قصة يوسف 22: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ
قصة يوسف 22: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ
عقدنا في الجزء السابق من هذه المقالة مقارنة بين إبراهيم من جهة ويوسف من جهة أخرى، وكان وجه التشابه بين الاثنين الذي حاولنا التعليق عليه حينئذ هو قضية تدبير الكيد، فلقد عمد إبراهيم إلى الكيد:
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
وكذلك فعل يوسف بتأييد إلهي:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
وقد افترينا الظن من عند أنفسنا أن الكيد الذي دبراه لم يكن أكثر من "حيلة" (إن صح القول) لكي لا يقع أي منهما في الكذب، فافترينا القول بأن إبراهيم قد عمد إلى كيد أصنام القوم لكي (نحن نظن) لا يقع في الكذب عندما يوجّه إليه السؤال عن من فعل هذا بآلهة القوم:
قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
وكان تصورنا الذي افتريناه حينها على النحو التالي: يدخل إبراهيم معبد القوم بعد أن تولوا عنه مدبرين، فيعمد إلى كبير التماثيل، فيحركه بطريقة ما، فتتسبب حركته له بتلك الطريقة )التي افتعلها إبراهيم( في تساقط التماثيل القابعة حوله (أي كبيرهم) على الأرض الواحد تلو الآخر. فيكون قد اشترك في ذلك الفعل فاعلان: إبراهيم وكبير التماثيل نفسه. فيسبب تساقط التماثيل المجاورة من فوق في تجذيذها: فتنكسر يدُ بعضها، وتفقئ عين آخر، ويجدع أنف ثالث، وتنكسر رجل رابع، وهكذا، ولكن يبقى التمثال الأكبر واقفا لا يصيبه أذى. فيكون إبراهيم هو الفاعل غير المباشر عندما كاد أصنام القوم وحرك التمثال الأكبر الذي لم يصبه أذى، ويكون التمثال الأكبر (كبيرهم هذا) هو الفاعل المباشر الذي أشار إليه إبراهيم عندما سئل:
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)
فأقام إبراهيم بكيده هذا (نحن نؤمن) الحجة على قومه، عندما أثبت لجميع الحاضرين بأن هؤلاء التماثيل التي هم لها عابدون لا تستطيع أن تدفع الضر عن نفسها، فكيف بها ستجلب لهم الخير؟ فكانت تلك من الحجة التي أتيت لإبراهيم:
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
وفي الوقت الذي استطاع إبراهيم أن يقيم الحجة على القوم لم يقع في الكذب عندما أشار إلى التمثال الأكبر على أنه هو الفاعل الذي قام بالفعل:
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)
وذلك لأن إبراهيم قد أشرك في تجذيذ تلك الأصنام (نحن نرى) فاعلا آخر وهو كبيرهم (أي كبير التماثيل)، فأصبحت الصورة على النحو التالي:
- فاعل مباشر (وهو التمثال الأكبر الذي أسقط بحركته ما كان حوله من التماثيل الأخرى، فأصبحت جذاذا)
- وفاعل غير مباشر (وهو الذي حرك التمثال الأكبر حتى جعله يتسبب في سقوط ما حوله من التماثيل الأخرى)
السؤال: وهل يمكن أن يكون التمثال الأكبر فاعلا؟ كيف يمكن أن يكون الفاعل شيء لا يقوى عليه؟
رأينا: نحن نظن أن التمثال الأكبر كان فاعلا بنفس المنطق الذي نقبل أن تكون الساعةُ فاعلا أو أن يكون القمرُ فاعلا في الآية الكريمة التالية:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1)
فكيف يمكن أن تكون الساعة فاعلا؟ فهل هي التي قامت بفعل الاقتراب من تلقاء نفسها؟ وكيف يمكن أن يكون القمر فاعلا؟ فهل هو الذي انشق بإرادته؟
رأينا: نحن نظن (على غير ما تعلمنا في مدارسنا العتيدة من حصص قواعد اللغة العربية) بأنه لا يجب تعريف الفاعل أو النظر إليه على أنه من قام بالفعل، لأنه لو كان الفاعل هو الذي يجب أن يقوم بالفعل بنفسه لأصبح من المتعذر أن تصح الجملة التالية:
مات الرجلُ
فبالمفردات القواعدية، نحن نشأنا على القول بأن الفاعل في هذه الجملة هو الرجل، أليس كذلك؟ لكن يبقى السؤال قائما: هل فعلا قام الرجل بفعل الموت بنفسه؟ هل هو من نفّذ فعل الموت كما في المثال التالي:
انتحر الرجل
فعندما يقوم الرجل بفعل الانتحار فهو بلا شك من خططه ونفذه، ولكن هل هذا المنطق ينطبق في حالة الرجل الذي مات؟ فهل الرجل الذي مات هو من خطط فعل الموت ونفّذه بنفسه؟ من يدري؟!!!
جواب: كلا وألف كلا، لكن بالرغم من ذلك يبقى الرجل هو فاعلا في الحالتين: في حالة الموت وفي حالة الانتحار، ليكون السؤال الآن هو: لماذا؟ لم يكون الرجلُ فاعلا في كلا الحالتين؟
جواب مفترى: لأننا نظن أن تعريف الفاعل يجب أن لا يكون على نحو ما عُلِمنا في مدارسنا على أنه هو من قام بالفعل.
السؤال: فما تعريف الفاعل إذن؟ ربما يريد البعض أن يسأل.
جواب: نحن نظن أن الفاعل هو كل من شارك بالفعل بأي طريقة، أي من كان له دخل في إحداث الفعل على أرض الواقع سواء بالتخطيط أو بالتنفيذ، الخ.
