نظرية التطور (نشوء وليس ترقي) - رؤية جديدة - الجزء (1)
نظرية التطور (نشوء وليس ترقي) – رؤية جديدة
عندما خرج العالم ذائع الصيت داروين بنظريته المسماة نظرية التطور (النشوء والترقي)، انبرى علماء دين من جميع العقائد الدينية المعروفة معلنين مخالفتهم لهذه النظرية على أساس أنها نظرية "لا دينية"، لا بل على أساس أنها مناقضة لأسس العقائد التي يؤمنون بها، وربما كان الهجوم على النظرية (وصاحبها) من قبل أهل الدراية من أبناء المسلمين شرسا جدا، إلى أن وصل ببعضهم القول بأن من يؤمن بمثل هذه النظرية إنما يقع في الإلحاد الذي لا شك عاقبته (عندهم) الخلود في نار جهنم. وبالرغم أنهم – برأينا- لا يقدمون دليلا عقليا ولا دليلا نقليا لتبرير مواقفهم إلا أنهم لم يترددوا في وصفها بالكفر ومن ثم وصف المؤمنين بها بالزندقة والإلحاد.
لكن على الرغم من الجعجعة التي أثارها ويثيرها هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم مدافعين عن عقيدة الدين يبقى السؤال قائما، ألا وهو: ما مدى صحة مثل هذه النظرية بناء على ما جاء في النصوص الدينية الثابتة كالقرآن الكريم مثلا؟ فهل هناك دليل في كتاب الله يثبت أو ينفي صحة مثل هذه النظرية؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن أننا نستطيع أن نجلب الدليل من كتاب الله (كما نفهمه) على صحة الإطار العام لهذه النظرية وإن كنا نظن بخطأ بعض تفاصيلها، فالنظرية بمجملها (نحن نرى) صحيحة ولكنها بتفاصيلها ربما غير صحيحة: لذا نحن نرى بأنه لا يجب علينا أن ننفي النظرية أو أن نحاربها، بل من واجبنا المشاركة فيها لتهذيبها، ومن ثم الخروج بالنسخة الجديدة المنقحة التي تفيدنا للسير إلى الأمام.
وبناء على هذا الفهم المفترى من عند أنفسنا، فإننا نعتقد بأن مهمتنا يجب أن تنصب على محاولة جلب الدليل الذي يثبت صحة ما فيها وكذلك جلب الدليل الذي يثبت خطأ بعض تفاصيلها، لذا سننطلق في النقاش بطرح تساؤلين رئيسيين هما:
- كيف يمكن لنا إثبات الإطار العام للنظرية بناء على النص الديني؟
- ما هي الجزئيات الخاطئة في النظرية التي يجب تصحيحها؟
تحقق الإطار العام
من أجل إثبات الإطار العام لهذه النظرية نجد لزاما طرح تساؤلات أولية بدائية تخالج العامة وأهل الاختصاص نذكر منها:
- لماذا خلق الله هذا الناموس (القارص باللهجة الأردنية) التي تقض مضجعي في الليل فلا تتركني أنام بهدوء وهي تقتات على دمي؟
- لم لا يقبل (هذا الناموس) المفاوضات بأن أقدم له كأسا من الدم في بداية الليل فيشرب منه ويكفني شره؟
- وما فائدة تلك الحشرة التي تسرح في الفضاء الرحب أو تلك الأفعى التي تختبئ في التراب وبين الصخور أو ذلك الجرذ الذي يعيش في شبكات مجاري المدينة الجميلة؟
- لم هذا التنوع الهائل في الطبيعة؟
- أليس هناك كم هائل من المخلوقات في البر والبحر؟
- لم تتواجد جميعها في الأرض؟
- متى خلقت هذه الكائنات؟
- هل خلقت كل هذه الكائنات دفعة واحدة أم أن خلق بعضها سبق خلق البعض الآخر؟
- الخ
وبعد محاولتنا الإجابة على بعض هذه التساؤلات بتقديم رؤية مفتراة من عند أنفسنا بناء على فهمنا الشخصي لبعض آيات الكتاب الحكيم، فإننا سننتقل إلى طرح تساؤلات أكثر جدية نظن أن لها علاقة بهذا الموضوع، نذكر منها:
- ما الذي يحصل بعد أن ينقضي يوم الحساب بدخول المؤمنين الجنة ودخول الكافرين النار؟
- ما الذي سيفعله الإله نفسه؟
- هل ستنتهي إلوهيته هناك، فيكون مراقبا لمن يخلد في الجنة والنار؟
- هل تقتصر (أو ربما تنتهي) مهمة الإله عند نهاية هذا الخلق؟
- الخ.
نحن نظن أن الإجابة على مثل هذه التساؤلات الأولية تكمن في تغيير نظرتنا للكون ولإله هذا الكون الذي قدره تقديرا.
المبحث الأول: باب الخلق
أما بالنسبة لمخلوقات هذا الكون الفسيح، فنحن نحتاج أولا أن نفهم هذا التنوع الهائل فيه، طارحين التساؤل عن سر وجود مخلوقات كثيرة فيه. مبتدئين النقاش بطرح تساؤلين اثنين هما:
- لم هذا التنوع الهائل في الكائنات المتواجدة معا على الأرض؟
- وكيف بدأ الخلق؟
بداية، نحن ننفي جملة وتفصيلا فكرة التوازن الطبيعي في الكون، كأن يقول قائل بأن وجود القطط مرتبط بوجود الفئران، فالقطط هي ما تحافظ على التوازن الكمي للفئران وهكذا، لأن هذه (نحن نفتري القول) فكرة محرّفة عن القصة التوراتية في بناء سفينة نوح، ومن أراد المجادلة فليرجع إلى ذلك التراث.
