مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ (16): باب الغنم التي نفشت في الحرث
مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ (16): باب الغنم التي نفشت في الحرث
كان محور النقاش في الجزء السابق من هذه المقالة هو الآية الكريمة التالية:
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
فتحدثنا عن قصة تلك النعجة وعن كيفية الفتنة التي ظن داوود أنه قد وقع فيها. فظننا أن الخصم الّذين تسوروا المحراب كانوا هم قوم داوود نفسه، وافترينا الظن من عند أنفسنا بأن داوود كان هو نفسه خصمهم الذي جاءوا يشتكونه إلى داوود الحكم، أي أخوهم الذي جاء ذكره في خطاب الخصم:
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
فدخلوا عليه المحراب لأن خصمهم (وهو داوود نفسه) كان قد بغى عليهم، فجاءوه محذّرين مهدّدين، طالبين في الوقت ذاته أن يكون أخوهم (رسول القوم) هو نفسه الحكم في فض الخلاف بينهما. وقد زعمنا أن المشكلة قد نشبت بينهما عندما كان داوود هو من آتاه الله فصل الخطاب:
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
فكان داوود - في ظننا- هو المسئول عن الفصل في تزويج النساء، فالخِطاب (بكسر الخاء) مشتق – في ظننا- من خِطبة النساء:
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
لذا ظننا أنه قد وجب التفريق بين الخِطاب (بكسر الخاء) المشتق من خطبة النساء (انظر حركة الخاء في المفردة التي وضعنا تحتها خط):
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
والخَطاب (بفتح الخاء) الذي المشتق من التحدث بالكلام على الناس (انظر حركة الخاء في المفردة التي وضعنا تحتها خط) في الآية الكريمة التالية:
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37)
رأينا الذي افتريناه سابقا: لمّا كان داوود هو الأعز في الخِطاب (خطبة النساء) بسبب مكانته الاجتماعية، كانت معظم النساء تقبل بالزواج منه دون غيره، فأكثر داوود من خِطبة النساء لنفسه بحجة كفالة النعاج (اليتامى من النساء):
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
فكان يظن داوود أنه قادر على أن يقوم لليتامى بالقسط عندما كان ينكح أمهات اليتامى، مطبِّقا بذلك سنّة الله في الأرض:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (3)
فأصبح يطبق داوود شرعة الله هذه في الأرض ربما ظانا أنه كان يعمل المعروف في ذلك، ولكن داوود (نحن نظن) تمادى في فعله هذا حتى أصاب القوم (كل القوم) الضجر مما كان يفعل، فظنوا أنه قد شطّ، فجاءوه مخاصمين له، طالبين منه الحكم بالحق وأن لا يشطط:
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22)
فالقوم إذن يطلبون ما جاء في الآية الكريمة التالية:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)
فعرض خطيب القوم مظلمتهم على داوود (الخصم والحكم):
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
فما كان من داوود (الذي لم يكن يفعل ذلك بقصد الإساءة إلى الآخرين) إلاّ أن أقرّ على الفور بخطئه، فظن أن في فعلته تلك فتنة من الله له، فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب:
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
فجاءت المنة الإلهية على داوود بالمغفرة والزلفى:
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
(للتفصيل انظر الجزء السابق)
السؤال: لماذا تمادى داوود في ذلك؟ أي لماذا أكثر داوود من خِطبة النساء لنفسه؟
جواب: لم نقدم إجابة مرضية على هذا التساؤل في الجزء السابق من المقالة، وقد أجاءتنا المفاجأة من عند أحد الإخوة القراء المهتمين بهذه المواضيع وهو الأخ محمد الذي أسأل الله أن يعلمنا وإياه ما لم يعلمه لغيرنا إنه هو السميع العليم، حيث أشار في رده على مقالتنا تلك في واحدة من مراسلاته الإلكترونية بأن السبب ربما يعود لأن داوود لم يكن له حتى الساعة ذرية من الذكور، ولكن كيف ذلك؟
جواب: لقد ذكّرنا الأخ محمد محقا بأن داوود قد رزق بسليمان بطريقة الهبة من الله:
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
ومادام أن الله قد رزق داوودَ سليمانَ على شكل هبة، لذا فإن داوود لم يكن قادرا (نحن نفتري الظن) على الإنجاب بطريقة طبيعية، وهذا ما تعرضنا له بالتفصيل في مقالة سابقة لنا تحت عنوان: لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلا من ضيوفه؟
فكان مثار القول حينئذ (كما أعاد الأخ محمد تذكيرنا به) هو أن هبة الذرية لم تتحصل إلا لمن كان عنده مشكلة في إنجاب ما يشاء من الذرية بطريقة طبيعية، فكان ظننا أن الهبة لا تحصل إلا عندما يستوجب الأمر تدخلا مباشرا من الله تعالى لتغيير وضع غير طبيعي لا يمكن تغييره بالطرق العادية، فهذا إبراهيم مثلا لم ينجب الذرية حتى أصبح شيخا كبيرا (وكانت امرأته عقيم):
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
وهذا زكريا لا ينجب لأن امرأته كانت عاقرا، وقد بلغ هو نفسه من الكبر عتيا:
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
و هذه مريم ابنت عمران – التي أحصنت فرجها – لم تكن متزوجة ولم يمسسها بشر، فرزقت بالغلام الزكي (المسيح عيسى) كهبة من الله:
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
وأظن أنه بمثل تلك الطريقة رُزِق أيوبُ بأهله ومثلهم معهم:
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ ( ص 43 )
(وهذا ما سنتحدث عنه بحول الله وتوفيق منه في مقالات منفصلة لاحقا، فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، إنه هو الواسع العليم – آمين).
وبالمنطق نفسه، نحن نفتري الظن، كانت الهبة الإلهي لداوود بولده سليمان:
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
السؤال: كيف حصل ذلك؟
جواب: يظن صاحبنا محمد أن الأمر قد حصل على النحو التالي:
لم يكن داوود قد أنجب من الذرية بالطريقة الطبيعية لترثه، فأكثر من الزواج بالنساء بغية أن تتحصل له الذرية، فكان يقوم بخِطبة النساء لنفسه بدلا من الفصل في الخطاب بين الناس بالحق، فكان متبعا للهوى في ذلك، ولكن بالرغم من كثرة خِطبة داوود للنساء إلا أن الذرية لم تتأتى له حتى حصلت تلك الحادثة الشهيرة التي جاءه القوم مهددين متوعدين. وهنا فقط أدرك داوود خطأ ما كان يفعل، فتراجع عن خطأه على الفور، وقد أدرك أنه قد وقع في فتنة من الله باتباعه الهوى الذي نهاه الله عن اتباعه:
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
الدليل
نحن نعتقد أن ظن الأخ محمد هذا صحيحا (حسب الإطار العام لهذا الطرح الذي نفتريه من عند أنفسنا)، ونستطيع (مفترين القول من عند أنفسنا) أن نجلب عليه الدليل من الآية الكريمة نفسها:
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب: نحن نجد الدليل في مفردة "وَأَنَابَ".
