ماذا كُتِب في الزبور؟ 1
"أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"، أليس كذلك؟ قال تعالى:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الأنبياء (105)بعد مراجعة كتب التفسير وأقوال السادة العلماء حول مضمون هذه الآية الكريمة نجد لزاماً القول أنهم قد أخفقوا في توصيل المراد للناس، والسبب في رأينا يتمثل في أمرين اثنين:
1. عدم قدرتهم على فهم مفردات القرآن فهماً دقيقاً للخروج
باستنباطات صحيحة عن مراد الآيات القرآنية
2. أنّ تفسيراتهم كانت على الدوام مدفوعة بعقائدهم المسبّقة،
فهم لا يفسرون آيات الكتاب الكريم كما يجب أن تفسر )بناء على ما
يتحمله النص نفسه من معاني(، ولكنهم
غالباً ما يفسرونها بناء على عقائد ومعتقدات راسخة لديهم، فعند الحديث عن الآية
السابقة نجد أن المفسرين ينطلقون من المبدأ الراسخ لديهم أن هذه الآية تنطبق
على أمة محمد، لذا فمهما اختلفت التفسيرات تعود لتتلاقى في النهاية مع النتيجة
الحتمية لديهم وهي أنّ الآية تنطبق على أمة محمد، الأمر الذي غالباً – في
رأينا- ما غطّى على الحقيقة الصارخة التي تقدمها الآية القرآنية نفسها، وسنحاول
الخوض في الآية الكريمة السابقة لإثبات زعمنا هذا.
مما لا شك فيه أن الآية تتحدث عن واحدة من سنن الله
الكونية التي لا تبديل لها، فالله قد كتب في الزبور من بعد الذكر ما يلي: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ.
والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل قارئ لهذه الآية الكريمة
هو: كيف يكون ذلك؟ أي: كيف يرث عباد الله الصالحون الأرض؟ وماذا عن عباد الله غير
الصالحين؟ ألا يسكنون الأرض ويرثوها؟ ثم يأتي السؤال الأكبر وهو: كم عدد عباد الله
الصالحين المجودون على الأرض مقارنة بعباد الله غير الصالحين؟ ألا يوجد عدد أكبر
من الناس الذين يأكلون ويتمتعون (لا بل ويملكون) الأرض وهم (ربما) لا يعبدون الله
أصلاً؟ فكيف يمكن تفسير هذه المشاهدات وغيرها في سياق الحديث عن الحقيقة القرآنية
التي تقدمها هذه الآية الكريمة؟ أما السؤال الذي سـيسبـب الحرج لكل علماء المسلمين
هو: أين هي أمة محمد (المقصودة في هذا الخطاب حسب رأيهم) التي ترث الأرض؟ (لاحظ أن
الحديث عن الأرض أي الحياة الدنيا وليس الحياة الأخرى)
للإجابة على هذه التساؤلات لابد (قبل كل شيء) من وضع كثير
من المعتقدات السابقة خلفنا، والخوض في هذه الآية الكريمة غير متسلحين بأفكار
مسبّقة تجعل من الصعب اكتشاف الحقيقة، فنحن لن ننطلق إذاً – كما فعل غالبية علماء
المسلمين- من الافتراض المبني على الشوفانية الذاتية بأن هذه الآية الكريمة تخصنا
نحن المسلمين، لذا سنترك الافتراض العقائدي أننا نحن عباد الله، وأننا نحن
الصالحون، وأن ...، وأن ... الخ.
المفارقة الأولى:
إذا صح افتراض غالبية علماء المسلمين أن الآية تخص أمة
محمد، فهل كان المسلمون على الدوام هم ورثة الأرض؟
إن المفارقة العجيبة في أقوال علماء المسلمين تكمن في أن
المسلمين في فترات التاريخ المتعاقبة لم يكونوا على الدوام ورثة الأرض، ولم يشكّلوا
على الدوام الحضارة الأبرز والأقوى التي تهيمن على غيرها من أمم الأرض، فكيف بهم
يكونون ورثة الأرض كما تنصّ الآية الكريمة؟
وهنا يأتي دور التأويل: غالباً ما يعزي علماء المسلمين عدم
قدرة وراثة المسلمين للأرض إلى المسلمين أنفسهم، ظانين أن هذا القانون الرباني
ينطبق عليهم يوم أن يكونوا هم سادة الحضارة، ويتعطل هذا القانون الإلهي إن هم
تخلفوا عن ركب الحضارة، وهكذا. وربما يغيب عن بالهم (عن قصد أو عن غير قصد) أنّ
هذه الآية الكريمة تقدم واحدة من سنن الله الكونية النافذة على الدوام، التي لا
يجوز أن نفهم أنها تتحقق أحياناً وتغيب أحيانا أخرى، فإذا ما كانت الغلبة للمسلمين
انبروا ليتغنوا بمضمون هذه الآية (وأظن أنهم قد فعلوا ذلك أيام كانت السطوة لحاكم
المسلمين)، وإذا لم تكن الغلبة لهم أغفلوا مضمون هذه السنّة الإلهية (وأظن أنه مما
يندر أن تقرأ هذه الآية على منابر الخطباء في هذا الزمن)، ويكأنها قد تعطلت لفترة
من الزمن، منتظرة حتى يعيد التاريخ دورته من جديد ويتولوا هم زمام ركب الحضارة من
جديد.
