قصة يونس - الجزء السادس والثلاثون
قصة يونس – الجزء السادس والثلاثون
السؤال: لماذا كانت نهاية فرعون في البحر؟
نحاول في هذا الجزء الجديد من المقالة العودة إلى القصة الأكثر سيطرة على النص القرآني، وهي قصة فرعون، طارحين مجموعة من التساؤلات التي نظن أن الفكر الإسلامي الدارج لم يلق إليها الانتباه المطلوب، ربما لأنهم ظنوا أنها تقع في باب البديهيات التي قد لا تحتاج إلى إثارة النقاش حولها، نذكر منها:
- لماذا كانت نهاية فرعون في البحر؟
- لماذا لم يُصب فرعون بالسوء والأذى (كالمرض مثلا)؟
- لماذا بعث الله إلى فرعون أكثر من رسول؟
- لماذا تجرأ فرعون على الله؟
- لماذا لم يعمد فرعون إلى قتل موسى وهارون مباشرة؟
- لماذا لم يعمد فرعون إلى سجن موسى وهارون وهم اللذين كانا (حسب زعم قومه) يفسدون في الأرض؟
- لماذا جاء طلب فرعون من قومه على نحو أن يذروه يقتل موسى؟ فهل كان هناك من يمنعه عن فعل ذلك؟
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
- ألم يحرضه الملأ منذ البداية على أن لا يذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض؟
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
- لماذا خاف فرعون أن يبدل موسى لهم دينهم؟ وما هو دينهم أصلا؟ أليس هو ربهم الأعلى؟
- ما قصة آلهة فرعون التي تحدث عنها ملأ فرعون؟
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
- أليس هو إلههم الأوحد كما صرح لهم بذلك فرعون نفسه؟
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
- فكيف يستقيم المعنى أن يكون لفرعون آلهة وهو نفسه من كان إلههم الأوحد؟
- الخ.
حاولنا في نهاية المقالة السابقة تقديم افتراء خطير جدا (هو لا شك من عند أنفسنا) زعمنا أنه سيكون محرك البحث في هذا الجزء الجديد من المقالة مفاده أن فرعون كان يستطيع أن يدرأ عن نفسه القتل وإن كان لا يستطيع أن يدرأ الموت عنها، مصداقا لقوله تعالى:
الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168)
فلو تدبرنا هذه الآية الكريمة جيدا، لوجدنا أن فيها ما قد يفتن كل ذي لب، باحث عن الحقيقة بين مفردات النص الإلهي المقدس؛ فالتناوب في اللفظ بين مفردتي القتل والموت يدعو إلى التوقف مليّا لتدبر المعاني المستفادة من ذلك. فبالرغم أن حديثهم قد جاء عن درء القتل عن أنفسهم بالقعود وعدم الخروج إلى القتال (الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)، جاء الرد الإلهي متحديا لهم بأن يدرؤوا عن أنفسهم الموت (قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، ولم يأت على نحو أن يدرؤوا عن أنفسهم القتل، فلم لم يأت النص القرآني على نحو:
قل فادرؤوا عن أنفسكم القتل إن كنتم صادقين؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الإنسان (أي إنسان) لا يستطيع أن يدرأ عن نفسه الموت بدليل قوله تعالى:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
لكنه يستطيع (نحن نفتري الظن) أن يدرأ عن نفسه القتل، لأن القتل يحصل (كما افترينا القول سابقا) بالأجل الأول وليس بالأجل المسمى عند الله:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
السؤال: كيف يستطيع الإنسان أن يدرأ عن نفسه القتل؟
جواب: نحن نظن أن الإنسان يستطيع أن يدرأ القتل عن نفسه بأن لا يعرض نفسه لمواطن القتل، فالذي يقعد ولا يخرج للقتال، لن يقتل في ساحة المعركة، والذي لا يركب السيارة ولا يعرض نفسه لها، لا يقتل بحادث طريق، والذي لا يتناول السم، لا يقتل به، وهكذا.
السؤال: لماذا؟
جواب: لأن القتل يقع لسبب غير الموت.
السؤال: وما هي الأسباب التي تؤدي بالإنسان إلى القتل؟
جواب مفترى: نحن نظن أن القتل يقع بسب وجود قاتل.
السؤال: من هو القاتل؟
جواب: نحن نظن أن القاتل يمكن أن يكون أي شيء ما عدا الله نفسه، لأن الله لا يقتل أحدا، وذلك لأن الله حرّم قتل النفس بغير الحق:
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
ولتوضيح الفكرة التي نحاول تبيانها هنا، دعنا نقدم المثال التالي الذي جاء في هذه الآية الكريمة نفسها، فهذه الآية الكريمة تبين لنا بأن القاتل يمكن أن يكون الوالد نفسه عندما يعمد إلى قتل ولده من إملاق، قال تعالى:
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
وجاء التبيان حول هذه الجزئية على وجه التحديد في الآية الكريمة التالية أيضا:
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31)
السؤال: كيف يمكن أن يقتل الوالد ولده؟ هل فعلا يحصل أن يقتل والد ولده؟ ومتى يمكن أن يعمد والد إلى قتل ولده؟ ولماذا يقع هذا الفعل في باب القتل؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الوالد يمكن أن يعمد إلى قتل ولده لسبب واحد، وهو الإملاق أو الخشية منه.
خروج عن النص في استراحة قصيرة: ما هو الإملاق
دعنا نخرج في هذه الاستراحة القصيرة لنحاول تقديم رأينا بمعنى الإملاق الذي جاء في هذه الآية الكريمة، مفترين القول بأن ما وصلنا من عند سادتنا أهل الدراية قد لا يكون اجتهادا حقيقيا يرقى إلى مستوى النص القرآني. فإليك عزيزي القارئ بداية ما جاء في تفسير الطبري حول هذه الآية الكريمة:
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم
القول في تأويل قوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } . يقول تعالى ذكره : { وقضى ربك } يا محمد { ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } , { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } فموضع تقتلوا نصب عطفا على ألا تعبدوا . ويعني بقوله : { خشية إملاق } خوف إقتار وفقر . وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى وذكرنا الرواية فيه . إنما قال جل ثناؤه ذلك للعرب , لأنهم كانوا يقتلون الإناث من أولادهم خوف العيلة على أنفسهم بالإنفاق عليهن , كما : 16812 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا زيد , عن قتادة , قوله { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } : أي خشية الفاقة , وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفاقة , فوعظهم الله في ذلك , وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم على الله , فقال : { نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا } . * - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة { خشية إملاق } قال : كانوا يقتلون البنات . 16813 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال مجاهد { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } قال : الفاقة والفقر . 16814 - حدثني علي , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله { خشية إملاق } يقول : الفقر .
إن قتلهم كان خطئا كبيرا
وأما قوله : { إن قتلهم كان خطئا كبيرا } فإن القراء اختلفت في قراءته ; فقرأته عامة قراء أهل المدينة والعراق { إن قتلهم كان خطئا كبيرا } بكسر الخاء من الخطإ وسكون الطاء . وإذا قرئ ذلك كذلك , كان له وجهان من التأويل : أحدهما أن يكون اسما من قول القائل : خطئت فأنا أخطأ , بمعنى : أذنبت وأثمت . ويحكى عن العرب : خطئت : إذا أذنبت عمدا , وأخطأت : إذا وقع منك الذنب خطأ على غير عمد منك له . والثاني . أن يكون بمعنى خطأ بفتح الخاء والطاء , ثم كسرت الخاء وسكنت الطاء , كما قيل : قتب وقتب وحذر وحذر , ونجس ونجس . والخطء بالكسر اسم , والخطأ بفتح الخاء والطاء مصدر من قولهم : خطئ الرجل ; وقد يكون اسما من قولهم : أخطأ . فأما المصدر منه فالإخطاء . وقد قيل : خطئ , بمعنى أخطأ , كما قال : الشاعر : يا لهف هند إذ خطئن كاهلا بمعنى : أخطأن . وقرأ ذلك بعض قراء أهل المدينة : " إن قتلهم كان خطأ " بفتح الخاء والطاء مقصورا على توجيهه إلى أنه اسم من قولهم : أخطأ فلان خطأ . وقرأه بعض قراء أهل مكة : " إن قتلهم كان خطاء " بفتح الخاء والطاء , ومد الخطاء بنحو معنى من قرأه خطأ بفتح الخاء والطاء , غير أنه يخالفه في مد الحرف . وكان عامة أهل العلم بكلام العرب من أهل الكوفة وبعض البصريين منهم يرون أن الخطء والخطأ بمعنى واحد , إلا أن بعضهم زعم أن الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء في القراءة أكثر , وأن الخطأ بفتح الخاء والطاء في كلام الناس أفشى , وأنه لم يسمع الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء , في شيء من كلامهم وأشعارهم , إلا في بيت أنشده لبعض الشعراء : الخطء فاحشة والبر نافلة كعجوة غرست في الأرض تؤتبر وقد ذكرت الفرق بين الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء وفتحهما . وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب , القراءة التي عليها قراء أهل العراق , وعامة أهل الحجاز , لإجماع الحجة من القراء عليها , وشذوذ ما عداها . وإن معنى ذلك كان إثما وخطيئة , لا خطأ من الفعل , لأنهم إنما كانوا يقتلونهم عمدا لا خطأ , وعلى عمدهم ذلك عاتبهم ربهم , وتقدم إليهم بالنهي عنه . وبنحو الذي قلنا في ذلك , قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 16815 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قالا : ثنا ورقاء , جميعا عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد { خطئا كبيرا } قال : أي خطيئة . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد { إن قتلهم كان خطئا كبيرا } قال : خطيئة . قال ابن جريج , وقال ابن عباس : خطئا : أي خطيئة
أولا، لو تدبرنا ما جاء في هذا التفسير العظيم لوجدنا في العجب العجاب. فغالبية المفسرون ظنوا أن هذه عادة خاصة بأمة العرب، ويكأن لسان حالهم يقول أن هذا القرآن فعلا جاء خاصا لأمة العرب، وقد لا تنطبق بعض آياته (كهذه الآية) على الأمم الأخرى.
ثانيا، جاء في قولهم بأن هذا خاص بقتل الإناث، ويكأن لسان حالهم يقول أن الوالد يقتل فقط الإناث من المواليد، ولا يمكن أن يقتل الوالد الذكور من المواليد. بالرغم أن النص الإلهي جاء بلفظ الأولا:
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ...
ولو تدبرنا الىية الكريمة التالية لوجدنا أن مفردة الأولاد تشمل الذكور والإناث معا:
يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ...
لذا، يستحيل (نحن نرى) أن يكون قتل الاولاد خاصا بعادة الأعراب على وأد البنات كما زعم أهل الدراية من قبلنا.
ثالثا، أجمع غالبيتهم أن السبب وراء هذا القتل هو خوف الفاقة والفقر. ويكأن لسان حالهم يقول أن هذا فعل لا يقوم به إلا المعوزين من الناس
رابعا، ذهب جل جهد أهل العلم على كيفية قراءة بعض المفردات، فأنفقوا جهدهم في النصب والجر والرفع والمد، حتى أصبح القارئ (كالعادة) يظن أن كتاب الله ليس إلا كتاب نحو وصرف، لا يشتغل به إلا من أتقن فنون اللغة.
