نظرية التطور (نشوء وليس ترقي) - رؤية جديدة - الجزء (2)
نظرية التطور (نشوء وليس ترقي) – رؤية جديدة
خلصنا في نهاية الجزء السابق من هذه المقالة إلى تقديم الافتراءات الخطيرة التالية التي هي لا شك من عند أنفسنا:
- الله هو أحسن الخالقين
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
- لم يأت خلق الله كله جملة واحد، فكان خلقا من بعد خلق (تسلسل أفقي زمني)
- لم يأت خلق الله كله بنفس المستوى وإنما جاء خلقا فوق خلق (تسلسل عامودي نوعي)
- جاء الخلق على شكل أمم
- أنشأ الله كل أمة جديدة من ذرية القوم الذين سبقوها
- احتلت كل أمة لاحقة مكانة تفوق الأمم التي سبقتها، لذا تقبع هذه الأمم فوق بعضها البعض
- داخل كل أمة هناك أيضا فوقية واضحة، فبعضها يسيطر على البعض الآخر
- الأمة الأعلى هي المهيمنة على الأمم الأدنى منها
- تستطيع الأمة الأدنى أن تلحق الضرر بالأمة الأعلى لكن هذا لا يمنع أن تكون هي بكليتها مسخرة لما هو فوقها
- كان الذباب هو الأمة الأولى، فجاء كل الخلق فوق البعوضة:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)
- كانت البعوضة (الذباب) هي الأمة الأدنى في سلم الفوقية، لكن هذه الدرجة لن يصل لها أي خالق دون الله. فأقل خلق الله درجة لن يستطيع عليه أعز الخالقين الذين هم دون الله:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
- جاء خلق الجآن من قبل خلق الإنس:
وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)
- جاء خلق الإنس كآخر أمة، فأنشأه الله من ذرية القوم الآخرين الذين سبقوهم وهم الجن:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
- الخ.
عندها طرحنا التساؤلات المثيرة التالية:
- لماذا جاء خلق الله بهذا التنوع الهائل؟
- لماذا جاء خلق الله بهذا الترتيب؟
- لماذا جعل الله خلقه خلقا من بعد خلق؟
- لماذا رفع الله بعض خلقه فوق بعضه الآخر درجات؟
- لِم لَم يأت كل خلقه جملة واحدة؟
- هل كان الإله يلهو أو يلعب؟
- لماذا كان الذباب هو أول الخلق، فكان كل الخلق الآخر فوقها؟
- لماذا جاء الإنس هو الأمة التي تحتل المرتبة الأخيرة في الزمن والأعلى في المرتبة بين جميع الأمم الأخرى؟
- كيف يمكن ترتيب جميع الأمم الأخرى (كالدواب والطير وغيرها) زمانيا (خلقا من بعد خلق) ومكانيا وظيفيا (خلقا فوق خلق)؟
- كيف نستطيع أن نبيّن للجميع (المؤمنين والكافرين) بأن الله هو فعلا أحسن الخالقين؟
- كيف يمكن أن نبيّن للجميع (المؤمنين والكافرين) بأن كل الخالقين الذين هم من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له؟
- ما الذي يجعل خلق الله يختلف عن ويمتاز على خلق غيره؟
- الخ
باب: الفرق بين الخلق والإنشاء
دعنا نحاول النبش في الفرق بين الخلق من جهة والإنشاء من جهة أخرى، فهناك لا شك فعل الخلق وهناك أيضا فعل الإنشاء، ونحن بداية نفتري الظن بأن الخلق هو مرحلة سابقة لـ ومختلف عن الإنشاء، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
فلو تدبرنا هذه الآية الكريمة، لوجدناها تبين لنا بما لا يدع مجالا للشك بأن مرحلة الخلق هي مرحلة أولية ومقدمة (سابقة) لمرحلة الإنشاء، فالله هو من بدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من ماء مهين:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8)
وما أن ينزل هذا الماء المهين في رحم المرأة حتى تستأنف مرحلة الخلق من جديد، فتصبح هذه النطفة التي قُذفت في رحم المرأة علقة، ثم تخلق العلقة مضغة، ثم تخلق المضغة عظاما، ثم تُكسى هذه العظام لحما:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
وفي هذه المرحلة بالضبط (بعد أن تكسى العظام لحما) تأتي مرحلة الإنشاء، فيكون هذا المخلوق خلقا آخر (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ). ويرتبط هذا (نحن نفتري الظن) بحقيقة أن يكون الله هو أحسن الخالقين (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
نتيجة مهمة جدا وخطيرة جدا جدا: نحن نفتري الظن بأن عملية الإنشاء هذه هي التي تميز الإله الواحد (عن غيره من الخالقين)، فيكون الله هو أحسن الخالقين (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). انتهى.
السؤال: ماذا تقصد بأن الله هو أحسن الخالقين؟ أو كيف يمكن أن نفهم بأن الله هو أحسن الخالقين في ضوء قدرة الله وحده على الإنشاء وعجز الخالقين من دونه على ذلك؟
جواب مفترى: تعرضنا لهذه القضية في سلسلة مقالاتنا تحت عنوان قصة يوسف عندما طرحنا التساؤل حول أن تكون قصة يوسف على وجه التحديد هي أحسن القصص، قال تعالى:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
وافترينا القول من عند أنفسنا حينئذ بأن الأحسن هو الذي لا يمكن أن يجري عليه إضافات أو تعديلات، وذلك لأنه جاء في نسخته النهائية جملة واحدة. فقصة يوسف هي أحسن القصص (مقارنة مع غيرها من القصص القرآني) لأنها – برأينا- جاءت كاملة (بجميع تفاصيلها) جملة واحدة في سورة واحدة، ولم يحصل عليها تعديل أو إضافة في أي موقع آخر من كتاب الله كما في قصص الأنبياء والرسل الآخرين. فجميع قصص الأنبياء والمرسلين الأخرى (كقصة نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى وداوود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد) جاء ذكرها ووردت تفاصيلها في أكثر من موضع من كتاب الله على عكس قصة يوسف التي لم تذكر إلا في سورة يوسف ولم يرد لها أي تفصيل في غير هذا الموضع من كتاب الله. (للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان قصة يوسف).