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب: لو بحثنا عن هذه المفردة (ومشتقاتها) في النص القرآني لوجدنا الآية الكريمة التالية التي تصور أن البشرى تأتي مباشرة بعد الإنابة:
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
منطقنا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنه مادام أن الرزق بالذرية هو بحد ذاته نوع من أنواع البشرى، وانظر – إن شئت- التلازم بين فعل البشرى والذرية في الآيات الكريمة التالية:
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (112)
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
فإن البشرى لداوود بسليمان كذرية (نحن نفتري القول) قد جاءته بعدما أناب، ليصبح المشهد بكليته (في مخيالنا) على النحو التالي:
ما أن وجد داوود نفسه لا ينجب بالطريقة الطبيعية حتى عمد إلى الإكثار من الدخول بالنساء، فأكثر من خِطبتهن لنفسه، أي بدل أن يكون داوود هو من يقوم بالفصل في الخِطاب (بكسر الخاء) بين الناس بالعدل، عمد إلى تزويج نفسه بمن كانت متوافرة من الأرامل بحجة كفالة الأيتام، ونحن نظن أن السبب في ذلك إلى أن نفس داوود كانت تواقة للحصول على الذرية التي ترثه من ورائه، فكان يظن أن باستطاعة الحصول على الذرية بتلك الطريقة. وما توقف داوود عن ذلك حتى حصلت تلك الحادثة التي تسوّر فيها القوم محرابه، فدخلوا عليه محاربين طالبين الحكم بالحق، ولا شي أقل من الحق:
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22)
فعرض خطيب الخصم حجتهم على داوود الحكم ضد داوود الخصم:
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
فما كان من داوود (الحكم) إلا أن نطق على الفور بالحكم ضد داوود (الخصم):
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
فأقر للقوم أنه قد ظلمهم، ولكنه أكد لهم في الوقت ذاته أن ذلك لم يكن من باب البغي عليهم (وإن كان يقع في باب الظلم) وذلك لأنّ البغي لا يقع بين الخلطاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وأظن أن داوود هو واحد من هؤلاء الذين آمنوا وعلوا الصالحات. ويكأن داوود إذن يقول للقوم (نحن نتخيل) أني قد ظلمتكم فعلا ولكني لم أبغي عليكم، ولكن لماذا؟
جواب مفترى: نحن نظن أنه لو كان ما فعله داوود يقع في باب البغي لتطلب الأمر اللجوء إلى القتال، أي لو كان ذلك بغيا من داوود على القول لوجب قتاله كما جاء في الآية الكريمة التالية
وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
ولكن مادام أن داوود من الذين آمنوا وعملوا الصالحات (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، فإن ما فعله بهم (نحن نظن) هو ظلم للقوم وليس بغيا عليهم (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ)، لذا أصبح من الواجب إحداث الصلح بين الإخوة كما تشير إلى ذلك تتمة الآيات الكريمة السابقة في سياقها الأوسع:
وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نتخيل داوود يطلب من القوم أن يلجأوا إلى الصلح وليس إلى القتال لأن فعله يقع في باب الظلم لهم وليس في باب البغي عليهم.
وهنا فقد يدرك داوود أن في ذلك فتنة له، فيستغفر ربه ويخر راكعا وينيب:
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
السؤال: ما معنى أناب؟ وكيف أناب داوود؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الذي "أناب" هو من تراجع عن خطأ كان قد تمادى فيه، فأنت عندما تقترف ذنبا وتمارسه وقتا طويلا من الزمن فإن الرجوع عنه يحتاج إلى إنابة، ونحن نظن أن الذي ينيب هو الذي يتراجع عن الخطأ بمجرد أن يدرك خطأه، فما أن أدرك داوود أنه قد أخطأ حتى أناب إلى الله:
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
فداوود قد عمد بعد ذلك مباشرة على فعل ثلاثة أمور: الاستغفار والخرور راكعا والإنابة
السؤال: ما فائدة تلك الإنابة لداوود؟ ألا يكفي أن يستغفر ربه؟ ألا يكفي أن يستغفر ربه ويخر راكعا؟ فلم أناب إذن؟
جواب: نحن نظن (مفترين القول من عند أنفسنا) بأن البشرى لداوود بسليمان كذرية ترثه قد جاءته بسبب تلك الإنابة، فمن أناب أصبح مؤهلا لبشرى من ربه:
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
فكانت البشرى بوريث داوود الشرعي وهو سليمان:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
(دعاء: اللهم أسألك أن نكون من المنيبين إليك دائما – آمين)
السؤال: ما الذي حصل للنعجة؟
جواب: لقد أقر داوود بنفسه أن تلك النعجة هي من حق خصمه، فلربما ترك (نحن نظن) الزواج بأمها لتنتهي كفالتها عند خصمه الذي طلبها، مادام أن الأمر بينهما لم يتعدى مرحلة السؤال والخِطاب (بكسر الخاء) بعد:
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
فالأمر كان لازال في مرحلة الخِطاب (أي خطبة النساء).
كما أظن أن داوود ما عاد يكفل بعدها ذرية ضعفاء من اليتامى بالزواج من أمهاتهم. فتوقف عند العدد 99 من النعاج.
السؤال: لماذا العدد تسع وتسعون؟
جواب: هذا ما سنحاول النبش فيه في مقالات لاحقة عندما نتحدث عن هذه الأعداد بحول الله وتوفيق منه، فالله أسأل أن ينفذ أمره بمشيئته وإرادته بأن يأذن لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع العليم – آمين.
تنبيه: يجب أن لا يفهم من كلامنا هذا أن داوود قد تزوج بتسع وتسعين امرأة كما ظن أهل العلم الذين سبقونا، ولكن مراد القول أن النعاج (أي يتامى "النساء" اللاتي نكحهن داوود- الضمير يعود على النساء) كان عددهم تسع وتسعون، ولكن هذا لا يعني أن عدد "أمهات النعاج" المنكوحات كان تسع وتسعون، وذلك لأن الأرملة الواحدة يمكن أن يكون لها أكثر من نعجة، فقد يتزوج داوود بأرملة عندها خمسة من النعاج وربما تزوج بأخرى عندها سبعة من النعاج، وثالثة عندها اثنتين من النعاج ورابعة عندها نعجة واحده فقط، وهكذا.
