قصة يوسف 23: قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ
قصة يوسف 23: قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ
حاولنا في الجزء السابق تمرير زعمنا بأن يعقوب استطاع أن يربط الأحداث بعضها ببعض لينتهي إلى أن يوسف موجود في أرض مصر، فطلب من أبنائه أن يذهبوا ليتحسسوا من يوسف وأخيه هناك غير يئسين من روح الله:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
وظننا أن يعقوب قد أوصل بذلك رسالة قوية لأبنائه بأن يبحثوا عن يوسف وأخيه في المكان الذي توجد فيه رسالة التوحيد:
… إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
فما رفض الأبناء طلب والدهم بالرغم من محاولاتهم المستميتة طوال السنين الماضية لإقناعه بانتهاء خبر يوسف بين أنياب الذئب:
قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
وهم الذين قدموا له الدليل المادي على صحة ما زعموا:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
وبالرغم من هذا كله، ها هم يذهبون اليوم مسرعين إلى هناك ليتحسسوا من يوسف وأخيه بالطريقة التي أمرهم بها أبوهم يعقوب.
السؤال: كيف أخرج الأبناء أنفسهم من هذا المأزق؟ أي كيف بهم يقبلون أن يذهبوا ليتحسسوا من يوسف وأخيه (كما طلب والدهم) وهم الذين جاءوه ذات مرة عشاءً يبكون، وهم الذين جلبوا معهم الدليل على نهاية يوسف بين أنياب الذئب؟
الخ.
جواب مفترى: لو دققنا في القضية من بدايتها لوجدنا أن أبناء يعقوب قد قدّموا لوالدهم الدليل على موت يوسف بين أنياب الذئب عندما أحضروا له قميصه وعليه دم كذب:
قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
ولكن المدقق في النص القرآني- يلمح على الفور أن الأبناء لم يؤكدوا لوالدهم أنهم قد شهدوا ذلك بأم أعينهم، فهم لم يحضروا عملية افتراس الذئب ليوسف، ولم يتمكنوا من العثور على شيء من بقايا يوسف، لذا لم يكن ما قالوه لوالدهم بخصوص نهاية يوسف بين أنياب الذئب إلا استنباط من عند أنفسهم بناء على الشواهد التي استطاعوا أن يجلبوها حينها، لذا فهم يستطيعون الآن (نحن نفتري القول) أن يتخلصوا من هذا المأزق الذي وضعوا به أنفسهم سابقا بالمنطق المفترى من عند أنفسنا التالي:
لعلي أجزم القول بأن الأبناء سيقولون لوالدهم الآن بأن ما قلناه لك بخصوص نهاية يوسف بين أنياب الذئب لم يكن أكثر من استنتاج توصلنا إليه من البينات التي توافرت بين أيدينا حينئذ: فيوسف غير موجود، ولم يتبقى منه إلا قميصه الملطخ بالدم، والمنطقة محفوفة بمخاطر الذئب، ولما كنّا قد بحثنا عن يوسف في كل مكان فما وجدنا غير قميصه ذاك، ظننا أن الذئب قد أكله.
نتيجة مفتراة: لعلي أظن أن إخوة يوسف سيحاولون إذن تسويق الفكرة التي مفادها أنهم لم يشاهدوا نهاية يوسف بين أنياب الذئب بأم أعينهم، فكان ذلك ظنهم الذي توصلوا إليه من الشواهد التي كانت حاضرة حينئذ.
فما الذي سيقولونه اليوم لوالدهم؟
رأينا: نحن نظن أن الأبناء سيدافعون عن أنفسهم اليوم بعد أن أصبح الظن أميل عندهم جميعا أن يوسف لازال حيا بالمنطق التالي: ربما كنا خاطئين يا أبتي – أظنهم سيقولون- في استنباطنا بأن الذئب قد أكل يوسف، فلعل يوسف قد استطاع حينما هاجمه الذئب أن يفلت منه، وينقذ نفسه من بين أنيابه إما بقدراته الذاتية أو بمساعدة من غيره ، لذا نحن الآن لا نستبعد أن نكون مخطئين في استنتاجنا السابق. لذا لا ضير أن نذهب لنتأكد من روايتك الجديدة (أي أن نتحسس من يوسف وأخيه في أرض مصر).
فهبط الأبناء أرض مصر يتحسسون من يوسف وأخيه هناك ربما ليجدوا دليلا على وجود يوسف (أو عدم وجوده) ربما ليردوا التهمة عن أنفسهم أمام والدهم الذي لازال مُصرا على أن يوسف لم يمت. ولكن لمّا كان الأبناء يعلمون يقينا أن يوسف لم يقع فريسة أنياب الذئب لأنهم هم من جعلوه في غيابة الجب ليلتقطه بعض السيارة:
قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
فهم على يقين الآن أن يوسف موجود في مكان ما. لكن التساؤل المثير الذي كان لابد من مطاردته بأنفسهم هو: هل فعلا يوسف موجود في أرض مصر؟ فهل هبطت به السيارة التي التقطته من غيابة الجب إلى أرض مصر وعاش هناك؟ وهل ليوسف علاقة بكل هذه الأحداث الغريبة التي أخذت تحصل معنا منذ اليوم الأول لهبوطهم مصر؟ هذه – في ظني- بعض التساؤلات التي ربما كانت تناقش فيما بينهم في تلك اللحظة.
رأينا المفترى: لعلي أكاد أجزم الظن بأن أكثر الذي جعل الأبناء جميعا في حيرة من أمرهم هو ذلك الكيد الذي حصل لهم (للتفصيل انظر الجزء السابق). فهم يحاولون الآن أن يربطوا الأحداث بعضها مع بعض، فكثير منها تصدق ظن والدهم يعقوب واستنباطاته، لكني أريد هنا أن أطرح جزئية واحدة لعلها كانت (في ظني) هي الأكثر إرباكا للإخوة جميعا، ألا وهي قضية الصواع والسقاية. ولكن كيف ذلك؟
جواب: لا شك أن الأبناء يدركون أن من خرج مؤذنا في العير كان مدفوعا بالبحث عن صواع الملك الذي زعموا أنهم قد فقدوه:
قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72)
ولكن الغريب بالأمر أن الذي وجد في رحل أخيهم كانت السقاية:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
ليكون السؤال الذي ربما كان يدور في أذهانهم حينها هو: أين هو صواع الملك المفقود مادام أن ما تم استخراجه من الرحل هي السقاية؟ ولعل السؤال الأكبر الذي خالهم في تلك الساعة هو: لماذا أقدم أخونا على سرقة الصواع على وجه التحديد؟
رأينا: في محاولتنا الإجابة على هذا التساؤل، كان لابد من طرح تساؤلات أخرى ذات صله بالموضوع نذكر منها:
- ما هو الصواع؟
- ما هي السقاية؟
- كيف يختلف الصواع عن السقاية؟
- كيف فُقد صواع الملك؟
- لماذا يكون للملك صواع أصلا؟ فما حاجة الملك بالصواع؟
- ومن الذي أخذ ذلك الصواع؟
- وكيف كان العثور على السقاية سببا كافيا للكف عن البحث عن الصواع؟
- فلماذا لم يستمر يوسف في البحث عن الصواع بعد أن وجد السقاية في رحل أخيه؟
- أليس هو الصواع نفسه الذي أخرجهم للبحث في أوعية العير؟
- الخ.
