قصة يأجوج ومأجوج - الجزء الخامس
قصة ذي القرنين
قصة يأجوج ومأجوج 5
زعمنا في نهاية الجزء السابق من هذه المقالة بأن عروش آل فرعون التي دمرت بعد أن نزل العقاب الإلهي بهم موجودة في الأهرامات المصرية، وبعثنا برسالة استعانة إلى صديقنا عالم الآثار المصرية عصام درويش للبحث عنها، ولكن جاءنا الخبر سريعا من عنده على غير ما ظننا، فقد أكد لنا أن الأهرامات نفسها تخلو من مثل تلك العروش، ولكنه بعث لنا في الوقت ذاته بالصور التالية التي تبين (نحن نزعم الظن) بقايا تلك العروش من أرض مصر الخالدة:
وسنحاول في هذه المقالة تقديم افتراءات هي من عند أنفسنا للترويج للفكرة التالية: أن هذه البلاد هي الأرض التي بنيت فيها العروش، وهي التي جاء منها ذلك العلم الذي مكن فرعون من الاطلاع إلى إله موسى:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
وهناك – نحن نفتري الظن- أوقد هامان لفرعون على الطين فجعل له صرحا استطاع من خلاله أن يبلغ الأسباب، أسباب السموات والأرض:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
تساؤلات
- من الذي بنا هذه العروش؟
- لماذا بنيت هذه العروش؟
- كيف بنيت؟
- متى بنيت؟
- كيف دمرت؟
- متى دمرت؟
- من الذي استفاد من العلم المكنون فيها؟
- أين ذهب ذلك العلم المكنون فيها؟
- الخ
هذه تساؤلات سنحاول أن نقحم أنفسنا فيها في هذا الجزء الجديد من المقالة، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا فلا نكون من الذي يفترون عليه الكذب ليضلوا الناس بغير علم، وأعوذ بك ربي أن أكون من القوم الظالمين - آمين.
أما بعد،
للخوض في هذا الموضوع وجدنا لزاما علينا أن نجلب بداية بعض الافتراءات ذات العلاقة بالموضوع قيد البحث هنا والتي وردت في مقالات سابقة لنا، وهي على وجه التحديد: قصة يوسف، قصة موسى وقصة سليمان. لذا ربما يكون من المفيد لمن أراد أن يتبين وجاهة ما نطرح أن يقرأ (وربما أن يعيد قراءة) ما افتريناه من عند أنفسنا في تلك المقالات السابقة، وسنحاول إعادة تسطير الخطوط العريضة ذات العلاقة التي وردت في تلك القصص، ثم ننطلق من هناك إلى تقديم تصورنا المفترى الجديد لهذه العروش التي دمرت في أرض مصر بعد هلاك فرعون وآله.
من قصة يوسف
ما أن مكّن الله ليوسف في أرض مصر بعد أن كلّم الملك:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
حتى أصبح بنو إسرائيل هم ملوك الأرض هناك بعد أن كانت النبوة فيهم:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20)
وأصبح العلم فيهم وفيرا خاصة العلم الذي كان ليوسف:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
ولما كان يوسف عليما، بينما كان يعقوب ذا علم:
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)
فقد افترينا الظن بأن يوسف فوق يعقوب في العلم:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
لأن يوسف كان يملك بناصية نوعين من العلم.
