قصة موسى 8: باب العزير 05
سنحاول في هذا الجزء أن نكمل حديثنا عن قصة قتل صاحب موسى للغلام الذي لقياه في الطريق بعد أن كان هذا النقاش هو جلّ موضوعنا في الجزء السابق من هذه المقالة. وقد كنّا قد وعدنا القارئ الكريم أن نتابع البحث في سؤالين اثنين يخصان قصة صاحب موسى وهو الذي نظن أنه العزير، والسؤالان هما:
1. ما قصة خرقه لسفينة المساكين؟
2. ومن هو صاحب موسى هذا الذي ظننا أنه العزير؟ فأين هو وأين يمكن أن نجده اليوم؟
وقد وصلنا في نهاية الجزء السابق إلى طرح التساؤل التالي عن قصة قتل صاحب موسى للغلام:
1. كيف عرف العزير (صاحب موسى) أن هذا الغلام قد حقّ عليه القول؟ وكيف عرف أن هذا الغلام قد قيّض الله له قرينا (شيطانا) فما كان ليؤمن فكان إذن من الكافرين؟ وكيف استطاع صاحب موسى أن يدرأ بقتله للغلام فتنة هي أكبر من القتل نفسه؟
(للتفصيل انظر الجزء السابق)
وقد دعانا هذا النقاش المفترى من عند أنفسنا إلى أن نعاود النبش في افتراءات سقناها في مقالات سابقة، منطلقين من تساؤلات محيّرة لنا ذكرناها في نهاية الجزء السابق من المقالة، وها نحن نعيد إثارتها هنا لتشكل شرارة الانطلاق في النقاش في هذا الجزء من المقالة. سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرين، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو الواسع العليم – آمين.
أما بعد،
التساؤلات:
- لماذا أنزل الله قرآنا يتلى بحق عمّ النبي أبي لهب قاطعا خبره وخبر امرأته حمالة الحطب؟
- لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق عمّ النبي العباس الذي بقي على دين آباءه وأجداده حتى فتح مكة (كما تقول بعض رواياتهم)؟
- لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق أبي سفيان الذي لم يسلم حتى فتح مكة (كما تقول معظم رواياتهم)؟
- لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق أبي جهل أو سهيل بن عمر أو أمية بن خلف وغيرهم اللذين ماتوا على الكفر؟
- والأهم من هذا كله، لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق فرعون نفسه ليقطع خبر كفره او إيمانه؟ ألم يقل فرعون أنه ربهم الأعلى؟
- لماذا أرسل الله لمن ادعى الإلوهية (فرعون) رسولين ليقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى؟
- لِم لَم يأتي الخبر الإلهي اليقين بحق نهاية فرعون كما جاء بحق نهاية أبي لهب وامرأته حمالة الحطب؟
- الخ
أما بعد،
تعرّض أهل العلم إلى سورة كريمة في كتاب الله تخص عبد العزى (الملقب بأبي لهب) عمّ النبي محمد بالنسب (كما تقول رواياتهم)، وهو من ظنوا أنه المقصود بالآيات الكريمة التالية:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
فلنبدأ النقاش هنا بما جاءنا من عند أهل الدراية كما أوصله لنا أهل الرواية في تفسير الطبري مثلا:
القول في تأويل قوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب } يقول تعالى ذكره : خسرت يدا أبي لهب , وخسر هو . وإنما عني بقوله : { تبت يدا أبي لهب } تب عمله . وكان بعض أهل العربية يقول : قوله : { تبت يدا أبي لهب } : دعاء عليه من الله . وأما قوله : { وتب } فإنه خبر . ويذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " تبت يدا أبي لهب وقد تب " . وفي دخول " قد " فيه دلالة على أنه خبر , ويمثل ذلك بقول القائل , لآخر : أهلكك الله , وقد أهلكك , وجعلك صالحا وقد جعلك . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : { تبت يدا أبي لهب } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 29586 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { تبت يدا أبي لهب } : أي خسرت وتب . 29587 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قول الله : { تبت يدا أبي لهب وتب } قال : التب : الخسران , قال : قال أبو لهب للنبي صلى الله عليه وسلم : ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك ؟ قال ؟ " كما يعطى المسلمون " , فقال : ما لي عليهم فضل ؟ قال : " وأي شيء تبتغي ؟ " قال : تبا لهذا من دين تبا , أن أكون أنا وهؤلاء سواء , فأنزل الله : { تبت يدا أبي لهب } يقول : بما عملت أيديهم . * - حدثنا ابن عبد الأعلى , قال : ثنا ابن ثور , عن معمر , عن قتادة { تبت يدا أبي لهب } قال : خسرت يدا أبي لهب وخسر . وقيل : إن هذه السورة نزلت في أبي لهب , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خص بالدعوة عشيرته , إذ نزل عليه : { وأنذر عشيرتك الأقربين } وجمعهم للدعاء , قال له أبو لهب : تبا لك سائر اليوم , ألهذا دعوتنا ؟ ذكر الأخبار الواردة بذلك : 29588 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا , فقال : " يا صباحاه ! " فاجتمعت إليه قريش , فقالوا : ما لك ؟ قال : " أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم , أما كنتم تصدقونني ؟ " قالوا : بلى , قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " , فقال أبو لهب : تبا لك , ألهذا دعوتنا وجمعتنا ؟ ! فأنزل الله : { تبت يدا أبي لهب } إلى آخرها . * - حدثني أبو السائب , قال : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , مثله . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن نمير , عن الأعمش , عن عمرو بن مرة , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ثم نادى : " يا صباحاه " فاجتمع الناس إليه , فبين رجل يجيء , وبين آخر يبعث رسوله , فقال : " يا بني هاشم , يا بني عبد المطلب , يا بني فهر , يا بني . .. يا بني أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل " يريد تغير عليكم " صدقتموني ؟ " قالوا : نعم , قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " , فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم , ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت : { تبت يدا أبي لهب وتب } " . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو أسامة , عن الأعمش , عن عمرو بن مرة , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ورهطك منهم المخلصين , خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم , حتى صعد الصفا , فهتف : " يا صباحاه " , فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ فقالوا : محمد , فاجتمعوا إليه , فقال : " يا بني فلان , يا بني فلان , يا بني عبد المطلب , يا بني عبد مناف " , فاجتمعوا إليه , فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ " قالوا : ما جربنا عليك كذبا , قال " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " , فقال أبو لهب : تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السورة : " تبت يدا أبي لهب وقد تب " كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة . 29589 -حدثنا ابن حميد , قال : ثنا مهران , عن سفيان , في قوله : { تبت يدا أبي لهب } قال : حين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه وإلى غيره , وكان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم , وكان اسمه عبد العزى , فذكرهم , فقال أبو لهب : تبا لك , في هذا أرسلت إلينا ؟ فأنزل الله : { تبت يدا أبي لهب }
لو دققنا – عزيزي القارئ- في هذا التفسير "العظيم" لوجدنا أن جلّه يتحدث عن ما يسميه أهل العلم بأسباب النزول، فهم يكرّرون الروايات (ربما غير المتطابقة تماما) عن السبب الذي من أجله (كما يظنون) أنزل الله هذه السورة العظيمة. ولكننا نود أن نجلب انتباه القارئ الكريم إلى عدة ملاحظات نظن أن لها صلة بما نُقِل عن لسان أهل العلم في هذه الروايات.
1. هناك من قرأ الآيات على نحو غير ما هو مكتوب في المصحف، ففي قراءة عبدالله والأعمش هناك مفردة "قد" في الآية على النحو التالي: (تبت يدا أبي لهب وقد تب). انظر ما جاء في تفسير ابن كثير السابق. السؤال: إنْ كانت قراءة هؤلاء صحيحة تستحق أن توضع في بطون أمهات كتب التفسير التي وثق بها العامة دون تمحيص، فأين ذهبت "قد" يا أهل العلم؟ يسأل بعض العامة من مثلي.
2. هل كان عبد العزى (أبو لهب) هو الوحيد من بين من سمع النبي فقال له تبا لك؟ ألم يقل غيره أكثر من ذلك؟
3. ألم يحاول الكثيرون إلحاق أذى أكبر من ذلك بمحمد؟ لِم لَم ينزل الله قرآنا يتلى بكل من قال تبا لمحمد أو حاول أن يوقع الأذى به؟ فلم أبو لهب على وجه الخصوص؟ نحن نتساءل.