وبناء على هذا الفهم المفترى من عند أنفسنا، نحن نظن بأن الله هو أحسن الخالقين وذلك لأنه من الاستحالة بمكان أن يتم تعديل أو إضافة (أي تحسينات) على أي خلق من خلق الله. فالذبابة هي الذبابة منذ أن خلقها الله في هذا الكون الفسيح وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويستحيل أن يحصل عليها تعديل بأي شكل من الأشكال، وينسحب هذا المنطق على جميع خلق الله ابتداء من الذبابة التي هي أدنى الخلق في سلم الفوقية الذي افتريناه إلى أعلى الخلق في ذلك السلم وهو الإنسان، قال تعالى:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
وبهذا نصل إلى الجزئية الأولى التي نعارض فيها نظرية التطور التي اقترحها تشارلز داروين، فنحن ننفي جملة وتفصيلا أن يحدث رقي لأي أمة من الأمم التي خلقها الله، فما أن يتم الله خلق أمة محددة حتى يكون ذلك هو خلق أحسن، يتعذر أن يجري عليه أي تعديل أو إضافة، لأن إجراء أي إضافة أو تعديل عليه ستجعله يخرج من الطور الخلق الأحسن الذي خلقه الله، فيؤدي إلى هلاكه بدل أن يؤدي إلى رقيه. ولكن يمكن بالمقابل أن يجري عليه ردا إلى الأسفل بدلا من رقي إلى الأعلى، قال تعالى:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
نتيجة مهمة جدا (1): لا يمكن أن يحدث تحسين على خلق الله لأن خلق الله هو الأحسن
نتيجة مهمة جدا (2): يمكن أن يرد خلق الله فيرجع إلى الوراء بدلا أن يرتقي إلى الأعلى
الدليل
نحن نفتري القول من عند أنفسنا استحالة أن يرتقي البعوض ليصبح دابة، ولكن يمكن للدابة أن ترد إلى الوراء فتصبح بعوضا، وبهذا المنطق يمكننا القول بأنه لا يمكن للقرد أن يصبح إنسانا (كما ظن داروين)، ولكن يمكن للإنسان أن يرد إلى الوراء فيصبح قردا، قال تعالى:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
ولو حاولنا تدبر الآية الكريمة التالية، لوجدنا فيها (كما نفهمها) العجب، قال تعالى:
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60)
السؤال: إذا كان الله قد رد الذين اعتدوا في السبت قردة خاسئين، فكيف أصبحوا خنازير؟ ولم أصلا أصبحوا قردة وخنازير على وجه التحديد؟ فلم لم يصبحوا كلابا أو حميرا؟ الخ.
رأينا المفترى: نحن نظن (ربما مخطئين) أن هذه الآية الكريمة ترشدنا (كما نفهمها) إلى منهجية التدرج في سلم الفوقية.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: لمّا كان الخلق متدرجا في الفوقية، كان لزاما أن يراعي هذا السلم في عملية الرد إلى الأسفل. فنحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن هناك خلقان اثنان من بين جميع خلق الله من كان الهدف من خلقهم هو العبادة، وهم الجن والإنس، قال تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
ولو تدبرنا جميع السياقات القرآنية التي تقرن الجن بالإنس، لوجدنا أن العذاب في الآخرة لا يقع إلا على هاتين الأمتين على وجه التحديد:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ (38)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
وهؤلاء هم المؤهلون فقط (من بين جميع الأمم التي خلقها الله) للنفاذ من أقطار السموات والأرض، قال تعالى:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
ولو تدبرنا الآية الكريمة التالية، لوجدنا أن الله يعقد مقارنة بين الجن والإنس من جهة والأنعام من جهة أخرى، قال تعالى:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا لا تصدقوها: لما كان الله قد عقد مقارنة بين الجن والإنس من جهة والأنعام من جهة أخرى، كان لزاما أن نفتري القول من عند أنفسنا بأن الأنعام هي خلق يقع ما دون الجن والإنس على سلم الفوقية، ولو حصل رد للجن والإنس إلى الأسفل، لكان الأولى بأن يرد هؤلاء إلى خلق يشبه الأنعام، فكانوا قردة وخنازير.
ولو حاولنا أن نربط هذا الكلام المفترى من عند أنفسنا مع ما جاء في قوله تعالى عن تحريم الطعام، لوجدنا الآيات تتحدث بشكل علني عن حرمة أكل لحم الخنزير على وجه التحديد، قال تعالى:
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115)
وقد افترينا القول في سلسلة مقالاتنا عن تحريم لحم الخنزير بأن سبب تحريم لحم الخنزير يتعلق بدرجة القرابة بيننا كأمة وبين هذه المخلوقات. فالخنزير هو قريب لنا في صلة الدم كقربة العمة والخالة التي حرمت علينا بالنكاح. (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان تحريم لحم الخنزير)
وهنا يبرز سؤال وجيه عن سبب عدم ورود نص مشابه للتحريم يخص القردة على وجه التحديد. فلم (نحن نسأل) لم ينص القرآن الكريم بصريح اللفظ على حرمة أكل لحم القردة مثلا؟
رأينا المفترى الخطير جدا جدا: نحن نظن أن السبب في ذلك يعود أيضا إلى فقه التدرج في سلم الفوقية.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى الخطير جدا: نحن نفتري الظن بأن القردة هي جزء من الدواب كالحمير والبغال بينما الخنزير هو أقرب إلى الأنعام كالماعز والبقر.