باب صواع الملك
لنبدأ بالتساؤل التالي: لماذا نُسِب الصواع للملك (صُوَاعَ الْمَلِكِ)؟ ولماذا لم تُنسب السقاية للملك؟ وهل يحتاج الملك أن يكون له صواع؟ وماذا كان يفعل الملك بذاك الصواع؟
لنبدأ البحث عن إجابة على هذا التساؤل في بطون أمهات كتب التفسير علّنا نجد فيها شيئا من العلم الغزير الذي أتحفنا به سادتنا العلماء أهل الدراية على مدار أربعة عشر قرنا من الزمن (ونيّف). فهذا ما جاء في تفسير ابن كثير:
لما جهزهم وحمل معهم أبعرتهم طعاماً أمر بعض فتيانه أن يضع { السقاية} وهي إناء من فضة في قول الأكثرين، وقيل: من ذهب، ويكيل للناس به من عزة الطعام إذ ذاك، قاله ابن عباس ومجاهد، وعن ابن عباس: { صواع الملك} قال: كان من فضة يشربون فيه، وكان للعباس مثله في الجاهلية، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد، ثم نادى مناد بينهم: { أيتها العير إنكم لسارقون} ، فالتفتوا إلى المنادي، وقالوا: { ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك} أي صاعه الذي يكيل به، { ولمن جاء به حمل بعير} وهذا من باب الجعالة، { وأنا به زعيم} وهذا من باب الضمان والكفالة
وهذا بعض ما جاء في الطبري:
يَقُول تَعَالَى ذِكْره : قَالَ بَنُو يَعْقُوب لَمَّا نُودُوا : { أَيَّتهَا الْعِير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمُنَادِي وَمَنْ بِحَضْرَتِهِمْ يَقُولُونَ لَهُمْ : { مَاذَا تَفْقِدُونَ } مَا الَّذِي تَفْقِدُونَ ؟ { قَالُوا نَفْقِد صُوَاع الْمَلِك } يَقُول : فَقَالَ لَهُمْ الْقَوْم : نَفْقِد مَشْرَبَة الْمَلِك . وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَذُكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَرَأَ : " صَاع الْمَلِك " بِغَيْرِ وَاو , كَأَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى الصَّاع الَّذِي يُكَال بِهِ الطَّعَام وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَجَاء أَنَّهُ قَرَأَهُ : " صَوْع الْمَلِك " . وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمُر أَنَّهُ قَرَأَهُ : " صَوْغ الْمَلِك " بِالْغَيْنِ , كَأَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى أَنَّهُ مَصْدَر , مِنْ قَوْلهمْ صَاغَ يَصُوغ صَوْغًا . وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ قُرَّاء الْأَمْصَار : فَصُوَاع الْمَلِك , وَهِيَ الْقِرَاءَة الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَة بِخِلَافِهَا لِإِجْمَاع الْحُجَّة عَلَيْهَا . وَالصُّوَاع : هُوَ الْإِنَاء الَّذِي كَانَ يُوسُف يَكِيل بِهِ الطَّعَام , وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 14923 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , قَالَ : ثنا شُعْبَة , عَنْ أَبِي بِشْر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنِ ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الْحَرْف : { صُوَاع الْمَلِك } قَالَ : كَهَيْئَةِ الْمَكُّوك . قَالَ : وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ مِثْله فِي الْجَاهِلِيَّة يَشْرَب فِيهِ - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا وَكِيع , وَحَدَّثَنَا ابْن وَكِيع , قَالَ : ثنا أَبِي , عَنْ شُعْبَة , عَنْ أَبِي بِشْر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنِ ابْن عَبَّاس , فِي قَوْله : { صُوَاع الْمَلِك } قَالَ : كَانَ مِنْ فِضَّة مِثْل الْمَكُّوك . وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ مِنْهَا وَاحِد فِي الْجَاهِلِيَّة 14924 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا وَكِيع , وَحَدَّثَنَا ابْن وَكِيع . قَالَ : ثنا أَبِي . عَنْ شَرِيك , عَنْ سِمَاك , عَنْ عِكْرِمَة , فِي قَوْله : { قَالُوا نَفْقِد صُوَاع الْمَلِك } قَالَ : كَانَ مِنْ فِضَّة 14925 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب , قَالَ : ثنا هُشَيْم , عَنْ أَبِي بِشْر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , أَنَّهُ قَرَأَ : { صُوَاع الْمَلِك } قَالَ وَكَانَ إِنَاءَهُ الَّذِي يَشْرَب فِيهِ...