إن هذه المواقف العقائدية المسبّقة والمتمركزة حول الذات هي ما تغشي
الأبصار أن ترى من أكثر من زاوية، وتصمّ الأذان عن سماع ما لا يطربها، وتقفل
القلوب عن فهم الحقائق كما هي فعلاً (كما أرادها الله)، وليس كما نحبها ونريدها
(نحن المسلمين) أن تكون.
إن فهم مضمون هذه السنّة الإلهية الكونية يتطلب منّا
الغوص أولا (وقبل كل شيء) في مفردات الآية نفسها، الأمر الذي - إن تحصّل لنا (بحول
الله وتوفيقه)- سيمكّننا من الخروج باستنتاجات عقائدية جديدة (ربما تكون أكثر
وجاهة مما سلف)، وليس بآراء فردية أو جماعية أو طائفية أو ...، الخ.
وهنا لا بد من التعرض لكل مفردة من مفردات الآية الكريمة
نفسها، ونعيدها هنا لنتأمل مفرداتها الواحدة تلو الأخرى:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ
بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الأنبياء (105)
والمفردات هي إذاً على النحو التالي:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ
إنّ الفهم الدقيق والصحيح لكل واحدة من هذه المفردات
(كما ترد في السياقات القرآنية وليس كما يقدمها أهل الشريعة أو أهل اللغة أو أهل
...) هي الركيزة الأولى للوصول إلى الاستنباطات السليمة، ولنبدأ بالمفردة الأولى
وهو كلمة "ولقد"
وَلَقَدْ
غالباً ما أصر أهل اللغة على مواقفهم اللغوية التي إنْ
صحت تتطلب مراجعات عقائدية ليستقيم الأمر اللغوي مع الموقف العقائدي، وكلمة
"قد" هي – في ظننا- واحدة من هذه الأمثلة التي تبين مثل ذاك التنافر
الظاهر بين الرأي اللغوي من جهة والموقف العقائدي من جهة أخرى، فأهل اللغة يظنون
أن كلمة "قد" تفيد التوكيد إذا دخلت على الفعل الماضي بينما تفيد
التشكيك إذا دخلت على الفعل المضارع (فهذا على الأقل ما نشأت عليه أنا من فهم منذ
الصف السابع ج)، فالفرق لديهم بين قولنا "قد زرته" مثلاً و قولنا
"قد أزوره" هو أنّ فعل الزيارة قد تأكد في حالة الماضي وذلك
لورود كلمة "قد" مصاحبة للفعل الماضي (زرته)، أما في حالة
الفعل المضارع ففعل الزيارة غير مؤكد وذلك بسب ورود كلمة قد مصاحبة للفعل
(أزوره)، والأمثلة وافرة في اللغة على مثل هذا الظن لمعنى "قد" في
العربية.
السؤال: كيف يمكن التوفيق بين هذا الفهم اللغوي والموقف
العقائدي الذي يمكن أن ينتج عنه في السياقات القرآنية التالية؟
قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ البقرة (144)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ
ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
الأنعام
(33)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ۚ
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ۚ
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ النور (63)
أَلَا
إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ
قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النور
(64)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ
وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ
وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا الأحزاب
(18)
راقب – عزيزي القارئ- التلازم الحاصل بين "قد"
والفعل المضارع في جميع السياقات القرآنية السابقة، فهل هذا يعني أن الرؤية غير
مؤكدة في قوله تعالى "قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ" أو أن العلم غير
مؤكد في قوله تعالى "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ" أو
في قوله "قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا" أو في
قوله "قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ" أو في قوله تعالى "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ"؟
إن المخرج من هذا مثل "المأزق" يتمثل – في
رأينا- بواحدة من سيناريوهين اثنين وهما:
1. إما أن تكون تصوراتنا اللغوية خاطئة وتحتاج حينئذ
للتصحيح والمراجعة، كأن نراجع استنباطاتنا القواعدية بناء على مثل هذه النصوص
القرآنية، ونتخلى عن تلك التصورات اللغوية السائدة، فنتخلى عن القول بأن
"قد" – مثلاً- تفيد التشكيك مع الفعل المضارع، بدليل مثل هذه السياقات
القرآنية التي ذكرناها سابقاً.