الدليل
قال تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
لو تدبرنا هذه الآية الكريمة بشكل دقيق، لوجدنا أن التدرج واضح في ثلاثة من مخلوقات الله، وهي على الترتيب: الناس فالدواب فالأنعام
ولو تفقدنا الآية الكريمة التالية لوجدنا أن ما أحله الله لنا في الأكل هي فصيلة الأنعام فقط، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
والآية الكريمة التالية ترشدنا إلى أن الأنعام قد خلقت بعمل الأيدي الإلهية، وهذه الكائنات هي التي ذلّلها الله لنا، لنأكل منها ونركبها، قال تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
ولكن الدواب - بالمقابل - هي أمة أمثالنا:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
وهي كائنات مسخرة ولكنها ليست مذللة، فنحن نستطيع أن نستخدمها لحاجاتنا، ولكن لا يجب أن نأكل منها كما في حالة الأنعام. فالفرق بين الأنعام من جهة والدواب من جهة أخرى هو – برأينا- فرق بين ما هو مذلّل وما هو مسخر. فالمذلل هو مسخر لكن المسخر ليس مذلل.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: في حين أننا نستطيع أن نستفيد من المذلل لقضاء حوائجنا فنستفيد منها ونستطيع أيضا أن نأكل منها (وهي الأنعام)، لا نستفيد من المسخر إلا لقضاء الحوائج ولكن لا نأكل منها. فنحن نستطيع أن نستفيد من الدواب لقضاء بعض حوائجنا لكننا لا نستطيع أن نأكل منها. وهذا فرق واضح بين الحمير والبقر مثلا؛ ففي حين أننا نستطيع أن نستفيد من الحمير لقضاء بعض حوائجنا (كالركوب)، إلا أننا لا نأكل منها لأنها ببساطة من جنس الدواب التي سخرها الله لنا. أما البقر فإننا نستطيع أن نقضي بواسطتها بعض حوائجنا (كالحراثة) ونستطيع في الوقت ذاته أن نأكل منها، لأنها ببساطة من الأنعام التي سخرها الله لنا وذللها لنا.
نتيجة مهمة جدا: ما هو مذلل (كالبقر) فهو أيضا مسخر، لكن ما هو مسخر (كالحمير) ليس بالضرورة أن يكون مذلل.
السؤال: ما علاقة هذا بسلم الفوقية؟
رأينا المفترى الخطير جدا: نحن نظن أن خلق الدواب هو فوق خلق الأنعام. ونحن نتجرأ على القول بأن الدواب قد خلقت أصلا من ذرية الأنعام. فصبح سلم الفوقية لهذه الكائنات على النحو التالي:
...
|
|
الدواب
|
|
الأنعام
|
|
...
|
السؤال: ما علاقة هذا بالرد إلى الأسفل؟
جواب مفترى: عندما أراد الله أن يعاقب الذين اعتدوا في السبت، جاءت العقوبة على نحو أن يجعلهم بداية قردة خاسئين فقط، فقال تعالى:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
فكانت المرحلة الأولى في الرد (نحن نتخيل) على نحو أن يكون هؤلاء (الذين اعتدوا) قردة خاسئين (من فصيلة الدواب). لكن العقوبة لم تقف عند هذا الحد، بل حصلت مرحلة ثانية وهي جعل البعض منهم قردة وخنازير، فكان ذلك شرا مكانة وأضل سبيلا، وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- مرة أخرى في قوله تعالى:
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لمّا كان هذا شرا مكانا وأضل سبيلا، فإننا نتجرأ على افتراء القول بأن مكانة الخنزير هي أدنى من مرتبة القردة.
إن ما نحاول أن نجهد أنفسنا للوصول إليه (ربما مخطئين) هو الافتراء الذي مفاده أن ترتيب هذه المخلوقات على سلم الفوقية يكون على النحو التالي:
الإنس
|
|
الجن
|
|
الطير
|
|
دواب
(القردة)
|
|
أنعام
(الخنازير)
|
|
السؤال: ما فائدة هذا التفريق بين القردة من جهة والخنازير من جهة أخرى؟
رأينا المفترى والخطير جدا: نحن نفتري القول بأنه في حين أن القردة تقع ضمن فصيلة الدواب (التي لا يحل لنا أصلا أكلها)، فإن الخنازير تقع ضمن فصيلة الدواب التي أحل الله لنا أكلها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
لذا، نحن نرى أن السبب في أن يأتي نص صريح يحرم علينا أكل لحم الخنزير يكمن – برأينا- في ظننا بأن الخنزير يقع أصلا في فصيلة الأنعام، فهو نوع من أنواع الماعز البري. لكن عندما اختلطت به دماء الإنس، أصبح لزاما (نحن نرى) ورود التحذير من أكله، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)
فمن يأكل من لحم الخنزير فكأنما يأكل لحم أخيه ميتا؟ وهذا - لا شك - أمر مكروه، تعافه النفس البشرية، كما تعاف الوقوع في علاقة جنسية مع من هم من أهل الرجل. انتهى.
السؤال: ما الفرق بين خلق الأنعام (بما فيها الخنزير) وخلق الدواب (بما فيها القردة)؟
رأينا المفترى: لو تدبرنا الآية الكريمة لوجدنا أن الله قد خلق لنا مما عملت الأيدي الإلهية أنعاما:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
فكان لها قلوب لكنها لا تفقه، وأعين لكنها لا تبصر، وآذان لكنها لا تسمع، قال تعالى:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
لكن الدواب – بالمقابل- هي أمم أمثالنا:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
وهذه الدواب لها مستقر ومستودع:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6)
كما لنا نحن البشر مستقر ومستودع:
وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
نتيجة مفتراة (1): مادام أن القردة من الدواب فإن لها مستقر ومستودع
نتيجة مفتراة (2): مادام أن الخنازير من الأنعام فليس لها مستودع ومستقر
السؤال: ما علاقة هذا بتدرج سلم الفوقية؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا
- اتخذ الله قراره بأن يخلق الأنعام، فخلقها دون مستودع ومستقر، فكان خلق الله من الأنعام هو الأحسن، لأنه يستحيل أن نخلق كخلق الله هذا، ويستحيل أن يجري على هذا الخلق التحسين والإضافات.