ولمن أراد المزيد من هذا العلم الغزير، فله أن يرى ما جاء في كتب التفاسير الأخرى، ولينظرها على الرابط التالي مثلا:
رأينا: نحن نرى أنه لابد من التخلي عن هذه "---------" مادام أن أحدا من سادتنا العلماء أهل الدراية لم يقدم الدليل الذي ربما يثبت ظنه، ونحن (على ركاكة منطقنا وقلة حيلتنا) ربما نستطيع أن نلقي بظلال الشك على هذه التفسيرات كلها بطرح التساؤلات البسيطة التالية:
- كيف استطاع هذا الأخ أن يصل إلى صواع الملك؟ فهل اجتمع الإخوة أصلا بالملك؟
- وهل اجتمعت العير كلها بالملك مادام أن المؤذن كان يؤذن في العير كلهم أجمعين:
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
- ولو كان هذا الأخ هو وحده من سنحت له الفرصة أن يجتمع بالملك، ألا يكفي أن يكون هذا دليلا حاسما على أنه هو من سرقه؟ فلم يحتاج أن يؤذن المؤذن بالعير كلهم أجمعين؟
- ولو استطعنا أن نتخيل وصول هذا الأخ إلى صواع الملك، فكيف استطاع أن يخرج من عند الملك يحمل ذلك الصواع دون أن يلحظ ذلك حراس بلاط القصر؟ ألم يكن في بلاط الملك من يحرس مقتنيات القصر؟
- وإذا استطاع هذا الأخ إخفاء ذلك عن حراس القصر، فكيف استطاع أن يخفيه عن أعين إخوته وبقية العير التي جاء فيها؟
- وماذا سيصنع هذا الأخ بصواع الملك بعد أن يرجع إلى بلاده؟ أم تراه يطمع في المادة المصنوع منها هذا الصواع وهو الذهب أو الفضة (الأمر الذي أشغل فكر سادتنا العلماء حول قضية الصواع)؟
- وهل تظن أن إخوة يوسف سيقتنعون بأن شيئا من المال (ذهبا كان أم فضة) سيدفع بأخيهم هذا الذي تربى في بيت والده يعقوب النبي أن يسرق؟
- وهل يظن هذا الأخ بأن والده يعقوب سيرضى بذلك متى ما اطلع على الأمر؟
- وإذا كان هذا الأخ لا يريد أن يخبر والده بأمر الصواع، فأين - يا ترى- سيستطيع أن يخبئ الصواع عنه؟
- وإذا استطاع أن لا يُطْلع والده يعقوب على ذلك، فكيف سيستطيع أن يخبئ ذلك عن كل إخوته؟
- الخ
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن الأمر قد دُبِّر على نحو محكم حتى يصبح من الممكن أن يقنع إخوة يوسف أنفسهم بأن أخاهم هذا قد سرق الصواع فعلا، فلا شك أن هذا الأخ لن يقع في السرقة (في ظن إخوته) من أجل شيء من حطام الدنيا الزائل (ذهبا كان أم فضة)، لذا لابد أن يكون هذا الشيء المسروق (أي الصواع) شيئا ثمينا جدا يستحق أن يُسرق، أي لابد أن يكون ذا قيمة عالية جدا لأجلها يمكن أن تسول لنفس هذا الأخ أن يسرقه.
السؤال: ما هو الذي يمكن أن يدفع بهذا الأخ (من أبناء بيت النبوة) أن يقع في السرقة من أجله؟
جواب: لابد أنه شيء ذو قيمة عالية جدا.
السؤال: ما هو ذلك الشيء إذن؟
جواب: من يدري؟!!!
لكن – لنتمهل قليلا- لابد أن لهذا الصواع (نحن نفتري الظن) علاقة مباشرة ووطيدة بالسقاية، وذلك لأنه ما أن تم استخرج السقاية من وعاء هذا الأخ حتى توقف البحث عن الصواع، أليس كذلك؟
سؤال: لماذا لم يحتج الإخوة على أن المفقود هو الصواع؟ فما دخل السقاية التي استخرجت من الوعاء بالصواع؟ لم لم يخرج من بين الإخوة من يقول بأن المفقود هو الصواع، فما بالكم تلصقون بنا تهمة السرقة من أجل السقاية؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: مادام أن إخوة يوسف لم يحتجوا على ذلك، فإننا نفتري الظن بأن الصواع الذي أذن المؤذن بفقدانه له علاقة مباشرة بالسقاية التي استخرجت من وعاء الأخ.
سؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن العلاقة بين الصواع والسقاية عي علاقة جزئية، فالصواع والسقاية (نحن نتخيل) كينونتان كان أحدهما جزءً من الآخر، لأن أحدهما أكبر حجما من الآخر.
تصوراتنا: نحن نتخيل أن الصواع والسقاية هما شيئان متلازمان مع بعضهما البعض، وأن أحدهما أكبر حجما من الآخر، فيتم وضع الصغير منهما داخل الكبير.
السؤال: ما هو الشيء الأكبر وما هو الشيء الأصغر، الصواع أم السقاية؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن السقاية أكبر حجما من الصواع، فالصواع هو جزء من السقاية.
السؤال: ذلك بالنسبة للحجم، فما بال قيمتهما؟ أيهما ذو قيمة أكبر السقاية أم الصواع؟
رأينا المفترى، بالرغم أن السقاية هي أكبر حجما من الصواع، إلا أن الصواع أكثر أهمية وأعلى قيمة من السقاية. لذا نحن نتخيل أن السقاية ليست أكثر من وعاء الغرض منها أن يحفظ الصواع فيها. فهي في ظننا عبارة عن شيء يشبه "الصندوق الصغير" حيث يوضع الصواع في داخله.
الدليل
لو تدبرنا النص القرآني لوجدنا أن الصواع قد نسب للملك ولكن السقاية لم تنسب إلى الملك:
قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72)
ولا شك عندنا أنه لا يضاف شيئا إلى الملك (رأس الدولة) شخصيا إلا أن يكون ذا قيمة عالية جدا.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: إن طرحنا السابق يقودنا إلى الاستنباط (ربما مخطئين) بأن الصواع هو شيء خاص جدا بالملك، وأن السقاية هي الوعاء الذي كان يوضع به ذاك الصواع للمحافظة عليه.
السؤال: ما هو ذاك الصواع ذو القيمة العالية الذي كان موجودا في السقاية كوعاء للحفاظ عليه كما تزعم؟ ربما يريد صاحبنا أن يسأل.
جواب: لابد أنه "شيء محدد بذاته" له علاقة مباشرة بعمل يوسف وفتيانه
السؤال: ما علاقة الصواع (الذي نحاول البحث عنه هنا) بعمل يوسف وفتيانه؟
جواب: لو تدبرنا النص القرآني جيدا لوجدنا أن يوسف لم ينتظر طويلا للخروج باحثا عن الصواع الذي فُقد. فلو كان الصواع من مقتنيات القصر، لربما لم يخرج يوسف باحثا عنه بهذه العجلة. والأهم من ذلك كله، لما حق ليوسف أن يصيح في العير كلهم:
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
فالمؤذن كان يؤذن في العير كلهم، أليس كذلك؟ ولا أظن بأن العير هم إخوة يوسف فقط، بدليل أن إخوة يوسف أنفسهم قد طلبوا من والدهم أن يسأل العير التي أقبلوا فيها:
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
نتيجة: كان المؤذن قد أذن بالعير كلهم أجمعين على أنهم سارقون. لذا من المنطقي أن نفتري الظن بأن كل واحد من العير جميعا كان له فرصة أن يسرق صواع الملك.