أما نحن، فإننا نرى أن فكرة التوازن الطبيعي في الكون هي بمثابة فكرة طفولية لأن الإله الذي خلق هذا الكون قد قدره تقديرا، لذا يستحيل أن لا يحدث فيه التوازن، وهو يستطيع أن يحدث هذا التوازن بواحدة من طريقتين، هما:
- عدم خلق الطرفين، فنحن لا نحتاج الفئران أصلا، لذا تنتفي الحاجة أيضا إلى وجود القطط، فننعم بطبيعة جميلة وهادئة دون الاثنين، أو
- فرض التوازن العددي في التكاثر، فلا يتناسل من هذه الفئة إلا بالقدر المعلوم، ويكون الموت هو القدر الذي لا مفر له للجميع.
رأينا المفترى: لعلي أكاد أجزم الظن بأن الإله قد حافظ على التوازن الطبيعي بين الكائنات بالطريقة الثانية، لذا نجد أن أعمار الكائنات الحيّة متفاوتة، فالبعوض الذي يكثر عدده لا يعمر طويلا، بينما تعيش كثير من الكائنات قليلة التوالد فترات عمرية طويلة جدا.
السؤال المحوري مرة أخرى: لم إذن خلق الله هذا التنوع الهائل في الطبيعة؟
جواب مفترى: إنها نظرية النشوء
السؤال: وكيف ذلك؟
دعنا نعيد نظرتنا لهذا الكون ولخالق هذا الكون، مفترين الظن (ربما مخطئين) بأن القصة هي على النحو التالي: لم يأت خلق ما في الأرض جميعا دفعة واحدة. فالكائنات الموجودة في الأرض لم تخلق دفعة واحدة، وإنما هو خلق من بعد خلق:
خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
ولم يكن هذا مقتصرا على جنس البشر، وإنما جاء عاما لكل الأمم الأخرى كالدواب والطير مثلا:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
لنصل إلى نتيجة مفتراة من عند أنفسنا مفادها أن الكائنات الحية لم تخلق كلها جملة واحدة، فقد جاءت على نحو خلق من بعد خلق، ولعل أوضح أدلة هذا التناوب (بالنسبة لنا) هو خلق الإنس من بعد خلق الجآن:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)
إذن، لم يتزامن خلق الجآن مع خلق الإنس وإنما جاء خلق الجآن سابقا لخلق الإنس، أليس كذلك؟
السؤال: ماذا عن الأمم الأخرى كالدواب والطير وغيرها؟
رأينا المفترى والخطير جدا جدا: نحن نظن أن هذا التناوب في الخلق له علاقة مباشرة بالإله نفسه، ولنبدأ بالآية الأولى في كتاب الله وهي:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
فخالق هذا الكون هو الله الرحمن الرحيم، أليس كذلك؟
السؤال: لماذا هذه الأسماء الثلاثة (الله، الرحمن، الرحيم) هي ما ابتدأ الله (خالق هذا الكون ومدبره) به كتابه الكريم؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نكاد نجزم الظن بأن هذه هي الأسماء الحسنى لخالق هذا الكون، وأن ما عداها كالغفور الرحيم أو العليم الحكيم أو السميع البصير ليست أكثر من صفات له. انتهى.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: أسماء الله الحسنى هي ثلاثة فقط: الله والرحمن والرحيم
السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: تحدثنا في مقالة سابقة لنا عن هذه الجزئية، وظننا (ربما مخطئين) بأن هذه هي حالات الإله نفسه، فكانت الحالة للأولى للإله على نحو أنه الله، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
في هذه الحالة الأولى للإله، كان الله، وكان أحد، وكان صمد، وهو الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحدا. فما كان هناك أحد غيره. ولكن بعد تلك الحالة الأزلية، اتخذ الله قراره بأن يصبح ربا، فكان لابد أن يبدأ مرحلة الخلق، فأصبح هو الرحمن، الذي يستطيع فعل ما لا يستطيع خالق غيره أن يفعله، فبدأ خلق الكائنات واحدة بعد أخرى، فخلق الخلق الأول:
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
فبدأ الخلق الأول بالفلق، فالله هو فالق الحب والنوى:
إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
فبدأ الخلق الأول الذي خلقه الله بالفلق، فأخرج الحي من الميت، وهكذا أخذ الخلق يتجدد واحدا تلو الآخر. والمفارقة الأولى تكمن في أن هذا الخلق أصبح قادرا على إحداث الشر، فقال تعالى:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: كانت جميع المخلوقات التي خلقها الله قادرة على إحداث الشر، ونحن نفهم ذلك على نحو أن جميع مخلوقات الله كالدواب والطير التي تطير بجناحيها والجن هي أمم أمثالنا، وهي قادرة على إحداث الشر. فالبعوض أمة مثلنا، والذباب أمة مثلنا، والفئران أمة مثلنا، والقطط أمة مثلنا، والأفاعي أمة مثلنا، والأسود أمة، وهكذا. وهي تستطيع جميعا أن تحدث الشر، لذا طلب الله منا أن نستعيذ بربها الذي خلقها من الشر الذي قد تحدثه فينا:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
