قصة يونس - الجزء العشرون
قصة يونس – الجزء العشرون
ينقسم هذا الجزء الجديد من المقالة في بابين رئيسيين: حيث نحاول في الباب الأول تقديم الدليل على افترائنا الذي حاولنا تسويقه في الجزء السابق والذي مفاده أن آل فرعون كانوا يسكنون في صروح في جو السماء فوق بني إسرائيل الذين كانوا يسكنون الأرض في مصر حينئذ. وقد قدمنا افتراءنا هذا بناء على فهمنا للآيتين التاليتين بعد ربطهما معا:
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
أما في الباب الثاني، فسنحاول بحول الله وتوفيق منه أن نجد الدليل لتحديد المكان الذي وصله فرعون بعد أن بلغ الأسباب ومنه اطلع إلى إله موسى، حيث رأى آيات الله كلها بأم عينه:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
(دعاء: فالله وحده أسأل أن ينفذ قوله بمشيئته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو السميع البصير _ آمين)
الباب الأول: آل فرعون يسكنون فوق بني إسرائيل
حاولنا في الجزء السابق من هذه المقالة تمرير افتراء هو – لا شك- من عند أنفسنا مفاده أن آل فرعون كانوا فعلا يسكنون في الصروح التي نظن أنها كانت منتشرة في سماء مصر، بينما كان بنو إسرائيل يسكنون الأرض:
وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
جاعلين بيوتهم قبلة:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
فكان في هذا (نحن نظن) تبيان لقول فرعون بأنهم فوق بني إسرائيل، هم لهم قاهرين، وهو قول فرعون في ملئه الذين حثوه على أن لا يذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض حسب زعمهم:
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
ونحن نعتقد أن بإمكاننا تقديم دليلين اثنين (نحن نظن) أنهما ربما يؤيدان هذا النوع من التفكير (ربما المغلوط) الذي نحاول تسويقه، والدليلان هما:
1. مفردة التابوت التي جاءت في الآية الكريمة التالية
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
2. مفردة الالتقاط التي جاءت في الآية الكريمة التالية:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
السؤال: كيف يكون ذلك؟
بداية، نحن نعلم أن الأمر الإلهي قد جاء وحيا لأم موسى بأن تلقي رضيعها في اليم:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
وقد كان جزءا من ذلك الوحي أن تقذفه في التابوت:
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
لتكون التساؤلات المطروحة الآن هي:
- ما الحاجة إلى وجود التابوت؟
- ألم يكن بالإمكان أن تلقي أم موسى برضيعها باليم وكفى (إن كان الأمر أصلا يتعلق بالمعجزات كما يروج عادة لهذه الأمور سادتنا العلماء أهل الدراية)؟
- ومن أين جاء ذلك التابوت؟
- وكيف وصل إليها ذلك التابوت؟
- كيف قذفته في التابوت؟
- كيف قذفته في اليم؟
- ما قصة التابوت أصلا؟
- الخ.
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن بأن التابوت قد وصل إلى أم موسى بنفس الطريقة التي وصل بها إلى غيرها. فالتابوت قد وصل مرة أخرى إلى طالوت كآية ملك له كما جاء على لسان نبي من أنبياء بني إسرائيل في حديثه إليهم:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
ولو دققنا بقصة ذاك التابوت، لوجدنا بأن من أهم مواصفته هو وجود السكينة فيه (أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ)، أليس كذلك؟
(للتفصيل انظر مقالتنا ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته)
ولو دققنا في لفظ السكينة على مساحة اللفظ القرآني لوجدنا أن مصدرها إلهي، لذا فهي تأتي بطريقة الإنزال من الله:
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
لتكون النتيجة المفتراة من عند أنفسنا الآن على النحو التالي: عندما تأتي السكينة فإنها تأتي بطريقة الإنزال من السماء.
السؤال: ما علاقة هذا بقصة التابوت؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن السكينة قد جاءت هذه المرة في التابوت (أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ)، لذا كان لابد من وجود من يحمل التابوت من الأعلى (السماء) لينزل به إلى الأرض، فكانت الملائكة هي من تحمله. انظر الآية الكريمة مرة أخرى:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
فكان في ذلك آية (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ)، ليكون الافتراء الأكبر الذي نحاول طرحه هنا هو ضرورة وجود من يحمل ذاك التابوت، ألا وهم الملائكة (تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ).
السؤال المحوري: كيف جاء الوحي إلى أم موسى؟ هل كانت أم موسى من الرسل اللذين يُوحى إليهم؟ أم هل جاءها الوحي من الله عن طريق رسول من ربها كما حصل مع مريم مثلا؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا. فالنص القرآني لا يذكر وصول رسول يخاطب أم موسى بما تفعل. وجل ما حصل هو حدوث وحي جماعي (أي بصيغة الجمع: أَوْحَيْنَا) لأم موسى بأن تقذف وليدها في التابوت. انظر السياقات القرآنية كلها التي تتحدث عن الوحي لأم موسى:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
السؤال مرة أخرى: كيف إذن حصل الوحي (إِذْ أَوْحَيْنَا) لأم موسى بأن تقذف رضيعها في التابوت فتقذفه بعد ذلك باليم؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: يبلغ موسى سن الفطام، يصبح الخوف مسيطرا على أم موسى بأن وليدها لم يعد بالإمكان التستر عليه أكثر من ذلك، فهو لا شك سيخرج من البيت، فينكشف أمره، فما الذي يمكن لها أن تفعله حتى تنجو به من آل فرعون اللذين لا شك لازالوا على عادة تقتيل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم في أرض مصر:
وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
تبقى أم موسى شاردة التفكير فيما يجب عليها فعله فترة طويلة من الزمن تحاول إيجاد المخرج من هذا المأزق الكبير الذي لا شك شغل تفكيرها أكثر من أي شيء آخر، لكنها (كامرأة مؤمنة) لا تنسى لحظة واحدة أن الله لا شك سيهديها صراطه المستقيم، وأن الله هو وحده القادر أن يخرجها مما هي فيه من الغم. وبالفعل ما أن يوشك الطفل على الفطام حتى يأتيها الوحي الإلهي بالطريقة المفتراة من عند أنفسنا التالية: ما أن تكون أم موسى في فناء بيتها حتى ينزل ذلك التابوت الذي فيه السكينة تحمله الملائكة فجأة (إِذْ أَوْحَيْنَا)، فينزل التابوت ويكأنه محمول بقوى خفية، فتدرك على الفور أن هذه هي نجدة أهل السماء للمستضعفين من أهل الأرض، فيكون في ذلك وحي لها بأن هذا التابوت هو مصمم خصيصا لموسى حتى تضعه أمه فيه.
الدليل
نحن نظن بأن الطفل عادة ما ينشأ في المهد، وليس أدل على ذلك من مهد عيسى عليه السلام، فأمه جاءت به قومها تحمله:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ...
وعندما تساءل القوم عن ما تحمله:
... قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
أشارت إليه ليتخاطبوا معه:
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ...
فجاء استغرابهم من كيفية تكليمهم لمن كان في المهد صبيا:
... قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
نتيجة مفتراة: المهد هو المكان الذي يتواجد فيه الصبي.
السؤال المهم: لماذا لم تضع أم موسى طفلها في المهد ثم تلقي به في اليم؟
جواب مفترى: نحن نظن أن المهد هو ما يمكن لشخص واحد أن يحمله، فأنا أعتقد أن مريم (أم عيسى) قد جاءت قومها تحمل طفلها في المهد، لذا كانت قادرة على التعامل معه بنفسها.
أما في حالة موسى، فإن التابوت لم يكن ليقوى شخص واحد على التعامل معه بمفرده، وذلك لأن التابوت من الحجم لدرجة أن اللذين يحملونه هم مجموعة من الملائكة، فلقد أتى التابوت بني إسرائيل في زمن طالوت تحمله الملائكة:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
الدليل
نحن نظن أننا نجد الدليل على افترائنا هذا الذي مفاده أن التابوت هو صندوق كبير في الحجم في الآية الكريمة نفسها التي تتحدث عن الوحي الإلهي لأم موسى، قال تعالى:
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
إن المتدبر لهذه الآيات الكريمة يدرك على الفور بأن عملية إدخال أم موسى لطفلها في التابوت ومن ثم عملية إدخال التابوت في اليم قد جاءت باستخدام فعل واحد وهو "اقْذِفِيهِ". فأم موسى قامت بقذف طفلها في التابوت، ومن ثم قامت بقذف التابوت الذي قذفت فيه طفلها في اليم، أليس كذلك؟
السؤال: كيف يمكن أن نتصور كيف تمت عملية القذف هذه؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الآيات الكريمة التالية تصور لنا المشهد أحسن تصوير، قال تعالى:
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8)
لتكون الصورة على النحو التالي: تتم عملية القذف بإلقاء شيء من مكان ما بهدف وصوله إلى مكان آخر، فعلى سبيل المثال تتم عملية قذف اللذين يسمعون إلى الملأ وذلك عندما يرجمون بالشهاب. انظر الآيات الكريمة السابقة في سياقها القرآني الأوسع:
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
وتتراوح المسافة بين نقطة الانطلاق (أي المصدر) في عملية القذف ونقطة النهاية (أي الهدف) حتى قد تصل أن تكون من مكان بعيد:
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (53)
السؤال: كيف إذن قذفت أم موسى طفلها في التابوت؟ وكيف قذفت التابوت (الذي قذفت فيه أبنها) في اليم؟
تخيلات مفتراة: لما كانت الملائكة هي من تحمل التابوت، كان التابوت يتحرك بقوى خفيه، فما كان من أم موسى إلى أن تقذف ابنها في التابوت، فتمت عملية القذف في هذه المرحلة من مكان قريب (أي داخل فناء البيت)، فتمت عملية القذف في هذه الحالة من مكان قريب، ثم عمدت بعد ذلك أن قذفت بالتابوت من فناء بيتها (المصدر) في اليم (الهدف)، فتمت عملية القذف في هذه الحالة من مكان بعيد. وهذا الظن يدعونا إلى أن أم موسى قد فعلت ذلك كله وهي في بيتها، فأنا لا أتخيل بأن أم موسى قد خرجت من بيتها عندما قذفت بالتابوت في اليم، لأنه لو حصل ذلك لما غفلت أعين آل فرعون عنها، وربما ما غفلت أعين جنود فرعون وهامان عن ذلك، ولربما تم اكتشاف المصدر الذي جاء منه الطفل (الذي وجدوه في اليم) منذ اللحظة الأولى. فعودة موسى إلى أمه لم تكن لتخفى على آل فرعون اللذين ربما كانوا سيتمكنون من إتباع الأثر واكتشاف المكر الإلهي منذ بدايته.
