض) في بطونهم، فلا تلجأ لذلك إلا عندما تكون الحاجة قد وصلت بك إلى درجة الهلاك، كمن يضطر أن يأكل لحم الميتة إن هو أشرف على الهلاك. فنحن ننصح أنفسنا وإياك بأن لا تتخم بطون أبنائك بهذا الأذى.
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: مادام أن خروج الدم من فرج المرأة هو طهارة لها، فإن عدم خروجه يعني بقاء "الرجس" فيها، ومادام أن خروج الصدقة من مال المؤمن هو طهارة له، فإن عدم إخراجه يعني بقاء الرجس فيه. والآن قارن – عزيزي القارئ- الحالتين كما تصورهما الآيات الكريمة أحسن تصوير:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
السؤال: كيف تحصل الطهارة بمجرد خروج جزء يسير جدا (كدم المحيض والصدقة) من الكمية الكبيرة كلها؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: مادام أننا نتحدث عن حصول الطهارة، فهي إذن فعل يحدث للتخلص من رجس الشيطان. انتهى.
منطقنا المفترى: يتمكن الشيطان من الدخول في أجسامنا (كرجال ونساء) كما أقسم على ذلك قديما:
لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (120)
وقد بدأ هذا التدخل الشيطاني منذ اللحظة التي بدت فيها عوراتنا يوم أن نزع الشيطان عن آدم وزوجه لباسهما، وأصبحا مشاهدين بالرؤية له من حيث لا نراه نحن:
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)
ولما كان آدم هو من عصى ربه فغوى:
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
ولما كان آدم هو من اضطر أن يتوب إلى ربه:
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
فهبط من الجنة وزوجه على تلك الحالة، فكان عليه أن يقوم بأفعال محددة تذهب عنهما رجس الشيطان:
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100)
ولكن بالمقابل، لما لم تكون زوج آدم قد عصت ربها، ولما لم تكن قد غوت كزوجها، ولما لم تكن بحاجة أن تتوب إلى ربها كما فعل زوجها، ولما كان جل ما فعلته (نحن نفتري الظن) هو نزولا عند رغبة زوجها (وليس معصية لربها)، جاء الكرم الإلهي عليها بالتحديد بأن أمدها بالطريقة الطبيعية البيولوجية (الجسدية) للتخلص من رجس الشيطان على الدوام. لذا نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الدورة الشهرية التي تصيب المرأة في سن المحيض هي عبارة عن هدية إلهية للنساء جميعا (من دون الذكور جميعا)، وذلك لكي تتم لها الطهارة بشكل دوري منتظم من ذلك الرجس.
(للتفصيل انظر مقالاتنا السابقة الخاصة بالنساء)
منطقنا المفترى: نحن نفتري الظن بأن الرجال لا يستطيعون التخلص من رجس الشيطان الذي يصيبهم بطريقة بيولوجية (كالدورة التي تصيب النساء)، لذا وجب عليهم القيام بأفعال محددة، هي كفيلة (نحن نظن) بأن تخلّص الرجل من هذا الرجس.
السؤال: لماذا تتوقف المرأة عن الصلاة في وقت المحيض؟ ولماذا تتوقف عن الصيام في لحظة حدوث المحيض؟
رأينا المفترى الخطير جدا جدا: نحن نظن أن السبب في ذلك هو حصول الغاية المرجوة من الصلاة والصيام: إنها الطهارة. لذا نحن نفتري القول بأنه وجب علينا جميعا أن ننظر إلى المرأة التي أصابها المحيض ويكأنها في صلاة دائمة وفي صيام دائم، لأنها في وقت طهارة من رجس الشيطان، لذا وجب اعتزالها وعدم الاقتراب منها، بالضبط كحالة الرجل الواقف للصلاة في محرابه، فهل يسمح الرجل الواقف في صلاته لأحد أن يقترب منه مادام في صلاته هناك؟ وما أن يفرغ من صلاته حتى يقترب من الآخرين ويسمح للآخرين بالاقتراب منه، فذلك هو الهدف – برأينا- من اعتزال النساء في المحيض:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
نتيجة مفتراة (1): نحن نفتري الظن بأن في خروج دم المحيض من فرج المرأة هو طهارة لها.
نتيجة مفتراة (2): نحن نفتري الظن بأن في إخراج الصدقة من مال المؤمن هو طهارة له.
نتيجة مفتراة (3): نحن نظن أن عملية خروج وإخراج هذا الجزء اليسير من الكتلة الكبيرة كلها هي عبارة عن عملية تطهير للكتلة كلها. فخروج دم المحيض يطهر جسم المرأة كلها، وإخراج الصدقة من مال المؤمن يطهّر المال كله.
نتيجة مفتراة (4): نحن نفتري الظن بأن عملية التطهير هذه هي عبارة عن عملية تنظيف كامل من رجس الشيطان الذي دخل في الجسم وفي المال.
نتيجة مفتراة (5): نحن نظن أنه لو لم تتم عمليات التطهير هذا للجسم والمال، لأفسدته كله. فقليل من الخل قد يفسد العسل كله.
رسالة قصيرة: هل تقبل عزيزي المسلم أن تقتات على الأذى؟ أليس من أهم صفات من كان من المؤمنين هي العزة؟
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)
رسالة قصيرة: إذا أردت - عزيزي المؤمن- أن تكون من المؤمنين الذين لا يهنوا ولا يحزنوا، فحاول (ما استطعت إلى ذلك سبيلا) أن لا تملأ بطنك ولا بطون أهل بيتك بالصدقة لأنها تجر معها الأذى.
دروس من الواقع
لو نظرت حولك عزيزي القارئ وتفقدت طبائع الناس من حولك، لربما حار الظن عندك لِم يتصف الأشخاص الذين تربوا في البيئات الفقيرة في اغلب الأحيان - بسوء الطبع، والغيرة (وربما الكره) لمن هم أكثر حظا منهم فيما يعرف بين أهل الاختصاص في العلوم الاجتماعية "بالحقد الطبقي". ولكن - بالمقابل – ألا تجد أن الذين نشئوا وترعرعوا في البيئات ذات الحظ العظيم، ألا ترى أنهم (في أغلب الأحيان) أكثر سلامة في الطبع والسلوكيات؟ من يدري؟!
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى: بغض النظر عن الأسباب الأخرى التي قد تساهم في هذا الواقع، وبغض النظر عن الاستثناءات التي قد تحصل هنا وهناك، فإن واحدا من أهم الأسباب التي نظن أنها قد ساهمت في هذا "التباين الطبقي" هو أذى الصدقة. فالأشخاص الذين نشئوا وبطونهم مليئة بأذى الصدقة، قد أصابهم (نحن نفتري القول) رجس كبير من الشيطان، فأصبح وسواسهم الخناس أكبر في صدورهم، فانعكس ذلك في طبائعهم وفي سلوكياتهم الاجتماعية.
وقد لا ينطبق هذا فقط على الأفراد وإنما ينطبق كذلك (نحن نفتري الظن) على المجتمعات والحكومات. ألا ترى – عزيزي القارئ- بأن شعوب الحكومات في دول العالم الأول الغنية تمتع بصحة وراحة نفسية تكاد تكون شبه معدومة في مجتمعات دول العالم الفقير البائس؟
السؤال: لماذا تتمتع تلك الشعوب براحة نفسية أفضل من شعوب دول العلم الفقير؟
جواب مفترى: لعلي أكاد أجزم الظن أن واحدا من أهم الأسباب المؤثرة في هذا المجال يعود – برأينا طبعا- إلى أن تلك الشعوب الغنية لا تقتات على الصدقة التي تعيش عليها معظم مجتمعات الدول الفقيرة.
أنا لا أنكر أن كثيرا من دول العالم المتقدم قد سرقت ونهبت خيرات الدول الفقيرة، كما لا أنكر أن جزءا كبيرا من الثروات المتحصلة في خزائنها هي نتاج عمليات السرقة والسطو على مقدرات الأمم الأخرى، إلا أن ذلك قد أعطاها الشعور بالعزة، وذلك لأنها لا تقتات على أموال الصدقة وإن هي أكلت من أموال السرقة.
وأنا لا أنكر كذلك أن كثيرا من الأموال في ميزانيات الدول الغنية هي حق لشعوب العالم الفقير الذين نُهبت ثرواتهم جهارا نهارا، إلا أن ذلك قد أعطى الشعوب الفقيرة الشعور بالذلة، لأنها لم تطالب بأموالها المنهوبة كحق مكتسب لها لا يجوز التفريط فيه، بل رضيت بما تقدمه لها تلك الشعوب السارقة كصدقة، فأورث من أخذ الصدقة منهم (وهم الشعوب الفقيرة) الشعور بالمهانة والذلة.