2. أو أن نلتزم بتلك الأفهام اللغوية، ونطبقها على النصوص
القرآنية بغض النظر عن ما ستؤول إليه الأمور، وبغض النظر عن الاستنباطات العقائدية
التي ستبنى على مثل هذه الأفهام، كأن نلتزم بأن "قد" – مثلاً- تفيد
التشكيك إذا التصقت بالفعل المضارع، وعندها يجب أن تكون لدينا الجرأة الكافية في
أن نقول أن فعل الرؤيا في قوله تعالى "قَدْ
نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ"
غير يقيني، أو أن علم الله غير مؤكد في قوله تعالى "قَدْ نَعْلَمُ
إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ" أو في قوله "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ
لِوَاذًا" أو في قوله "قَدْ
يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ"
أو في قوله تعالى "قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ"
(لمعرفة موقفنا في هذه القضية المحورية ندعو القارئ إلى
مراجعة سلسلة مقالاتنا تحت عنوان هل
لعلم الله حدود؟)
مثال
ولا يظنن أحد بأن هذه أمور قليلة الحدوث أو غير جدّية في
عواقبها، فالأمر سيترتب عليه اختلافات وتحولات عقائدية كبيرة جداً، وسنحاول تقديم
بعض الأمثلة على ذلك. فلو سألنا أحداً سؤالاً بسيطاً عن الآية القرآنية الكريمة
التالية:
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ
فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ
ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
لماذا جاءت مفردات " وَرَسُولُهُ" في هذه الآية الكريمة مرفوعة وليست مجرورة أو
منصوبة؟
لانبرى علماء الإسلام بتبريراتهم اللغوية لإثبات أن
الحركة الإعرابية (وهي حركة الرفع) ضرورة لابد منها، حتى يستقيم المعنى (والقارئ مدعو لمراجعة أقوال العلماء حول مثل
هذه القضايا)، ولكن ما يهمنا هنا هو طرح السؤال نفسه: هل هذا ما تفعلونه في كل
المواقع الأخرى من كتاب الله؟
إن كان كذلك، فما رأيكم بأن نجري مقارنة بين سياقين
قرآنيين مستخدمين نفس التبرير اللغوي الذي يقدمه علماء المسلمين؟
السياق الأول: من الذي يُؤتي؟
قال تعالى في السياق التالي:
وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ
رَاغِبُونَ التوبة
(59)
هل يؤتي الرسول الناس من فضله (أو من فضل ربه)؟ أي، هل
يقوم الرسول بفعل (سَيُؤْتِينَا)؟
الجواب: نعم، ولكن
لماذا؟
الآن لنراقب الحركة الإعرابية لمفردة "وَرَسُولُهُ" التي وردت في هذه الآية الكريمة
مرتين، لنسأل: ما هي الحركة الإعرابية الظاهرة على الكلمة؟
الجواب: حركة الضم (الرفع)، وسيكون رد علمائنا الأجلاء يتمثل
بالقول بأن الواو في كلمة َوَرَسُولُهُ هي واو العطف، فكلمة رسوله معطوفة على كلمة " اللَّهُ"
المرفوعة أصلاً بالضم، وذلك ليستقيم المعنى بأن الله سيؤتي هؤلاء الناس من فضله
وكذلك سيفعل نبيه (سيؤتي هؤلاء الناس من فضله أو من فضل ربه)، ففعل الإيتاء (آتَاهُمُ، سَيُؤْتِينَا) سيشترك فيه الله ورسوله:
فالله يؤتي من فضله والرسول يؤتي من فضله (أو على الأقل الرسول يؤتي هؤلاء الناس
من فضل الله)، فالفضل كله لله ولكن القيام بالإيتاء (آتَاهُمُ،
سَيُؤْتِينَا) سيكون من الله أولاً ومن رسوله من بعده. كلام بسيط وسهل
ومفهوم ونقبله بلا تحفظ، أليس كذلك؟
السياق الثاني: من الذي يُغني؟
والآن لنطبق المنطق اللغوي السابق نفسه على الآية
الكريمة التالية:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا
وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا
بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ۚ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ ۖ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
التوبة (74)
راقب – عزيزي القارئ- الحركة الإعرابية الظاهرة على كلمة
" وَرَسُولُهُ"، أليست هي حركة الضم كما في الآية السابقة؟ أليست
كلمة وَرَسُولُهُ معطوفة على كلمة اللَّهُ (اللَّهُ وَرَسُولُهُ) كما في الآية السابقة؟ إذن،
لنطبق المنطق السابق نفسه، ونرى الفهم الذي سنخلص إليه. ألا يدلنا ذلك على أن فعل
الغنى (أَغْنَاهُمُ) كما كان فعل الإيتاء (آتَاهُمُ في الآية السابقة) يأتي من
مصدرين: "من الله" ومن رسوله؟
السؤال: هل الرسول يغني الناس؟ هل الرسول هو من يقوم
بهذا الفعل؟ من يدري!!!