السؤال: مادام أن السرقة قد وجهت إليهم أجمعين، فكيف كان سيصل كل واحد من العير إلى صواع الملك؟ أي كيف كان يمكن لأي واحد من العير أن تصل يده إلى صواع الملك؟ فهل كانت الفرصة مهيأة لكل واحد من العير أن يلتقي بالملك في قصره لتصل يده إلى الوعاء الذي كان يشرب به الملك هناك (إن صح ما قاله سادتنا العلماء عن وظيفة ذاك الصواع)؟ فهل كان الوصول إلى الملك متاحا لكل من جاء إلى أرض مصر ليكتل؟ من يدري؟!!!
رأينا المفترى 1: نحن نظن (مفترين القول من عند أنفسنا) أنه من الاستحالة بمكان أن يكون لكل واحد من العير فرصة مقابلة الملك شخصيا أو الوصول إلى بلاطه. فدخول بلاط الملك لا يمكن أن يكون بهذه السهولة.
رأينا المفترى 2: لكن مع ذلك، نحن نظن (مفترين القول من عند أنفسنا أيضا) أنه كان بإمكان كل واحد من العير أن تصل يده إلى صواع الملك وإن لم يصل إلى بلاطه.
السؤال: وكيف ذلك؟ أليس ذلك هو التناقض بعينه؟ كيف لا تستطيع العير أن تصل إلى بلاط الملك لكنهم يستطيعون الوصول إلى صواع الملك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا خطير جدا جدا: لأن صواع الملك (نحن نظن) لم يكن موجودا في بلاط الملك ولكنه كان موجودا عند فتيان يوسف الذين كانوا يتولون مهمة الكيل للعير.
السؤال: لماذا؟ لماذا كان صواع الملك موجودا عند يوسف وفتيانه الذين يكتالون للعير؟
جواب: لأنه يستحيل على فتيان يوسف أن يقوموا بمهمتهم (أي الكيل للعير) دون وجود الصواع معهم.
سؤال: فهل هو المكيال الذي كانوا يكتالون به إذن؟
جواب: كلا وألف كلا، وذلك للأسباب التالية:
- أن هذا الصواع (كما أسلفنا) كان ذا قيمة عالية جدا يمكن أن يدفع بشخص مثل هذا الأخ أن يسرقه
- أن هذا الصواع له علاقة بالسقاية لأنه بمجرد استخراج السقاية من وعاء الأخ توقف البحث عن الصواع فورا
- لأن يوسف وفتيانه خرجوا يبحثون عنه على الفور
- وربما الأهم من ذلك كله أن يوسف قد قدم جائزة كبيرة لمن يجيء به:
قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72)
السؤال: هل يمكن أن تثار كل تلك الجلبة من أجل مكيال؟ وهل يحتاج العثور على مكيال أن يتم التضحية بمقدار كيل بعير؟ من يدري؟!!!
جواب مفترى:
- نحن نظن أن الصواع هو شيء ثمين يستحيل أن يعوّض وإلا لما خرج يوسف بنفسه باحثا عنه،
- كما نظن أنه مهم جدا لدرجة أنه يستحق أن يدفع مقابل العثور عليه جائزة كهذه،
- وهو ذات أهمية عظيمة لدرجة أن يُغري به شخص مثل هذا الأخ فيقع في جريمة السرقة من أجله،
- وهو موجود في مكان يمكن أن تصل إليه يد أي واحد من العير مادام أن المؤذن قد أذن بهم جميعا،
- والأهم من ذلك كله أنه صغير الحجم لدرجة أن من أخذه يستطيع أن يخفيه طوال الرحلة عن كل من هم حوله.
السؤال: ما هو إذن صواع الملك؟ ألن تتوقف عن المراوغة في الإجابة؟ يسأل صاحبنا وقد تعب من مطاردة الفكرة معنا.
جواب مفترى خطير جدا من عند أنفسنا: إنه الختم الخاص بالملك شخصيا (أو King’s stamp باللسان الأعجمي).
السؤال: وما هي السقاية؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: إنها "المحبرة" التي كان يوضع فيها ختم الملك (Hي صواع الملك)، أو بكلمات أكثر دقة، هي أداة الكتابة التي كانت تستخدم في التنمير الذي تحدثنا عنه في بعض الأجزاء السابقة.
تخيلات: نحن نتخيل أن يوسف وفتيانه كانوا يقومون بعملهم هذا (أي الكيل للعير) على نحو تسجيل كل مدخلات ومخرجات الدولة بالطريقة الرسمية (أي الصادر والوارد بمفردات السكريتاريا الحديثة)، ولا شك عندنا أن يوسف (الحفيظ العليم) كان يقوم بختم كل ما يدخل في خزينة الدولة وكل ما يخرج منها بخاتم الملك نفسه، ليتخذ الصفة الرسمية التي لا يمكن تزويرها أو التلاعب فيها. وكان يقوم بذلك (نحن لا زلنا نتخيل) باستخدام الصواع الذي تظهر فيه هوية الملك الشخصية، فما أن يختم الجهاز مثلا بختم الملك هذا (أي الصواع) حتى يكون قد أخذ الصفة الرسمية، وكان لابد لذاك الختم أن يتواجد في "المحبرة" التي تزوده بالحبر (إن صح القول) حتى يتم تنمير الأشخاص الذين تم الكيل لهم. فتتخذ السجلات التي تم ختمها بالصواع الطابع الرسمي الذي لا يمكن تزويره. فتصبح سجلات يوسف تظهر مقدار حفظه وعلمه.
وقد جاء كيد يوسف (نحن نتخيل) على نحو أن يأخذ السقاية (حيث يوضع الصواع) كلها فيجعلها في رحل أخيه، فيقوم أخوه هذا على الفور بنقل تلك السقاية بما فيها (أي الصواع) إلى وعائه الخاص، فيكون بذلك قد وقع في فعل السرقة، ولعلي أكاد الجزم الظن بأن جهاز أخ يوسف هذا كان هو الجهاز الأخير الذي جهزهم به يوسف بنفسه، وانظر – إن شئت- في الآية الكريمة التالية:
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
فبعد أن تم تنمير جميع الرحل، عمد يوسف إلى تجهيزهم جميعا بجهازهم، فختمت جميعها بختم الملك (أي الصواع)، فأخذت جميعها الطابع الرسمي. وما أن انتهى يوسف من ذلك حتى خرجت العير كلها من المكان الذي تم تجهيزهم فيه، فكانت وجهتهم إلى بلادهم. وما أن خرج أخر رحل في ذلك العير على وجه التحديد حتى يكون العمل قد توقف لبعض الوقت ليتم تجهيز عير أخرى قادمة من مكان آخر، فكل عير (نحن نظن) كانت تجهز منفصلة عن العير الأخرى. وانظر إن شئت في الفصل الزمني بين تجهيز الجهاز والآذان في العير بحرف العطف (ثُمَّ):
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
نتيجة: نحن نظن أنه كان هناك فارق زمني بسيط بين تجهيز الجهاز والآذان في العير بالسرقة، وهي في ظننا الفترة الزمنية التي كانت تفصيل بين تجهيز عير قادمة من مكان ما وعير أخرى قادمة من مكان آخر.