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
السؤال: كيف انتهى الأمر بالطفل في يد آل فرعون؟ لِم لم يعثر عليه آخرون؟ لم لم يعثر عليه نفر آخر من بني إسرائيل مثلا؟ ألم يكن ذلك وارد في حسبان أم موسى؟ ماذا لو انتهى الطفل فعلا بيد بعض بني إسرائيل حينها هل كانت التدبير الذي في ذهن أم موسى حينئذ سينجح؟
السؤال: لماذا تم الوحي الإلهي لأم موسى بأن تقذف رضيعها في اليم؟ لم لم تضعه على الشاطئ أو على اليابسة؟ ألم يكن ذلك فيه سلامة أكبر للطفل؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الوحي الإلهي قد جاء لأم موسى بأن تقذف رضيعها في اليم حتى لا يقع في يد نفر من بني إسرائيل فتفشل الخطة برمتها.
السؤال: كيف علمت أم موسى أن في قذفها لرضيعها في اليم إحكام للخطة؟ أي كيف علمت أن الطفل سينتهي بيد عدو الله وعدوه كما جاء بالوحي الإلهي لها كما تبينه الآية الكريمة التالية؟
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
جواب مفترى: نحن نظن أن أم موسى قد قذفت برضيعها في اليم وذلك لعلمها بالحقيقة التي تصورها الآيات الكريمة التالية:
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
فالأنهار تجري من تحت فرعون (وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي) وهي جميعا تقع تحت بصر آله ( أَفَلَا تُبْصِرُونَ). لذا لم يكن آخرون (كبني إسرائيل مثلا) يستطيعون الوصول إلى التابوت الذي قذفته أم موسى في اليم دون أن يبصر ذلك آل فرعون. فالخطة الإلهية (نحن نؤمن) قد أحكمت لتتم كما أرادها الله، وهي أن يأخذ موسى عدو الله وعدوه:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
لكن السؤال الذي يجب أن يطرح الآن هو: كيف تمت عملية أخذ موسى من قبل فرعون (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ)؟ هل فرعون هو من وجد موسى بنفسه فأخذه؟ هل فرعون هو من أخرج الطفل من اليم بنفسه؟
جواب مفترى: نحن نفتري القول بأن الآية الكريمة التالية تجيب على هذا التساؤل:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
لنخرج منها بالاستنباطات المفتراة التالية:
- كان آل فرعون هم من التقطوا الطفل من اليم
- تمت العملية بطريقة الالتقاط
- كانت نتيجة هذه العملية أن يكون هذا الطفل عدوا وحزنا لآل فرعون
- كان فرعون وهامان وجنودهما خاطئين
- الخ.
السؤال: كيف يمكن تجميع هذه الافتراءات مع بعضها البعض في سياق هذه القصة العظيمة؟
جواب مفترى: أولا، لما كان آل فرعون هم من التقطوا هذا الطفل، لم يكن بمقدور أحد منهم (بشخصه) أن يدعي أنه هو من فعل ذلك، فالتقاط الطفل تم بعملية جماعية (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ)، أليس كذلك؟
ثانيا، لما كان هذا الطفل سيكون عدو وحزنا لهم (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، فأن أمره – لا شك- قد أشكل على القوم حتى وقعوا (نحن نظن) في حيرة من أمرهم. فلا أخال أن الأمر لم يحدث بينهم هرجا كبيرا. فلعلي أتخيل مقدار الجلبة التي أحدثها العثور على هذا الغلام بهذه الطريقة غير العادية وفي هذا التوقيت بالذات.
ثالثا، لما كان فرعون وهامان وجنودهما خاطئين (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)، فإن خبر التقاط هذا الطفل من اليم (نحن نفتري القول) قد وصل إليهم جميعا، فحاولوا البحث عن المصدر الذي جاء منه هذا الطفل، ونحن نتخيلهم وقد وضعوا جميع الافتراضات والاحتمالات التي تكون قد خطرت على بالهم حينئذ، لكنهم انتهوا جميعا بأن يكونوا خاطئين (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ).
السؤال: لماذا؟ لماذا لم يتمكن فرعون وهامان وجنودهما من معرفة مصدر هذا الطفل؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن من الأسباب التي كان لها علاقة بالأمر هي عمليات القذف والالتقاط التي حصلت للطفل.
السؤال: كيف يكون ذلك؟
رأينا المفترى 1: لما كانت أم موسى قد قذفت التابوت في اليم، لذا نحن نتخيل بأنها قد دفعت بالتابوت من بيتها ويكأنه "قذيفة" باتجاه اليم، فتوجهت الملائكة التي تحمل التابوت به إلى اليم حيث استقر هناك. لذا أصبح من المتعذر على الجنود أن يقصوا أثره، فما استطاعوا أن يحددوا المكان الذي جاء منه التابوت. ولو كانت أم موسى هي من خرجت من بيتها بذلك التابوت لتقذفه في اليم (كما صورت لنا القصة في كتب التراث) لربما سهل على جنود فرعون وهامان أن يقصوا أثره. فقص الأثر كان شائعا ي ذلك الزمن، وليس أدل على ذلك من أن أم موسى نفسها قد طلبت من أخته بعد فترة من الزمن أن تقصه:
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
وها هو موسى نفسه يرتد مع فتاه على آثارهما قصصا:
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
لتكون النتيجة التي نحاول تسويقها على النحو التالي: مادام أن أم موسى قد أرسلت بالتابوت الذي قذفت فيه رضيعها إلى اليم بطريقة القذف، فهي إذن لم تخرج من بيتها، وإنما جل ما فعلت هو (نحن نتخيل) دفع التابوت من فناء بيتها باتجاه اليم كـ "القذيفة".
نتيجة مفتراة مهمة جدا: موسى أرسل إلى اليم بطريقة القذف
رأينا المفترى 2: لما كان آل فرعون – بالمقابل- هم من التقطوا موسى من اليم، فإن العملية قد تمت هنا أيضا بطريقة محددة. لذا وجب البحث عنها بكل دقة ممكنة حتى نستطيع أن نتخيل المشهد كما حصل فعلا على أرض الواقع. ليكون السؤال المطروح الآن هو: كيف تمت عملية التقاط آل فرعون لموسى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) من اليم؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الإجابة ممكنة شريطة فهم ماهية الفعل نفسه، أي الفعل "فَالْتَقَطَهُ" الذي جاء في الآية الكريمة نفسها:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
السؤال: كيف تتم عملية الالتقاط؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن عملية الالتقاط يجب أن تتم من الأعلى. انتهى.
تخيلات مفتراة: لما كنا نظن أن آل فرعون كانوا يسكنون الصروح المتناثرة في سماء مصر فوق بني إسرائيل اللذين كانوا يسكنون الأرض، استطاع آل فرعون أن يروا بأم أعينهم ذلك التابوت في اليم، ولم يكن ليتجرأ احد ممن يسكنون الأرض حينئذ (وهم بنو إسرائيل) أن يقترب من التابوت ليأخذه دون بصر آل فرعون، فهم اللذين يبصرون الأنهار التي تجري من تحت فرعون:
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
السؤال: كيف إذن سيتم أخذ فرعون لهذا الطفل كما جاء بالوعد الإلهي لأم موسى من قبل؟
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ... (39)
جواب مفترى: نحن نتخيل الأمر على النحو التالي: ما أن أبصر آل فرعون تلك الأنهار التي تجري من تحت فرعون حتى رأوا التابوت في اليم، فما كان منهم إلا أن أدلوا بدلوهم، أي ما يشبه الحبل، ليربطوا به التابوت، ثم ليرفعوه إلى الأعلى حيث صروحهم.
السؤال القوي: وأين الدليل على هذا الخيال المزيف؟ يسأل صاحبنا مستغربا.
جواب مفترى: نحن نظن أن الإجابة تكمن في الآية الكريمة التالية (كما نفهمها بالطبع)، وهي الآية التي تصور لنا أحسن تصوير عملية التقاط السيارة ليوسف المتواجد في غيابة الجب:
قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
السؤال الآن: كيف تتخيل - عزيزي القارئ- عملية التقاط يوسف من داخل غيابة الجب قد تمت على يد بعض السيارة؟
رأينا المفترى: لاحظ عزيزي القارئ التقاطعات التالية بين الحادثتين:
- أن الملتقط هو في الحالتين نبي كريم، فيوسف هو من التقطه بعض السيارة وموسى هو من التقطه آل فرعون
- أن الكيد الإلهي كان حاضرا في الحالتين، فالله هو من دبر الأمر في الحالتين
- أن عنصر الماء متوافر في الحالتين، فيوسف في غيابة الجب وموسى في اليم
- أن عملية الاستخراج قد تمت بفعل الالتقاط في الحالتين
- الخ
(للتفصيل حول التقاطعات في قصة يوسف وموسى، انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان قصة يوسف ثم قصة موسى)
نتيجة مفتراة: نحن نتصور عملية التقاط آل فرعون لموسى من اليم وقد تمت بنفس آلية التقاط يوسف من غيابة الجب، فكما أدلى وارد السيارة دلوه، أدلى بعض آل فرعون ما يشبه الحبل. وما أن تعلق يوسف بحبل الدلو حتى أعان القوم واردهم في رفع الغلام من غيابة الجب، فكان ذلك هو الالتقاط (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ). ونحن نتصور المشهد قد حصل بنفس الآلية في حالة موسى، فما أن رأى آل فرعون التابوت في اليم حتى التقطوه، بأن أدلوا إليه ما يشبه الحبل، وما أن علق التابوت بتلك الحبال حتى رفعوه إليهم في صروحهم، فكان ذلك هو الالتقاط (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ).
