حديث الإفك - الجزء الخامس: كيف كان النبي نفسه مستهدفا في حديث الإفك؟
حديث الإفك- الجزء الخامس: كيف كان النبي نفسه مستهدفا في حديث الإفك؟
انهينا الجزء السابق من هذه المقالة بطرح التساؤلات التالية حول حديث الإفك:
- كيف علم النبي بما كان يجول في خاطر أبي بكر في الغار؟
- ما الذي فعله النبي لطمأنة أبي بكر هناك؟
- ما الذي أراه النبي لأبي بكر؟
- كيف كان ما رأى أبو بكر في الغار دليلا على انتصار هذا الدين؟
- كيف غيّرت هذه الحادثة سيرة الصديق الإيمانية تماما؟
- ما علاقة هذا بحادثة الإفك؟
- ما علاقة هذا بخلافة أبي بكر الصديق؟
- كيف كان في ذلك خيرا للمسلمين حينئذ؟
- كيف كان في ذلك خيرا للمسلمين على مر التاريخ؟
- الخ.
وقد كان جلّ النقاش حينئذ منصبا على موضوع علاقة أبي بكر الصديق بحديث الإفك؛ فقد افترينا سابقا الظن من عند أنفسنا أن بعض الذين شاركوا في حديث الإفك كانوا من المسلمين الذين لم يدخل الإيمان بعد في قلوبهم (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، فكان لمثل هؤلاء بعض الأطماع الدنيوية من وراء استغلال حديث الإفك لتحقيق مآرب ومكاسب خاصة بهم. وكان جل غرضهم (كما افتريناه سابقا) هو إزاحة أبي بكر الصديق عن الواجهة حتى لا يكون هو الخليفة الأول بعد وفاة النبي الكريم بالموت، فقد كان جل ترتبيهم (كما نتخيله) هو أن تخلو لهم الساحة للظفر بذلك المنصب (أي الخلافة). فهم إذن من أصحاب السيادة في قومهم، وهم ممن اعتاد أن يكون في عِلية القوم، فهو من لا يستطيع أن يرى غيره (كأمثال أبي بكر) في هذه المكانة. وذلك لأنه ربما لم يكن يخفى على الداني والقاصي حينئذ أن أبا بكر هو الرجل الأول المؤهل ليخلف النبي بعد موته. فكان تخطيط بعض من شارك في حديث الإفك يتمثل (كما نزعم) في أن إثبات حديث الإفك على عائشة يعطي المبرر الكافي لأبي بكر أن لا يضع نفسه في هذا الموقف، لأن ابنته ستكون حينها (كما تفهم الأعراب) وصمة عار في جبينه لو ثبت بحقها حديث الإفك.
لكن، لمّا كان الله هو مولى النبي وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا كان حديث الإفك بحد ذاته خيرا للمؤمنين في كل وقت وحين، وكانت واحدة من جوانب الخير في ذلك (نحن نفتري الظن) هو إثبات أحقية أبي بكر الصديق في الخلافة، وذلك للمنطق البسيط التالي: مادام أن حديث الإفك قد كشف زيغ قلوب كثير من الناس، وما دام أن أحدا لم يستطع النيل من شرف أبي بكر، لذا لن يكون هناك ما يمنع أن يتولى أبو بكر الخلافة من بعد وفاة الرسول بالموت لأنه هو الأحق والأجدر بها.
السؤال: لماذا؟ أي لماذا كان أبو بكر هو الأحق وهو الأجدر بالخلافة؟
رأينا: نحن نظن أن أحقية أبي بكر بالخلافة قد جاءت من تاريخ مناصرته لدعوة النبي منذ بدايتها وحتى نهايتها (للتفصيل انظر الجزء السابق)، أما جدارته بالأمر فهي تتأتى من شخصية أبي بكر الصديق المؤمنة يقينا بنصر الله، فكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نكاد نجزم الظن أن شخصية أبي بكر الصديق كانت الشخصية الأقوى إيمانيا من بعد النبي محمد نفسه، فليس هناك (في كل المجتمع المسلم حينئذ) شخص يتمتع بالقوة (أي الثبات الإيماني) كمثل أبي بكر الصديق، فكيف حصل ذلك؟
جواب مفترى: تبدأ جذور القصة التي حاولنا أن ننثر حروفها الأولى في الجزء السابق في حادثة الغار التي تصورها الآية الكريمة التالية أحسن تصوير:
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
وقد حاولنا تسويق ظننا أن أبا بكر الذي دخل في الغار مع النبي في هجرته إلى المدينة هو شخص يختلف عن أبي بكر الذي خرج منه، وذلك لأن حدثا عظيما حصل له هناك فغيّر (نحن نفتري الظن) مجرى حياته الإيمانية كلها. فكيف حصل ذلك؟
جواب مفترى: لقد زعمنا الظن أنه ما أن وجد أبو يكر نفسه مع صاحبه في الغار حتى بدأ الرجل يراجع في نفسه (من باب النجوى) موقفه في الغار، وذلك لأنه كان يرى بأم عينه حالة الضعف الظاهري الذي أصابه من صاحبه محمد. فبدأ الشيطان يدخل له من باب النجوى:
إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
فحصل الحَزن عند أبي بكر، فما عاد أبو بكر من أولياء الله الذين هم لا يحزنون:
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
ولمّا كان النبي محمدا مراقبا يقضا لما أصاب أبا بكر في الغار، جاء رده على ما كان يدور في خلد أبي بكر من النجوى شافيا في الآية الكريمة نفسها:
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
ولو تدبرنا جيدا ما جاء فيها، لوجدنا أن رد النبي يتلخص في الأمرين اللذين كان يقلقان أبا بكر حينها وهما:
1. الضعف الإيماني الذي أصاب أبي بكر، أي الحزن
2. الإجابة على التساؤل الذي كان يدور في خلد أبي بكر وهو: هل فعلا أن الله (رب محمد) معنا؟
فجاءت الآية الكريمة لتصور ذلك أحسن تصوير (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ)، ويكأن محمد (نحن نفتري القول) يقول لأبي بكر: لا تحزن يا أبا بكر، فلا داعي أن يضعف إيمانك في هذه الساعة لأن ما تراه بعينك ليس هو الواقع الحقيقي لما نحن فيه، وذلك لأن الله (الذي تتساءل عنه في هذه اللحظة في نفسك) معنا (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
فـ يتفاجأ الصديق (نحن نتخيل) من جواب صاحبه محمد الذي يعرف صدقه وعزيمته، لكن هذا الأمر لم يكن ليوقف حزن الصديق تماما. فما يكون من النبي الكريم الذي يأتيه التأييد من ربه مباشرة إلا أن أثبت لصاحبه الصديق في الغار وفي تلك اللحظة بالذات صدق دعوته بالدليل العملي بأن الله معهما.