نتيجة مفتراة (1): في الأزل كان الله ولم يكن هناك شيء آخر غيره
نتيجة مفتراة (2): في المرحلة التالية، أصبح هذا الإله الأحد (أي الله) ربا، فبدأ مرحلة الخلق
نتيجة مفتراة: (3): بدأ الله الخلق الأول بالفلق، فأخرج الحي من الميت
نتيجة مفتراة (4): أخذ الخلق يتجدد واحدا تلو الآخر
نتيجة مفتراة (5): أصبح هذا الخلق قادرا على إحداث الشر
السؤال: كيف بدأ الخلق؟
جواب مفترى من عند أنفسنا خطير جدا جدا: الفوقية
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الخلق قد بدأ بالأمة الأضعف على الإطلاق، ثم أخذ الله يخلق فوقها خلقا أقوى منها، فكان الخلق الثاني، ثم خلق الخلق الثالث فوق الخلق الثاني، وجاء الخلق الرابع ليهمن على ما دونه ولكنه ظل أضعف من الذي فوقه، وهكذا. فكل أمة جديدة هي فوق سابقاتها جميعا، حتى جاء الخلق قبل الأخير وهو الجآن:
وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)
فكان الجآن هو الخلق الذي سيطر على كل ما سبقه من الأمم، وظل على تلك الحالة حتى خلق الله الإنس:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71)
وفي هذه المرحلة طلب الله منهم، أي من الجآن (والملائكة فصيلة منهم)، أن يسجدوا لهذا المخلوق الجديد:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)
فأصبح الإنس هو المخلوق الذي يحتل المرتبة الأعلى، فكان فوق جميع المخلوقات الأخرى التي سبقته، لأن خلقه كان في أحسن تقويم:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ولكن بالرغم من أن هذا الكائن الأخير (أي الإنس) هو مخلوق جديد إلا أن خلقه لم يأتي من جنسه، وإنما جاء بطريقة النشوء، أي جاء من خلق سابق له، فالله هو من أنشأنا من ذرية قوم آخرين. قال تعالى:
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
فهذه الآية الكريمة تبين لنا (كما نفهمها) بأن الله هو من خلقنا لكنه أنشأنا من ذرية قوم آخرين. فهناك إذن فرق بين خلقنا وإنشائنا. فالخلق شيء والإنشاء شيء آخر. لتكون النتيجة التي نحاول الوصول إليها هي الافتراء الخطير التالي: جاء خلق كل أمة من ذرية من سبقه في الترتيب الخلقي، فكما خلق الله الإنس (المخلوق الأخير) من ذرية قوم آخرين، جاء خلق الكائنات الأخرى بهذه الطريقة، مادام أنها جميعا أمم أمثالنا، قال تعالى:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
فكل الدواب الموجود في الأرض، وكل الطير التي تطير بجناحيها في جو السماء، هي – لا شك- أمم أمثالنا، لذا نحن نفتري الظن (ربما مخطئين) بأنها جاءت جميعا على نحو خلق من بعد خلق، ولكنها أنشئت (كما حصل مع الإنس) من ذرية قوم آخرين.
ولتوضيح الصورة التي في مخيالنا أكثر، نحن نفتري الظن بأن الخلق الأول قد بدأ بفلق الحب والنوى:
إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
فأخرج الحي من الميت، فكان الخلق الأول هو أمة بحد ذاتها، وما أن اتخذ الإله قرار بخلق آخر جديد، حتى أنشأه من ذرية الأمة الأولى، وأنشأ الخلق الثالث من ذرية الخلق الثاني، وهكذا، حتى جاء خلق الإنس، فأنشأه الله من ذرية الخلق الذي سبقه وهو الجآن.
نتيجة مفتراة مهمة جدا (1): خلق الله البشر من طين
نتيجة مفتراة مهمة جدا (2): أنشأ الله البشر من ذرية الجآن
نتيجة مفتراة مهمة جدا (3): أنشأ الله كل أمة من ذرية من سبقها من الأمم، فأصبح هناك تدرج زمني أفقي (خلق من بعد خلق)، وأصبح هناك تدرج فوقي عامودي (خلق فوق خلق). فكانت ذرية بعضها من بعض:
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
وأصبحت كل أمة سابقة مسخرة لكل أمة لاحقة:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)
ففي حين أن الجآن قد علا على من سبقه من الخلق، كان الإنس هو من سخر الله له الخلق جميعا بمن فيهم الجن، وهم الذين أُمروا بالسجود لآدم:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)
ومن هنا (نحن نرى) جاء الخصام بينهم في الملأ الأعلى، فلقد ظن الجآن أنه خير من الإنس، بسبب مادة الخلق التي خلق منها وهي النار، كما جاء على لسان زعيمهم إبليس:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76)
السؤال: إذا كانت مادة خلق الجآن (النار) هي خير من مادة خلق الإنس (الطين)، فلم طلب الله من الجآن أن يسجد للإنس؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن السبب في ذلك يعود إلى أن جنس الإنس وإن كان قد خلق من طين (المادة الأدنى في الخيرية)، إلا أن الله أنشأه من ذرية من سبقه من الخلق وهم الجآن. ونحن نفهم ذلك على نحو أن الإنسان هو نسخة مطورة عن الجآن.
