نظرية الأمانة - الجزء السادس
نظرية الأمانة- الجزء السادس
خلصنا في الجزء السابق من هذه المقالة عند الآية الكريمة التالية:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57)
وطرحنا عندها التساؤل الكبير جدا التالي: لماذا قضت مشيئة الله بأن يخلق الجن والإنس لعبادته؟ فما الذي يستفيده الإله من جراء تلك العبادة؟
وقدمنا الافتراء الخطير جدا الذي هو - لا شك- من عند أنفسنا والذي مفاده أن الإله ينتفع من عبادة الجن والإنس. فظننا مفترين القول من عند أنفسنا أن تلك المنفعة تتمثل في التقوى التي ينالها الله منا:
لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
فخلصنا إلى النتيجة المفتراة التالية: خلق الله الجن والإنس من أجل عبادته حتى يناله التقوى من جراء عبادة الجن والإنس له.
عندها كان لزاما إثارة التساؤلات التالية:
- ما هي التقوى؟
- كيف ينالها الله منا؟
- ولماذا يريدها الله منا؟
- الخ.
لذا سنحاول في هذا الجزء الجديد من المقالة نفسها متابعة حديثنا عن موضوع الأمانة التي تقدم الإنسان لحملها لما كان ظلوما جهولا، أي بعد أن خسر العلم الذي تلقاه مباشرة من ربه:
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)
وحصل كل ذلك بعد أن اقترب آدم وزوجه من الشجرة التي حذرهما الله من الاقتراب منها من ذي قبل:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35)
فوجد آدم نفسه ظلوما جهولا نتيجة فعلته تلك، فكان لابد له من اللجوء إلى ربه ليمنّ عليه بأدوات بديلة تسهّل عليه عملية عودته مرة أخرى إلى الجنة التي أخرجه منها الشيطان:
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)
فكيف سيخرج آدم من هذا الجهل وهذا الظلم الذي أوقع نفسه فيه؟
رأينا: عندما خرج آدم من الجنة كانت النتيجة الحتمية أن الجنة لن تكون مصيره ومصير ذريته جميعا، فقد نزل آدم وزوجه عند رغبة الشيطان، وكانت النتيجة الحتمية لذاك القرار الذي اتخذه آدم وزوجه هو الهبوط من الجنة كليا:
قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
ولكن المدقق في السياق القرآني جيدا يجد أن ذرية آدم ستنقسم لا محالة إلى قسمين رئيسيين (ربما غير متساوين في العدد):
1. من اتبع هدى ربه (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ)
2. ومن أعرض عن ذكر ربه (وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا)
فكان القرار الإلهي بأن من اتبع هدى ربه فلن يضل ولن يشقى بينما ستكون نهاية من أعرض عن ذكره أن له معيشة ضنكا وسيحشر أعمى:
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
وهنا بالضبط حصل أن ذرأ الله لجهنم كثيرا من الإنس كما كان لها نصيبا كبيرا في الجن:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
التساؤلات
- متى حدث ذلك؟
- وكيف حدث ذلك؟
- لماذا حدث ذلك؟
السؤال الأول: متى حدث ذلك؟
لننظر في الآية الكريمة السابقة نفسها في سياقها الأوسع ضمن سياقها القرآني الأوسع:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180)
ملحوظة مهمة: لو تفقدنا هذا السياق القرآني جيدا، لوجدنا (ربما بما لا يدع مجالا للشك) أن ذلك قد حصل عندما أخذ الله من بني آدم (وليس من آدم نفسه) ذريتهم ليشهدهم على أنفسهم؟
السؤال: لماذا لم يحصل ذلك لآدم نفسه؟
رأينا: كان آدم معدا مسبقا ليكون خليفة الله في الأرض (الجنة)، فعلمه الله بنفسه الأسماء كلها، وأسكنه وزوجه الجنة ليأكلا منها حيث شاءا رغدا. فما كان آدم يحتاج إلى هداية من ربه لأن ربه هو من جعله خليفة له، وهو من علمه بنفسه. ولكن ما أن نزل آدم وزوجه عند رغبة الشيطان حتى فقد آدم العلم الذي علمه إياه ربه، فأصبح من الظالمين:
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
وهنا جاء القرار ألإلهي بالهبوط من الجنة:
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
وهنا- نحن نظن- حصل أن ذرأ الله لجنهم كثيرا من الإنس كما كان قد ذرأ لها كثيرا من الجن من ذي قبل:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
ولو تفقدنا السياقات القرآنية التالية لوجدنا أن الله قد ذرأنا في الأرض بعدما كان قد استخلفنا فيها:
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
السؤال: ما معنى أن الله قد ذرأنا في الأرض؟
جواب: نحن نظن أن الله قد تخلى عنا، فأصبحنا على الحالة التي وضعنا فيها أنفسنا.
الدليل
لو تفقدنا السياق القرآني التالي لوجدنا أننا مأمورون أن لا نذر المرأة كالمعلقة:
وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (129)
وها هم الملأ من آل فرعون يحتجوا بأن يذر فرعون موسى وقومه بعد أن ذرأ موسى فرعون وآلهته:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
وها هو زكريا يدعو ربه أن لا يذره على تلك الحالة التي هو فيها:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
وها هم الذين يأتون الذكران من العالمين من آل لوط يذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم:
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
وها هو قوم يدعون بعلا ويذرون أحسن الخالقين:
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
وها هي الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم
مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وها هو نوح يدعو ربه أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديارا
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
وها هي سقر لا تبقي ولا تذر
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
وهناك كثير من الناس من يحبون العاجلة ويذرون الآخرة:
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
وما دام أن الشيء الذي ذرأ قد أصبح على تلك الشاكلة، فهو إذا عرضة للتأثيرات الخارجية فيصبح كالهشيم الذي تذروه الرياح:
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: بعد أن جاء القرار الإلهي بهبوط الجميع من الجنة، كان الله بذلك قد ذرأنا في الأرض:
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
فأصبحنا عرضة للتأثيرات الخارجية، وفي هذه اللحظة بدأ آدم (وذريته من بعده) يحتاج إلى هداية من ربه؟
السؤال: لماذا أصبح آدم بحاجة إلى هداية من ربه؟
جواب: لأن آدم أصبح الآن في وضع يمكن (بسبب التأثيرات الخارجية عليه) أن يذهب في كلا الاتجاهين وهما:
1. أن يتبع هدى من ربه
2. أن يعرض عن ذكر ربه
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
ومادام أن الأمر قد أصبح على تلك الشاكلة من الهداية والإعراض، كان لا مفر من أن يذرأ الله لجهنم كثيرا من الإنس:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
فالله (نحن نستنبط القول) قد ذرأ لجهنم ممن ذرأهم في الأرض:
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
منطقنا المفترى: نحن نظن بأنه لو لم ينزل آدم عند رغبة الشيطان بالأكل من الشجرة، لما ذرأنا الله في الأرض، ولما ذرأ الله لجنهم جزءا كبيرا منا، لأن النتيجة الحتمية ستكون استمرار آدم وزوجه وذريته من بعده السكن في الجنة.
ولكن لمّا نزل آدم عند رغبة الشيطان، وقع في المحظور، فظفرت جهنم بجزء كبير من ذريته.
السؤال: لماذا؟
جواب: لأن آدم آثر الجهل على العلم والظلم على الهداية؟
السؤال: كيف ذلك؟
جواب مفترى مهم جدا: عندما أصبح هناك احتمالية أن يكون له قلب لا يفقه وأعين لا تبصر وآذان لا تسمع. وذلك لأن هذا هو نصيب جهنم من الإنس والجن. واقرأ -إن شئت- ما جاء في الآية نفسها:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
السؤال: أليس نصيب جهنم من الإنس والجن هم الذين لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها؟
السؤال: ألم يكن لآدم قلب وأعين وآذان قبل المعصية؟ فما الذي اختلف بعد الوقوع في المعصية؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نعم، نحن نظن أنه كان لآدم قبل المعصية قلب وأعين وآذان، لكنه لم يكن يحتاج أن يشغّلها، وذلك لامتلاكه العلم الذي جاءه مباشرة من ربه:
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
افتراء 1: نحن نفتري القول أن آدم بامتلاكه علم الأسماء كلها الذي جاءه بتعليم مباشر من ربه لم يكن بحاجة أن يعتمد على قلبه ليفقه أو على آذانه لتسمع أو على أعينه لتبصر. فكان آدم يعيش بالجنة مستخدما (ومعتمدا بالكليّة على) ما علمه الله وهو علم الأسماء كلها
افتراء 2: ما أن نزل آدم عند رغبة الشيطان حتى خسر آدم علم الأسماء كلها، فوجد نفسه ظلوما جهولا.
افتراء 3: ما أن جاء القرار الإلهي بهبوط الجميع من الجنة حتى تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
السؤال: مادام أن الله قد تاب على آدم، فلِم يهبطه من الجنة؟ نحن نسأل
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن لا نعتقد بأن الهبوط من الجنة له علاقة بتوبة آدم إطلاقا، وذلك لأنه لو كان الهبوط من الجنة مرتبطا بالتوبة لما كان آدم سيهبط بعد أن رجع عن خطأه وأقر بذنبه وتاب إلى ربه. ولكننا نفتري القول من عند أنفسنا (ربما مخطئين) بأن سبب هبوط آدم من الجنة هو خسارته لعلم الأسماء كلها الذي حصل عليه بتعليم مباشر من ربه. فمن أراد أن يسكن الجنة (نحن نظن) فلابد له من أن يكون عالما بالأسماء كلها حتى تستطيع أن تأكل منها حيث تشاء رغدا. ومادام أن آدم قد خسر علم الأسماء كلها، لذا لم تعد الجنة هي المكان المؤهل أن يسكنه من لا يملك علم الأسماء كلها. فقد فقد آدم العلم الذي يمكنه من مناداة الأشياء بمسمياتها الحقيقية، وهذا بالضبط ما نفهمه من الآية الكريمة التي تبين أن آدم قد وقع في فعل النسيان:
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
فكان لابد لآدم (مادام أن حالته قد أصبحت على هذه الشاكلة) من أن ينتقل إلى مكان آخر، فكان الهبوط.
ولو تدبرنا الآيات الكريمة الخاصة بالهبوط من الجنة جيدا، لوجدنا أن الأمر الإلهي بالهبوط قد صدر مرتين: مرة قبل التوبة ومرة أخرى بعد التوبة. وانظر – إن شئت- في هذا السياق القرآني:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
ليكون السؤال هو: لماذا؟ أو كيف نفهم أن الله قد أمر آدم وزوجه بالهبوط من الجنة (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) ثم يتلقى آدم من ربه كلمات فيتوب الله عليه (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ثم يأتي بعد ذلك الأمر بالهبوط مرة أخرى (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن ما حصل كان (في مخيالنا) على النحو التالي:
1. يعلم الله آدم علم الأسماء كلها ليكون خليفته في الأرض (الجنة)
2. ينزل آدم عند رغبة الشيطان بالاقتراب من الشجرة.