السؤال: ما الذي تم بعد ذلك؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: ما أن تم رفع التابوت (التقاطا) إلى صروح آل فرعون حتى نظر (نحن لازلنا نتخيل) بعضهم فيه، فكانت البشرى غير السارة لهم: وجود غلام في التابوت، فما صاح أحدهم بالبشرى كما حصل في حالة يوسف:
وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
بل - على العكس- كان هذا الغلام المتواجد في التابوت عدوا وحزنا لهم:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
السؤال: لماذا؟ أي لماذا لم يكن العثور على غلام في التابوت ليسبب البشرى لآل فرعون؟
جواب مفترى: لأن الأمر سيشكل لهم حرجا كبيرا أمام فرعون نفسه.
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب مفترى: لا شك أن من الأمور التي لا تهاون فيها في زمن ذلك الفرعون هو التأكد من هوية كل طفل، لأن فرعون هذا لا شك قد عمد إلى تذبيح أبناء بني إسرائيل بنفسه:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
ومادام أن هذا الغلام قد التقط من الماء، فلا يمكن استبعاد أن يكون واحدا من أبناء بني إسرائيل الذي لا شك سيذبحه فرعون بيده. فلا مجال للمهادنة في هذا. فما الذي سيفعله آل فرعون على الفور؟
جواب مفترى: لم يكن ليتجرأ (نحن نتخيل) أحد من آل فرعون على التكتم على الخبر (أي العثور على غلام مجهول الهوية في التابوت الذي تم التقاطه من اليم)، لذا كان لابد من نقل الخبر مباشرة إلى فرعون، لينظر بنفسه فيه.
السؤال: ما الذي حصل عندما وصل الخبر إلى فرعون نفسه؟
تخيلات مفتراة: نحن نتخيل بأنه ما أن وصل خبر الغلام في التابوت إلى فرعون حتى حضر الجند جميعا على الفور، فما كان من فرعون إلا أن يصدر أوامره بتحري أصول هذا الطفل المتواجد في التابوت، وانظر إن شئت – عزيزي القارئ - كيف أن ذكر الجنود قد جاء بصريح اللفظ في الآية الكريمة نفسها التي تتحدث عن التقاط الطفل في التابوت:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
ليكون المشهد الآن (كما نتخيله) على النحو التالي: يحضر فرعون وجنوده كما يحضر هامان وجنوده، وتبدأ عملية "كوجاك" الشهيرة في التحري عن أصول هذا الطفل، وهنا يحاول الجميع تحري الخبر بطريقته، فلا شك أن الجنود قد فتشوا البيوت محاولين أن يقصوا أثره، ولا شك أن المحققين قد رصدوا كل التحركات التي تمت على اليم في ذلك اليوم وفي تلك الليلة، ولا شك أن مخابر تحليل الحمض النووي قد اشتغلت بكامل طاقتها، الخ. لكن ماذا كانت النتيجة؟
جواب: لقد كان فرعون وهامان وجنودهما جميعا خاطئين:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
ولو فتشنا عن مفردة "خَاطِئِينَ" على مساحة النص القرآني لما وجدنا قد وردت إلا في سياق الحديث عن إخوة يوسف:
قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
لتكون النتيجة التي نحاول الوصول إليها الآن هي أن من كانوا خاطئين هم اللذين أخطئوا التقدير، فجاء ظنهم في باب الحسبة وليس التقدير. فهم اللذين يحسبون (فيخطئون) بينما الله هو الذي يقدر (فلا مجال للخطأ).
السؤال: لماذا أخطأ فرعون وهامان وجنودهما؟
جواب مفترى: نحن نظن أن السبب في ذلك ربما يرجع إلى حقيقة أن الغلام قد وجده في الماء، فهو ليس من سكان الأرض كحال بني إسرائيل وهو ليس من سكان كبد السماء (كحال آل فرعون)، ولكنه من سكان ما بينهما (أي الماء). فكيف سيستطيع فرعون وهامان وجنودهما تحديد هويته؟
جواب: لقد اتفق الجميع على أن هذا الطفل هو "موسى" أي طفل الماء (مو) واليابسة (سى)، أي الطفل البرمائي، الذي يصعب تحديد هويته. فلم يتخذوا له اسما كأسماء آل فرعون أو اسما كأسماء بني إسرائيل التقليدية.
لكن حتى يتحقق فرعون من جميع الأمور بنفسه، كان لابد من الإجراء التالي: حشر الجميع ليشهدوا بأم أعينهم ما سيفعله فرعون بنفسه بهذا الطفل.
السؤال: هل فعلا حشر فرعون الجميع في مشهد يحضره بنو إسرائيل وآل فرعون ليشهدوا ما سيفعله فرعون بهذا الطفل؟
جواب مفترى: دعنا نتخيل أن ذلك قد حصل فعلا لنرى ما يمكن أن تؤول إليه الأمور بعد ذلك.
السؤال: وأين الدليل على ذلك (إن صح ما تزعم)؟ يسأل صاحبنا.
جواب مفترى: نحن نظن أن الدليل يمكن أن نجده في الآية الكريمة التالية (كما نفهمها بالطبع):
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
التساؤلات:
- كيف كادت أم موسى لتبدي به؟
- ألم يأتيها وحي إلهي بما فعلت من قبل؟
- ما الذي يجبرها لتبدي به بعد هذا الوحي الإلهي لها؟
- ألم تكن امرأة مؤمنة تثق بوحي ربها؟
- لم إذن فعلت ما فعلت إن لم تكن قادرة على التحمل أصلا؟
- ومتى كادت فعلا أن تبدي به؟
- الخ.
افتراء 1: نحن نظن بأن ذلك حصل من قبل أم موسى في الصبح (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا)، أي في صبيحة اليوم التالي لقذفه في اليم.
السؤال: لماذا في الصبح؟ لِم لم يفرغ فؤادها قبل ذلك؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن هذا حصل في الصبح لأن فرعون قد حشر الناس في الضحى كعادته:
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
في تلك اللحظة الرهيبة التي حشر الناس فيها لفرعون ضحىً، خرج فرعون مخاطبا لهم جميعا، فأخبرهم بأمر هذا الطفل (موسى) الذي التقطه آل فرعون من اليم، طالبا في الوقت ذاته أن يخرج من بينهم من يستطيع تحديد هوية هذا الطفل. ولا أكاد استطيع أن أتخيل ذلك قد حصل دون تهديد واضح من فرعون بقتل الطفل إن لم يخرج من بين الحشد من يعترف له بنسب الطفل. ونحن نتخيل فرعون في هذا المشهد مخاطبا الناس جميعا يقول:
آل فرعون المبجلون، بني إسرائيل المستعبدون، اسمعوا جيدا ما أقوله لكم اليوم، فالأمر جد خطير، لقد التقط آل فرعون في الأمس هذا الطفل من التابوت، وقد تحرك الجند على الفور للبحث عن أهله وتحديد هويته، ولكنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى الحقيقة، لذا فأنا الآن لا محالة سأذبح هذا الطفل بيدي إن لم يخرج من بينكم من يعترف لنا بنسب هذا الطفل قبل أن أذبحه. انتهي.
نحن نتخيل الصمت الرهيب يسود المكان بعد هذا الكلام الذي قاله فرعون في الحشر، كما نستطيع أن نتخيل أنه قد حصل كله على مسمع ومرأى من أم موسى نفسها، فكيف يمكن أن تكون ردة فعل أم ترى رضيعها في مثل هذا الموقف الرهيب؟
تخيلات مفتراة: نحن نظنن أن الخوف قد وصل بها إلى حد لا يستطيع فؤادها أن يتحمله، فالمرأة الآن في مواجهة مباشرة مع الواقع: فطفلها بيد فرعون وقد تله للجبين، فما الذي ستفعله؟
جواب: في هذه اللحظة (نحن نتخيل) كادت أم موسى لتبدي به لولا التدخل الإلهي المباشر بالربط على قلبها:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
فسكتت المرأة ليس لأنها كانت قادرة على تحمل المشهد، ولكن لأنها لم تكن تستطيع أن تفعل شيئا مادام أن قلبها قد رُبط بأمر إلهي.