لقد درج الفكر الإسلامي على القول أن الغنى مصدره من الله وحده، فليس
لمخلوق كائن من كان
(حتى لو كان نبياً مرسلا) أن يكون هو من يقوم بهذا الفعل. فإن كان هذا هو الموقف
العقائدي، فكيف نستطيع التوفيق بين مثل هذا الموقف العقائدي وبين ما خرجنا به من
استنباطات بناء على فهمنا اللغوي للآية الكريمة؟ فهل سترشدنا الحركة الإعرابية إلى
فهم النص القرآني فهماً لا يسبب حرجاً عقائدياً)
(سنتعرض في مقالة لاحقة بحول الله إلى مثل هذه الإشكالات
التي يسببها الفهم اللغوي للنصوص القرآني)
إن ما يؤسف له – في رأينا- هو أن علماءنا الأجلاء غالباً
ما يلتزموا بأفهامهم اللغوية (ولا ضير في ذلك)، ولكن عندما يتعرضون لمثل السياقات
القرآنية السابقة (هذا من كان لديه منهم الجرأة أن يتعرض لها ولم يحاول التستر
عليها بداع عدم إثارة الشبهات كما يفعل رشيد الجراح على الدوام) فقد كان موقفه
يتلخص بأن هذا الفهم اللغوي لا ينطبق في الحالة الإلهية، فيبدءون بتسويق بضاعتهم
بليّ أعناق النصوص لتتوافق مع تصوراتهم، ويكأنهم يقولون بأن "قد" –
مثلاً- تفيد التشكيك في كل الحالات وتحت جميع الظروف إلا إذا كان الفعل المضارع
يخص فعل متعلق بالذات الإلهية (فـ يا سبحان الله! معظم أفهامهم اللغوية تنطبق في
حالة الذات الإلهية كما تنطبق في الحالات الأخرى إلا هنا وهناك، والسبب.. لله في
خلقه شؤون ...!!).
إننا نرفض مثل هذا الموقف جملةً وتفصيلاً، لأننا نعلم أن
الله الذي يسّر هذا القرآن باللسان العربي - لا شك - يعرف خصائص وميزات (ولنقل
تجاوزاً قواعد) هذا اللسان، فالإله الذي يعلم أن "قد" باللسان العربي
تفيد التشكيك لا يمكن أن يستخدمها للحديث عن نفسه إن لم يكن هناك تشكيك سيحصل في
المعنى المراد توصيله للمخاطب (وهم أهل هذا اللسان أولاً وبقية العالمين من
بعدهم). وربما من المهم أن نذكر هنا أن القرآن الكريم مليء بالاستخدامات التي لا
تتوافق مع قواعد هذا اللسان التي اختطها النحويون وأهل اللغة والكلام (وسنتعرض
لتأويلات هذه الاستخدامات في مقالة منفصلة بحول الله وتوفيقه).
عودة على بدء
يكفي أن نذكر هنا أن "قد" قد صاحبت الفعل
الماضي في الآية الكريمة التي نحن بصدد تبيان بعض جوانبها:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
لذا، فالأمر لا يحتمل التشكيك إطلاقاً، بل هو توكيد
لحصول فعل الكتابة في الزبور لتلك السنة الإلهية وهي "أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"،
والملفت للانتباه أن "قد" جاءت على صيغت "ولقد" (أي مسبوقة بـ
لام التوكيد كما يحب أن يسميها كثير من النحويين)، ولو استعرضنا السياقات القرآنية
التي ترد فيها هذه المفردة لوجدنا أنها كانت مصاحبة الفعل الماضي على الدوام، وأن
الأحداث التي جاءت معها مفردة "ولقد"
هي أحداث قطعية الحصول، أي لا يمكن التشكك أو التشكيك بأنها قد حدثت فعلاً، فمن
يجادل مثلاً أن الحدث التالي لم يحصل فعلاً؟
وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ البقرة (65)
وهل هناك شيء من الشك في أن الحدث التالي قد حصل فعلاً؟
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ ۗ
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا
تَقْتُلُونَ البقرة
(87)
والأمثلة وافرة جداً في كتاب الله على مثل هذا
الاستخدام، لنخلص من كلامنا هذا إلى نتيجة بسيطة جداً مفادها أن ورود مفردة "ولقد"
في هذا السياق القرآني تفيد عدم وجود أي شك في أن الحدث المنصوص عليه في الآية
الكريمة قطعي الحدوث.