(للتفصيل انظر الجزء السابق)
انتهى تلخيص وتكملة الجزء السابق من هذه المقالة، بعدما ذكرنا صاحبنا محمد ببعض التفاصيل التي نظن أنها ربما أوضحت الصورة بشكل أفضل- سائلين الله لنا وله الجزاء بأحسن العمل والزيادة من فضله والرزق بغير حساب - آمين.
باب غنم القوم التي نفشت في الحرث
أما في هذا الجزء الجديد من المقالة نفسها، فسنعاود الحديث – كما وعدنا القارئ الكريم – عن القصة الأخرى التي حكم داوود وولده سليمان (الذي أصبح حاضرا في هذه القصة بصريح اللفظ) فيها، ألا وهي قصة غنم القوم التي نفشت في الحرث، كما تصورها الآية الكريمة التي نحن بصدد تقديم فهمنا المفترى من عند أنفسنا لمفرداتها:
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
بداية، تبين الآية الكريمة بما لا يدع مجالا للشك أن سليمان الآن متواجد مع والده داوود بعد أن وهبه الله له:
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
فنشأ سليمان (نحن نتخيل) يتعلم من والده داوود الذي لازال يحاول أن يحكم بين الناس بالعدل لفضّ الخصام بينهم. وفي يوم من الأيام تحدث قصة غنم القوم التي نفشت في الحرث، فيتدخل الاثنان (الوالد داوود والولد سليمان) في الحكم في هذه القضية التي أشكلت على القوم (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ). فما الذي حصل؟ نحن نتساءل.
جواب: لنبدأ النقاش في هذه القصة هنا بطرح التساؤلات التالية التي ربما تخطر على بال الصغير والكبير، العالم والمتعلم على حد سواء:
- ما قصة الغنم التي نفشت في الحرث؟
- وما هي الغنم التي نفشت؟
- وكيف نفشت فيه الغنم؟ أي كيف كانت آلية النفش؟
- ومن هم القوم الذي نفشت غنمهم في الحرث؟
- وما هو الحرث الذي نفشت فيه الغنم؟
- ومن كان يملك ذلك الحرث؟
- وكيف حكم داوود في القضية؟
- وكيف حكم فيها سليمان؟
- ولماذا جاء الفهم فيها لسليمان بالرغم من صغر سنه؟
- وهل جاء الفهم لوالده داوود ذي الحكمة والخبرة الطويلة في الحكم بين المتخاصمين؟
- الخ.
أما بعد،
ربما يكون من المفيد بداية أن نقدّم للقارئ الكريم ما تناقلته ألسنة أهل الرواية من العلم الغزير الذي جاءوا به من عند أهل الدراية وسطّروه لنا في بطون أمهات كتب التفسير حول هذه الحادثة، ولنبدأ بما جاء في الطبري مثلا: |
القول في تأويل قوله تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر داود وسليمان يا محمد إذ يحكمان في الحرث . واختلف أهل التأويل في ذلك الحرث ما كان ؟ فقال بعضهم : كان نبتا . ذكر من قال ذلك : 18651 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن ابن إسحاق , عن مرة في قوله : { إذ يحكمان في الحرث } قال : كان الحرث نبتا . 18652 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد عن قتادة , قال : ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا . وقال آخرون : بل كان ذلك الحرث كرما . ذكر من قال ذلك : 18653 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا المحاربي , عن أشعث , عن أبي إسحاق , عن مرة , عن ابن مسعود , في قوله : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } قال : كرم قد أنبت عناقيده . 18654 - حدثنا تميم بن المنتصر , قال : أخبرنا إسحاق , عن شريك , عن أبي إسحاق , عن مسروق , عن شريح , قال : كان الحرث كرما . قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قال الله تبارك وتعالى : { إذ يحكمان في الحرث } والحرث : إنما هو حرث الأرض . وجائز أن يكون ذلك كان زرعا , وجائز أن يكون غرسا , وغير ضائر الجهل بأي ذلك كان . وقوله : { إذ نفشت فيه غنم القوم } يقول : حين دخلت في هذا الحرث غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلا , فرعته أو أفسدته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 18655 - حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم قالا : ثنا المحاربي , عن أشعث , عن أبي إسحاق , عن مرة , عن ابن مسعود , في قوله : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته . قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم , فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله ! قال : وما ذاك ؟ قال : يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان , وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها , حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها . فذلك قوله : { ففهمناها سليمان } . 18656 - حدثنا محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قوله : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } ... إلى قوله : { وكنا لحكمهم شاهدين } يقول : كنا لما حكما شاهدين . وذلك أن رجلين دخلا على داود , أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم , فقال صاحب الحرث : إن هذا أرسل غنمه في حرثي , فلم يبق من حرثي شيئا . فقال له داود : اذهب فإن الغنم كلها لك ! فقضى بذلك داود . ومر صاحب الغنم بسليمان , فأخبره بالذي قضى به داود , فدخل سليمان على داود فقالا : يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قضيت . فقال : كيف ؟ قال سليمان : إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام , فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث , فإن الغنم لها نسل في كل . عام . فقال داود : قد أصبت , القضاء كما قضيت . ففهمها الله سليمان . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن علي بن زيد , قال : ثني خليفة , عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لأصحاب الحرث , فخرج الرعاة معهم الكلاب , فقال سليمان : كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه , فقال : لو وافيت أمركم لقضيت بغير هذا . فأخبر بذلك داود , فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ قال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث , فيكون لهم أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها , ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم , فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه , أخذ أصحاب الحرث الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها . 18657 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , قال : ثنا ابن أبي نجيح , عن مجاهد , في قول الله : { إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث , وحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث , وعليهم رعايتها على أهل الحرث , ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أكل , ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم . * - حدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثني ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج بنحوه , إلا أنه قال : وعليهم رعيها . 18658 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن ابن إسحاق , عن مرة في قوله : { إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : كان الحرث نبتا , فنفشت فيه ليلا , فاختصموا فيه إلى داود , فقضى بالغنم لأصحاب الحرث . فمروا على سليمان , فذكروا ذلك له , فقال : لا , تدفع الغنم فيصيبون منها - يعني أصحاب الحرث - ويقوم هؤلاء على حرثهم , فإذا كان كما كان ردوا عليهم . فنزلت : { ففهمناها سليمان } . 