السؤال: على الرغم من هذا كله، هل فعلا نجد (نحن نتساءل) إجابة شافية على السؤال الذي قد يخطر في بال كل من يقرأ هاتين الآيتين الكريمتين؟
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31)
السؤال (1): كيف يمكن أن يقتل الوالد ولده من إملاق (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ)؟ وكيف يمكن أن يقتل الوالد ولده خشية إملاق (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)؟ وما الفرق بين أن يقتل الوالد ولده من إملاق أو أن يقتله خشية إملاق؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: عندما يعمد الوالد إلى قتل ولده خشية إملاق، فإن الإملاق (نحن نفتري القول) غير حاصل بعد على أرض الواقع، فذاك لا زال يقع في باب الخشية منه، أما عندما يقتل الوالد ولده من إملاق، فإن ذلك يعني أن الإملاق قد حصل فعلا على أرض الواقع.
السؤال (2): هل يمكن للوالد أن يقتل ولده؟ ولماذا يمكن للوالد أن يقتل ولده بسبب وقوع الإملاق أو حتى الخشية من وقوع الإملاق؟ فما هو الإملاق أصلا الذي يمكن أن يدفع بالوالد أن يقتل ولده بسببه سواء خشية منه أو لوقوعه فعلا؟
رأينا المفترى: لو تفقدنا النص القرآني على مساحته، لوجدنا أن الوالد لا يمكن أن يعمد إلى قتل ولده إلا في هذه الحالة، وهي الإملاق، سواء كان واقعا أو متوقعا. ليكون السؤال هو: ما هو الإملاق الذي قد يدفع بالوالد أن يقتل ولده بسببه؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لو تفكرنا بالأمر على أرض الواقع، لما وجدنا أن الوالد يمكن أن تسوّل له قتل ولده إلا لأمر جلل، فالإملاق أمر كبير جدا يمكن أن يدفع بالوالد أن يقتل بسببه ولده، أليس كذلك؟
السؤال: متى يمكن أن يحصل ذلك على أرض الواقع؟
رأينا المفترى: لو تدبرنا الآية الكريمة التي تتحدث عن قتل الوالد ولده خشية إملاق، لوجدناها قد انتهت بتصوير هذا الفعل على أنه خطء كبير:
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31)
لكن – بالمقابل- لو تدبرنا الآية التي تتحدث عن قتل الوالد ولده من إملاق لوجدناها تتحدث عن الرزق ولا تصور الفعل نفسه على أنه خطء كبير:
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
لتكون الافتراءات التي نقدمها من عند أنفسنا عن هذا الأمر على النحو التالي:
- قتل الوالد ولده خشية إملاق هو خطء كبير
- قتل الوالد ولده من إملاق ليس خطءا كبيرا
- قتل الوالد ولده من إملاق مرتبط بالرزق
- الخ.
السؤال: كيف يمكن لنا أن نفهم الإملاق إذن؟
رأينا المفترى: لو كان الأمر يعني الخشية من عدم توافر الرزق (أي الفقر)، لربما كان الأولى بالوالد أن يقتل نفسه أيضا من ذلك الإملاق؟ فلم لا يقتل الإنسان نفسه بينما يقتل ولده من الإملاق؟ ولو كان الأمر يرتبط بالفقر، لربما قتل الوالد جميع ولده؟ فلم يقتل بعضهم وقد يترك بعضهم؟ ولو كان الأمر مرتبطا بالفقر، فلم يعمد الوالد إلى طلب الذرية أصلا؟ ألم يكن الأولى به أن لا يتزوج (حتى لا تتحصل له الذرية فيقتلها) مادام أنه يخشى الإملاق؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الإملاق أمر خاص بالولد ولا علاقة للوالد به. انتهى.
السؤال: إذا كان الإملاق خاصا بالولد، ولا يخص الوالد، فما هو؟ يسأل صاحبنا ربما متعجلا الإجابة.
رأينا: لو تفقدنا الآية السابقة التي تبين الإملاق فعلا واقعا مرة أخرى
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
لوجدنا فيها (نحن نفتري القول) ما يدعو إلى الحيرة. فهذه الآية الكريمة تطلب بصريح اللفظ أن لا نقتل أولادنا من إملاق (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ)، وفي الوقت ذاته تبين الآية نفسها بصريح اللفظ حرمة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)، ليكون السؤال: لم هذا التكرار؟ أليس قتل الوالد ولده من إملاق هو قتل نفس؟ ألا يقع قتل الولد من إملاق في باب قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: كلا وألف كلا. فنحن نفتري الظن بأن قتل الولد من إملاق لا يقع في باب قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وإلا لأصبح ذلك تكرارا لا فائدة منه.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى الخطير جدا جدا: نحن نظن بأن الولد الذي يعاني من الإملاق لا نفس له، وهذا هو السبب الذي نظن أنه قد يدفع بالوالد إلى قتل ولده. انتهى.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا المفترى: عندما يتحصل للوالد ذرية لا نفس لها، ربما تسوّل له نفسه قتل هذا المولود لظنه بأنه سيكون عبء عليه وعلى من هم حول المولود الذي يعاني من الإملاق.
السؤال: من هو هذا الولد الذي يعاني من الإملاق (فلا نفس له)؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: إنه الولد الذي يعاني من الإعاقة التي تمنعه من كسب رزقه بنفسه. فالوالد (عربيا كان أم أعجميا) الذي تتحصل له ذرية (ذكورا كانت أم إناثا) تعاني من إعاقة كبيرة جدا، قد تسول له نفسه قتله ربما رأفة من هذا الأب بهذا المولود، وخوفا على مستقبل هذا الولد الذي يعاني من الإملاق، لأنه بكل بساطة لن يكون قادرا على جلب رزقه بنفسه (في حالة وجود الأب أو وفي حالة وفاته من بعده)، وفي الوقت ذاته سيكون عبئا ثقيلا على من هم حوله.
السؤال: لماذا قد يقع ذلك الفعل خشية الإملاق (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)؟ ولماذا يمكن أن يقع ذلك من إملاق (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ)؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: أحيانا يتحصل لبعض الآباء بعض الذرية، فيبين لهم منذ ولادة هذا المولود (وربما قبل ذلك بوسائل التكنولوجيا الحديثة) أن هذا المولود قد يعاني من إعاقة كبيرة جدا (كالطفل الذي يعاني من متلازمة داون أو المنغوليين بلغتنا الدارجة) ستمنعه من جلب رزقه بنفسه، فيصبح عبئا على من هم حوله. فتأخذ الوالد رأفة بهذا المولود، لدرجة أنه قد يظن بأن الموت خير له من الحياة، ومع تفاقم هذا الشعور لديه، ربما تسوّل له نفسه التخلص منه حتى لا يعاني هذا المولود من تكبد مشاق الحياة، وحتى لا يشكل عبئا زائدا على من هم حوله. فيقع قتله في هذه اللحظة له في باب الخشية من الإملاق.
ولكن قد لا يكون هذا الأمر جليا للوالد منذ اللحظة الأولى لوالدته (كالطفل الذي تعرض لنقص الأكسجين عند الولادة مثلا)، وقد يبين الأمر لاحقا، فيصبح الإملاق أمرا حاصلا لا مفر منه، وفي هذه الحالة يقع قتل هذا الولد في باب القتل من الإملاق.
الدليل
لما كان هذا المولود (نحن نفتري الظن) لا نفس له، لا يندرج قتله (نحن نفتري القول) في باب قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، بدليل الفصل الواضح بين الحالتين في الآية الكريمة نفسها، وانظر – إن شئت- في قوله تعالى مرة أخرى:
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
فهذا الوالد الذي يعاني من الإملاق هو شخص فاقد للتكليف مادام أن التكليف يقع أصلا على النفس:
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ۗ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۗ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ ۚ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ۗ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
ولو دققنا مرة أخرى في الآيتين الكريمتين الخاصتين بالإملاق، لوجدنا أن قتل الوالد ولده خشية الإملاق على وجه التحديد كان خطءا كبيرا:
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31)
فقتل الوالد لولده لمجرد خشية الإملاق هو خطء كبير، لأن على الوالد (نحن نفتري الظن) أن يتريث في الأمر، فلا يتعجل بالخلاص من هذا المولود بالقتل لمجرد حصول الخشية عنده من الإملاق، فربما يبين لاحقا أنه مخطء في ظنه. وقد يقع الأمر في باب الخطأ في التقدير، فالإقدام على فعل كهذا لمجرد الخشية هو لا شك خطء كبير. أما إذا ما أصبح الأمر واقعا لا مفر منه، فإن قتل الوالد لولده الذي يعاني من الإملاق لا يكون خطءا كبيرا. وعندها يصبح الخوف من عدم توافر الرزق هو المحرك الرئيسي لإقدام الوالد على قتل ولده الذي يعاني من الإملاق. فجاءت الضمانة الإلهية جليّة لا لبس فيها بأن الله هو من تكفل برزق هذا الولد الذي يعاني من الإملاق، لا بل وسيكون سببا في رزق أهله أيضا.
ولو تدبرنا أحوال هؤلاء المواليد الفاقدين للأهلية على أرض الواقع (أو ما نسميهم بالمعاقين)، لوجدنا أن رزقهم كثير، يجلب لهم من كل مكان، فالجميع يعطف عليهم ويقدم لهم المساعدة، وغالبا ما تكون هذه المساعدة المقدمة لهم زائدة عن حاجتهم، فيكون فيها رزقا لذويهم معهم، مصداقا لقوله تعالى (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ):
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
والله أعلم.
عودة على بدء
لقد حاولنا جلب هذا النقاش هنا من أجل تعزيز فكرة واحدة وهي أن القتل يمكن درءه، فبالتوعية الصحيحة المبنية على فهم حقيقي لآيات الكتاب الحكيم يمكن أن نقلل من حوادث قتل الوالد لأولاده خشية إملاق أو من إملاق، وبالعلم النافع يمكن أن تقلل حوادث القتل التي تحصل في الحروب وعلى الطرقات وفي النزاعات البشرية الفردية والجماعية منها، وبالتالي نستطيع درء القتل عن أنفسنا وإن كنا لا نستطيع أن ندرأ الموت عنها.
السؤال: ما علاقة هذا كله بالحديث عن فرعون؟
جواب مفترى خطير جدا: نحن نفتري القول بأن فرعون كان قادرا أن يدرأ القتل عن نفسه. انتهى.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا: لو تدبرنا قصة فرعون من أولها، لوجدنا أن الرجل لم يكن ليصبيه سوء، فلا نجد أن الرجل قد مرض، ولا نجد أن الرجل قد أصابه مكروه، بل على العكس نجد أن الرجل كان يتحصل له كل ما يريد. ونحن نرى وجاهة هذا الافتراء عندما نقرأ الآيات الكريمة التالية التي نظن أنها جاءت خاصة بفرعون نفسه:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
فقد تحدثنا في الأجزاء السابقة أن الذي كان لآيات الله عنيدا هو فرعون بشخصه بدليل أن الله هو من أراه آياته كلها:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
وبدليل أن الله هو من آتاه آياته كلها:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
نتيجة مفتراة (1): رأى فرعون آيات الله كلها
نتيجة مفتراة (2): أوتي فرعون آيات الله
(للتفصيل انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة)
وبالرغم من ذلك، فقد كان لآيات الله عنيدا (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا).