مثال للتوضيح فقط: ما الذي كنت سأفعله لو أني كنت رئيس جمهورية مصر العربية مثلا؟
جواب: بعيدا عن المطالبة بالثروات التي نهبتها الدول الاستعمارية من مصر الحضارة التاريخ، وبعيدا عن المطالبة بالآثار العظيمة التي تدر المليارات في خزائن فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية التي لو أنها عادت إلى مصر لكفت الشعب المصري كله، فإن أول فعل سأقوم به (لو كنت رئيسا لجمهورية مصر العربية) هو تحريك دعوى قضائية ضد حكومة الولايات المتحدة الأمريكية التي لازالت تسرق مصر يوميا جهارا نهارا في أعظم سرقة عرفها التاريخ البشري على الإطلاق؟
السؤال: وما هي تلك السرقة؟
جواب مفترى: إنه ما هو مرسوم على الدولار الأمريكي، إنها تلك الصورة للهرم الأعظم بالعين التي تحرسه:
والتي تظهر على الدولار الأمريكي:
رابعا، ونحن نفتري الظن أيضا بأن الأذى قد يلحق بشخص واحد (كأذى الرأس أو المحيض) وقد يلحق بالمجموعة كلها، كما حصل عندما لحق الأذى ببني إسرائيل كلهم في أرض مصر:
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
السؤال: ما علاقة هذا كله بإبطال الصدقات بالأذى؟
رسالة قصيرة: كم نجد – عزيزي القارئ- في حياتنا اليومية من يقوم بفعل الصدقة، ولا تراه يقوم بفعل المّن على من تصدق عليه مباشرة، ولكنه يذهب لنشر خبر صدقته هذه للآخرين. فتراه يقول لمن حوله بأنه قد تصدق على فلان بكذا وبكذا. وأقلهم من يسر إلى بعض أصدقائه أو عائلته أو ربما زوجته (التي تتولى نقل الخبر بكل براعة واحتراف في جلسات الشاي الصباحية أو جلسات القهوة المسائية مع صاحباتها وبعض أقاربها) بأنه قد تصدق على بعض الناس فيذكرهم بالاسم. ثم ما هي إلا فترة قصيرة جدا حتى تجد أن خبر تلك الصدقة قد انتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم. وربما أخذ كثير من الناس يتحدثون بذلك الخبر في مجالسهم، وتكثر التأويلات والتفسيرات، وربما تصدر من البعض ألفاظ غير لائقة بحق المتصدق عليهم، فتدب الفوضى في فهم الغاية والمقصد، فهذا التصرف هو – برأينا- أذى، يكثر بمقدار عدد العالمين به، وذلك لأنه يلحق الضرر بالمتصدق عليه بشخصه كما يلحق الأذى بمن حوله (كعائلته وأقربائه وأصحابه).
مثال: عندما يخرج بعض المتصدقين ممن آتاهم الله الأموال الضخمة (وما أكثرهم) لتوزيع بعض صدقاتهم على الآخرين الذين يظنون أنهم أقل حظا منهم، تراهم يجلبون معهم جيشا من الإعلاميين وقنوات التلفزة لتغطية الخبر، ونقلها للناس ربما في بث على الهواء مباشر، كما يتولى هؤلاء الإعلاميون المحترفون نقل الخبر أولا بأول على شبكات التواصل الاجتماعي.
السؤال: هل هذا فعل محمود؟
جواب: لعلي أكاد أجزم الظن بأن هذا سلوك اجتماعي غير مرغوب به لأنه يبطل الصدقات، فهو بذاته أذى.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: ما ذنب البنت الصغيرة (أو الولد الصغير) التي صورتها شاشات التلفزة عندما كانت عائلتها تتلقى الصدقات العينية وغير العينية؟ هل عندما تكبر هذه الطفلة أو عندما يكبر هذا الطفل، هل ستمحي هذه الحادثة من ذهنهم؟ هل هذه الحادثة هي مثار فخر تسجل في تاريخ الطفل أو الطفلة ليحتفظ بها كجزء من سيرتهم الذاتية؟ وماذا لو أن أحد ألأصحاب والمعارف قرر أن يحتفظ بتلك الصور في ذاكرة أجهزة التسجيل المتنوعة عنده؟ وماذا لو عُرضت هذه التسجيلات على مرأى ومسامع من المتصدق عليهم بعد حين؟!
السؤال: هل حفظ هذا المتصدق (صاحب النعمة) للناس كرامتهم عندما أخذ في جيبه حفنة من النقود المتعفنة في خزائنه وألقى بها على هؤلاء "الغلابى" كما يظهر في التسجيل البطيء لتلك الحادثة على شاشات التلفزة؟ فهل جلب لهم خيرا بمقدار الضرر الذي ألحقه بهم طوال حياتهم؟ هل إذا كان أبي أو أمي من الفقراء والمساكين الذين يتلقون الصدقات، هل يجب عليّ أن أتحمل "العار" الذي جلبوه لي منذ نعومة أظفاري؟ من يدري؟!
ربما يرد البعض بالقول أن هذا لا يقع في باب العار. وربما يظن أن هذه من الأمور التي لا يجب أن تتصف بالحساسية المفرطة عند الفقراء والمساكين.
رأينا: إن كان كذلك، فهل تقبل عزيزي القارئ هذا لنفسك؟ هل تقبل أن يتم التقاط الصور (التي قد تبث على شاشات التلفزة وعلى محطات التواصل الاجتماعي) التي تصور أباك أو أمك أو أخاك أو أختك أو أنت نفسك وأيديهم ممدودة للآخرين بالصدقة؟ من يدري؟!
رأينا: إذا كنت ترضى هذا لنفسك، فأعلم (رحمك الله) أن هناك الملايين من الفقراء والمساكين الذين لا يرضون بهذا، وأعلم بأن هناك الملايين من الفقراء والمساكين الذين يأخذون الصدقات وقلوبهم منكسرة، ثم لتتأكد أن هناك الملايين من الناس الذين ما كانوا ليقبلوا بالصدقة لولا أن الحاجة فاقت التصور؟ وتأكد أن هناك الآلاف الآباء الذين ما كانوا ليمدوا أيديهم للآخرين لولا أنهم عجزوا عن إطعام أطفالهم الجياع أو عن ستر عورة بناتهم، وتأكد بأن هناك ملايين الملايين من الناس الذين يفضلون الجوع على الذل، فلا يسألون الناس إلحافا، وهم الذين قد يفضلون الموت على منّة الآخرين عليهم. فالله هو من أحسن وصفهم في قوله:
لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
السؤال: لماذا؟ لماذا لا يسألون الناس إلحافا؟
جواب: لأن ما ينتج عن الصدقة التي ربما تقدم لهم هو فعلا أذى، بالضبط كالذي ينتج عن المحيض، الذي هو أيضا أذى:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
السؤال: وما علاقة أذى الصدقة بأذى المحيض؟ ولم جاء وصف الحالتين بالمفردة نفسها (أَذًى)؟
خيال أغرب من الخيال نفسه: نحن نفتري أن ما يتحصل من أذى الصدقة هو مطابق تماما لما يتحصل من أذى المحيض.
السؤال: وكيف ذلك؟ ربما يريد صاحبنا أن يسأل.
جواب مفترى من عند أنفسنا: أن المحيض هو أذى لأنه مقابل للطهارة، فالمرأة التي أصابها المحيض تنقصها الطهارة، ولا تتحصل لها الطهارة من جديد إلا بعد أن تتخلص منه، فما أن تتخلص المرأة من المحيض حتى تكون طاهرة، وهنا يحق لزوجها أن يقربها بعد أن يكون قد اعتزلها في فترة المحيض كاملة. دقق – عزيزي القارئ- في الآية الكريمة مرة أخرى:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
وقد حاولنا تسويق افترائنا سابقا بأن هذا سببه أن الدم الذي يخرج من فرج المرأة بالمحيض هو عبارة عن كمية قليلة جدا مقارنة بالدم الذي يسري في عروقها كلها. فلو حاولنا قياس كمية الدم الخارج بالمحيض من فرج المرأة مع كمية الدم الباقية في جسم المرأة كله، لوجدنا أنه لا يتجاوز كسرا بسيطا من الكمية كلها.
ولو حاولنا مقارنة ذلك بكمية المال الذي يتصدق به الغني من ماله كله، لما وجدنا أن ما يخرج منه بالصدقة قد يتجاوز الكسر البسيط من مجموع المال كله.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن ما يخرجه المتصدق من ماله (بشكل عام) قد لا يتجاوز في مقداره كمية الدم الذي يخرج بالمحيض من فرج المرأة إذا ما فكرنا بالكميات بمنظور النسبة والتناسب.
منطقنا المفترى (1): إن كمية المال الذي يخرج بالصدقة مقارنة مع كمية المال المتوافر للغني يعادل كمية الدم الذي يخرج من فرج المرأة بالمحيض مقارنة مع كمية الدم المتوافر في جسمها كله.
ولو حاولنا دراسة حالة المرأة في فترة خروج الدم بالمحيض من فرجها، لوجدنا أنها لا تكون بأحسن حالاتها النفسية، فالغم والحزن والاضطراب وعدم السكينة هي من ميزات الحالة النفسية التي تصيبها في فترة خروج المحيض من فرجها. ولو حاولنا تفقد نفسية المتصدق عندما يخرج الصدقات من ماله، لما وجدنا نفسيته (في أغلب الأحيان) بأفضل من ذلك.
ولو حاولنا فحص طبيعة ذلك الدم الذي يخرج بالمحيض لوجدنا أنه يختلف عن الدم الذي قد يخرج من جسم الإنسان بالجرح.
السؤال: لماذا يختلف دم المحيض عن الدم الذي يخرج من أي مكان آخر من جسم المرأة (أو حتى أي إنسان)؟
جواب مفترى: نحن نظن أن السبب في ذلك هو "ما يجعل المرأة تتوقف عن الصلاة والصيام في وقت المحيض". فلو حصل نزيف للمرأة من أنفها أو من يدها أو من رأسها أو من أي عضو آخر من جسمها بسبب جرح أصابها، فذلك لا يكون مانعا لها عن إقامة الصلاة أو الصيام مهما كانت كمية الدم التي نزفت منها. لكن – بالمقابل- فإن خروج قطرات قليلة من الدم من فرجها بالمحيض هو سبب كاف أن تتوقف عن الصلاة وعن الصيام، أليس كذلك؟
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى: لأن خروج قطرات الدم القليلة من فرجها بالمحيض هو عملية تطهير لجسمها كله. ولو حاولنا تفقد الآيات الكريمة الخاصة بالصدقة لوجدنا فيها العجب من هذه الزاوية، قال تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
منطقنا المفترى: نحن نفتري الظن بأن إخراج الصدقات من المال كله هو مطابق تماما لخروج دم المحيض من فرج المرأة، وذلك لأن في خروج هذا وذاك هو طهارة لما تبقى هنا وهناك. انتهى.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نريد أن نرسم صورة بشعة للصدقة حتى لا يقربها ولا يرضى بها إنسان مسلم (مؤمن بربه أنه هو الرزاق الكريم) إلا إن فاقت قدرته تحمل حاجته الماسة. فالإنسان المسلم لا يلجأ للصدقة إلا إن سدت الطرق كلها في وجهه، وأصبح لا مناص من قبولها، كما حصل مثلا مع موسى يوم أن وجد نفسه فقيرا في أهل مدين:
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
نتيجة مفتراة خطيرة جدا جدا: نحن ننصح بأن لا يتم الاقتراب إلى الصدقة إلا في أقصى درجات الحاجة، ونتجرأ على القول بأن من يقتات على مال الصدقة هو كمن يقتات على دم المحيض.