السؤال: ما علاقة هذا الافتراء بما فعله إبراهيم وكبير التماثيل في تجذيذ أصنام القوم؟
نتيجة مفتراة: كان كبيرهم (أي كبير التماثيل) فاعلا لأنه (نحن نظن) قد اشترك في فعل تجذيذ الأصنام التي كانت قائمة من حوله، فإبراهيم هو فاعل وكبير التماثيل هو فاعل أيضا لأنهما اشتركا في تنفيذ المهمة، فكان أحدهم فاعلا غير مباشر وهو إبراهيم الذي اشترك في التخطيط وفي التنفيذ الأولى للفعل، وكان الآخر وهو كبير التماثيل فاعلا لأنه اشترك في تنفيذ الفعل في مراحله الأخيرة، والذي بدونه ما كان الفعل سيحصل على تلك الشاكلة التي جرت على أرض الواقع.
السؤال: إذا كان هذا ما فعله إبراهيم (كما تزعم)، فلماذا دبر يوسف (بتأييد إلهي) الكيد بإخوته؟ وكيف فعل ذلك؟
باب كيد يوسف
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
بداية، نحن نفتري الظن بأن ما فعله يوسف من كيد (بتأييد إلهي) كان من أجل غاية واحدة تعلّمها من جدّه إبراهيم وهي أن ينفّذ مراده دون أن يقع في فعل الكذب. فكيف حصل ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: كانت غاية يوسف (نحن نظن) تكمن في أن يأخذ أخاه في دين الملك بمشيئة الله:
... كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
ولكن كيف سيستطيع أن يفعل ذلك؟
رأينا: عندما فتّش يوسف في قوانين الدولة المصرية المعمول بها حينئذ وجد أنه لا يستطيع أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا من خلال ارتكاب أخيه جريمة السرقة، فالسرقة هي وحدها ما يمكنّه من تنفيذ مراده بأخيه ، وبكلمات أكثر دقة نقول، لابد أن يرتكب أخوه جرم السرقة ليكون جزاءه (كما هو معمول به في الدولة المصرية حينئذ) أن يُؤخذ في دين الملك. وهنا كان لابد ليوسف من أن يدبر الأمر على شكل "كيد"، أي على نحو أن يقع أخوه في فعل السرقة، فتنسب له التهمة وتلصق به، ويكون جزاؤه نتيجة ذلك أن يؤخذ في دين الملك، وفي الوقت ذاته لا يقع يوسف في فعل الكذب عندما يتم التحقيق في مجريات أحداث القضية، فكيف سيتم له كل ذلك؟
تخيلات: عمد يوسف (نحن نتخيل) إلى الكيد، فقام بتجهيز إخوته بنفسه، وهناك عمد إلى جعل السقاية في رحل أخيه:
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ... (70)
وما أن ابتعد عن الرحل (نحن نتخيل) حتى قام أخوه (متآمرا مع يوسف في تدبير الكيد) على الفور باستخراج السقاية من الرحل حيث وضعها يوسف ليجعلها في وعائه، أي الوعاء الشخصي الخاص به الذي لا يمكن أن يصل إليه أحد غيره دون علمه. (للتفصيل انظر الجزء السابق). وهنا أصبح هذا الأخ بفعلته هذه (وهي نقل السقاية من الرحل إلى الوعاء) سارقا.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا: نحن نظن بأنه لو بقيت السقاية في الرحل حيث وضعها يوسف لما حُقّ ليوسف أن يوجّه تهمة السرقة لمن وجدت في رحله، لأن صاحب الرحل لن يكون حينها مسئولا عن وجود السقاية في رحله، لأن تجهيز الرحال (كما ذكرنا آنفا) هي من مسئولية يوسف وفتيانه (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ)، فلو تم استخراج السقاية من هناك (أي من الرحل) لحق لمن وجدت في رحله (نحن نظن) أن ينكر علاقته بها. ولكن لما استخرجت السقاية من وعاء هذا الأخ على وجه التحديد، لم يكن ليستطع أن ينكر أنه هو من وضعها في وعائه بنفسه، لأنه من الاستحالة بمكان (نحن نتخيل) أن تصل إلى هناك دون علمه، فيكون هناك واحد من سيناريوهين مفترضين، ألا وهما:
1. أن يكون أحدٌ ما قد وضع السقاية في وعاءه بعلم منه، فسكت عليه، وهنا لا يستطيع أن ينكر مسئوليته لأنه ما كان يجب عليه أن يقبل بذلك، ولربما وجب عليه الإخبار عنها على الفور، فالذي يسكت عن الجريمة هو (حسب القانون المصري الذي نتخيله حينها) شريك فيها
2. أن يكون صاحب الوعاء هو من وضع السقاية بنفسه في وعائه، وهنا لابد أن يتحمل المسؤولية كاملة.