18659 - حدثنا تميم بن المنتصر , قال : أخبرنا إسحاق , عن شريك , عن أبي إسحاق , عن مسروق , عن شريح , في قوله : { إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : كان النفش ليلا , وكان الحرث كرما , قال : فجعل داود الغنم لصاحب الكرم , قال : فقال سليمان : إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه وأصل كرمه , فاجعل له أصوافها وألبانها ! قال : فهو قول الله : { ففهمناها سليمان } . 18660 - حدثنا ابن أبي زياد , قال : ثنا يزيد بن هارون , قال : أخبرنا إسماعيل , عن عامر , قال : جاء رجلان إلى شريح , فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غزلا لي , فقال شريح : نهارا أم ليلا ؟ قال : إن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه , وإن كان ليلا فقد ضمن . ثم قرأ : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : كان النفش ليلا . * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا حكام , قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد , عن عامر , عن شريح بنحوه . * - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي , عن شريح , مثله . 18661 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } ... الآية , النفش بالليل , والهمل بالنهار . وذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا , فرفع ذلك إلى داود , فقضى بالغنم لأصحاب الزرع , فقال سليمان : ليس كذلك , ولكن له نسلها ورسلها وعوارضها وجزازها , حتى إذا كان من العام المقبل كهيئه يوم أكل دفعت الغنم إلى ربها وقبض صاحب الزرع زرعه . فقال الله : { ففهمناها سليمان } . 18662 - حدثنا ابن عبد الأعلى , قال : ثنا ابن ثور , عن معمر , عن قتادة والزهري : { إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : نفشت غنم في حرث قوم . قال الزهري : والنفش لا يكون إلا ليلا , فقضى داود أن يأخذ الغنم , ففهمها الله سليمان , قال : فلما أخبر بقضاء داود , قال : لا , ولكن خذوا الغنم , ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول . * - حدثنا الحسن , قال : أخبرنا عبد الرزاق , عن معمر , عن قتادة , في قوله : { إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : في حرث قوم . قال معمر : قال الزهري : النفش لا يكون إلا بالليل , والهمل بالنهار . قال قتادة : مضى أن يأخذوا الغنم , ففهمها الله سليمان . ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث عبد الأعلى . 18663 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } ... الآيتين , قال : انفلت غنم رجل على حرث رجل فأكلته , فجاء إلى داود , فقضى فيها بالغنم لصاحب الحرث بما أكلت ; وكأنه رأى أنه وجه ذلك . فمروا بسليمان , فقال : ما قضى بينكم نبي الله ؟ فأخبروه , فقال : ألا أقضي بينكما عسى أن ترضيا به ؟ فقالا : نعم . فقال : أما أنت يا صاحب الحرث , فخذ غنم هذا الرجل فكن فيها كما كان صاحبها , أصب من لبنها وعارضتها وكذا وكذا ما كان يصيب , واحرث أنت يا صاحب الغنم حرث هذا الرجل , حتى إذا كان حرثه مثله ليلة نفشت فيه غنمك فأعطه حرثه وخذ غنمك ! فذلك قول الله تبارك وتعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } . وقرأ حتى بلغ قوله : { وكلا آتينا حكما وعلما } . 18664 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن عطاء الخراساني , عن ابن عباس , في قوله : { إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : رعت . 18665 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : النفش . الرعية تحت الليل . 18666 - قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن الزهري , عن حرام بن محيصة بن مسعود , قال : دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته , فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : { إذ نفشت فيه غنم القوم } فقضى على البراء بما أفسدته الناقة , وقال : " على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل , وعلى أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم بالنهار " . قال الزهري : وكان قضاء داود وسليمان في ذلك أن رجلا دخلت ماشيته زرعا لرجل فأفسدته , ولا يكون النفوش إلا بالليل , فارتفعا إلى داود , فقضى بغنم صاحب الغنم لصاحب الزرع , فانصرفا , فمرا بسليمان , فقال : بماذا قضى بينكما نبي الله ؟ فقالا : قضى بالغنم لصاحب الزرع . فقال : إن الحكم لعلى غير هذا , انصرفا معي ! فأتى أباه داود , فقال : يا نبي الله , قضيت على هذا بغنمه لصاحب الزرع ؟ قال نعم . قال : يا نبي الله , إن الحكم لعلى غير هذا . قال : وكيف يا بني قال : تدفع الغنم إلى صاحب الزرع فيصيب من ألبانها وسمونها وأصوافها , وتدفع الزرع إلى صاحب الغنم يقوم عليه , فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم عليها ردت الغنم على صاحب الغنم ورد الزرع إلى صاحب الزرع . فقال داود : لا يقطع الله فمك ! فقضى بما قضى سليمان . قال الزهري : فذلك قوله . { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } ... إلى قوله : { حكما وعلما } . 18667 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , وعلي بن مجاهد , عن محمد بن إسحاق , قال : فحدثني من سمع الحسن يقول : كان الحكم بما قضى به سليمان , ولم يعنف الله داود في حكمه . |
وكنا لحكمهم شاهدين |
يقول : وكنا لحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث , شاهدين لا يخفى علينا منه شيء , ولا ينيب عنا علمه. (انتهى الاقتباس من الطبري) أما بعد، لا نريد أن ندخل في الجزئيات التي ربما تبيّن ( في ظننا) خطأ سادتنا العلماء أهل الدراية في هذه التفسيرات العظيمة التي اتحفونا بها قرونا من الزمن، لكننا سننطلق على الفور إلى تقديم تصورنا المفترى من عند أنفسنا للقصة نفسها، ونترك للقارئ الكريم (كما نطلب عادة) أن يقارن هذا (ما نفتريه نحن من عند أنفسنا) بذاك (العلم الغزير الذي وصله من عند سادتنا العلماء الأفاضل). أما بعد، |
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
السؤال الأول: ما هو الحرث؟
عند البحث في كتاب الله عن هذه المفردة وجدناها في الآيات الكريمة التالية:
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ ۚ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20)
أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22)
ولو تدبرنا هذه السياقات القرآنية لوجدنا أن الحرث غالبا ما جاء مقترنا بالأنعام:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ ۚ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
الأمر الذي يجعلنا نعتقد أن للحرث علاقة بالزراعة، ولكن الملفت للانتباه أن مفردة الزرع قد وردت مستقلة في السياقات القرآنية كما في الآيات التالية:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
الأمر الذي يجعلنا نطرح السؤال على النحو التالي: ما الفرق بين الحرث والزرع؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن الزرع هو ما ينبت (يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ)، وهو ما يخرج من الأرض (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا)، وهو ما يمكن أن نأكل منه وتأكل منه أنعامنا (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ)، وهو ما يمكن أن نبصره بأم أعيننا (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ)، وهو ما يمكن أن يخرج شطأه (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ)، وهو ما يمكن أن يأزر فيستغلظ فيستوي على سوقه (فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ)، وهو الذي يعجب الزراع (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ).