- اتخذ الله قراره بعد ذلك بأن ينشئ من هذا الخلق (الأنعام) أمة جديدة تتشارك معه في كثير من الصفات كالشكل والوظيفة (القلب والبصر والسمع)، ولكنها تفوقه في الخلق، فكان لابد أن يخلق خلقا جديدا يفوق الخلق السابق، ولكنه يظل أيضا أحسن الخلق لئلا يجري عليه تعديل، فجاء خلق الدواب، فامتازت الدواب عن الأنعام بالمستقر والمستودع. فأصبحت هذه الأمة الجديدة، أي الدواب، قادرة على التمييز لأن قلوبها تفقه وأعينها تبصر وآذانها تسمع، لكنها (رغم ذلك) ظلت غير مكلفة بالعبادة
- اتخذ الله قراره بعد ذلك بأن ينشئ من هذا الخلق خلقا آخر، فكانت الطير، فأصبحت أعلى مرتبة من الدواب، فأصبحت قادرة على التسبيح
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
- اتخذ الله قراره بأن ينشئ من هذا الخلق خلقا آخر فوقه، فكان الجن، فأصبح قادرا على العبادة
- اتخذ الله قراره بأن ينشئ من هذا الخلق خلقا آخر فوقه، فكان الإنس
- ظل كل خلق هو الأحسن بحيث يستحيل إجراء أي تعديل عليه
- أصبح بالإمكان أن يرد أي من خلقه إلى ما هو دونه
- أصبح من الاستحالة بمكان أن يرتقي هذا الخلق إلى ما بعده
- أصبح الجن والإنس (فوق جميع الأمم السابقة) قادرين على العبادة
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
- الخ
السؤال: لماذا لا يستطيع أي خلق من خلق الله أن يرتقي إلى ما هو فوقه؟
رأينا المفترى الخطير جدا جدا فلا تصدقوه: نحن نظن أن الدافع في ذلك يعود إلى سببين رئيسيين، وهما:
أولا، لو كان هناك مجال للتحسن (أي الارتقاء) لما كان الله هو أحسن الخالقين.
ثانيا، لو كان هناك مجال للارتقاء لتعارض هذا مع علم الله. انتهى.
هذان مبحثان هما – برأينا- كبيران جدا، يحتاجان إلى كثير من التفصيل، حتى تتبلور الصورة التي في ذهننا بشكل أكثر وضوحا للقارئ الكريم، لذا نحن نطلب من كل قارئ لهذه السطور أن لا يتعجل، فلا يقفز إلى نتائج ربما لا يحمد عقباها، ونطالبه في الوقت ذاته أن لا يضع الكلام في أفواهنا فيقوّلونا ما لم نقل، وإن كنا نطالبه في الوقت ذاته أن يمعن التفكر وأن يحاول التدبر، عسى الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل. لذا سنحاول أن نتناول كل واحد من هذا الافتراءات الكبيرة والخطيرة جدا بشكل مفصل، علّنا نصل في نهاية المطاف (بحول الله وتوفيق منه) إلى صورة أكثر وضوحا لطبيعة الخلق الإلهي والغاية منه.
أما بعد،
باب: الله أحسن الخالقين
دعنا نبدأ النقاش هنا بالحوار التالي الذي حصل بين موسى من جهة وفرعون من جهة أخرى. فهذا فرعون (في اللقاء الأول بينهما) يسأل موسى عن ربه:
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
فجاء الرد من موسى ربما مفاجئا لنا (ولكنه لا شك مفهوما عند فرعون) على النحو التالي:
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
السؤال: لماذا جاء رد موسى على هذا النحو؟
رأينا المفترى: نحن لا نشك قيد أنملة بأن موسى يعلم بأن الله هو أحسن الخالقين:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
والآية الكريمة التالية تبين لنا بأن الله هو فعلا من أحسن كل شيء خلقه:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7)
السؤال: ما الذي يمكن أن نستفيده من ذلك في سياق حديثنا عن الحوار الذي دار بين موسى وفرعون؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن بأنه كما يعلم موسى بأن الله هو أحسن الخالقين، فهو يعلم بأن هناك خالقين غير الله، لكن المفارقة تكمن في أن الله هو من أحسن كل شيء خلقه، أليس كذلك؟
السؤال: وما الفرق؟
رأينا المفترى: مادام أن الله هو من أحسن كل شيء خلقه، لذا يستحيل أن يحدث على خلق الله تحسين، لكن الخلق الذي ربما يخلقه غيره ليس الأحسن لأن هناك إمكانية إدخال التحسينات والتعديلات عليه.
السؤال مرة أخرى: ما فائدة ذلك في ضوء الحوار الذي دار بين موسى وفرعون؟
تخيلات مفتراة خطيرة جدا جدا لا تصدقوها: نحن نظن بأن موسى كان يعلم أن فرعون يملك القدرة على الخلق، لكن خلقه (أي خلق فرعون) ليس الأحسن لأن هناك إمكانية أن يجري عليه التحسينات والتعديلات، فيستحيل أن يصل هذا الخلق (الذي هو من خلق الذين من دون الله كفرعون) إلى مرتبة الأحسن. فإذا كان أدنى خلق الله على سلم الفوقية هو البعوض (الذباب):
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)
فيستحيل أن يصل فرعون (كإنسان أو حتى كإله من دون الله) إلى درجة أن يخلق ذبابا:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
لذا، نحن نحاول أن نستنبط القول من عند أنفسنا بأن حجة موسى هذه (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) في رده على سؤال فرعون الأول (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى) كانت الإسفين الأول الذي غرزه موسى في نعش ربوبية وإلوهية فرعون، ويكأن موسى (نحن لازلنا نتخيل) يقول لفرعون بأنك (يا فرعون) إله كاذب، لأنك ببساطه لا تستطيع أن تخلق خلقا كخلق الإله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
فالفرق بين إله موسى (الإله الحقيقي) وفرعون (الإله الكاذب) يكمن أولا وقبل شيء في أمرين اثنين هما:
- أن الله هو أحسن الخالقين
- أن الله يهدي
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
بينما فرعون، فهو بالمقابل:
- يخلق ولكنه ليس أحسن الخالقين
- لا يهدي
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
ولو تدبرنا الحوار الذي دار بين موسى من جهة وفرعون من جهة أخرى، لوجدنا بأن موسى قد أسكت (بهذه الحجة) فرعون فما استطاع أن يستمر في الحوار بهذه النقطة على وجه التحديد، فانتقل مباشرة إلى موضوع آخر، وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في هذه الآيات في سياقها الأوسع، قال تعالى:
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نتخيل ما جرى بين موسى وفرعون في تلك المحاورة على النحو التالي: يحاول فرعون أن يختبر صدق رسالة موسى، فيكون سؤاله الأول عن ربه (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى)، فيأتي جواب موسى كالصاعقة على رأس فرعون (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، فكشف لفرعون بهذه الحجة البالغة زيغ (وضعف) دعواه بأنه إلهي حقيقي، فهذا موسى إذن يبرز الصفة الأولى للإله الحقيقي على أنه الإله القادر على أن يعطي كل شيء خلقه (وهو ما لا يستطيعه فرعون)، وأن الإله الحقيقي يستطيع أن يهدي (وهو ما لا يستطيعه فرعون أيضا). عندها أدرك فرعون في قرارة نفسه (نحن لازلنا نتخيل) ضعف قدرته مقابل القدرة المطلقة للإله الحق.