وبالعودة إلى الآية الكريمة قيد البحث والدراسة فيمكننا
أن نقول أن الله لا شك قد كتب في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباده
الصالحون. إن ما يهمّنا من هذا الاستنتاج هو أن لا ننكص بعد هذا الفهم على عقبنا
لنزعم القول بأن مضمون هذه الآية الكريمة قد يتحقق أحيانا ولا يتحقق أحيانا أخرى،
وبكلمات أكثر دقة، يجب أن لا نفعل كما فعل معظم علماء المسلمين وهو إثارة فحوى هذه
الآية الكريمة إن كانت الغلبة لهم، والتستر عليها ومحاولة الالتفاف عليها إن لم
تكن الغلبة لهم، ففي القرن العشرين – مثلاً- لم يكن للمسلمين سيطرة حتى على
بلادهم، فقد كانوا مستعمَرين محتلين، حتى ضاعت أجزاء كبيرة منها، وكان احتلال
فلسطين (كما كان ضياع الأندلس وجنوب السودان و ...) وصمة عار على جبين المسلمين
جميعاً (وعلى رأسهم حكامهم وعلماء السلاطين) حتى يومنا هذا، فكيف بعد كل هذا
الهوان الذي تعرض له المسلمون نعود لنقول أن الآية الكريمة تنطبق علينا (إلا أن
يتم تعطيلها لهذه الفترة التاريخية لتعود إلى التطبيق يوم أن تتحسن أحوال المسلمين
ويصبحوا هم أهل الحضارة والعمارة، ليكونوا هم الوارثون للأرض)؟
النتيجة رقم ا: الآية الكريمة قطعية الدلالة بأن مضمونها (وراثة الأرض) لا شك حاصل في كل
الظروف
والأحوال بغض النظر عن حال الأمة، وتأتي القطعية من النص
بوجود مفردة "وَلَقَدْ".
كَتَبْنَا
ننتقل الآن لنتحدث عن المفردة الثانية في الآية الكريمة
نفسها وهي كلمة " كَتَبْنَا"، لنطرح سؤالين اثنين وهما:
1. ما هي الكتابة أو المكاتبة أو الاكتتاب الذي يتضمنه
الفعل " كَتَبْنَا" في الآية الكريمة؟
2. ومن هم الذين كتبوا في ضمير الجمع المتصل بالفعل كَتَبْنَا
نفسه؟
أما ما يخص السؤال الأول فإننا نظن أن الفعل
"كتب" يعني التدوين، وهذا واضح تماماً في سياق الحديث عن كتابة
"تسجيل" الدّين على سبيل المثال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ
اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ
ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ
بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ۖ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ
كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ
لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ
وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة
(282)
وجاء اتهام الكافرين لما جاء به النبي من هذا القبيل :
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا
فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا الفرقان
(5)
فقد كان زعمهم يتمثل في أنّ النبي هو من يقوم بفعل
الكتابة لما يقدم لهم ما ينزل عليه من ربه
وقد جاء تفنيد زعم الكافرين هذا من الله واضح بأن الله
لم ينزّل على محمد شيئاً مكتوباً:
وَلَوْ
نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ
لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ الأنعام
(7)
وَمَا
كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ العنكبوت
(48)
لذا فالقرآن الكريم لم ينزل مكتوباً ولم يخطه محمد
بيمينه، وهذا دليل واضح أن ما نمسكه بأيدينا اليوم ليس قرآنا (للتفصيل في هذا
الموضوع انظر مقالاتنا تحت عنوان هل
للغة العربية قدسية خاصة؟ جدلية الكتاب والقرآن.).
وقفة قصيرة
يجدر التنبيه هنا إلى التفرق بين الكتابة من جهة (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَهَا) والخط باليمين
من جهة أخرى (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)،
فالكتابة تعني تسجيل الشيء أو تدوينه سواء كنت أنت من قمت بفعل الكتابة أو قام به
آخرون نيابة عنك، المهم في الأمر هو حدوث الفعل، ولكن الخط باليمين يعني أن تقوم
أنت بفعل ذلك بنفسك.