السؤال: إذا كان هذا هو الزرع، فما الحرث إذن؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الحرث لا يعني الزرع الذي يخرج فوق سطح الأرض ليآزر فيستوي فيستغلظ فيخرج شطأه فيعجب الزراع، ولا يعني ما ينبت تحت الأرض لأن ذلك هو النسل، وانظر – إن شئت- ارتباط الحرث بالنسل:
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
ولو دققنا في النسل، لوجدناه عبارة عن عملية الخروج من الباطن إلى الظاهر كخروج يأجوج ومأجوج من وراء ردمهم:
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96)
وكخروج الأجساد من الأجداث بعد النفخ في الصور:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51)
وكخروج النسل من الأصل بعد عملية خلق الإنسان الأولى من طين:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8)
نتيجة مفتراة: الحرث ليس ما يظهر فوق الأرض من الزرع وليس ما يخرج من باطن الأرض إلى ظاهرهها كالنسل، فما الحرث إذن؟
جواب مفترى مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن الحرث هو "التربة الصالحة للإنبات"، فهي التي يوضع فيها الحب والنوى الذي ينفلق بأمر الله ليخرج به الحي من الميت:
إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
وهذه العملية تحدث في حالتين: (1) في حالة النبات، عندما ينزل الله من المعصرات ماء ثجاجا:
وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53)
و(2) تحصل كذلك في حالة إنجاب الذرية، لذا نجد أن مفردة الحرث لا تشمل فقط الأرض القابلة للإنبات والإخصاب وإنما أيضا النساء:
نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
السؤال: كيف تكون نساؤنا حرث لنا؟
جواب: نحن نظن أن النساء حرث للرجال لأن المرأة تملك البيئة الملائمة للإنجاب، بالضبط كالأرض القابلة للإنبات، لذا نحن لا نتردد أن نفتري القول من عند أنفسنا أن الحرث هو عبارة عن التربة (أو لنقل البيئة) القابلة للإخصاب (أي للإنبات). وهذا الظن ربما يؤكده التلازم بين عملية إنبات الزرع بعد نزول المطر وتكون الجنين في بطن المرأة بعد إنزال المني فيها:
أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
فتتطابق عملية إنبات الزرع وإنبات الإنسان:
وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان لماذا يدفن الناس موتاهم؟)
والآن لنعود إلى قصة داوود وسليمان حيث يحكمان في الحرث:
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
بالافتراء الذي مفاده أن الحرث يمكن أن يكون:
1. الأرض المؤهلة للإنبات
2. النساء المؤهلات للإنجاب
السؤال: أيهما أرجح أن تكون المسألة قد نشبت حول قضية قطعة أرض صالحة للإنبات (كما جاء في معظم كتب التفسير) أم حول امرأة قابلة للإنجاب (كما نفتري الظن هنا)؟
الجواب المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن قضية الحرث التي حكم فيها داوود وولده سليمان كانت تتعلق بامرأة قابلة للإنجاب وليس بقطعة أرض قابلة للزراعة، ولكن لماذا؟
جواب: لأن الغنم قد نفشت في الحرث وليس في الزرع أو في النسل أو ما شابه، فالغنم قد دخلت حرثا، ومادام أنها قد نفشت في حرث فليس هناك أساسا زرعا لتعيث فيه الغنم إفسادا كما يمكن أن يتخيل العامة (بما أفهمهم إياه أهل الدراية)، فأين الزرع الذي نفشت فيه الغنم؟ وكيف يمكن لغنم أن تنفش في حرث فتحدث فيه الخراب كما ظن سادتنا العلماء أهل الدراية؟
جواب: مادام أن الغنم قد نفشت في الحرث (أي الأرض)، فهي لم تلحق (في ظننا) أي نوع من الأذى بالمحصول الزراعي (كما ظن أهل الدراية) لأنه لا وجود بعد للزرع الذي ينبت أو يخرج من الأرض أصلا، فالأرض لازالت حرثا (أي قابلة للإنبات فقط)، ومازال الحب في داخلها لم ينفلق بعد ليخرج منه النسل ومن ثم الزرع الذي يمكن أن نبصره.
السؤال: ما الذي حصل إذن؟ يسأل صاحبنا.
جواب: لو تدبرنا آيات الكتاب الحكيم كلها، لوجدنا أن مفردة الغنم قد جاءت في آيتين كريمتين فقط، هما:
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
وأن مفردة الحرث لم تلازم من الأنعام إلاّ البقر والغنم كما في الآيتين الكريمتين التاليتين:
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
السؤال: ما علاقة البقر والغنم من جهة بالحرث من جهة أخرى؟
جواب مفترى: إنها الحياة. ولكن كيف ذلك؟
جواب: أظن أننا نتذكر قصة بقرة بني إسرائيل التي طلب منهم نبيهم موسى أن يذبحوها:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
عندها أخذ القوم يطلبون مواصفات تلك البقرة، وهنا ظهر سقاية الحرث كواحدة من صفاتها:
قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71)
وهنا كانت المفاجأة الكبرى وهو ضرب المقتول منهم ببعض البقرة فدبّت الحياة فيه:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
(وسنتعرض لتفاصيل القصة بحول الله عند عودتنا إلى قصة موسى، فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم إنه هو الواسع العليم)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن وجود البقر والغنم ملازماً للحرث يدل على إخراج الحي من الميت (أي الحياة).
تساؤلات
- كيف نفشت غنم القوم في الحرث؟
- ومن هم القوم اللذين نفشت غنمهم جميعا في الحرث؟
- ولماذا نفشت غنم قوم كثيرين في حرث واحد؟
- فمن هم أصحاب القوم؟
- هل كان الحرث الذي نفشت في غنم القوم أكثر من حرث واحد؟
- أم هل نفشت غنم القوم في حرث واحد؟
- فمن هم أصحاب (أو من هو صاحب) الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم؟
- الخ.