(دعاء: اللهم أنت ربي، وأنت من خلقتني، فأحسنت خلقي، فأسلك وحدك أن تهديني بنورك الذي أنزلته علينا إلى نورك الحق، فأكون من الراشدين، وأعوذ بك أن يكون أمري كأمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد، إنك أنت بي بصيرا – آمين)
وسنرى لاحقا بحول الله وتوفيقه بأن السياق القرآني التالي (كما نفهمه) يفصل ذاك الحوار الذي دار بين الرجلين، قال تعالى:
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43)
فهذا حوار بين رجلين أحدهما مؤمن والآخر كافر بنعمة ربه، لكنه لا شك أكثر مالا وأعز نفرا (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا). وسنحاول في الأجزاء القادمة تقديم الدليل على شخصية الرجل المؤمن وشخصية الرجل الكافر الذي هو فعلا أكثر مالا وأعز نفرا. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، وأعوذ به أن يكون أمري كأمر فرعون وما أمر فرعون برشيد – آمين.
السؤال: ما الفرق بين خلق الإله الحق الذي يعطي كل شيء خلقه فيهدي، وخلق فرعون الذي ليس الأحسن ولا يهدي؟
رأينا المفترى: نحن نظن أننا ربما نستطيع الإجابة على هذا التساؤل مما نفهم من قوله تعالى في الآيات الكريمة التالية:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
لو تدبرنا هذه الآيات الكريمة لوجدنا أن عملية الخلق برمتها تمر بمرحلتين اثنتين، وهما عملية خلق ثم عملية إنشاء، وتتمثل عملية الخلق في هذه السلسلة المتتالية: الطين ثم النطفة فالعلقة فالمضغة فالعظام فكسوة العظام لحما، وهنا بالضبط تبدأ عملية الإنشاء ليكون خلقا آخر (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) وهذا هو – برأينا- ما يجعل الله (نحن نفتري القول) أحسن الخالقين (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
السؤال: وماذا عن خلق الذين هم من دون الله (كفرعون مثلا)؟
رأينا المفترى الخطير جدا جدا: نحن نفتري القول بأنه في حين أن فرعون قادر على عملية الخلق إلا أنه بالتأكيد (نحن نظن) غير قادر على عملية الإنشاء. وهذا لا يتوقف على فرعون وحده، بل ينسحب على كل الخالقين الذين هم من دون الله كعيسى بن مريم مثلا:
وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)
ولكن الفرق الجوهري – برأينا- بين عيسى من جهة وفرعون من جهة أخرى هو أن عيسى كان يقوم بهذا الفعل (ي فعل الخلق) بإذن الله بينما كان فرعون يقوم بهذا العمل دون إذن الله، وإن كان كلاهما يخلق ولا ينشئ، انتهى.
السؤال: ما هي النشأة؟ وما معنى أن الله هو وحده القادر على فعل الإنشاء؟
رأينا المفترى: لو تدبرنا الآيات القرآنية على مساحة النص القرآني كله، لوجدنا أن الله يتحدث عن نشأتين، هما النشأة الأولى:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ (62)
والنشأة الآخرة:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)
ونحن نكاد نجزم الظن بأن النشأة الأولى هي ما جاء في قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
ويكاد الظن يميل عندنا إلى القول بأن النشأة الأولى كانت من الأرض بينما كانت النشأة الآخرة من الأجنة. ركز معنا عزيزي القارئ – إن شئت- في قوله تعالى (إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) في الآية الكريمة التالية:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
ولو تدبرنا السياقات القرآنية الأخرى، لوجدنا أن الله قد أنشأ الشجرة:
أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72)
والله هو من أنشأ الجنات، فكانت مشتبها وغير متشابه:
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20)
السؤال مرة أخرى: ما هو النشأة؟ أو كيف يمكن أن نفهم معنى فعل الإنشاء؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: هو الخلق الذي يمتاز بالقدرة على النمو. انتهى.
السؤال: ما معنى ذلك؟
افتراء خطير جدا (1): هناك خلق قادر على النمو
افتراء خطير جدا (2): هناك خلق غير قادر على النمو
الدليل
عندما يخلق الله الخلق في بطن الأنثى، ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة إنشاءه، وهو ما يمكّن هذا المخلوق أن ينمو، فيخرج من بطن أمه طفلا، ثم يبلغ أشده، ثم يصل إلى مرحلة الشيخوخة:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
وهذا بالضبط (نحن نرى) ما يحدث للشجر (والزرع)، فيبدأ صغيرا، ثم ما يلبث أن يكبر شيئا فشيئا، حتى يصل إلى أن يكون حطاما:
أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
فكما أنشأ الله النبات من الأرض، كذلك أنشأنا من الأرض:
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61)
فنحن (كخلق الله) قادرين على النمو (كما النبات)، لأننا أُنشئنا أصلا من الأرض، ولم يتوقف الأمر على هذا الحد، بل أُنشئنا أيضا كأجنة في بطون أمهاتنا:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
السؤال: ما الفرق بين خلق الله من جهة وخلق الذين من دونه في ضوء قدرة الله على الإنشاء وانتفاء قدرة غيره على ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: في حين أن خلق الله هو خلق يملك خاصية القدرة على النمو (بفعل الإنشاء الذي جُبلنا عليه)، فإن خلق غيره لا يمكن أن يتمتع بهذه الخاصة. ولتقريب الصورة للأذهان، دعنا نتخيل ما فعله المسيح عيسى بن مريم كما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)
فهذا عيسى ابن مريم يخلق لمن حوله من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيرا بإذن الله، أليس كذلك؟ لكن يبقى التساؤل قائما: ماذا كان يحصل لذاك الطير الذي خلقه عيسى كهيئة الطير فأصبح طيرا بإذن الله؟ فهل بدأ صغيرا في حجمه ثم ما لبث أن كَبُر شيئا فشيئا؟ هل كان يحصل تغيير على ذلك الطير الذي خلقه عيسى بن مريم بين اليوم الأول واليوم التالي، وهكذا؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: كلا وألف كلا، فنحن نتخيل الطير الذي خلقه عيسى على نحو أنه طير بحجم معين، لا يزيد حجمه بتوالي الأيام وتقلب الليالي. فهو الطير نفسه في اليوم الأول واليوم الخمسين. لكن خلق الله – بالمقابل- يبدأ بمرحلة الأجنة فالطفولة فبلوغ الأشد فالشيخوخة ثم الموت.