4. وإذا كان هذا الكلام قد بدر من عبد العزى (أبي لهب) – كما جاء في رواياتهم- فما بال امرأته حمالة الحطب تشمل في الخطاب معه؟ هل قالت امرأت أبي لهب مثل ما قال بعلها بحق النبي؟ فلِم لم ينزل قرآنا يتلى بحق من مضغت من كبد حمزة (كما شاهدنا في فلم الرسالة)؟
5. الخ
رأينا: لعلي أكاد أجزم أن ثقافتنا لم تتعدى ما شاهدناه في فلم الرسالة، فلو أنت تحدثت مع أهل العلم (والعامة على حد سواء) لربما ما وجدت عندهم أكثر مما رسخت في أذهانهم من صور رسمها العقاد كمخرج لذاك الفلم في أذهانهم. فلقد شاهدت بأم عيني على شاشة القناة التلفزيونية الأردنية وزير أوقاف أردني سابق مع عميد كلية شريعة في جامعة أردنية محترمة في برنامج تلفزيوني يحمل مقدّمه درجة الدكتوراه يتحدثون جميعهم (فيما يسمونه ذكرى الهجرة) أن أهل المدينة قد خرجوا يستقبلون النبي الكريم عندما هاجر إليهم وهم ينشدون طلع البدر علينا كما جاء في أحد مشاهد فلم الرسالة.
السؤال لهؤلاء الجمع من العلماء الأجلاء من شخص سطحي التفكير من مثلي هو: هل فعلا خرج أهل المدينة يستقبلون النبي الكريم وهم ينشدون طلع البدر علينا؟ وهل تعلمون - يا سادة- متى كتبت قصيدة طلع البدر علينا؟ وأنا مالي. اللي بده يعرف يبحث بنفسه في بطون الكتب أو باستخدام بعض محركات البحث على الشبكة العنكبوتية.
موقفنا المبدئي: نحن نظن أن ما جاء في بطون أمهات كتب التفسير مثل هذا التفسير "العظيم" الذي أوردناه سابقا لا يعدو أن يكون أكثر من ... يتسامر به القوم في ليال الشتاء الباردة أو ليال الصيف الحارة لإضاعة قسطا من الوقت الذي لا يجدون ما يشغلونه به. وذلك لأن ما يسمّونها تفسيرات لا تجيب عن أي شيء، بل على العكس فهي تجعل كتاب الله كتابا خاصا بقبيلة من قبائل جزيرة العرب في سالف الأيام.
السؤال: ما المخرج؟
جواب: نحن نظن أن المخرج من مثل هذه المواقف المحرجة التي وضعنا بها أهل الدراية من سادتنا العلماء هو البحث عن العلم الحقيقي في كتاب الله بطرح تساؤلات كبيرة مثل:
1. لماذا أنزل الله قرآنا يتلى بحق أبي لهب؟
2. وما دخل امرأته بذلك؟
3. ولم لم ينزل الله قرانا يتلى بحق كل من قال "تبا" كما جاء في رواياتهم؟
4. الخ.
قصة أبي لهب: رواية جديدة مفتراة من عند أنفسنا
أما بعد
سنحاول بداية أن نعيد النظر في مفردات هذه السورة العظيمة علّنا نخرج (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) بشيء من الحديث الجديد الذي قد يقنع من وجد في نفسه تساؤلات تخالجه مثل تلك التي أوردناها سابقا، والهدف من ذلك كله – يجب أن لا ننسى- هو أن نحاول أن نعود من هناك ببعض الافتراءات التي نظن أنها قد تساعدنا في فهم قصة قتل صاحب موسى للغلام الذي لقياه في الطريق الذي هو موضوع نقاشنا الرئيس في هذه الأجزاء من المقالة.
افتراءات من عند أنفسنا عن قصة أبي لهب وامرأته حمالة الحطب
الافتراء الأول: أبو لهب لم يقل تبا لمحمد إطلاقا
الافتراء الثاني: امرأته (حمالة الحطب) لم تقل تبا للنبي
الافتراء الثالث: لقد فعل أبو لهب شيئا خاصا جدا لم يفعله غيره حتى نزل بحقه قرآنا يتلى إلى يوم الدين.