السؤال: ما الذي فعله محمد ليذهب عن الصديق حزنه؟
للإجابة على هذا التساؤل لابد بداية من تقديم جملة من الافتراءات الأولية، نذكر منها:
1. يمكن للحزن أن يذهب عن من أصابه:
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
2. النجاة تكون للمتقين، والله هو من ينجي الذي اتقوا حتى لا يمسهم السوء ولا يحزنون:
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
3. النجاة تكون لمن قالوا ربنا الله ثم استقاموا، ولا شك سيذهب الحزن متى ما تنزلت الملائكة على الذين استقاموا:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)
4. لا شك أن من ذهب عنه الحزن هم من عباد الله، وهم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا:
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
السؤال: هل فعلا ذهب الحزن عن أبي بكر في الغار؟ وكيف حصل له ذلك؟
رأينا المفترى الخطير جدا: نعم، ذهب الحزن عن أبي بكر لأن السكينة تنزلت هناك. واقرأ – إن شئت- الآية التي تتحدث عن صحبة النبي لأبي بكر في الغار مرة أخرى:
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
تساؤلات
- ما هي السكينة التي تنزلت في الغار؟
- ومن الذي تنزل بها على محمد هناك؟
- ولماذا تنزلت هناك؟
- وما فائدة أن تتنزل السكينة على وجه التحديد على النبي هناك؟
- وكيف كان وقع ذلك على أبي بكر؟
- وما علاقة ذلك بذهاب الحزن عنه؟
- وما فائدة ذلك كله في خضم حديثنا عن جدارة أبي بكر بالخلافة بعد النبي الكريم؟
- الخ.
رأينا: نحن نظن بداية أن السكينة هي شيء مادي ملموس يمكن أن يشاهد بأم العين. ويمكن للناظر أن يراه رأي العين.
الدليل
دعنا نبحث عن الدليل بطرح التساؤل التالي: أين ومتى أنزل الله سكينته في غير هذا الموضع؟
جواب: في المواقف التالية:
ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ التوبة (26)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا الفتح (26)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (284)
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لو تدبرنا جميع هذه السياقات القرآنية، لوجدنا (نحن نفتري الظن) بأن السكينة تنزل كمقدمة للنصر، فمتى نزلت السكينة فقد جاءت البشرى بالنصر للمؤمنين، لأن الله مؤيدهم بها وبجنود لا يرونها. والهدف هو أن يجعل اللهُ كلمةَ الذين كفروا السفلى وكلمةُ الله هي العليا. وهذا بالضبط ما حصل في الغار، فالله أنزل السكينة على رسوله هناك وأيده بجنود لا نراها ليجعل كلمةَ الذين كفروا السفلى ولتبقى كلمةُ الله هي العليا:
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
السؤال: وكيف نزلت السكينة؟
رأينا: لو تدبرنا السياق القرآني الذي يتحدث عن السكينة التي جاءت الفئة القليلة وهم جنود طالوت وكان فيهم داوود مقابل الفئة الكثيرة الباغية بقيادة جالوت لوجدنا في نزول السكينة العجب:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (284)
لتكون النتيجة التي نجهد أنفسنا لافترائها هي: أن السكينة شيء مادي ملموس يأتي الفئة المؤمنة في أحلك الظروف كمقدمة للنصر على الكافرين، عندما يُزَلزل الذين آمنوا حتى يكادوا أن يصلوا إلى حد اليأس من النصر، فلا يبقى أمامهم إلا طريقا واحدا، وهو التأييد الإلهي المباشر:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
نتيجة مفتراة: هناك في الغار كان يتساءل أبو بكر الصديق (نحن نتخيل) عن نصر الله بعد أن زُلْزِل في الغار، لأنه ما عاد هناك طريق للنصر إلا التدخل الإلهي المباشر، وهذا في ظننا ما حصل فعلا على أرض الواقع، فقد أنزل الله سكينته هناك وأيد رسوله الكريم بجنود لا نراها، فاطمئن قلب أبي بكر للنصر، فخرج من الغار موقنا أن الله لا محالة ناصر رسوله والذين آمنوا معه. فما عاد أبو بكر يخشى من قوة أخرى على الأرض، وما عاد يهاب أي عدو مهما بلغت عدته، لأن هناك تأييد سماوي أكبر من هذا كله، خاصا بالمؤمنين الصادقين الذين يثبتوا على إيمانهم عندما تخور قوة الآخرين. أما عن الآلية التي حصل فيها ذلك كله فهذا ما سنتحدث عنها بالتفصيل عندما نكمل حديثنا في قصة داود وولده سليمان في مقالتنا تحت عنوان: ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا، وأن يزدني علما، إنه هو الواسع العليم – آمين.