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى (1): نحن نظن أن فرعون كان يملك مكتسبات عظيمة جدا، ربما لم تتحصل لغيره على الإطلاق
جواب مفترى (2): نحن نظن أن فرعون كان يملك المقومات التي تجعله قادرا على المحافظة على تلك المكتسبات التي تحصلت له، فلا يصيب الرجل سوء ولا نصب ولا عذاب.
السؤال الأول: ما هي تلك المكتسبات؟
جواب مفترى: نحن نظن أن المكتسبات التي تجمعت عند فرعون في آن واحد هي:
- أنه خلق وحيدا
- كان عنده مال ممدود
- وبنين شهود
- مهد الله له تمهيدا
- الخ
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
دعنا نحاول فهم المعاني الحقيقية لهذه المفردات قبل الانتقال إلى السؤال الكبير وهو: كيف استطاع فرعون أن يحافظ عليها فلا يمسه السوء أو الأذى أو النصب أو العذاب؟
باب: فرعون خلق وحيدا (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11))
لو تدبرنا هذه الآية الكريمة جيدا، ربما نتفق أنها تتحدث عن شخص محدد بذاته، ونحن نفتري القول من عند أنفسنا بأن هذا الشخص المقصود بالخطاب هو فرعون، وليعذرنا سادتنا العلماء أهل الدراية وأهل الرواية في مخالفتهم الرأي، كما ندعو المتمسكين بإرث الآباء العودة إلى مؤلفاتهم لينهلوا من عظيم العلم فيها، وحتى لا نكلفهم الجهد الزائد، فهذا مثلا ما جاء في الطبري عن تفسير هذه الآية الكريمة:
ذرني ومن خلقت وحيدا
وقوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كل يا محمد أمر الذي خلقته في بطن أمه وحيدا , لا شيء له من مال ولا ولد إلي . وذكر أنه عني بذلك : الوليد بن المغيرة المخزومي . ذكر من قال ذلك : 27415 - حدثنا سفيان , قال : ثنا وكيع , قال : ثنا يونس بن بكير , عن محمد بن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد مولى زيد , عن سعيد بن جبير أو عكرمة , عن ابن عباس , قال : أنزل الله في الوليد بن المغيرة قوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } وقوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين } . .. 15 92 إلى آخرها . 27416 -حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , جميعا عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد { ذرني ومن خلقت وحيدا } قال : خلقته وحده ليس معه مال ولا ولد . 27417 -حدثني أبو كريب , قال : ثنا وكيع , عن محمد بن شريك , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد { ذرني ومن خلقت وحيدا } قال : نزلت في الوليد بن المغيرة , وكذلك الخلق كلهم . 27418 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } وهو الوليد بن المغيرة , أخرجه الله من بطن أمه وحيدا لا مال له ولا ولد , فرزقه الله المال والولد , والثروة والنماء . 27419 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } . .. إلى قوله : { إن هذا إلا سحر مبين } . .. حتى بلغ { سأصليه سقر } قال : هذه الآية أنزلت في الوليد بن المغيرة . 27420 - حدثنا عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } يعني الوليد بن المغيرة
وهو ما نرفضه جملة وتفصيلا، وليتركونا نخوض في تخريصات هي لا شك من عند أنفسنا. فنحن نفتري القول بأن الشخصية التي تتحدث عنها هذه الآية الكريمة (كما نفهمها) هو فرعون (وليس الوليد بن المغيرة). ليكون السؤال الآن هو: ما معنى أن فرعون قد خلقه الله وحيدا؟
رأينا المفترى: بعيدا عن الفكر الشعبي الدارج الذي عوّدنا على فهم المفردات كما يحلو له، فإننا نطلب من القارئ الكريم أن يتدبر معنا السؤال التالي: لماذا تحدث الله عن فرعون أنه وحيد؟ هل لأن فرعون كان مثلا وحيد أهله (أي لم يكن له إخوة مثلا)؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا.
السؤال: لماذا إذن؟ يسأل صاحبنا مستغربا.
جواب مفترى: لأن فرعون مخلوق بدليل قوله تعالى (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا).
السؤال: وماذا لو لم يكن فرعون مخلوقا؟ ماذا يمكن أن نطلق عليه إذن؟
جواب: لو لم يكن فرعون مخلوقا خلقا، لأصبح أحد (وليس وحيد)، قال تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
فنحن لا نقول عن الله بأنه وحيد، ولكننا نقول عنه أنه أحد، وذلك لأن الله لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وهذه الصفات لا يمكن أن تنطبق إلا على الله الواحد الأحد. أليس كذلك؟
السؤال: من هو الأحد؟
رأينا: الأحد هو الذي ليس كمثله شيء.
نتيجة مفتراة: الله هو أحد
نتيجة مفتراة: فرعون هو وحيد
السؤال: من هو الوحيد إذن؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن الوحيد هو من كان له مثيل، ولكنه يمتاز عن من هم مثله بأنه هو الأفضل من بينهم جميعا.
مثال: عندما تعمد شركة إلى صناعة سيارة معينة، فإنها تنتج الكثير منها، لكن ربما تعمد في الوقت ذاته أن تصنع من بين جميع هذه السيارات ذات الماركة التجارية نفسها (كمرسيدس مثلا) سيارة واحدة تمتاز عن بقية المنتجات كلها، ألا تكون هذه السيارة على وجه التخصيص وحيدة (أي unique أو special بالمفردات الدارجة). فكم من مشايخ الأعراب (nouveau riche) يطلب من شركات السيارات والطائرات أن ينتجوا له سيارة أو طائرة خاصة فريدة لا يمتلكها غيره؟! فماذا نسمي هذه السيارة الفريدة التي تمتاز عن جميع مثيلاتها التي تحمل الماركة التجارية نفسها؟
رأينا: نحن نظن أن هذه سيارة وحيدة
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (1): الوحيد هو الذي له مثيل لكنه يمتاز عن مثيله، فيصبح بذلك هو أفضل الموجود (أي optimal باللسان الأعجمي)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (2): الأحد هو الذي لا مثيل له، فليس له كفوا أحد، لذا فهو الكامل الذي لا يعتريه النقص (أي perfect باللسان الأعجمي)
لذا، لمّا كان فرعون هو الشخص الوحيد الذي تميّز عن جميع من هم مثله، فقد أصبح بذلك شخصا مميزا بذاته، ولما كان فرعون له مثيل، فإن مثيله هو كل إنسان (من مثلي ومثلك)، لكن ما يميز فرعون عنا جميعا أنه يتمتع بصفات إنسانية لا يدانيه فيها شخص آخر على مر التاريخ. انتهى.
السؤال: وأين الدليل على أن فرعون حاز على أعلى الصفات الإنسانية حتى جعلته مميزا على الناس أجمعين؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن ما جاء في الآيات الكريمة التالية تصور لنا ماهية فرعون (الوحيد)، أي كإنسان مميز على الناس أجمعين (بمن فيهم الأنبياء والرسل)، قال تعالى:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
نعم، لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، فكان فرعون (كإنسان) هو الذي حاز على أعلى مراتب الحسن في التقويم، فما مر على الإنسانية (نحن نفتري الظن) شخص أحسن تقويم من فرعون. (جمل رائعة للباحثين عن القصاصات لنشر الإشاعات، أليس كذلك؟)
ولو تدبرنا مفردة التقويم، لوجدناها مشتقة (نحن نظن) من القيام، فهي – برأينا- تخص البناء الجسدي للشيء بمن فيهم الإنسان، فهذا زكريا قائم يصلي في المحراب بجسمه:
فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)
وها هم أصحاب محمد يتركوه قائما جسميا من أجل تجارة انفضوا إليها:
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الآية الكريمة (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) تخص فرعون على وجه التحديد، فهو – برأينا- الذي جاء خلقه في أحسن تقويم، ولكن الله رده (بما كسبت يداه) أسفل سافلين (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ).
السؤال: لماذا تظن بأن هذه الآية الكريمة تتحدث عن فرعون أصلا؟ يسأل صاحبنا مستغربا.
جواب مفترى: عندما تحدثنا في الأجزاء السابقة عن سورة التين افترينا الظن من عند أنفسنا بأن آياتها السابقة (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)) تتحدث عن أجزاء الأرض التي جاءتها الرسالة الإلهية الخالدة، وهي رسالات أولى العزم من الرسل، وهم محمد وعيسى وموسى وإبراهيم ونوح، وقد جاءت افتراءاتنا حينئذ على النحو التالي:
- البلد الأمين هي موطن رسالة محمد
- طور سنين هي موطن رسالة موسى (التي جاءت رسالة عيسى مصدّقة لها)، لذا فهي موطن رسالة موسى وعيسى معا
- الزيتون هي موطن رسالة إبراهيم
- التين هي موطن رسالة نوح
وبذلك تكون الرسالة الإلهية (رسالة الإسلام طبعا) قد غطت كل أصقاع المعمورة، باستثناء منطقة جغرافية واحدة، وهي أرض مصر.
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا، لمّا كانت سنّة الله قد قضت بأن يبعث رسله تترا، متبعا بعضهم بعضا:
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (44)
بدأت الرسالة السماوية من أقصى الشرق، من أرض التين، فكانت رسالة نوح هي الرسالة الأولى على الأرض:
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا (17)
فكان القرن الأول هو قرن نوح، فكانت رسالته (نحن نفتري القول) في أرض الشرق الأدنى، أي في الأرض المجاورة للجبال العالية (الهملايا). (انظر مقالتنا تحت عنوان سفينة نوح ونظرية تكون القارات). فغطت رسالته تلك المنطقة، وكان نوح (أو بوذا) هو رسول تلك الأمة:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
ثم انتقلت الرسالة غربا، فكانت أرض إبراهيم (الزيتون)، وهي المنطقة الفاصلة بين الشرق والغرب (أو ما يسمى بالشرق الأوسط)، فغطت رسالة إبراهيم تلك المنطقة، وكان إبراهيم هو نذير تلك الأمة:
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
ثم انتقلت الرسالة غربا إلى الأرض المقدسة، فكانت رسالة موسى موجهة إلى بني إسرائيل:
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
وجاءت رسالة عيسى موجهة إلى بني إسرائيل أنفسهم:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6)
ثم، انتقلت الرسالة إلى البلد الأمين، فجاءت رسالة محمد لتغطي هذه المنطقة الجغرافية، وليكون محمد هو نذير هذه الأمة:
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
مفارقة غريبة جدا: إن هذا الفهم المفترى من عند أنفسنا يثير تساؤلا واحدا وهو: ماذا عن أرض مصر؟ لِم لم يأتيها نذير كباقي أجزاء الأرض؟ ولم لم يأت رسول مخصصا للأمة التي تسكن مصر؟
جواب مفترى خطير جدا جدا لا تصدقوه إلا إن وجدتم الدليل يثبته: نحن نفتري الظن بأن أرض مصر كانت بحاجة إلى رسالة إلهية خاصة بها، ونحن نفتري الظن بأن أهل مصر كانوا بحاجة إلى رسول ليكون نذيرا لهم على وجه التحديد كباقي أمم الأرض.
السؤال: لماذا إذن لم تأت رسالة خاصة في أرض مصر؟ ولِم لم يبعث الله رسولا من أهل مصر أنفسهم ليكون نذيرا لتلك الأمة؟
رأينا المفترى والخطير جدا جدا: لقد جهّز الله فرعون ليكون هو رسول الله في تلك الأرض، والنذير إلى تلك الأمة.