لذا عندما زعم
الكفار ما جاء في قوله تعالى "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا"، فإن ذلك قد لا يعني أنهم يقصدون أن النبي هو من قام بفعل الكتابة
نفسه (فربما يكون – في نظرهم- قد أوكل تلك المهمة إلى أخريين للقيام بالفعل نيابة
عنه)، لكن التفنيد الرباني لزعمهم – في رأينا- جاء بطريقة مفحمة لهم على نحو: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ
كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، لينفي عن النبي أن يكون هو ما قام بتدوين ذلك بنفسه (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)، كما نفى عنه أنه
قد كتبها، أي ربما طلب من غيره كتابتها (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا). فالتفنيد الرباني لزعمهم جاء على نحو: أن النبي (1) لم
يكن يكتب و (2) لم يكن يخط بيمينه.
نتيجة مفتراة 1: لا يعني أن يكون من كتب بفعل الكتابة قد خط بيمينه ولكن الفعل يحمل في
ثناياه أن يكون قد طلب من غيره القيام بالفعل نيابة عنه.
وفعل الكتابة قد ينفّذ بأكثر من طريقة، فقد كُتِب لموسى
في الألواح:
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا
بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ الأعراف
(145)
وقد يحصل فعل الكتابة في القلوب:
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ
أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ المجادلة (22)
وهنا لابد من إثارة التساؤل التالي: من الذي يقوم بفعل
الكتابة؟
مما لا شك فيه أن الفكر الإسلامي يروج دائماً لفكرة أنّ
الملائكة تقوم بكتابة "تسجل" أعمال العباد، لذا فهم يكتبون:
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ
بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ۚ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ يونس
(21)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ
عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ الزخرف
(19)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ
يَكْتُبُونَ الزخرف
(80)
ولكن المدقق في النصوص القرآنية جيداً يجد أن الله نفسه
يكتب:
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا
مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا النساء (81)
(وسنتعرض لاحقاً للحديث عن الفرق بين ما تكتب الملائكة
وما يكتب الله، لنجيب على تساؤل واحد وهو: لم يكتب الله بنفسه؟ أليست الملائكة هي
الموكلة بأمر الكتابة؟ والقارئ مدعو لمقارنة قوله تعالى: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ مع
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ،
بعد قراءة سلسلة مقالاتنا السابقة تحت عنوان هل
لعلم الله حدود؟ جدلية القلب والعقل)
ويبقى السؤال الأكثر إثارة هو: ما الحاجة للكتابة
(التدوين)؟ هل الله بحاجة أن يكتب؟ فهل الله يغفل أو ينسى ليضطر للكتابة
(التدوين)؟
كلا، إننا نظن أن الكتابة هي العقد القانوني الذي لا
يمكن لطرفي العقد إلاّ الالتزام به، ومخالفته تعني تحمّل المُخالِف للعواقب
القانونية المترتبة على المخالفة، فعند استعراض بعض السياقات القرآنية التي تتحدث
عن الكتابة نجد أنها تتحدث بمجملها عن قوانين (سارية) المفعول لا يمكن إبطالها:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ
وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ المائدة (45)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ
ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ
فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ البقرة
(178)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ البقرة
(180)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ البقرة
(183)
فالمدقق بهذه السياقات القرآنية يجد أنها قوانين (سنن)
إلهية سارية المفعول في كل زمان ومكان، فقانون النفس بالنفس والعين بالعين والأنف
بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص هو القانون الإلهي الذي يجب التمسك
به لأنّه مكتوب، وستكون النتيجة على نحو أن الذي لا يلتزم بهذا القانون هو - دون
أدنى شك- من الظالمين، (للتعرف على معنى الظالمين انظر مقالتنا تحت عنوان أين
كانت جنة آدم؟)
استراحة قصيرة
ربما هذا هو السبب – في رأينا- الذي من أجله طلب الله منا مكاتبة "ما ملكت الأيمان"،
فالدخول بما ملكت أيماننا من نساء أهل الكتاب تتطلب المكاتبة (أي إبرام العقد
القانوني)، مصداقاً لقوله تعالى:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ
وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا
لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ
وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(33)
فهناك فرق واضح بين الدخول بما ملكت اليمين من فتيات أهل
الكتاب كما نصت الآية السابقة، والدخول بما ملكت اليمين من النساء المؤمنات كما
تنص الآية التالية:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ۚ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا
مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ ۚ
ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ۚ
وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۗ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ النساء
(25)
فالمدقّق بالنصّين القرآنيين يجد أنّ الدخول بما ملكت
اليمين من فتيات أهل الكتاب تتطلب المكاتبة:
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُم،
ولكن الدخول بما ملكت اليمين من الفتيات المؤمنات لا
تتطلب مثل هذا الشرط، لأن الدخول بهن يقع في باب النكاح، لذا فهو يتطلب (بدلاً من
المكاتبة) أخذ الأذن من أهلها:
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ"
(للتفصيل في هذا الموضوع نرجو قراءة مقالتنا تحت عنوان زواج
المتعة)
ولو تأملنا النص القرآني أكثر لوجدنا أن الشرط اللازم توافره في المدخول
بها من فتيات أهل الكتاب هو الخير فقط:
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ
مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا
بينما الإيمان هو الشرط اللازم للنكاح، فلا يمكن أن تنكح
إلا المؤمنة:
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ۚ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ
(للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان زواج
المتعة)
ولو تأملنا أكثر في الفروق بين الدخول بما ملكت اليمين
من الفتيات المؤمنات من جهة والدخول بما ملكت اليمين من فتيات أهل الكتاب من الجهة
المقابلة لوجدنا أن الرجل الذي يدخل بما ملكت يمينه من أهل الكتاب يدفع لها من مال
الله مصداقاً لقوله تعالى:
" وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ
بينما يقوم الرجل الداخل بما ملكت يمينه من الفتيات
المؤمنات بدفع الأجر بالضبط كما في حالة نكاح المحصنات المؤمنات:
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ".