افتراء خطير: لقد كان النبي الكريم يعلم ما أصاب أبا بكر في الغار، وكان يعلم ما حصل له عندما نزلت السكينة في الغار، ويعلم كيف أصبح هذا الجانب القوي من شخصية أبي بكر بعد حادثة الغار هذه، لذا كان يعلم يقينا أن هذه الشخصية هي المناسبة أن تخلفه مباشرة بعد وفاته بالموت، لأن الخطر على الدين من الذين سينقلبوا على أعقابهم حينئذ سيكون شديدا، لذا لابد أن يتولى الأمر شخص لا تأخذه في الله لومة لائم، شخص يكون ذو قوة إيمانية ثابتة مهما بلغت قوة عدوه المادية الظاهرة للعيان. ولا أظن أن أحدا يناسب هذا الموقع أكثر من رأى سكينة من ربه تتنزل عليه – إنه الصديق.
السؤال: ما علاقة هذا بحديث الإفك؟
رأينا: عندما نزلت التبرئة الإلهية لشرف أبي بكر من السماء، وعندما أصبح المتربصون بأبي بكر لا يستطيعون الإيقاع به من هذا الجانب، ولمّا أصبح المسلمون جميعا (حتى من لم يدخل الإيمان في قلوبهم بعد) مدركون أن أبا بكر هو الشخص الأول المؤهل للخلافة بعد وفاة النبي، أخذ النبي الكريم يأمر الناس بأن يؤمهم أبو بكر في الصلوات، واستمر في ذلك حتى في أيام مرضه الأخيرة قبل انتقاله للرفيق الأعلى. لذا توفى الله نفس النبي الكريم بالموت بعد أن أسند النبي أمر الخلافة من بعده لأبي بكر الصديق لأنه هو الرجل الأجدر بأن يتولى أمر المنافقين الذين سيرتدوا على أعقابهم بعد موت النبي.
السؤال: لماذا؟
رأينا: لو دققنا بالرواية التاريخية لما حصل بعد وفاة النبي مباشرة، لوجدنا أن الغالبية الساحقة من المسلمين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم قد ارتدوا عن دينهم بحجة عدم دفع الزكاة، كما نجد في الوقت ذاته أن كل المنافقين الذين كانوا يظهرون قليلا من الإيمان ويبطنون كثيرا من الكفر قد تكشفت نواياهم وبانت خططهم للإيقاع بهذا الدين وأهله، فظهر من بينهم من ادعى الرسالة كذبا. والتف حول هؤلاء جند كثيرون، فكان لابد لمن يتسلم زمام الحكم بالخلافة أن يقف بحزم في وجههم جميعا. فما الذي حصل فعلا؟ وكيف كانت ردة فعل من بقي على إسلامه من المؤمنين الصادقين؟
جواب: لعل الرواية التاريخية تجمع لنا أن كل المؤمنين حقا (حتى من عُرِف عنه الشدة والحزم كالفاروق عمر) قد خارت قواهم جميعا، فهذا عمر يشير برأيه على أبي بكر الصديق بمهادنة بعض المرتدين والتنازل عن دفعهم الزكاة، ولعل الغالبية الساحقة من المؤمنين كانت تؤيد رأي عمر حينئذ، وذلك لشدة الخطر الذي يرونه بأم أعينهم على هذا الدين إن هم دخلوا في قتال مع هؤلاء المرتدين. لكن كان هناك شخص واحد (من بين الجموع كلها) هو من تبيّن أنه لا يهادن ولا تأخذه في دين الله لومة لائم، شخص واحد تبين أنه هو الأقوى على الإطلاق، لقد كان أبو بكر الصديق هو من قهر المرتدين جميعا بإيمانه الذي كان أشد رسوخا من الجبال الراسيات. لقد كان هو فقط من كان مؤمنا حقا بأن هذا الدين مؤيد من السماء، وهو فقط من كان مؤمنا حقا أن ليس على وجه الأرض قوة مهما بلغت بالعدد والعدة قادرة أن تقف في وجه من يحمل هذه العقيدة في قلبه. لقد كانت السكينة التي نزلت في الغار هي (نحن نفتري القول) من ثبتت أبا بكر الصديق يوم أن خارت قوى الجميع من حوله بمن فيهم الفاروق عمر.
السؤال: ألم يكن في حديث الإفك خير للمسلمين إلى يوم الدين إذن؟ من يدري؟!!!
السؤال: من الذين كانوا يتعاونون على الإطاحة بأبي بكر الصديق حتى لا يصل إلى الخلافة؟ أو – لنقل- من هم الذي اشتركوا في حديث الإفك لتحقيق مطامعهم بالخلافة ليتمكنوا من إزاحة الصديق عن المشهد؟
جواب مفترى: لو دققنا جيدا في الرواية التاريخية في حادثة الإفك والرواية التاريخية في الذي حصل مباشرة في سقيفة بني ساعده بعد وفاة الرسول الكريم بالموت مباشرة لوجدنا أن الحاضر في الموقفين هو شخص واحد بعينه: إنه سعد بن عباده.