الدليل
ربما تبادر إلى ذهن القارئ المتدبر لكتاب الله التساؤل التالي: لما كان فرعون طاغية قد علا وتكبّر في الأرض، فلم (يا ترى) أراه الله آياته كلها؟
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
رأينا المفترى: لقد كانت المنة الإلهية تقضي بأن يتم نوره على أرض مصر وعلى أهل مصر، فكان فرعون هو الشخص الذي جهّزه الله ليكون نذير تلك الأمة، ورسول تلك البلاد، فأرا ه الآيات كلها كخطوة سابقة وتمهيدية للرسالة، ولكن ما الذي حصل على أرض الواقع؟
رأينا: ما أن آتى الله آياته كلها لفرعون حتى انسلخ منها:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
فكان القرار الذي اتخذه فرعون هو الانسلاخ من آيات الله، والخلود إلى الأرض، وإتباع هواه، فكان مثله في ذلك كمثل الكلب.
(اللهم رب أعوذ بك أن يكون أمري كأمر فرعون وما أمر فرعون برشيد – آمين)
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: كانت أرض مصر هي الأرض المؤهلة للرسالة السماوية حينئذ، وكان فرعون هو الشخص الوحيد المؤهل لحمل تلك الرسالة، فكانت المنّة الإلهية تقضي بأن يرى الله فرعون آياته كلها، ليكون نذيرا لتلك الأمة، ورسولا في تلك البلاد. فجاءت مرحلة تجهيز الرجل للقيام بتلك المهمة، وكانت مرحلة التجهيز تتمثل في الحصول على الكتاب والحكم قبل أن تأتي مرحلة النبوة. ولم يكن هذا استثناء لفرعون، وذلك لأن كل رسول من رسل الله مرّ بهذه المرحلة قبل الحصول على الرسالة، كما حصل مع موسى مثلا:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
(للتفصيل انظر مقالاتنا السابقة)
فمرحلة الحكم والعلم هي مرحلة سابقة للنبوة، فهي الاختبار الحقيقي الإلهي لكل من كان مؤهلا لحمل الرسالة. وما أن ينجح الرسول المنتظر في تلك المرحلة حتى تتحصل له النبوة (الرسالة). لذا، نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأنه لو لنجح فرعون في هذه المرحلة، لجاءته الرسالة. ولربما كان أعظم رسول عرفته البشرية حتى تلك اللحظة.
السؤال: لماذا هناك مرحلة سابقة للنبوة؟ ولماذا يحصل فيها الشخص المؤهل للرسالة على الكتاب (الآيات) والحكم؟
رأينا: نحن نظن أن السبب في ذلك قد جاء في الآية الكريمة التالية:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
فلو تدبرنا هذه الآية الكريمة لوجدنا على الفور أن هناك ثلاثة مراحل متتالية وهي: الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
لقد قضت سنّة الله الكونية أنه ما أن يؤتي أحدا من عباده الكتاب والحكم والنبوة حتى يكون منهج هذا الرسول هو الدعوة إلى الله بالوحدانية، فلا يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله. لذا كانت هذه المرحلة ضرورية ليمحص الله ما في قلوب العباد الذين اصطفاهم برسالته. فتأتي مرحلة الكتاب والحكم، وفي هذه اللحظة تبين حقيقة ما في قلوب هؤلاء العباد على النحو التالي:
1. إذا تحصل لهذا العبد الكتاب والحكم ولم ينسب الفضل في ذلك لنفسه، ولم يدعو الناس إلى عبادته من دون الله (كما فعل نوح وإبراهيم وموسى ومحمد)، أصبح مؤهلا لمرحلة النبوة، فتأتي المنّة الإلهية عليه بالاصطفاء برسالته
2. إذا تحصل لهذا العبد الكتاب والحكم ونسب ذلك الفضل لنفسه، ودعا من حوله إلى عبادته من دون الله (كما فعل فرعون)، لم يكن مؤهلا لمرحلة النبوة، لذا لن يتم اصطفاءه بالرسالة.
السؤال: ما الذي كان من الممكن أن يحصل لو أن فرعون فعلا تذكر أوخشي؟
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
رأينا المفترى الخطير جدا: نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأنه لو تذكر فرعون أو خشي، لكان رسولا من الله إلى الأمة المصرية، ولكان من أولي العزم من الرسل، لا بل وربما كان من أعظم رسل الله على مر التاريخ. انتهى.
السؤال: ما الذي حصل عندما آثر فرعون أن لا يتذكر وأن لا يخشى؟
رأينا المفترى: لما كان فرعون هو الوحيد الذي رأى آيات الله كلها:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
ولما كان فرعون هو من آتاه الله آياته:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
فإننا نتجرأ على القول بأن النتيجة ستكون – لا شك- عظيمة لو أن فرعون فعلا تذكر أو خشي.
السؤال: وكيف يمكن أن نتخيل ما كان من الممكن أن يحصل لو أن فرعون تذكر فعلا أو خشي؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن النتيجة ربما كانت على نحو أن يتم الله نوره على الأرض منذ ذلك الوقت.
السؤال: وما الذي حصل عندما لم يتذكر فرعون ولم يخشى؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: لقد استطاع فرعون أن يطفئ نور الله عن الأرض لفترة ليست بالقصيرة. انتهى.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: من أجل فهم هذه الجزئية علينا أن نتدبر الآيتين الكريمتين التاليتين معا:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
ليكون السؤال على النحو التالي: ما الفرق بين أن نرى آيات الله وأن نؤتى آيات الله؟
إن من أبسط أنواع التفكير الذي ربما لا جدال فيه هو أن آيات الله يمكن أن تُرى وأن آيات الله يمكن أن تُؤتى، أليس كذلك؟ فما الفرق بين الحالتين؟
رأينا المفترى: لو تدبرنا كتاب الله العزيز لوجدناه ليس أكثر من آيات:
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
ولا شك أن هذا القرآن (الذي هو آيات بينات) قد آتاه الله محمدا:
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
ونحن نفتري الظن بأن هذا ينطبق أيضا على كتب الله السابقة كالتوراة والنجيل. ففيها آيات الله متلوة. أليس كذلك؟
ولكن – بالمقابل- لو تدبرنا ما حصل من أمر محمد في ليلة الإسراء لوجدنا أن الله قد أراه من آياته:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
السؤال: كيف يمكن التوفيق بين الحقيقة التي لا جدال فيها أن الله قد آتى محمدا آياته وفي الوقت ذاته قد أراه من آياته؟
جواب: لو تدبرنا الأمر أكثر، لوجدنا أن الله قد آتي محمدا آياته كلها بدليل أن هذا الكتاب الذي أحكمت آياته من لدن حكيم خبير :
الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
قد فصلت قرآنا عربيا:
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
فكل آيات الكتاب التي أحكمت قد فصلت قرآنا عربيا، وهو ما آتاه الله محمدا.
لكن السؤال هو: إذا كان محمد قد أوتي آيات الكتاب الحكيم التي فصلت قرآنا عربيا، فهل فعلا رأى محمد كل آيات الله؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا.
السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: لأن الله لم يُري محمدا كل آياته ولكنه أراه من آياته؟
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
نتيجة مفتراة (1): أُوتي محمد كل آيات الله
نتيجة مفتراة (2): رأى محمد بعض آيات الله
السؤال: كيف يمكن أن نفهم ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: علينا إذن أن نميز بين آيات الله التي يمكن تلاوتها:
تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
وآيات الله التي يمكن رؤيتها:
لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
نتيجة مفتراة (1): هناك آيات الله تُتلى تلاوة
نتيجة مفتراة (2): هناك آيات الله تُرى رؤية
السؤال: ما هي الآيات التي تُتلى تلاوة؟
جواب: إنها آيات الكتاب الحكيم والقرآن المبين:
الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1)
السؤال: وما هي الآيات التي تُرى رؤية؟
جواب: إنها الآيات المادية، كالعصا التي هي – لا شك- الآية الكبرى:
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
وكضم اليد إلى الجناح لتخرج بيضاء من غير سوء:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
وكالناقة التي هي آية مبصرة:
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59)
وكسفينة نوح:
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (15)
وكالمسيح عيسى بن مريم نفسه:
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
نتيجة مفتراة: هناك آيات يمكن أن نتلوها تلاوة وهي آيات الكتاب الحكيم والقرآن المبين، وهناك آيات يمكن رؤيتها كالعصا ويد موسى والناقة وسفينة نوح وحتى عيسى بن مريم نفسه.
السؤال: مَن الذي تحصّلت له آيات الله المتلوة كلها؟
جواب: نحن جميعا تحصلت لنا آيات الله المتلوة، فالقرآن المبين (الذي هو آيات الله المتلوة) بين أيدينا جميعا. نستطيع أن نتلوها آناء الليل وأطراف النهار.
السؤال: مَن الذي رأى آيات الله التي يمكن رؤيتها؟
جواب: لقد رأى من كان في زمن موسى العصا ويد موسى، ورأى قوم صالح الناقة مبصرة بأم أعينهم، ورأى من عاصر المسيح عيسى بن مريم بأم أعينهم، وها هي سفينة نوح لازالت آية للعالمين، وهكذا.
السؤال: مَن أيضا رأى آيات الله رؤية؟
جواب: هذا محمد يرى في ليلة الإسراء من آيات ربه:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
وهذا موسى يرى من آيات ربه الكبرى:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
والآن، دقق مليّا عزيزي القارئ – إن شئت- بما حصل من أمر فرعون كما جاء في الآيات الكريمة التالية:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
نتيجة مفتراة مهمة جدا جدا: كان فرعون هو الشخص الوحيد الذي رأى آيات الله كلها. انتهى.
تلخيص ما سبق: هناك نوعان من الآيات: آيات متلوة وآيات مرئية، ففي حين أنه تحصل لنا جميعا آيات الله المتلوة، لم تتحصل روية آيات الله المرئية إلا لبعض عباده، فبعضهم رأى واحدة من هذه الآيات، ورأى بعضهم اثنتين منها، وربما رأى بعضهم ثلاث أو أربع آيات منها، وهكذا. ولكن ما تحصلت رؤية آيات الله كلها إلا لشخص واحد وهو فرعون:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
السؤال: هل تدرك (عزيزي القارئ) ما معنى أن يكون فرعون هو الشخص الوحيد على مر التاريخ الذي رأى آيات الله كلها؟ هل تستطيع أن تتخيل مقدار ما تحصل لفرعون من العلم إذن؟ هل تستطيع أن تنزل الرجل مكانته؟ وهل تستطيع إذن أن تدرك سر الاهتمام الإلهي بشخص فرعون؟ وهل ترى الآن لم يتحدث القرآن الكريم عن فرعون على وجه التحديد أكثر من أي شخصية أخرى على الإطلاق؟! من يدري؟!!