رأينا: نحن نظن أنه لمّا سكت هذا الأخ (الذي وجدت السقاية في وعائه) عن الرد على التهمة الموجهة إليه، بدليل أن النص القرآني يخلو تماما من وجود أدنى ردة فعل له على التهمة الموجهة إليه[1]، نستطيع أن نخلص إلى النتيجة المفتراة من عند أنفسنا والتي مفادها أن الذي حصل على أرض الواقع هو السيناريو الثاني، فهذا الأخ هو المسئول الأول والأخير عن ما هو موجود في وعائه، فهو من وضع السقاية بنفسه في وعائه، فاستحق بذلك أن يكون جزاؤه على نحو ما كان:
قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
فأخذ يوسف بذلك الكيد أخاه في دين الملك بمشيئة الله:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
السؤال: ما علاقة هذا كله بموضوع الوقوع في الكذب؟
رأينا المفترى: نحن نتخيل بأنه لو تم التحقيق مع يوسف نفسه ولو بالسؤال والجواب من قبل إخوته حينها أو حتى بعد أن انكشف الأمر كله، لما أنكر أنه هو من جعل السقاية في الرحل (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ)، فنحن نؤمن استحالة أن يكذب يوسف في ذلك. ولكنه سيرد بأنه قد وضعها هناك ربما خطأ، أو ربما (وهذا ما نرجحه أكثر) عن عمد منه، كأن يكون قد جعلها هناك مثلا اختبارا لهذا الأخ ليتحقق من أمانته، ولكانت حجة يوسف (كما نتخيله يقولها) على النحو التالي:
صحيح أني جعلت السقاية في الرحل، لكن السقاية لم تستخرج من الرحل، ولكنها استخرجت من الوعاء، لذا وجب على من وضعت في رحله أن لا يعمد إلى تحريكها من هناك، ولربما كان عليه أن يخبر عنها أو أن يتركها في مكانها على أقل تقدير، فنحن قد فعلنا ذلك (ربما كان يوسف سيقول للمحقق كوجاك ورفاقه حينها) من ذي قبل عندما جعلنا بضاعة إخوته في رحالهم في المرة الأولى:
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فكان ذلك من باب الاختبار لهم لنعرف مقدار حفظهم للأمانة، فعاد بها الإخوة إلى ديارهم، فوجدوا بضاعتهم قد ردت إليهم، فأعادوها (نحن نتخيل يوسف يتابع شهادته أما المحققين) إلينا، فتأكدت عندنا أمانتهم، فنحن نصدق ما قالوا بلسانهم لنا:
قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
فما وجهنا إليهم تهمة السرقة إطلاقا، وذلك لأن السرقة فعل يقوم به الشخص عن وعي وإدراك منه لما يفعل. فقد علمنا من خلال الفعل الذي قمنا به بأن أولئك الإخوة الذين حضروا في المرة الأولى كانوا على قدر عال من الأمانة، ولكنهم الآن قد جاءوا إلينا ومعهم أخ لهم من أبيهم (وهو هذا الذي وجدنا السقاية في رحله)، فأردنا أن نتأكد من أمانته كما فعلنا مع إخوته سابقا، فوضعنا السقاية في رحله، فتبين لنا أن هذا الأخ ليس على درجة من الأمانة كإخوته السابقين، وهذا ما شهد به الإخوة أنفسهم:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ... (77)
لقد كان الأولى بهذا الأخ الجديد (عندما أدرك وجود السقاية في رحله) القيام بواحدة من اثنتين حتى لا توجّه له تهمة السرقة:
1. أن يعيد ما وجده في رحله فورا إلى أصاحبها (كما فعل إخوته من قبل)
2. أو أن يدعها (على الأقل) في مكانها ويكأنه لم يرها. وهنا لا نستطيع أن نوجه له تهمة السرقة (وإن وجدت في القضية شبهة السرقة – ربما أضاف يوسف قائلا)، لأن تهمة السرقة لا تثبت إلا بوجود الدليل المادي)
ولكن الذي فعله هذا الأخ الجديد – ربما سيضيف يوسف قائلا- كان على نحو مغاير تماما، فقد أخذ تلك السقاية من الرحل، وعمد إلى جعلها في وعائه، فيكون بذلك قد ارتكب جريمة السرقة لا محالة، فثبتت عليه الحجة بالدليل المادي عندما استخرجت من وعائه:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
فما استطاع هذا الأخ الجديد أن ينبت ببنت شفه ليدفع عن نفسه (أو لينكر) التهمة الموجّهة إليه، وما استطاع الإخوة إلاّ أن يقروا بارتكاب أخوهم هذا لجريمة السرقة المنسوبة إليه، فكانت ردة فعلهم تؤكد قناعتهم بوقوع أخوهم هذا في الجرم المشهود، فانطلقت ألسنتهم بما استقر في ضمائرهم:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ... (77)
نتيجة مفتراة: لقد ثبت بالدليل المادي القطعي للجميع بأن هذا الأخ قد ارتكب جريمة السرقة.
السؤال: ولعلي أتخيل المحققون يردون على يوسف بالقول: لِم لَم تدع هذا الأخ يعود بما أخذه إلى دياره كما فعلت مع الإخوة السابقين عندما وضعت متاعهم في رحالهم؟ لم لم تتركه يأخذ ذلك ويرجع به إلى أهله لننظر ردة فعل والده على ذلك عندما يعود إليه وقد حمل معه تلك السقاية؟ لم خرجت تؤذن بهم على أنهم سارقون في الحال قبل أن يغادروا أرض مصر؟
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
لو كان ما فعلت مع هذا الأخ يساو ما فعلته مع إخوته لصبرت عليه حتى يعود بما أخذ معه إلى أهله كما فعلت في المرة الأولى؟ ربما سأل المحققون يوسف حينها.
جواب مفترى: لعلي أظن يوسف سيقول لهم: بلى لقد تركته ليعود بها إلى هناك، فلقد كنت أعمد إلى تركه يخرج بالسقاية إلى هناك.
السؤال: وكيف ذلك؟ ألم تؤذن بهم أنهم سارقون؟
جواب يوسف كما نتخيله: نعم، ولكن المؤذن خرج ليبحث عن صواع الملك وليس عن السقاية:
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72)
نتيجة: لقد خرج يوسف وفتيانه (وربما بمرافقة جنده) يبحثون عن الصواع وليس عن السقاية.
ثم إني (سيردف يوسف قائلا) لم أفتش الرحل إطلاقا مادام أني أعلم أني قد وضعت السقاية في الرحل بنفسي، فأنا عمدت إلى تفتيش الأوعية:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
تلخيص ما تخيّلناه: نحن نظن أن يوسف قد دبر الكيد، ومادام أنه كان كيدا، فقد عرف يوسف كيف ينفذه بكل براعة وإتقان، فهو الذي وضع السقاية في رحل أخيه، لذا لم يعمد إلى تفتيش الرحل بعد أن أذن مؤذن بالعير أنهم سارقون صواع الملك، وعمد إلى تفتيش الأوعية، فما كان من المفترض أن تكون السقاية موجودة في الأوعية، ولكن مادام أنه قد وجد السقاية في الأوعية وليس في الرحل حيث وضعها، لذا يكون من نقل السقاية من الرحل إلى وعاءه هو سارق بالقانون، وجب أن يطبق عليه القانون المصري المعمول به حينئذ على نحو أن يؤخذ في دين الملك، فكان ذلك كيد دبره يوسف (بتأييد إلهي) ليأخذ أخاه من بين إخوته فلا يرجعه معهم إلى أبيهم. وبذلك يكون يوسف قد أرسل (نحن نتخيل) رسالة قوية جدا إلى والده يعقوب يستطيع أن يفهمها بما آتاه الله من علم.