وهنا نصل إلى معنى التطور في الخلق الذي نحاول تسويقه بناء على فهمنا المفترى لهذه الآيات الكريمة، وهنا نرى أننا نتلاقى مع نظرية التطور التي قدمها عالم الطبيعة الشهير تشارلز داروين؛ فنحن نرى أن التطور الذي تحدث عنه دارون هو النشوء بذاته، أي عندما أنشأ الله كل خلق جديد من ذرية الخلق السابق. فالتطور عند داروين هو نشوء عندنا.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفهم معنى التطور الذي تحدث عنه داروين على نحو أنه نشوء، بمعنى أن يكون الخلق الجديد (كأمة) هو نسخة أكثر تطورا من الخلق السابق (كأمة)، فالقط (كأمة) هو نسخة أكثر تطورا من الفأر (كأمة). والجآن - لا شك عندنا- هو أكثر تطورا من كل من سبقه من المخلوقات كأمم سابقة، ولكن الإنسان (كأمة) كان هو الأكثر تطورا من الجآن نفسه ومن كل من سبقه من جميع المخلوقات المتواجدة في الأرض. لذا أصبحت كلها مسخرة لهذا المخلوق الأخير.
السؤال: كيف بدأ الخلق إذن؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن أول أمة خلقها الله كانت هي الأمة الأضعف من بين جميع المخلوقات المتواجدة الآن في الطبيعة، كما نفتري الظن بأن آخر أمة خلقها الله (أي الإنس) هي الأمة التي تسود فوق كل المخلوقات السابقة، وهي الأمة التي سخر الله لها كل من سبقها من خلقه. ولو حاولنا إلقاء نظرة أولية سريعة على ما يحدث في الأرض، لوجدنا أن الإنسان هو المتحكم الأقوى بكل ما في الأرض بمن فيهم المخلوقات الأخرى (أي الأمم الأخرى) حتى وأن سبقته في مرحلة الخلق. وهذا ما نحاول الترويج له تحت مبدأ بالفوقية التي تتخذ شكل السلم المتدرج، فيصبح سلم الفوقية متدرجا على النحو التالي:
الإنسان
|
الجآن
|
...
|
....
|
...
|
...
|
...
|
...
|
السؤال: إذا كنا نعلم بأن الإنسان هو الخلق الأخير، فمن هو الخلق الأول؟ أو بكلمات أكثر دقة نحن نسأل: ما هي الأمة التي بدأ الله خلقها أولا، فكانت هي الأمة الأضعف من بين جميع مخلوقاته؟
جواب مفترى خطير جدا جدا لا تصدقوه: نحن نظن أن الآية الكريمة التالية (كما نفهمها) تبين لنا ما هي الأمة التي خلقها الله أولا، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)
دقق عزيزي القارئ – إن شئت- في هذه الآية الكريمة لتجد أنها تتحدث عن البعوضة، ولتجد أن الله قد ضربها ولا يستحي بضربها كمثل، ليكون ذلك مثار تساؤلات كثيرة نذكر منا:
- لماذا ضرب الله مثلا بعوضة؟
- ما معنى أن الله قد ضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها؟
- ما معنى البعوضة فما فوقها (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)؟
- لماذا لا يستحي الله أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)؟
- لماذا يكون ضرب هذا المثال فارقا للفئة المؤمنة عن الفئة الكافرة؟
- كيف علم الذين آمنوا أن هذا هو الحق من ربهم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ)؟
- لماذا استغرب الذين كفروا من ضرب هذا المثال (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً)؟
- كيف يكون ضرب هذا المثال سببا في ظلال كثير (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً)؟
- كيف يكون ضرب هذا المثال سببا في إيمان كثير (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً)؟
- ولماذا لا يضل من وراء ضرب هذا المثال إلا القوم الفاسقون (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ)؟
- الخ
رأينا المفترى: نحن نظن أن هذا يدعونا إلى تقديم الافتراءات التالية التي هي لا شك من عند أنفسنا:
- كانت البعوضة هي الخلق الأول، فكان كل الخلق الآخر هو خلق فوقها
- أصبحت هذه القضية محورية في الفصل بين فئتين: فئة مؤمنة وأخرى كافرة
- لو تدبر المؤمنون كتاب الله لوجدوا العلم فيها جليا، فأصبحت دليلا لا يرد على صدق هذا الكتاب الذي يبين لهم ما هم فيه مختلفون
- لو قرأ الذين كفروا هذه الآية لأثارت للوهلة الأولى السحرية والاستهجان في نفوسهم عن ما جاء في هذا الكتاب لأنهم سيظنون أن هذا من باب الكلام المبتذل الذي لا فائدة فيه
- لكن عندما يتبين لهم حقيقة هذه الآية الكريمة فستنزل كالصاعقة على رؤوسهم لأنهم سيجدون ما تجادلوا فيه من علم على مدى قرون من الزمن واضحا جليا بسيطا قد سطره الله في كتابه الذي أحكم آياته
- الخ
الدليل
لو تدبرنا مفردة القوم الفاسقين التي جاءت في نهاية هذه الآية الكريمة:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)
لوجدناها في كتاب الله قد جاءت مصاحبة في أكثر سياقاتها لأهل الكتاب، خاصة اليهود:
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
فأهل الكتاب هم – لا شك عندنا- أصحاب علم، فهم من شهد الله لهم بأن فيهم علماء:
أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
ولكن هذا لا يمنع أن يكون فيهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)