3. يأتي الأمر الإلهي لأدم بالهبوط من الجنة، فينتقل آدم إلى الأرض (غير الجنة) ليكون له فيها مستقرا ومتاعا إلى حين. ومن هذا المنطلق نفهم بداية السياق القرآني السابق:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
السؤال: ما المختلف فيما تقول؟ أليس هذا هو الفكر السائد؟
جواب: صحيح أن هذا هو الفكر السائد باستثناء استنباط واحد جديد ننوي أن نفتريه من عند أنفسنا وهو: لو أن الأمر توقف عند هذا الحد لما ترتب على ذلك عقاب ولا ثواب لآدم بعد ذلك على فعلته، أي لربما عاش آدم في الأرض كمستقر ومتاع إلى حين، ولانتهت القصة هناك.
السؤال: ما الذي حصل بعد ذلك؟
رأينا المفترى: لم يكن هذا النوع الجديد من الحياة ليرضى آدم: فلم يكن آدم ليقبل أن يكون له في الأرض مستقر ومتاع إلى حين وكفى. فلقد كان آدم يطمع أن يعود من جديد إلى الجنة التي خسرها. فما العمل؟
جواب: لكي يتحقق لآدم ذلك، كان لابد له من أن يعود إلى ربه ليمنَّ عليه من جديد، فيمكنه من العودة إلى الجنة التي فقدها. وهنا جاءت (نحن نفتري القول) قصة الكلمات التي تلقاها آدم من ربه:
فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
وما أن تلقى آدم تلك الكلمات حتى عاد أمر الهبوط يظهر من جديد ولكن بشروط جديدة:
قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
والآن قارن عزيزي القارئ ما جاء في أمر الهبوط الأول الذي صدر قبل أن يتلقى آدم الكلمات من ربه وأمر الهبوط الثاني الذي صدر بعد أن تلقى آدم الكلمات من ربه:
أمر الهبوط الأول: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
تلقي الكلمات: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
أمر الهبوط الثاني: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
السؤال: ألا ترى – عزيزي القارئ- أن هناك شروطا جديدة ظهرت في أمر الهبوط الثاني لم تكن موجودة في الأمر الأول؟
السؤال: ما هي الشروط الجديدة؟
رأينا: نحن نجد أن أمر الهبوط الجديد هذا قد اشترط الثواب والعقاب. أما الثواب فقد جاء في قوله تعالى:
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
وأما العقاب فقد جاء في قوله تعالى مكملا ما سبق:
وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
السؤال: كيف حصل ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن ذلك حصل عندما طرأ تغير كبير جدا على قلب وأعين وآذان آدم (وذريته من بعده). فقد أصبح من الممكن لتلك القلوب (نحن نفتري القول) أن تعقل أو لا تعقل وأصبح من الممكن لتلك الآذان أن تبصر أو لا تبصر وأصبح من الممكن لتلك الآذان أن تسمع أو لا تسمع. فكان نصيب جهنم منهم هو ما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
السؤال: وكيف ذلك؟ ما الذي وضع تلك الخاصية في القلوب والآذان والأبصار؟ لماذا أصبح من الممكن أن تذهب في كلا الاتجاهين؟
رأينا الخطير جدا جدا: إنها النفس التي ألهمها ربها فجورها وتقواها:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)
تخيلات مفتراة: لما خلق الله آدم وضع فيه نفس فسواها:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)
فكانت نفس آدم تلك في حالة ثبات لأنها كانت نفس مسوّاة، ونحن نظن أن في التسوية استقرار للحالة. فكانت على حالة واحدة وهي إقرار العبودية لله. فبالرغم أن آدم قد وقع في المعصية إلا أنه لم ينكر أن الله هو ربه. فكانت تلك النفس تشهد لربها بالوحدانية والعبادة. ولكن ما أن هبط آدم من الجنة حتى وجد نفسه في مكان ما (غير الجنة) ليكون له فيها مستقرا ومتاعا إلى حين:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
فعلم آدم أن هذا المكان ليس أبدي، وأن النهاية حتمية فيه، والأهم من ذلك أنه لا رجعة إلى الجنة التي خرج منها إن هو بقي على تلك الشاكلة.
وهنا بالضبط (نحن نتخيل) عاد آدم الذي أصبح ظلوما جهولا إلى ربه، فتقدم من ربه طالبا حمل الأمانة التي أبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها، وذلك لكي تمكّنه من العودة إلى الجنة مرة أخرى، وهنا قضت مشيئة الله أن يحمِّله تلك الأمانة.
السؤال: ما هي الأمانة التي تقدم آدم إلى حملها؟
جواب: لم تكن الأمانة هي النفس المسوّاة فقط، لأن تلك النفس المسواة هي من نصيب من كان يسكن الجنة، وإنما كانت النفس الملهمة فجورها وتقواها:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)
فمن زكاها فقد أفلح لأنه بذلك يكون قد اتبع هدى من ربه، ومن دسّاها فقد خاب لأنه يكون بذلك قد أعرض عن ذكر ربه، وهذه في ظننا هي شروط الأمر الإلهي بالهبوط الذي صدر بعد أن تلقى آم من ربه كلمات فتاب عليه:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
وهذا في ظننا ما يؤكده سياق قرآني آخر يخص الحادثة نفسها:
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
نتيجة مفتراة 1: كان آدم يسكن الجنة كخليفة لله في الأرض بنفس مسوّاة (مقرَّة بالعبودية لله الواحد الأحد)
نتيجة مفتراة 2: هبط آدم من الجنة بتلك النفس المسوّاة إلى الأرض لتكون له مستقرا ومتاعا إلى حين
نتيجة مفتراة 3: كان يمكن لآدم أن يقبل بذلك الوضع، فيعيش في الأرض كمستقر ومتاع إلى حين وكفى، فلا يترتب على ذلك عقاب ولا ثواب ولا عودة إلى الجنة التي خسرها
نتيجة مفتراة 4: لم يرضى آدم بالوضع الذي وجد فيه نفسه، فكان راغبا بالعودة إلى الجنة التي خسرها
نتيجة مفتراة 5: لكي يستطيع آدم العودة إلى الجنة التي خسرها كان لابد من وجود آلية جديدة تمكّنه من ذلك، فتقدم آدم لحمل الأمانة كخيار أوحد للعودة إلى الجنة مرة أخرى
نتيجة مفتراة 6: جاءت الرحمة الإلهي لآدم بتحميله تلك الأمانة حتى يستطيع العودة إلى الجنة التي خسرها، ولكن ذلك كان يتطلب المخاطرة، مادام أنه سترتب عليه الثواب والعقاب
نتيجة 6: رضي آدم بالمخاطرة، فحمل تلك الأمانة التي كانت عبارة عن تغير جذري في النفس، فبدل أن تكون نفسه مسوّاة وكفى (كما كان في الجنة) تدين بالعبودية لربها، أصبحت نفسه ملهمة فجورها وتقواها، أي يمكن أن تقبل بالهداية ويمكن أن تعرض عن الذكر.
السؤال: كيف تم ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن غاية آدم كانت تتمثل في الحصول مرة أخرى على العلم الذي خسره (أو لنقل نسيه) بسبب وسوسة الشيطان له ولزوجه. وذلك لأن الحصول على علم الأسماء كلها هو فقط ما سيمكنه من أن تعود حياته على الأرض جنة خالصة كما كانت من ذي قبل، فيكون بذلك خليفة الله فيها، فيكون هو ربها، الذي يأتمر كل ما فيها بأمره وينتهي بنهيه. ولكن كيف سيحصل آدم على هذا العلم مرة أخرى؟
جواب: بأدوات الحصول على العلم وهي تتمثل في طريقين:
1. الحصول عليه بتعليم مباشر من ربه، وهذا أمر أصبح مستحيلا مادام أن الله قد عهده إلى آدم من قبل ولم يجد له عزما:
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
2. الحصول عليه بأدوات جديدة.
السؤال: ما هي أدوات الحصول على العلم؟
رأينا المفترى: إنها أدوات الإدراك: القلب والآذان والأعين
نتيجة مفتراة: نحن نظن أنه من أجل الحصول على العلم بأدوات الإدراك الحسية هذه، فلابد من توافر المشغّل لها. فما الذي سيشغل هذه الأدوات في الجسم لتعمل؟
رأينا المفترى الخطير جدا جدا: إنها النفس الملهمة فجورها وتقواها.
تخيلات: نحن نتخيل الذي حصل على النحو التالي: عندما وجد آدم نفسه فاقدا العلم الذي جاءه بتعليم مباشر من ربه، وجد نفسه خاسرا الجنة التي كان يسكنها، ولكي يعود إليها لابد له من استرجاع هذا الكنز العظيم، ولكن لم يكن أمامه إلى طريقة واحدة تتمثل في تشغيل أدوات الإدراك الحسي لديه وهي القلب والأعين والآذان. فكيف سيستطيع تشغيلها؟
جواب: كان لابد له من حمل الأمانة والتي تتمثل في تلك النفس الملهمة فجورها وتقواها، فهي الوحيدة القادرة على تشغيل هذه الأدوات (القلب والأعين والآذان) لتعمل من أجل الحصول على العلم المفقود.
وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
فكانت تلك هي أدوات الإدراك والمسائلة:
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)
وهي التي أنشاها الله لنا عندما ذرأنا في الأرض لكي نحشر إليه مرة أخرى لنحاسب عليها:
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وما أن يتم تشغيل تلك الأدوات، حتى كانت النار لمن:
خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7)
إن ما يهمنا طرحه هنا هو الظن بأن آدم قد احتاج إلى تشغيل أدوات الإدراك الحسي من أجل الحصول على العلم الذي خسره ومن ثم العودة إلى الجنة التي خسرها من جديد.
السؤال: وهل هذا ممكن؟هل يمكن أن نسترجع ذلك العلم (علم الأسماء كلها) الذي تعلمه آدم مباشرة من ربه؟
جواب: لو لم يكن ذلك ممكنا لما قَبِل الله أن يحمل آدم الأمانة، فقبول الله أن يحمل آدم الأمانة ليعود من خلالها إلى الحصول على علم الأسماء كلها ومن ثم العودة مجددا إلى الجنة يحمل في ثناياه إمكانية حصول ذلك.