السؤال: كيف فهم يعقوب الأحداث بتفاصيلها هذه؟ وكيف استطاع يعقوب أن يربط تفاصيل الأحداث بعضها ببعض؟
رأينا المفترى: نحن نظن بأنه لم تكن مثل هذه الأحداث بحبكتها هذه لتخال على يعقوب من بعيد، فالأمر الآن يتضح ليعقوب بأنه ليس إلا كيدّ (أي حيلة دبرت لهدف ما). لكن هذه التفاصيل التي لا شك أربكت يعقوب بعض الشيء قد سببت له في الوقت ذاته حيرة كان لابد من فهمها.
عقدة يعقوب: نحن نتخيل أن عقدة الأحداث التي كان يعقوب يحاول أن يتدبرها قد سببها الإرباك التالي: لا يستطيع يعقوب أن ينكر ارتكاب ابنه لجريمة السرقة وذلك لأن السقاية قد استخرجت من وعائه، وها هم أبناءه يطلبون منه أن يتحقق من الخبر بالدليل القاطع:
ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
ولكن وفي الوقت ذاته يعتقد يعقوب جازما باستحالة أن يكون ابنه سارقا، فجاء تشككه من زاوية أخرى:
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
فما الذي يجري؟ ربما سأل يعقوب نفسه حينها.
رأينا: لقد أدرك يعقوب على الفور أن جريمة السرقة قد تمت "كمؤامرة" مدبرة بعلم من ولده "السارق" نفسه وبموافقة مسبقة منه على ذلك. فيعقوب الآن (نحن نتخيل) على يقين أن ولده هذا قد اشترك في تدبير هذا "الكيد" مع عزيز مصر، ولا شك أن ولده هذا قد رضي بأن تنسب إليه تهمة السرقة، وأن يؤخذ في دين الملك ليبقى هناك.
نتيجة مفتراة: إنْ صحّ هذا الاستنباط، فإن التساؤلات التي (نظن) ربما كانت تدور في ذهن يعقوب حينها هي:
- لماذا يشترك ولدي هذا في كيد كهذا؟!
- ولماذا يقبل أن توجه إليه تهمة السرقة؟!
- أيعقل أن يكون أبناء الأنبياء سارقين أو أن يرضوا بأن يكونوا سارقين؟!
- ألم ير هذا الولد بأم عينه أمانة إخوته الذين ردوا البضاعة التي وجدوها في متاعهم إلى أصحابهم؟
- كيف يقبل أن يكون إخوته من الذين لا يبغون (وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) بينما يكون هو من الذين يبغون؟!
- ألم يتعلم هذا الولد الدرس؟!
- هل كان يظن بأني سأقبل بأن يأتيني من أرض مصر وقد سرق من عند عزيزها سقاية كهذه؟
- هل تستحق سرقة سقاية (بغض النظر عن قيمتها) كل هذا الذي فعله بنفسه وبشرف هذه العائلة الطاهرة: إبراهيم – إسحق- يعقوب)؟!!!
- ولماذا يرضى أن يؤخذ في دين الملك؟!
- أتراه وجد من عزيز مصر أفضل مما كان يجد عندي؟!
- أتراه يقبل بعزيز مصر أكثر من قبوله بي؟!!!
- كيف تطاوعه نفسه أن يرضى بأن يكون سارقا فيمكث في بيت عزيز مصر ويتركني؟!
السؤال الكبير الذي كان يدور في ذهن يعقوب حينها هو: كيف بولدي هذا يفضّل البقاء في بيت عزيز مصر على الرجوع إلي؟!!!
رأينا المفترى: نحن نظن أن الإجابة التي توصل إليها يعقوب حينها ربما كانت على النحو التالي: لابد أن ولدي هذا قد وجد في بيت عزيز مصر "شيئا ما" أفضل مما هو عندي. ولابد أنه قد وجد ما يجبره على البقاء هناك بدل الرجوع إلي، فما هو؟ ربما سأل يعقوب نفسه بصوت منخفض.
جواب يعقوب على هذا السؤال المفترى من عندنا: لا شك ما وجده ولدي هذا في بيت عزيز مصر هو شيء مميز دفعه على البقاء هناك: فما هو؟
جواب: لابد أنه وجد من هو أفضل من والده يعقوب نفسه، فمن هو؟
جواب: لا أظن أن الأشياء المادية ربما تغري ولدي على البقاء هناك وتركي هنا وحيدا، لذا مادام أنه اختار عزيز مصر على والده يعقوب، فلابد أن يكون عزيز مصر هذا (نحن نتخيل يعقوب يقول في نفسه بعيدا عن مجلس أبناءه الذين جاءوه بالخبر) أفضل مني شخصيا. فمن يا ترى هو الذي يمكن أن يكون أفضل من نبي الله يعقوب على وجه الأرض حينها؟
جواب مفترى: لابد أنه يوسف العليم والحفيظ والصدّيق، ولو تدبرنا السياق القرآني الخاص بهذه الجزئية كاملا لوجدنا أن يعقوب يقحم يوسف في الموضوع على الفور، ويضم إليه (بصيغة الجمع) كل الغائبين من أولاده:
ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
ويؤكد لكل من حوله أنه يعلم من الله ما لا يعلمون بعد أن سئموا من ذكره ليوسف وهم لا يعلمون السر من وراء ذلك:
قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86)
وما أن يسكت الحزن قليلا عن يعقوب بعد أن ينفرد بنفسه بعض الوقت، حتى خرج من جديد ليحدثهم بما وجد من أمره، فجاء طلبه منهم جميعا أن يذهبوا ليتحسسوا من يوسف وأخيه، فتم إقحام فكرة وجود يوسف حيا في أرض مصر في تفاصيل الأحداث (على لسان يعقوب) بطريقة مفاجئة للجميع:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
فما تردد الإخوة على تنفيذ أمر والدهم على الفور، فهبطوا مصر هذه المرة (المرة الثالثة) ليتحسسوا من يوسف وأخيه غير يئسيين من روح الله.