بينما الأمم الأخرى (بمن فيهم نحن) فهم أميون بمجموعهم وقل أن نجد فيهم العلماء، فالله هو بعث في الأمين رسولا منهم:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)
وقد لهج لسان علماء بني إسرائيل بأن ليس عليهم في الأميين سبيلا :
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
ونحن نفتري القول بأن فسقنا (نحن الأمين) قد جاء من كثرة اهتمامنا بما هو متاع الحياة الدنيا وزينتها، تاركين البحث في العلم الحقيقي لغيرنا، فكانت التجارة والأموال والأزواج والأبناء والآباء والمساكن أحب إلينا من كل شيء آخر:
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
فكان هناك (نحن نفتري الظن) نوعان من الفاسقين، وهم:
- علماء بني إسرائيل الذين يبحثون عن العلم في كل شيء إلا في كتاب الله (كداروين وأينشتاين ونيوتن وغيرهم)
- الأميون الذين اشتغلوا بمتاع الحياة الدنيا فما ظنوا أنهم ملزمون بالبحث عن العلم الحقيقي في الكتاب المتوافر بين أيديهم
وهؤلاء هم من استحقوا جميعا الخزي في الحياة الدنيا:
مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
وأكثر من أصابهم هذا الخزي فهم الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، لا لشيء وإنما إتباعا لأهوائهم:
ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
وهؤلاء الذين أصابهم الخزي هم الذين لن يهديهم الله أبدا حتى وإن استغفر لهم النبي نفسه:
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ۖ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
(دعاء: أعوذ بك ربي أن أكون من الفاسقين، وأعوذ بك ربي أن يصبني الخزي في الحياة الدنيا أو أن أرد يوم القيامة إلى أشد العذاب، وأدعوك وحدك أن تعلمني ما لم أكن أعلم، فإني أشهدك بأني قد آمنت بالكتاب كله، إنك أنت العليم الحكيم – آمين)
أما بعد،
لقد احتدم الصراع بين علماء بني إسرائيل (كإسحق نيون وألبرت أينشتاين وتشارلز روبرت داروين) الذين يبحثون عن العلم في كل مكان مهملين في الوقت ذاته كتاب الله كمصدر للمعلومة الصحيحة التي لا ريب فيها من جهة والأميين الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض من جهة أخرى. ففي حين أن الطرف الأول (العلماء) يظنون أن كتاب الله ليس جديرا بأن يكون مصدرا للمعلومة مادام هذا الكتاب في نظرهم ليس أكثر من تراث الأولين الذي لا يرقى لدرجة المصداقية العلمية القابلة للتجربة والبرهان، ظن الطرف الآخر أن كتاب الله لا يحتوي دليلا يثبت أو ينقض هذه النظريات البشرية الموضوعة على طاولة النقاش للبحث العلمي الصحيح. فكم تحدث هؤلاء الأميين عن فقه العبادات كالصلاة والصيام والحيض والنفاس، ولكن مؤلفاتهم تخلو تماما من ذكر لهذه الأفكار العلمية التي ربما تؤهلنا لنكون قادرين على النفاذ من أقطار السموات والأرض:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
وقد كانت فكرة التطور التي طرحها داروين في نظريته ذائعة الصيت واحدة من نقاط التفريق بين الطرفين، فكان كلاهما (نحن نفتري القول) من الفاسقين غير المؤهلين للهداية من الله.
ولما كنا نظن بخطأ الطرفين، وجب علينا أن نسلك طريقا غير الطريق التي سلكها كل طرف من الفريقين المتخاصمين، ولعل أبسط مقومات التفكير عندنا تبني على العقيدة التي تجليها الآيات الكريمة التالية التي تسطر السنة الإلهية بأنه لم يفرط في الكتاب من شيء:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
وأنه قد فصل كل شيء تفصيلا:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)
لذا، نحن على العقيدة التي مفادها أن كل بحث علمي، يحاول إيجاد الحقائق الكونية هو بحث جدير بالاهتمام، ولكن شريطة أن يستند على ما في الكتاب من علم. فالبحث في نظرية التطور يجب أن يبدأ من الكتاب نفسه. ونحن نظن أن الآية الكريمة التي أوردناها سابقا، تشكل (كما نفهمها) نقطة البداية في هذا المبحث العلمي الكبير، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)
لنسطر بناء على ما جاء في هذه الآية الكريمة (كما نفهمها) الافتراء الخطير جدا التالي: كانت البعوضة هي الخلق الأول، فكانت هي الأضعف، وكل ما خلق بعدها قد خلق ليكون فوقها (مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)، فالفوقية مبنية (نحن نفتري القول) على معنى التدرج، قال تعالى:
قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165)
(دعاء: آمنت أنه لا إله إلا الله، أعوذ بك ربي أن أبغي إلها أغيرك وأنت رب كل شي، وآمنت أنا إليك راجعون فتنبئونا بما كنا فيه مختلفون، فأنت من جعلتنا خلائف في الأرض ورفعت بعضنا فوق بعض درجات، وأدعوك وجدك أن أكون في أعلى الدرجات، إنك أنت الغفور الرحيم – آمين)
لذا نحن نتجرأ على تسطير الافتراء العلمي التالي: نحن نرى ضرورة تصحيح نظرية التطور لتصبح نظرية الخلافة والتفوق أو الفوقية. فبدل أن نتحدث على أن الكائنات الحية تتطور، علينا أن نفهم أن كل الكائنات الحية قد جاءت لتخلف بعضها البعض وليكون بعضها فوق بعض درجات.