بداية، لابد من التأكيد على الملاحظات التالية التي نظن أننا فهمناها من الآية الكريمة قيد البحث:
- أن الغنم التي نفشت في الحرث كانت تعود ملكيتها إلى القوم (أي مجموعة من الناس)
- أن الحرث لم يكن يعود ملكيته إلى القوم
الأمر الذي دعانا إلى طرح سؤالين كبيرين هما:
السؤال الأول: من هم القوم الذين نفشت غنمهم في الحرث؟
السؤال الثاني: من هو صاحب الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الغنم التي نفشت في الحرث كانت ملكيتها تعود إلى مجموعة من الناس (فكانت بصريح اللفظ القرآني غنم القوم):
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
ولكن بالمقابل- فإن الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم لا تعود ملكيته لمجموعة من الناس (أي قوم)، ليكون السؤال الأكثر خطورة الآن هو: من صاحب الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم؟
افتراء خطير جدا من عند أنفسنا: نحن نظن أن الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم لا يعود ملكيته إلى أحد من الناس، فلم يكن يملكه رجل، ولكنه كان خاصا بامرأة، فمن هي؟
نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: إن النتيجة التي لا نطمع أن يصدقها القارئ الكريم على عجل ما لم يظن أن الدليل من كتاب الله يدعمها هي: لقد نفشت غنم قوم كثير في امرأة واحدة (حرث واحد)، ولكن كيف ذلك؟
جواب: بطريقة النفش
سؤال: وكيف يمكن للغنم أن تنفش؟
جواب: دعنا نحاول أن نربط ذلك بما يمكن أن يحصل للجبال في يوم القارعة، فعندما نقرأ الآية الكريمة التالية:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
يمكن لنا أن نتخيل ما سيحصل لتلك الجبال التي نسفت نسفا لتصبح كالعهن المنفوش كما تصوره الآية الكريمة التالية:
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)
بعد أن يكون الناس أنفسهم كالفراش المبثوث، ويكون ذلك كله عندما تحدث القارعة:
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)
السؤال الموجّه للقارئ الكريم هو: كيف يمكن أن نتخيل تلك الجبال المنفوشة؟
منطقنا المفترى: نحن نتخيل عملية نفش الغنم في الحرث على تلك الشاكلة، حيث تتوزع الغنم الكثيرة بشكل شبه عشوائي في مكان محدد بعينه كما تتوزع حبات تراب الجبال المنفوشة بعد أن تنسف نسفا، فتكون محجورة في حدود جغرافية لا تتعداها:
وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ ۚ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
فالأنعام والحرث يكونا حجرا (نحن نظن) عندما تحجز في مكان محدد لا تخرج منه.
الدليل
السؤال: ما هو الحجر؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الحجر هو المكان المعلومة حدوده، حيث لا يستطيع من حجر عليه فيه أن يخرج منه، انظر الآية الكريمة التالية:
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53)
السؤال: إذا كان بين البحرين برزخا يعمل كحاجز حيث لا يبغي بعضهما على بعض:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20)
أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
فلماذا هناك حجرا محجورا بين البحرين بالإضافة إلى ذلك البرزخ؟
جواب: أظن مفتريا القول من عند نفسي أن الحجر المحجور هو الحدود الجغرافية للبحر حتى لا تخرج مياهه إلى اليابسة أو حتى لا تفلت في الفضاء إذا ما تخيلنا كروية الأرض:
source: https://www.google.jo/search?q=the+globe+map&biw=1708&bih=811&tbm=isch&imgil=70zm3hDMOuQiuM%253A%253Bhttps%253A%252F%252Fencrypted-tbn2.gstatic.com%252Fimages%253Fq%253Dtbn%253AANd9GcSu-j35HUl417G5RbkNdcIRERFxrz0XokmPGaUS89I_Ydc1zfLlgQ%253B850%253B420%253BAEtdeEdG3J_H6M%253Bhttp%25253A%25252F%25252Fwww.volunteersforprosperity.gov%25252Fglobal-map%25252F&source=iu&usg=__yNgBVx9nTovbqT40Z8c20ryhrv8%3D&sa=X&ei=weImU-euI-jV4ASnnoC4BA&sqi=2&ved=0CCcQ9QEwAA#facrc=_&imgdii=_&imgrc=70zm3hDMOuQiuM%253A%3BAEtdeEdG3J_H6M%3Bhttp%253A%252F%252Fwww.volunteersforprosperity.gov%252Fglobal-map%252Fimages%252Fglobal-map.jpg%3Bhttp%253A%252F%252Fwww.volunteersforprosperity.gov%252Fglobal-map%252F%3B850%3B420
السؤال: إذا استطعنا أن نفهم أن البرزخ (أي الحاجز) الموجود بين البحرين يعمل على أن لا يبغي أحدهما على الآخر، فما الذي يحفظ وجود الماء في مكانه فلا يتدفق في الفضاء أو في جهة محددة بعينها باتجاه اليابسة خصوصا إذا ما تخيلنا كروية الأرض؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الذي يحفظ ماء البحر الواحد في مكان محدد فلا ينفلت منه هو ذلك الحجر المحجور، فماء البحر محجور في مكان محدد بعينه.
وكذلك هم المجرمون في نار جهنم:
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22)
وأظن أن هذا الحجر هو ما يمنعهم عن رؤية ربهم:
كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)
وأظن أن ذلك كله مشتق من الحجرات:
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
فالحجرة هي المكان الذي تحفظ خصوصية كل عائلة، فلا يتم تجاوزه من قبل الآخرين.
وكذلك كان – في ظننا- أصحاب الحجر (وهم ثمود):
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
وذلك لأنهم كانوا – كما نتخيلهم- يحيطون أنفسهم بموانع طبيعية تحميهم من عدوهم:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
(وسنتعرض بالتفصيل لمكان تواجدهم لاحقا بحول الله وتوفيق منه، فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم)
نتيجة مفتراة: الحجر هو المكان المحدد بذاته.
عودة على السؤال السابق: كيف يمكن أن تكون الأنعام والحرث حجر؟
وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ ۚ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
جواب: أظن أنها الأنعام المتواجدة في حرث محدد بعينه لا يمكن تجاوزه.
سؤال: ما علاقة هذا بقصة غنم القوم التي نفشت في الحرث؟
جواب مفترى: نحن نفتري الظن بأن جميع غنم القوم (وهم كثيرون) قد نفشت في حرث واحد، أي في مكان محدد بذاته.