الدليل
لنرجع فنرى ما سطرته كتب أهل العلم عن حادثة الإفك والذي تعرضنا له في الجزء الثالث من هذه المقالة في رواية الطبري، لنجد النص التالي:
... فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا , فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله , ثم قال : " من يعذرني ممن قد بلغني أذاه في أهلي ؟ " يعني عبد الله بن أبي ابن سلول , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أيضا : " يا معشر المسلمين , من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا , ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا , وما كان يدخل على أهلي إلا معي ! " فقام سعد بن معاذ الأنصاري , فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله , إن كان من الأوس ضربنا عنقه , وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك , فقام سعد بن عبادة , فقال , وهو سيد الخزرج , وكان رجلا صالحا , ولكن احتملته الحمية , فقال : أي سعد بن معاذ , لعمر الله لا تقتله , ولا تقدر على قتله ! فقام أسيد بن حضير , وهو ابن عمة سعد بن معاذ , فقال لسعد بن عبادة : كذبت , لعمر الله لنقتلنه , فإنك منافق تجادل عن المنافقين ! فثار الحيان : الأوس والخزرج , حتى هموا أن يقتتلوا , ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر , فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا...
... فقام سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله , نرى أن نضرب أعناقهم ! فقام رجل من الخزرج , وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل , فقال : كذبت , أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم ! حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج في المسجد شر...
ولو حاولنا أن نربط ما حصل هنا في حديث الإفك من سعد بن عبادة مع ما فعل بشأن الخلافة في سقيفة بني ساعده، لوجدنا أن الرجل لم يكن ليخفي مطامعه في الخلافة من بعد النبي محمد. ولو دققنا في الأمر أكثر لوجدنا أن الذي تصدى له على الفور في سقيفة بني ساعده هو أبو بكر الصديق نفسه عندما ذهب إلى هناك يصحبه عمر ابن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح. فقد أسرع الثلاثة إلى هناك والرسول لازال ممدا بين ظهرانيهم لم يدفن بعد ليجدوا أن نفرا من الأنصار قد بايعوا سعدا على الخلافة هناك. فما الذي حصل حينها؟ فلماذا لم تنتهي الخلافة إلى سعد؟ ولماذا تراجع سعد عن موقفه؟ ولماذا انتهت إلى أبي بكر هناك؟ فمن الذي أوقف سعد بن عباده عند حده؟
رأينا المفترى: إنه الصديق. نعم أبو بكر (نحن نفتري الظن) هو من فعل ذلك.
السؤال: وكيف حصل ذلك؟
جواب مفترى: لو عدنا إلى حادثة الإفك نفسها وحاولنا تدبرها مرة أخرى، لوجدنا أن فيها شيئا (نظن أنه) عجبا، وهو موقف أبي بكر نفسه من حديث الإفك. فكيف كان موقفه؟
رأينا: بالرغم أن حديث الإفك كان يقدح بشرف الرجل مباشرة عن طريق ابنته عائشة، إلا أن معظم كتب أهل العلم (إن لم يكن جلها) لا تكاد تذكر شيئا عن ما فعله الرجل حينها. فلقد ظل الرجل صامتا لا يحرك ساكنا بالرغم من دماء الأعراب تجري في عروقه. فالمعروف لدى الجميع أن العربي لا يسكت متى ما تم القدح بشرفه، فالثأر هو سبيله بواحد من اتجاهين: إما أن يقتل من ألحقت العار بشرفه إن ثبت الاتهام الموجه لها، أو أن ينتقم من الذي تعرض لشرفه إن ثبت بطلان التهمة الموجه لها. لكن الغريب في هذه الحالة هو أننا لا نجد في كتب أهل العلم أن أبا بكر قد ذهب بأي من الاتجاهين، فهو لم يقتل ابنته التي كانت السبب في حديث الإفك وهو لم ينتقم من الذين روجوا لهذا الحديث بعد أن ثبت بالوحي الإلهي بطلانه. فلماذا؟
رأينا: لأن تصرف أبي بكر الصديق كان نسخة طبقة الأصل عن تصرف النبي الكريم نفسه، فهما معا كانا يعلمان الحكمة الحقيقية من وراء حديث الإفك، وأن في هذا الحديث خير للأمة بأكملها وليس فيه شر للمؤمنين إطلاقا لأنه سيفضح حقيقة كل من ادعى أن الإسلام دينه في ذلك الحين وفي كل حين.
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى: نحن نظن أن عقيدة النبي الكريم وأن عقيدة أبي بكر الصديق من بعده كانت راسخة بأن حديث الإفك هذا موجّه لشخص النبي ولشخص أبي بكر من خلال ما يربط بينهما وهي عائشة، وهو حديث مدبّر من قبل فريقين من الناس وهم:
(1) من كانت في قلوبهم مطامع دنيوية بالخلافة و
(2) من كان في قلوبهم حقدا على هذا النبي الكريم والدين الذي جاء به.
السؤال: كيف ذلك؟
جواب: دعنا نحاول الوصول إلى الإجابة من خلال السؤال المعاكس التالي: ما الذي كان سيحصل لو أن سعد بن عبادة مثلا قد وصل إلى الخلافة بعد وفاة الرسول بالموت؟
جواب مفترى خطير جدا: سيصيب الدولة الإسلامية الناشئة الضعف والهزل وربما الزوال وذلك لأن سعد بن عبادة لن يكون قادرا على مواجهة المرتدين وخصوصا أهل النفاق منهم وذلك لأن لهم في رقبته دينا لابد من سداده. فهم الذين سيحاولون أن يمنّوا على الرجل بأنهم هم من أوصلوه إلى سدة الحكم عندما ساعدوه على الإطاحة بأبي بكر الصديق.