السؤال: لماذا فعلوا ذلك على الفور؟ لماذا لم يحاولوا التشكيك باستنباط والدهم هذا؟
جواب: نحن نتخيل يعقوب قد طلب من أبناءه الهبوط إلى أرض مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه بعد أن ناقش كامل تفاصيل الأحداث معهم، وربط لهم المقدمات بالنتائج، وطرح على مسامعهم فهمه للأحداث التي مروا بها، فدار نقاش مطوّل (نحن نتخيل) بينهم جميعا، كما نتخيل أن يعقوب كان يسد الثغرات في قصهّم للأحداث بطريقته الخاصة التي أدهشتهم ويكأنه حاضر معهم هناك. لذا لم يتفاجأ الأبناء بطلب والدهم هذا منهم، فنحن نتخيل الأبناء ينظرون في وجوه بعضهم البعض بعد كل جملة يقولها والدهم لهم، فالرجل (نحن لازلنا نتخيل) يذكرهم بأهل المصر، وكيف كان حالهم، وكيف أصبحت بعد أن تولى هذا "الغريب عنهم" خزائنها، وكيف كان هذا "الغريب عنهم" وحده القادر على تأويل رؤيا لمن كان معه في السجن وللملك نفسه، فذاك علم لا يقدر عليه إلا من علمه ربه. وكيف كانت أمانته في الحفاظ على عهده مع ربه، فما خان الأمانة في بيت عزيزها السابق، وكيف كلّفه التزامه بمبدئه سنين من عمره في السجن هناك. فتلك مشقة لا يستطيع تحملها إلا عباد الله الصالحين. وكيف يطبق هذا العزيز الآن العدل بين الناس، فلا يظلم أحد عنده، فهو الذي رفض أن يأخذ أحدا بجرم آخر لينفي عنه وعن السلطة الحاكمة في مصر حينها الظلم:
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ (79)
وكيف أنه يوفي الكيل ويتصدق، وأنه خير المنزلين:
وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59)
وكيف أن هذا "الغريب السجين" لم يحاول أن ينتقم ممن مكروا به وأودعوه في السجن ظلما، فهو الذي عفا عن النسوة اللاتي راودنه عن نفسه، فتلك من الصفات التي لا يقوى عليها إلا المتقون المحسنون:
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)
وكيف... وكيف... الخ.
السؤال الذي نظن أن يعقوب قد أنهى حواره مع أولاده به هو: أتدرون يا أبنائي من هو هذا العزيز "الغريب عن المصريين" الذي يجمع كل هذه الصفات؟ إنه أخوكم يوسف، فاذهبوا يا بني فتحسسوا منه ومن أخيه هناك:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
الدليل
عندما عاد أولاده بالخبر الذي مفاده أن عزيز مصر قد أخذ ولده هذا في دين ملك مصر، كانت ردة فعل يعقوب الأولى على النحو التالي:
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
فها هو يفقد ولده هذا ليعاود الأسف على ولده السابق (يوسف). السؤال: لماذا؟ لماذا سبب فقدان هذا الولد عند يعقوب الأسف على ولده الآخر (يوسف)؟ ألم تكن ردة فعل الحاضرين ممن حوله على النحو التالي؟
قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
السؤال: ما بالهم ينكرون عليه ذكر يوسف ولا يترددون بعد ذلك بالإذعان لطلب والدهم للهبوط إلى أرض مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه؟
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
رأينا المفترى: نحن نظن أن يعقوب قد هيأ كامل عائلته على تقبل فكرة وجود يوسف، فربط تفاصيل ومجريات الأحداث (كما حاولنا تخيلها سابقا) على مسامعهم جميعا، فبدأ بالمقدمات الصحيحة التي أفضت إلى النتيجة التي لا مفر منها وهي وجود يوسف على قيد الحياة، وذكرهم بأن هذا جزء من العلم الذي اختصه الله به:
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86)
وكان هو من نبّههم مرة أخرى إلى وجود يوسف عندما فصلت العير:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94)
ولكن هذا لم يكن ليقتنع البعض منهم تماما بفهم والدهم للأحداث التي تدور حولهم، فجاء تشكيكهم بما قال صريحا في كتاب الله:
قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95)
ولكن ما أن جاءه البشير حتى ذكّرهم بما لديه من علم لا يمتلكونه هم، فأقروا لوالدهم بما كان يرى ولا يرون، وطلبوا منه أن يستغفر لهم لأنهم كانوا خاطئين:
قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
(دعاء: أسألك ربي أن تعلمني ما لم أكن أعلم، وأسألك أن تعلمني ما لم يعلمه غيري، وأستغفرك لنفسي ذنبي إن كنت من الخاطئين - آمين)
لكن هذا الطرح يثير على الفور التساؤل التالي: كيف تحسس إخوة يوسف منه ومن أخيه في أرض مصر؟ وكيف نفّذوا هناك في أرض مصر ما طلبه والدهم منهم كما جاء في الآية الكريمة نفسها؟
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
باب التحسس: فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ
عندما بحثنا عن مفردة " فَتَحَسَّسُواْ " على مساحة النص القرآني لم نجد أنها قد وردت في موضع آخر غير الآية الكريمة السابقة، وكانت أقرب المفردات إليها (نحن نظن) ما وجدناه في الآيتين الكريمتين التاليتين:
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
فحاولنا الخروج بالاستنباط المفترى التالي: نحن نظن أن المفردة تحمل في ثناياها معنى الإدراك بما يدور حولك. فالذي يحس بشي أو الذي يتحسس من شيء ما، فهو يحاول (نحن نفتري الظن من عند أنفسنا) أن يدرك وجوده من حوله.