ونحن لازلنا حتى يومنا هذا نستخدم مفردة الإنشاء على هذا النحو، كقولي مثلا: نشأت أنا – رشيد الجراح- في بلدة المزار الشمالي من محافظة أربد في شمال الأردن. فيكون منطوق كلامي على نحو أني قد ولدت في تلك البلدة، وقضيت طفولتي فيها، وهـ أنا في مرحلة الأشد من العمر، والله أعلم أين سأكمل المسيرة بإذن الله.
ولو حاولنا تنزيل هذه الصورة الذهنية على النبات الذي ينشئه الله إنشاء، لوجدنا أن حياته تبدأ بمرحلة الأجنة ثم ما يلبث أن يبدأ بالنمو، فتكون مرحلة طفولته، ثم يستوي على سوقه، حتى يبدأ بعد ذلك بالانحدار شيئا فشيئا، حتى يصبح في نهاية المطاف حطاما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا:
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45)
ولا تتوقف المقارنة – برأينا- عند هذا الحد، بل نجد أن هذا النبات يخرج منه حبا متراكبا، فيكون مشتبها وغير متشابه، قال تعالى:
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
فنحن نستطيع أن نرى عملية تركيب النبات على بعضه البعض بأم أعيننا، فيمكن أن نأخذ ذلك البرعم (الجنين) من شجرة المشمش ذات النوعية الجيدة في فترة الربيع، ونقوم بعملية تركيبه على شجرة مشمش أخرى ربما لأن ثمرها ليس من النوعية الجيدة، وما هي إلا فترة زمنية قصيرة حتى يبدأ هذا البرعم (الصغير بحجمه) بالنمو، لصبح شجرة كاملة متكاملة، تخرج لنا في نهاية المطاف ثمرا (من المشمش) ذات نوعيه جيدة، لها جميع خصائص الشجرة التي أخذ ذلك البرعم الجديد منها. فيكون بذلك مشتبها. ولكن في الوقت ذاته، نستطيع أن نأخذ البرعم نفسه، ذات الخصائص الجيدة لنركبه على شجرة لوز، فيبدأ البرعم بالنمو على جذع شجرة اللوز، وما هي إلا سنيين قليلة حتى نبدأ بقطف ثمر المشمش الجديد عن شجرة اللوز القديمة (الأم)، فيكون بذلك غير متشابه، أليس في ذلك آيات لقوم يؤمنون؟
(دعاء: اللهم أشهدك بأنك أنت ربنا الذي أحسن كل شيء خلقه، وأدعوك وحدك أن أكون من المؤمنين الذين يرون آياتك فيعرفونها، إنك أنت السميع البصير – آمين)
السؤال: ما الذي يجعل خلق الله قادرا على النشوء؟
رأينا المفترى والخطير جدا جدا: إنها العظام. انتهى.
السؤال: وكيف ذلك؟ أو بكلمات أكثر دقة نحن نسأل: ما علاقة العظام بفعل النشوء؟
رأينا المفترى: دعنا نبدأ النقاش في هذه القضية بالآيات الكريمة التالية، قال تعالى:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
لو تدبرنا هذه الآيات الكريمة جيدا، لوجدنا أن عملية الإنشاء تتم أصلا على العظام. فهي التي تبدأ بحجم صغير (طري) ثم ما تلبث أن تشتد حتى تصل إلى مرحلة الاصفرار ثم التحطم. وهذا يشبه بالضبط ما يحصل للزرع الذي يخرج شطأه ثم يأزر ثم يستغلظ إلى أن يستوي على سوقه، ثم ما يلبث أن يكون حطاما تذروه الرياح. قال تعالى:
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
وهذا العملية هي - برأينا – ما جاء بلفظ النشز في كتاب الله، قال تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لم تكن العظام لتنشز لولا أن الله قد أودع بها خاصية النشوء التي تحدثنا عنها.
عودة على بدء
اختلف كثير من أهل المعرفة (علماء المادة) مع علماء دين حول مراحل الخلق التي تصورها الآية الكريمة التالية:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
وكان جل اختلافهم منصبا على مرحلة تكون العظام، فكان لسان حال أهل المعرفة (علماء المادة) يقول بأن مرحلة العظام لاحقة وليست سابقة لمرحلة اللحم، ولعلي أكاد أجزم الظن بأن سوء تقديرهم هذا قد جاء من خطأ فهمهم لماهية العظام التي يتحدث عنها النص القرآني. فهم يظنون أن العظام هي المادة الصلبة بينما اللحم هو المادة الطرية:
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وجاءت مخالفة أهل الدين واضحة تتمثل بأن هذا هو كلام الله الذي لا يمكن تكذيبه لأنه هو الكلام الفصل، لكنهم في الوقت ذاته لم ينجحوا – برأينا- أن يقدموا الحجة الواضحة التي تثبت صحة دعواهم هذه وتكذب دعوى أهل المعرفة من علماء المادة. وهنا نتدخل برأينا الذي نظن أن فيه بعض الحجة التي تثبت العقيدة الثابتة بأن كلام الله هو فعلا القول الفصل، وتتمثل حجتنا في فهمنا لمعنى مفردة العظام التي وردت في السياق القرآني ذاته، فنحن نرى بأن العظام هي المادة القادرة على النمو بغض النظر عن درجة قسوتها أو صلابتها، فالعظام (نحن نتخيل) تبدأ طرية لكنها قادرة على أن تأزر (كما يحصل في حالة النبات)، ثم تستغلظ فتستوي على سوقه، قال تعالى:
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
فما أن تبدأ تلك المضغة تخرج شطئها حتى تأزر، حينها تصبح عظاما:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
وهذه العظام هي التي تبدأ بعملية النمو التدريجي حتى تتحطم في نهاية المطاف، فتصبح رميما:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
فسر الحياة (النمو) مودع في هذه العظام التي أنشأها الله إنشاء، فجعلها قادرة على النمو التدريجي.