السؤال: ما الذي حصل في هذه اللحظة الدرامية التي هي غاية في الخطورة (وربما التشويق لمن لا يهمه الأمر)؟
جواب مفترى: دعنا ندقق في الآية الكريمة التالية:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
عندما تأكد لفرعون (نحن نتخيل) أن أحدا من بني إسرائيل لم يعترف بنسب هذا الطفل فيهم، أصبح (نحن نتخيل) أميل إلى الظن بأن هذا الطفل ليس من منهم، فلا ضير إذن من تمرير طلب زوجته الذي طلبته منه في الليلة السابقة وهو أن لا يقتلوه، ولا ضير في أن يتربى فيه. فتمت مكيدة الله بفرعون وآله، ومن هناك بدأت (نحن نفتري القول) سورة القصص العظيمة:
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
نتيجة مفتراة: هكذا (نحن نتخيل) بدا التمكين الإلهي في الأرض لبني إسرائيل (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ)، وهكذا تم الوعد الإلهية برؤية فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون (وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)، فآتاهم الله (كما أتى كل اللذين كفروا من قبلهم) من حيث لم يحتسبوا:
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
فكانت المواجهة بين التقدير الإلهي للأمر والحسبة الفرعونية له. فـ لمن تكون الغلبة؟
قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
(دعاء: أعوذ بك ربي أن أكون من اللذين يحادّونك، وأسألك وحدك أن أكون في أنصارك، لتجعل كلمةَ اللذين كفروا السفلى وكلمتُك هي العليا، وأعوذ بك أن يكون أمري كأمر فرعون، إنك كنت بي بصيرا – آمين)
الباب الثاني: فرعون يرى بأم عينه آيات الله كلها
تطرقنا في الجزء السابق من هذه المقالة على عجل لبعض ما جاء في الآيات الكريمة التالية الخاصة بآل فرعون بشكل عام وبفرعون نفسه بشكل خاص:
وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
وحاولنا تقديم الافتراءين التاليين:
- كان آل فرعون هم فقط من جاءتهم آيات الله كلها، فكذبوا بها:
وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42)
- كان فرعون هو فقط من رأى بأم عينه آيات الله كلها:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
وحاولنا طرح التساؤل الكبير جدا التالي: متى رأى فرعون نفسه آيات الله كلها؟
فظننا مفترين القول من عند أنفسنا بأن ذلك لم يحصل على يد موسى، وذلك لأن موسى كان قد قدّم لفرعون الآية الكبرى فقط:
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
وبناء على فهمنا (ربما الخاطئ لهذه الآيات الكريمة) افترينا القول من عند أنفسنا بأن رؤية فرعون للآيات كلها كانت قد حصلت عندما بلغ فرعون نفسه أسباب السموات والأرض محاولا الاطلاع إلى إله موسى. فما أن بلغ فرعون باستخدامه ذلك الصرح الذي بناه له هامان أسباب السموات والأرض حتى اطلع إلى إله موسى، فكانت النتيجة المباشرة الأولى – برأينا- أن خاب ظن فرعون بأن موسى من الكاذبين كما عبر عن ذلك لمن حوله عندما طلب من هامان أن يجعل له صرحا:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
وكانت النتيجة الثانية هي – برأينا- رؤية فرعون آيات الله كلها هناك:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
وما أن بدأت آيات الله تأتي آل فرعون الواحدة تلو الأخرى:
وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42)
حتى كانت كل آية هي أكبر من أختها:
وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
فما كان ظنهم بها أكثر من أنها تقع في باب السحر:
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
وما تزحزح فرعون عن موقفه بأن هذا يقع في باب السحر:
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
فكان فرعون هو من أضل قومه وما هدى:
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
فكانت هذه – برأينا- واحدة من أهم الفروق التي تميز فرعون (كإله غير حقيقي لا يهدي) عن الإله الحقيقي (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ) الذي لا شك هو يهدي كما جاء على لسان موسى في خطابه الأول مع فرعون. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في الحوار الأول بينهما:
فرعون: قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
موسى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
وسنحاول الآن تقديم الدليل الذي نظن أنه يدعم افتراءنا بأن فرعون هذا قد رأى بأم عينه آيات الله كلها عندما بلغ أسباب السموات والأرض:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
الدليل
نحن نظن أن الدليل يمكن أن يجلب بعد طرح التساؤل التالي: إلى أين وصل فرعون بعد أن استخدم ذلك الصرح الذي جعله له هامان؟
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
جواب مفترى: نحن نظن أن فرعون قد بلغ أسباب السموات والأرض كما جاء في الآية الكريمة التالية
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
ليكون السؤال الآن هو: أين هي تلك الأسباب؟ وبكلمات أكثر دقة نحن نسأل: أين هي أسباب السموات والأرض فعلا؟ فلو أردت أنا (أو أنت) أن نبلغ أسباب السموات والأرض (كما فعل فرعون) فأين – يا ترى- يجب أن نذهب؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: إلى الأفاق
نعم، نحن نظن أن أسباب السموات والأرض هي في أفاق السموات والأرض، فالذهاب في رحلة إلى أسباب السموات والأرض تتطلب الذهاب إلى تلك الأفاق.
الدليل
لو حاولنا تدبر الآيات الكريمة التالية التي تصور لنا (كما نفهمها) ما حصل فعلا مع صاحبنا (محمد) في تلك الليلة التي أسرى به إلى المسجد الأقصى من المسجد الحرام:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
لخرجنا بالاستنباط الخطير جدا التالي: لما كان هدف الذهاب في رحلة إلى هناك هو ليري الله نبيه من آياته (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا)، فإن محمد لم يرى إذا آيات الله كلها. أليس كذلك؟
ولو دققنا مليا بما حصل مع نبي الله موسى في الواد المقدس، لوجدنا النتيجة ذاتها: أن موسى لم يرى كذلك آيات الله كلها. واقرأ – إن شئت- قوله تعالى الخاص بموسى:
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
لكن – بالمقابل- كان فرعون قد رأى آيات الله كلها:
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
ليكون السؤال المحوري الآن هو: لماذا رأى محمد من آيات الله (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) ولماذا رأى موسى من آيات الله الكبرى (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى) بينما رأى فرعون آيات الله كلها (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا)؟
جواب مفترى من عند أنفسنا لا تصدقوه: لأن محمدا وموسى لم يصلا إلى الآفاق بينما وصل فرعون إلى الآفاق. فمن أراد أن يرى آيات الله كلها فعليه (نحن نفتري الظن) أن يصل إلى الآفاق. انتهى.
الدليل
أولا: محمد لم يبلغ الآفاق
لو تدبرنا الآيات الكريمة التالية، لربما وجدنا أن محمد لم يكن بالآفاق لأن غيره كان هناك:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
ليكون السؤال المحوري الآن هو: من الذي كان في الأفق الأعلى؟ هل هو محمد؟ أم هل هو الروح الأمين؟ أم هل هو الله نفسه؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن من كان في الأفق الأعلى هو ليس محمد، وذلك (نحن نظن) للأسباب التالية:
- لأن من كان في الأفق الأعلى هو المعلم وليس المتعلم (أي محمد)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى
- لأن الذي كان بالأفق الأعلى هو الذي كان قاب قوسين أو أدنى
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى
- ولأن الذي كان بالأفق الأعلى هو الذي أوحى إلى عبده ما أوحى
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى
(ومن أراد أن يرى كيف تتم عملية التلاعب بمرجعية الضمائر في هذه الآيات الكريمة فعليه أن يقلب صفحات كتب التراث ليرى كيف يرجع سادتنا أهل الدراية الضمير إلى الكينونة التي يريدونها متى شاءوا وكيفما شاءوا. أما نحن فإننا نظن أن ضمير الفاعل في جميع هذه الآيات يعود على الكينونة نفسها: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)، فالمعلم هو "ذُو" والمتعلم هو عَبْدِهِ)
إن ما يهمنا الآن في هذا الطرح هو ظننا التالي: لو أن محمد كان هو المتواجد في الأفق الأعلى، لربما رأى بأم عينه آيات الله كلها. لكن مادام أن محمدا لم يكن بالأفق الأعلى، فهو إذا لم يرى إلا من آيات ربه:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
ولو تدبرنا الآيات الكريمة التالي، فـ لربما تأكد ظننا بأن محمدا لم يكن هو المتواجد في الأفق:
وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
السؤال: من الذي رأى من بالأفق المبين؟
جواب: من يدري؟!!!
ثانيا: فرعون بلغ الآفاق
لكن بالمقابل، لما كان فرعون قد بلغ الأسباب، فهو إذن من استطاع أن يطلع إلى الأفق الأعلى، فرأى بأم عينه "آياتنا كلها":
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
السؤال: أين الدليل على أن فرعون قد اطلع إلى ما هو موجود بالآفاق؟
جواب مفترى: دعنا نجلب السياق القرآني التالي، لنرى ما قد تنتهي إليه الأفهام بعد ذلك، قال تعالى:
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
رأينا المفترى: نحن نظن أن هذه الآية الكريمة تثير سلسلة من التساؤلات ذات العلاقة بفحوى النقاش هنا، نذكر منها:
- أين هي آيات الله موجودة؟
- هل يمكن أن نراها؟
- كيف يمكن أن نراها؟
- لماذا سيرينا الله آياته؟
- هل رؤية الآيات كفيلة بأن تجعلنا على الحق؟
- الخ.
رأينا المفترى: إنّ أبسط ما يمكن أن نخرج به من استنباطات مفتراة من هذا النص القرآني هي أن آيات الله موجودة في مكانين اثنين:
- في الآفاق
- في أنفسنا
السؤال: ما الذي راءاه فرعون بأم عينه؟ ومتى حصل له ذلك؟
جواب مفترى: نحن نظن أنه لما بلغ فرعون أسباب السموات والأرض، كان بإمكانه أن يطلع إلى الآفاق التي تتواجد بها آيات الله، وهناك تمت رؤيته لهذه الآيات.
السؤال: هل سببت تلك الرؤية هداية فرعون إلى الطريق المستقيم؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا، وذلك للسبب الذي يصوره السياق الأوسع الذي وردت فيه الآية الكريمة السابقة نفسها:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ (54)
مادام أن فرعون لم يهتد إلى الصراط المستقيم بالرغم من رؤيته آيات الله كله، فهو إذن من الذين في شقاق بعيد. ولا شك عندنا أن من كان في شقاق بعيد هم نوعان من الناس:
أولا، أولئك الذين اختلفوا في الكتاب:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
ثانيا، الظالمين القاسية قلوبهم، وهم اللذين اتبعوا ما ألقى الشيطان في أمنية الرسول:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
فينقسم الناس إلى فئتين:
- فئة تخبت قلوبهم للحق فيؤمنوا به:
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54)
- وفئة كافرة لا يزالون في مرية منه:
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
ونحن نكاد نجزم الظن بأن فرعون قد عاد من هناك (بعد إطلاعه إلى الآفاق) وهو ينتمي إلى الفريق الثاني، الذين لازالوا في مرية منه، وما تراجع فرعون عن ذلك حتى آتاهم الله بعذاب عقيم، وهذا (نحن نظن) ما عبّر عنه موسى في حديثه عن العذاب الذي توقع حصوله بفرعون وملئه:
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88)
تلخيص ما سبق
يأتي موسى وأخوه هارون فرعون برسالة مباشرة من ربه:
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
وكانت بنود الرسالة هي دنيوية تتمثل بأن يرسل معهما بني إسرائيل فلا يعذبهم، وهي دينية تتمثل بالسلام على من اتبع الهدى:
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
فيسال فرعون موسى عن ربه هذا:
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
فيرد موسى على سؤال فرعون بالتالي:
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
فيتوجه فرعون إلى ملئه بظنه التالي:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ...
ولكن حتى يتأكد فرعون من ظنه هذا طلب من هامان أن يبني له صرحا:
... فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
فتكون مهمة فرعون تتألف من خطوتين اثنتين وهما:
- الإطلاع إلى إله موسى
- تأكيد ظنه بأن موسى من الكاذبين
يقوم هامان بتنفيذ طلب فرعون في الحال، فيعدّ له الصرح الذي يمكِّنه من بلوغ الأسباب:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
فيكون هامان قد بلغ بنفسه الأسباب (لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ)، وما أن وصل فرعون إلى هناك حتى اطلع من هناك إلى مكان آخر وهو المكان الذي سيجد به إله موسى.