وما أن بدأ العمل بتجهيز عير جديدة (غير تلك العير التي أقبل فيها إخوته) حتى واجهت فتيان يوسف المشكلة الأولى على الفور وهي (نحن نتخيل) عدم وجود السقاية التي يوجد فيها الصواع ليتم تنمير هذه العير الجديدة وختم جهازهم بصواع الملك. عندها خرج فتيان يوسف مسرعين للبحث عن صواع الملك، فالمهم بالنسبة لهم هو الصواع نفسه لأنه خاص بالملك، يستحيل أن يتم تعويضه أو استبداله، والأهم من ذلك استحالة إتمام العمل دون وجود صواع الملك. فخرج مؤذنهم يؤذن بفقدانه بالعير التي سبقت:
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
ولحق بهم يوسف وفتيانه وربما بعض جنده في مكان قريب، وهناك بدأ البحث عن الصواع. لكن الملفت للانتباه أن البحث لم يتم في الرحل، ولكن في الأوعية:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
السؤال: لماذا؟ لماذا لم يبحث يوسف عن الصواع في رحل العير أو في جهازهم؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن هناك على الأقل سببان على الأقل يمكن أن يسوغا بحث يوسف عن الصواع في أوعية الرحل وليس في رحالهم أو في جهازهم:
1. لو تم العثور على الصواع في الرحل أو في الجهاز لما حق ليوسف أن يتهم أحدا بسرقته لأن يوسف وفتيانه هما من قاما بإعداد الرحل وتجهيز الجهاز
2. والأهم من ذلك – في ظننا- لأن الرحل الذي أعده فتيانه أو الجهاز الذي جهزهم هو بنفسه) كان قد تم ختمه بختم الملك (أي الصواع) ليتخذ الصفة الرسمية، فمن الاستحالة بمكان أن يخرج رحل أو جهاز من مكان الكيل دون أن يكون قد ختم بختم الملك قبل أن يخرج من هناك. لذا يستحيل (نحن نفتري القول) أن يتواجد الصواع داخل الرحل مادام أن استخدام الصواع يأتي بعد الانتهاء من تجهيز الجهاز. فلابد – نحن نتخيل- أن يتم البحث عنه في المقتنيات الشخصية للأشخاص الذين كانوا حاضرين هناك وليس في رحالهم التي أعدها فتيان يوسف أو في الجهاز الذي جهزهم به يوسف بنفسه.
منطقنا المفترى: نحن نظن أن الغلط الذي وقع فيه سادتنا العلماء أهل الدراية قد جاء من مصدرين:
- افتراضهم بأن السقاية هي الصواع وأن الصواع هو السقاية نفسها، فما حاولوا التفريق بينهما (انظر جميع التفسيرات الواردة من عند أهل العلم) بالرغم من تأكيدهم المستمر على خصوصية اللفظ القرآني واستحالة أن تحل لفظة مكان أخرى. وهذا دليل – كما زعمنا أكثر من مرة- أن عقيدة سادتنا العلماء غالبا ما تضاربت مع ممارساتهم، ففي حين أن عقيدتهم تنص بأن كل لفظ في القرآن الكريم مقصود بذاته، لا تنفك تفسيراتهم عن تركيب الألفاظ على بعضها البعض دون وجه حق، فالصواع هو سقاية والسقاية هي صواع، وهكذا. ولو سألتهم عن خصوصية اللفظ القرآني لما انفكوا أن يتغنوا به ليل نهار، في حين أن مثل كتاباتهم هذه تكذب عقائدهم تلك. ولو ألححت في السؤال عن الفرق، لربما احتجت أن تسمع منهم ساعات وساعات عن أصول التفسير التي لا يملك ناصيتها إلا علماؤهم الذين ما ولدت النساء من أمثالهم. وأنا مالي؟!!!
- ربط مفردة السقاية بالشراب الذي يتناوله الإنسان فقط. فهم يظنون (ربما محقين) بأن السقاية لا تكون إلا من أجل تقديم الشراب للبشر (كالملك مثلا)، ولعلي أجزم أنهم قد ربطوا السقاية بما جاء في قصة يوسف في الآيات الكريمة التالية:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
بينما نظن نحن (ربما مخطئين) بأن السقاية هي مفردة عامة يمكن أن تنسب للبشر ولأشياء أخرى.
الدليل
لو تدبرنا السياقات القرآنية الأخرى الخاصة بـ "السقي" ومشتقاتها، لوجدنا - لا شك عندنا - أن موسى قد سقى للامرأتين اللتين وجدهما عند ماء مدين:
وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
السؤال: كيف سقى موسى لهما؟ وماذا سقى لهما؟ من الذين شربوا؟ وكيف كانت آلية السقاية التي قام بها موسى؟ فما الأداة التي استخدمها موسى في تلك السقاية؟
ولو رجعنا إلى قصة بقرة بني إسرائيل لوجدنا أن البقرة هي نفسها ما كانت تسقي الحرث:
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71)
السؤال: إذا كانت هذه البقرة على وجه التحديد لا تسقي الحرث، ألا يدل ذلك على أن هناك بقر يمكن أن يسقي الحرث؟
هناك سياقات قرآنية كثيرة تتحدث عن سقاية الزرع:
وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
السؤال: كيف يمكن سقاية الزرع؟ وما هي أدوات سقاية الزرع؟ وهل يسقى الزرع فقط بماء المطر؟ وماذا عن سقاية الزرع بغير ماء المطر كالري مثلا؟
والله أنزل من السماء ماء ليسقينا:
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
السؤال: هل نفتح أفواهنا للماء النازل من السماء لنشرب منه مباشرة؟ وإذا استطعنا أن نفعل نحن البشر ذلك، فهل تقدر على ذلك الأنعام؟
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
والله أسقانا من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا لكل الشاربين:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
السؤال: كيف نشرب من اللبن الذي أسقانا الله إياه من بطون الأنعام؟
ثم، أليس الله هو من يطعمنا ويسقينا؟
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
فكيف يتم ذلك؟ وما هي الأدوات التي تستخدم؟
وها هم المعذبون في جهنم يسقون من ماء صديد:
مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
فهل تقتصر السقاية إذن على الماء فقط؟
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا (16)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا (27)
نتيجة: لا شك عندنا أن الشراب الذي يسقى له مصدره الذي يخرج منه:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
ولا شك أن هناك الأداة التي يتم بها فعل السقاية:
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن السقاية هي الأداة التي تمد بالسائل (بغض النظر عن نوعه سواء كان ماء فراتا أو ماء صديدا، وبغض النظر عمن يشربه سواء كان من الأناسي أو من الأنعام، الخ.)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن السقاية هي عبارة عن وعاء أو إناء يتم وضع سائل ما فيه للاستخدام
تخيلات: لمّا كان صواع الملك هو عبارة عن الختم الرسمي للدولة التي لا يمكن للمعاملات الرسمية حينئذ أن تتم بدونه، كان لابد أن يكون متواجدا على الدوام في المكان الذي يستخدم فيه، ولا شك أن وجود ذلك الصواع هناك كان بمثابة وجود الملك نفسه، فما تم ختمه بصواع الملك، فهو إذن لا محالة نافذ بأمر الملك نفسه، ومن هنا (نحن نظن) تكمن أهميته.