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟ أين الدليل أن في قبول الإله أن يحمل آدم الأمانة احتمالية أن يحصل آدم على العلم الذي نسيه من جديد؟
رأينا: نحن نجد الدليل على ذلك في الآية الكريمة التالية:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23)
رأينا المفترى: لمّا علِم الله أن هناك من الدواب شرها الذين لا يعقلون حتى لو أسمعهم، كان القرار الإلهي هو أن لا يسمعهم لأنه لو أسمعهم لتولوا وهم ومعرضون.
ولكن لما علم الله (نحن نحاول أن نستنبط) أن هناك احتمالية أن لا يتولى من هم من ذرية آدم لأنهم ليسوا من شر الدواب، جاء القرار الإلهي أن يسمعهم، وهذا بالضبط ما حصل، فعندما أسمعهم لم يتولوا جميعا، فهناك من لم يعرض عن ذكر ربه وإن كان هناك من أعرض عن ذكر ربه:
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
السؤال: لماذا إذن رضي الله أن يُسمِع آدم وذريته من جديد؟
جواب خطير جدا: من أجل تحقق العلم الإلهي بهم.
السؤال: ما معنى ذلك؟ ألا ترى أنك تفتري قولا خطير جدا ربما يكون غير مسبوق؟ يسأل صاحبنا.
جواب: بلى هو كذلك. نحن نحمل العقيدة التي مفادها أن الإله وجد خلقه الجديد (آدم) في حالة من عدم الاستقرار، فهم لن يكونوا جميعا معرضين عن ذكره، ولكنهم في الوقت ذاته لن يكونوا جميعا متبعين لهداه. فكيف سيميز الإله نفسه مَن مِن هؤلاء سيتبع هداه ومن منهم سيعرض عن ذكره. فكان القرار الإلهي هو أن يحملهم الأمانة وهي النفس التي ألهمها فجورها وتقواها ليعلم الله من يزكيها ومن يدسّها منهم:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)
نتيجة: عندما علم الله من هم شر الدواب، لم يكن الله ليسمعهم لأنه لو أسمعهم لتولوا وهم معرضون. لذا، فالعلم الإلهي بمثل هؤلاء (شر الدواب) محسوم تماما. ولكن القصة كانت مختلفة بالنسبة للناس، فالناس ليسوا كشر الدواب:
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
فالقصة بالنسبة للناس كانت مختلفة عن شر الدواب وذلك (نحن نظن) لاحتمالية أن لا يعرضوا جميعا لو أن الله أسمعهم. ولما كان الإله لا يعلم من منهم سيتبع هواه ومن منهم سيعرض عن ذكره، لم يكن العلم الإلهي بهم محسوم تماما. وهنا جاء القرار الإلهي أن يسمعهم ليعلم بنفسه من منهم سيتبع هداه ومن منهم سيعرض عن ذكره. ومن هذا المنطلق المفترى من عند أنفسنا يمكن لنا أن نقرأ الآن الآيات القرآنية التي تتحدث عن علم الله بما سيكون عليه حال الناس من خلقه. فكانت (نحن نفتري قولا خطيرا) مصلحة متبادلة بين الإله والناس. فالإله يريد أن يعلم والإنسان يريد الجنة. ولكن المؤكد بالنسبة لنا أن دخول الجنة لن يحصل إلا بعد حصول العلم الإلهي بحالنا:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ آل عمران (142)
والآن انظر – عزيزي القارئ- في السياقات القرآنية الخاصة بالعلم الإلهي بحالنا في صيغها المتعددة، وهي:
وردت مصحوبة بلام التعليل "أو الغاية" بصيغة الحصر على نحو "إِلَّا لِنَعْلَمَ":
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ البقرة (143)
وجاءت غير محصورة على نحو "لِيَعْلَمَ":
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ آل عمران (140)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ آل عمران (167)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ المائدة (94)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ الحديد (25)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) سبأ 20-21
ووردت نفس الصيغة ولكن بشيء من التوكيد اللفظي على نحو وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) العنكبوت 10-11
وجاءت على صيغة السؤال الاستنكاري على نحو أَمْ حَسِبْتُمْ ... وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ آل عمران (142)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ التوبة (16)
وجاء جواب أحسب مؤكدا:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) العنكبوت 2-3
والملفت للانتباه أن الله سبحانه وتعالى يحدث أمراً ما، ليتحصل العلم بأمر آخر، فها هو يبعث أهل الكهف من رقدتهم تلك " لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا" :
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا الكهف (12)
وها هو يبتلى بعض عباده ليحصل العلم، فالمدقق في اللفظ القرآني في الآية التالية يجد أن استخدام "حتى" تدل على الغاية من الابتلاء، أليس كذلك؟
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ محمد (31)
والمدقق في الآية الكريمة التالية يجد أن علم الله في هذا الأمر لم يكن سبباً لحصوله بل نتيجة له، بدليل وجود ظرف الزمان الذي يدل على وقت حصول العلم بالأمر:
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ الأنفال (66)
إن ما يهمنا طرحه هنا هو أنه لمّا علم الله احتمالية أن لا يتولى بعض الناس وهم معرضون لو أنه أسمعهم، رضي الإله بأن يسمعهم وذلك من أجل هدف واحد: ليعلم الإله نفسه من يؤمن من هؤلاء ومن لا يؤمن منهم، فكان لابد من تشغيل أدوات الإدراك الحسي عندهم وهي القلب والأعين والآذان. فأودع في الإنسان نفسا ملهمة فجورها وتقواها. فتحرر الإنسان من ارتباطه بخالقه، فكان نتيجة ذلك أن ذرأنا الله في الأرض، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة:
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
السؤال: كيف تشتغل تلك الأدوات؟
باب : وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ
نحاول في هذا الجزء من المقالة طرح السؤال المحوري التالي: متى جعل الله لنا السمع والأبصار والأفئدة؟
جواب: عندما حاولنا النبش في هذه الجزئية وجدنا لزاما علينا أن نبدأ النقاش بالآية الكريمة التالية من سورة السجدة:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) السجدة 7-9
لأنها تصور عمليات متتالية في الخلق، ألا وهي:
- الخلق من الطين (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ)
- جعل من الطين ماء مهينا (مَاءٍ مَهِينٍ)
- جعل من الماء المهين السلالة (سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)
- جعل النسل من السلالة (جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ)
- التسوية (ثُمَّ سَوَّاهُ)
- نفخ الروح (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)
- وأخيرا، جعل السمع و البصر و الفؤاد (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)
لقد أثارت مفردات هذه الآية الكريمة بالترتيب الذي جاءت فيه حفيظتنا في طرح بعض التساؤلات، نذكر منها:
- ما دلالة مفردة جعل في الآية (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)؟ أي لماذا جاء السمع والبصر إلينا بطريقة الجعل؟ ولم لم يأتي – مثلا- بطريقة الخلق مثلا؟
- ما دلالة مفردة "لَكُمُ " في هذا السياق (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) بالرغم أن الحديث في الآية جار حول الخلق الأول؟ وبكلمات أكثر دقة نحن نتساءل: إذا كانت الآية تتحدث عن الخلق الأول (أي خلق آدم)، فلماذا لم يقل الله (جعل له السمع و البصر و الفؤاد)؟ ولماذا قال (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)؟ فما علاقتنا نحن بهذا مادام أن الخلق الأول كان لآدم؟
- الخ.
رأينا المفترى من عند أنفسنا: تحدثنا في الأجزاء السابقة من هذه المقالة عن مراحل خلق آدم ( البشر الأول )، فظننا أن خلق آدم قد مر بثلاث مراحل مفصلية، هي:
1. مرحلة الطين (الخلق)
2. مرحلة التسوية (النفس)
3. مرحلة النفخ (الروح)
ليكون السؤال – إن صح زعمنا هذا- هو: متى جعل الله السمع والبصر والفؤاد في هذا الخلق الجديد؟ أي في أي مرحلة حصل ذلك؟
للإجابة على هذا التساؤل كان لابد من جلب السياقات القرآنية التالية معا:
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ السجدة (9)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ المؤمنون (78)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النحل (78)
لذا، كان لزاما علينا أن نحاول أن نتدارس مفردات هذه الآيات الكريمة جيدا قبل محاولتنا الخروج بافتراءات هي من عند أنفسنا. وأظن أن السؤال الأول يتعلق بالمشاهدة التي مفادها أن الله قد جعل السمع والأبصار والأفئدة جعلا (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) وأنه قد أنشأها كذلك إنشاء (أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ): فكيف جُعلت؟ وكيف أُنشئت؟
باب الجعل (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)
جاء في مقالتنا تحت عنوان صلاة الاستسقاء (5) عن الفعل جعل في النص القرآني ما مفاده "بأن من أبسط معاني الفعل الثلاثي جعل واشتقاقاته هو التحول من حالة إلى حالة، فأنت عندما تقول "جعلت الدقيق خبزاً" فأنت إنما حوّلته من حالة "الدقيق" إلى حالة "الخبز"، كما في كثير من السياقات القرآنية:
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا الكهف (96)
فزبر الحديد لم يكن ناراً إلى بعد أن "جَعَلَهُ نَارًا" بواسطة النفخ.
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الزخرف (3)
ومادام أن القرآن قد جُعِل عربيا، فقد زعمنا القول بأن القرآن الكريم لم يكن في مصدره الذي جاء منه أصلاً عربياً وإنما تم تحويله من صيغته (حالته) الأولى غير العربية إلى صيغة أخرى جديدة وهي العربي، وحصل ذلك بطريقة التفصيل:
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
فالتحول من حالة إلى حالة جديدة واضحة في الفعل جعل الذي يرد في سياقات قرآنية كثيرة. وانظر – إن شئت- في قوله تعالى:
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ۖ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا الطلاق (7)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا المزمل (17)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة (22)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّىٰ طه (53)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ الأنبياء (31)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ الأنبياء (32)
وثم حاولنا التأكيد في مقالتتنا تلك بأن الحالة التي كانت قبل الجعل هي الأصل أما الاستثناء فهو في الحالة التي تمت بعد الجعل، كما تدبرها في بعض السياقات القرآنية:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ إبراهيم (30)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الحجر (96)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ النحل (57)
فالأصل – نحن نظن- يتمثل في أن ليس لله أنداداً، وليس مع الله إلهاً آخر، وليس لله البنات، وما كان ذلك إلاّ افتراءً على الله بعد أن جعلوه له.