(1) الذي حصل عليه من أبيه يعقوب وهو علم تأويل الرؤيا:
قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
(2) العلم الذي حصل عليه من أبيه الآخر الذي اشتراه من مصر ورباه عنده في الأرض المقدسة، وهو علم تأويل الأحاديث:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
نشأ يوسف في بيت الذي رباه وأحسن مثواه:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وما أن كبر حتى وجد أولئك القوم الذين تربى فيهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فترك ملتهم، متبعا ملئه آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب وهي عقيدة التوحيد:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
لأنه يعلم السنة الإلهية الخاصة بمن كان مستضعفا في الأرض، ألا وهي الهجرة، متمثلا قول الحق:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97)
فانتقل يوسف (نحن نفتري القول) من تلك الأرض التي حصل له فيها التمكين الأول، حيث كان يسكن ذلك الرجل الذي اشتراه من مصر:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
إلى أرض مصر التي سيحصل له فيها التمكين الثاني:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
فسار يوسف في رحلته هذه على خطى جده الأول إبراهيم الذي انطلق إلى أرض مصر (نحن نفتري القول) بعد حادثة النار، فحط به الترحال عند الذي آتاه الله الملك فحاج إبراهيم في ربه:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
وكذلك انتهت الرحلة بيوسف في بيت ملوك مصر ، وهم كما افترينا في تلك القصة من سلالة ذاك الذي آتاه الله الملك وحاج إبراهيم في ربه، فأصبح يوسف يعمل في بيت تلك المرأة (امرأة العزيز)، فحصلت القصة برمتها هناك:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
ما أن رأى الملك تلك الرؤيا الشهيرة:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
حتى كان يوسف هو من يستطيع أن يؤولها فقط في أرض مصر مستعينا بالعلم الذي جاء به من عند أبيه يعقوب، فيعقوب هو من قص يوسف عليه رؤياه الأولى، وطلب منه أن لا يقصص رؤياه على إخوته لأنهم ببساطة سيستطيعون تأويلها، فكان علم تأويل الرؤيا (نحن نظن) موروثا في بيت النبوة وذلك لأن جدهم الأول إبراهيم هو أول من أوّل رويا المنام:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
نتيجة مفتراة: تلقى يوسف علم تأويل الرؤيا من أبيه يعقوب، فأصبح ذا علم
لكن يوسف كان يملك بناصية نوع آخر من العلم تلقاه من أبيه الآخر وهو الذي اشتراه من مصر ورباه في بيته، وهو علم تأويل الأحاديث:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
نتيجة: أصبح يوسف ذا علم آخر، فتميز يوسف عن والده يعقوب وعن باقي إخوته، فكانت تلك نعمة الله التي أتمها على يوسف كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحق ولم يتمها على يعقوب وبنيه الآخرين:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
فلم يكن علم تأويل الأحاديث بحوزة أبيه يعقوب، فكان يعقوب ذا علم، وأصبح يوسف ذا علم وذا عليم، أي عليم.
أب يوسف الأول وهو يعقوب كان ذا علم (تأويل الرؤيا)
أب يوسف الثاني وهو ...... كان ذا علم (تأويل الأحاديث)
يوسف ذا علم (تأويل الرؤيا) + ذا علم (تأويل الأحاديث) = عليم
وقد كان حصول يوسف على هذا العلم (في ظننا) أحد أهم الأسباب التي دعت به للخروج من بيت أبيه الأول يعقوب، فقد طُرح يوسف أرضا (أي أخرج من بلاده الأولى إلى المنفى) لكي يتلقى علم تأويل الأحاديث الذي لم يكن متوافرا عند يعقوب نفسه، فيكون في ذلك تمام نعمة الله عليه. الأمر الذي لم يكن بحسبان إخوته الذين كادوا به:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
فما أن وصل يوسف إلى سوق مصر حتى وجده ذلك الرجل الصالح، فاشتراه بعد أن كان الجميع فيه من الزاهدين:
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
فحصل ليوسف في بيت هذا الرجل التمكين الأول في الأرض:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
فوجد يوسف في بيت الرجل الذي اشتراه من مصر العلم الذي لم يكن متوافرا في بيت أبيه يعقوب، وهو علم تأويل الأحاديث، فما أن بلغ أشده حتى كان الله قد آتاه حكما وعلما:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
فتعلمه وأصبح يستطيع ممارسته:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
وقد طبق يوسف ذلك العلم في السجن على أرض الواقع عندما (نحن نظن) كان ينبئ صاحبيه فيه بما كان يأتيهما من طعام يرزقانه:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
وقد افترينا القول في سلسلة مقالاتنا تحت عنوان قصة يوسف أن علم تأويل الأحاديث هو الإخبار المسبق عن الأحداث التي وقعت قبل وصول خبرها، فيوسف كان يعلم الطعام القادم إلى صاحبيه السجن قبل أن يأتيهما، وكذلك أخبرهما بالحكم الصادر في المحكمة بحقهما قبل أن يأتيهما الخبر، وهكذا:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
وقد زعمنا أن يوسف كان يستطيع ذلك بما يملك من علم تأويل الأحاديث المستند كليا على وجود العرش، أي شاشة المراقبة عن بعد. (للتفصيل انظر مقالتنا: ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته: باب العرش).