السؤال: إلى أين توجه فرعون ببصره (أي اطلع) بعد أن بلغ الأسباب؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن هنا بأن المكان الذي وجد فيه فرعون إله موسى هو الأفق الأعلى، كما يمكن أن نفهم ذلك من قوله تعالى:
وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
أو كما يمكن أن نفهم ذلك من قوله تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
ليكون الافتراء الأخطر على الإطلاق هو التالي: أن الإله الذي آمنت به بنو إسرائيل متواجد بالأفق، لذا من أراد أن يطلع إلى إله موسى فعليه أن:
أولا أن يبلغ الأسباب، وأن يطلع من هناك إلى الأفق ثانيا. وفي تلك الآفاق سيرى آيات الله كلها.
التساؤلات: أين يمكن أن يحدث هذا؟ وكيف يمكن أن يحدث هذا؟
خروج عن الموضوع: باب ليلة القدر
أكتب هذه السطور في اليوم الأول من شهر رمضان لسنة 2015م، ولا شك أن لشهر رمضان خصوصية في الدين الإسلامي مادام أن هذا الشهر هو الذي أنزل فيه القرآن:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
وهو من ارتبطت به آيات إجابة الداع إذا دعا الله:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
وهو الشهر الذي كُتب علينا فيه الصيام كما كتب على الذين من قبلنا أياما معدودات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
ولعل الفكر الإسلامي قد تغلغلت فيه فكرة أن هذا الشهر الكريم هو الشهر نفسه الذي تتحصل به ليلة القدر، الليلة التي هي خير من ألف شهر:
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
وذلك لأنها الليلة التي تحصل بها الأمور التالية:
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
فأخذ سادتنا العلماء (أهل الدراية) يدلون بدلوهم في ماهية هذه الليلة، وأفضليتها، ووقتها وكيفية الظفر بها، الخ.
ولعلي أكاد أجزم الظن بأن الاختلاف لازال سيد الموقف، فما أسعفتنا أراء أهل العلم في الوصول إلى حقيقة تلك الليلة المباركة، وظل الباب مفتوحا عل مصراعيه للتكهنات أحيانا لا بل والخزعبلات أحيانا أخرى كثيرة. ونحن نظن أن السبب في ذلك ربما يعود إلى أن جل ما جادت به قريحة سادتنا العلماء أهل الدراية في هذا الموضوع كما نقله لنا سادتنا العلماء أهل الرواية في بطون أمهات كتب التفاسير والعقيدة يكاد يكون مبني في مجمله وتفصيلاته على أدلة نقلية، لا ترقى إلى الدليل القطعي في الأمر، فآراؤهم مبنية على روايات تختلف (هم يؤكدون) في درجة ثبوتها، لذا، أخذت الاختلافات منهم وفيما بينهم كل طريق. والحالة هذه، ما استطاع العامة من الناس (من مثلي) على مدى قرون من الزمن طويلة أن يحسموا أمرهم في هذه الجزئية. فالناس لازالوا في كل سنة (عام) يعيدون الشريط المستهلك نفسه. وحالهم (نحن نظن) لا تتغير إلا ربما لمل لا يرضيهم، وربما تسير أحوالهم على عكس ما انفجرت به حناجرهم في ليالي رمضان التي ظنوا أن الدعاء فيها لا يرد.
ولما كنا لا نريد أن نخوض في إثبات أو رد ما وصلنا من عند أحد من سادتنا العلماء، فإننا سنحاول أن نقدم رأينا في هذه القضية (ليلة القدر)، ظانين أن عندنا ما هو جديد، يختلف بشكل جذري عن كل الموروثات السابقة، معتقدين بالوقت ذاته أننا متسلحين بأدلة نصيّة (أي من النص القرآني ذاته) لإثبات افتراءاتنا التي ربما تكون غير مسبوقة في المنهجية وفي النتيجة، مبتعدين في الوقت ذاته كل البعد عن تقديم آراء الناس في هذه القضية، ليس تقليلا من شأنهم، ولكن لظننا أننا نستطيع أن نجلب الدليل على افترائنا من الكتاب نفسه. فعقيدتنا مفادها أن من يستطيع أن يجلب الدليل من مصدر التشريع الأول (والوحيد) وهو كتاب الله لا يحتاج لما هو دونه إلا ربما من باب التعزير.
لذا سنحاول التطرق إلى القضايا التي تثيرها التساؤلات التالية:
- ما هي ليلة القدر؟
- لماذا سميت بهذا الاسم؟
- متى هي؟
- ما الذي يحصل في تلك الليلة؟
- كيف يمكن الظفر بها؟
- ما الذي يجب فعله لو تم الظفر بها؟
- من هم الذين ظفروا بها من الناس؟
- كيف استطاعوا الظفر بها؟
- ماذا حصل لهم نتيجة ذلك؟
- الخ.
وسنعود بعد هذا النقاش لنربط النتيجة التي نخلص إليها بقضية نقاشنا الرئيسية في هذه السلسلة من المقالات الخاصة ببلوغ فرعون الأسباب لاطلاعه إلى إله موسى، طارحين حينها التساؤلات التالية:
- لماذا احتاج فرعون أن يبلغ الأسباب ليطلع إلى إله موسى؟
- لماذا رأى موسى ما رأى دون حاجته بلوغ الأسباب؟
- لماذا رأى صاحبنا (محمد) ما رأى دون الحاجة لبلوغ الأسباب؟
- وهل سيفسر طرحنا السر أن محمدا وموسى راءوا من آيات ربهم بينما رأى فرعون آيات الله كلها؟
- الخ.
أما بعد،
دعنا نبدأ حديثنا في هذه القضية متسلحين بالدعاء التالي: اللهم أنت ربي، أنت من خلقتني وأنت من فطرتني، فأنت من تهديني صراطك المستقيم، اللهم أسألك أن تهديني إلى الحق الذي أقوله فلا أفتري عليك الكذب، وأعوذ بك ربي أن يكون أمري كأمر فرعون:
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
وأعوذ بك ربي أن يكون مَثَلي كمثل الذي آتيته آياتك فانسلخ منه فأتبعه الشيطان فكان من الغاويين:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
وأعوذ بك أن يكون مَثَلي كمثل الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
وأعوذ بك أن يكون مَثَلي كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
وأسألك رب أن أكون ممن جاء ذكرهم في كتابك العزيز في الآيات الكريمة التالية:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
فأسألك رب أن تنفذ قولك بمشيئتك لي بذلك الفضل العظيم، فأكون ممن أصابتهم منتك:
لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164)
آمين.
أما بعد،
السؤال الأول: ما هي ليلة القدر؟
لا شك عندنا أن مفردة "القدر" مشتقة من الجذر الثلاثي ( ق- د - ر)، وهو الجذر الذي - في ظننا- يدل على الدقة المتناهية على عكس الفهم الشائع المغلوط عندنا، بينما تعني عملية الحسبة المشتقة من الجذر (ح – س- ب) الظن والشك وعدم الدقة على عكس ما يفهم الإنسان العادي من المفردات الدارجة. ولقد تعرضنا لهذه الجزئية في مقالات سابقة لنا، لكننا لا نجد ضيرا أن نعيد بعض التفاصيل هنا لأهميتها بفحوى النقاش الحالي.
باب الحسبة والحساب
عندما تعلمنا في المدارس في كتب الحساب "أي الرياضيات" في الأردن، كان المعلم يستخدم مفردتين رياضيتين مهمتين وهما قوله:
- دعنا نحسب النتيجة
- دعنا نقدر النتيجة
وقد درجنا على التفكير في مدارسنا على التفكير أنه عندما نقوم بعملية الحساب (أي حساب النتيجة)، فإننا نتوخى أقصى درجات الدقة حتى أننا نستخدم الآلة "الحاسبة"، أليس كذلك؟
بينما عندما يطلب منا تقدير القيمة، فإننا كنا نظن أن في التقدير هامش من الخطأ مسموح به، فلا حاجة إذن لاستخدام الآلة "الحاسبة"، أليس كذلك؟
لكن السؤال المحوري: هل هذه الأفهام "المدرسية" هي نفسها التي يمكن أن نجدها في كتاب الله عندما نقرأ المفردات المشتقة من الجذر (ح- س- ب) والجذر (ق – د- ر)
جواب مفترى: كلا وألف كلا. نحن نظن أن المفردات في النص القرآني هي العكس تماما. فالحسبة في النص القرآني هي التي تحتمل عدم الدقة وفيها هامش من الخطأ بينما التقدير هو الذي لا يحتمل إلا الدقة المتناهية وينتفي فيها وجود هامش من الخطأ.