رسالة قصيرة: لتعلم (أخي المسلم) أنك عندما ترضى أن تطعم زوجتك وأطفالك من مال الصدقة، فأنت كمن يضع الأذى (كأذى المحيض) في بطونهم، فلا تلجأ لذلك إلا عندما تكون الحاجة قد وصلت بك إلى درجة الهلاك، كمن يضطر أن يأكل لحم الميتة إن هو أشرف على الهلاك. فنحن ننصح أنفسنا وإياك بأن لا تتخم بطون أبنائك بهذا الأذى.
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: مادام أن خروج الدم من فرج المرأة هو طهارة لها، فإن عدم خروجه يعني بقاء "الرجس" فيها، ومادام أن خروج الصدقة من مال المؤمن هو طهارة له، فإن عدم إخراجه يعني بقاء الرجس فيه. والآن قارن – عزيزي القارئ- الحالتين كما تصورهما الآيات الكريمة أحسن تصوير:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
السؤال: كيف تحصل الطهارة بمجرد خروج جزء يسير جدا (كدم المحيض والصدقة) من الكمية الكبيرة كلها؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: مادام أننا نتحدث عن حصول الطهارة، فهي إذن فعل يحدث للتخلص من رجس الشيطان. انتهى.
منطقنا المفترى: يتمكن الشيطان من الدخول في أجسامنا (كرجال ونساء) كما أقسم على ذلك قديما:
لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (120)
وقد بدأ هذا التدخل الشيطاني منذ اللحظة التي بدت فيها عوراتنا يوم أن نزع الشيطان عن آدم وزوجه لباسهما، وأصبحا مشاهدين بالرؤية له من حيث لا نراه نحن:
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)
ولما كان آدم هو من عصى ربه فغوى:
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
ولما كان آدم هو من اضطر أن يتوب إلى ربه:
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
فهبط من الجنة وزوجه على تلك الحالة، فكان عليه أن يقوم بأفعال محددة تذهب عنهما رجس الشيطان:
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100)
ولكن بالمقابل، لما لم تكون زوج آدم قد عصت ربها، ولما لم تكن قد غوت كزوجها، ولما لم تكن بحاجة أن تتوب إلى ربها كما فعل زوجها، ولما كان جل ما فعلته (نحن نفتري الظن) هو نزولا عند رغبة زوجها (وليس معصية لربها)، جاء الكرم الإلهي عليها بالتحديد بأن أمدها بالطريقة الطبيعية البيولوجية (الجسدية) للتخلص من رجس الشيطان على الدوام. لذا نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الدورة الشهرية التي تصيب المرأة في سن المحيض هي عبارة عن هدية إلهية للنساء جميعا (من دون الذكور جميعا)، وذلك لكي تتم لها الطهارة بشكل دوري منتظم من ذلك الرجس.
(للتفصيل انظر مقالاتنا السابقة الخاصة بالنساء)
منطقنا المفترى: نحن نفتري الظن بأن الرجال لا يستطيعون التخلص من رجس الشيطان الذي يصيبهم بطريقة بيولوجية (كالدورة التي تصيب النساء)، لذا وجب عليهم القيام بأفعال محددة، هي كفيلة (نحن نظن) بأن تخلّص الرجل من هذا الرجس.
السؤال: لماذا تتوقف المرأة عن الصلاة في وقت المحيض؟ ولماذا تتوقف عن الصيام في لحظة حدوث المحيض؟
رأينا المفترى الخطير جدا جدا: نحن نظن أن السبب في ذلك هو حصول الغاية المرجوة من الصلاة والصيام: إنها الطهارة. لذا نحن نفتري القول بأنه وجب علينا جميعا أن ننظر إلى المرأة التي أصابها المحيض ويكأنها في صلاة دائمة وفي صيام دائم، لأنها في وقت طهارة من رجس الشيطان، لذا وجب اعتزالها وعدم الاقتراب منها، بالضبط كحالة الرجل الواقف للصلاة في محرابه، فهل يسمح الرجل الواقف في صلاته لأحد أن يقترب منه مادام في صلاته هناك؟ وما أن يفرغ من صلاته حتى يقترب من الآخرين ويسمح للآخرين بالاقتراب منه، فذلك هو الهدف – برأينا- من اعتزال النساء في المحيض:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
نتيجة مفتراة (1): نحن نفتري الظن بأن في خروج دم المحيض من فرج المرأة هو طهارة لها.
نتيجة مفتراة (2): نحن نفتري الظن بأن في إخراج الصدقة من مال المؤمن هو طهارة له.
نتيجة مفتراة (3): نحن نظن أن عملية خروج وإخراج هذا الجزء اليسير من الكتلة الكبيرة كلها هي عبارة عن عملية تطهير للكتلة كلها. فخروج دم المحيض يطهر جسم المرأة كلها، وإخراج الصدقة من مال المؤمن يطهّر المال كله.
نتيجة مفتراة (4): نحن نفتري الظن بأن عملية التطهير هذه هي عبارة عن عملية تنظيف كامل من رجس الشيطان الذي دخل في الجسم وفي المال.
نتيجة مفتراة (5): نحن نظن أنه لو لم تتم عمليات التطهير هذا للجسم والمال، لأفسدته كله. فقليل من الخل قد يفسد العسل كله.
رسالة قصيرة: هل تقبل عزيزي المسلم أن تقتات على الأذى؟ أليس من أهم صفات من كان من المؤمنين هي العزة؟
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)
رسالة قصيرة: إذا أردت - عزيزي المؤمن- أن تكون من المؤمنين الذين لا يهنوا ولا يحزنوا، فحاول (ما استطعت إلى ذلك سبيلا) أن لا تملأ بطنك ولا بطون أهل بيتك بالصدقة لأنها تجر معها الأذى.
دروس من الواقع
لو نظرت حولك عزيزي القارئ وتفقدت طبائع الناس من حولك، لربما حار الظن عندك لِم يتصف الأشخاص الذين تربوا في البيئات الفقيرة في اغلب الأحيان - بسوء الطبع، والغيرة (وربما الكره) لمن هم أكثر حظا منهم فيما يعرف بين أهل الاختصاص في العلوم الاجتماعية "بالحقد الطبقي". ولكن - بالمقابل – ألا تجد أن الذين نشئوا وترعرعوا في البيئات ذات الحظ العظيم، ألا ترى أنهم (في أغلب الأحيان) أكثر سلامة في الطبع والسلوكيات؟ من يدري؟!
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى: بغض النظر عن الأسباب الأخرى التي قد تساهم في هذا الواقع، وبغض النظر عن الاستثناءات التي قد تحصل هنا وهناك، فإن واحدا من أهم الأسباب التي نظن أنها قد ساهمت في هذا "التباين الطبقي" هو أذى الصدقة. فالأشخاص الذين نشئوا وبطونهم مليئة بأذى الصدقة، قد أصابهم (نحن نفتري القول) رجس كبير من الشيطان، فأصبح وسواسهم الخناس أكبر في صدورهم، فانعكس ذلك في طبائعهم وفي سلوكياتهم الاجتماعية.
وقد لا ينطبق هذا فقط على الأفراد وإنما ينطبق كذلك (نحن نفتري الظن) على المجتمعات والحكومات. ألا ترى – عزيزي القارئ- بأن شعوب الحكومات في دول العالم الأول الغنية تمتع بصحة وراحة نفسية تكاد تكون شبه معدومة في مجتمعات دول العالم الفقير البائس؟
السؤال: لماذا تتمتع تلك الشعوب براحة نفسية أفضل من شعوب دول العلم الفقير؟
جواب مفترى: لعلي أكاد أجزم الظن أن واحدا من أهم الأسباب المؤثرة في هذا المجال يعود – برأينا طبعا- إلى أن تلك الشعوب الغنية لا تقتات على الصدقة التي تعيش عليها معظم مجتمعات الدول الفقيرة.
أنا لا أنكر أن كثيرا من دول العالم المتقدم قد سرقت ونهبت خيرات الدول الفقيرة، كما لا أنكر أن جزءا كبيرا من الثروات المتحصلة في خزائنها هي نتاج عمليات السرقة والسطو على مقدرات الأمم الأخرى، إلا أن ذلك قد أعطاها الشعور بالعزة، وذلك لأنها لا تقتات على أموال الصدقة وإن هي أكلت من أموال السرقة.
وأنا لا أنكر كذلك أن كثيرا من الأموال في ميزانيات الدول الغنية هي حق لشعوب العالم الفقير الذين نُهبت ثرواتهم جهارا نهارا، إلا أن ذلك قد أعطى الشعوب الفقيرة الشعور بالذلة، لأنها لم تطالب بأموالها المنهوبة كحق مكتسب لها لا يجوز التفريط فيه، بل رضيت بما تقدمه لها تلك الشعوب السارقة كصدقة، فأورث من أخذ الصدقة منهم (وهم الشعوب الفقيرة) الشعور بالمهانة والذلة.