ونحن إذ نتبنى ما جاء في مقالاتنا السابقة حول هذه الجزئية، لنود في الوقت ذاته أن نضيف إلى ذلك افتراءات أخرى هي من عند أنفسنا عن الفعل "جعل":
· قد يكون "الجعل" تغييرا كاملا للحالة
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة(53)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى طه (22)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ النحل (72)
· قد يكون "الجعل" تغيرا كاملا في طريقة الخلق
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ السجدة (8)
· قد يكون "الجعل" من حالة إلى حالة مخالفة لها في الطبيعة:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ يس (80)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ المائدة (60)
· قد يكون "الجعل" من حالة ما إلى الحالة المعاكسة لها تماما:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الروم (54)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ النمل (34)
· قد يكون "الجعل" من أجل التسخير
للَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ غافر (79)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ الملك (15)
· قد يكون "الجعل" بطريقة إدخال شيء في شيء آخر
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يوسف (15)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يوسف (62)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يوسف (70)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ البقرة (19)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا نوح (7)
· قد يكون الجعل دلالة على استدامة التغيير
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ القصص (71)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ القصص (72)
· قد يكون الجعل تغيرا غير دائم في الشيء
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الأنعام (125)
· قد يكون الجعل تغيرا مفاجئا وسريعا للغاية:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ الأعراف (143)
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ هود (82)
النتيجة المفتراة من عند أنفسنا : الجعل هو تغير في حالة الشيء يحدث دفعة واحدة بطريقة سريعة و مفاجئة، قد يكون مخالفا أو معاكسا للحالة الأصلية، وقد يكون تغيرا مستداما أو مؤقتا
باب : الإنشاء (أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)
· أولا : عملية الإنشاء لا يترتب عليها اختلاف في الصنف
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ الأنعام (133)
فنحن نظن بأنه على الرغم أن الله قد أنشأنا من ذرية قوم آخرين، ألا أننا قد لا نختلف عنهم في الصنف، فهم كانوا بشرا و نحن لازلنا بشرا (مادام أننا قوم كما كانوا هم قوما)
وكذلك حصل في خلق الأجنة
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ المؤمنون (14)
فلو نتج عن عملية الإنشاء اختلاف في الصنف لما كان (يظن الجراح) هناك داع لوجود عبارة (خَلْقًا آَخَرَ) مصاحبة لمفردة (أَنْشَأْنَاهُ) في السياق السابق. ويمكن التدليل على تلازم الصنف من الآية الكريمة التالية:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ الرعد (12)
فالسحاب ينشأ إنشاء لأنه لا يزال (نحن نظن) يحمل الماء الذي نشأ منه.
· ثانيا : يفتري الجراح القول بأن الإنشاء هو تحول تراكمي تدريجي، أي تحول من حالة ما إلى حالة أكثر تقدما لا يحدث دفعة واحدة (كما في الجعل مثلا)، وبكلمات إجرائية، نقول بأن الإنشاء هو (جعل بطيء) لنفس الصنف:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الأنعام (141)
و كما ينشئ الله الجنات على فترة من الزمن، كذلك هو ينشئ السحاب الثقال:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ الرعد (12)
وكما ينشئ السحاب شيئا فشيئا، ينشئ الله أمما كثيرة
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ الأنبياء(11)
و كذلك تحول الأجنة في الأرحام يتم شيئا فشيئا بطريقة الإنشاء:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ المؤمنون (14)
وإذ نتبنى افتراءاتنا السابقة هذه، لنود في الوقت ذاته أن نضيف إليها افتراءات أخرى هي من عند أنفسنا:
· الإنشاء يتطلب حتمية وجود الشيء الذي سينشأ عنه ، بمعنى وجود شيء سابق ثم ينشأ عنه شيء جديد لكنه غير مخالف له
· فإنشاء الناس كن لابد أن يسبقه وجود الأرض التي سينشئون منها:
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ هود (61)
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى النجم (32)
· وإنشاء الناس كان يتطلب وجود النفس الواحدة الأولى
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ الأنعام (98)
· و لإنشاء السمع و البصر و الفؤاد كان لابد (نحن نظن) أن يسبقه وجود الآذان و الأعين و الصدور التي سينشأ فيها:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ المؤمنون (78)
النتيجة المفتراة من عند أنفسنا: الإنشاء هو تحول تراكمي تدريجي، أي تحول من حالة إلى حالة أكثر تقدما و ليس دفعة واحدة، أي أن الإنشاء هو ( جعل بطيء) لنفس الصنف، فلا يترتب عليه أي تغير في الصنف، و يتطلب وجود الأصل حتى تتم عملية إنشاء شيء آخر منه
الجعل | الإنشاء |
الجعل هو تغير الشيء من حالة إلى حالة أخرى يحدث دفعة واحدة بطريقة سريعة و مفاجئة، قد يكون مخالفا أو معاكسا للحالة الأصلية، وقد يكون تغيرا مستداما أو مؤقتا | الإنشاء هو تحول تراكمي تدريجي للشيء، أي تحول من حالة إلى حالة أكثر تقدما، لا يحصل دفعة واحدة، لذا فهو جعل بطيء لنفس الصنف، ولا يترتب عليه أي تغير في الصنف، و يتطلب وجود الأصل حتى تتم عملية إنشاء شيء آخر منه |
عودة على بدء : ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) السجدة
السؤال: مادام أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الخلق الأول (أي آدم)، فلماذا لم يقل الله (جعل له السمع و البصر و الفؤاد)؟ ولماذا قال (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)؟ فما علاقتنا نحن بهذا إذا كان الخلق الأول قد حصل لآدم؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: بداية لابد من التفريق بين هذه التي نرغب بتسميتها بالحواس الإدراكية (السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) والأعضاء الحسية التي تقوم بهذه المهام وهي (الآذن و الأعين و القلب):
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الأعراف (179)
نتيجة مفترة 1: يمكن أن يكون هناك قلوب ولكن قد لا يكون هناك تعقل (فقه) (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)
نتيجة مفتراة 2: يمكن أن يكون هناك عيون ولكن قد لا يحدث الإبصار (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا)
نتيجة مفتراة 3: يمكن أن يكون هناك آذان ولكن قد لا يحصل السمع (وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا)
فنحن نظن أن آذان الإنسان تلتقط جميع الأصوات التي تحصل في محيطه، ولكن ما يسمعه منها هو (نحن نزعم) ما يستطيع أن يميّزه منها فقط. ونحن نظن أن الإنسان قد ينظر إلى جميع الموجودات المحيطة به، و لكن ما يبصره هو ما يستطيع أن يميزه منها فقط. ونحن نظن أن الإنسان تمر به الكثير من الحوادث من حوله، و لكن ما يعقله منها هو ما يدركه منها فقط:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الحج (46)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الأعراف (179)
لذا، فإن الذي يملك الآذان والأعين والقلوب ولا يستفيد منها فهو كالأنعام بل أضل، وهو الذي يسمى بالغافل. وانظر - إن شئت - ماذا فعل من كان في غفلة:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
فهؤلاء هم من ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وهم من جعل الله على أبصارهم غشاوة:
خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7)
(دعاء: أعوذ بك رب أن أكون من الغافلين، وأسألك ربي أن تكشف الأكنة عن قلبي والوقر من أذني وأن تزيل الغشاوة عن بصري - آمين)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام (25)
تلخيص: إنّ ما نود قوله من هذا النقاش هو:
- الأذن تلتقط الأصوات، ولكن ما تستطيع أن تعرفه وأن تميزه مما سمعته هو ما يمكن تسميته بالسمع.
- العين يمكن أن تنظر ويمكن أن ترى الموجودات كلها، و لكن ما تستطيع أن تعرفه وأن تميزه هو ما يمكن تسميته بالبصر
- القلب يمكن أن تمر به أحداث كثيرة، و لكن ما تم إدراكه و تمييزه و معرفة أسبابه و نتائجه هو ما يمكن أن يسمى بالفؤاد
السؤال: ما علاقة هذا كله بخلق آدم الأول؟
رأينا المفترى الخطير جدا جدا 1: كل ما اكتسبه ادم بعد النفخ من صفات جديدة لم تكن متوافرة في مادة أصل الخلق (الطين من تراب و ماء)، لذا فقد جعلت جعلا، وانظر إن شئت في الآية الكريمة قيد الدراسة نفسها:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) السجدة
وهكذا كانت بالنسبة لنا (نحن من ذريته)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ الملك (23)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا الإنسان (2)
ولكن لو تدبرنا النص القرآني أكثر لوجدنا أن الله قد قال شيئا غاية في الغرابة – ربما نتخيل- عن الذرية. واقرأ – إن شئت- قوله تعالى:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النحل (78)
إن المتدبر لهذه الآيات الكريمة يجد أن جعل السمع والبصر والفؤاد قد نُسب لنا نحن ذرية آدم ولا نجد أنه قد نسب إلى آدم نفسه، أليس كذلك (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)؟
السؤال: لماذا نسبت تلك الحواس (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لنا؟ لِم لَم تُنسب لآدم؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: لأنها (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) أدوات الإدراك بعد فقدان العلم:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النحل (78)
منطقنا المفترى: مادام أن الله قد أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، كان لابد أن يزودنا بآليات الإدراك التي تمكننا من الحصول على العلم (الذي خسره آدم) من جديد، وأدوات استرجاع ذاك الكنز العظيم هي السمع والأبصار والأفئدة. فنحن يجب أن نشكر ربنا على هذه الآليات التي زودنا بها وإلا لكنا كالأنعام بل أضل سبيلا ولبقينا ما حيينا من الغافلين.
السؤال: ماذا عن آدم نفسه؟
رأينا: لم يكن آدم يحتاج إلى هذه الآليات لأن الله عندما خلق آدم علمه الأسماء كلها بنفسه:
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)
لذا، لم يكن آدم بحاجة إلى آليات السمع والبصر والفؤاد مادام أنه قد حصل على العلم بتعليم مباشر من ربه.
السؤال: هل تريد أن تقول بأن آدم لم يكن يسمع أو يبصر ولم يكن له فؤاد ليفقه؟
جواب: نعم. هو كذلك؟
سؤال: وكيف كان شكله إذن؟
رأينا: لقد كان شكله كشكلنا، فلقد كان له آذان وكان له أعين وكان له قلب، ولكن هذه الأعضاء الحسية لم تكن مهمتها الأولى السمع والبصر والفؤاد حتى تستطيع أن تعقل ما يدور حولها. فقد كان آدم يستطيع تدبير أمره دون الحاجة إلى تشغيل هذه الأعضاء.