ثانيا، ظننا مفترين القول من عند أنفسنا أيضا أن مفردة "تَحَسَّسُواْ" لها علاقة بمفردة "تَجَسَّسُوا" الواردة في الآية الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)
فحاولنا الخروج بالاستنباط المفترى التالي: نحن نظن أن الاختلاف بين التحسس والتجسس ربما يكمن في معرفة الآخرين بما تفعل أنت، فإن أنت قمت بالبحث عن المعلومة بطريقة سرية (دون علم الآخرين من حولك) فأنت تقوم بفعل التجسس كما يفعل رجال المخابرات في بلادنا الإسلامية العتيدة التي تنهي شريعتها عن فعل التجسس (وَلَا تَجَسَّسُوا) كما تنص عليه الآية الكريمة السابقة. فكم ممن يصطفون عن أيماننا وعن شمائلنا في الصلاة ويزاحمون "إخوانهم المسلمين" على الصف الأول (ليظفروا بالأجر الذي تحث عليه السنة النبوية) وهم يلبسون الدشداش الأبيض (تطبيقا للسنة النبوية) وقد اغتسلوا من الجنابة في يوم الجمعة (تطبيقا للسنة النبوية) وفي يمينهم السواك الذي ينظفون به أسنانهم (تطبيقا للسنة النبوية) هم ممن يتخذون التجسس مهنة للحفاظ على "أنظمتهم السياسية العتيدة"؟ فهل تستطيع أن تشعر بما يفعلون؟
جواب: كلا، لأنهم يقومون بهذه المهمة عن طريق التجسس
ولكن ما الذي فعله إخوة يوسف في مصر؟ هل حاولوا البحث عن المعلومة الخاصة بيوسف وأخيه عن طريق التجسس؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا، لقد حاولوا البحث عن المعلومة الخاصة بيوسف عن طريق التحسس، أي البحث عن المعلومة على رؤوس الأشهاد.
تخيلات: نحن نظن أنه ما أن هبط الإخوة إلى أرض مصر حتى بدءوا سؤال الناس في أرض مصر عن يوسف، فبدءوا يسالون الناس (نحن نتخيل) أسئلة ترشدهم إلى مكان وجود يوسف، فلربما سألوهم عن طفل جاء هذه الديار عن طريق سيارة كانوا قادمين من الشرق قبل مدة محددة من الزمن، فهم لا شك يعلمون السنة التي جعلوا أخاهم فيها في غيابة الجب لتلتقطه بعض السيارة، ولربما كانوا يعرفون بعض شخصيات تلك السيارة التي أسرّت يوسف بضاعة عندما وجدوه في غيابة الجب، ولربما سألوا عن الفترة الزمنية التي نزل بها يوسف إلى هناك، ولربما سألوا عن شخصية من راودته امرأة العزيز عن نفسها، ولربما سألوا عن السبب الذي منع فتاها من النزول عند رغبتها، ولربما سألوا عن عقيدة ذاك الفتى، ولربما سألوا عن صاحبيه السجن، وقد يكونوا زاروا بعض أهليهم لمخاطبتهم حول شخصية ذلك السجين الذي أوّل لهم الرؤيا، ولربما سألوا عن كيفية تأويل ذاك السجين لرؤيا الملك، ولربما سألوا عن سبب قبول الملك أن يجعله على خزائن الأرض، الخ.
الدليل الذي نظن أنه كان حاسما في العثور على يوسف
بغض النظر عن نوع وعدد الأسئلة التي كان يحاول إخوة يوسف أن يجدوا لها إجابات في أرض مصر، فإن الهدف الرئيس الذي كان يطارده إخوة يوسف هناك – برأينا- هو: أن لا ييأسوا من روح الله كما أمرهم أبوهم:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
السؤال: ما معنى أن لا ييأس الإخوة في أرض مصر من رَوح الله؟ ولماذا طلب منهم أبوهم ذلك عندما أرسلهم إلى هناك ليتحسسوا من يوسف وأخيه؟ وكيف يمكن أن يساعد ذلك في الوصول إلى يوسف؟
رأينا: لنبدأ القصة هنا بما جادت به قرائح سادتنا العلماء أهل الدرية كما جاء في بطون أمهات كتب التفسير كالطبري مثلا:
يقول تعالى ذكره : حين طمع يعقوب في يوسف , قال لبنيه : يا بني اذهبوا إلى الموضع الذي جئتم منه , وخلفتم أخويكم به { فتحسسوا من يوسف } يقول : التمسوا يوسف وتعرفوا من خبره . وأصل التحسس : التفعل من الحس . { وأخيه } يعني بنيامين , { ولا تيأسوا من روح الله } يقول : ولا تقنطوا من أن يروح الله عنا ما نحن فيه من الحزن على يوسف وأخيه بفرح من عنده فيرينيهما . { إنه لا ييأس من روح الله } يقول : لا يقنط من فرجه ورحمته ويقطع رجاءه منه , { إلا القوم الكافرون } يعني : القوم الذين يجحدون قدرته على ما شاء تكوينه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 15063 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي : { يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } بمصر . { ولا تيأسوا من روح الله } قال : من فرج الله أن يرد يوسف 15064 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , في قوله : { ولا تيأسوا من روح الله } : أي من رحمة الله - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة نحوه . 15065 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : ثم إن يعقوب قال لبنيه , وهو على حسن ظنه بربه مع الذي هو فيه من الحزن : { يا بني اذهبوا } إلى البلاد التي منها جئتم { فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله } : أي من فرجه , { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } 15066 - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { ولا تيأسوا من روح الله } يقول : من رحمة الله 15067 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله : { ولا تيأسوا من روح الله } قال : من فرج الله , يفرج عنكم الغم الذي أنتم فيه
إن التدبر السريع لهذا التفسير "العظيم" يفضي بما لا يدع مجالا للشك إلى نتيجة واحدة وهي أن سادتنا أهل العلم قد أجمعوا أمرهم على أن "رَوح الله" التي وردت في هذه الآية الكريمة على لسان يعقوب تعني "رحمة الله أو فرج الله" (انظر ما وضعنا تحته خط). ويكأن يعقوب (هم يظنون) يطلب من أولاده أن لا يقنطوا من رحمة الله في الوصول إلى يوسف وأخيه، أليس كذلك؟