السؤال: كيف يمكن أن يكون ذلك؟
جواب مفترى: مادام أن غنم القوم قد نفشت جميعها في حرث واحد، يصبح من المستحيل (نحن نظن) تمييز ملكية كل واحدة من غنم القوم في الحرث، ودعنا نستدعي الصورة الذهنية لكيفية نفش الغنم في الحرث، فلنتخيل بداية أن هناك أكثر من راعي واحد يرعى غنمه في حقل واحد (أي حرث واحد)، حيث يمتلك كل واحد منهم مجموعة من الغنم، دخلوا جميعا في حرث واحد كما في الشكل التالي:
السؤال 1: هل يستطيع الناظر أن يميّز إلى من تعود ملكية كل واحدة من الغنم في ذلك الحرث متى ما اختلطت الغنم بعضها مع بعض؟
السؤال 2: وماذا لو أحدثت تلك الغنم دمارا في محصول ما في ذلك الحرث، هل نستطيع أن نحدد أي الغنم أحدثت ذلك الدمار؟ وإلى من تعود ملكية الغنم التي أحدثت دمارا بعينه؟
الصورة الشعبية التي نعرفها من التراث: غالبا ما اشتكى أهل الزراعة من الدمار الذي ربما يحدثه أهل الرعي في حقولهم، وعادة ما ينكر كثير من أصحاب الغنم أن الدمار الذي حصل في الحقل كان بسبب ما فعلت غنمه، فلا يتردد كثيرا أن ينسب ذلك الخراب إلى غيره، وهكذا يفعل الآخرون منهم، فتضيع القصة الحقيقية بين اتهامات البعض للبعض الآخرين، خاصة إذا حصل أن اختلطت غنمهم جميعا في وقت واحد.
السؤال: على من ستقع المسئولية في الخراب الذي حدث للحرث (إن وجد)؟
جواب: لا شك أن جميعهم يتحمل قسطا من المسؤولية الجماعية، ولكن لا أحد منهم ربما يقبل أن يتحمل كامل المسئولية الفردية، وذلك لأن جميعهم سينكر أنه هو المسئول الوحيد عن الخراب الذي حصل، فيعترف بمسؤوليته المحدودة في ذلك، أليس كذلك؟
السؤال: هل يمكن الوصول إلى خبر يقين في من كان السبب الفعلي في إحداث الخراب (إن وجد) أو الأذى (إن حصل)؟ أي هل يمكن تحديد الفاعل الحقيقي الذي أحدثت غنمه الدمار الفعلي؟
الجواب: ربما يستحيل ذلك؟
السؤال: كيف يمكن للقاضي أن يفض الخلاف في ذلك لو أن قضية كهذه قد رفعت إليه؟
جواب: غالبا ما يحمّل القاضي المسؤولية للجميع، أي لأصحاب الأغنام جميعا، فيتقاسمون الضرر الذي يجب أن يدفع لصاحب الحرث.
السؤال: هل هذا ما فعله داوود وسليمان عندما نفشت غنم القوم جميعا في حرث واحد؟
وإذا كان كذلك، ألا يحق لنا أن نطرح تساؤلات مثل:
- هل هذه قضية كبيرة تحتاج لداوود وسليمان أن يشتغلا بها؟
- هل الأمر بهذه الأهمية لدرجة أن تصبح القضية نفسها قرآنا يتلى؟
- وما حاجة الفهم لو أنها كانت كذلك؟ ألا تظن أن أي شخص (حتى بعض المتخلفين عقليا من مثلي) يمكن أن يفض الخلاف فيها؟
- كيف يختلف فهم سليمان لها عن فهم والده داوود إذن؟
- الخ.
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنه حتى يصبح داوود وسليمان فعلا قضاة متميزون عن غيرهم فلابد أنهم استطاعوا الوصول إلى الحل الحقيقي لهذه القضية، فاستطاعا أن يحددا المسبب الحقيقي في الدمار الذي حصل بالرغم من اختلاط غنم القوم في الحرث، ولكن كيف ذلك؟
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل الذي حصل على النحو التالي: تنفش غنم قوم كثيرين في حرث واحد، فتختلط بعضها ببعض، فيحدث نفش الغنم في الحرث "بعض الأثر" الذي لا يمكن السكوت عليه (أي يسبب أذى كبيرا بعينه)، فيلجأ الجميع إلى قاض يحكم بين الناس بالعدل مثل داوود وسليمان ليحددا الفاعل الحقيقي الذي تسبب بهذا الأثر بعينه، وعندها ينكر الجميع مسؤوليته الفردية في ذلك، وإن كانوا لا ينكرون اشتراك غنمهم جميعا في فعل النفش ذاته، فالقوم لا ينكرون أن غنمهم قد نفشت في الحرث ولكن كل واحد منهم قد أنكر بأن الأثر الذي أُحدث في الحرث والذي دفع بهم جميعا للمثول أمام داوود وسليمان للبت فيه في هذه القضية كان بسبب غنمهم على وجه التحديد. فاستطاع داوود وسليمان أن يحددا الفاعل الحقيقي بالرغم من اختلاط غنم القوم جميعا في الحرث نفسه؟
السؤال: كيف فعلا ذلك؟
جواب: مفترى: نحن نظن أنهم استطاعوا القيام بذلك بشرط واحد وهو أن الحرث الذي يتحدثون عنه ليس المكان الذي تنبت فيه الزرع (كما ظن سادتنا العلماء أهل الدراية) وإنما هو المكان الذي يتولد فيه الجنين، إنه رحم المرأة:
نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم هو رحم امرأة واحدة بعينها. فكيف يكون ذلك؟
جواب مفترى: نحن نظن أن غنم القوم التي نفشت في الحرث هي ما يصبه الرجل من المنيّ في رحم المرأة. فتكون الصورة في مخيالنا على النحو التالي:
يعمد قوم كثيرون في زمن نبي الله داوود وولده سليمان إلى امرأة واحدة، فيقترفوا جميعهم فاحشة الزنا معها، فتنفش غنمهم (منيّهم جميعا) في رحم تلك المرأة، فيتولد نتيجة ذلك في رحم تلك المرأة مولودا واحدا مادام أن المرأة (كما يعلم القاصي والداني) لا تحمل في بطنها إلا من عملية مجامعة واحدة ولو حصلت ألف ألف مرة، وهنا تختلط غنم القوم في رحم تلك المرأة، فيصبح من الصعب تمييز الفاعل الحقيقي الذي بسبب غنمه حملت المرأة جنينا في بطنها، وهنا يحاول الجميع أن يتنصلوا من المسؤولية الفردية، وإن تعذر عليهم أن يتنصلوا من المسؤولية الجماعية، فالمرأة (الحرث) تعلم كل واحد منهم بعينه، وتستطيع أن تحدد من الذي ارتكب معها الفاحشة من القوم، فلا يستطيع أن ينكر أنه قد فعلها، ولكن أحدا منهم لا يستطيع أن يجزم الأمر بأنه هو الأب الحقيقي لذاك المولود الذي في بطن تلك المرأة (الحرث)، فلربما ظن كل واحد منهم أن الحمل لم يكن نتيجة فعله بحد ذاته، وهنا تنشأ مشكلة حقيقية (وهي تحديد الشريط الوراثي DNA) تتطلب قاض بحجم داوود وسليمان للبت فيها، فكيف حصل ذلك؟
تخيلات من عند أنفسنا: يحصل أن تضع امرأة من نساء القوم (وربما كانت تلك المرأة غير متزوجة) مولودا، فيحدث ذلك "بلبلة" في نسب ذلك المولود، فتحضر المرأة مع طفلها إلى المحكمة، وتضع القضية بين يدي داوود وولده سليمان للبت فيها، ومادام أن القضية قد وضعت بين أيدي القضاة، فلابد من أن يتم الخوض في تفاصيلها كاملة، وما هي إلا سويعات قليلة حتى يتبين أن قوما كثيرين قد نفشت غنمهم (منيّهم) في ذلك الحرث (رحم تلك المرأة)، وما أن يحضر القوم الذين صبوا منيهم في رحم تلك المرأة أمام القضاة حتى يحاول كل منهم أن يتنصل من المسؤولية الفردية وإن كان يتحمل قسطا من المسؤولية الجماعية، فتحتاج القضية الآن أن يكون هناك حكما ذا علم للبت بالقضية، فهي تحتاج في نهاية المطاف إلى فحص الشريط الوراثي (DNA) لتحديد نسب الطفل. فمن يستطيع ذلك؟
جواب: سليمان.