السؤال الأخطر: و ماذا كان آدم عند خلقه و نفخ الروح فيه؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لقد كان آدم بدنا
السؤال: وما معنى أن يكون آدم بدنا؟
باب البدن
جاء قوله تعالى في تصوير ما حلّ بفرعون بعد غرقه على النحو التالي:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ يونس (92)
إن أغرب مفارقة شعرنا بها في هذه الآية الكريمة قد جاءت من مفردة النجاة (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) الخاصة بفرعون. فبعد تفقد جميع السياقات القرآنية التي وردت فيها مفردة النجاة وجدناها (نحن نفتري القول) خاصة بالأحياء كما في السياقات القرآنية التالية:
- فالله هو من نجّى بني إسرائيل، ولا شك أن بني إسرائيل كانوا أحياء عندما حصلت لهم تلك النجاة:
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ البقرة (50)
- والله هو من نجّى نوح ومن ركب معه في الفلك، ولا شك أنهم كانوا جميعا أحياء:
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ الأعراف (64)
- والله هو من نجّى لوطا ومن آمن معه، ولا شك أنهم كانوا أحياء:
وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ الأنبياء (74)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ الأعراف (83)
- والله هو من نجّى موسى عندما كان حيا:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى طه (40)
- والله هو الذي نجّى إبراهيم بعد أن ألقي في النار:
- فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ العنكبوت (24)
- والله هو الذي نجّى كثيرا من رسله ومن آمن معهم مثل صالح وشعيب:
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ هود (66)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ هود (94)
- والله هو من ينجى على الدوام كل يدعوه:
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ العنكبوت (65)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ لقمان (32)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ الأنعام (63)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ غافر (41)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ الأعراف (165)
السؤال المثير جدا: مادام أن فرعون قد غرق مع قومه:
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا الإسراء (103)
فكيف حصلت نجاته لوحده؟ فكيف يقول الله لنا في كتابه العزيز أنه قد نجّى فرعون بعد أن كان قد أغرقه؟
جواب مفترى خطير جدا جدا لا تصدقوه (جاءنا من عند صديقنا في الادكار المهندس محمد السيسي): عندما نجّى الله فرعون ببدنه لم يكن قد قضى الله بالموت على فرعون بعد. فلقد نجّى الله فرعون من الغرق، فما مات فرعون أبدا نتيجة ذلك الغرق.
السؤال: وكيف حصل ذلك؟
جواب: لقد نجى الله فرعون ببدنه حتى يكون لمن خلفه آية. فكيف كان ذلك؟
باب : مفردة (خَلْفَكَ)
رأينا: نحن نفتري الظن بأن مفردة (خَلْفَكَ) التي جاءت للحديث عن عاقبة فرعون في الآية الكريمة التالية:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
لا تدل على أن فرعون سيكون آية للأقوام التي تأتي بعده في الزمن، و لكنها تدل (بمنطقنا المفترى هذا) فقط على القوم الذين خلفوا فرعون في وراثة و حكم الأرض التي كان يحكمها فرعون بنفسه. وانظر - إن شئت- في سياق الآية الكريمة نفسها الأوسع:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
فالذين خلفوا فرعون في الأرض هم قوم موسى (بني إسرائيل)، وهم الذين أورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها، وكان ذلك بالاستخلاف:
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ الأعراف (129)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ الأعراف (137)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) الشعراء
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) الدخان
نتيجة خطيرة جدا: نحن نظن بأن نجاة فرعون ببدنه كانت آية لمن خلفه، وهم بنو إسرائيل و أهل مصر حينئذ فقط . ولو تفقدنا مفردات الآية الكريمة التالية، لوجدنا أن قوم فرعون كانون (1) سلفا و (2) مثلا للآخرين:
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56) الزخرف
سؤال : كيف كان قوم فرعون سلفا؟ ولمن كانوا سلفا؟
سؤال: كيف كان قوم فرعون مثلا للآخرين؟ ومن هم الآخرون الذين كان قوم فرعون مثلا لهم؟
جواب: نحن نظن أن مفردة سلفا تعني ما مضى و انقضى، أي كان ماضيا فأعقبه شيءٌ جديد، فقوم فرعون هم سلفا لبني إسرائيل.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ الأنفال (38)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا النساء (22)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ الحاقة (24)
سؤال : وما دلالة عبارة (وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ)؟ ومن هم هؤلاء الآخرون؟
جواب مفترى: نحن نظن أنه في حين أن فرعون كان أية و سلفا لمن جاء بعده من الخلف ووراثة الأرض من بني إسرائيل، كان فرعون مثلا (من ضرب الأمثال) فقط للآخرين، أي الأقوام التي ستأتي من بعد بني إسرائيل، وأظن أننا منهم.
باب الآية
السؤال: من الذين كانوا آية؟ ولمن كانوا آية؟
جواب: كان عيسى آية للناس:
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
وكان الذي أماته الله مئة عام آية للناس
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
ولكن فرعون كان آية لمن خلفه فقط (أي لم يكن آية للناس):
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
منطقنا المفترى: لو كانت نجاة فرعون آية لنا لجاء اللفظ القرآني (نحن نظن) على نحو أن الله جاعله آية للناس، ولكن لما كانت نجاة فرعون ببدنه هي آية فقط لمن جاء خلفه من بني إسرائيل، جاء اللفظ القرآني ليصور ذلك على أن نجاة فرعون ببدنه كانت آية لمن خلفه فقط:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
الدليل: مفردة (آية)
نحن نفتري الظن أن الآية يمكن أن تكون لمن جاءتهم تلك الآية فقط، كالناقة مثلا:
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ هود (64)
فالناقة لمن تكن آية للناس جميعا، ولم تكن آية لمن خلف أولئك القوم، ولكنها كانت آية لأولئك أنفسهم. وكذلك كانت جميع الآيات التي جاء بها موسى إلى فرعون وقومه:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ البقرة (211)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى طه (22)
ولكن هناك آيات جاءت للناس أجمعين، كعيسى بن مريم وكذاك الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه:
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
وقد تكون الآية للعالمين كافة كما في حالة سفينة نوح:
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ العنكبوت (15)
وأخيرا، قد تكون الآية لمن جاء خلف لسلف، كنجاة فرعون ببدنه
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56) الزخرف
السؤال: كيف حصلت النجاة لفرعون ببدنه ليكون لمن خلفه (من بني إسرائيل) آية؟
جواب مفترى خطير جدا: نحن نظن بأن الفرعون الغارق قد خرج من البحر وهو حي تماما، فما قضى الموت عليه في تلك اللحظة. فرعون هو الذي خرج من الماء بقدراته البدنية، فبدنه هو الذي مكنه من الخروج من الماء:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
لذا، نحن نفتري الظن بأن الباء في قوله تعالى (بِبَدَنِكَ) ببدنك تدل على الواسطة أو الوسيلة.
سؤال : كيف يكون ذلك و الله هو من يقول بأنه قد أغرقه؟
جواب : لنستدعي السياق القرآني كاملا، ثم لننظر لنرى ما الذي حصل فعلا:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92( يونس
نلاحظ – ربما بما لا يدع مجالا للشك - بأن فرعون قد (أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ)، أي أحاط به الغرق من كل جانب و لكن الغرق لم يقضي عليه نهائيا. بدليل أن فرعون قال حينها بملء فيه (آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ )، ونحن نظن أنه لا يمكن لمن يغرق أن يتكلم إلا إذا كان رأسه لازال فوق الماء، وإلا كيف سيستطيع حينها أن يتكلم؟ من يدري؟!!!
ولكن قد يسأل سائل: كيف تقول بأن فرعون لم يغرق تماما حتى يقضي عليه الموت؟ ألا تدل الآية الكريمة على أنه قد غرق فعلا؟
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا الإسراء (103)
جواب: لكننا - لا شك - سنرد السؤال بسؤال مثله وهو: هل كل من يغرق يموت؟
جواب: كلا وألف كلا، فكم من غريق أخرج من الماء في حالة غيبوبة تامة ولكن الموت لم يقضي عليه نتيجة غرقه ذاك؟
سؤال: ما الذي حصل مع فرعون إذن؟
تخيلات: نحن نتخيل بأنه ما أن أدرك فرعون الغرق حتى انطلق لسانه بالشهادة:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92( يونس
وهنا بالضبط، انطلق لسانه بالشهادة:
حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
فجاءه الرد الإلهي على نحو:
آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) يونس
فقضى الله أمره بأن ينجّي فرعون ببدنه ليكون لمن خلفه آية:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92( يونس
السؤال : كيف إذن نجى الله فرعون ببدنه إذا كان الموت – كما تزعم – لم يقضي على فرعون في غرقه؟
جواب مفترى خطير جدا : لقد خرج فرعون الغارق من الماء مختلفا تماما عن الفرعون الذي دخل البحر
سؤال : و كيف ذلك؟
جواب مفترى: لقد خرج فرعون الغارق (بدنا) فقط.
سؤال: وكيف ذلك؟ لم أفهم شيئا. يقول صاحبنا.
توضيح : ما هو البدن؟
رأينا: نحن نظن بأن البدن هو الجسم الحي (فيه روح مادام أن النفخة لم تخرج منه) ولكنه منزوع الحواس الإدراكية (السمع و البصر و الفؤاد) تماما. وإن كانت أعضاءه الحسية (القلب والآذان والأعين) لازالت تعمل. فلقد خرج فرعون من الغرق (نحن نتخيل) بآذانه وبعيونه وبقلبه، ولكن آذانه لم تكن تسمع، وأعينه لم تكن تبصر (وإن كانت ترى) وخرج بقلبه الذي لا فؤاد فيه. فخرج فرعون لا يفقه لأنه كان كالأنعام بل أضل سبيلا، فكان آية من الله لمن خلفه.
ونحن نستطيع أن نتخيل ما حل بفرعون بالسيناريوهين التاليين:
الاحتمال الأول : لقد وقع فرعون تماما في مثل من يقع في الغيبوبة الطويلة المستحيل معها عودتهم للحياة[1]،
الاحتمال الثاني : لقد خرج فرعون تماما مثل الأطفال عند الولادة، وهم الذين يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النحل (78)
فلقد خرج فرعون من البحر بالضبط كما خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا.
خروج عن النص في استراحة قصيرة: الحج المبرور الذي جزاؤه الجنة
الموقف الأول: تنص تعليمات الحج في وزارة الأوقاف الأردنية على العمل بمبدأ الدور، فلا يحق لأحد أن يحج إلا مرة واحدة (ربما لإعطاء الفرصة للآخرين). وتطلب مكاتب الحج في الوزارة من كل حاج يتقدم بطلب للحج أن يقسم اليمين أنه لم يحج من ذي قبل. فيحضر الحاج إلى مكتب الوزارة، فيوضع أمامه نسخة من المصحف، ويطلب منه أن يقسم اليمين رافعا يده (وأنا ما بدري من وين جابوا هالعادة) ليقسم اليمين بالله أنه لم يحج من ذي قبل. ولكن لما كانت وزارة الأوقاف تقوم بإرسال مندوبيها مع بعثات الحج (ولا أعرف السبب في ذلك لأن الحجاج أنفسهم لا يرونهم إلا على شاشات التلفزة لبث البرامج التلفزيونية المعدة مسبقا)، فهم الوحيدون الذين لا تنطبق عليهم التعليمات التي كتبوها بأيديهم. فهم قد كتبوا التعليمات لتنطبق على كل خلق الله إلا أنفسهم. فينطلق وزير الأوقاف نفسه في كل عام وفي معيته كبار حاشية الوزارة وكثير من موظفيها على رأس تلك البعثات، فلا يطلب منهم قسم ولا يمين، ولا يسألون عن عدد المرات التي أدّوا فيها فريضة الحج من ذي قبل، ولا يتوقف الأمر عند هذا "الأجر العظيم"، بل ويحصلون على المكافئات المالية لجهودهم "المباركة" في تلك الحملة. من يدري؟!!!