رأينا المفترى: لمّا كانت آيات الله المتلوة قد تحصلت لفرعون كما تحصلت لغيره:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
ولما كان فرعون هو الوحيد الذي أراه الله آياته كلها ولم يتحصل ذلك لغيره:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
كان فرعون (نحن نفتري الظن) وحيدا:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
خروج عن النص في استراحة قصيرة
قبل أن نتابع النقاش في شخصية فرعون كما تصوره الآيات التي بدأنا حديثنا هنا فيها، وهي:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
والتعرض لمكتسبات فرعون الشخصية الأخرى، وهي المال الممدود (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا)، والبنين الشهود (وَبَنِينَ شُهُودًا)، والتمهيد له في الأرض (وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا)، دعنا نخرج في استراحة قصيرة (ربما تكون ضرورية لفهم الافتراءات الخطيرة التي ستأتي لاحقا)، لنطرح التساؤل التالي الذي هو حصيلة الافتراءات السابقة، والسؤال هو: لماذا سُميت الآيات المتلوة آيات وسُميت الآيات المرئية آيات؟ وبكلمات أكثر دقة نحن نسأل: لماذا ما نقرأه في كتاب الله هو آيات؟ ولماذا سميت عصا موسى والناقة والسفينة وعيسى بن مريم آيات؟ فما المشترك بين الطرفين؟
جواب مفترى: لو دققنا في آيات الكتاب الحكيم وفي آيات القرآن المبين، لوجدناها متباينة في الحجم. فبعض آيات القرآن المتلوة تأخذ حيزا كبيرا كالصفحة كلها، وليس أدل على ذلك من حجم آية الدين في سورة البقرة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
بينما نجد – بالمقابل- أن بعض الآيات المتلوة الأخرى لا تتجاوز في حجمها الكلمة الواحدة أو الكلمتان أو الثلاث، وانظر في سورة الرحمن مثلا لترى حجم كل آية فيها:
وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)
ولو دققنا في سور القرآن في الجزء الثلاثين منه، لوجدنا أن بعض السور الكاملة لا يتجاوز عدد آيتها الثلاثة التي هي أصلا آيات صغيرة في حجمها كسورة العصر مثلا:
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
أو كسورة الكوثر:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
السؤال: لماذا؟ لماذا هذا التفاوت في الحجم بين الآيات؟ لِم لم تأت الآيات كلها متوازنة أو حتى متقاربة في الحجم؟
جواب مفترى من عند أنفسنا خطير جدا جدا: دعنا أولا نستخدم المفردات الصحيحة. فبدل كلمة الحجم، دعنا نستخدم مفردة (أكبر) عند الحديث عن الآيات. فنحن نظن أن آيات الله المتلوة متفاوتة في الكُبر، فبعض آيات الله هي أكبر من البعض الآخر.
وهذا المنطق ينسحب أيضا – نحن نفتري الظن- على آيات الله المرئية. فبعض آيات الله المرئية هي أكبر من البعض الآخر، وليس أدل على ذلك من أن العصا هي آية الله الكبرى:
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
نتيجة مفتراة خطيرة جدا ومهمة جدا: تتفاوت آيات الله (المتلوة والمرئية) في الكُبر. فبعض تلك الآيات هي أكبر من البعض الآخر.
السؤال: ما فائدة ذلك؟
رأينا المفترى: لا شك عندنا أن ذلك يعود إلى فاعلية تلك الآية، فما فعلته العصا (التي هي الآية الكبرى) لا تستطيع أن تفعله آية أخرى.
السؤال: وما علاقة ذلك بالآيات المتلوة؟
جواب مفترى: نحن نظن أن هذا المنطق ينسحب على الآيات المتلوة: ففاعلية بعض الآيات المتلوة (كآية الكرسي مثلا) هي أكبر من فاعلية آيات أخرى. ولو تدبرت آيات الكتاب الحكيم، لوجدت أن الناس لا يكادون يغفلون عن بعضها (كآية الكرسي مثلا)، فهي بمثابة آية بيّنة للجميع، وهذا لا ينسحب على آيات الكتاب كلها، فربما تقرأ على مسامع بعض الناس بعض آيات الكتاب الحكيم الأخرى، فلا يظنون أنها أصلا آيات في كتاب الله، ويكأنها تطرق مسامعهم لأول مرة. لتكون النتيجة التي نحاول جاهدين تبيانها هي أن آيات الكتاب الحكيم ليست واضحة في أذهان الناس كلها بنفس الدرجة. وهذا المنطق– برأينا- واضح عند التطرق لآيات الله المرئية، فلا شك أن عصا موسى هي الآية الأكثر وضوحا في كتاب الله، فبالرغم أن موسى قد جاءهم بتسع آيات بينات إلا أنها لم تكن جميعا واضحة بينة بوضوح العصا نفسها، وذلك لأن العصا هي الآية الكبرى.
السؤال: كم عدد آيات الله المرئية؟
رأينا المفترى: لا شك عندنا أن جميع رسل الله قد جاءوا أقوامهم بآيات بينات، ولكن المفارقة العجيبة تكمن في الآية الكريمة التالية:
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
ليكون السؤال الجوهري الآن: إذا كان الله لم يقصص بعض الرسل، فأين ذهبت آيات أولئك الرسل الذين لم يقصصهم الله على نبيه الكريم؟ ولماذا قصّ الله على نبيه بعض رسله ولم يقصص الآخرين؟ وكيف يمكن التوفيق بين ما جاء في هذه الآية الكريمة التي تبين أن بعض رسل الله لم يتم قصهم على رسوله وفي الوقت ذاته نجد أن الله أن لم يفرط في الكتاب من شيء؟
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
وكيف يمكن التوفيق بين ذلك أيضا وما جاء في الآية الكريمة التالية التي تبين أن الله قد فصل كل شيء تفصيلا؟
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)
جواب مفترى خطير جدا: نحن نظن أنه على الرغم من أن الله لم يقص على نبيه كل قصص الرسل الذين سبقوه إلا أن ذلك لا يعني أنهم غير متواجدين في كتاب الله ولا يعني ذلك أن آياتهم قد غير موجودة في كتاب الله، مادام أن الله لم يفرط في الكتاب من شيء.
السؤال: أين هم أولئك الرسل الذين لم يقصصهم الله على نبيه؟ وأين هي آياتهم تلك؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن أننا نستطيع أن نستنبط من الكتاب الحكيم من هم أولئك الرسل الذين لم يقصصهم الله على نبيه، كما نستطيع أن نستنبط ما هي آياتهم التي جاءوا بها أقوامهم.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن ذلك ممكنا إذا ما استطعنا الإجابة على التساؤل المثير التالي: ما العلاقة بين آيات الله المتلوة (كآية الكرسي مثلا) وآياته المرئية (كعصا موسى مثلا)؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن أن عدد آيات الله المرئية هي بالضبط بعدد آياته المتلوة.
السؤال: ما معنى هذا الكلام؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن آيات الله المرئية تواز في العدد آيات الله المتلوة. فكل آية متلوة يقابلها آية مرئية، والعكس صحيح، فكل آية مرئية (كالعصا) يقابلها آية متلوة (كآية الكرسي).
السؤال: لماذا؟ وكيف يمكن تطبيق ذلك؟
جواب مفترى: نحن نظن أن السبب في ذلك ربما يعود إلى افترائنا التالي: إن الآيات المتلوة (كآية الكرسي) هي نسخة للآيات المرئية (كالعصا). وبكلمات أكثر دقة نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأن الآيات المرئية (كالعصا) قد نسخت بآيات متلوة (كآية الكرسي).
مثال: العصا (آية الكرسي)
نحن نفتري القول بأن عصا موسى (كآية من آيات الله الكبرى) قد نسخت بآية متلوة هي – برأينا- آية الكرسي. وبهذا نحن نصل إلى الافتراء الخطير جدا جدا التالي: نحن نستطيع أن نستفيد من آية الكرسي بالضبط كما استفاد موسى من العصا التي كانت بيمينه. فآية الكرسي تعمل عمل عصا موسى. انتهى.
الدليل
لو تدبرنا كتاب الله جيدا، لوجدنا أن تقسيمه جاء على نحو سور ( وعددها 114 سورة) وإلى آيات (وعددها 6236 آية). وهذا يقودنا إلى افتراء القول من عند أنفسنا بأن آيات الله المرئية التي جاء بها رسل الله جميعا هي 6236 آية (أي بعدد الآيات المتلوة). فالله هو الذي بعث رسله إلى أقوامهم وأيدهم بالآيات المرئية، وتجمعت كلها (كآيات منسوخة) في القرآن الكريم بآيات متلوة وعددها 6236. قال تعالى:
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
إن أول ما يمكن استنباطه من منطوق هذه الآية الكريمة أن آيات الله ثابتة في عددها، وذلك لأن ما نسخ منها وما نسي منها قد تم استبداله بمثلها أو بخير منها، لتبقى في مجموعها ثابتة. لكن كيف يمكن تطبيق ذلك على أرض الواقع؟
جواب: من أجل فهم ذلك، فلابد (نحن نرى) من فهم آلية النسخ للآيات أو نسيانها. لنثير بناء على ذلك سؤالين اثنين هما:
- كيف يتم نسخ الآيات؟
- كيف يتم نسيان الآيات؟
باب الناسخ والمنسوخ
لعل هذه القضية من أكبر الإشكاليات التي واجهت الفكر الإسلامي منذ بداياته. فانقسمت الآراء وتعددت حول كيفية نسخ آيات الله. واستقرت في مجملها حتى الساعة عند ما جاءنا من أهل الدراية كما نقله لنا أهل الرواية في مؤلفاتهم، فكان التفسير التالي الذي جاءنا في الطبري مثلا يحوي أهم الآراء التي قيلت في هذه القضية:
ما ننسخ من آية
القول في تأويل قوله تعالى : { ما ننسخ من آية } يعني جل ثناؤه بقوله : { ما ننسخ من آية } إلى غيره , فنبدله ونغيره . وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا , والمباح محظورا والمحظور مباحا ; ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة , فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ . وأصل النسخ من " نسخ الكتاب " وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها , فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيره . فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أأقر خطها فترك , أو محي أثرها , فعفي ونسي , إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة . والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول والمنقول إليه فرض العباد هو الناسخ , يقال منه : نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا , والنسخة الاسم . وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول . 1448 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري , قال : ثنا خالد بن الحارث , قال : ثنا عوف , عن الحسن أنه قال في قوله : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها } قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه فلا يكن شيئا , ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه . اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { ما ننسخ } فقال بعضهم بما : 1449 - حدثني به موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن عمار , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { ما ننسخ من آية } أما نسخها فقبضها . وقال آخرون بما : 1450 - حدثني به المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : { ما ننسخ من آية } يقول : ما نبدل من آية . وقال آخرون بما : 1451 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا : { ما ننسخ من آية } نثبت خطها ونبدل حكمها . * وحدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { ما ننسخ من آية } نثبت خطها , ونبدل حكمها , حدثت به عن أصحاب ابن مسعود . * حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : حدثني بكر بن شوذب , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , عن أصحاب ابن مسعود : { ما ننسخ من آية } نثبت خطها .