مثال للتوضيح فقط: ما الذي كنت سأفعله لو أني كنت رئيس جمهورية مصر العربية مثلا؟
جواب: بعيدا عن المطالبة بالثروات التي نهبتها الدول الاستعمارية من مصر الحضارة التاريخ، وبعيدا عن المطالبة بالآثار العظيمة التي تدر المليارات في خزائن فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية التي لو أنها عادت إلى مصر لكفت الشعب المصري كله، فإن أول فعل سأقوم به (لو كنت رئيسا لجمهورية مصر العربية) هو تحريك دعوى قضائية ضد حكومة الولايات المتحدة الأمريكية التي لازالت تسرق مصر يوميا جهارا نهارا في أعظم سرقة عرفها التاريخ البشري على الإطلاق؟
السؤال: وما هي تلك السرقة؟
جواب مفترى: إنه ما هو مرسوم على الدولار الأمريكي، إنها تلك الصورة للهرم الأعظم بالعين التي تحرسه:
والتي تظهر على الدولار الأمريكي:
Source: https://www.google.jo/search?q=dollar+images&biw=1708&bih=770&tbm=isch&tbo=u&source=univ&sa=X&sqi=2&ved=0ahUKEwjw4cj8_LXKAhVBbRQKHbrTCzAQsAQIGQ&dpr=0.8#imgrc=URsIoJEcCJ3BOM%3A
السؤال: لماذا تضع الولايات المتحدة هذا الرمز (وهو رمز مصر الخالد) على عملتها الورقية؟ هل يحق لدولة على وجه الأرض أن تستخدم آثار بلاد أخرى كعلامة مميزة لها؟ ماذا لو قامت "إسرائيل" مثلا بوضع صورة البتراء (الأردنية) على عملتها؟ هل يقبل الشعب والحكومة الأردنية بذلك؟ وهل أقبل أنا بذلك؟!
السؤال: وماذا لو فعلت؟ وما الذي يضيرنا أن تضع حكومة الولايات المتحدة صورة الهرم الأكبر (رمز مصر الخالد) على عملتها الورقية؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: لعلي لا أتردد أن أقول بأن قوة الدولار كعملة عالمية تكمن بوجود هذا الرمز على صورتها، ولو تم إزاحة هذا الهرم عن العملة الورقية الأمريكية، لما عاد الدولار (نحن نتجرأ على الافتراء) القوة الاقتصادية الأولى المهيمنة على العالم.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: هذا ما سنحال بحول الله وتوفيق منه تبيانه لاحقا عندما نعاود الحديث عن قصة فرعون، ونسأل الله وحده أن يعلمنا ما لم نكن نعلم وأن يهدينا لأقرب من هذا رشدا وأن يزدنا علما، إنه هو العليم الحكيم – آمين.
(دعاء: اللهم أسألك وحدك أن تهديني لما اختلف فيه الناس من الحق، وأنت خير حافظا وأنت أرحم الراحمين – آمين)
عودة على بدء
دعنا نعود إلى صلب موضوع الصدقة بالرسالة القصيرة التالية الموجهة أولا إلى الأفراد: لعلي لا أتردد (أنا شخصيا) إن دعت الحاجة الماسة لذلك (والتي أسأل الله وحده أن لا أضطر إليها ولا أن يضطر إليها أحد من أهلي) أن أدخل في بطون أهل بيتي من مال السرقة على أن أدخل فيها من مال الصدقة.
وهنا قد يقول قائل بأني ربما بمثل هذا الكلام المفترى من عند نفسي أروج للجوء إلى السرقة أكثر من ترويجي لتقبل الصدقة. فأرد بالقول كلا وألف كلا، ولكني أريد أن أوضح بأن مال السرقة لا ينعكس تأثيره إلا على السارق نفسه، فهو من يتحمل تبعاته، ولا دخل لأهل بيته (الذين قد يأكلون منه) بذلك، وذلك لأن مال السرقة (نحن نفتري الظن) لا يحدث في نفس من يأكل منه الأذى. لكن – بالمقابل- فإنه وإن لم يكن للمال المأخوذ صدقة تبعات على الشخص نفسه، فإن تبعاته (التي قد تكون كارثية جراء الأذى الذي يحدثه) تلحق بكل من يأكل منه. فإن أنت أردت – عزيزي المؤمن- أن لا تفسد طبائع أبنائك، وإن أنت أردت أن لا يدخل الرجس فيهم، فلا تدخل الصدقة في بطونهم. ولا تنشئهم على حب مال الصدقة. بل يجب عليك أن تعلّم أبنائك بأن لا يأكلوا من "قذارة" أموال الأغنياء التي يطهرون أموالهم بها. فالغني يريد أن يطهر ماله بالصدقة، فلا تجعل بطون أهل بيتك مكبات لتلك النفايات.
دروس من التاريخ
وردنا في الأثر (الذي لا أثق بتفاصيل نقله كثيرا) أن الرسول الكريم كان يوزع الصدقات بطريقة لم تكن لترضي الكثيرين ممن هم حوله حتى حصل اللمز به شخصيا في توزيعها، كما نفهم ذلك من قوله تعالى:
وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
السؤال: لماذا وزّع النبي الصدقات بطريقة جلبت له اللمز؟ لماذا لم يعط هؤلاء الذين لمزوه منهم ليكف ألسنتهم عنه؟ وهل وضّح النبي لهم سبب توزيعه للصدقات بهذه الطريقة التي لم تكن لترضيهم في بادئ الأمر؟ وكيف وضّح لهم ذلك؟ هل رضوا في نهاية المطاف بفعل الرسول في توزيع الصدقات؟ ولماذا رضوا بذلك في نهاية المطاف؟
جواب مفترى: نحن نظن أن كل الجلبة التي حصلت حول كيفية توزيع النبي للصدقات التي لم ترض بعض الناس من حوله كان سببها طريقة التوزيع. فنحن نفتري القول من عند أنفسنا أن النبي الكريم كان يوزع الصدقات بالعدل ولم يكن يوزعها بالقسط. انتهى.
السؤال: ما معنى ذلك؟
لمّا كان النبي الكريم وحيا يوحى، فهو يعلم بالضبط ما يفعل، فلا يركن إلى أحد ما دام أنه يتبع التشريع الإلهي الذي أوحي إليه. لذا كان عليه أن يوزع الصدقات بالطريقة الصحيحة التي يرضاها الله حتى وإن لم يكن ذلك ليرضي بعض الناس من حوله.
السؤال: كيف يجب أن توزع الصدقات؟
جواب مفترى: كان مرشد محمد في توزيع الصدقات هو قوله تعالى:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
نتيجة مفتراة: لمّا كانت هذه هي الفئات المستحقة للصدقات، فإن محمدا ما كان ليعطي منها من لا يقع ضمن هذه الفئات.
السؤال: لماذا إذن حصل اللمز بمحمد مادام أن الفئات المستهدفة بالصدقة محددة؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: فنحن نتخيل بأن اللمز لم يحصل بسبب التوزيع على هذه الفئات، وإنما حصل بسبب الكمّية التي كان محمد يعطيها لكل شخص منهم، فهو (نحن لا زلنا نتخيل) لم يكن يعطي الجميع المقدار نفسه، وذلك لأن محمدا كان يعطي كل شخص حسب حاجته (أي بالعدل وليس بالقسط). ولكن لما رأى بعض المسلمين من حوله أن بعضهم قد أخذ أكثر من البعض الآخر حصل اللمز في ذلك. فارتفعت بعض الأصوات التي تظن أن محمدا كان يعطي من يريد كما يشاء، فظنوا أن من أعطاهم محمد أكثر هم الأقرب إليه، ويكأن لسان حالهم يقول أن محمدا يقرب إليه البعض بزيادة كمية الصدقة التي يعطيها إياه. فكان ظنهم أن من أعطاهم محمد أكثر هم أحب إليه ممن أعطاهم أقل.
السؤال: كيف أسكت محمد تلك الأصوات؟
تخيلات مفتراة: نحن نتخيل أن ما قام به الرسول الكريم بعد أن حصل اللمز به منهم هو أنه قد بيّن للجميع بأن ما فعله في أمر توزيع الصدقات هو تماما عكس ما كانوا يظنون. فمحمد لم يكن ليمنع مال الصدقة (نحن نظن) إلا عن من أحب فعلا. فهو لا يرضى بأن يملأ بطن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة بمال الصدقة. فلا شك أن هؤلاء هم أكثر الناس الذين منع عنهم محمد مال الصدقة.
السؤال: كيف بيّن لهم محمد ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن محمدا لم يكن يحتاج حينئذ أكثر من تلاوة الآيتين التاليتين على مسامعهم ليذكرهم بحقيقة الصدقة وماهية المال المتحصل منها:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
فلقد أفهمهم محمد (نحن لازلنا نتخيل) أن مال الصدقة ليس أكثر من طهارة للمال كله، بالضبط كما أن دم المحيض ليس أكثر من طهارة لدم المرأة كله. فمن أكل منهم من مال الصدقة شيئا، فهو ك "من اقتات على بعض دم المحيض". ولا شكّ أن محمدا لم يكن ليرضى أن يملأ بطون أصحابه المقربين إليه بذلك الأذى. ولا شك أن أكثر من منعهم محمد عن أكل مال الصدقة هم أهل بيته.
السؤال: هل رضي المسلمون بتوزيع محمد للصدقات في نهاية المطاف بعد أن كانوا قد لمزوا به فيها في بداية الأمر؟
جواب: بكل تأكيد، لقد خرجوا من عنده وأعينهم تفيض دمعا. وذلك لأنهم (نحن مقتنعين) من الذين كانت قلوبهم تخشع لذكر الله:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
(دعاء: اللهم أسألك وحدك أن أكون من الذين تخشع قلوبهم لذكر وما نزل من الحق، وأعوذ بك أن أكون كالذين أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، إنك أنت السميع البصير – آمين)
السؤال: لماذا جاءنا في الأثر أن النبي الكريم لم يكن يأكل بنفسه مما يقدّم له كصدقة ولكنه كان يأكل مما يقدم له كهدية؟
رأينا المفترى: لمّا كان محمد هو حقا من المؤمنين، ولما كان هو أول المسلمين، لم يكن ليقبل أن يدخل في جوفه شيئا من الأذى.