المعضلة: عندما كان الناس يودعونهم في رحلتهم كانوا يدعون لهم بأن يعودوا من حجهم "كما ولدتهم أمهاتهم". وعندما كانوا يستقبلونهم بعد العودة سالمين كانوا يدعون لهم وقد عادوا من حجهم ذاك "كيوم ولدتهم أمهاتهم". فهذا دعاء شائع عندنا في الأردن (ارض الحشد والرباط) لزوار البيت الحرام.
موقفنا: آمين. أسأل الله أنهم قد عادوا كذلك (كيوم ولدتهم أمهاتهم).
الموقف الثاني: دأبت كليات الشريعة في الجامعات الأردنية العتيدة على إرسال بعثة حج في كل عام إلى الديار المقدسة من طلبة كلية الشريعة فقط، وغالبا ما يصاحب هذه البعثة عميد كلية الشريعة نفسه، صاحب اللحية التي تغطي معظم الطرف العلوي من جسمه، وصاحب الدشداش القصير في أوقات الحج فقط، مادام أنه في أيام التدريس الرسمية وفي جلسات مجلس العمداء الموقرين لا يليق الحضور إلا بالبدلة الرسمية الإفرنجية. كما يصاحب تلك الحملة بعض أساتذة أقسام الشريعة كلها، وأظن أنهم يعملون بمبدأ الدور في ذلك، فيستطيعون تأدية فريضة الحج (ربما أكثر من مرة)، فلا يطلب منهم قسم ولا يمين، ولا يسألون عن عدد المرات التي أدوا فيها فريضة الحج من ذي قبل، ولا يتوقف الأمر عند الحصول على هذا "الأجر العظيم" بعد تأديتهم ركن من أركان الدين، بل ويحصلون على المكافئات المالية لجهودهم في تلك الحملة. من يدري؟!!!
المعضلة: عندما كان الناس يودّعونهم في رحلتهم كانوا يدعون لهم بأن يعودوا "كما ولدتهم أمهاتهم". وعندما كانوا يستقبلونهم بعد العودة سالمين كانوا يدعون لهم وقد عادوا من حجهم ذاك "كيوم ولدتهم أمهاتهم".
موقفنا: آمين. أسأل الله أنهم قد عادوا كذلك (كيوم ولدتهم أمهاتهم).
الموقف الثالث: أُخبرت (وعلمت بنفسي) بأن كثيرا من عِلية القوم "كبعض الوزراء وكبار ضباط الجيش والقضاة و رؤساء الجامعات، الخ. من أصحاب النفوذ" يستطيعون الحصول على فيز حج بطرق "مشروعة!" كهدايا مثلا من بعض معارفهم من أمراء الحج والدين في بلاد الكعبة والحرمين. فيذهبون (ربما أكثر من مرة) لأداء فريضة الحج. فلا يطلب منهم قسم ولا يمين في مكاتب وزارة الحج الأردنية، ولا يسألون عن عدد المرات التي أدوا فيها فريضة الحج من ذي قبل.
المعضلة: أظن أنه عندما كان الناس يودعونهم في رحلتهم تلك، كانوا يدعون لهم بأن يعودوا من حجهم هذا "كما ولدتهم أمهاتهم". وعندما كانوا يستقبلونهم بعد العودة سالمين أظن أنهم كانوا يدعون لهم وقد عادوا من حجهم ذاك "كيوم ولدتهم أمهاتهم".
موقفنا: آمين. أسأل الله أنهم قد عادوا كذلك (كيوم ولدتهم أمهاتهم).
الموقف الرابع: أعرف بعض الأصحاب والأقرباء الذين يتهافتون في كل عام على بعض "سماسرة الحج"، فيشترون منهم فيز الحج التي تكون قادمة من بلاد الدين والإيمان والكعبة والحرمين، فيدفعون ثمن تلك الفيز التي لا أعرف من هم أصحاب الحق في رفادتهم هناك، فيذهبون (ربما أكثر من مرة) لأداء فريضة الحج. فلا يطلب منهم قسم ولا يمين، ولا يسألون عن عدد المرات التي أدوا فيها فريضة الحج من ذي قبل.
المعضلة: عندما كان الناس يودعونهم في رحلتهم تلك، كانوا يدعون لهم بأن يعودوا من حجهم هذا "كما ولدتهم أمهاتهم". وعندما كانوا يستقبلونهم بعد العودة سالمين كانوا يدعون لهم وقد عادوا من حجهم ذاك "كيوم ولدتهم أمهاتهم".
موقفنا: آمين. أسأل الله أنهم قد عادوا كذلك (كيوم ولدتهم أمهاتهم).
الموقف الخامس والأخير: كانت أمي قد بلغت من الكبر عتيا، وقد كان أقصى أمانيها قبل أن يقضي عليها الموت أن تذهب في رحلة حج إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج مرة أخرى، ولما كانت ممن قاموا بأداء هذه الفريضة قبل عقود طويلة من الزمن، ولمّا كان العمل جار بمبدأ الدور في مكاتب وزارة الأوقاف الأردنية، لم تستطع أمي القيام بذلك لأنها كانت تحتاج أن تحلف اليمين في إحدى مكاتب الحج الأردنية بأنها لم تحج من ذي قبل، فما كان ذلك ممكنا إذن إلا من خلال الخطة العظيمة التي حيكت (وربما بالتنسيق معي أنا الذي آثرت الصمت حينها لأني ربما كنت أحاول أن اثبت لمن حولي بري بوالدتي) تتمثل في أن تذهب إلى الديار المقدسة باسم مستعار. ففعلت. فلم تقسم ولم تحلف يمينا.
المعضلة: عندما كان الناس يودعونها في رحلتها كانوا يدعون لها بأن تعود "كما ولدتها أمها". وعندما استقبلوها بعد العودة كانوا أيضا يدعون لها أن تكون قد عادت "كيوم ولدتها أمها".
موقفنا: آمين. أسأل الله أنها قد عادت كذلك (كيوم ولدتها أمها).
السؤال: كيف يمكن أن يعود هؤلاء النفر جميعا من حجاج البيت العتيق "كما ولدتهم أمهاتهم"؟ هل فعلا يعودون بالأجر العظيم؟
رأينا: أنا شخصيا لا أدري، ولكني أؤمن يقينا بما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
نعم، أسأل الله أن يعود كل من ذهب في رحلة لأداء فريضة الحج بمثل هذه الطرق الملتوية على حساب غيره من البشر كيوم ولدته أمه لا يعلم شيئا حتى لو كانت هي أمي نفسها.
عودة على فرعون الذي خرج من الغرق بدنا
السؤال: ما علاقة هذا كله بفرعون؟
جواب: نحن نفتري الظن بأن فرعون قد خرج من الغرق ناج ببدنه، فكان له آذان وكان له أعين وكان له قلب ولكن آذانه لم تكن تسمع وعيونه لم تكن تبصر ولم يكن في قلبه فواد، فما كان يستطيع أن يعقل أو أن يفقه، فكان كالأنعام بل أضل سبيلا وكان من الغافلين:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
فخرج من الماء كما يخرج الطفل من بطن أمه لا يعلم شيئا:
وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
السؤال: ما الفرق بين فرعون الذي خرج بدنا لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه والطفل الذي خرج من بطن أمه على تلك الشاكلة لا يعلم شيئا؟
رأينا: نخن نظن أن الفرق ربما يكمن بما جاء في صريح اللفظ في الآية الكريمة التالية:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ المؤمنون (78)
وهنا نلاحظ وجود مفردة (أنشأ) مصاحبة للسمع والأبصار والأفئدة؟
السؤال: كيف يمكن للسمع والأبصار والأفئدة أن "تُنشأ" بعدما كانت قد "جعلت" من ذي قبل؟
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23)
رأينا المفترى: نحن نظن بأن السمع والبصر والأفئدة قد مرت بمرحلتين:
1. مرحلة الجعل التي جاءت دفعة واحدة
2. مرحلة الإنشاء التي حصلت بالجعل التدريجي، أي شيئا فشيئا.
لذا، نحن نظن أن الطفل يكون بدنا عندما يخرج من بطن أمه، أي جسما كامل البنية و الحياة (له آذان وأعين وقلب)، وهناك يجعل الله له السمع والبصر والفؤاد، ولكنه (مع ذلك) لا يكون مالكا لمقومات التمييز (السمع و البصر و الفؤاد) مرة واحدة. لذا فهو يحتاج أن ينشأ (جسميا) وتنشأ معه تلك المقومات شيئا فشيئا، لذا نحن نزعم أننا نحتاج أن نقرأ الآيتين السابقتين بالترتيب التالي:
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ المؤمنون (78)
ونحن نرى من مشاهداتنا اليومية أن الأطفال يسألون عن كل شيء من حولهم، فيبدءون من المرحلة الأشد "جهلا" حيث لا يستطيعون أن يميزوا الضار من النافع، وتبدأ هذه الحالة من الجهل (عدم العلم) تخف شيئا فشيئا، فلا يصبح الطفل مكلفا حتى تكتمل عنده مقومات التمييز كلها (السمع و البصر و الفؤاد). فصحيح أن قدرة الأذن على التقاط الأصوات عند الأطفال أفضل من تلك عند الكبار لكن الفرق يكمن ليس في القدرة على التقاط الأصوات فحسب وإنما على "السمع"، والمنطق نفسه ينطبق على الأعين والقلب.