الدليل
لو تدبرنا كل أمة من الأمم التي خلقها الله (كالإنسان مثلا)، لوجدنا بأن الفرق جلينا بينها في اللحم، فبعض البشر يفوق وزنه المئة كيلو غرام وبعضها الآخر (من مثلي) لا يتجاوز السبعين كيلو غرام. وهم يختلفون أيضا في اللون، والمظهر، الخ، لكنهم يشتركون جميعا في الهيكل العظمي، فالهيكل العظمي للرجل السمين لا يختلف عن الهيكل العظمي للرجل النحيل. والهيكل العظمي للرجل الأسود لا يختلف عن الهيكل العظمي للرجل الأبيض أو الأصفر، والهيكل العظمي للرجل الجميل (مثلي) لا يختلف عن الهيكل العظمي للرجل غير الجميل (مثل ...بديش أقول)، وهكذا.
ولعل أهل المعرفة من علماء المادة لا يختلفون في أن الهيكل العظمي هو ما يميز كل أمة عن غيرها. فالهيكل العظمي للحمار يختلف عن الهيكل العظمي للبقرة، وهم قادرون على التمييز بين عظام الحمير وعظام البقر، لكنهم لا يستطيعون أن يميزوا بين لحم الحمار ولحم البقرة. فكم أطعمنا الجزارون (أصحاب الضمائر الحية) من لحوم الحمير على أنها لحم عجول مستوردة من مزارع نيوزلندا واستراليا؟! فهل يستطيع علماء المادة أن يفحصوا ويميزوا أنواع اللحم المستخدم في مطاعم البيرغر الشهيرة؟! من يدري؟! لكن بالمقابل هل من الصعب عليهم أن يميزوا بين عظام هذه الكائنات في مختبراتهم؟ّ!
السؤال: لماذا يصعب عليهم تميز اللحم بينما يسهل عليهم تمييز العظام؟ أليس هذه الملاحظة جديرة بالاهتمام من قبل الجميع؟ من يدري؟!
السؤال: لو تدبرنا الآيات الكريمة التالية، لربما حقّ لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل ذلك المجادل في آيات الله يسأل عن سر الحياة في العظام، قال تعالى:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
رأينا المفترى: بداية، نحن نتجرأ على الظن بأن هذا المجادل الذي سأل عن إحياء العظام وهي رميم هو فرعون نفسه، ثم نحن نتجرأ على القول بأن سؤاله قد جاء من باب ما كان يصعب عليه فعله، ولكن كيف ذلك؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: كان فرعون (كرب وكإله) قادرا على فعل الخلق، لكن الذي كان ينقصه هو القدرة على فهم آلية إحياء العظام، أي إنشاءها (أي السر الكامن فيها الذي يجعلها قادرة على النمو التدريجي)، لذا جاء محاورا يضرب المثل على قدرة الإله الحقيقي الذي يستطيع ذلك.
الدليل
لو تفقدنا هذه الآية الكريمة جيدا، لوجدناها قد ابتدأت بالكلمات التالية:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ...
لتكون التساؤلات التي يمكن إثارتها كثيرة جدا، نذكر منها:
- ما معنى ذلك؟
- أي كيف ضرب هذا المجادل مثلا؟
- ولماذا ضرب هذا المجادل في آيات الله مثلا؟
- ما معنى أنه قد نسي خلقه؟
- على من يعود الضمير في مفردة (خَلْقَهُ)؟
- الخ
لو حاولنا تدبر عبارة (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا) على مساحة النص القرآني، لوجدنا أمورا كثيرة تسترعي الانتباه، نذكر منها:
أولا، أن ضرب الأمثال هو فعل خاص بالله، فالله هو وحده من له الحق أن يضرب الأمثال، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ۖ هَلْ يَسْتَوُونَ ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
ثانيا، لهذا (نحن نرى) جاء النهي القاطع لنا من الله أن نضرب له الأمثال:
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
السؤال: لماذا طلب الله منا أن لا نضرب له الأمثال؟
رأينا المفترى: لو دققنا في هذه الآية الكريمة لوجدنا أن من يستطيع أن يضرب المثل هو من كان ذا علم، ويمكن أن نستنبط من هذا أن المضروب له المثل أقل علما من ضارب المثل نفسه. ولتبسيط الصورة، دعنا ندقق فيما يحصل بين المعلم وطلابه في قاعة الصف. فعندما يحاول المعلم أن يشرح قضية ما للطلبة، فإن من المنطق أن يكون المعلم صاحب علم، بينما يكون الطلبة أقل علما من المعلم. ولكي يحاول المعلم توضيح المسألة العلمية لطلابه، فإنه يعمد أحيانا إلى ضرب الأمثلة، فيقول دعنا نضرب مثالا على ذلك، فيكون هذا المثال هو بمثابة عملية توضيحية لقضية علمية من طرف من يعلم (المعلم) إلى من ينقصه العلم (الطلاب).
السؤال: لماذا نهانا الله أن نضرب له الأمثال إذن؟
رأينا المفترى: إن من يحاول أن يضرب المثال لله، فهو إنما يفترض أن عنده من العلم ما ينقص الإله نفسه، ويكأن لسان حاله يقول أن عندي من العلم ما ليس عند الله، ويكأنه يقول بأنه يعلم وأن الله لا يعلم، وهذا لا يكون إلا من صنيع من يجادل في آيات الله، لا بل ويظن أنه إله على الآخرين الذين يفترض أنهم اقل منه قدرا في العلم.