السؤال: لماذا خرج القوم على الفور يبحثون عن الصواع؟ هل كان ذلك بسبب قيمته المادية كأن يكون مصنوعا من الذهب أو الفضة (يا أهل العلم)؟ نحن نصيح.
رأينا المفترى: كلا، نحن نظن أن قيمته أكبر من ذلك بكثير، فذاك الصواع يمثل الدولة المصرية كلها لأنه هو أمر الملك نفسه، فلو استطاع أحد أن يحصل على ذلك الصواع وقام بكتابة رسالة إلى قائد الجند مثلا، وطلب منه في تلك الرسالة أن يشن حربا، لما تردد قائد الجند عن فعل ذلك متى ما وجد أن الرسالة قد "صُوِّعت" (أي مهرت بختم الملك وهو الصواع). فالمراسلات والوثائق الرسمية تعتبر (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) سارية المفعول بمجرد أن تُصوَّع (إنْ صح القول).
نتيجة: لو تدبرنا السياق القرآني لوجدنا أن ما كان يهم يوسف وفتيانه هو العثور على الصواع وليس على السقاية (لأن السقاية يمكن تعويضها وهي لا تخص الملك) ولكن لا يمكن تعويض الصواع أو الاستغناء عنه لأنه يمثل الملك نفسه.
السؤال: ماذا لو فقد الصواع فعلا؟ ما الذي يمكن أن يحدث؟
جواب: لأصبح الجميع محاسبون أمام الملك عن ذلك، ولشكل فقدان الصواع إرباكا للدولة المصرية بأكملها حينئذ.
السؤال: هل يمكن أن يقتنع إخوة يوسف أن أخاهم هذا سارقا إن كان ظننا هذا صحيحا؟
جواب: بكل تأكيد. لأن هذا الأخ قد عمد إلى سرقة الدولة المصرية بأكملها. فمادام أنه امتلك صواع الملك، فهو يستطيع أن يتصرف كالملك نفسه.
السؤال: لماذا؟
جواب: نحن نظن أن إخوة يوسف على قناعة بأن أخاهم هذا لا يمكن أن يقع في جرم السرقة إلا من أجل غنيمة عظيمة كما فعل أخ له من قبل (أي يوسف)، وهذا ما انطلقت ألسنتهم على الفور للتصريح به:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
فلقد قارن إخوة يوسف سرقة أخيهم هذه بسرقة سابقة (هم يظنون) أن أخ له من قبل قد ارتكبها.
السؤال: لماذا؟ لماذا تمت المقارنة على الفور مع يوسف؟
جواب: لأن الإخوة يظنون أن هذان الأخوين (يوسف وأخيه) قد ارتكبا فعلا جريمة السرقة ولكن من أجل أمر جلل. فكيف ذلك؟
رأينا المفترى 1: نحن نعتقد أن إخوة يوسف يظنون أن أخاهم يوسف قد أقدم على سرقة شيء ما في الماضي من أجل حيازة ميراث النبوة بأكمله (أي من أثر النبي)
رأينا المفترى 2: نحن نعتقد أن إخوة يوسف يظنون أن أخاهم هذا قد أقدم على سرقة الصواع هذا من أجل حيازة شيء من الملك (أي من أثر الملك)
السؤال: وهل فعل كان يوسف سارقا؟
جواب: نحن نظن أن الإخوة كانوا مقتنعين تماما بأن أخاهم يوسف قد كان سارقا فعلا.
السؤال: وماذا كان الشيء –حسب ظن إخوته- الذي سرقه يوسف؟
جواب: لقد كان ظن الإخوة أن يوسف قد سرقا شيئا من ميراث النبوة ألا وهو (كما زعمنا في الأجزاء الأولى من هذه المقالة) القميص.
الدليل: وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ
لو تدبرنا الآية الكريمة التي قارن فيها إخوة يوسف سرقة أخيهم هذا بسرقة يوسف المزعومة سابقا لوجدنا شيئا عجيبا يخص وصف ما قاله الإخوة كما جاء على لسان يوسف نفسه:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
فعند قراءة هذه الآية الكريمة، رجعنا نبحث عن كيفية وصف يعقوب نفسه كلام أبناءه عندما جاءوه بخبر موت يوسف:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
وقد استوقفتنا مفردة "تَصِفُونَ" التي استخدمت في هذين السياقين، فدعتنا الحاجة إلى جلب السياقات الخاصة بالكذب، فوجدناها في كتاب الله على ثلاثة أشكال وهي:
1. أن تصف الكذب
وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (62)
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
2. أن تفتري الكذب
انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا (50)
مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (103)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60)
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69)
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116)
3. أن تقول الكذب
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
السؤال: ما الفرق بين أن تصف الكذب وأن تفتري الكذب وأن تقول الكذب؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نعتقد أن الذي يكذب يكون على حالات ثلاثة وهي:
1. أن يظهر لغيره بأنه مقتنعا بأن ما يقوله صحيحا، وهذا هو (في ظنن) الذي يصف بلسانه الكذب:
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116)
فأهل العلم الذين يحلّون هذا ويحرمون ذاك يفعلون ذلك بطريقة الوصف، لقناعتهم (كما تبين للآخرين من حولهم) بأن ما يقولونه لهم صحيحا، لكن الهدف من ذلك هو أن يفتروا على الله الكذب، ليمرروا العقائد المزيفة بالأدلة التي يظن الناس أنها موصوفة (أي صحيحة برأي أهل العلم). فهم يقولون لك بأن الرجل منا لا يستطيع مثلا أن يتزوج بأكثر من أربعة نساء مستشهدين بالآية الكريمة التالية:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (3)
ولو سألتهم عن سبب أن يكون الرسول محمد هو أول من خالف هذه العقيدة التي جاء بها من عند ربه عندما تزوج بأكثر من هذا العدد من النساء، لجاءوك بالدليل تلو الدليل واصفين ما فعله محمد بأنه صحيح (وهم يظنون أنهم بذلك يدافعون عن محمد)، ولكن هدفهم هو – لا نشك قيد أنملة- افتراء الكذب من أجل غاية واحدة، ألا وهي إثبات صحة العقيدة التي يؤمنون بها هم دون غيرها من شرائع الأرض الأخرى. إنها العقائد المسبّقة التي تنكسر عندها كل أمواج التصحيح. فهم يرفضون كل فكرة (مهما كان مصدرها ومهما كانت درجة معقوليتها) مادام أنها تخالف ما وصفوه كذبا من عند أنفسهم. وأنا مالي؟!!!