وربما يدل على ذلك أيضا ما فعله يوسف عندما دخل عليه أبواه مصر، فقد رفعهما الاثنين على العرش ولكنه طلب من واحد منهم فقط (وهو يعقوب) أن ينظر فيه:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وذلك لأن أباه الأخر كان يملك هذا العلم، فهو أصلا من تعلم يوسف هذا العلم على يديه. وسنحاول عند متابعة حديثنا في سلسلة مقالتنا عن قصة يوسف التعرض لشخصية هذا الرجل، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، إنه هو الواسع العليم – آمين.
باب العرش: يعرشون
بعد هذا السرد لأحداث قصة يوسف (كما نتخيلها قد حصلت على أرض الواقع)، فإننا نفتري القول إذن بأن علم العرش كان متوافرا عند يوسف، فأصبح ذلك معروفا في أرض مصر، فأخذ بنو إسرائيل عندما استتب لهم الأمر في أرض مصر هذا العلم عن يوسف، فأصبحوا قادرين عليه، فكانوا يعرشون، أي يستطيعون بناء عروش تمكنهم من معرفة ما يجري حولهم، وبالتالي مراقبة الأمر عن بعد، كما كانت تفعل تلك المرأة التي كان تملك قومها بسبب ذلك العرش الخاص بها:
إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
السؤال: كيف وصل على صناعة العروش إلى أرض مصر؟
جواب: عن طريق يوسف، فهو الذي جلب هذا العلم إلى أرض مصر.
السؤال: ومن أين جاء به يوسف؟ أي من أين تعلمه؟
جواب: من بيت ذاك الرجل الذي اشترى يوسف من مصر.
السؤال: وأين كان يسكن هذا الرجل؟
جواب: نحن نظن أن الرجل لم يكن يسكن مصر لأنه اشترى يوسف من مصر.
السؤال: وأين كان يسكن؟
جواب: في أرض أخرى غير أرض مصر.
الدليل
نحن نظن أن الله قد مكن ليوسف في الأرض مرتين، فقد جاءه التمكين الأول بعد أن اشتراه ذلك الرجل من مصر وعاد به إلى بيته:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
وكذلك حصل ليوسف تمكين آخر في الأرض بعد أن كلم الملك (أي ملك مصر) بعد خروجه من السجن:
وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
السؤال: هل الأرض التي مكن الله ليوسف فيها في المرة الأولى هي الأرض نفسها التي مكن الله له فيها في المرة الثانية؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا. فالتمكين الثاني حصل ليوسف في أرض غير الأرض التي حصل له فيها التمكين في المرة الأولى.
سؤال: إذا كان التمكين الثاني قد حصل له في أرض مصر بدليل أن ملك مصر هو من كلمه:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
فأين – يا ترى- حصل له التمكين الأول؟ نحن نسأل.
جواب مفترى: نحن نظن أن التمكين الأول قد كان في غير أرض مصر، لأن صفقة شراء يوسف حصلت في أرض مصر:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
السؤال: أين كان هذا الرجل الذي اشترى يوسف من سوق مصر يسكن؟ وأين كانت أرضه التي أخذ يوسف معه إليها وحصل ليوسف فيها التمكين الأول؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نفتري القول بأنه كان يسكن في أرض تقع إلى الجنوب من أرض مصر
لتصبح خارطة رحلة يوسف على النحو التالي:
يعيش يوسف في بيت والده يعقوب في البدو، وهي المنطقة التي زعمنا أنها أرض بئر السبع في صحراء النقب. الواقعة على الأطراف الشمالية لأرض مصر التاريخية. يُطرح يوسف أرضا على يد إخوته هناك، فيلتقطه بعض السيارة، ويذهبون به جنوبا إلى سوق مصر، وهناك يعرضوه للبيع، لم يجدوا من يريد شراء هذا الغلام لما أصابه (نحن نتخيل) من تعب وضعف في جسده جراء عناء الرحلة، فكان الجميع فيه من الزاهدين بمن فيهم أولئك الذين وجدوه في غيابة الجب واستبشروا به وأسروه بضاعة:
وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
ما أن كان السوق حينها على انقضاء (نحن نتخيل) حتى جاء من بعيد رجل يظهر عليه علامات السفر قادما من الجنوب، وما رأى يوسف حتى عرفه، واشتراه من الذين كانوا فيه من الزاهدين بثمن بخس دراهم معدودة:
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
رجع هذا الرجل بيوسف إلى بلاده متجها جنوبا، ومبتعدا بيوسف أكثر عن بلاده الأصلية، وما أن أوصل هناك حتى دخل بيته وعرف امرأته عليه طالبا في الوقت نفسه منها أن تكرمه:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
فبلغ يوسف أشده هناك، وهناك آتاه الله حكما وعلما:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وهناك عاش يوسف بين قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فتركهم وهاجر شمالا إلى أرض مصر من جديد:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
متبعا لملة آباءه إبراهيم وإسحق ويعقوب:
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