الدليل
نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن مفردة " يَحْسَبَنَّ " ومشتقاتها- كما نفهمها (ربما مخطئين) في النص القرآني- تعني الخطأ في التقدير، فالقرآن الكريم يقابل بين مفردتين متضادتين وهما الحسبة (أو الحسبان؟)[1] من جهة والتقدير من جهة أخرى، فنحن نفهم أنّ هناك تقدير صحيح حقيقي لا يرقى إليه شيء من الخطأ وهناك – بالمقابل- "تقدير وهمي يشوبه الخطأ". أما التقدير الصحيح الذي ليس فيه خطأ فيرد في القرآن الكريم من الجذر (ق – د - ر)، وأما التقدير الخاطئ فيرد من الجذر (ح – س- ب)، ولنستعرض السياقات القرآنية التي يرد فيها لفظ "الحسبة" و"التقدير" لتميز المعنى لكل منهما:
أولا، الحسبة
اَمْ حَسِبْتُمْ اَنْ تَدْخُلُوْا الْجَـنَّةَ وَ لَمَّا يَاْتِكُمْ مَّثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَّسَّتْهُمُ الْبَاْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُوْا حَتّٰى يَقُوْلَ الرَّسُوْلُ وَالَّذِيْنَ اٰمَنُوْا مَعَه مَتٰى نَصْرُ اللّٰهِ اَلَاۤ اِنَّ نَصْرَ اللّٰهِ قَرِيْبٌ (214)
لِلْفُقَرَآءِ الَّذِيْنَ اُحْصِرُوْا فِىْ سَبِيْلِ اللّٰهِ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ ضَرْبًا فِىْ الْاَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ اَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِۚ تَعْرِفُهُمْ بِسِيْمٰهُمْۚ لَا يَسْـَٔـلُوْنَ النَّاسَ اِلْحَــافًا وَمَا تُنْفِقُوْا مِنْ خَيْرٍ فَاِنَّ اللّٰهَ بِه عَلِيْم (273)
وَاِنَّ مِنْهُمْ لَـفَرِيْقًا يَّلْونَ اَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتٰبِ لِتَحْسَبُوْهُ مِنَ الْكِتٰبِۚ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتٰبِۚ وَيَقُوْلُوْنَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِۚ وَيَقُوْلُوْنَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُوْن (78)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوْا فِىْ سَبِيْلِ اللّٰهِ اَمْوَاتًا بَلْ اَحْيَآءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَۙ (169)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْۤا اَنَّمَا نُمْلِىْ لَهُمْ خَيْرٌ لِّاَنْفُسِهِمْ اِنَّمَا نُمْلِىْ لَهُمْ لِيَزْدَادُوْۤا اِثْمًاۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِيْن (178)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ يَبْخَلُوْنَ بِمَاۤ اٰتٰٮهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِه هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُوْنَ مَا بَخِلُوْا بِه يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَ لِلّٰهِ مِيْرَاثُ السَّمٰوٰتِ وَالْاَرْضِ وَاللّٰهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِيْر (180)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ يَفْرَحُوْنَ بِمَاۤ اَتَوْا وَّيُحِبُّوْنَ اَنْ يُّحْمَدُوْا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوْا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيم (188)
وَحَسِبُوْۤا اَلَّا تَكُوْنَ فِتْنَةٌ فَعَمُوْا وَصَمُّوْا ثُمَّ تَابَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوْا وَصَمُّوْا كَثِيْرٌ مِّنْهُمْؕ وَاللّٰهُ بَصِيْرٌۢ بِمَا يَعْمَلُوْنَ (71)
فَرِيْقًا هَدٰى وَ فَرِيْقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلٰلَةُ اِنَّهُمُ اتَّخَذُوْا الشَّيٰطِيْنَ اَوْلِيَآءَ مِنْ دُوْنِ اللّٰهِ وَيَحْسَبُوْنَ اَنَّهُمْ مُّهْتَدُوْنَ (30)
اَمْ حَسِبْتُمْ اَنْ تُتْرَكُوْا وَلَـمَّا يَعْلَمِ اللّٰهُ الَّذِيْنَ جٰهَدُوْا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوْا مِنْ دُوْنِ اللّٰهِ وَلَا رَسُوْلِه وَلَا الْمُؤْمِنِيْنَ وَلِيْجَةً وَاللّٰهُ خَبِيْرٌۢ بِمَا تَعْمَلُوْن (15)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّٰهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظّٰلِمُوْنَ اِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيْهِ الْاَبْصَارُۙ (42)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللّٰهَ مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه اِنَّ اللّٰهَ عَزِيْزٌ ذُوْ انتِقَامٍ (47)
اَمْ حَسِبْتَ اَنَّ اَصْحٰبَ الْـكَهْفِ وَالرَّقِيْمِۙ كَانُوْا مِنْ اٰيٰتِنَا عَجَبًا (9)
وَ تَحْسَبُهُمْ اَيْقَاظًا وَّهُمْ رُقُوْدٌۖ وَنُـقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِيْنِ وَ ذَاتَ الشِّمَالِۖ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيْدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَّلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
اَفَحَسِبَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْۤا اَنْ يَّتَّخِذُوْا عِبَادِىْ مِنْ دُوْنِىْۤ اَوْلِيَآءَ اِنَّاۤ اَعْتَدْنَا جَهَـنَّمَ لِلْكٰفِرِيْنَ نُزُلاً (102)
الَّذِيْنَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِىْ الْحَيٰوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُوْنَ اَنَّهُمْ يُحْسِنُوْنَ صُنْعًا (104)
اَيَحْسَبُوْنَ اَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِه مِنْ مَّالٍ وَّبَنِيْنَۙ (55)
اَفَحَسِبْتُمْ اَنَّمَا خَلَقْنٰكُمْ عَبَثًا وَّاَنَّكُمْ اِلَيْنَا لَا تُرْجَعُوْنَ (115)
اِنَّ الَّذِيْنَ جَآءُوْ بِالْاِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لَا تَحْسَبُوْهُ شَرًّا لَّـكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّـكُمْ لِكُلِّ امْرِىٴٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْاِثْمِۚ وَالَّذِىْ تَوَلّٰى كِبْرَه مِنْهُمْ لَه عَذَابٌ عَظِيْمٌ (11)
اِذْ تَلَـقَّوْنَه بِاَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُوْلُوْنَ بِاَفْوَاهِكُمْ مَّا لَـيْسَ لَـكُمْ بِه عِلْمٌ وَّتَحْسَبُوْنَه هَيِّنًا ۖ وَّهُوَ عِنْدَ اللّٰهِ عَظِيْمٌ (15)
وَالَّذِيْنَ كَفَرُوْۤا اَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍۢ بِقِيْعَةٍ يَّحْسَبُهُ الظَّمْاٰنُ مَآءً حَتّٰىۤ اِذَا جَآءَه لَمْ يَجِدْهُ شَيْـًٔـا وَّ وَجَدَ اللّٰهَ عِنْدَه فَوَفّٰٮهُ حِسَابَه وَاللّٰهُ سَرِيْعُ الْحِسَابِۙ (39)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا مُعْجِزِيْنَ فِىْ الْاَرْضِۚ وَمَاْوٰٮهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيْرُ (57)
اَمْ تَحْسَبُ اَنَّ اَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُوْنَ اَوْ يَعْقِلُوْنَ اِنْ هُمْ اِلَّا كَالْاَنْعَامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ سَبِيْلاً (44)
قِيْلَ لَهَا ادْخُلِىْ الصَّرْحَۚ فَلَمَّا رَاَتْهُ حَسِبَتْهُ لُـجَّةً وَّكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ اِنَّه صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّنْ قَوَارِيْرَ قَالَتْ رَبِّ اِنِّىْ ظَلَمْتُ نَفْسِىْ وَ اَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمٰنَ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰلَمِيْنَ (44)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَّهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللّٰهِ الَّذِىْۤ اَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ اِنَّه خَبِيْرٌۢ بِمَا تَفْعَلُوْنَ (88)
اَحَسِبَ النَّاسُ اَنْ يُّتْرَكُوْۤا اَنْ يَّقُوْلُوْۤا اٰمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَـنُوْنَ (2)
اَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ السَّيِّاٰتِ اَنْ يَّسْبِقُوْنَا سَآءَ مَا يَحْكُمُوْنَ (4)
يَحْسَبُوْنَ الْاَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوْاۚ وَاِنْ يَّاْتِ الْاَحْزَابُ يَوَدُّوْا لَوْ اَنَّهُمْ بَادُوْنَ فِىْ الْاَعْرَابِ يَسْـاَلُوْنَ عَنْ اَنْۢبَآٮِٕكُمْ وَلَوْ كَانُوْا فِيْكُمْ مَّا قٰتَلُوْۤا اِلَّا قَلِيْلاً (20)
وَاِنَّهُمْ لَيَصُدُّوْنَهُمْ عَنِ السَّبِيْلِ وَيَحْسَبُوْنَ اَنَّهُمْ مُّهْتَدُوْن (37)
اَمْ يَحْسَبُوْنَ اَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوٰٮهُمْ بَلٰى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُوْن (80)
اَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ اجْتَرَحُوْا السَّيِّاٰتِ اَنْ نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِيْنَ اٰمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصّٰلِحٰتِ ۙ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُوْنَ (21)
اَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ فِىْ قُلُوْبِهِمْ مَّرَضٌ اَنْ لَّنْ يُّخْرِجَ اللّٰهُ اَضْغَانَهُم (29)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيْعًا فَيَحْلِفُوْنَ لَه كَمَا يَحْلِفُوْنَ لَكُمْ وَيَحْسَبُوْنَ اَنَّهُمْ عَلٰى شَىْءٍ اَلَاۤ اِنَّهُمْ هُمُ الْكٰذِبُوْن (18)
لَا يُقَاتِلُوْنَكُمْ جَمِيْعًا اِلَّا فِىْ قُرًى مُّحَصَّنَةٍ اَوْ مِنْ وَّرَآءِ جُدُرٍ بَاْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيْدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيْعًا وَّقُلُوْبُهُمْ شَتّٰى ذٰلِكَ بِاَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُوْنَۚ (14)
وَاِذَا رَاَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ اَجْسَامُهُمْ وَاِنْ يَّقُوْلُوْا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَاَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَّحْسَبُوْنَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللّٰهُ اَنّٰى يُؤْفَكُوْنَ (4)
اَيَحْسَبُ الْاِنْسَانُ اَلَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَه (3)
اَيَحْسَبُ الْاِنْسَانُ اَنْ يُّتْرَكَ سُدًى (36)
وَيَطُوْفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُوْنَۚ اِذَا رَاَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُـؤْلُـؤًا مَّنْثُوْرًا (19)
اَيَحْسَبُ اَنْ لَّنْ يَّقْدِرَ عَلَيْهِ اَحَدٌۘ (5)
اَيَحْسَبُ اَنْ لَّمْ يَرَهۤ اَحَدٌ (7)
يَحْسَبُ اَنَّ مَالَهۤ اَخْلَدَهۚ (3)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن جميع السياقات القرآنية التي ترد فيها المفردات المشتقة من الجذر (ح – س- ب) تفيد معنى عدم الدقة واحتمالية وجود الخطأ في التقدير، كما تبين بشكل لا لبس فيه (نحن نظن) أن الحسبة هي أمر بشري، لأنّ البشر يعلموا فقط ظاهر الأشياء، وهم على غير دراية حقيقية بمضامينها، فالجبال في ظاهرها جامدة (فنحسبها جامدة)، ونحسب أن في جمع المال خير، وأخطأت ملكة سبأ في تقدير ما رأته (فحسبته لجة وهو في الحقيقة ليس كذلك)، والظمآن يحسب السراب ماءً، والناظر إلى أهل الكهف على هيئتهم تلك يحسبهم رقود، وحسب الكثيرون أن من يقتل في سبيل الله هو في عداد الأموات، وحسب الكافرون أنهم يحسنون صنعا، ومن هذا الباب جاءت حسبة الذين كفروا أنهم سبقوا. الخ.