السؤال: لماذا ننعت الرسول دائما بصفة الكريم (فنقول الرسول الكريم)؟
جواب مفترى: نحن نظن أن في الكرم علوا، ومادام أن محمدا لا يقبل أن تكون يد أحد (غير يد الله) فوق يده، لذا كان هو أكرم المؤمنين، فهو كان يترفّع عن أخذ ما يقدّمه له الناس كصدقة، ولكنه كان يعطي كل ما يملك لهم. فكان حقا كريما بكل ما في الكلمة من معنى. فالكرم لا يتحدد بالكمية، ولكنه يتحدد بالنوعية. فمن كان يملك دينارا واحدا وتصدق به (وإن كان به خصاصة) هو لا شك أكثر كرما ممن دفع الملايين ولازالت خزائنه ملئ بالمليارات.
السؤال: ما الفرق بين الصدقة والهدية؟
جواب مفترى: لو دققنا جيدا في فعلي تقديم الصدقة وتقديم الهدايا، لوجدنا أنهما في نهاية المطاف الفعل ذاته. فهو تقديم شيء من مالك لغيرك، أليس كذلك؟
لكن يبرز التساؤل التالي على الفور: لم تطمئن نفس الإنسان السويّ للهدية أكثر من اطمئنانها للصدقة؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الهدية لا يمكن أن تبطل بالمنّ والأذى، فمن قدم لك الهدية لا يستطيع أن يمنّ عليك بذلك، ولا يستطيع أن يجلب لك الأذى من جراء ذلك. وذلك لأنه لم يعطيك من مال الصدقة الذي هو في نهاية المطاف تطهير لماله كله من رجس الشيطان. ولكنه لا شك قد أعطاك من المال "النظيف" المطهر أصلا. فلا يكون لذلك عواقب "سيئة" على من دخل ذلك المال في بطنه. فحتى الملوك (وهم لا شك لا ينقصهم المال) يرضون بقبول الهداية (لا بل ويفرحون بها)، أليس كذلك؟ لكن هل يقبلون بالصدقة؟!
السؤال: ما هي أفضل طريقة لتوزيع الصدقات؟ وما هي أفضل طريقة لقبول الصدقات؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الآية الكريمة التالية تبيّن لنا الطريقة المثلى في توزيع الصدقات، قال تعالى:
إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
السؤال: كيف يمكن أن تتم عملية إخفاء الصدقات؟ ألا يحدث العلم بالصدقة بمجرد أن يقوم الإنسان بتوزيعها على الآخرين؟ هل يجب عليّ (كمتصدق) أن أتخفى في منتصف الليل لأقدم الصدقة للآخرين كما صوّر لنا ذلك الفكر الشعبي السائد؟ وماذا لو تم ضبطي (في منتصف الليل) أمام بيتك قبل أن أقوم بترك الصدقة على باب البيت وتولية الدبر؟ هل كنت ستقتنع أن وجودي أمام بيتك في تلك اللحظة هو من باب توزيع الصدقة؟ هل ستحسن الظن بي؟! هل ما سمعناه من شيوخ المنابر حول هذه القصص "المكذوبة" على بعض الصالحين من عباد الله هي فعلا الرواية الصحيحة التي يجب أن يتبعها الناس لإخفاء صدقاتهم؟ وماذا لو كان عندي من الأموال الملايين التي يجب عليّ أن أوزعها، هل وجب علي أن لا أخلد إلى النوم لأبقى متسترا على شخصيتي (مغطيا رأسي) باحثا في أروقة المدينة (في ظلمة الليل) عن البيوت التي تستحق أن تقدم لهم الصدقات؟
رأينا المفترى: كلا وألف كلا. تلك ليست – برأينا- الطريقة المثلى لإخفاء الصدقات. وذلك لأنه بمجرد أن تذهب بنفسك إلى بيت شخص لتقدم له الصدقة، فإن ذلك دليلا كافيا على إبداء الصدقة، فصدقتك قد بدت، ولا يمكن أن تقع ضمن إطار الخفاء.
السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الصدقة قد أصبحت بادية لأنك (أنت المتصدق أصبحت) تعلم من الذي أخذ منك الصدقة، فيمكن أن يقع منك المن لاحقا، فحتى لو لم يعلم بك الشخص الذي تصدقت عليه، فقد علمت أنت به. فأصبحت المعرفة على الأقل من طرف واحد.
السؤال: وكيف تخفى الصدقة؟ متى يمكن أن تصبح الصدقة خافية؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن الصدقة لا يمكن أن تكون خافية إلا إذا لم يحصل معرفة أي طرف بالطرف الآخر، فلا المتصدق يعلم من المتصدق عليه، ولا المتصدق عليه يعلم من هو المتصدق.
السؤال: ما فائدة ذلك؟ ما فائدة أن لا يعرف أي طرف بالطرف الآخر؟
رأينا المفترى: نحن نظن أنه في هذه الحالة فقط يستحيل أن تبطل الصدقة بالمنّ والأذى، لأن المتصدق لن يكون عارفا بمن تصدق عليه، فلن يمن عليه شخصيا، ولأن المتصدق عليه لن يكون عارفا بمصدر المال الذي جاءه بالصدقة، فلن يحصل له الأذى.
رأينا المفترى: وكيف تكون آلية التوزيع إذن؟
رأينا: نحن نظن أن آلية التوزيع (إن أردتْ أن تخفي صدقتك) يجب أن تكون بالتوكيل، أي أن تدفع المال إلى جهة موثوقة تقوم هي بتوزيعها نيابة عنك. ولعلي أكاد أجزم الظن بأن الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي يعرف القائمون عليها أحوال الناس في مناطق عملهم هي الأقدر على فعل ذلك. فإن أنت (كغني) دفعت أموالك لهذه الجمعيات للقيام بعمليات التوزيع نيابة عنك (ويكون لهم نصيب منها لأنهم هم العاملون عليها)، فإنك تظفر بأفضلية إخفاء الصدقة التي حثّ الله عباده المؤمنين عليها:
إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
السؤال: لماذا جاء الحث من النبي أن يأخذ هو الصدقات بنفسه؟
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
رأينا: لأن المتصدقين كانوا يبحثون عن الخيرية في إخفاء الصدقات، فقاموا بدفع صدقاتهم للنبي، ليقوم هو (كأفضل شخص موثوق به حينئذ) بتوزيعها في مصارفها الحقيقية:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
ومن هنا جاء اللمز بشخص النبي نفسه في توزيعها كما أسلفنا:
وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
باب إيتاء الزكاة
إن صحّ منطقنا المفترى من عند أنفسنا هذا عن الصدقات، فإننا نتجرأ على طرح التساؤلات التالية عن إيتاء الزكاة، نذكر منها:
- هل نجد في النص القرآني دليلا يثبت أن يأخذ النبي الزكاة بنفسه كما جاء بالنسبة للصدقات؟
- هل نجد دليلا في كتاب الله على إمكانية إبداء الزكاة أو إخفائها كما جاء بالنسبة للصدقات؟
- هل نجد في النص القرآني دليلا على إمكانية إبطال الزكاة بالمنّ والأذى كما جاء بالنسبة للصدقات؟
- هل نجد في كتاب الله دليلا على مصارف الزكاة كما جاء بالنسبة للصدقات (لتكون للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وابن السبيل)؟
- هل نجد دليلا في كتاب الله أن الزكاة يمكن أن تكون بناء على جهد الإنسان نفسه كما جاء بالنسبة للصدقات؟
- هل نجد دليلا في كتاب الله أن يقوم الإنسان بتوزيع الزكاة بنفسه كما جاء بالنسبة للصدقات؟
- هل نجد دليلا في كتاب الله على أن الزكاة يمكن أن توزع بتفاوت حتى يحصل اللمز فيها كما جاء بالنسبة للصدقات؟
- الخ.
أما بعد،
دعنا نبدأ النقاش هنا بالافتراء الخطير التالي: لا يمكن أن يبطل فعل إيتاء الزكاة بالمن والأذى.
السؤال: لماذا؟ لماذا لا يمكن أن تبطل الزكاة بالمن والأذى بينما يمكن أن تبطل الصدقات بالمن والأذى؟
رأينا المفترى: نحن ننفي احتمالية أن تبطل الزكاة بالمن والأذى لأنك لا تقدمها لأشخاص محددين بذاتهم، فلا تستطيع إذن أن تمنّ على أحد من جراء إيتاء الزكاة، ولا تستطيع أن تتسبب في وقوع الأذى على أحد من جراء إيتاء الزكاة المفروضة عليك.
السؤال: لماذا؟
جواب: لأن إيتاء الزكاة لا تستهدف فئات محددة، كأصحاب الحاجة الملحّة التي يتم تقديم الصدقات لهم:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
السؤال: لماذا؟
رأينا: لأن إيتاء الزكاة فعل إلزامي على عكس تقديم الصدقات التي هي غير إلزامية، فأنت تدفع الزكاة شئت أم أبيت ولكن دفعك للصدقات يقع في ضمن الأفعال التطوعية:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
نتيجة مفتراة 1: تقديم الصدقة فعل تطوعي
نتيجة مفتراة 2: إيتاء الزكاة فعل إلزامي
نتيجة مفتراة 3: المال المقدم صدقة تستفيد منها فئات محددة بعينها (وهم أصحاب الحاجة)
نتيجة مفتراة 4: المال المقدم زكاة يستفيد منه كل المجتمع (سواء كان ذا حاجة أو لم يكن)
السؤال: لماذا؟
جواب: لأن الفئات المستهدفة من دفع الزكاة هي المجتمع كله، السائل منهم والمحروم:
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
لذا، نحن نفتري الظن بأنه يجب مراعاة القسط في توزيع الأموال المتحصلة من الزكاة ولا حاجة أن يراعى في توزيعها العدل.