2. أن يكون من يكذب شاكّا في كذبه، يحتاج أن يدلّل عليه، وهذا هو (نحن نظن) الذي يفتري الكذب
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69)
فالذين نسبوا لله الولد لا يملكون الدليل على ذلك، وما عندهم ليس أكثر من ظن قد يكون بعضه إثما، ولكنهم لا ينكرون ذلك. فهم على قناعة بأن كلامهم افتراء يمكن أن يثبت أو أن يرد بالدليل (البرهان).
3. أن يكون من يكذب عارفا تماما بأنه يكذب، وهذا هو (نحن نظن) الذي يقول الكذب:
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
ولا شك أن هؤلاء الذين يعرفون الحق، ولكنهم يكذبون عن علم افتراء أو قولا، يمكن أن نجدهم على فئتين:
أ. من يلبسون الحق بالباطل عن علم
ب. ومن يكتمون الحق عن علم
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
السؤال: إذا كان هناك من يصف الكذب بلسانه وصفا، وهناك من يفتري الكذب افتراء وهناك من يقول الكذب قولا، فأين يمكن أن نضع إخوة يوسف في هذا التصنيف المفترى من عند أنفسنا؟
جواب مفترى: نحن نعتقد أن إخوة يوسف لم يكونوا يفترون الكذب لأنهم لم يكونوا مضطرين لتقديم الدليل، ولا أظن أنهم كانوا يقولون الكذب لأنهم لم يكونوا قاصدين الكذب من أجل قول الكذب نفسه، فهم أبناء أنبياء وهم ورثة بيت النبوة. ولكني أجزم الظن بأنهم كانوا يصفون الكذب بألسنتهم، وذلك لأنهم كانوا (نحن نظن) يحاولون أن يقنعوا من حولهم بصحة المعلومة التي يريدون إيصالها حتى وإن كانت كاذبة. فهذا والدهم يعقوب يرى إصرار أبناءه على ما يصفون له:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
لذا فهو يريد أن يوصل رسالة لأبنائه مفادها (نحن نظن) أنكم مصرين على الكذب لأنكم تحاولون جاهدين أن تقنعوني بأن ما حصل ليوسف كان صحيحا. فأنا أعلم مقدار إصراركم على المعلومة، لكن هذا لا ينفي عنها طابع الكذب.
وهذا يوسف يعيد على مسامعهم تماما ما قاله والده لهم من قبل، فينعت كذبهم بأنه جاء من باب الوصف:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
ويكأن يوسف يقول لهم – نحن نتخيل- أنني على يقين بقناعتكم بما تقولون، لكن هذا لا ينفي أن يكون ما قلتموه بحقي هو من باب من يصف الكذب بلسانه وصفا.
السؤال: لماذا كان إخوة يوسف ربما على قناعة بأن يوسف كان سارقا؟
السؤال: ألم يكن أخوه هذا سارقا؟
السؤال: فما الذي يمنع أن يكون يوسف قد سرق فعلا؟
السؤال المهم جداً: لماذا لا يريد يوسف أن تلقى عليه تهمة السرقة وهو الذي بذل كل جهده لإلصاقها بأخيه لكي يأخذه في دين الملك؟ فلماذا يتنصل يوسف من تهمة هو (دبرها بنفسه) لتلصق بأخيه؟
رأينا: نحن نظن أن الذي فعله يوسف في الزمن الماضي كان سرقة (من وجه نظر الإخوة) لكنه لم يكن سرقة من وجه نظر يوسف نفسه. ولكن كيف يكون ذلك؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن يوسف كان قد عمد في الماضي إلى القيام بفعل ما تقع فيه شبهة السرقة، فقام إخوته بتفسيره على أنه يقع في باب السرقة فعلا، فكان يوسف في نظرهم سارقا، بينما كان من وجه نظر يوسف غير ذلك، فلا يقع في باب السرقة إطلاقا.
السؤال: ما الذي فعله يوسف واختلف الإخوة في تفسيره؟
جواب: إنه نوع من الشر. وانظر – إن شئت- في رد يوسف نفسه على اتهام إخوانه له بالسرقة:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
ألا ترى - عزيزي القارئ- أن يوسف لا ينفي عن نفسه "بعض الشر"؟ أليس إخوته أكثر شرا منه؟ ألا يكون هو بذلك أقل شرا منهم؟
السؤال: ماذا كان ذاك الشر (بغض النظر عن حجمه) الذي فعله يوسف وولد في ضمائر الإخوة جميعا بأنه سرقة ارتكبها يوسف في الزمن الماضي؟
رأينا: إنها حيازة يوسف شيئا من إرث النبوة كان الإخوة يتنافسون فيما بينهم على حيازته.
السؤال: كيف ذلك؟
جواب مفترى: لقد كان الإخوة على قناعة تامة بأن هناك شيء من إرث للنبوة موجود في بيت والدهم يعقوب وصل إليهم من عند جدهم إبراهيم، وأن هذا الإرث قد حاز عليه يوسف من دونهم جميعا، ففسروا ذلك على نحو أن يوسف قد أخذه بطريقة غير شرعية (السرقة) بالضبط كما فعل أخوه هذا عندما حاول أن يحيز على شيء من مقتنيات الملك، فتم ربط الحادثتين مع بعضهما البعض كما تصور ذلك الآية الكريمة نفسها أحسن تصوير:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
فالإخوة – نحن نتخيل- يظنون أن ما قام بهم هذا الأخ يشبه تماما ما فعله أخوه يوسف من قبل.