سؤال : و كيف فعل الله هذا بفرعون؟ أي كيف خرج فرعون ناج ببدنه فما كان له سمع ولا أبصار ولا أفئدة بالرغم من وجود الآذان والأعين والقلب؟
جواب : بالماء
رأينا: نظن بأن الماء هو ما تسبب لفرعون بهذه الحالة من الغيبوبة (أو coma باللسان الأعجمي). فلقدْ فَقَدَ فرعون (نحن نتخيل) الوظائف العصبية الإدراكية (السمع والبصر والفؤاد) بالرغم أن أعضاء الحسية جسمه (الآذان والعيون والقلب) بقيت قادرة على العمل. ولو حاولنا أن نتدبر السياقات القرآنية الخاصة بفرعون نفسه، لوجدنا بعض المفردات التي وردت بحقه حصرا، فما شاركه غيره فيها، وانظر – إن شئت – في السياقات التالية:
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا الإسراء (102)
التساؤلات
- كيف أخذ الله فرعون أخذا وبيلا؟
- وكيف كان فرعون – كما ظن موسى- مثبورا؟
أولا : مفردة (وَبِيلًا)
عندما بحثنا عن مفردة وَبِيلًا على مساحة النص القرآني، ولم نجدها إلا في سياق الحديث عن نهاية فرعون، حاولنا الخروج بالمنطق المفترى التالي: ربما تكون هذه دلالة واضحة بأن الله قد أخذ فرعون هذا أخذا خاصا لم يحدث لغيره من المتجبرين أو الطغاة من قبله.
السؤال: كيف إذن نستطيع أن نفهم كيفية أخذ فرعون هذا أخذا وَبِيلًا؟
بعد البحث والتنقيب خرجنا بالافتراء التالي: ربما يكون لمفردة وبيلا الخاصة بأخذ فرعون علاقة بمفردة (وَابِلٌ) التي ترد في الآيات الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) البقرة
نتيجة: الوابل "هو نزول الماء بطريقة ما" لتصيب به (1) الصفوان و (2) الربوة :
لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى | كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ | فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ | فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا |
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ | ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ | كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ | أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ |
تخيلات: ما أن يُغْرِق الماءُ النازل (أي الوابل) ما كان تحته حتى يظهر الفرق، فإذا كان ما تحته صفوان، فإن الماء الذي أغرقه لا يستطيع أن يقضي عليه، فيترك ذلك الوابل ذاك الصفوان الذي أصابه صلدا (فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا)، وهذا ما نظن أنه حصل في حالة فرعون. فلقد غمره الماء، ولكن الماء لم يقدر عليه فخرج من الماء صلدا، ولما كان من الكافرين، فإنه خرج لا يقدر على شيء مما كسب:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين
ثانيا : مفردة (مَثْبُورًا)
عندما حصل الحوار بين موسى من جهة وفرعون من جهة أخرى، تجرأ فرعون على أن ينعت موسى نفسه على أنه شخص مسحور:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
ولقد كان ما قاله فرعون بحق موسى مدعوما (حسب ظنه) بما كان يستطيع موسى تقديمه للقوم من الآيات. (للتفصيل حول هذه الآيات انظر مقالة د. رشيد الجراح تحت عنوان: قصة موسى). عندها لم يتردد موسى بأن ينعت شخص بفرعون نفسه بالثبور، فقال فيه:
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا الإسراء (102)
السؤال: كيف كان فرعون مثبورا؟ ولماذا كان فرعون (كما ظن موسى) مثبورا؟
بعد البحث عن هذه المفردة في سياقات القرآن، وجدناها في الآيات الكريمة التالية:
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) الفرقان
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) الانشقاق
ولو دققنا في هذه السياقات لوجدناها تصور حالات الكافرين بعد أن يجدون مصيرهم الحقيقي وهم مقبلون على النار في يوم الدين. فما أن يتأكد للكافرين أنهم سيلقون في جهنم حتى ينطلقوا بدعوة الثبور، ويكون ذلك مصير كل من أوتي كتابه من وراء ظهره:
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)
السؤال : لماذا سيدعو الكافر ثبورا ؟
جواب مفترى: لأنه لما كان في أهله مسرورا فقد ظن أن لن يحور. وانظر – إن شئت- في السياق القرآني نفسه:
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14).
السؤال: ما معنى ذلك؟ أي ما معنى أن الكافر كان يظن أنه لن يحور؟
جواب: انظر التقابل بين حالة من أوتي كتابه بيمينه (أي المؤمن) ومن أوتي كتابه من وراء ظهره (أي الكافر) كما تصور ذلك الآيات الكريمة نفسها بعد أن نفرغها في الجدول التوضيحي التالي:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ | فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا | وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا | ؟؟؟؟؟؟ |
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ | فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا | وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا | إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ |
السؤال : لو حاولنا أن نكمل المربع الناقص في الجدول السابق، ماذا تظن – عزيزي القارئ- أننا يجب أن نكتب فيه؟
جواب : أظن أننا سنكتب (إنه ظن أنه سوف يحور). لنخلص إلى النتيجة التي مفادها أن الفرق بين المؤمن (من أوتي كتابه بيمينه) والكافر (من أوتي كتابه من وراء ظهره) هو موقفهم من دلالة ما تعنيه مفردة ( يَحُورَ). فالمؤمن كان يظن أنه سيحور بينما كان يظن الكافر أنه لن يحور؟
السؤال: ما دلالة ذلك؟ وكيف يمكن أن نفهم الفرق بين الحالتين؟
بعد تفقد السياقات القرآنية الخاصة بهذه المفردة ظننا أن هذه المفردة (يَحُورَ) لها علاقة بمفرد الحور العين الواردة في السياقات التالية:
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ الرحمن (72)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ الدخان (54)
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ الطور (20)
وَحُورٌ عِينٌ الواقعة (22)
كما نزعم الظن بأنه قد يكون لها علاقة بمفردة الْحَوَارِيِّينَ التي وردت في السياقات الخاصة بعيسى بن مريم:
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ المائدة (111)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ الصف (14)
وبالبناء على ما زعمه الجراح في سلسلة مقالاته تحت عنوان "كيف تم خلق عيسى بن مريم"، فإننا نقدم الافتراءات التالية الخاصة بالحواريين:
· ربما جاءت تسميتهم بالحواريين لأنهم كانوا هم من حاور المسيح عيسى بن مريم فقط (انظر مقالتنا تلك)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ الصف (14)
· ربما جاءت تسميتهم بالحواريين لأنهم لم يتزوجوا مطلقا (رهبان) ، تماما كما في الحور العين اللاتي لم يطمثهن أنس ولا جان:
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) الرحمن
· وربما جاءت تسميتهم بالحواريين من النصرة، فلا ننسى أنهم هم من قالوا (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ). وبناء عليه، فإننا نفتري الظن بأن مفردة (يَحُورَ) لها علاقة ما الهزيمة والنصر.
السؤال: ما علاقة هذا كله بقصة فرعون؟
جواب: لا شك أن فرعون كان من الكافرين الذين سيؤتون كتابهم من وراء ظهورهم. لذا فهو من الذين كانوا مسرورين في أهلهم، ومن الذين ظنوا أنهم لن يحوروا، بمعنى أنه كان يظن أن لن يقدر عليه احد، أو أن ينتصر عليه أحد، أو يتغلب عليه أحد. ربما للأسباب التالية :
· أنه صاحب مال كثير مديد
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) البلد
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) الحاقة
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) المدثر
· كان ذا سلطان كبير ونفوذ
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) الحاقة
· كان ممتعا منعما
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) الانشقاق
إذن، نخلص من النقاش السابق بأن الثبور هو جزاء من يظن أنه لن يحور (أي لن يقدر عليه أحد أو ينتصر عليه أحد أو يتغلب عليه أحد). وبكلمات أكثر دقة إنه عكس من كان ذو حظ عظيم:
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
فمادام أن فرعون كان مسرورا في أهله، فلقد ظن من حوله بأنه ذو حظ عظيم بالضبط كما كان صاحبه قارون في أعين من حوله:
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
لذا هناك فرق كبير بين من ظن الناس من حوله أنه ذو حظ عظيم كقارون، ومن كان فعلا ذا حظ عظيم وهم الذين صبروا. ففي حين أن الأول كان حظه العظيم ذاك زائفا دنيويان زائلا لا محالة، فإن الآخر هو صاحب حظ عظيم حقيقي أخروي أبدي. فمن كان ذو حظ عظيم حقيقي فهو بكل تأكيد لا يمكن أن يكون مثبورا، ولكن من لم يكن ذو حظ عظيم (وظن الناس أنه ذو حظ عظيم كما حصل مع قارون) فهو بلا شك من المثبورين.
لذا، نحو نفهم الحوار الذي حصل بين موسى من جهة وفرعون من جهة أخرى على النحو التالي: ففي حين يظن فرعون أن موسى قد أصابه شيء من السحر خاصة عندما قدم له تلك الآيات:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
كان رد موسى عليه شديدا عندما نبهه أن كبره هذا ومقاومته الشديدة لكلمة الحق لن يكون إلا من باب الثبور لأنه لن يكون (أي فرعون) من أصحاب الحظ العظيم الذين سيلقونها يوم الدين، فما كان من موسى إلا أن نعته بالثبور:
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا الإسراء (102)
تخيلات: نحن نتخيل ويكأن موسى يقول لفرعون ما مفاده: إذا كنت تظن يا فرعون أن ما أقدمه لك من الآيات يقع في باب السحر، وأن هذا السحر قد أصابني فإني أخبرك بأنك لست أكثر من شخص مثبور (أي من كان نحس الحظ)، فلن تكون من أصحاب الحظ العظيم الأبدي.
الدليل
لنقرأ الآيات التالية مرة أخرى:
· أصحاب اليمين
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) الانشقاق
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) الحاقة
· أصحاب الشمال
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) الانشقاق
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
ألا ترى عزيزي القارئ أن من يقول (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ - يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ - مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) هو يقول ذلك بعد فوات الأوان ؟ ألا يدل ذلك على شيء من الندم على ما فات؟ واقرأ - إن شئت- قوله تعالى:
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) الزخرف
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) الفرقان
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا النساء (73)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنعام (27)
ولو دققنا في السياقات القرآنية التي تصور جميع هؤلاء النادمين، لوجدنا أن من أوصلهم إلى هذه الحالة هو قرينهم (الْقَرِينُ). لذا فإن النادم المثبور قد وصل إلى هذه الحالة بسبب ذلك القرين الذي أرداه.
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) الزخرف
والآن لنقرأ حوار موسى مع فرعون من هذه الزاوية: فهذا فرعون يتهم موسى بأنه قد أصابه شيء من السحر:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
أي ويكأن الشياطين هم – في ظن فرعون- من علم موسى هذا السحر، مادام أن الشياطين هي التي تعلم الناس السحر:
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102)
وبذلك يكون فرعون قد اتهم موسى بمس من الشيطان.
فما يكون من موسى إلا أن يرد عليه الحجة بمثلها، ويكأن موسى يقول لفرعون – نحن نتخيل- إذا كنت تظن يا فرعون أني شخص مسحور بسبب مس الشيطان (أو بسب تعليم الشيطان)، فإني أظن أنك يا فرعون شخص مثبور بسبب قرينك هذا الذي سيرديك، فلن تكون ذو حظ عظيم:
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا الإسراء (102)
السؤال: وهل كان فرعون فعلا مثبورا؟ أي هل أرداه قرينه، فما كان ذو حظ عظيم؟
الجواب: نعم. لقد كانت نهاية فرعون كذلك.