نتيجة مفتراة 1: المال المتحصل بالصدقة يوزع بالعدل
نتيجة مفتراة 2: المال المتحصل من الزكاة يوزع بالقسط
السؤال: لماذا؟
جواب: لأن المستفيدين من أموال الزكاة هم أفراد المجتمع كلهم، الغني منهم والفقير، لذا يستحيل (نحن نرى) أن يحدث في توزيع الزكاة اللمز كما قد يحصل في حالة توزيع الصدقات:
وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى: لأن العلانية (نحن نفتري الظن) واجبة في إيتاء الزكاة، فيستحيل أن تخفى كما قد يحصل عند توزيع الصدقات:
إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
نتيجة مفتراة 1: الصدقة يمكن أن تبدى ويمكن أن تخفى
نتيجة مفتراة 2: الزكاة لابد أن تبدى ولا يمكن أن تخفى
السؤال: لماذا؟ وكيف يكون إيتاء الزكاة علانية؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: لأن أموال الزكاة تدفع مباشرة لبيت مال المسلمين. فهي بمثابة "الضريبة" التي تستوجب في مال الأغنياء من أجل خدمة المجتمع كله، السائل منهم والمحروم.
رأينا المفترى: لمّا كان تصريف "إيتاء الزكاة" على الجميع، فإنها تراعي القسط في التوزيع وليس العدل، فالجميع يستفيد من خدمات الدولة العامة التي ينفق عليها من أموال الزكاة المتوافرة في بيت مال المسلمين بنفس الدرجة، فلا تفاوت في الاستفادة من الخدمات العامة.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: لما كانت أموال الزكاة هي الممولة لخدمات الدولة العامة التي يستفيد منها الجميع بنفس الطريقة، فليس هناك في الإسلام إذا – نحن نظن- مريض يدخل المستشفى بدرجة خاصة (ويكأنه في فندق سبعة نجوم) وآخر يدخل المستشفى بدرجة عامة (ويكأنه في ورشة حدادة).
ولا يجوز – نحن نرى- أن يتعلم ابنك في مدرسة خاصة (ذات الرسوم الخيالية لتوافر الخدمات والكفاءات المميزة لها) بينما يقبع ابني في غرفة صفية متآكلة، صفوفها مكتظة، وكفاءاتها التدريسية متدنية، ولا يطاق لها حر في الصيف ولا برد في الشتاء، وربما لا يصلح الكثير منها في بعض الأحيان كحظائر للأنعام.
ولا يجب أن تنعم أنت بالشوارع العامة ذات المسارب العريضة والاتجاهات المحددة والشواخص المرورية المنظمة لحركة السير مادام أنك تسكن في جوار عِلية القوم، بينما أكافح أنا من أجل دخلة صغيرة ربما يعب حتى على للدواب أن تسلكها إلا بصعوبة بالغة، ولا يمكن للبشر أن تسلكها إلا بشق الأنفس.
ونحن نود أن ينظر المجادل في التفاوت الطبقي الذي يكاد يكون في أوضح صوره في بلاد الإسلام فقط. فلعل رحلة قصيرة لا تتجاوز النصف ساعة في أحياء عمان (عاصمة أرض الحشد والرباط) ستبين لك كيف يعيش الناس في أحياء عِلية القوم مقابل كيف يقبع السواد الأعظم في باقي مناطق العاصمة العزيزة. والصورة لا تختلف كثيرا في الجزائر والرباط وتونس، وقد تكون أكثر سواء في القاهرة والخرطوم ونواكشوط، أما طرابلس الغرب ودمشق وبغداد فحدث ولا حرج.
السؤال: هل ترى أنه لا يجوز الخصخصة في التعليم والصحة والأشغال العامة؟
جواب مفترى: نعم، يكاد الظن أن يكون أميل عندي إلى أن هذه الخصخصة قد تصل إلى درجة التحريم، فلا يجوز أن تتم خصخصة الخدمات العامة (وهي الصحة والتعليم والأشغال العامة على وجه التحديد).
السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: إن من حق المسلم على الدولة الإسلامية (التي يتكدس في بيت مالها أموال الزكاة التي دفعها أبناء المسلمين أنفسهم) أن توفر له الخدمات العامة أين ما سكن في تخوم الدولة الإسلامية كلها. فلا يجب أن تكون شوارع العاصمة أفضل من شوارع المدن الأخرى، ولا يجب أن تكون المدارس في الأحياء الراقية أفضل وأكثر كفاءة من المدارس في أي مكان آخر. ولا يجب أن تجهز مستشفيات محددة بتجهيزات أفضل من مستشفيات أخرى لا لشيء وإنما لأن زبائنها من فئة أو طبقة اجتماعية محددة.
السؤال: لماذا؟ ألا يحق لي كغني أن أوفر لأبني تعليم أفضل من غيره؟ ألا يحق لي أن أتمتع بخدمة أفضل من الخدمات التي تقدم للآخرين مادام أني استطيع الإنفاق عليها؟
جواب: نعم تستطيع ذلك في كل ما لا يعتبر من الأساسيات الضرورية الواجب توفيرها للجميع. وهذه لا تشمل التعليم والصحة والأشغال العامة. فأنت تستطيع أن تشتري لنفسك طائرة بدل أن تركب السيارة، وأنت تستطيع أن تبني لنفسك قصرا بدلا من البيت العادي. لكن ليس من العدل أن يتلقى ابنك خدمة تعليمية في الصف الأول الابتدائي أفضل من الخدمة التي تقدم لغيره. وليس لزوجتك الحق في أن تدخل مستشفى الولادة ذات السبعة نجوم بينما تضع النساء الأخريات أولادهن على أدراج المستشفيات وممراتها؟ وليس من العدل (ولا من الدين) أن تكون الشوارع في حي من أحياء المدينة أفضل من نظيراتها في باقي أحياء المدينة نفسها.
فهذه الخدمات الثلاثة على وجه التحديد (التعليم والصحة والأشغال العامة) يجب أن تكون خاضعة لما يسمى بالكود الرسمي الذي يطبق في كل مرفق من مرافق الدولة العامة. فبناء أي مدرسة أو إنشاء أي مستشفى أو فتح وتعبيد أي طريق في أنحاء الدولة يجب أن يكون خاضعا للمواصفات والمقاييس نفسها (أي نفس الكود). انتهى.
السؤال: لماذا؟ ما الفائدة من ذلك؟
رأينا: نحن نظن بأنه لو عاش الغني ولو عاش السياسي "صاحب القرار" الأجواء نفسها التي يعيشها غيره، لكان ذلك مدعاة أن يحل مشاكل الناس بالطريقة التي يرضاها لنفسه لأنها ستصيبه. أما لما وضع الغني وصاحب القرار السياسي (وهم اللذين يشكلون العصابة الأكبر في المجتمع) في مجتمع عاجي، ولما تجمع فرعون وقارون معا، لم تكن النتيجة أكثر من أن يستضعف فرعون عباد الله في الأرض:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وأن يبغي قارون بماله على بقية بني إسرائيل بالرغم أنه منهم:
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
لم يكن ليهمهم (فرعون وقارون) كثيرا ما يعانيه الآخرون لأنهم لم يمروا بالتجربة نفسها في يوم من الأيام. فلو كان صاحب القرار السياسي (فرعون) مجبرا أن يتعلم أولاده في المدارس التي يتعلم بها أبناء الشعب كلهم، ولو كان صاحب المال (قارون) مضطرا أن يتعلم أبناؤه في المدارس التي يتعلم بها أبناء الشعب كلهم، لأصلحت المدارس وزادت كفاءتها في فترة قياسية. ولو أدخلت زوجة أحدهم (فرعون وقارون) أو أحد من أفراد أسرتيهما (أو هما أنفسها) في المستشفى ذاته الذي يتلقى غيره العلاج فيه، لأصلحت المستشفيات فورا. ولو اضطرا أن يسلكا بمركبتهما نفس الشارع الذي تسير عليه مركبات الآخرين، لأصلحت الخدمات العامة بين ليلة وضحاها.
تلخيص ما سبق: الصدقات والزكاة
نتيجة مفتراة: لا شك عندنا أن الهدف من إيتاء الزكاة هو تقديمها لبيت مال المسلمين، حتى تستطيع الدولة أن تقدم للناس جميعا (على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية) الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم والأشغال العامة، بينما يأتي فعل تقديم الصدقات من باب التكافل الاجتماعي في المجتمع، وذلك لأن الناس بطبيعة تجاورهم يعرفون حاجات بعضهم البعض. لذا، في حين أن إيتاء الزكاة يأتي في باب سد حاجات الناس العامة، فإن فعل تقديم الصدقات يقع في باب سد حاجات الناس الخاصة. ومن هنا (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) جاء التوجيه الإلهي بالحث على الأمر بالصدقة:
لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
الدليل
دروس من التاريخ: قصة حرب الردة (أبو بكر يقاتلهم على عدم دفعهم الزكاة).
لعل واحدة من الذكريات التي لازالت راسخة في ذهني منذ أيام المدرسة هي قصة حرب الردة التي حصلت بعد وفاة النبي مباشرة. فمما لازلت أذكره من كلام معلم الدين حينئذ أن أبا بكر (خليفة المسلمين) قد شن حربا لا هوادة فيها على المرتدين لأنهم رفضوا دفع الزكاة، أليس كذلك؟
السؤال: إذا كان ذلك صحيحا – قلت في نفسي حينئذ ولم أستطع أن أفصح عنه لمعلمي ربما لضعف قدراتي التعبيرية حينئذ أو لشدة معلمي الذي كان لن يتردد أن يعاقبني لو تبين له أني مخطئ- فلم يقاتلهم أبو بكر من أجل الزكاة؟ ألم يكن بمقدور أحدهم أن يقول لأبي بكر (خليفة المسلمين حينئذ) بأنه ليس مضطرا أن يدفع الزكاة له لأنه أخرجها بنفسه؟ ألم يكن بمقدورهم جميعا أن يقولوا له بأنهم ينشدون الإخفاء في تقديمها؟ أليس إخفاء الصدقة خير من إظهارها (كما تعلمنا في الدرس الذي سبق)؟
السؤال: لم إذن يدفع أبو بكر بجيش المسلمين كله في حرب محركها هو عدم دفع الزكاة؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لو كان دفع الزكاة (أي إيتاء الزكاة) يمكن أن يتم بالإخفاء، لما حقّ لأبي بكر أن يقاتل من قاتلهم من أجل رفضهم دفع الزكاة له. انتهى.