السؤال: وكيف ذلك؟
للإجابة على مثل هذا التساؤل، نجد أن الضرورة تستدعي طرح التساؤل الآخر التالي: ما الذي فعله الصديق عندما وصل إلى سقيفة بني ساعده وبرفقته ابن الخطاب وابن الجراح؟
تخيلات مفتراة: نحن نتخيل أن الصديق لم يكن ليتردد أن يذكّر سعد بن عبادة بما حصل في حديث الإفك، ولم يكن ليتردد أن يذكر له بالاسم (لا بل ويشير بالبنان إلى) جميع من شاركوا فيه، وكيف حصل بجميع تفاصيله، ومن الذي دبّره وتولى كبره منهم، ومن الذي ساعد في تدبيره، وما الغاية المرجوة التي كانت عند كل فريق منهم من ترويجه بين الناس.
السؤال: كيف فعل الصديق ذلك؟
رأينا: ما أن تقابل الصديق مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعده في جمع من كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار (وحضور بعض من شارك في حديث الإفك) حتى كانت الصراحة التامة هي سيدة الموقف، فكان أبو بكر هو من يمسك بالورقة الرابحة التي تضع الأمور في نصابها الصحيح، وذلك (نحن نفتري القول) لمعرفته المسبقة بتفاصيل حديث الإفك. ولعلي أجزم القول بأن الصديق قد هدّد سعد بن عباده بفضح الأمر كله على الملأ ونشر القصة الحقيقية والأشخاص الذين تورطوا بها جميعا مع مخططاتهم المسبقة بالدليل الذي لا يمكن رده. ولعل النقطة الأقوى التي أثارها الصديق حينها هو تذكير سعد بن عباده بأنه قد وضع يده بيد شخص آخر معروف النفاق بين المسلمين وهو من تولى كبره من الذين دبروا حديث الإفك كما نصت على ذلك الآية الكريمة نفسها:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
ولمّا وجد سعد بن عبادة نفسه (نحن لازلنا نتخيل) في موقف ضعيف لا يستطيع أن يقاوم حجة الصديق، ولما كان سعد بن عباده من المؤمنين (وإن كان من أصحاب المطامع الدنيوية) رجع إلى رشده، فانتقلت الخلافة إلى أبي بكر بكل يسر وسهولة. والملحوظ الذي لا يجب أن نغفل عنه هنا هو أن سعدا (الذي كان يتذرع بحق الأنصار في الخلافة) لم يعد ليطلب حقا فيها حتى بعد وفاة أبي بكر وانتقالها إلى الفاروق عمر. فلماذا؟ من يدري؟!!!
الدليل
دعنا نرجع إلى حديث الإفك بالتساؤل التالي: لماذا كان السكوت فترة طويلة جدا (قرابة الشهر من الزمن) هو موقف النبي الكريم وصاحبه؟
رأينا: لابد لكل من يتعرض لحديث الإفك أن يطرح جملة من التساؤلات حول ردة فعل النبي في حديث الإفك، نذكر منها:
- لماذا سكت النبي فترة طويلة من الزمن؟
- لماذا تأخرت تبرئة عائشة؟
- لِم لم ينزل وحي السماء مباشرة لتبرئتها؟ هل يحتاج رب السموات والأرض إلى كل هذا الزمن ليعلم براءة المرأة من التهمة الموجهة إليها؟! أم هل يحتاج من سيوصل الرسالة (كالوحي) إلى كل هذا الوقت ليصل بها إلى الناس فيعرفونها؟ من يدري؟!
- لِم لم يُقِم النبي الكريم الحد على عائشة مادام أن عصبة من الرجال هم من جاءوا بالإفك؟
- لِم يقم النبي الكريم الحد على هؤلاء العصبة عندما نزلت تبرئة المرأة من السماء؟
- الخ.
السؤال المربك لنا: ألم يكن من واجب النبي الكريم أن يقيم الحد على عائشة أو على الذين جاءوا بالإفك سواء ثبتت التهمة على المرأة أو ثبتت البراءة لها منها؟ فلِم لم يفعل؟ هل في روايات أهل العلم ما يثبت ذلك؟
جواب مفترى: لعل التضارب في نقل الرواية هو السمة الغالبة على ما سطرته مؤلفات أهل العلم. فالبعض ينفي أن يكون الرسول الكريم قد أقام حدا على أحد في حديث الإفك، والبعض الآخر يؤكد بأن النبي قد أقام الحد على بعضهم، لكن المؤكد عند الجميع أن النبي لم يقم الحد على كل من جاءوا بالإفك، أليس كذلك؟
رأينا: من أراد أن يجادل في ذلك، فليرجع وينبش في بطون أمهات كتب الأحكام والتفسير، وإن هو وجد ما يناقض ما نقول فله منا الشكر، ونحن ملتزمون أن نأخذ بقوله، ونلقي برأينا في سلة المهملات. وحتى يأتينا الدليل ممن أراد المجادلة، فإن موقفنا المبدئي هو التالي: أن النبي الكريم لم يقم الحد بحق من جاءوا بالإفك إطلاقا بالرغم أن البراءة للمرأة قد أثبتت بوحي السماء.
الدليل
نحن نفتري الظن بأنه لو كان الرسول الكريم قد عمد إلى إقامة الحد على من جاءوا بالإفك، لما كان سيقيم الحد على بعضهم دون البعض الآخر، لأن ذلك يصبح من باب التحيز الواضح، وهو ما لا يمكن للرسول الكريم أن يتهاون فيه.
السؤال: لماذا إذن لم يعمد النبي إلى إقامة الحد على من جاءوا بالإفك كما تزعم؟ يسأل صاحبنا مستغربا.