السؤال: هل كان يوسف فعلا سارقا؟
جواب: لو تدبرنا الآية الكريمة لوجدنا أن يوسف لم يرد التهمة عن نفسه على العلن، وجل ما فعل حينئذ هو أنه أسرها في نفسه ولم يبدها لهم (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا).
السؤال: لماذا أسرها يوسف في نفسها؟ لماذا لم يرد التهمة عن نفسه؟
السؤال: كيف أسر يوسف الأمر في نفسه؟ وكيف أنه لم يبدها لهما؟ وما الفرق بين أن يسرّ يوسف الأمر في نفسه وأن لا يبدها لهم؟
رأينا: نحن نظن أن يوسف قد أسر الأمر في نفسه عندما سكت عن رد التهمة عن نفسه، فهو لم يحاول أن يناقش الأمر مع إخوته، واكتفى بالقول:
... أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ
السؤال: كيف بيوسف لا يبدي ذلك لهم؟ ألم يقل ذلك في حضورهم؟
جواب مفترى: نحن نتخيل أنه ما أن سمع يوسف ما قاله الإخوة بحقه حتى سكت على مضض (كما يقولون) عما يصفون بألسنهم من الكذب، فلم يرد لهم التهمة وجها لوجه، ولكنه أشاح بوجه (نحن نتخيل) عنهم وقال بصوت منخفض لم يسمعه الإخوة (أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ)
السؤال: لماذا؟ لماذا لم يحاول يوسف أن يقول ذلك على العلن؟ ولماذا قالها بعيدا عن سمع إخوته كما تزعم؟ يسأل صاحبنا.
رأينا المفترى: نحن نتخيل بأنه لو قال يوسف لهم ذلك (أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ) وجها لوجه وعلى سمعهم، لربما انكشف أمره على الفور، ولكن كيف ذلك؟
السؤال: تخيل - معي عزيزي القارئ- أن يوسف قد رد التهمة عن نفسه وعن أخيه في تلك اللحظة بالقول العلني (أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ)، ألن يشك الإخوة حينها بأمره؟ ألا يحق لهم حينها أن يسألوه: كيف بك تكذب قولنا وأنت لا تعرفنا؟ وكيف بك تصدق أن يوسف لم يسرق إذا كنت لا تعرفه؟ هل لك أن تدلنا – ربما كان الإخوة سيسألون حينها- كيف عرفت أننا كاذبون وأن يوسف ذاك لم يسرق؟ لماذا تقف في طرف فريق منا وأنت لا تعرفنا؟
السؤال: لماذا لم ينفي يوسف عن نفسه ارتكابه لبعض الشر؟
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
فهل كان في يوسف بعض الشر؟ نحن نسأل.
جواب نعم، بكل تأكيد. لقد وقع يوسف في شيء من الشر لأن يوسف لم ينفي احتمالية نجاح الشيطان في بعض مهامه التي كانت تخص يوسف نفسه. وانظر – إن شئت- في الآية الكريمة التالية التي جاءت على لسان يوسف نفسه:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
نتيجة: لا شك إذا أن الشيطان قد نزغ بين يوسف وبين إخوته. فكيف تم ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن المنافسة كانت شديدة جدا بين يوسف وإخوته جميعا على بعض ميراث النبوة، فكان كل طرف يحاول أن يستأثر به لنفسه، ولم ينفي يوسف رغبته في ذلك، ولكن الإخوة حاولوا جاهدين منع يوسف من الحصول عليه، بينما كان يوسف يطمع بالحصول عليه ولكنه لم يكن ليمنعهم من ذلك لو تبين له أن أحقيته امتلاك ذلك الإرث تذهب لأحد منهم دونه. فالفرق بين يوسف وإخوته كان على نحو التالي:
- كان يوسف يحاول أن يحصل على بعض ميراث النبوة ولكنه لم يسعى في منعه عن غيره
- كان إخوته يحاولون الحصول على ميراث النبوة وفي الوقت ذاته كانوا يحاولون منع يوسف من الوصول إليه.
لذا، نحن نفتري أن الشر الذي كان لا محالة واقع بينهم كان فيهم أكبر منه في يوسف، ومن هذا الباب نحن نفهم قول يوسف (أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا)
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
ويكأن يوسف يقول لهم، لو أنكم كنتم مكاني لكنتم أكثر شرا مني، لذا يصبح المشهد على النحو التالي:
تخيلات: يصل بعض ميراث النبوة إلى يوسف، فيحرص عليه ليكون من نصيبه، فلا يعطيه لأحد من إخوته، ولا يطلع أحدا من إخوته عليه، وما أن انكشف الأمر للإخوة حتى وصوفوا ذلك الفعل بألسنتهم بأنه يقع في باب السرقة، ولكن لما كان الأمر بينهم يقع في باب التنافس، كان أحدهم لا محالة سيحصل عليه لنفسه، ولما وقع في يد يوسف لم ينظر للأمر على أنه سرقة، بل نظر إليه على أنه أحقية، فجاء قوله لهم على نحو:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
السؤال: ما هو ذاك الإرث الذي كان الإخوة يتنافسون فيما بينهم للحصول عليه؟
جواب: إنه القميص الذي سيلقى في نهاية القصة على وجه الوالد الكظيم ليرتد بصيرا:
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
تساؤلات
- كيف وصل هذا القميص إلى يوسف؟
- من أين جاءه هذا القميص؟
- كيف استطاع يوسف الاحتفاظ به كل هذه السنوات؟
- وأين ذهب هذا القميص بعد أن ألقى على وجه الوالد الكظيم؟
- الخ.
هذه بعض التساؤلات التي سنثيرها عن حكايتنا المفتراة عن ذلك القميص العظيم في الأجزاء القادمة من هذه المقالة إن شاء الله.
فالله وحده أسأل أن يعلمني وصاحبي عليّا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل فضله علينا عظيما، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمّه ولو كره الكافرون، ونعوذ به أن نكون ممن يفترون عليه الكذب أو ممن يقولون عليه ما ليس لهم بحق، ونعوذ به أن نكون ممن يصدون عن سبيله أو ممن يبغونها عوجا - إنه هو العليم الحكيم.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
وأساله وحده أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري، إنه هو الواسع العليم – آمين.
27 نيسان 2014