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
نعم، بالرغم من صغر سن سليمان وحداثة خبرته في القضاء (مقارنة بوالده داوود) إلا أنه استطاع أن يفهم ما يدور حوله.
الدليل: نَفَشَتْ
السؤال: كيف يحدث فعل النفش؟
جواب: لقد عهدت هذه المفردة منذ نعومة أظفاري (كما يقولون في الفصيحة) على لسان العامة في اللغة غير الفصيحة (أي لسان الأهل والجيران)، وكان ذلك في أيام الشتاء الباردة جدا عند نزول الثلج من السماء على الأرض ليلبسها حلة بيضاء، فكان من حولي (ممن أتقنوا اللسان العامي قبلي) يصفون ذلك المشهد بالنفش، فيقولوا " الدنيا بتنفش" أي تنزل حبات الثلج الأبيض على الأرض كما في الصورة التالية:
source: https://www.google.jo/search?q=snow+falling+images&biw=1708&bih=811&tbm=isch&imgil=fe8ffP5Ip4o6UM%253A%253Bhttps%253A%252F%252Fencrypted-tbn3.gstatic.com%252Fimages%253Fq%253Dtbn%253AANd9GcSarWsDP9crcWMAmRBO1MzMm53W4l_9fIkNCjWWlcgmrV78y3a2rA%253B500%253B375%253BRzcOkMHzpx4uSM%253Bhttp%25253A%25252F%25252Fwelcomequotes.com%25252Fsnow-falling-closeup-image%25252F&source=iu&usg=__GRfT-eYGwod47185Xxx5bGQCJWI%3D&sa=X&ei=q8UuU6LRC_Py7AadwoGwBg&sqi=2&ved=0CDUQ9QEwBw#facrc=_&imgdii=_&imgrc=fHXE1cBfhnf_iM%253A%3BIW3mMLtCdBQJCM%3Bhttp%253A%252F%252Fwww.wallsave.com%252Fwallpapers%252F1280x800%252Fsnow%252F726324%252Fsnow-fall-park-hd-726324.jpg%3Bhttp%253A%252F%252Fwww.wallsave.com%252Fwallpaper%252F1280x800%252Fsnow-fall-park-hd-726324.html%3B1280%3B800
السؤال: ما الذي يحدث عندما يصب الرجل منيه في رحم المرأة؟ وكيف يمكن أن تتخيل ذلك وإن كنت لا تراه مباشرة؟ أليست هي الصورة الذهنية نفسها، ألا ينزل الماء دافقا من بين الصلب والتراب:
فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
ألا ينتشر ذلك السائل (الأبيض في لونه) في كل أنحاء تلك الحجرة (الحرث)، ألا يكتسي ذلك الحرث لونا جديدا شيئا فشيئا؟ من يدري؟!!!
نحن لا نظن (كما فعل أهل الدراية من قبلنا) أن هذا الأمر قد فات داوود. وأن سليمان هو وحده من فهم ذلك (انظر ما جاء في الطبري سابقا). فقد ظن كثير من أهل الدراية أن داوود قد نطق بحكم وأن سليمان قد نطق بحكم آخر مختلف عن حكم والده داوود، وأن سليمان هو من أصاب كبد الحقيقة في حكمه وأن داوود قد أخطأ في حكمه.
رأينا: نحن نظن أن هذا لا يصح إطلاقا بدليل أن النص القرآني يتحدث عن حكم واحد مشترك صدر من الاثنين:
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
فالنص القرآني لا يتحدث عن حكم صدر عن داوود وآخر عن سليمان، وإلا لكان النص على نحو "حكماهما"، بمعنى أن هناك حكمان صدرا منهما، ولكن لما كان النص القرآني يتحدث عن حكم واحد، فإننا لا نتجاوز في القول، ظانين بأن حكما واحدا مشركا قد صدر عن المحكمة في القضية التي نظرها القاضيان وهما داوود وسليمان، فلقد اشترك الاثنان في دراسة القضية، ولكن حكما واحد صدر عن المحكمة موقعا من قبل داوود وسليمان.
السؤال: ما دلالة قوله تعالى "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ"؟
جواب مفترى: نحن نتخيل أن داوود وسليمان قد عكفا على دراسة القضية معا قبل النطق بالحكم، وكان ذلك في غرفة خاصة بالقضاة لم يطلع على ما دار فيها إلا من خصهم الله بقوله (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ). فلقد شهد الله (وبعض ملائكته) على ما دار في تلك الحجرة من دراسة لتفاصيل القضية بين داوود وولده سليمان. وبعد تدبر شديد ودراسة متأنية لكل تفاصيل القضية، كان سليمان هو من توصل إلى فهم القضية، فتوصل إلى الحل، فكان ذلك من دواعي سرور الوالد داوود، فخرج على الناس بحكم واحد.
السؤال: ما هو الحكم الذي نطق به داوود بعد أن خرج من غرفة القضاة؟
جواب: قبل أن أنقل لكم ما أظن أنه حكم داوود وسليمان في القضية، أظن أني بحاجة أن أدعو ربي بالقول: أللهم يا معلم سليمان وداوود علمني وأخي علي الشرمان ويا مفهم سليمان فهمني وحدي، فأنت من كنت شاهدا على حكهم – آمين.
وللحديث بقية
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
23 آذار 2014