أو ننسها
القول في تأويل قوله تعالى : { أو ننسها } . اختلفت القراءة في قوله ذلك , فقرأها قراء أهل المدينة والكوفة : { أو ننسها } ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل , أحدهما : أن يكون تأويله : ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها . وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله : { ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها } , فذلك تأويل النسيان . وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 1452 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } كان ينسخ الآية بالآية بعدها , ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك ثم تنسى وترفع . * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { ما ننسخ من آية أو ننسها } قال : كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء وينسخ ما شاء . 1453 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : كان عبيد بن عمير يقول : { ننسها } نرفعها من عندكم . 1454 - حدثنا سوار بن عبد الله , قال : ثنا خالد بن الحارث , قال : ثنا عوف , عن الحسن أنه قال في قوله : { أو ننسها } قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا , ثم نسيه . وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية إلا أنه كان يقرؤها : { أو تنسها } بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم , كأنه عنى أو تنسها أنت يا محمد . ذكر الأخبار بذلك : 1455 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا يعلى بن عطاء , عن القاسم , قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : { ما ننسخ من آية أو تنسها } قلت له : فإن سعيد بن المسيب يقرؤها : { أو تنسها } قال : فقال سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب , قال الله : { سنقرئك فلا تنسى } 87 6 { واذكر ربك إذا نسيت } . 18 24 * حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا هشيم , قال : ثنا يعلى بن عطاء , قال : ثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي , قال : سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه . * حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا , عن شعبة , عن يعلى بن عطاء , قال : سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول : قلت لسعد بن أبي وقاص : إني سمعت ابن المسيب يقرأ : { ما ننسخ من آية أو تنسها } فقال سعد : إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه , إنما هي : { ما ننسخ من آية أو تنسها } يا محمد . ثم قرأ : { سنقرئك فلا تنسى } 87 6 { واذكر ربك إذا نسيت } . 18 24 1456 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { ما ننسخ من آية أو ننسها } يقول : ننسها : نرفعها ; وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها . والوجه الآخر منهما أن يكون بمعنى الترك , من قول الله جل ثناؤه : { نسوا الله فنسيهم } 9 67 يعني به تركوا الله فتركهم . فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل : ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها . وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 1457 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس في قوله : { أو ننسها } يقول : أو نتركها لا نبدلها . 1458 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي قوله : { أو ننسها } نتركها لا ننسخها . 1459 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله : { ما ننسخ من آية أو ننسها } قال : الناسخ والمنسوخ . قال : وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما : 1460 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { ننسها } نمحها . وقرأ ذلك آخرون : { أو ننسأها } بفتح النون وهمزة بعد السين بمعنى نؤخرها , من قولك : نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأ ونساء إذا أخرته , وهو من قولهم : بعته بنساء , يعني بتأخير . ومن ذلك قول طرفة بن العبد : لعمرك إن الموت ما أنسأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد يعني بقوله أنسأ : أخر . وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين , وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين , وتأوله كذلك جماع من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 1461 - حدثنا أبو كريب , ويعقوب بن إبراهيم , قالا : ثنا هشيم , قال : أخبرنا عبد الملك . عن عطاء في قوله : { ما ننسخ من آية أو ننسأها } قال : نؤخرها . 1462 - حدثنا محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , قال : سمعت ابن أبي نجيح , يقول في قول الله : { أو ننسأها } قال : نرجئها . 1463 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { أو ننسأها } نرجئها ونؤخرها . 1464 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : ثنا أبو أحمد الزبيري , قال : ثنا فضيل , عن عطية : { أو ننسأها } قال : نؤخرها فلا ننسخها . 1465 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : أخبرني عبد الله بن كثير عن عبيد الأزدي , عن عبيد بن عمير { أو ننسأها } إرجاؤها وتأخيرها . هكذا حدثنا القاسم عن عبد الله بن كثير , عن عبيد الأزدي . وإنما هو عن علي الأزدي . * حدثني أحمد بن يوسف , قال : ثنا القاسم بن سلام , قال : حدثنا حجاج , عن ابن جريج , عن عبد الله بن كثير , عن علي الأزدي , عن عبيد بن عمير أنه قرأها : { ننسأها } . قال : فتأويل من قرأ ذلك كذلك : ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد , فنبطل حكمها ونثبت خطها , أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها ; نأت بخير منها أو مثلها . وقد قرأ بعضهم ذلك : { ما ننسخ من آية أو تنسها } وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ { أو ننسها } إلا أن معنى { أو ننسها } أنت يا محمد . وقد قرأ بعضهم : { ما ننسخ من آية } بضم النون وكسر السين , بمعنى : ما ننسخك يا محمد نحن من آية , من أنسختك فأنا أنسخك . وذلك خطأ من القراءة عندنا لخروجه عما جاءت به الحجة من القراءة بالنقل المستفيض . وكذلك قراءة من قرأ { تنسها } أو { تنسها } لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة . وأولى القراءات في قوله : { أو ننسها } بالصواب من قرأ : { أو ننسها } , بمعنى نتركها ; لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكما أو غيره أو لم يبدله ولم يغيره , فهو آتيه بخير منه أو بمثله . فالذي هو أولى بالآية إذ كان ذلك معناها , أن يكون إذ قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع , إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير . فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله : { ما ننسخ من آية } قوله : أو نترك نسخها , إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس . مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت , فهو يشتمل على معنى الإنساء الذي هو بمعنى الترك , ومعنى النساء الذي هو بمعنى التأخير , إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك . وقد أنكر قوم قراءة من قرأ : { أو تنسها } إذا عني به النسيان , وقالوا : غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ إلا أن يكون نسى منه شيئا ثم ذكره . قالوا : وبعد , فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه بجائز على جميعهم أن ينسوه . قالوا : وفي قول الله جل ثناؤه : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } 17 86 ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم . قال أبو جعفر : وهذا قول يشهد على بطوله وفساده الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا . 1466 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد بن زريع , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة , قال : حدثنا أنس بن مالك : إن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابا : " بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا " . ثم إن ذلك رفع . فالذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون : " لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا , ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب , ويتوب الله على من تاب " ثم رفع ; وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب . وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه . فإذا كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين , فغير جائز لقائل أن يقول ذلك غير جائز . وأما قوله : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه , وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه , فلم يذهب به والحمد لله ; بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه , وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه , وقد قال الله تعالى ذكره : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله } 87 6 - 7 فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء , فالذي ذهب منه الذي استثناه الله . فأما نحن فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى , لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله .
نأت بخير منها أو مثلها
القول في تأويل قوله تعالى : { نأت بخير منها أو مثلها } . اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { نأت بخير منها أو مثلها } , فقال بعضهم بما : 1467 - حدثني المثنى , قال : حدثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : { نأت بخير منها أو مثلها } يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال آخرون بما : 1468 - حدثني به الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { نأت بخير منها أو مثلها } يقول : آية فيها تخفيف , فيها رحمة , فيها أمر , فيها نهي . وقال آخرون : نأت بخير من التي نسخناها , أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها . ذكر من قال ذلك : 1469 - حدثني موسى , قال : حدثنا عمرو , قال : حدثنا أسباط , عن السدي : { نأت بخير منها } يقول : نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها أو مثل التي تركناها . فالهاء والألف اللتان في قوله : { منها } عائدتان على هذه المقالة على الآية في قوله : { ما ننسخ من آية } والهاء والألف اللتان في قوله : { أو مثلها } عائدتان على الهاء والألف اللتين في قوله : { أو ننسها } . وقال آخرون بما : 1470 - حدثني به المثنى , قال : حدثنا أبو حذيفة , قال : حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : كان عبيد بن عمير يقول : { ننسها } نرفعها من عندكم , نأت بمثلها أو خير منها . 1471 - حدثني المثنى , قال : حدثنا إسحاق , قال : حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { أو ننسها } نرفعها نأت بخير منها أو بمثلها . 1472 - وحدثني المثنى , قال : حدثنا إسحاق , قال : حدثنا بكر بن شوذب , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , عن أصحاب ابن مسعود , مثله . والصواب من القول في معنى ذلك عندنا : ما نبدل من حكم آية فنغيره أو نترك تبديله فنقره بحاله , نأت بخير منها لكم من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها , إما في العاجل لخفته عليكم , من أجل أنه وضع فرض كان عليكم فأسقط ثقله عنكم , وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل , ثم نسخ ذلك فوضع عنهم , فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم ; وإما في الآجل لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان , كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة , فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول , فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات . غير أن ذلك وإن كان كذلك , فالثواب عليه أجزل والأجر عليه أكثر , لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات , فذلك وإن كان على الأبدان أشق فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات . فذلك معنى قوله : { نأت بخير منها } لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه , أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره . أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه , نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس إلى فرضها شطر المسجد الحرام . فالتوجه شطر بيت المقدس , وإن خالف التوجه شطر المسجد , فكلفة التوجه شطر أيهما توجه شطره واحدة ; لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤنة توجهه شطره , نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة سواء . فذلك هو معنى المثل الذي قال جل ثناؤه : { أو مثلها } . وإنما عنى جل ثناؤه بقوله : { ما ننسخ من آية أو ننسها } ما ننسخ من حكم آية أو ننسه . غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها . وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا , كقوله : { وأشربوا في قلوبهم العجل } 2 93 بمعنى حب العجل ونحو ذلك . فتأويل الآية إذا : ما نغير من حكم آية فنبدله أو نتركه فلا نبدله , نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكما منها , أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب . فإن قال قائل : فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب وأنه لا يلتبس على من سمع قوله : { وأشربوا في قلوبهم العجل } أن معناه : وأشربوا في قلوبهم حب العجل , فما الذي يدل على أن قوله : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها } لذلك نظير ؟ قيل : الذي دل على أن ذلك كذلك قوله : { نأت بخير منها أو مثلها } وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء ; لأن جميعه كلام الله , ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض وبعضها خير من بعض .
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير
القول في تأويل قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } . يعني جل ثناؤه بقوله : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك وأنفع لك ولهم , إما عاجلا في الدنيا وإما آجلا في الآخرة . أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم . فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير . ومعنى قوله : { قدير } في هذا الموضع : قوي , يقال منه : " قد قدرت على كذا وكذا " . إذا قويت عليه " أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقدرانا ومقدرة " . وبنو مرة من غطفان تقول : " قدرت عليه " بكسر الدال . فأما من التقدير من قول القائل : " قدرت الشيء " فإنه يقال منه : " قدرته أقدره قدرا وقدرا "
لو نظرنا في هذا التأويل العظيم وما وصلنا من تأويلات لاحقة لهذا الفكر الكبير لوجدنا أن الناسخ – عندهم- هو ما يبطل المنسوخ. لذا جاءت بعض الآيات – كما فهموها – مبطلة لآيات سابقة لها. فاللاحق يبطل السابق، وهكذا. وقد قسموا الناسخ والمنسوخ إلى أقسام، ذكروا منها:
- منسوخ لفظا مثبت حكما (أي ذهب لفظه فلم يعد جزء من القرآن ولكن بقي حكمه كآية الشيخ والشيخة... الخ)
- منسوخ حكما مثبيت لفظا (أي ذهب حكمه وبقي لفظه في القرآن كآية ... الخ)
- منسوخ حكما ولفظا (أي ذهب لفظه وحكمه فما عادا جزءا من الشريعة كقولهم: " لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا , ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب , ويتوب الله على من تاب "
رأينا المفترى: نحن نرفض هذا الفكر جملة وتفصيلا، وذلك لأن الله قال في محكم كتابه:
... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)
فدين الله كامل لا يعتريه نقص، ولا يمكن أن يزاد فيه شيء، فليس هناك آية في كتاب الله لا يعمل بحكمها، وليس هناك حكم لم يفصل في كتاب الله. انتهى.