تلخيص: فالخير هو فقط ما يُبْحَثُ عنه في ما ملكت
الإيمان من أهل الكتاب "فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا" بينما الإيمان هو الشرط الواجب
توافره في حالة ما ملكت أيمانكم من المؤمنات " فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ۚ" لان ذلك
يقع كما ذكرنا سابقاً في باب النكاح وليس المكاتبة، كما أن ما يدفع للمؤمنة ليدخل بها هو أجر بينما ما يدفع لما ملكت
اليمين من أهل الكتاب هو صدقة.
فالأجر هو من نصيب من يدخل بها إن كانت مؤمنة
سواء كانت من ما ملكت اليمين أو كانت محصنة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ
يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ
وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
(لتمحيص هذه القضية يرجى مراجعة مقالتنا تحت عنوان زواج
المتعة أو ثلاثية
المرأة لتفصيل أكثر)
ما يهمّنا هنا هو أن المكاتبة غير واردة في حالة نكاح
المؤمنات (لذا فإن ما يقوم به المسلمون من تدوين عقد النكاح ليس شرطاً شرعياً) بينما
لابد من المكاتبة عند الدخول بما ملكت الأيمان من أهل الكتاب، وهنا ربما يطرح
البعض استفساراً عن السبب من وراء ذلك.
إننا نظن أنّ السبب يكمن في أنّ المكاتبة هي – كما
أسلفنا- عبارة عن إبرام عقد ليلتزم به الطرفان المتعاقدان، ولمّا كان النكاح
يتم بين المؤمن والمؤمنة فقط فلا داعي للمكاتبة وذلك لأنّ الطرفين (المؤمن
والمؤمنة)- لا شك - يلتزمون بالتشريع الإسلامي، فهم يرضون أن يحتكموا بالنهاية
للتشريع (القانون) الإسلامي، ويكون هذا مصداقاً لقوله تعالى في النص نفسه " بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ" عند الحديث عن الدخول بما ملكت اليمين من الفتيات
المؤمنات (تأمل الآية التي ورد فيها نكاح ما ملكت اليمين من الفتيات المؤمنات). ولكن - بالمقابل- لمّا كان الطرفان (المؤمن والذميّة) في
حالة الدخول بما ملكت اليمين من فتيات أهل الكتاب ملتزمين بتشريعين مختلفين،
أحدهما (الداخل) مؤمن يرضى الاحتكام إلى التشريع الإسلامي بينما (ربما) لا ترضى المدخول
بها (الطرف الثاني) وهي من أهل الكتاب لا ترضى (ولا تلزم أصلاً) بالاحتكام إلى
التشريع الإسلامي، أصبح من الضرورة بمكان أن يخطّ الطرفان (أي أن يكتبوا) عقداً
قانونياً يرضي الطرفين ليحتكموا إليه في كل شؤون تلك العلاقة الناشئة بينهما، أي
ليكون ذلك العقد ملزماً للطرفين بغض النظر عن الخلفية العقائدية لكل طرف.
وبهذا الفهم يمكن تلخيص أصناف الزواج التي تحدثنا عنها
في مقالاتنا السابقة تحت عنوان "جدلية
الذكر والأنثى" و"تعدد
الزوجات" و "زواج
المتعة" على النحو التالي:
أصناف الزواج
الزواج من المؤمنة المحصنة زواج نكاح بإذن أهلها وبأجر عليها كامل العذاب
الزواج من ما ملكت اليمين من المؤمنات زواج نكاح بإذن أهلها وبأجر عليها نصف العذاب
الزواج من ما ملكت اليمين من أهل الكتاب زواج مكاتبة بصدقة حسب شروط العقد
الزواج من غير الأصناف السابقة (ما وراء
ذلكم) زواج متعة بأجر -----------
النتيجة: إنّ المكاتبة غير واردة في حالة زواج النكاح
(أو المناكحة) لأنّ ذلك يكون بين طرفين مؤمنين يرضون جميعاً أن يحتكموا لنفس
التشريع، فيتم النكاح بالأجر بعد استئذان الأهل. بينما تصبح المكاتبة لازمة في
حالة الزواج بين طرفين غير ملتزمين بنفس التشريع كدخول المؤمن بما ملكت اليمين من
فتيات أهل الكتاب الذين لا يلتزمون بالتشريع الإسلامي.