رأينا: نحن ندحض هذا الظن على الأقل لسببين اثنين وهما:
1. لقد طلب يعقوب من أولاده أن لا ييأسوا ولم يطلب منهم أن لا يقنطوا
2. لقد طلب يعقوب من أولاده أن لا ييأسوا من روح الله ولم يطلب منهم أن لا يقنطوا من رحمة الله كما جاء في حالة جدهم إبراهيم مثلا عندما جاءته الملائكة بالبشرى، وانظر – إن شئت- في الآية الكريمة التالية:
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56)
لو راقبنا هذا السياق القرآني لوجدنا أنه يتحدث بصريح اللفظ عن القنوط من رحمة الله، لذا لو كان يعقوب يريد أن يوصل مثل هذا المعنى لأبنائه الهابطين أرض مصر باحثين عن أخيهم لطلب منهم أن لا يقنطوا من رحمة الله، ولكن يعقوب طلب منهم بصريح اللفظ القرآني أن لا ييأسوا من روح الله (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ)، ليكون السؤال على النحو التالي: ما معنى قول يعقوب لأبنائه "وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ"؟ ثم إذا كان هذا يحمل في ثناياه معنى محدد بذاته فكيف يختلف عن ما قاله إبراهيم في حضور رسل ربه عندما جاءوه بالبشرى بالولد (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ)؟
السؤال: ما الفرق بين "لا تيأس من روح الله" و "لا تقنط من رحمة الله"؟
بداية، نحن نظن أن الأمل بوجود رحمة الله يقابله القنوط منها، وهذا ما لا يمكن أن يقع فيه إلا القوم الضالون مصداقا لقوله تعالى:
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56)
والناظر في السياقات القرآنية الخاصة بالقنوط لوجدها ملازمة لوجود الرحمة:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
لذا، لا أظن (ربما مخطئا) أن إخوة يوسف قد كانوا ضالين بأنفسهم، لأنهم ببساطة كانوا يبحثون عن إخوة لهم، وهم قد قدموا أرض مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه، فلم يكن هناك رحمة لكي يساق القنوط في وجودها أو في غيابها.
ثانيا، لو تدبرنا الآيات الخاصة بإبراهيم لوجدنا أن القنوط يأتي بعد الوصول إلى الحق:
قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55)
فيكون القنوط (كما نفهمه) على النحو التالي: يأتي الحق، يقنط منه نفر من الناس، فيكونوا من الضالين:
فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
نتيجة: القنوط يكون لاحقا لمجيء الحق
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لو أن الحق كان قد جاء إخوة يوسف، فقنطوا منه، لكانوا من الضالين
السؤال: كيف نفهم إذا ما حصل من إخوة يوسف؟
جواب: نحن نظن أن إخوة يوسف قد هبطوا مصرا يبحثون عن يوسف وأخيه، ولا أظن أنه قد جاءهم الحق بعد، لذا يستحيل أن ننعتهم بالقنوط في هذه المرحلة، فماذا كان مطلوب منهم أن يفعلوه؟
جواب: أن لا ييأسوا من روح الله".
سؤال: وكيف يكون ذلك؟
جواب: نحن نظن أن تلك كانت واحدة من الخيوط المهمة جدا التي أوصلتهم إلى يوسف وأخيه، ولكن كيف ذلك؟
باب الروح
نحن نظن أن مفردة " رَّوْحِ " التي وردت في الآية الكريمة التالية
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
والتي نحاول جهدنا أن نتدبرها (سائلين الله وحده أن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه فيها) لها علاقة بمفردة "الروح" الخاصة بالتنزيل (أي الوحي):
يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (2)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
نتيجة: هناك ترابط بين الروح (بضم الراء) والتنزيل. فعندما ينزل الله الملائكة فإن ذلك يتم بالروح من أمره، والله وحده هو من يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ليكون نذيرا، والله هو نفسه من يؤيد قوما بروح منه، أليس كذلك؟
الدليل
حاول عزيزي القارئ أن تربط السياقين التاليين معا مركزين على نهايتهما:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56)
نتيجة مهمة جدا جدا: الذي ييأس من روح الله هم القوم الكافرون بينما الذي يقنط من رحمة ربه هم الضالون
السؤال: لماذا؟
رأينا: نحن نظن أن يعقوب يطلب من أبناءه عدم اليأس روح الله لأن ذلك لا يفعله لا الكافرون، ولكن لماذا؟
الجواب: لأن الكافر هو الذي ينكر الوحي الإلهي.
دعنا نبدأ النقاش هنا بطرح التساؤل التالي: إذا أيد الله بعض عباده بالروح من أمره أو إذا ألقى الله بالروح من أمره على من يشاء من عباده، فما الذي يحصل؟
جواب: يصبح ذلك الشخص الذي ألقى الله الروح من أمره عليه نذيرا:
يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (2)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
جواب مفترى: تكون تلك المنطقة التي ألقي فيها الله الروح من أمره على بعض عباده قد أصابتها روح الله ويتواجد بها نذيرا
نتيجة: لقد هبط إخوة يوسف أرض مصر غير يئسين من روح الله لأنهم ذهبوا يبحثون عن من ألقى الله عليه روح من أمرة ليكون نذيرا بأنه لا إله إلا الله وينذر الناس يوم التلاق
السؤال: وكيف يمكن أن يجدوا ذلك؟
جواب مفترى: لأنهم يعلمون بنتيجة وحتمية إلقاء الروح من أمر الله في مكان ما.