رأينا: لأن الذين جاءوا بالإفك كانوا عصبة
السؤال: وما معنى ذلك؟
رأينا لمفترى: نحن نفتري الظن بأنه مادام أن الذين شاركوا في المؤامرة كانوا عصبة، أي مجموعة من الرجال (وعددهم عشرة كإخوة يوسف مثلا)، فهم إذن قد خططوا وتآمروا سرا على تنفيذ مخططهم من أجل تحقيق مصالح غير معلنة على الملأ. لذا، بقيت شخصياتهم غير معلنة. فهم الذين خططوا الإفك سرا، فحاولوا جهدهم أن يتكتموا على شخصيات جميع المشاركين في المخطط المزمع تنفيذه. فكانوا بالمفردات الدارجة كالعصابة.
السؤال: لماذا إذن لم يعمد الرسول الكريم على إقامة الحد عليهم؟
رأينا: لأن أحدا منهم لم يكن يتجرأ أن يعلن عن شخصيته. فالذين جاءوا بالإفك لم يكونوا ليتجرؤوا على تقديم أنفسهم، وهم الذين لم يتجرؤوا على تقديم الشهادة العلنية ضد السيدة عائشة.
السؤال: ألم يكن النبي الكريم يعلمهم؟
رأينا، بلى، لقد كان يعلمهم جميعا. وكذلك كان أبو بكر الصديق.
السؤال: لماذا لم يفضحهم النبي إذن؟
جواب: لقد كان هذا جانبا من المخطط الذي كان يدبّره النبي الكريم مع صاحبه أبي بكر لإضعافهم وإبقائهم في دائرة الاتهام غير المفتضح، للاستفادة من ذلك عندما يلزم الأمر، وهو ما حصل فعلا في سقيفة بني ساعده.
السؤال: كيف ذلك؟
رأينا: عندما حصلت المواجهة بين أبي بكر وسعد بن عبادة في سقيفة بني ساعده كان الصمت يعلو المكان، وكان سعدا يحاول الترويج لحقه في الخلافة بداعي نصرته للنبي في المدينة، فهو من الأنصار الذين قدّموا للإسلام ما قدموا في وقت الضيق، وهم ...، وهم...، الخ. وقد حاول سعد بهذه الذريعة أن يكسب تأييد فريق من قومه، وهم الذين تواجدوا معه في سقيفة بني ساعده، فحاول جر النقاش إلى هذا المنزلق وهو أحقية الأنصار مقابل أحقية المهاجرين. ولو نجح سعد في ذلك لشق صف المسلمين منذ اليوم الأول بعد وفاة النبي بالموت، ولربما وصل الخلاف بين الطرفين إلى حد الاقتتال بالسيف. لكن كيف نجح أبو بكر في الخروج من هذا المنزلق الخطير؟
رأينا: لو تتبعنا تاريخ الخلافة الإسلامية بعد هذه الحادثة لما وجدنا أثرا لخلاف بين مهاجر وأنصاري في ذلك، ليكون السؤال الحتمي هو: لماذا لم يحاول أحد من الأنصار أن يدّعي حقا في الخلافة؟
رأينا: على الرغم من تكرار حادثة انتقال السلطة أكثر من مرة، إلا أن أحدا من الأنصار لم يدّعي حقه فيه، بل لم ينافس عليها إطلاقا. فلا نجد في بطون كتب التاريخ أو حتى كتب السيرة والأحكام خلافا بين المهاجرين والأنصار بعد حادثة سقيفة بني ساعده، فلم - يا ترى- سكت صوت الأنصار تماما؟ نحن نسأل.
رأينا المفترى: نحن نظن أن أبا بكر هو من أخرج الأمة بأكملها من هذا المنزلق الخطير الذي كاد يطيح بالدولة الإسلامية الناشئة حتى قبل تأسيسها. فكيف فعل ذلك؟
رأينا المفترى: ما أن حصلت المواجهة بين أبي بكر من جهة وسعد بن عبادة من جهة أخرى حتى استطاع الصديق بإيمانه ورباطة جأشه وقوته الحقيقية أن يوقف دعوى سعد عن حدها، فأثبت له وللحاضرين جميعا بأن هدف سعد بن عبادة ليس إثبات حق للأنصار أو نفي حق للمهاجرين في الخلافة لأن تلك من دعوى الجاهلية. فلقد حصلت مثل هذه الفرقة بعد غزوة حنين عندما وزّع النبي الغنائم على الناس واستثنى الأنصار من جلها، ولما وجد بعض الأنصار في أنفسهم حرجا من ذلك، ارتفعت حناجر بعضهم بالتذمر حتى وصلت النبي الكريم الذي لم يتردد حينها في جمع الأنصار والوقوف بهم خطيبا ليذكرهم جميعا بموقف المهاجرين والأنصار من الدعوة، فالجميع شارك فيها، والجميع صاحب حق فيها، وليس لأحد فضل على أحد آخر إلا بمقدار فضل الأخير على الأول. ففضل المهاجر على الأنصاري كفضل الأنصاري على المهاجر. فاستطاع النبي منذ تلك الحادثة أن يسكت الصوت الذي ينادي للتفريق بين الطرفين، وليس يفعل مثل هذا إلا من لم يكن الإيمان قد دخل قلبه بعد، أو أن يكون أقرب إلى النفاق منه إلى الإيمان.
ولعلي أجزم الظن أن أبا بكر لم يجد كثير عناء في أن يوصل الرسالة إلى كل الحاضرين في سقيفة بني ساعده حينئذ، لأنه لا شك ردد ما قاله النبي بعد حادثة توزيع غنائم حنين، ولا أشك أن أعين المؤمنين الصادقين قد ذرفت دمعا كما فعلت عندما وقف فيهم النبي خطيبا بعد حنين. فهم الآن لا يستمعون إلى مفردات تخرج من حنجرة أبي بكر ولكنهم يسمعون صوت النبي فيهم وإن كان الآن ممدا بين ظهرانيهم بعد أن توفاه الله بالموت.