عودة على معاني "كَتَبْنَا"
وهنا يجب التأكيد على أنه ليس من الضرورة بمكان أن يكون
عنصر الرغبة متوافر بالمكاتبة (أي عند كتابة العقد الذي يمثل المرجعية القانونية)،
فالقوانين لا تُسنّ بناءً على الرغبات (ما تحب وما لا تحب)، ولكنها تسن بكل تأكيد
بناءً على المصالح (الخير والشر)، فحتى لو تعارضت رغبتك مع القانون فذاك لا يبطله،
فمما لا شك فيه أن القتال – مثلاً- أمر لا يحبذه الكثيرون، ولكن الله قد كتبه
علينا كما كتبه على أقوام آخرين:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ
كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ البقرة (216)
فكتابة القتال على الناس لم يكن بدافع ما يحبّوا أو ما
يكرهوا، ولكن بدافع ما هو خير لهم مقابل ما هو شر لهم، فكتابة القتال على الناس هو
لا شك خير لهم حتى وإنْ بدا لهم في ظاهره أنّ الأمر كره لهم (فليس كل ما تكره هو
شر وليس كل ما تحب هو خير).
المهم بالأمر بالنسبة لطرحنا هذا هو أن القانون لا
يكون ساري المفعول ما لم يكتب، فكتابة القانون شرط لازم لسريان مفعوله. لذا
نحن نفتري الظن بأن ما لم يكتب لا يكون قانوناً، وبالتالي لا يكون ملزماً:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا
مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
البقرة
(246)
فلو لم يكتب الله عليهم القتال لما أصبح القتال مفروضاً
عليهم.
ولو لم تتم الكتابة في حالة الدخول بما ملكت اليمين لا
يمكن إلزام أي طرف من الأطراف (الداخل والمدخول بها) بتشريع الطرف الآخر، فلا يحق
لنا كمسلمين أن نحتكم إلى شريعة أهل الكتاب، ولا نلزمهم في الوقت ذاته بالاحتكام
إلى تشريعنا. لذا ستضيع الحقوق ويصبح الأمر أقرب إلى شريعة الغاب يسيطر القوي فيها
على الضعيف إنْ لم يصار إلى كتابة القوانين.
فمتى لم يتم اللجوء إلى الكتابة، لا يمكن معاقبة من لم
يلتزم:
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ
اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ
خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا
النساء (66)
فالله لن يعاقب القوم على عدم قتلهم أنفسهم أو عدم
خروجهم من ديارهم ليس لشيء إلاّ لأنه لم يكتب ذلك عليهم، فقوله تعالى "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ" يدل بما لا يدع مجالاً للشك عندنا أن الله لم يكتب
ذلك عليهم، وبالتالي لن يحاسبهم على صنيعهم ذاك.
إن مراد القول هو أن كتابة الشيء تفضي إلى الالتزام
به والاحتكام إلى ما كتب متى دعت الضرورة إلى ذلك، وبخلاف هذا التصور يصبح من
الصعب علينا أن نفهم الحكمة في قوله تعالى:
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ ۖ قُلْ لِلَّهِ ۚ
كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۚ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ الأنعام
(12)
فلم يضطر الإله أن يكتب على نفسه، وهل هناك قوة يمكن أن
تلزم الإله بأن يكتب على نفسه شيئاً، كلا وألف كلا، بل هو العدل المطلق، فبالرغم
من أننا نتحدث عن إله عادل، ولا نشك في عدله قيد أنملة، إلاّ أن الإله لم يترك هذا
الالتزام الذاتي قولاً، بل دوّنه (كتبه كتابةً) ليكون الفيصل بينه وبين خلقه.
وفي هذا عبرة لكل حاكم، فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم
(ولله المثل الأعلى) يجب أن تبنى على الكتابة (أي إصدار القوانين) التي يحتكم
إليها الطرفان كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
النتيجة رقم (2): تسطّر الآية الكريمة قانوناً إلهياً
(سنة إلهية) بدليل أنه مكتوب كتابة ملزماً لكل الأطراف.
وللحديث بقية
15 كانون أول 2012