التقدير
أما المفردات المشتقة من الجذر (ق – د – ر)، فهي تفيد الدقة التي لا يشوبها خطأ، قال تعالى:
وَمَا قَدَرُوْا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهۤ (92)
هُوَ الَّذِىْ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَّالْقَمَرَ نُوْرًا وَّقَدَّرَه مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوْا عَدَدَ السِّنِيْنَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّٰهُ ذٰلِكَ اِلَّا بِالْحَـقِّۚ يُفَصِّلُ الْاٰيٰتِ لِقَوْمٍ يَّعْلَمُوْن (6)
اَنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ اَوْدِيَةٌۢ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوْقِدُوْنَ عَلَيْهِ فِىْ النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ اَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُه كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اللّٰهُ الْحَـقَّ وَالْبَاطِلَ فَاَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءًۚ وَاَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِىْ الْاَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اللّٰهُ الْاَمْثَالَ (18)
اَللّٰهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَّشَآءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوْا بِالْحَيٰوةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيٰوةُ الدُّنْيَا فِىْ الْاٰخِرَةِ اِلَّا مَتَاعٌ (27)
وَاِنْ مِّنْ شَىْءٍ اِلَّا عِنْدَنَا خَزَآٮِٕنُ وَمَا نُنَزِّلُه اِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُوْمٍ (22)
اِلَّا امْرَاَتَه قَدَّرْنَاۙ اِنَّهَا لَمِنَ الْغٰبِرِيْنَ (61)
اِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَّشَآءُ وَيَقْدِرُ اِنَّه كَانَ بِعِبَادِه خَبِيْرًۢا بَصِيْرًا (31)
اِذْ تَمْشِىْۤ اُخْتُكَ فَتَقُوْلُ هَلْ اَدُلُّـكُمْ عَلٰى مَنْ يَّكْفُلُه فَرَجَعْنٰكَ اِلٰٓى اُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنٰكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَـنّٰكَ فُتُوْنًا فَلَبِثْتَ سِنِيْنَ فِىْۤ اَهْلِ مَدْيَنَ ۙ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يّٰمُوْسٰى (41)
مَا قَدَرُوا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِه اِنَّ اللّٰهَ لَقَوِىٌّ عَزِيْز (75)
وَاَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءًۢ بِقَدَرٍ فَاَسْكَنّٰهُ فِىْ الْاَرْضِۖ وَاِنَّا عَلٰى ذَهَابٍۢ بِه لَقٰدِرُوْنَۚ (19)
الَّذِىْ لَه مُلْكُ السَّمٰوٰتِ وَالْاَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَّلَمْ يَكُنْ لَّه شَرِيْكٌ فِىْ الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيْرًا (3)
فَاَنْجَيْنٰهُ وَ اَهْلَهۤ اِلَّا امْرَاَتَه قَدَّرْنٰهَا مِنَ الْغٰبِرِيْنَ (58)
وَاَصْبَحَ الَّذِيْنَ تَمَـنَّوْا مَكَانَه بِالْاَمْسِ يَقُوْلُوْنَ وَيْكَاَنَّ اللّٰهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَّشَآءُ مِنْ عِبَادِه وَيَقْدِرُۚ لَوْلَاۤ اَنْ مَّنَّ اللّٰهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَاَنَّه لَا يُفْلِحُ الْكٰفِرُوْنَ (83)
اللّٰهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَّشَآءُ مِنْ عِبَادِه وَيَقْدِرُ لَه اِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيْمٌ (63)
اَوَلَمْ يَرَوْا اَنَّ اللّٰهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَّشَآءُ وَيَقْدِرُ اِنَّ فِىْ ذٰلِكَ لَاٰيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُوْنَ (38)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيْمَا فَرَضَ اللّٰهُ له سُنَّةَ اللّٰهِ فِىْ الَّذِيْنَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ اَمْرُ اللّٰهِ قَدَرًا مَّقْدُوْرَاۙ (39)
اَنِ اعْمَلْ سٰبِغٰتٍ وَّقَدِّرْ فِىْ السَّرْدِ وَاعْمَلُوْا صَالِحًـا اِنِّىْ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ (12)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِىْ بٰرَكْنَا فِيْهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَّقَدَّرْنَا فِيْهَا السَّيْرَ سِيْرُوْا فِيْهَا لَيَالِىَ وَاَيَّامًا اٰمِنِيْن (19)
قُلْ اِنَّ رَبِّىْ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَّشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلٰـكِنَّ اَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُوْنَ (37)
قُلْ اِنَّ رَبِّىْ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَّشَآءُ مِنْ عِبَادِه وَيَقْدِرُ لَه وَمَاۤ اَنْفَقْتُمْ مِّنْ شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهۚ وَهُوَ خَيْرُ الرّٰزِقِيْنَ (40)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنٰهُ مَنَازِلَ حَتّٰى عَادَ كَالْعُرْجُوْنِ الْقَدِيْمِ (40)
اَوَلَمْ يَعْلَمُوْۤا اَنَّ اللّٰهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَّشَآءُ وَيَقْدِرُ اِنَّ فِىْ ذٰلِكَ لَاٰيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُوْنَ (53)
وَمَا قَدَرُوْا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِه ۖ وَالْاَرْضُ جَمِيْعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَالسَّمٰوٰتُ مَطْوِيّٰتٌۢ بِيَمِيْنِه سُبْحٰنَه وَتَعٰلٰى عَمَّا يُشْرِكُوْن (68)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10)
لَه مَقَالِيْدُ السَّمٰوٰتِ وَالْاَرْضِۚ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَّشَآءُ وَيَقْدِرُ اِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيْمٌ (13)
وَلَوْ بَسَطَ اللّٰهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِىْ الْاَرْضِ وَلٰكِنْ يُّنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ اِنَّه بِعِبَادِه خَبِيْرٌۢ بَصِيْرٌ (28)
وَالَّذِىْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءًۢ بِقَدَرٍۚ فَاَنْشَرْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذٰلِكَ تُخْرَجُوْنَ (12)
وَّفَجَّرْنَا الْاَرْضَ عُيُوْنًا فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلٰٓى اَمْرٍ قَدْ قُدِرَۚ (13)
اِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنٰهُ بِقَدَرٍ (50)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوْقِيْنَۙ (61)
لِيُنْفِقْ ذُوْ سَعَةٍ مِّنْ سَعَتِه وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه فَلْيُنْفِقْ مِمَّاۤ اٰتٰٮهُ اللّٰهُ لَا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْسًا اِلَّا مَاۤ اٰتٰٮهَا سَيَجْعَلُ اللّٰهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُّسْرًا (8)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)
اِنَّه فَكَّرَ وَقَدَّرَۙ (19)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَۙ (20)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَۙ (21)
قَوَارِيْرَا۟ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوْهَا تَقْدِيْرًا (17)
اِلٰى قَدَرٍ مَّعْلُوْمٍۙ (23)
فَقَدَرْنَا ۖ فَنِعْمَ الْقٰدِرُوْنَ (24)
مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَه فَقَدَّرَهۙ (20)
وَالَّذِىْ قَدَّرَ فَهَدٰى ۙ (4)
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
اِنَّاۤ اَنْزَلْنٰهُ فِىْ لَيْلَةِ الْقَدْرِۚ (1)
وَمَاۤ اَدْرٰٮكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ اَلْفِ شَهْرٍ (3)
لعلك أدركت عزيزي القارئ بعد هذا السرد لجميع السياقات القرآنية التي وردت فيها مشتقات الجذر (ق – د – ر) بأنها جميعا تفيد بأن التقدير يحمل في ثناياه فكرة الدقة المتناهية التي لا نجدها في الحسبة، فالتقدير يعني الدقة التي لا مجال فيها للخطأ، فموسى جاء على قدر، وكل شيء خلق بقدر، والموت مقدر (لا زيادة ولا نقصان)، والله ينزّل من السماء بقدر، والله قدّر منازل القمر تقديرا، وهو يقدر الليل والنهار بالرغم من علمه أننا لن نحصيه، الخ، ولكن الناس (بعد كل ذلك) ما قدروا الله حق قدره.
نتيجة مفتراة: نحن نظن إذاً أن لله تقدير وللناس حسبة، ففي حين أن تقدير الله حقيقي صحيح لا يحتمل الخطأ، فإن حسبة الناس لا ينفك الخطأ أن يكون جزءً متجذراً فيها.
السؤال: ما علاقة هذا بليلة القدر؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن ليلة القدر (المشتق اسمها من الجذر ق- د- ر) هي ليلة مقدرة تقديرا إلهي، لذا نحن نتجرأ على تقديم الافتراءات التالية التي هي لا شك من عند أنفسنا:
- هي ليلة محددة ثابتة، لا تتغير.
- نحن نكاد نجزم الظن بأن من البلاء الذي أصاب الأمة هو ظنهم بأن هذه الليلة متغيرة تختلف من سنة إلى أخرى، ومن مرة أخرى، ولعل أشهر الروايات التي اختلف في تفسيرها هو الحديث الذي مفاده طلب النبي ممن حوله أن يتحروها في العشر الأواخر من رمضان، وجزم آخرون أنها في الوتر من تلك الليالي، وتعددت الآراء وتشعبت في ذلك، حتى بات الحليم منا (إن وجد بالطبع) حيرانا فيها.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن ليلة القدر هي ليلة ثابتة لا تتغير في توقيتها. انتهى.
السؤال: لماذا تكون ليلة القدر ثابتة لا تتغير؟ ولم يجب أن تكون كذلك (إن صح ما تزعم)؟ يتساءل صاحبنا مستغربا.
جواب مفترى: لأن في تلك الليلة حصلت حادثة محددة هي في لب مبتغانا من البحث عن تلك الليلة.