لكن، كان تساؤل أبي بكر الذي دوى صداه عاليا في المكان حينها هو: إذا كنت لا تفعل ذلك – يا ابن عباده- من أجل إثبات حق للأنصار، فما الذي يدفعك إلى فعل ذلك الآن؟
تخيلات مفتراة: أنا استطيع أن أتخيل أن الرسالة التي كان أبو بكر يريد إيصالها إلى سعد حينها هي: هل - تراك يا سعد- ستكرر الموقف الذي فعلته في حديث الإفك؟ هل تراك – يا سعد- تضع يدك هذه المرة (كما فعلت سابقا) في يد من تولى كبره فدبر حديث الإفك كما فعلت سابقا؟ إذا كان هذا هو ما تريده، فلن أتردد أن أفصح الآن وعلى مسمع الجميع ما فعلت حينها. ولعلي لا أتردد أن أذكر أسماء جميع الذين تورطوا معك حينها في حديث الإفك، لا بل وأشير إليهم الآن بالبنان لأنهم يقفون معك في هذه السقيفة، ولن أتردد أن أخبرك بالدافع الذي جعلك تضع يدك بيد ذاك المنافق معلوم النفاق الذي لم ولن يأل جهدا للإيقاع بين المسلمين، لأن هدفه هو العداء لهذا الدين. فما الذي حصل بعد هذه الرسالة الموجهة إلى سعد مباشرة.
رأينا: لا أظن أن سعدا أو أحدا من الذين تواجدوا معه (وكان من بينهم من شارك في حديث الإفك) كان يستطيع أن يقف في وجه قوة الصديق هذه. فما كان منه وممن شارك معه في حديث الإفك (نحن نتخيل) إلا أن آثروا السكوت وللأبد في نبش موضوع الخلافة، فانتقلت بكل يسر وسلاسة للصديق الذي كان الأحق والأجدر فيها، ليس طمعا في مغنم دنيوي، وإنما لأن المواقف القادمة قريبا ستكشف بأنه هو الرجل الوحيد الذي سيستطيع النجاة بقارب المؤمنين في هذا البحر المتلاطم من المسلمين الذين لم يدخل الإيمان بعد في قلوبهم ومن المنافقين الذين يتربصون بهذا الدين وأهله.
السؤال: من هو الشخص الذي تولى كبره في حديث الإفك؟
رأينا المفترى: إنه الذي دبر حديث الإفك برمته. إنه الذي كان يتربص بشخص محمد نفسه وبدين محمد. إنه زعيم المنافقين عبدالله ابن أبي بن سلول.
الدليل
لا شك عندنا أن جميع الروايات التاريخية لحديث الإفك تجمع على أن خيوط حديث الإفك بدأت تحاك والجيش لازال خارج المدينة، أليس كذلك؟ لذا لابد أن يكون من بدأ حياكة خيوط حديث الإفك (نحن نفتري الظن) متواجدا بين صفوف الجيش. ولابد أنه كان عارفا بما حصل من أمر السيدة عائشة عندما تأخرت عن الركب، ولابد أنه كان عارفا بمن لحقت الجيش بصحبته، وهكذا.
ثانيا، لا شك أن من بدأ حياكة خيوط ذلك الحديث لم يكن من المؤمنين حقا لأنه لو كان كذلك، لما جاءت ردة فعله تزيد على ما جاء في قوله تعالى:
لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ 16
نتيجة مفتراة: نحن نكاد نجزم أن من بدأ حياكة خيوط حديث الإفك كان من المنافقين
ثانيا، لو تتبعنا سيرة المنافقين في الغزوات لوجدنا أن المغانم هي التي كانت تخرجهم مع النبي، فسيرتهم في القتال معروفه وهي ما تصوره الآيات الكريمة التالية أحسن تصوير:
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
ثالثا، حاولنا أن نبين في الأجزاء السابقة أن غزوة بني المصطلق لم تكن من الغزوات الكبيرة التي كان متوقعا أن يقع فيها قتالا كبيرا بين المسلمين والكفار
رابعا، افترينا الظن بأن غزوة بني المصطلق قد جاءت بغنائم كبيرة على المسلمين
خامسا، لما كان بعض المنافقين لن يفوتوا على أنفسهم فرصة الظفر بالغنائم، كان خروجهم مع النبي متوقعا.
سادسا، لم يكن خروج المنافقين مع الرسول حصرا بهذه الغزوة، بل لابد أنهم قد خرجوا معه في بعض غزواته الأخرى خاصة التي لم تكن حاسمة والتي كان من المتوقع أن تجر عليهم الفوز العظيم بالغنائم المتوقع الحصول عليها.
وهنا ننتقل إلى النقطة التي نظن أنها ملفتة للانتباه وهي: في حين أن خروج المنافقين مع النبي في بعض غزواته قد كان متكررا، إلا أنه حصل أن تجرأ بعض منهم على النبي في واحدة من غزواته، وتوعد النبي بإخراجه من المدينة بعد العودة منها كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية:
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
السؤال: لماذا؟ أي لماذا تجرأ بعض المنافقين على تهديد النبي بعد العودة للمدينة؟ ومتى حصل ذلك؟
رأينا: دعنا ننبش بداية فيما جاء عن هذه الآية الكريمة في بطون أمهات كتب التفسير كالطبري مثلا:
لو تدبرنا هذا "التفسير العظيم" لوجدنا بعض الأمور التي تستوجب التوقف عندها:
1. أجمع أهل العلم أن الذي تجرأ على النبي في ذلك هو عبدالله بن سلول
2. أجمع أهل العلم أن تلك الحادثة قد افتعلت لشق الصف بين الأنصار والمهاجرين، فالخلاف حصل بعد أن حصلت مناوشة بين رجل من الأنصار مع رجل من المهاجرين (أو من يوالوهم)
3. نحن نصدق الرواية التي جاءت بالخبر أن هذه الحادثة قد حصلت بُعيد غزوة بني المصطلق وهي الغزوة التي حصل فيها حديث الإفك.