الدليل
دعنا نسأل السؤال التالي أولا: ما معنى إكمال الدين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؟ وما معنى إتمام النعمة (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)؟ ولماذا جاء الدين بلفظ الإكمال؟ ولماذا جاءت النعمة بلفظ الإتمام؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن إكمال الشيء يعني عدم النقص أو الزيادة فيه. أما الإتمام فيحتمل الزيادة والنقص. فهناك مثلا عدّة مطلوب من الشخص إكمالها، فالعدة (لا محالة) محددة بعدد ثابت، فلا يمكن أن تكون كاملة لو أنها أنقصت يوما واحد. قال تعالى:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
ومطلوب ممن تمتع بالحج إلى العمرة أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع، فتكون بذلك عشرة كاملة:
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
فلا يمكن أن تكتمل الفترة إلا بصيام عشرة كاملة، فلو صام من تمتع بالعمرة إلى الحج تسعة أيام، لما أكتمل المطلوب، ولا يجوز أن يصوم أكثر من ذلك، لأن ذلك يصبح زيادة على المطلوب، أي كمن يصلي خمس ركعات بدلا من أربعة، فهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال.
ولا تكتمل الرضاعة إلا بالحولين الكاملين:
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
والكافرون يحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة، فلا ينقص منها شيء، ولا يزاد عليها مثقال ذرة، وإلا لأصبح ذلك ظلما للعباد:
لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25)
ونحن لا ننعت البدر بالاكتمال كأن نقول (اكتمل البدر) إلا عندما يصل إلى المرحلة التي لا يمكن أن يزاد فيها شيء. فيبقى القمر غير كامل حتى يصبح بدرا، فبعد ذلك يتعذر الزيادة فيه، بل يعود مرة أخرى إلى مرحلة التناقص بعد أن يكون قد اكتمل.
وإذا ما كنت جالسا في امتحان في قاعة الدرس، وقمت بتسليم ورقة الإجابة إلى المدرس، فأنت بذلك تكون قد أكملت الامتحان، لأنه من الاستحالة (في الوضع الطبيعي) أن تعاد إليك ورقة الامتحان لتضيف إليها شيئا جديدا. فتسليم ورقة الامتحان للمراقب على الامتحان يعني أنك وصلت إلى مرحلة لا يمكن الزيادة على ما كتبت.
نتيجة مهمة: الاكتمال يعني وصول المرحلة التي لا يمكن الزيادة عليها.
أما الإتمام، فهذا قابل للزيادة حتى وإن وصلت إلى مرحلة التمام.
فلا شك أننا جميعا نتمتع بنعمة الله علينا، فنعمة الله أصابتنا جميعا، لكننا نعلم يقينا أننا لا نستطيع أن نحصي نعمة الله:
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)
فمهما تحصلت لك من هذه النعمة (بغض النظر عن عددها)، فإن نعمة الله تكون قد تمت عليك، لكن ذلك لا يعني أن هذه النعمة لا تزاد. فقد تكون نعمة الله تامة عليك، فتصيبك نعمة أخرى، فيكون ذلك من فضل ربك عليك. وتبقى النعمة دائمة الزيادة فيها مادام أننا لا نستطيع أن نحصي نعمة الله، وبذلك تكون النعمة قابلة للإتمام على الدوام.
نتيجة مفتراة: الإتمام لا يعني الوصل إلى مرحلة نهائية مادامت قابلة للزيادة دائما.
(ملحوظة: للأمانة العليمة أود أن أؤكد بأن مثل هذا التفريق بين معنى الإكمال والإتمام قد سمعته من الأستاذ الكبير فاضل السامرائي الذي هو عندنا أستاذ كبير، ولغوي من الطراز الأول الذي يعتد كثيرا بكلامه)
وليس أدل على أن الإتمام قابل للزيادة من هذا الحوار الذي دار بين موسى وشعيب:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
فالأجل المتفق عليه الذي لا يجوز لطرف منهما أن يخل به هو ثماني حجج، لكن كان بمقدور موسى (إن هو رغب في ذلك) أن يتمم ذلك الأجل، فيصبح عشر حجج بدلا من ثمانية.
وسنتابع هنا تبعات هذا الظن لنرى ما يمكن أن يتحصل لنا من فهم في مجمل العقيدة خاصة ما يتعلق منه بقضية الناسخ والمنسوخ. ولكن قبل الدخول في تفصيلات هذا الأمر، دعنا نحاول أن نبين كيف يمكن الاستفادة من هذه الأفهام في قضايا عقائدية مثل الصيام، قال تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
السؤال: لماذا قال الله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)؟ لماذا لم يقل (ثم أكملوا الصيام إلى الليل)؟
جواب مفترى: لا شك عندنا أن الإفطار من الصيام يحصل في وقت محدد، وهو وقت قدوم الليل (أي عند صلاة المغرب)، لكن لما كان الله قد طلب منا إتمام الصيام إلى الليل، فإن هناك فسحة وافرة في الزيادة في وقت الصيام حتى تتحقق من قدوم الليل. فيمكن للإنسان أن يفطر مباشرة عند أذان المغرب (كما تفعل الغالبية الساحقة من أبناء المسلمين)، لكن جاء الطلب الإلهي منّا أن نتم الصيام إلى الليل، فمن المستحب إذن (وربما من الواجب علينا) أن لا يفطر الصائم مباشرة عند أذان المغرب، بل عليه أن يحاول إتمام الصيام (أي الزيادة فيه قليلا) للتحقق من بلوغ الليل. فهذه الزيادة القليلة (وإن كانت دقائق معدودة) تقع في باب إتمام الصيام. ويستحيل – نحن نرى – أن يأتي النص على نحو (ثم أكملوا الصيام إلى الليل) لأن ذلك يصبح وقتا محددا لا يمكن الزيادة فيه، وهذا غير ممكن لأن الله قال عند الحديث عن الليل:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)
فما دام أننا لن نستطيع أن نحصي الليل، فإننا لن نكون قادرين على تحديد اللحظة التي يكتمل فيها الليل أو النهار، لذا لا يمكن أن يطلب الله منا (نحن نفتري القول) أن نفطر باكتمال الليل، لذا جاء الطلب الإلهي على نحو أن نتم الصيام إلى الليل.
رسالة إلى العامة من الناس: نحن نرى أن من واجب المسلم الذي يريد أن يلتزم بالطلب الإلهي (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) أن يتحرى قدوم الليل، فلا ضير أن ينتظر دقائق معدودة بعد أذان المغرب، ليفطر من صيامه، ويكون بذلك قد أتم الصيام إلى الليل. ولعل أفضل طريقة إلى ذلك تتمثل (نحن نرى) في أن يقوم المسلم بتأدية صلاة المغرب التي يقع وقتها في زلفا من الليل، ثم ما أن ينهي صلاته حتى يكون بذلك قد ضمن إلى حد كبير حلول الليل، فيظفر بالأجرين، أجر الصلاة على وقتها، وأجر إتمام الصيام إلى الليل. والله أعلم.
أما القضية الأكبر التي يمكن الخوض فيها بعد محاولتنا تجلية الفرق بين الإكمال والتمام، فهي قضية الناسخ والمنسوخ.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا: لمّا كان دين الله قد اكتمل فهو إذن قد وصل إلى المرحلة التي لا يمكن الزيادة فيها بشيء. قال تعالى:
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
لذا، لما كانت سبيل الله واضحة المعالم، لا لُبس فيها، فإننا نرفض جملة وتفصيلا أن يكون قد حذف شيء من التنزيل الحكيم، ونحن نؤمن يقينا بأن ليس هناك شيء موجود في كتاب الله قد ألغي حكمه، أو أن هناك آية في كتاب الله لا يعتد بحكمها. أو أن هناك آية في كتاب الله قد ألغت حكم آية أخرى، وإلا لأصبحت فوضى عارمة، عرضة لأهواء الناس وميولهم. لذا سنحاول تسطير رأيا جديدا في فهم منطوق الآية الكريمة:
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
نظن أنه يختلف جملة وتفصيلا عن كل ما جاءنا في بطون أمهات كتب التفسير. ولما كان هذا الرأي هو من عند أنفسنا، فإننا لا نستثني احتمالية أن يكون خاطئا في مجمله أو في بعض تفاصيله، لكن هذا لن بثنينا عن تقديمه، ظانين أن فيه شيء جديد، ربما يسعف في فتح آفاق جديدة للتدبر، سائلين الله دوما أن يهدينا رشدنا، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو الواسع العليم.
أما بعد،
التساؤلات
- ما معنى النسخ؟
- ما هي الآيات الناسخة؟
- ما هي الآيات المنسوخة؟
- كيف تمت آلية النسخ؟
- كيف يمكن تطبيق ذلك على أرض الواقع؟
- الخ.
أولا، معنى النسخ
كنا في مراحل الدراسة الأولى في المدرسة الابتدائية مطالبين (كتلاميذ جديدي العهد بالقراءة والكتابة) بنسخ درس القراءة في كتاب اللغة العربية، فكان المعلم الذي كان هدفه (على ما أظن) تعليمنا أبجديات القراءة والكتابة يطلب منا نسخ الدرس الواحد مرة أو مرتين أو ثلاثة أو ربما أكثر من ذلك، فكنا نقضي اليوم كاملا بعد العودة من المدرسة في عملية نسخ لذاك الدرس الذي قرأناه في المدرسة في صبيحة ذلك اليوم، وكانت آلية تنفيذ النسخ تتمثل في أن نفتح الكتاب (المطبوعة كلماته طباعة على صفحات الكتاب المدرسي) عند الصفحة المراد نسخها، ثم نقوم بكتابة تلك الكلمات بكل دقة ممكنة بخط اليد، وما أن ننهي كتابة جميع الكلمات بالصورة نفسها الموجودة في الكتاب الأصل حتى تتولد عندنا نسخة من ذلك الدرس، ثم نعاود الكرة مرة أخرى من البداية حتى النهاية، فتتولد عندنا نسخة أخرى من الدرس نفسه، وهكذا حتى ننهي العدد المطلوبة من النسخ التي أمرنا بها المدرس.
وفي اليوم التالي، نأخذ معنا دفتر النسخ (أي الدفتر الذي نسخنا عليه الدرس) إلى قاعة الصف المدرسي، وما أن يدخل المدرس إلى قاعة الصف حتى يطلب منا أن نضع دفتر النسخ أمامنا على الدرج الذي كنا نجلس عليه، مفتوحا على الواجب الذي طلبه منا، فيمر المدرس من بين الصفوف ليتفقد قيامنا بالواجب المطلوب منا الواحد تلو الآخر. وتكون الكارثة حاصلة لا محالة إن هو وجد أن نسخ أحدنا للدرس غير دقيق، كأن يكون قد تخطى بعض الكلمات أو تجاوز بعض الأسطر في محاولة من بعضنا للتحايل على المدرس عن قصد، أو كخطأ غير مقصود من بعضنا الآخر، عندها كان المعلم يطلب في العادة من ذلك الطالب إعادة الكرة من جديد، وربما يثقل كاهله بعدد أكبر من النسخ، بعد أن يكون قد أذاقه من ويلات عصاه التي كانت تترنح في يده مسلطة على من زاغ عن أمره، فيذيقنا منها ما هو أقرب إلى عذاب السعير، ويكأنها منسأة سليمان مسلطة على الشياطين اللذين كانوا يزيغون عن أمره.