السؤال المحوري: ما الذي حصل في تلك الليلة؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الحدث الأبرز الذي حصل في تلك الليلة هو تنزيل الكتاب، وقرأ – إن شئت- عزيزي القارئ بدايات سورة الدخان، قال تعالى:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3)
نتيجة مفتراة مهمة جدا جدا: نحن نظن أن تلك الليلة المباركة التي أنزل فيها الكتاب المبين هي ليلة القدر. وربما لهذا السبب ومن هذا الباب (نحن نعتقد جازمين) جاءت خيريتها:
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
وذلك لأنها الليلة التي تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر:
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4)
فأصبحت سلاما هي كلها حتى مطلع الفجر:
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن ليلة القدر هي الليلة التي أنزل فيها الكتاب الحكيم، لذا من الاستحالة بمكان أن تتغير. لذا لابد من البحث عن تلك الليلة التي أنزل فيها الكتاب الحكيم لأنها هي الليلة التي تكون ليلة القدر، والتي هي خير من ألف شهر، وهي الليلة التي تنزل فيها الملائكة والروح بأمر ربهم من كل أمر، فتكون سلاما هي حتى مطلع الفجر:
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
وبناء عليه نحن نظن أن اللقاء الإلهي الأول مع موسى كان في تلك الليلة:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
وفي تلك الليلة رأى من آيات ربه الكبرى:
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
ونحن نفتري الظن أنه في تلك الليلة المباركة علم شديد القوى نبيه محمد ما أنزل إليه:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
فكانت تلك هي الليلة المباركة التي أنزل فيها الكتاب:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3)
السؤال: لماذا هذه الليلة مباركة؟
جواب: لكي نعلم لم هذه الليلة مباركة علينا أن نفهم لم هي سلام كذلك:
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
نتيجة مفتراة: تلك الليلة هي مباركة
نتيجة مفتراة: تلك الليلة هي سلام
السؤال: كيف تكون تلك الليلة مباركة؟
السؤال: كيف تكون تلك الليلة سلام؟
السؤال: ما الفرق بين أن تكون مباركة وأن تكون سلاما؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الإجابة على هذه التساؤلات ربما تكون ممكنة في ضوء ما جاء في الآية الكريمة التالية:
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
لو دققنا مليا في هذه الآية الكريمة لوجدنا أن السلام من الله (بِسَلاَمٍ مِّنَّا)، أليس كذلك؟
السؤال: من أين البركات؟ هل البركات من الله مباشرة؟ لم لم يأتي النص القرآني على النحو التالي (وبركات منا)؟
جواب مفترى: نحن نظن أن مصدر السلام هو السماء فقط، بينما مصدر البركات هي السماء والأرض:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)
وهذه هي رسالة الملائكة إلى أهل بيت إبراهيم:
قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73)
لتكون البركات قد حلت على أهل بيت إبراهيم، أليس كذلك؟
السؤال: فماذا عن إبراهيم نفسه؟ هل حلت البركات عليه؟ ألم تكن البركات على أهل بيته؟
جواب، كلا لم تحل البركات على إبراهيم وإنما جاءه السلام، وانظر أول شيء قالته الملائكة في زيارتهم له:
وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25)
السؤال: لماذا كانت ليلة القدر سلاما؟
جواب: لأن خير السماء تنزل فيها:
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
السؤال: ولماذا كانت تلك الليلة مباركة:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3)
جواب مفترى: لأنه أصابنا فيها بركات من السماء والأرض.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)
(دعاء: اللهم أسألك سلاما منك عليّ وبركات منك عليّ وعلى أهل بيتي أجمعين – آمين)
السؤال: متى تكون هذه الليلة؟
رأينا المفترى: في رمضان، لأن رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
وهذا الشهر المبارك هو الذي ارتبطت به آية إجابة دعاء الداع إذا دعا الله، وذلك لأن الله يكون قريبا على وجه الخصوص في هذا الشهر المبارك. وانظر – إن شئت- عزيزي القارئ هذه الآية الكريمة السابقة في سياقها الأوسع:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
السؤال: متى تكون تلك الليلة في شهر رمضان؟
جواب مفترى خطير جدا جدا لا تصدقوه: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن ليلة القدر لا تحدث في كل رمضان من كل عام. انتهى.
السؤال: لماذا لا تأتي ليلة القدر في كل رمضان؟
جواب مفترى: لأنها خير من ألف شهر.
السؤال: ما معنى ذلك؟
جواب: دعنا – عزيزي القارئ- نتدبر بشي من الدقة قول الله تعالى في الآية الكريمة التالية:
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
طارحين على الفور التساؤل البسيط التالي: كيف تكون ليلة القدر خير من ألف شهر؟
جواب مفترى: نحن نظن أن أبسط ما يمكن أن نفهمه من هذه الآية الكريمة أن ليلة القدر تعدل في خيرتها ألف شهر وزيادة، فهي في طرف وألف شهر في طرف آخر، والكفة ترجح لليلة القدر كما في الشكل التوضيحي التالي:
فالكفة التي تقع فيها ليلة القدر هي – لا شك- راجحة على كفة الألف شهر. لذا وجب علينا أن نجلب انتباه القارئ الكريم بعد هذا التقديم إلى التساؤل التالي: كم رمضان يحصل في الألف شهر؟
جواب: عندما حاول علماؤنا الأجلاء حسبة الألف شهر، ظنوا أن رمضان يتكرر فيها حوالي ثلاث وثمانين مرة، فعند تقسيمهم للألف شهر على مدة السنة (أو العام) وهي اثنتي عشر شهرا كانت النتيجة على النحو التالي:
100 / 12= 83.333333333333333333
أي أن الألف شهر (بحسبة سادتنا أهل العلم) تعادلي ثلاث وثمانين عاما (سنة) ونيّف.
السؤال الأقوى: كم مرة يتكرر رمضان في فترة الثلاث وثمانين عام (سنة) ونيف؟
الجواب: قرابة ثلاث وثمانين مرة مادام أن رمضان يتكرر مرة واحدة في كل عام (سنة).
السؤال الأقوى من سابقة: كم مرة ستحدث (حسب رأي سادتنا العلماء) ليلة القدر خلال هذه المدة (أي خلال الثلاث وثمانين عام التي تعادل الألف شهر)؟
الجواب: ثلاث وثمانين مرة مادام أن ليلة القدر تحدث (حسب رأيهم طبعا) في كل رمضان مرة واحدة.
السؤال الأقوى من جميع الأسئلة السابقة: كيف يمكن أن تكون ليلة القدر في رمضان هذا العام مثلا خيرا من ألف شهر ستحدث ليلة القدر فيهن ثلاث وثمانين مرة أخرى؟ فكيف إذن تكون ليلة القدر خير من نفسها ثلاث وثمانين مرة مضاف إليها الألف شهر ثلاث وثمانين مرة أخرى؟
ظنون غير مفهومة بالنسبة لنا: إذا صح زعم سادتنا العلماء بأن ليلة القدر تحدث في رمضان في كل عام مرة واحدة، وأن ليلة القدر هي خير من ألف شهر حيث يتكرر فيها رمضان نفسه ثلاث وثمانين مرة ونيف، فإن هذا سيضعنا في حلقة مفرعة، حيث سندور جميعا في حلقة لانهاية لها. ففي كل عام هناك ليلة قدر خير من ألف شهر، أي خير من نفسها ألف مرة وهكذا.
السؤال: هل هذا ممكن؟
الجواب: كلا وألف كلا.
السؤال: متى تحدث ليلة القدر.
جواب مفترى خطير جدا جدا لا تصدقوه: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن ليلة القدرة لا تحدث إلا مرة واحدة كل ألف شهر. وكفى.
السؤال: ما الذي تقوله يا رجل؟ أيعقل هذا؟ كيف تريدنا أن نصدقك أن ليلة القدر لا تحدث إلا مرة واحدة كل ألف شهر؟ فمن سيدركها إذن؟ ألا ترى أن هذا مستحيل مادام أنك تحتاج أن تعيش ثلاث وثمانين عاما حتى تدرك ليلة القدر مرة واحدة في عمرك؟ وماذا عن اللذين يتوفون قبل ذلك؟
جواب مفترى: أنا لم أقل ذلك، فهذا ما قد يستنبطه القارئ مخطئا مما قلنا مسبقا. ما قلته هو التالي: ليلة القدر تحدث كل ألف شهر مرة واحدة وكفى. وإياك أخي القارئ أن تقفز إلى استنباطات هي من عندك قبل أن تدرك ماهية كلامنا الذي نقوله هنا. فنحن لا شك مسئولون عما نقول ونفتري ولكننا غير مسئولين عما تفهم أنت مما نقول ونفتري. وشتان بين هذا وذاك.
السؤال: لكن كيف تتجرأ على القول أن ليلة القدر لا تحدث إلا مرة واحدة كل ألف شهر؟
جواب: هي كذلك. وهذا ما سنتحدث عنه بالتفصيل بحول الله وتوفيقه في الجزء القادم من هذه المقالة. فالله وحده أسأل أن يعلمني، وأن يزدني علما، وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا. وأسأله أن لا أكون ممن يفترون عليه الكذب وهم يعلمون وأعوذ به أن أكون ممن يفترون عليه الكذب وهم لا يعلمون. وأسأله وحده أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي بعلم لا ينبغي لغيري إنه هو السميع البصير، وأسأله أن يتقبلني في أنصاره ليجعل كلمة اللذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا، وأعوذ به أن يكون أمري كأمر فرعون، كما أدعوه أن ينزل علي السلام منه وأن ينزل البركات علي وعلى أهل بيتي أجمعين – إنه هو العلي الكبير- آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
21 حزيران 2015
الجزء السابق الجزء اللاحق
[1] لا أرغب الدخول في أصل المفردة، فالعربية تميز بين الفعل الثلاثي حَسِب والفعل الثلاثي حَسَب، ولكن التداخل بين مشتقاتها يتطلب مساحة من البحث، ولكن نرغب فقط جلب انتباه القارئ الكريم إلى التداخل في الاشتقاق في قوله تعالى "اَمْ حَسِبْتُمْ اَنْ تَدْخُلُوْا الْجَـنَّةَ" ومثيلاتها حيث تكون السين مكسورة وقوله تعالى "يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ" ومثيلاتها حيث تكون السين مفتوحة.