السؤال: وكيف حصلت على أرض الواقع؟
جواب: بالنجاة ببدنه:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ يونس (92)
لو تدبرنا هذا النص القرآني جيدا لوجدنا فيه شيء عجيب وهو قوله تعالى بحق فرعون (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ). ليكون السؤال على الفور هو: ألم يكن يكفي أن يقول الله (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ)؟ فلم إذا قال (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)؟ فما الحاجة إلى ذكر النجاة بالبدن؟ وهل البدن منفصل عن الإنسان نفسه بحث يمكن أن ينجو الإنسان و لا ينجو بدنه؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن بأنه لما كانت النجاة من حق الأحياء فقط، حصل أن أنجى الله فرعون ببدنه فقط، فكان فرعون جسما كامل الحياة منقوص الحواس الإدراكية (السمع و البصر و الفؤاد). فخرج من الغرق وله آذان تلتقط الأصوات ولكنها لا تسمع، وله أعين ينظر بها إلى جميع ما حوله ولكنه لم يكن يبصر، وله قلب ينبض بالحياة فقط ولكن لا فؤاد فيه، فكان كالأنعام بل أضل سبيلا، وكان من الغافلين:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
فخرج فرعون من غرقه ويكأنه شخص يعيش في عالم آخر لا يعي ما يدور من حوله. فأصبح آية لمن خلفه فقط، وهم بنو إسرائيل الذين سكنوا مساكنهم وأورثهم الله أرضهم وديارهم:
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
السؤال: مادام أن موسى قد جاوز ببني إسرائيل البحر، فكيف عاد بنو إسرائيل إلى الوراء ليرثوا ما ترك فرعون وقومه؟ وكيف أصبح فرعون آية لمن خلفه من بني إسرائيل؟ فهل لو غرق فرعون في البحر وبقيت جثته فقط (كما ظن علماؤنا أهل الإعجاز العلمي في القرآن) فهل كان ذلك سيكون آية لبني إسرائيل الذين جاءوا من خلف فرعون وقومه؟
السؤال: كيف نفهم أن فرعون كان آية بنجاته ببدنه لمن خلفه من بني إسرائيل في ذلك الوقت؟ أم تراه لم يكن آية إلا لعلماء القرآن في القرن العشرين وما بعده؟! أم تراه آية لمن شاهده في متاحف الآثار العالمية فقط؟ من يدري؟!!!
تخيلات: ما أن خرج فرعون من الغرق ناج ببدنه (أي حيا لم يقضي عليه الموت بالغرق) حتى كان منزوع القدرات على الإدراك (السمع والبصر والفؤاد) وإن كان له قلب وآذان وأعين، فكان كمن فقد ذاكرته، لا يعي ما يدور حوله. ولما كان قومه قد أغرقوا. أصبح لا حول له ولا قوة. فاستطاع بنو إسرائيل أن يرثوا كل تلك الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم، وحصل ذلك كله وفرعون كان لازال يعيش بين ظهرانيهم ليس أكثر من بدن يلتقط أصواتهم من حوله ولكنه لا يسمعها، ويراهم رأي العين ولكنه لا يبصرهم ويمر بالأحداث من حوله ولكن لا فؤاد فيه ليفقهها، فكان كالأنعام بل أضل سبيلا، وبذلك كان آية من الله لمن خلفه وهم بنو إسرائيل.
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
يونس 90-92
يونس وفرعون
كانت مفردة وبيلا ومفردة مثبورا خاصة بفرعون فقط، ولكن عند بحثنا في السياقات القرآنية الخاصة بفرعون وجدنا الآية الكريمة التالية:
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
عندها استوقفتنا على الفور مفردة " وَهُوَ مُلِيمٌ " الخاصة بفرعون نفسه دون جنده الذين غرقوا معه. فبالرغم أن الله قد أخذ فرعون وجنوده فنبذهم جميعا في اليم (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ)، إلا أن فرعون هو وحده من كان مليم من بينهم بدليل الضمير العائد على فرعون نفسه (وَهُوَ مُلِيمٌ). عندها ذهبنا نستقصي السياقات القرآنية التي وردت فيها هذه المفردة فما وجدناها إلا في سياق قرآني آخر وهو:
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
وكانت المفاجأة الكبرى لنا أن ذلك كان خاصا بمن أدركه الغرق أيضا وهو ذو النون (نبي الله يونس). وهو نفسه من حصل له فعل النبذ:
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
فأصبح وجه الشبه بين فرعون من جهة وذي نون (صاحب الحوت) من جهة أخرى على النحو التالي:
1. كلاهما كانا من الذين نبذهم الله
2. كلاهما كانا مليم
ولو تدبرنا قصة غرق فرعون كما تصورها الآيات الكريمة التي كنا نتدارسها:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس
لوجدناها قد وردت في سورة يونس نفسها (أي صاحب الحوت الذي نبذ والذي كان مليم). ليكون السؤال التالي هو: ما وجه التشابه بين الغرق الذي حصل لفرعون وذاك الذي حصل لذي النون؟
جواب مفترى:
- نحن نظن أن كلاهما كانا مليم لسبب واحد، أن كلاهما ظن أن لن نقدر عليه، فلقد ظن فرعون أن لن يقدر عليه أحد، وكذلك كان ظن ذي النون عندما ذهب مغاضبا
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
- كلاهما أدركه الغرق، لا بل فقد كان غرق ذي النون أشد مادام أنه قد دخل في بطن الحوت:
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
- كلاهما رجع إلى ربه في اللحظة الأخيرة، فما أن أدرك فرعون الغرق حتى انطلق لسانه بالشهادة بوحدانية الله:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (9) يونس
وكذلك فعل ذو النون، فما نطق بالدعاء إلى الله إلا بعد أن وصل إلى بطن الحوت:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
نتيجة مفتراة: لم تكن حال ذي النون بأحسن من حال فرعون في مقدماتها، فكيف حصل الفرق؟
رأينا المفترى: لعلي أظن أن الله قد استجاب طلب الاثنين بالنجاة، فنجّى الله فرعون من الغرق كما نجّى ذي النون من الغرق بسبب دعائهم ورجوعهم إلى ربهم في تلك اللحظة، ولكن كانت النجاة مختلفة في الحالتين. ففي حين أن الله قد نجّى فرعون ببدنه فقد، فكان كالأنعام بل أضل سبيلا، وبقي من الغافلين. حصلت النجاة لذي النون بكامل قدراته الإدراكية، فلم يكن من الغافلين:
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
السؤال: لماذا؟
رأينا: أظن أن السبب في ذلك يعود إلى ما كان قد مضى منهما في سابق العهد. ففي حين أن فرعون كان من المفسدين في سالف الزمان
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس
كان ذو النون من المسبحين في سابق عهده:
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146)
نتيجة: الخلاصة : نخلص من هذا النقاش بالافتراء الذي مفاده أن الله تعالى قد نجّى فرعون بعد أن أدركه الغرق، فكان بدنا فقط (حيا) له قلب وآذان وأعين، فكان جسما ينبض بالحياة يأكل و يشرب، و لكنه (ميتا) فاقدا للحواس الإدراكية كلها (السمع والبصر والفؤاد). وعلى العكس من ذلك كان ذو النون:
أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122)
ففي حين أن ذا نون قد خرج من تلك الظلمات (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، لم يخرج فرعون من تلك الظلمات فكان أخذه مليما، فأخذه الله أخذا وبيلا، فكان مثبورا.
والله أعلم
المدّكرون: رشيد سليم الجراح محمد عبد العزيز السيسي علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
5 أيار 2014
وللحديث بقية
فالله نسأل أن يأذن لنا بعلم لا ينبغي لغيرنا إنه هو السميع البصير – آمين.
[1] لفتة علمية : موسوعة ويكبيديا
الغيبوبة : Coma، وتعني باليونانية النوم العميق هي حالة فقدان وعي عميقة، لا يمكن للفرد خلالها أن يتفاعل مع البيئة المحيطة به، ولا يمكنه أيضا الاستجابة للمؤثرات الخارجية. تتميز الغيبوبة بفشل عمل نظام التنشيط الشبكي الصاعد (ascending reticular activating system / ARAS). الشخص الواقع تحت تأثير الغيبوبة هو شخص على قيد الحياة، لكنه ليس نائما. موجة نشاط الدماغ لشخص في غيبوبة تختلف كثيرا عن تلك لدى شخص نائم، يمكنك إيقاظ شخص من النوم، لكن لا يمكنك إيقاظ شخص من حالة غيبوبة. يمكن للغيبوبة أن تنجم بسبب المرض، أو بسبب حدوث صدمات للدماغ. عادة لا تستغرق الغيبوبة أكثر من بضعة أسابيع. الكثير من الأفراد يستعيدون أدائهم البدني والعقلي بشكل كامل عندما يخرجون من الغيبوبة. لكن البعض يحتاج إلى أشكال مختلفة من العلاج لاستعادة القدرة على أداء وظائف معينة بصورة مقبولة. بعض المرضى لا يستعيدون أي شيء بخلاف وظائف الجسم الأساسية والبسيطة. في بعض الأحيان، وبعد الغيبوبة، يمكن أن ينزلق المصاب إلى حالة يطلق عليها حالة إنباتية مستديمة (بالإنجليزية: persistent vegetative state) ؛ المصابون ضمن هذه الحالة هم مرضى فقدوا كل الوظائف العصبية الإدراكية ولكن أجسامهم بقيت قادرة على التنفس، ويمكن لها (الأجسام) أن تقوم بحركات عفوية مختلفة. يمكن للجسم أن يبدوا مستيقظا وطبيعيا، ولكن بسبب فقدان جزء الوظيفة المعرفية من الدماغ، فالجسم يفقد القدرة على الاستجابة للبيئة. هذه الحالة الانباتية قد تستمر لسنوات. وهناك حالات أخرى، بالإضافة إلى حالة الغيبوبة والإنباتية، تصف مستويات متفاوتة من فقدان الوعي وقدرة الشخص على الاستجابة للمحفزات. تشمل هذه حالة الذهول stuporوهي حالة الشخص فاقد الوعي ولكنه يستحب للمحفزات المتكررة المنشطة. هنالك أيضا حالة تلبد الإحساس (: obtundation) وحالة النوام (: lethargy)، التي تصف شخص لم يفقد وعيه تماما ولكنه لا تستجيب للمحفزات. والغيبوبة، وغيرها من حالات عدم الوعي تعتبر حالات طوارئ، ويتوجب اتخاذ إجراءات طبية على وجه السرعة لتجنب ضرر دائم.
انتهى