الدليل
لو تفقدنا ما يخص الزكاة على وجه التحديد، لوجدناه مرتبطا على الدوام بفعل إقامة الصلاة، قال تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ۚ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
السؤال: لماذا؟ أي لماذا هذا التجاور الذي يكاد يكون شبه دائم بين إقامة الصلاة من جهة وإيتاء الزكاة من جهة أخرى؟
رأينا المفترى: لما كان من الاستحالة بمكان (نحن نرى) إخفاء إقامة الصلاة أصبح لزاما (نحن نفتري القول) إبداء الزكاة كذلك، فكما نعلم أن فلانا يقيم الصلاة، فيجب على المجتمع أن يكون على دراية أيضا بأن فلانا يؤتي الزكاة كذلك.
السؤال: وكيف يمكن تنفيذ "إيتاء الزكاة" على أرض الواقع ليتحصل العلم للجميع بها؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: تلك هي فائدة سجلات الدولة الرسمية التي تسجل بكل دقّة عملية إيتاء الزكاة لكل من غنم شيئا من المال: إنه الكشف الضريبي الذي يجب على كل فرد من أفراد المجتمع أن يقدمه بنفسه لبيت مال المسلمين.
السؤال: ممن تؤخذ الزكاة؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن أن الزكاة لا تؤخذ إلا ممن يقيم الصلاة.
السؤال: هل نفهم من تخريصاتك هذه أن الذي لا يقيم الصلاة لا يكلّف بدفع الزكاة؟ يسأل صاحبنا مستغربا.
جواب مفترى خطير جدا: نعم، لا يكلف من لا يقيم الصلاة بدفع الزكاة. انتهى.
السؤال: هل هذا معقول؟! ألا ترى أنك قد وصلت إلى أبعد درجات الهذيان؟ وإن صح ما تقول، فما الواجب على من لا يقيم الصلاة أن يقدم للدولة؟ أو بكلمات أخرى: ما المطلوب من الدولة أن تفرضه على من لا يقيم الصلاة؟
جواب مفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الدولة يجب أن تلزم من لا يقيم الصلاة بدفع الجزية، كما جاء في قوله تعالى:
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
تفنيد الفكر السائد: إن طرحنا هذا يدعونا إلى افتراء الظن من عند أنفسنا بأن الجزية ليست ملزمة لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) في بلاد المسلمين فقط (كما أفهمنا أهل الدراية من أبناء الإسلام)، بل هي – برأينا- ملزمة لكل الفئات الذين جاء ذكرهم في الآية الكريمة نفسها، وهم:
- الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ
- وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ
- وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نرى أن الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب هم فقط فئة واحدة من الفئات الملزمة بدفع الجزية.
السؤال: لماذا يكون دفع الزكاة واجبة فقط على الذين يقيمون الصلاة؟
رأينا: نحن نظن أن ذلك من أجل تحقيق الإخوة في الدين، فالأخوة في الدين (الذي هو دين الله، الذي هو الإسلام ولا شيء غير الإسلام) لا تتحقق إلا بالشروط الواردة في الآية الكريمة التالية:
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لا تتحقق الإخوة بالدين للجميع إلا بالتوبة وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. لذا، إذا لم يكن الشخص مقيما للصلاة فلا يجب (نحن نفتري الظن) أن تؤخذ منه زكاة، ويصبح مفروض عليه أن يدفع الجزية عن يد وهو صاغر.
السؤال: كيف يمكن تطبيق ذلك على أرض الواقع؟
جواب مفترى: نحن نرى أن الضرورة تستدعي من الدولة المسلمة أن تسلك طريقين لتحصل المال المفروض كحق واجب للسائل والمحروم من كل ما يتحصل للمسلم من الغنائم (أي الضرائب)، وهما
1. استمارة (استبانة) الزكاة
2. استمارة (استبانة) الجزية.
فإذا ما عرف أن الشخص المكلّف هو من الذين يقيمون الصلاة، فشهد لنفسه بذلك وشهد له الناس بذلك، وليس أدل على ذلك من حضوره للصلاة من يوم الجمعة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
أصبح من الواجب عليه أن يقدم الحق المفروض عليه في ماله على شكل زكاة. وأما إذا لم يكن من الذين يقيمون الصلاة (بغض النظر عن ديانته)، يصبح لزاما أن يدفع الجزية عن يد وهو من الصاغرين. انتهى.
باب: التهرب الضريبي
لعل كل حكومات الأرض تضع التشريعات المنظّمة لضبط عملية تحصيل الضرائب من رعاياها لخزينة الدولة، التي تقوم بدورها بإنفاق هذا المال على المرافق العامة الأساسية التي توفر الأمن المجتمعي لكل أفراد المجتمع بغض النظر عن الفئات الاجتماعية التي ينتمون إليها. فالخدمات الأساسية في الصحة والتعليم والأشغال العامة هي – برأينا- حق يتكافأ فيه الجميع بنفس الدرجة مهما كانت قدراتهم المالية. ولا شك عندنا أن موارد الدولة من الضرائب هذه هي من أهم مصادر الدخل للدولة. لكن ما يلاحظ في كل المجتمعات هو محاولة المكلَّف بتقديم كشف الضريبة الذاتي إيجاد الثغرات في القانون التي تمكّنه من التهرب من دفع الضرائب أو جزء منها. فمما يقضّ مضاجع أصحاب الملايين والمليارات (وما أكثرهم) هو هذا الواجب الضريبي المكلفين بدفعه لخزينة الدولة. وهنا تبدأ لعبة القط والفأر. فيحاول توم (الدولة) أن تتحصل على أكبر قدر ممكن من جيري (المواطن)، ولكن ذكاء وحنكة جيري هو الذي ينقذه من مخالب توم على الدوام. فينشرح فؤاد جيري كلما استطاع أن يخذل توم، وهكذا.
السؤال: هل ترك الشارع الكريم لأي طرف أن يتغول على الطرف الآخر؟ ألم ينظم العلاقة بين الأشخاص فلا يعتدي شخص على آخر؟ ألا يجب أن يكون قد نظم العلاقة بين الدولة والأفراد، فلا تعتد الدولة على أفرادها، ولا يتلاعب الأفراد بحق الدولة في أموالهم؟
جواب: لا شك عندنا أن الزكاة هي المنظم الأساسي لعلاقة الدولة بأفراد الشعب فيها
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا: لمّا كانت الزكاة هي حق معلوم للسائل والمعلوم، فإن محاولة التهرب من دفع هذا الحق تجر على صاحبها الويلات في الآخرة أكثر من تلك التي قد تحصل له لو ثبت أنه فعلا يحاول التهرب من أداء هذا الحق المفروض عليه في الحياة الدنيا. فعقاب الله هو أشد من عقاب ولي الأمر. فمن أهم صفات المؤمن الصدق مع ربه، فهو يدفع الزكاة لأنها تشريع إلهي وليس لأنها جزية مفروضة من الحاكم على الرعايا. فإذا كان الحاكم لا يعرف ما أنت مكلّف بدفعه بكل دقة وأمانة، فإن رب الحاكم لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وإذا كنت تستطيع أن تتهرب من دفع هذا الحق بسلوك الطرق الملتوية، فإن هذا لن ينفعك في يوم الحساب، يوم لا تظلم نفس شيئا والأمر يومئذ لله.
فالمسلم المؤمن بربه يعلم أنه لا يستطيع أن يفلت من العقاب الرباني حتى لو استطاع أن يتفلت من العقاب الدنيوي. لذا يجب أن تكون العقيدة التي ينقلها أهل الدين للعامة من الناس (أغنيائهم وفقرائهم) أن المؤمن لا يتفلت من دفع الحق الذي فرضه الله عليه. فكما لا تستطيع أن تتفلت من إقامة الصلاة في وقتها، فعليك أن لا تحاول أن تتفلت من إيتاء الزكاة المفروضة عليك أيضا بالطرق الملتوية.
السؤال: ومتى يجب على المؤمن أن يدفع الزكاة المترتبة على ماله؟
جواب مفترى: نحن نفهم من الآية الكريمة التالية أن وقت الحصاد هو الموعد المحدد لأداء هذا الحق المفروض عليك:
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
السؤال: وما هي كميّة المال الواجب إخراجها بالزكاة؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: إنها الخمس، قال تعالى:
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (141)
نتيجة مفتراة: الحق المفروض على المؤمن هو الخمس في كل ما غنم.