السؤال: ما علاقة هذا بما جاء في الآية الكريمة قيد البحث هنا:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفتري القول بأن هذا هو الشخص الوحيد الذي ضرب لله مثلا على مساحة النص القرآني كله، فلا يوجد شخص آخر تجرأ على هذا الفعل سواه. لذا، نحن نفتري الظن بأن هذا الشخص كان على قدر كبير من العلم، لدرجة أنه قد ظن أنه يستطيع أن يضرب لله الأمثال، ويكأن لسان حاله يقول بأنه هو شخصيا يعلم (أي المعلم) والآخرون بمن فيهم الله لا يعلمون (أي متعلمون):
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
السؤال: من هو هذا الشخص إذن؟
رأينا المفترى: نحن نظن أنه يستحيل أن يتجرأ على مثل هذا الفعل إلا من ظن بأنه ربا أو أنه إلها، قد وصل إلى مرحلة ضرب الأمثال، لأنه ظن بأنه يعلم وغيره لا يعلمون. فمن يكون هذا الشخص إذن؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نتجرأ على القول بأنه يستحيل أن يفعل مثل هذا الفعل إلا فرعون نفسه:
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
الدليل
لو تدبرنا الآية نفسها لوجدنا أن هذا الذي ضرب لله المثل قد نسي خلقه، أليس كذلك؟
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
السؤال: ما معنى عبارة (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) التي جاءت في بداية هذه الآيات الكريمة؟
رأينا المفترى: نحن ننفي جملة وتفصيلا بأن يكون الضمير في مفردة (خَلْقَهُ) يعود على الله، أو أن يكون المعنى على نحو أن هذا الرجل قد نسي خلق الله عندما ضرب هذا المثال، وذلك لأن الآية قد ابتدأت بضمير الجمع عندما جاء الحديث متعلقا بالإله (وَضَرَبَ لَنَا). لذا نحن نفتري الظن بأن الضمير في قوله (خَلْقَهُ) يعود على شخص واحد محدد بعينه، فمن هو؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نكاد نجزم الظن بأن ضمير الغائب المتصل في مفردة (خَلْقَهُ) يعود على الشخص المحاور نفسه، وهو فرعون.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: مادام أن هذا الشخص قد نسي، فهو لا شك قد فعل ذلك عن قصد، لأن فعل النسيان (كما حاولنا الشرح في مقالات سابقة) لا يأتي إلا مقصودا بدليل قوله تعالى:
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
وها هم ينسون يوم الحساب:
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
وهذا الله نفسه ينسى:
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (34)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
لذا، فإن فعل النسْيان (بالسين الساكنة على عكس فعل النسيان بالسين المتحركة) لا يعني غياب المعلومة من الذاكرة، وإنما هو فعل مقصود لذاته، لذا فإن فعل النسْيان (بالسين الساكنة) هو ما يعني بالعامية "التطنيش". فالله قد نسْيهم (عن قصد) لأنهم نسْوه من قبل (عن قصد).
السؤال: ما علاقة هذا بالآية الكريمة قيد البحث؟
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: عندما جاء موسى إلى فرعون بالرسالة، كان سؤال فرعون الأول هو:
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
فكان رد موسى على النحو التالي:
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
ونحن نتخيل أن الحوار قد استمر بينهما على نحو أن فرعون قد ضرب المثل في إحياء العظام وهي رميم:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
فكان الجواب على النحو:
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
فلو تدبرنا هذا الرد، لوجدنا أنه يبرز صفات الخلاق العظيم، ونحن نفتري القول بأن هناك خالقين كثير غير الله، ولكن ما يميّز الله عن غيره من الخالقين هو أن الله هو وحده الخلاق العظيم. ومن أهم صفات الخلاق العظيم عن الخالق العادي هو القدرة على التنوع في الخلق، ففي حين أن غير الله من الخالقين يختص بخلق واحد محدد بعينه كعيسى بن مريم مثلا الذي كان يخلق من الطين كهيئة الطير فقط، فإن الله هو الخلاق العظيم، لأنه هو وحده الذي يمتلك الصفات التالية:
- الله يخلق
- الله ينشئ
- الله خلاق، فينوع في خلقه
- الخ.
السؤال: لماذا كان الله هو الخلاق العظيم؟
جواب مفترى: نحن نظن أن هذا السؤال ينقلنا مباشرة إلى الجزء التالي من هذه المقالة، حيث سينصب الحديث بحول الله وتوفيق منه على سبب تدرج الخلق الإلهي بهذا الشكل. فنحن نفتري الظن بأن السبب في خلق الله له علاقة مباشرة بالعلم الإلهي.
باب: علم الله
تساؤلات
- لماذا جاء خلق الله بهذه الطريقة؟
- لم جاء خلقا من بعد خلق؟
- لم جاء خلقا فوق خلق؟
- لم جاء خلقا وإنشاءا؟
- الخ
نحن نظن بأنه يمكننا (بإذن الله) أن نستنبط بعض الإجابة على هذه التساؤلات من الآية الكريمة التالية:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31)
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب مفترى: نحن نظن أنه من أجل محاولة الإجابة على هذا التساؤل، فإنه ينبغي أولا أن نطرح التساؤل الأولي التالي: ما معنى الفعل يفرغ (أي كيف سيفرغ الله لنا)؟
تساؤلات مثيرة؟
- متى سيفرغ الله لنا؟
- لماذا سيفرغ الله لنا؟
- كيف سيفرغ الله لنا؟
- وماذا يفعل الله الآن؟
- هل الإله مشغول عنا الآن؟
- إن كان كذلك، فما الذي يشغله عنا حتى يؤجل لنا الأمر؟
- إن صحّ هذا التفكير السطحي (برأينا بالطبع)، ألا يقدح ذلك بقدرة الإله المطلقة على الإحاطة بكل شيء؟
- الخ.
هذا ما سنخوض فيه في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيق منه، سائلين الله وحده أن ينفذ مشيئته وإرادته لنا الإحاطة بشي من علمه لا ينبغي لغيرنا، إنه هو العليم الحكيم، وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا. وأدعوه وحده أن يؤتيني رشدي، وأعوذ به أن يكون أمري كأمر فرعون، فالله وحده أدعو أن أكون ممن أتوه بقلب سليم، فهداهم الصراط المستقيم، إنه هو العليم الخبير – آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
9 أيلول 2016