وهناك في ارض مصر حصلت معظم الأحداث الرئيسة في قصة يوسف منذ حادثة المراودة:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
حتى طلب يوسف نفسه اللحاق بالركب من عباد الله المخلصين بالوفاة بالموت:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
نتيجة مفتراة خطيرة جدا جدا: تربى يوسف في بيت الذي اشتراه من مصر في بلاد تقع إلى الجنوب من أرض مصر التاريخية، فأين هي تلك البلاد؟
رأينا: إنها ما يعرف اليوم بمنطقة أسوان ذات العروش المدمرة والتي تبعد ما يزيد عن ستمائة كيلومترا إلى الجنوب من أهرامات الجيزة، والتي جاءتنا بعض صورها من الأخ عصام درويش كهذه مثلا:
السؤال: ماذا تسمى هذه الأرض التي تربى فيها يوسف وتعلم فيها علم تأويل الأحاديث والتي تقع إلى الجنوب من أرض مصر التاريخية في النص القرآني؟
جواب مفترى خطير جدا جدا لا تصدقوه: إنها سبأ
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
وهي الأرض نفسها التي جاء الهدهد بخبر منها إلى سليمان:
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
وهي الأرض نفسها التي كانت تلك المرأة تملك قومها فيها، ولها هناك عرش عظيم:
إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
وهي المنطقة نفسها التي كان القوم فيها يعبدون الشمس في ذلك الوقت:
وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
وسنحاول (إن أذن الله لنا الإحاطة بشيء من علمه) أن نتحدث عن كيفية حصول تلك المرأة على عرش عظيم عندما نتابع (بحول الله وتوفيقه) حديثنا المفترى في مقالتنا عن قصة سليمان تحت عنوان ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته. فالله وحده أسأل أن ينفذ أمره بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد من بعدي إنه هو العليم الحكيم – آمين).
إن ما يهمنا قوله هو الافتراء التالي: لقد جاء يوسف إلى أرض مصر يحمل في جعبته علما تعلمه من تلك البلاد التي حصل له فيا التمكين الأول:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
وطبق هذا العلم على أرض الواقع في أرض مصر التي حصل له فيها التمكين الثاني:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
فأصبح هذا العلم متوافرا في أرض مصر منذ قدوم يوسف به إليها من أرض سبأ.
ومن أراد المجادلة، فعليه بأخينا عصام درويش الذي بعث لنا بالرسومات التالية:
فهم الأقدر على تفكيك هذه الرمز الأثرية الخالدة، التي لازالت (نحن نفتري القول) شاهدة على ما حصل حينئذ.
عودة على بدء
ما أن هلك يوسف في أرض مصر حتى دب الخلاف بين بني إسرائيل أنفسهم:
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34)
فاستغل أهل مصر الأصليين هذا الخلاف في بني إسرائيل، فاستطاعوا أن يستعيدوا ملك مصر من أيدي بني إسرائيل، فقامت ثورة المصرين (نحن نتخيل) ضد بني إسرائيل الذين جاءوا هذه البلاد (أي مصر) من البدو أصلا:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
فتغير نظام الحكم (نحن لا زلنا نتخيل) من النظام الملكي الذي يؤيده بنو إسرائيل إلى النظام الفرعوني الذي يؤيده المصريون أصحاب البلد الأصليين، فأصبح حكام مصر منذ تلك اللحظة يعرفون بالفراعنة بدلا من الملوك، فتغير اللفظ من الملك في قصة يوسف:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
إلى فرعون في قصة موسى:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
من قصة موسى
عندما استتب الحكم في أرض مصر للفرعون الأول وآله، تمادوا في تقتيل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم:
وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
فحل الأذى ببني إسرائيل في أرض مصر قبل ومن بعد مجيء موسى:
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
فبدأت أحداث قصة موسى في أرض مصر، فقد ولد لبني إسرائيل غلاما اسمه موسى، فكانت جل رسالته هو إخراج بني إسرائيل من أرض مصر:
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
فقد كان موسى كنبي من بني إسرائيل وكرسول الله إلى فرعون وقومه مقرا للفراعنة بحقهم التاريخي في أرض مصر، طالبا في الوقت ذاته توقف استعبادهم فيها:
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
وإرسالهم معه إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم:
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
فكيف بدأت القصة من أولها؟
ما أن ولد موسى حتى كان الله قد توفى والده بالموت (ربما على أيدي آل فرعون، وسنتحدث عن ذلك بحول الله وتوفيقه عند متابعة افتراءاتنا عن الموضوع في مقالتنا تحت عنوان قصة موسى، فالله وحده نسأل أن يعلمنا ما لم نكن نعلم - آمين). فنشأ موسى يتيم الأب، لا يجد حوله من يسانده إلا أمه التي ولدته وأخته التي تكبره في السن والتي ذهبت تقص أثره عندما ألقته أمه في اليم:
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
ونحن نفتري القول بأنه ما أن وضعت أم موسى طفلها حتى أرضعته حولين كاملين:
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
وما أن انتهت فترة رضاعته (بعد تمام الحولين كاملين) حتى خافت عليه من أن يظهر عليه آل فرعون، فجاءها الوحي الإلهي بأن تلقي بمولودها في التابوت فتلقيه في اليم وأن الله لا محالة راده إليها:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
بعد أن يأخذه عدو الله وعدوه:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
(وسنتحدث عن طبيعة الوحي الخاص بأم موسى لاحقا في سلسلة مقالتنا عن قصة موسى بإذن الله وتوفيقه، فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأن ينفذ أمره بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد من بعدي – آمين).
ولكن وجود موسى في ذلك التابوت قد ألقى عليه محبة من ربه، فكان موسى في ذلك التابوت يصنع على عين الله:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
فما أن رأت امرأة فرعون ذلك الصبي مستلقيا في التابوت حتى أحبته، وأمرت بعدم قتله:
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ ...
وتوجهت في الوقت ذاته بالخطاب إلى زوجها فرعون قائلة:
... عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ...
وكان السبب من وراء قولها هذا لزوجها بهذه الطريقة السرية هو أن زوجها (فرعون) لم يكن (نحن نكاد نجزم الظن) يستطيع على الإنجاب لعجز جنسي عنده لا يعلمه غيره إلا الله وزوجته التي طلبت منه الإبقاء على حياة هذا المولود من بني إسرائيل، فجاء قولها في حالة أن من حولها لم يكونوا ليشعروا بما قالت لزوجها:
... وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
فكان قولها لزوجها على انفراد بينهما حتى لا يعلم الآخرون بما قالت المرأة لزوجها فيفتضح فرعون في واحدة من أسرار هذا المتكبر (وهو عدم قدرة فرعون على ممارسة الجنس الطبيعي مع زوجته حتى جرت المرأة بعمله معها وفضلت الموت على الحياة مع هذا الطاغية:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
(للتفصيل حول عمل فرعون الذي طلبت امرأته النجاة منه انظر مقالتنا تحت عنوان: من هي زوجة موسى؟)
فسكت فرعون وألجم، فما استطاع أن يرد طلب زوجته هذا خوفا من أن يفتضح أمره، فتربى موسى سنين من عمره في آل فرعون (وليس في بيت فرعون نفسه كما قد يظن الكثيرون) كما جاء على لسان فرعون نفسه:
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
ولكن موسى نشأ مكفولا في آل كما جاء على لسان أخته:
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
وذلك لأن أمه (نحن نفتري القول) قد تزوجت برجل من آل فرعون، فأصبح موسى هو ربيب آل فرعون فلبث فيهم سنين من عمره:
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
عندما كبر موسى (كـ إسرائيلي) في بيت من بيوت آل فرعون، ورأى بأم عينه ما حل ببني إسرائيل على يد الفراعنة، انحاز موسى إلى شيعته في شكواهم ضد فرعون، فناصب موسى هذا الفرعون العداء، فكان في شيعة غير شيعة فرعون:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)
وما أن طلبت امرأة فرعون من ربها النجاة من فرعون وعمله بالموت:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
حتى وجد موسى نفسه لا يستطيع أن يواجه هذا الطاغية مواجهة مباشرة لعدم تكافئ القوة بين الطرفين، فقدْ فَقَدَ موسى أكبر مناصر له ومدافع عنه في البلاط الفرعوني وهي المرأة التي أحبته ورغبت أن يكون لها ولدا:
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
لذا عندما توفاها الله بالموت، لم يجد موسى (نحن نتخيل) مناصا من الهرب من مصر، فكان خروجه الأول متجها شمالا إلى الأرض المقدسة، وهناك آتاه الله حكما وعلما بعد أن بلغ أشده واستوى:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
وبقي موسى هاربا من أرض مصر حتى يوم موت هذا الطاغية الأكبر، عدو موسى وعدو الله الذي أخذه:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
فأصبحت المدينة كلها في غفلة لأن هذا الفرعون (عدو الله وعدو موسى) لم يكن له ولد يرثه في الحكم، فأصبحت مرحلة انتقال السلطة إلى فرعون جديد مرحلة حرجة في تاريخ مصر، فبقيت المدينة في غفلة حينا من الزمن، وذلك للفراغ السياسي الذي أحدثه موت هذا الفرعون الذي لم يكن له وريث يخلفه في الحكم:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا ...