تبعات هذا الظن المفترى من عند أنفسنا
أولا، إن من أول وأبسط مبادئ هذا التفكير (على علاّته) هو الظن بأن التطور الذي تحدث عنه اسحق نيوتن لا يخص الفصيلة الواحدة، فالبعوض هو البعوض نفسه منذ أن خلق الله الكون وسيبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وكذلك هي الزاحف والطير والدواب، لذا لم يحدث تطور على أي فصيلة من فصائل الكائنات الحية منذ أن خلقت وحتى تفني عن آخرها في نهاية هذا الوجود حتى ترجع كلها إلى ربها.
ثانيا، نحن نظن أن التطور الذي تحدث عنه داروين هو في الحقيقة (كما نفهمها) عبارة عن نشوء، فكل صنف من الكائنات قد نشأ من ذرية من سبقه من الكائنات على سلم الفوقية.
ثالثا، نحن نظن أن هذا النشوء هو عبارة عن نشوء تدرجي، فكل صنف يرتبط أكثر بالصنف الذي سبقه مباشرة والصنف الذي لحقه. فالجرذ هو أقرب إلى الفأر منه إلى الأسد، والحمار هو أقرب إلى الخيل منه إلى البقر، والإنسان هو أقرب إلى الجآن منه إلى الكلب، وهكذا.
رابعا، نحن نظن أن هذه الكائنات مرفوع بعضها فوق بعض درجات، فربما تكون المسافة بين الفأر والقط درجة واحدة، ولكن المسافة بين الفار والجآن أو الإنس مثلا هي درجات كثيرة.
خامسا، نحن نظن أن الهدف من هذه الفوقية هو التسخير، فالمسخر هو أقل درجة من المسخر له، فالقط هو فوق الفأر والكلب فوقهما الاثنين، وهكذا، إلى أن نصل إلى مرتبة الإنسان الذي سخر الله له كل ما في الأرض:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)
اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
ومادام أن الله قد سخر لنا ما في الأرض والبحر والسموات جميعا، فإنه من الاستحالة بمكان أن يكون الله موجود بذاته في أي من هذه الأماكن، وذلك لأن الأرض جميعا قبضته والسموات مطويات بيمينه:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
وبهذا يكون الإنسان هو سيد هذا الكون الذي يجري بأمر ربه.
السؤال: لماذا؟ أو كيف يمكن أن نتصور كيف بدأ الخلق؟
في المرحلة الثانية (عندما اتخذ الله قراره بأن يكون ربا خالقا) بدأ هذا الرب العظيم خلقه بالبعوضة، فكانت هي الخلق الأول:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)
فلم يكن هذا ليجلب الحياء أن يذكره الله في كتابه الكريم كمثل (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) ليضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً).
السؤال: لماذا لا يستحي الله أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نؤمن بأن هذا الخالق الكريم قد بدأ الخلق من مرحلة يستحيل على غيره من الخالقين أن يصلوا لها ولو اجتمعوا له، فبالرغم أن هذا المخلوق الأول هو الأضعف في سلم الفوقية في الخلق، إلا أن الذين هم من دون الله لا يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه المرحلة مهما بلغت قدرتهم على الخلق، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
فكل الذين هم من دون الله على درجة من الضعف لدرجة استحالة قدرتهم على الوصول إلى أن يخلقوا خلقا كالخلق الأول الذي خلقه الله (الذباب)، فالإنسان الذي يحتل أعلى درجات الخلق قد خلق أصلا ضعيفا:
يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)
ومن هذا الجانب يأتي (نحن نرى) عدم حياء الله بأن يضرب البعوضة مثلا:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)
فإذا كنا نحن (الناس) لن نستطيع أن نخلق مثل الخلق الأول (البعوضة)، فهذا بحد ذاته دليل كاف على أن نؤمن بضعفنا مقابل القوة المطلقة المهيمنة للإله نفسه. فنحن لن نستطيع مهما حاولنا أن نصل في نهاية المطاف إلى المرحلة التي بدأ الإله فيها خلقه. وهذا يدعونا إلى أن نؤمن بالتالي:
- شدة ضعف الإنسان
- مقابل القدرة الرفيعة المطلقة للإله
ولعل هذه النقطة على بساطتها (بمنطقنا الركيك هذا) كفيلة بأن تجعل القلب المؤمن مدركا لقدر الإله. فالذين لا يستطيعون أن يتفهموا هذه الجزئية سيصعب عليهم أن يقدروا الله حق قدره:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
(دعاء: اللهم أدعوك وحدك أن أكون من المؤمنين المخلصين، فأنا أعلم أني لا استطيع أن أقدرك حق قدرك ليس فقط بسبب ضعفي وقلة حيلتي ولكن لأنك إله أجلّ وأعظم من أن أقدرك حق قدرك، إنك أنت العزيز الكريم - آمين)
دعنا إذن نحاول (بهذا المنطق المفترى من عند أنفسنا) أن نتصور ما حدث في الخلق الأول: بدأ خلق الله بالخلق الأضعف (بعوضة)، وهي الكائن الذي أخرجه الله حيا من الموت، وهذه المرحلة على هوانها على الله إلا أنها من الرفعة لدرجة استحالة الذين من دونه أن يصلوها مهما بلغوا من العلم، حتى وإن اجتمعوا لها، وذلك لضعف الطالب والمطلوب:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
مقابل القدرة الإلهية المطلقة. فهو الذي بدأ الخلق هو الذي يعيده وهو أهون عليه:
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
نتيجة مفتراة مهمة جدا: ما هو مستحيل بالنسبة لمن هم دون الله هو على الله - لا شك- هين.