السؤال: لماذا نسمي تلك الكتابات التي رقمناها بخط أيدينا نسخا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن السبب في ذلك ربما يعود لأنها محاكاة للنص الأصلي.
السؤال: ما وجه الشبة بين النص الأصلي ونسخته؟
جواب: كلاهما يحتوي على النص نفسه
السؤال: ما وجه الاختلاف بين النص الأصلي والنسخة منه؟
جواب: الآلية، ففي حين أن النص الأصلي مكتوب طباعة، فإن النسخة منه مرقومة بخط اليد.
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن النسخة هي محاكاة (أو تقليد متقن) للنص الأصلي
السؤال: ما الشرط اللازم توافره ليكون النص المكتوب بخط اليد نسخة للنص الأصلي المطبوع طباعة؟
جواب: أن لا يضيع منه شيء.
نتيجة مفتراة: عندما يكون هناك نصان أحدهما أصلي والثاني تقليد له، فإن هذا التقليد هو نسخة للأصل. وليس أدل على ذلك – برأينا – مما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
لو تدبرنا هذه الآية الكريمة، لوجدنا أن هناك الألواح وهي التي كتبت لموسى بأمر إلهي مباشر:
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
وهي التي عاد بها موسى يحملها بيديه بعد لقاءه ربه في المرة الثانية في الواد المقدس، وهي نفسها التي ألقها على الأرض لحظة وصوله قومه بعد أن رجع غضبان أسفا:
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
وهناك (في قومه) حصل النسخ لتلك الألواح بعد أن سكت عن موسى الغضب:
وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
السؤال: كيف حصل ذلك؟
جواب مفترى: نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأن الألواح قد كتبت لموسى بأمر مباشر من ربه، ونحن نؤمن بأن الذين قاموا بالكتابة الفعلية للألواح هم جنود ربك. لذا نحن نتخيل (ربما مخطئين) بأن الألواح قد كتبت بلغة الوحي، أي اللغة الإلهية، كما في قوله تعالى:
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
لذا، كانت الألواح مكتوبة بلغة الرمز التي لا يفهمها إلا الرسل الذين جاءهم الوحي من الله. (انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة، وكذلك سلسلة مقالات لماذا قدم نبي الله لوط بناته خاصة الجزء العاشر والحادي عشر منها)
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: رجع موسى من لقاءه ربه في الواد المقدس إلى قومه يحمل الألواح المكتوبة بلغة الوحي، فما كان قوم موسى سيستطيعون فهم تلك اللغة لو أن موسى أعطاهم تلك الألواح فقط. فكان لابد لموسى أن يفصل ما جاء في تلك الألواح (أي يترجمها) بلغة قومه، وذلك لأن كل رسول جاء بلسان قومه:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
وكانت مهمة كل رسول أن يبيّن لقومه ما أنزل إليهم من ربهم، فكان يفعل ذلك بما آتاه الله من الذكر:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
ولما كان الرسول يعلم الطريقة التي يستطيع بها تبيان ذلك لقومه، كان يملك الحكم:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
والحكم هو – برأينا- معرفة الطريقة التي أحكمت بها آيات الكتاب قبل أن تفصل:
الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
فالرسول هو الشخص القادر على فهم اللغة التي أحكمت بها آيات الكتاب، وتبلورت مهمته في تبيان تلك الآيات بتفصيلها بلسان قومه:
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)
السؤال: ما علاقة هذا بالنسخ؟
رأينا: لما رجع موسى يحمل الألواح التي كتبت له، كان من الواجب استصدار نسخة بشرية من النسخة الأم المكتوبة بلغة الإله نفسه (أي بلغة الوحي). وهنا عمد موسى إلى نسخ الألواح، فكان هناك نسخة منها:
وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
فكانت التوراة – نحن نفتري الظن- هي النسخة البشرية من الألواح. فكتبت التوراة بلسان قوم موسى.
نتيجة مهمة جدا جدا: النسخة هي تقليد محكم للأصل.
ولا شك عندنا أن عملية النسخ هي عملية متفاوتة، محكومة بقدرة الشخص الذي يقوم بفعل النسخ. فلو حاولنا أن ننسخ القرآن (الذي هو أصلا عربي) إلى اللغة الإنجليزية أو الفرنسية مثلا، فإننا نستطيع أن نستصدر منه نسخة إنجليزية، وأخرى فرنسية. ولكن هذه النسخة لن تكون مطابقة تماما للأصل لأن العملية تضبط بقدرة الشخص على النسخ (أي تحويلها من اللغة الأصلية إلى اللغة الأخرى) دون تفريط. فلا ينقص منها شيء ولا يزاد فيها شيء. وهذه لا شك مهمة صعبة جدا جدا، لأنها بالنهاية هي إنتاج بشري قبل للتشويه.
السؤال: لماذا؟
رأينا: نحن نظن أنه من أجل أن تخرج النسخة الجديدة محكمة كإحكام الأصل، فلابد من توافر الحكم، أي الشيفرة اللازمة لتحويله فيكون لفظه دقيقا، كما لابد من توافر الذكر، حتى يكون معناه تاما لا يشوبه النقص أو الزيادة. فيتطابق اللفظ مع المعنى. ويتطابق المعنى مع اللفظ. ولا يكون هناك تهافت بين الاثنين.
السؤال: كيف يحصل ذلك في حالة الرسل؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لما كان الرسول قد أنزل إليه الذكر، فهو لن يحرف المعنى، فلا يفتري على الله الكذب بالزيادة أو النقص، ولما كان الرسول قد أوتي الحكم، فإنه لن يبدل اللفظ. فيستخدم الألفاظ الصحيحة التي توصل المعاني الحقيقية.
السؤال: ما فائدة ذلك؟
جواب مفترى: لما كانت كلمات الكتاب محددة، فالقرآن الكريم عبارة عن آيات محددة بكلمات واضحة، لذا فهي محددة في اللفظ، وهي جميعها متواجدة في صفحات المصحف الذي بين أيدينا، وبالتالي فهي محدودة. أليس كذلك؟
السؤال: إذا كانت كلمات القرآن محددة بعدد ثابت، فكيف سنفهم ما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
إن النتيجة التي نحاول تبيانها هي التناقض الظاهري التالي: كلمات الكتاب (وكلمات القرآن) محددة في العدد، لكن كلمات الله لا تنفذ. فكيف يكون ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الطريقة التي نسخ بها القرآن (عن الكتاب الذي أحكمت آياته) هي ما يجعل كلمات الله لا تنفد.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا: نحن نفتري القول أن كلمات القرآن المحددة بعددها قد نسخت بطريقة محكمة تجعل كلمات الله لا تنفذ، بسبب نشأت العلاقة بين مفردات وآيات القرآن بعضها ببعض. فبالرغم أن الآيات والمفردات محددة إلا أن ربط هذه الآيات يبعضها البعض هي عملية لا تنتهي. فكلما ربطت بعض الآيات يبعضها الآخر، تولد لديك من الذكر ما لم يكن بالحسبان. فآيات ومفردات القرآن الكريمة قد ربطت مع بعضها البعض بنفس آلية بناء بيت العنكبوت الذي تتشابك خيوطه وتتقاطع بصورة عجيبة، وهذا يقودنا إلى الافترائين المهمين التاليين:
- لفظ الكتاب محدد بالحكم
- معاني القرآن لا تنفد بالذكر
فالله هو من يؤتي بعض عباده الحكم والعلم، فيكونوا بذلك قادرين على فهم مفرداته. ولكن الرسل هم من ينزل الله عليهم الذكر لتبيان كل ما أنل إلى الناس من ربهم، فيكتمل بذلك الدين:
... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)
فالدين يكتمل باكتمال اللفظ والمعنى معا. فليس هناك زيادة في اللفظ أو نقصان فيه (وهذا هو برأينا سر الحكم)، وليس هناك تحريف في المعنى (وهذا هو برأينا سر الذكر).
السؤال: ما علاقة هذا بنسخ الآيات؟
رأينا: لا شك أن الكتاب هو عبارة عن آيات، ولا شك أن القرآن هو آيات كذلك:
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
ولا شك أن آيات الكتاب هي نفسها آيات القرآن المبين:
الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1)
ولكن في حين أن آيات الكتاب محكمة باللفظ الإلهي، فإن آيات القرآن محكمة باللفظ البشري، ولكن بالرغم من ذلك، فهما متطابقان تماما، فلا زيادة ولا نقصان، وهذا يقودنا إلى الافتراء الخطير جدا التالي الذي نحاول جاهدين الوصول إليه:
الافتراء: القرآن هو نسخة للكتاب. انتهى.
وهذا يقودنا إلى تقديم الافتراءات التالية:
- الكتاب محكم باللفظ الإلهي، لذا فهو قول الله
- القرآن محكم باللفظ بالبشري، لذا فهو قول محمد
- القرآن هو النسخة البشرية للقول الإلهي
- تم نسخة فأحكم لفظه (بالحكم)
- تم نسخة فما حرفت معانيه (بالذكر)
- جاء التطابق التام بينهما، بالموافقة الإلهية على ذلك، فما تقول الرسول على الله شيء من عنده
- الخ
نتيجة مفتراة: الآيات قابلة للنسخ (أي التحويل من شكل إلى آخر، بشرط الدقة المتناهية في استخدام اللفظ وعدم تحريف المعنى).
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
السؤال: إذا كان من الممكن أن يتم نسخ الآيات المتلوة، فيتم تحويلها من لغة إلى لغة أخرى، وتكون النتيجة الإحكام في الحالتين. فكيف يتم نسخ الآيات المرئية كعصا موسى وكناقة صالح أو كسفينة نوح أو حتى كعيسى بن مريم؟
رأينا: نحن نفتري القول بأننا قد وصلنا إلى المحطة الأكثر خطورة على الإطلاق. فنحن نظن أن بإمكاننا تقديم الافتراءات الخطيرة التالية التي سنحاول الدفاع عنها تباعا:
1. هناك ترابط بين آيات الكتاب المتلوة وآيات الله المرئية
2. نحن نظن أن تقابل تطابقي (1=1) بينهما
3. نحن نظن أن آيات الكتاب المتلوة يمكن أن تنسخ
4. نحن نظن أن الآيات المرئية يمكن أن تنسخ كذلك
5. نحن نظن أن الآيات كلها يمكن أن تنسى
6. نحن نظن أن الآيات المنسوخة قد تم الإتيان بمثلها أو بخير منها
7. نحن نظن أن عدد الآيات ثابت لا يتغير حتى لو نسخت أو نسيت، لأن الإتيان بخير منها أو مثلها هو سنة الله الكونية
8. نحن نظن أن الله هو القادر على نسخ تلك الآيات بالصورة التي يريدها، فذلك لا يعجز من هو على كل شيء قدير
9. الخ.
تساؤلات:
- كيف يمكن فهم ذلك نظريا؟
- كيف يمكن تطبيق ذلك عمليا؟
- ما الفائدة المرجوة من ذلك؟
- ما علاقة هذا كله بقصة فرعون التي نحن بصدد الحديث عنها؟
- إلى أين يمكن أن يصل بنا النقاش في نهاية المطاف؟
- الخ.
هذا هو جدول أعمالنا في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيق منه. فالله وحده أدعوه أن يأذن لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري أنه هو العلي العظيم – آمين.
المدكرون: رشيد الجراح و علي محمود سالم الشرمان و المهندس يزن علي سليم الجراح
بقلم: د. رشيد الجراح
23 آذار 2016