سؤال: وما هي نتيجة إلقاء الروح في أي مكان؟
جواب مفترى: بقاء أثر تلك الروح التي ألقيت من أمر الله؟
سؤال: وما هو أثر إلقاء الرُّوح (بضم الراء) فيها؟
جواب: بقية من أثرها وهي الرَّوح (بفتح الراء).
تخيلات: ما يتم إلقاء الرُّوح (بضم الراء) من أمر الله على بعض عباده في مكان ما حتى تكون تلك المنطقة قد شرفت بهذا الخير العظيم، ولكن لا ترتفع تلك الرُّوح (بضم الراء) التي ألقيت بأمر الله حتى تترك الأثر الطيب وراءها ليدل على أنها قد ألقيت هناك، ويكون هذا الأثر هو الرَّوح (بفتح الراء) التي غطت المنطقة بأكملها.
السؤال: ما علاقة هذا بطلب يعقوب من بنيه بأن لا ييأسوا من روح الله؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: إنها الرسالة
سؤال: وما معنى ذلك؟ ما الذي تريد أن تقوله؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لو تدبرنا قصة يوسف من بدايتها لوجدنا أن يعقوب لم يكن رسولا ولكنه كان نبيا، فهو وريث تلك السلالة الطاهرة (إبراهيم – إسحق- يعقوب) وها هو يعقوب نفسه قد أصبح شيخا كبيرا ولم تتم نعمة الله عليه بالاصطفاء بالرسالة، فبقي نبيا ولم يصبح رسولا، ولم يتشرف أحد من أبنائه الحاضرين عنده بهذا الحظ العظيم، لذا أوشك آل يعقوب على أن ييأسوا من أن يحدث الإلقاء الإلهي بالروح من أمره (بالرسالة) في أحد منهم.
لكن يعقوب كان على علم بأن هذا الاصطفاء لا محالة حاصل، فيستحيل أن ييأس يعقوب من روح الله، وما أن جاءته الأخبار من أرض مصر تحمل (نحن نتخيل) في ثناياها بعض البشرى بوجود يوسف حتى أدرك يعقوب على الفور بأن الاجتباء الإلهي سيكون في يوسف كما أخبره منذ زمن بعيد بعد أن قص عليه يوسف تلك الرؤيا الشهيرة:
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
فعلم يعقوب أن الرسالة حق مكتسب ليوسف، فأصبح يوسف رسولا بنزول الوحي عليه في أرض مصر:
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34)
لذا، فإن القصة قد حيكت في ذهن يعقوب – كما نفتريها من عند أنفسنا- على النحو التالي: يعود يعقوب في ذاكرته إلى اليوم الذي فارقه فيه يوسف، فيعلم أنه كان لازال غلاما يافعا، وها هي السنين تمر به بعد طول غياب، وها هي بعض أشارات البشارة تعود إليه اليوم بوجود يوسف في أرض مصر، فيقوم يعقوب بحساب عمر يوسف في هذه اللحظة، فيتأكد له بأنه قد بلغ سن التكليف بالرسالة، لذا لابد أن يكون الرُوح (بضم الراء) قد ألقي عليه من ربه ليكون نذيرا، لذا جاء طلب يعقوب من أولاده على النحو التالي:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
ويكأنه يقول لهم – نحن نتخيل- اذهبوا يا بني، فتحسسوا من يوسف، فابحثوا عنه في المكان الذي تجود فيه اثر من "روح الله"، أي أثر إلقاء الروح من أمر الله على يوسف في تلك الأرض، وبكلمات أكثر دقة نقول: يطلب يعقوب من بنيه أن يهبطوا أرض مصر ليبحثوا فيها عن شخص يدعي أنه رسول من رب العالمين. فمن سيجدون رسولا هناك غير يوسف؟
سؤال: وكيف سينفذ الأبناء طلب والدهم هذا؟
جواب: بداية، لابد من الإشارة إلى العقيدة التي مفادها أن هؤلاء الأبناء الهابطين أرض مصر هم ورثة سلالة النبوة والرسالة (إبراهيم- إسماعيل- إسحق- يعقوب)، فهم أبناء الأنبياء والرسل، لذا فهم يعرفون تماما أين يجدون وكيف يجدون روح الله، فهم قد تربوا في بيت كانت علاقته بالسماء غير منقطعة منذ جدهم الأول إبراهيم، لذا فإن الخبرة المكتسبة عندهم تمكنهم من البحث عن تلك الروح والوصول إليها.
السؤال: وكيف سيجدونها؟
جواب: هذا ما سنحاول النبش فيه في الجزء القادم بحول الله وتوفيق منه، فالله وحده أسأله أن يعلمني وصاحبي عليا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل فضله علينا عظيما، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمّه ولو كره الكافرون، ونعوذ به أن نكون ممن يفترون عليه الكذب أو ممن يقولون عليه ما ليس لهم بحق، ونعوذ به أن نكون ممن يصدون عن سبيله أو ممن يبغونها عوجا - إنه هو العليم الحكيم.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
وأساله وحده أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري، إنه هو الواسع العليم – آمين.
23 نيسان 2014
[1] يظن العزيز مروان (ربما محقا) أن سكوت هذا الأخ عن الكلام في كل أحداث القصة ربما يشير إلى أنه كان صاحب إعاقة (ربما لفظية)، فالأحداث كلها تجري دون أن يتحدث بكلمة واحدة.