رأينا المفترى: صحيح أن الحاكم لا يستطيع أن يسيطر على أفراد المجتمع بطريقة تمكّنه من أخذ الزكاة المفروضة في كل ما يغنمه أفراد مجتمعه، لكن الله (رب الجميع) قد أوكل المهمة للشخص نفسه، لذا فالله هو من سيحاسب المؤمن عليها يوم تكون كل نفس بما كسبت رهينة. فعليك أخي المسلم المؤمن بربك (لا بل من واجبك الديني) أن تحاسب نفسك قبل أن تلقى ربك ليحاسبك عليك. ومن واجبك أيضا أن تحسب بكل دقة وأمانة ما غنمت من مال، فتقدم خمس الغنيمة كحق مفروض في مالك إلى بيت مال المسلمين، ليكون العامود الفقري لاقتصاد الدولة كلها. وليعلم الذي يحاول أن يتهرب من هذا الواجب أنه كـ من يمسك المعول بيده لهدم بيته فوق رأسه. فما غنمت من مال هو - لا شك - نتيجة الأمن الاجتماعي الذي وفّرته لك الدولة. فتجارتك لن تزدهر ومغانمك لن تتأتى في غياب الدولة. وأعلم أن حدوث أي خلل في الأمن الاجتماعي في الدولة سينعكس سلبا على مردودك المالي. لذا من واجبك أن تقدّم ما عليك من زكاة (ضريبة) لضمان الديمومة في النمو والازدهار.
السؤال: وما هو المال الواجب دفع الزكاة فيه؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الزكاة في المال تدفع مرة واحدة فقط. انتهى.
تفنيد الفكر السائد: غالبا ما أفهمنا سادتنا أهل الدراية منهم أن الزكاة تدفع كل سنة على ما يزيد من المال عن حاجة المسلم، أليس كذلك؟
رأينا المفترى: نحن نرفض هذا المنطق كله جملة وتفصيلا، لأن هذا هو مدعاة التهرب والتلاعب في دفع المستحقات المالية المترتبة على الشخص.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا: لما ربط علماء الإسلام دفع الزكاة بالحاجة المزعومة، أصبح كل شخص يقدر حاجاته بنفسه، وهو ما جعل – برأينا- الكثيرين يحسبون بأنهم غير مكلفين بذلك.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: لما ظن الكثيرون (كما أفهمهم أهل الدين) أن دفع الزكاة يكون ملزما بعد تسديد كامل حاجيات الإنسان، وهو مفروض فقط في الزيادة منه (أي ما فاض عن حاجتك)، أخذ أصحاب الدخل المحدود والمتوسط (وربما كثير من الأثرياء) يبحثون عن "طرق ملتوية" لإنفاق المال تحت مسمى الحاجة، فها هو زميلي في العمل يشتري السيارة باهظة الثمن (لا بل ويشغل نفسه بأقساطها الشهرية التي ربما لا طاقة له بها)، ثم إذا ما سألته عن الزكاة تعذر بعدم الاستطاعة لأنه لا يملك فاضا من المال. وها هو الآخر ينفق عشرات الآلاف من الدولارات والدنانير على تشييد بيته الفخم، ويقوم بتأثيثه (أي شراء الأثاث) بأحدث الماركات العالمية، وقد يلجأ إلى الاستدانة من المؤسسات والبنوك لتمويل ذلك، ثم إذا ما سألته عن الزكاة تعذر بعدم الاستطاعة وعدم توافر الفائض من المال. وها هو ثالث يملأ يدي زوجته ورقبتها وجيدها (لا بل وبعض سيقانها) بالحلي والمجوهرات باهظة الثمن في سلوك مقصود بذاته للتهرب من دفع الزكاة بحجة أن هذا مال لا تجب فيه الزكاة، وهو قد نسي أن الله لم يأمر المؤمنين فقط بالزكاة بل جاء التكليف واضحا للمؤمنات أيضا:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
وبالمقابل، لما وجد أصحاب الدخل غير المحدود (أي الأثرياء جدا) أن الزكاة تجب على المال المخزون كله كل عام، تلكأ الكثيرون منهم عن دفع الزكاة بحجة ضخامة المبالغ التي يجب عليه أن ينفقها في كل عام، لا بل ذهب الكثيرون منهم إلى تشغيلها في الأسواق تحت مسمى الأسهم والسندات وشراء العقارات والأراضي حتى تصبح جزءا من رأس المال في حركة مفضوحة للتهرب من دفع الحق المفروض من الله في كل ما يغنموا يوم حصاده.
السؤال: ما المخرج من هذه الفوضى العارمة؟
رأينا المفترى: نحن نرى أن المخرج بسيط جدا، وربما يكون مرض للجميع، لأنه يحقق العدالة الاجتماعية المنشودة، وتتمثل في إخراج الخمس من الغنائم وقت الحصاد مرة واحدة وكفى.
السؤال: كيف يمكن تطبيق ذلك على أرض الواقع؟
رأينا المفترى: نحن نرى أن التطبيق يجب أن يكون على النحو التالي: على المؤمن المكلف بدفع الزكاة إلى بيت مال المسلمين أن يحسب بنفسه (مؤمنا أن لا رقيب عليه إلا الله وحده ولا محاسب له إلا الله وحده) كل غنيمة تحصلت له مهما كانت كبيرة أو صغيرة، ومن ثم يقوم بإخراج حقها وقت حصادها، وهو الخمس. لتكون رافد بيت مال المسلمين الرئيسي. فالذي يكسب عشرة دنانير يجب أن يخرج منها دينارين، والذي يكسب مئة يخرج منها عشرين، والذي يكسب ألفا يخرج منها مئتين، والذي يغنم عشرة الآلاف يخرج منها ألفين، والذي يغنم مئة ألف يخرج منها عشرين ألفا، وهكذا. ونحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن هذا هو الحق المعلوم الذي فرضه الله علينا في أموالنا:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24)
سؤال: قد يقول قال: أليس هذا بكثير؟ هل فعلا يستطيع الإنسان أن يدفع الخمس في كل ما يكسب كثيرا كان أم قليلا؟
جواب مفترى: نحن نظن أن هذا ليس بكثير، وأن فيه مصلحة لجميع الأطراف، ففيه مصلحة لصاحب المال وفيه مصلحة للدولة كلها، وفيه مصلحة لأفراد المجتمع جميعا.
السؤال: وكيف ذلك؟
نحن نظن أن في هذا مصلحة للأفراد للأسباب التالية:
أولا، لأن هذه الزكاة (أي الخمس) تدفع مرة واحدة. فلا يتوجب دفعها مرة أخرى مهما تراكمت الثروات في رصيد الشخص بعد ذلك. فمادام أنك قد أخرجت الخمس من المال الذي دخل خزينتك، فقد أصبح كل ما تراكمت فيها من ثروات هو مال نظيف طاهر، لك الحق أن تتمتع به كيفما شئت بعد ذلك.
ثانيا، لأن هذا المال يدفع مقابل تقديم الخدمات العامة لأفراد المجتمع كلهم، فأنت تساهم في بناء مؤسسات الدولة العامة بمقدار ما تملك من ثروة، فكلما زادت ثروتك، كلما ساهمت أكثر في بناء تلك المؤسسات، وفي تقديم تلك الخدمات للعامة. فيساهم فيها الفقير بالشيء القليل ويساهم فيها الغني بالشيء الكثير، ولكن الجميع يستفيدون منها بالتساوي، وهذا هو – برأينا- منطق العدالة في الواجبات والحقوق المنشود من فعل إيتاء الزكاة.
ثالثا، يجب علينا أن لا ننسى أن هذا واجب ديني يتأتى منه الخير في الدنيا والآخرة. فمقدار مساهمتك في رفد مال المسلمين بالمال هو ضمان لك بأن تكون في الآخرة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
رابعا، لو حسبت مقدار ما تقدم لخزينة الدولة بمقدار ما تتلقاه من خدمات عامة من الدولة، فإن المستفيد الأكبر من ذلك هو الفقير، لأنه هو المساهم الأضعف فيها، لكنه يتلقى الخدمات العامة كالغني الذي هو المساهم الأكبر فيها. وهذه لا شك هي العدالة المنشودة في كل مجتمع من المجتمعات.
خامسا، يجب أن يفهم كلامنا هذا في ضوء المنهج كله وليس في ضوء التطبيق السائد في بلاد الظلم والاستبداد، وهي ما تسمى نفسها زورا وبهتانا بدول العالم الإسلامي التي هي في واقع التطبيق العملي أبعد ما تكون عن الإسلام الحقيقي.
سادسا، نحن نرى أن في هذا سلامة من تغول سلطة الدولة على حقوق الأفراد. فالزكاة المعلومة (أي الخمس) هي الرادع الحقيقي لفرض الضرائب التعسفية التي تفرضها الدولة كلما وجدت نفسها في ورطة مالية. فلو أنت نظرت إلى الدول المسماة بالإسلامية، لوجدت أنها ترهق كاهل أفرادها خاصة أصحاب الدخل المحدود بالضرائب المتعددة والمتنوعة التي تعجز أحيانا أن تجد لها مسميات حقيقية لتسويقها بين الناس. فالزكاة بمقدارها المعلوم هي العقد الذي لا يحق لطرف أن يفضه متى ما أراد في سبيل تحقيق مآربه الخاصة. فلو علمت الدولة أن لا حق لها في جيوب أفرادها إلا بمقدار الزكاة، لنمّت قدراتها المالية بناء على ذلك. ولما تمادت في الإنفاق غير المبرر على رفاهية طبقة معينة من أفرادها على حساب الطبقات كلها. فرجال السياسة الفاسدون في طبعهم هم المستفيدون الوحيدون من غياب التنظيم الحقيقي لمدخلات بيت مال المسلمين.
السؤال: لماذا فرض الله الخمس في كل المغانم التي يحصل عليها الأفراد لصالح خزينة الدولة؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن ذلك يتمثل في تحقيق غايتين رئيسيتين وهما:
1. السيطرة على التضخم
2. الحد من الربا
السؤال: وكيف يكون ذلك
باب الربا: رؤية جديدة
قال تعالى:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281)
نحن نفتري القول أن هذه الآيات الكريمة ستكون مرشدة لنا (كما نفهمها) في تحديد ماهية الربا وخطورة الوقوع فيه وطريقة تجنبه. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا. وأدعوه وحده أن لا أكون ممن يفترون عليه الكذب، وأساله أن يعلمني فلا أقول عليه إلا الحق، إنه هو العليم الحكيم- آمين.
المدكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
7 أيار 2017