فالبعوضة (كواحدة من فصيلة الذباب) هو المخلوق الأضعف، ولكن على الرغم من ضعف هذا المخلوق الذي هو الله هيّن (كما أن الإنسان نفسه هو مخلوق ضعيف أيضا حتى وإن كان هو المخلوق الذي يقبع على رأس قائمة سلم الفوقية في الخلق)، إلا أن خالقه عظيم لدرجة استحالة أن يصل أحد من الخالقين إلى هذه الدرجة، أي القدرة على خلق الذباب. فأصبح الذباب يقبع في أدنى مراتب سلم الفوقية، كما في الشكل التالي:
الإنس
|
إنسان
|
الجن
|
جآن
|
ذباب
|
بعوضة
|
ولكن لما كانت القدرة الإلهية بالخلق تزيد ولا تنقص، اتخذ الإله قراره بأن يخلق أمة أخرى، هي فوق البعوضة، فأنشأ خلقا جديدا من ذرية هذا الخلق الأول (البعوضة)، فكان الخلق الذي جاء بعد العوض أكثر تطورا من الذباب نفسه، فرفع هذا الخلق الثاني فوق الخلق الأول، فأصبح المخلوق الأول (الذباب) فريسة سهلة للمخلوق الجديد الذي رفعه الله فوقه. ولو تفقدنا سلوك الذباب لوجدنا أنها كائنات صغيرة في الحجم لكنها قادرة على الطيران، وفي الوقت ذاته يصعب تدجينها، فما اتخذت لنفسها مساكن محددة، ولو تفقدنا الكائنات الأخرى القادرة على الطيران، لوجدنا أنها أكبر حجما من الذباب، وهي قادرة على أن تتخذ لنفسها بيوتا كالنحل مثلا:
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
فالفرق بين الذباب والنحل واضح للعيان، فلا شك عندنا أن النحل مرفوع فوق الذباب درجات، وفي حين أن ضرر البعوض أكثر من نفعه، نجد أن النحل أكثر فائدة من الذباب بالرغم من قدرته على إلحاق الضر بالآخرين. فأنت قد لا تستفيد من الذباب بمقدار استفادتك من النحل، ولكن بالرغم من الفائدة التي قد تجنيها من النحل إلا أن هذا لا يمنع أن يكون النحل قادرا على أن يسبب لك الأذى.
ولو وتوسعت دائرة التفكير، وتفقدنا عالم الكائنات الطائرة كلها، لوجدنا أن الطير التي تطير بجناحيها في جو السماء لا يمكن للإنسان أن يدجنه، وإن كان نفعه للإنسان أقل من نفع النحل، ولكن ربما لا يرقى إلى درجة النحل في الفائدة. لكن يبقى هو أمة بحد ذاته:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
ولكن الطير الذي يطير بجناحية في جو السماء ليس أمة واحدة، فهي بحد ذاتها أمم كثيرة. لذا نحن نفتري الظن بأن الله قد أنشأ بعضها من ذرية بعض، فرفع بعضها فوق بعض درجات، وأتخذ بعضها بعضا سخريا. لذا نستطيع أن نرى الهيمنة واضحة لبعض فصائل الطير على بعضها الآخر. ولا تكون هذه الهيمنة لبعض فصائل الطير على بعضها الأخرى محصورة بالطير ذاته، بل نجد هيمنة واضحة لبعض فصائل الطير على كثير من الزواحف والقوارض، لذا نحن نتجرأ على افتراء الظن بأن بعض فصائل الطير هي أكثر فوقية من كثير من فصائل الزواحف. فيصبح سلم ترتيب الفوقية السابق على النحو التالي:
الإنس
|
إنسان
|
الجن
|
جآن
|
طير
|
هدهد
|
زواحف
|
حية
|
ذباب
|
بعوضة
|
كما نلاحظ أن لبعض فصائل الطيور هيمنة على بعض الكائنات البحرية كالأسماك مثلا، لذا نحن نفتري الظن بأن بعض الطير الذي يطير في جو السماء هو أكثر تطورا من تلك المخلوقات، فيصبح الجدول على النحو التالي:
الإنس
|
إنسان
|
الجن
|
جآن
|
طير
|
هدهد
|
كائنات
بحرية
|
|
زواحف
|
حية
|
ذباب
|
بعوضة
|
ولو تفقدنا الآية الكريمة التالية، لوجدنا أن خلق الدواب قد جاء أصلا من الماء:
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
ولو تفقدنا سلوك بعض الكائنات البحرية، لوجدنا أنها قادرة على العيش في البرية (الأرض) وفي الماء في ذات الوقت، فتصبح هذه المخلوقات التي نطلق عليها مصطلح البرمائية هي الأمم التي تشترك مع الطرفين، أي ما يعيش على اليابسة وما يعيش في الماء في آن واحد. لذا نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن هذه المخلوقات البرمائية هي أقل تطورا من الطيور.
ولعلنا لا نختلف بأن الكائنات البحرية نفسها هي أمم، فكان بعضها مسخرا لبعض، فالحيتان هي سيدة البحر بلا منازع، لذا فإن خلقها، نحن نفتري قد خضع لمنطق النشوء ذاته، فقد خلق الله بعضها من بعض، فاتخذ بعضها بعضا سخريا.