في هذه الأثناء بدأ المستعبدون في الأرض من بني إسرائيل ما يشبه التمرد على الوضع القائم. عندها دخل موسى المدينة في تلك اللحظة ليساند شيعته (بني إسرائيل) الذين بدءوا ما يشبه الثورة ضد النظام الفرعوني، فحصلت الحادثة الشهيرة التي قتل فيها موسى رجلا من عدوه مساندا الذي استغاثه من شيعته:
... فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)
وكان الحكم في تلك اللحظة (نحن لا زلنا نتخيل) في يد الملأ من آل فرعون، في غياب وجود فرعون يحكم البلاد.
أصبح موسى في اليوم التالي خائفا يترقب في المدينة نفسها، وفي هذه اللحظة استصرخه الرجل نفسه الذي استغاثه في الأمس على قتل رجل آخر من آل فرعون:
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18)
وما أن أراد موسى أن يبطش بعدوهما مرة أخرى حتى نبهه هذا الرجل من آل فرعون على سوء فعلته، فتراجع موسى على الفور:
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
في هذه الأثناء، كان الملأ من آل فرعون (وليس فرعون لأن فرعون قد مات) يأتمرون بموسى ليقتلوه، فجاءه رجل من أقصى المدينة محذرا له من تآمر الملأ به:
وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
فخرج موسى من المدينة سائلا ربه أن يهديه سواء السبيل:
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)
فحط به ترحاله الثاني هذا في مدين:
وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
وهناك عمل للرجل الصالح الذي أنكحه إحدى ابنتيه لقاء أن يأجره ثمان أو عشر حجج:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
وانتهت ثورة بني إسرائيل الجديدة بخروج موسى واعتلاء فرعون جديد سدة الحكم. وقد كان هذا الفرعون الجديد رجلا صاحب حنكة ودهاء، والأهم من هذا كله أنه كان رجلا صاحب علم عظيم (وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا بحول الله وتوفيقه، إن شاء إنه هو السميع العليم).
لما قضى موسى الأجل في مدين، سار بأهله متوجها مرة أخرى إلى الأرض المقدسة التي عاش فيها فترة من الزمن والتي آتاه الله حكما وعلما فيها حتى وصل إلى الواد المقدس وآنس من جانب الطور نارا:
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
وهناك كلّمه الله، فاختاره الله ليوحي إليه:
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
وبعثه إلى فرعون رسولا لعله يتذكر أو أن يخشى:
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
مقرا لفرعون بحكم مصر مقابل أن يرسل معه بني إسرائيل:
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
فطلب موسى من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون لفصاحته:
وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
فشد الله عضد موسى بأخيه هارون لفصاحته:
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
فتردد بداية في الذهاب بسبب الذنب الذي ارتكبه فيهم من قبل:
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14)
فجاءه التطمين الإلهي بأنه معهما يسمع ويرى:
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15)
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
بقي الرجل الذي كفل موسى بالزواج من أم موسى مؤثرا أن لا ينكشف أمره، فبقي مجهول الهوية (الاسم) رغبة منه في المحافظة على موسى. كانت أم موسى قد أنجبت من هذا الرجل غلاما آخر هو هارون، الأخ غير الشقيق لموسى (أي ابن أمه):
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
فكان هارون من آل فرعون وكان موسى من بني إسرائيل، فكان لكل واحد منهما آل يختلف عن الآخر:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
بقي هذا الرجل الذي كفل موسى يكتم إيمانه حتى تلك الساعة التي تغلب فيها موسى ومن معه على فرعون وملئه بعد حادثة قهر عصا موسى لحبال وعصي السحرة في يوم الزينة:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119)