4. الخ
السؤال: كيف يمكن ربط الأحداث مع بعضها البعض؟
رأينا المفترى: عندما تأخرت السيدة عائشة عن الركب، وباتت ليلتها بعيدا عنهم ثم جاء بها رجل غريب في اليوم التالي على بعيره، لم يكن من كان من المنافقين ليظن خيرا، فبدأ بنسج خيوط حديث الإفك، وأخذت الشائعة تدور في الجيش على لسان أهل النفاق، وأخذ بعض المسلمين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم بعد الخوض في هذا الحديث، وعندها بدأ بعضهم يتدارس الأمر مع من جاء بالإفك نفسه وهو عبدالله بن سلول، فكان (نحن نتخيل) من بينهم سعد بن عباده الذي لم يكن يستطيع أن يقاوم رغبته بالسيادة. فوجد في إلصاق التهمة بالسيدة عائشة طريقا سهلا لإزاحة أبي بكر عن الساحة، فتلاقت المصالح مع بعضها البعض، وهنا لم يكن من ابن سلول إلا أن يعمل كل ما يستطيع ليغذي شق الصف بين الأنصار والمهاجرين، فافتعل حادثة الاقتتال بين نفر من المهاجرين والأنصار.
تخيلات: عندما وجد عبدالله ابن أبي ابن سلول أنه فعلا قد استطاع أن يحدث شقا بين الطرفين، ظن بنفسه أنه قد تمكّن من محمد ودينه، فما كان منه إلا أن نطق بكلمة الكفر "لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ"، وبالرغم من محاولته الاعتذار لاحقا عندما وجد أن غالبية المسلمين في صف محمد بمن فيهم ابنه نفسه، إلا أن ذلك لم يكن لينفعه:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
والسبب في اعتذاره كان أنه من الذين (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)، فكان من الناقمين على هذا الدين وأهله.
الدليل
لو رجعنا إلى حديث الإفك كما بينته الآية الكريمة التي جاءت لتكشف مخطط من جاء به لوجدنا أنها تبرز شخصا واحد من بين العصبة على أنه هو من تولى كبره منهم، وهو من توعده الله بالعذاب العظيم:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
السؤال: من الذي تولى كبره منهم؟ وما معنى أن يكون هذا الشخص على وجه التحديد قد تولى كبره؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن مفردة كِبْرَهُ في هذه الآية الكريمة مشقة من مفردة "أكبر"
السؤال: وما علاقة ذلك بحديث الإفك؟
رأينا: نحن نظن أن الذي تولى كبره في حديث الإفك كان هدفه "أكبر".
سؤال: وما معنى ذلك؟ لم أفهم شيئا يقول صاحبنا.
جواب: ربما نستطيع أن نتبيّن معنى مفردة "كِبْرَهُ" من مكان آخر في كتاب الله، وهو ما جاء في الآية الكريمة التالية التي تصور ما فعلت النسوة بيوسف عندما "أَكْبَرْنَهُ" قبل أن يقطعن أيديهن:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
فقد زعمنا الظن أن النسوة عندما رأين يوسف أكبرنه لأنهن ببساطة اخترن إيقاعه في الفتنة مصداقا لقوله تعالى:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
فظننا مفترين القول من عند أنفسنا أنه لما كانت الفتنة أكبر من القتل (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، جاء قرار النسوة من باب الإكبار على صيغة أنهن قد "أَكْبَرْنَهُ".
وبهذا الفهم المفترى من عند أنفسنا نعود إلى قصة الذي تولى كبره في حديث الإفك ليكون منطقنا المفترى على النحو التالي: كان هدف الذي تولى كبره هو إحداث الفتنة في صفوف المسلمين عن طريق القتل، فحاول إشعال الفتنة بالاقتتال بين نفر من المهاجرين والأنصار، وكان هدفه أكبر من أن يقتل رجل من الأنصار رجلا من المهاجرين أو العكس، لأن هدفه الإكبار، أي الفتنة، لأن الفتنة لا شك هي أكبر من القتل بحد ذاته (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).
والله أعلم
تساؤلات
- كيف حاك عبد الله أبن سلول حديث الإفك؟
- كيف روجه بين صفوف المسلمين؟
- من الذي شاركه في ذلك؟
- كيف أوقفه النبي عند حده؟
- لماذا سكت النبي عليه؟
- ما علاقة هذا كله بحديث الإفك نفسه؟
- كيف كان في ذلك خير للمؤمنين حينئذ؟
- كيف أصبح في ذلك خير للمؤمنين في كل حين؟
- الخ
هذه جملة من التساؤلات التي سنتناولها (بحول الله وتوفيقه) في الجزء القادم من هذه المقالة. سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يهدينا لأقرب من هذا رشدا، وأن يزدنا علما إنه هو الواسع العليم – آمين. وأعوذ بالله أن أكون قد افتريت عليه الكذب أو أن أكون قد قلت عليه ما ليس لي بحق، وأسأله وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا وأن يزدني علما – آمين
والله أعلم
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
26 تشرين الأول 2014