ولو دققنا في الآية السابقة مليا لوجدنا أن الاختلاف بينها يكمن في المشي، ففي حين أن بعضها يمشي على بطنه نجد أن بعضها الآخر ويمسي على رجلين بينما يمشي البعض الثالث على أربع:
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
وبالرغم أن لبعض أنواع الطير التي تطير بجناحيها هيمنة على البعوض والزواحف إلا أن لها هيمنة أيضا على كثير من الدواب التي تعيش على الأرض، فكثير من الطير تستطيع اصطياد بعض الزاحف وبعض المخلوقات البحرية الصغيرة في الحجم والضعيفة في القوة، فيصبح الجدول على النحو التالي، حيث نرتفع بالطير إلى مرتبة أعلى:
الإنس
|
إنسان
|
الجن
|
جآن
|
طير
|
هدهد
|
دواب
|
|
كائنات
بحرية
|
|
زواحف
|
حية
|
ذباب
|
بعوضة
|
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
ولو تفقدنا سلوك الذباب (الأقل درجة على سلم ترتيب الفوقية) لوجدنا أنه قد يحدث ضررا، لكن ليس له هيمنة على المخلوقات الأخرى، فليس هناك كائنات مسخرة له، ولكنه لا شك فريسة سهلة (أي مسخرا) لما فوقه كالزواحف مثلا، التي هي مسخرة بدورها لما هو فوقها، فتأتي بعض الدواب كالقطط والكلاب وبعض الطيور لتقتات عليها، وهنا يبدأ دور الطير الذي يقتات على بعض الزواحف والدواب، وما أن نصل إلى مرحلة الطير حتى يبدأ منطق التسخير يتلاشى شيئا فشيئا:
أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
السؤال: لماذا لا نجد هيمنة الطير مطلقة على كل الزواحف أو كل الدواب أو كل الكائنات البحرية؟
جواب مفترى: لأن هذه الكائنات ليست أمة واحدة وإنما هي أمم. ولو كانت كلها أمة واحدة لانتهى شأنها مرة واحدة. وسنتحدث عن هذه الجزئية بالتفصيل لاحقا بإذن الله عندما نصل إلى الغاية من هذا الخلق. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، إنه هو الواسع العليم – آمين.
وعندما نصل إلى مرحلة الجن، نجد أن من الاستحالة أن يسخر الجن لما هو دونه من الأمم، لكن يمكن أن يسخر فقط لمن هم فوقه على سلم الفوقية، وهم الإنس، كما حصل مع سليمان مثلا:
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37)
نتائج مفتراة خطير جدا
- كل الأمم تقبع فوق بعضها البعض
- داخل كل أمة هناك أيضا فوقية واضحة، فبعضها يسيطر على البعض الآخر
- الأمة الأعلى هي مهيمنة على الأمم الأدنى منها
- تستطيع الأمة الأدنى أن تلحق الضرر بالأمة الأعلى لكن هذا لا يمنع أن تكون هي بكليتها مسخرة لما هو فوقها
- الخ.
تساؤلات
- لماذا جاء خلق الله بهذا التنوع الهائل؟
- لماذا جاء خلق الله بهذا الترتيب؟
- لماذا جعل الله خلقه خلقا من بعد خلق؟
- لماذا رفع الله بعض خلقه فوق بعضه الآخر؟
- لم لم يأتي كل خلقه جملة واحدة؟
- هل كان الإله يلهو أو يلعب؟
- الخ
تحذير شديد اللهجة: نحن ندعو القارئ الكريم الذي يريد المحافظة على إرثه الديني أن لا يحاول فتح الملف في الجزء القادم، لأننا سنحاول تسطير افتراءات غاية في الخطورة، ربما يصعب على قلب الكثيرين تقبلها، خاصة أولئك الذين لا يتابعون كتاباتنا منذ بدايتها، وربما لا يعلمون الكثير عن منهجية تفكيرنا، فنحن ندعو فقط العقول القابلة للتدبر أن تدخل إلى الجزء القادم بعقلية الباحث عن المعلومة، والأهم من ذلك نحن ندعو فقط من يقرأ هذه السطور ويظن بأنها نتاج فكر بشري قابل للخطأ، يمكن تهذيبه، بجلب الدليل الذي يثبت صحته أو خطأه، فهي قبل كل شيء أفهام بشرية لا ترقي إلى قدسية النص الذي بني عليه. فإياك عزيز القارئ أن تضفي على كلامنا (وإن اقتنعا ببعضه) قدسية كقدسية النص الإلهي، ومن يفعل ذلك فنحن خصمه أمام الله، وهو وحده المسئول عن فهمه، فليس في كلامنا قدسية، ولكن فيه محاولة بشرية (قاصرة) لفهم ما يدور حولنا في هذا الكون الرهيب الذي خلقه إله واحد، فأتقن صنعه:
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
هذا ما سنحاول الخوض فيه في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيق منه، سائلين الله وحده أن ينفذ مشيئته وإرادته لنا الإحاطة بشي من علمه لا ينبغي لغيرنا، إنه هو العليم الحكيم، وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا. وأدعوه وحده أن يؤتيني رشدي، وأعوذ به أن يكون أمري كأمر فرعون، فالله وحده أدعو أن أكون ممن أتوه بقلب سليم، فهداهم الصراط المستقيم، إنه هو العليم الخبير – آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
28 آب 2016