وبعد انقلابهم إلى ديارهم مغلوبين صاغرين مادام أن المواجهة الفعلية قد تمت في مكان سوى بينهما:
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (58)
حصلت بعدها مواجهة كلامية (خطابية) بين الطرفين، عندها (نحن نتخيل) انبرى هذا الرجل الذي يكتم إيمانه من آل فرعون من بين الحضور ليقدم حجته مساندا موسى:
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
فكان هذا الرجل (نحن نفتري الظن مما فهمناه من قوله هذا) يعلم علما لا يمكن أن يكون إلا لمن كان رسولا (أو نبيا). فتحدث عن ما حلّ بالقرون الأولى، وحذر القوم من الآخرة ومن سوء العاقبة، وتنبأ لهم بوقوع العذاب الرباني عليهم:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
فكان هو الرسول الثالث الذي عزز الله به موسى وأخيه هارون:
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14)
فكان هو (نحن نفتري الظن من عند أنفسنا) نبي الله ذا الكفل، الذي صبر على الأذى من أهله:
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85)
ولما وجد فرعون قصورا في حجته مقابل ما قدّمه موسى من الآيات البينات، ولما وجد أن موسى قد سحب البساط من تحت قدمه، ثار حنقه، فلم يستطع أن يكتم غيظ قلبه القديم من موسى ومن معه كما جاء في رسالته إلى السحرة:
إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
ولما كان يظن يقينا أن الله لن ينصره، لم يجد بدا من أن يمدد بسبب إلى السماء لينظر إذا كان كيده سيذهب ما يغيظ:
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
في هذه اللحظة طلب فرعون من هامان أن يعمد إلى بناء الصرح الذي يمكِّنه من بلوغ الأسباب، ليطلع حينئذ إلى إله موسى:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
فما تردد هامان في تنفيذ طلب فرعون، وذلك لأننا نظن أنه لمّا كانت مهنة التعريش (أي بناء العروش) مستندة على علم يعلمه الملأ حينئذ كبقية من علم يوسف في أرض مصر والذي جلبه معه من سبأ، كان هامان يدرك ما سيفعل. فقام (نحن نتخيل) على الفور ببناء عرش في أعلى ذلك الصرح الذي صعده فرعون ليطلع من خلاله إلى إله موسى. فكانت تلك العروش هي منصات مراقبة للسماء (أي ما يشبه وكالة ناسا الفضائية الأمريكية في الوقت الحاضر).
صعد فرعون فوق ذلك الصرح الذي بناه له هامان، وما أن نظر في ذلك العرش حتى وجد خريطة السماء أمامه واضحة تدلّه إلى إله موسى، عندها أدرك فرعون صدق دعوة موسى وكذب ما كان يكيد. فما أذهب كيده هذا ما كان يغيظ في قلبه:
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
نتيجة مفتراة: أصبحت صنعة بناء العروش (وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) علما وافرا في أرض مصر زمن الفراعنة متوارثة من علم يوسف الذي تعلمه في سبأ على يد الذي اشتراه من مصر، ومن هنا نحن نظن جاء طلب فرعون من هامان أن يبني له صرحا (كعرش) ليطلع من خلاله إلى إله موسى.
رأينا: لمّا كان الله قد دمّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ)، فلن نتوقع إذن أن نجد أثارة من علم تدلنا على ذلك كله، ولكن من الممكن (نحن نتخيل) أن نجد بقايا ذلك الدمار. أي بقايا تلك العروش المدمرة.
السؤال: وأين هي؟
افتراء خطير جدا: إنها عروش سبأ
تساؤلات:
- لماذا لم يقر فرعون لموسى بصدق دعوته في الحال؟
- لماذا تراجع فرعون عن موقفه عندما أدركه الغرق؟
- وكيف فعل ذلك؟
- الخ
هذا ما سنتناوله (إن أذن الله لنا بشيء من علمه فيه) في الجزء القادم من المقالة، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل فضله وحده علينا عظيما. وأعوذ به أن نفتري عليه الكذب أو أن نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو السميع العليم – آمين.
المدّكرون: رشيد الجراح عصام درويش علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
2 أيلول 2014