الافتراء الرابع: لقد شاركت امرأت أبي لهب (حمالة الحطب) بعلها فيما فعل حتى استحقت أن تذكر معه لتلاقي المصير نفسه
الافتراء الخامس: لم يفعل فرعون نفسه ما فعله أبو لهب، وإلاّ لأنزل الله قرآنا يتلى بحق فرعون كما أنزله بحق أبي لهب
الافتراء السادس: إن كل من فعل أو سيفعل ما فعله أبو لهب فإن مصيره ما كان لأبي لهب وامرأته حمالة الحطب
هذه هي جملة الافتراءات التي نظن أنها صحيحة وسنحاول الدفاع عنها تباعا.
أما بعد،
الافتراء الأول: أبو لهب لم يقل تبا لمحمد إطلاقا
نحن نفتري الظن بأن ما جاءنا من عند أهل الدراية كما نقله لنا أهل الرواية بأن أبا لهب قد قال تبا لمحمد (انظر تفسير القرطبي السابق) لا أساس له من الصحة، وذلك لأنه لو حصل الأمر على تلك الشاكلة – نحن نفتري القول- لأثبت القرآن نفسه قول أبي لهب نفسه. فالمتفحص للنص القرآني يجد – ربما بما لا يدع مجالا للشك- أن النسق القرآني يكون على نحو أن يثبت ما قاله الكافرون أولا ثم يرد عليهم حجتهم الكاذبة بالحجة الصادقة، فنحن نجد في كتاب الله ما قاله الكافرون يسبق الرد الإلهي عليهم. انظر الآيات الكريمة التالية كيف يأتي قول الكافرين واضحا فيها أولا (وهو ما وضعنا تحته خطا) ثم يأتي الرد الإلهي بعده مباشرة (ما وضعنا تحته خطين):
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80)
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111)
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (93)
وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
إن مراد القول الذي نود أن نوصله للقارئ الكريم هو أن النهج القرآني – كما نفهمه- يكون عادة برد الدعوى التي قالها الكافرون. لذا لو كانت الآية القرآنية الخاصة بأبي لهب – نحن نتخيل- هي رد على ما قاله أبو لهب أو ما قالته امرأته لأثبت القرآن الكريم قولهما أولا ثم لرد عليهم القول بقول يدحض ما قالوا. ولربما جاء النص على النحو التالي:
وقال أبو لهب تبا لمحمد قل تبت يدا أبي لهب وتب... إلى آخر السورة.
الافتراء الثاني: امرأته (حمالة الحطب) لم تقل تبا للنبي
نحن نفتري الظن بأنه لو كانت الرواية التي نقلها لنا سادتنا العلماء أهل الرواية عن سادتهم العلماء أهل الدراية صحيحة لربما وجدنا فيها شيئا يخص امرأت أبي لهب التي شُملت بالخطاب الرباني. فإذا كان هذا ما قاله أبو لهب (كما جاء في رواياتهم) فما بال رواياتهم نفسها تخلوا مما جاء على لسان امرأة أبي لهب؟ لم لا نجد في رواياتهم أن امرأت أبي لهب قد كانت حاضرة ذاك الجمع الذي حصلت فيه القصة كما جاء في رواياتهم؟ أم هل هذه سنة من عند أهل العلم بأن تؤخذ المرأة بذنب بعلها؟ من يدري!!!
لعل أحدا من أهل العلم بحاجة أن يجيب عن تساؤلنا هذا: ما الذي بدر من امرأت أبي لهب حتى يشملها الخطاب القرآني لتلاقي المصير الذي لقيه بعلها نفسه؟ فهل حضرت هي ذلك الجمع الذي دعا إليه النبي قومه ليخبرهم برسالة الله لهم؟ وإذا كان بعلها (كما تقول رواياتهم) قد قال تبا لمحمد فهل قالت هي الأخرى تبا لمحمد كما قال بعلها؟
رأينا: نحن نظن أنه لو حصل الأمر على تلك الشاكلة لربما أصبح النص القرآني على الشاكلة التالية:
وقال أبو لهب تبا لمحمد وقالت امرأته مثل ذلك قل تبت يدا أبي لهب وتب... إلى آخر السورة.
الافتراء الثالث: لقد فعل أبو لهب شيئا خاصا جدا لم يفعله غيره حتى نزل بحقه قرآنا يتلى إلى يوم الدين.
نحن نظن أن ما بدر من أبي لهب هو فعل وليس قولا بدليل أن القرآني الكريم جاء يتحدث عن ماله الذي كسبه، فلنقرأ السورة الكريمة مرة أخرى:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
وهنا لا نتوقف عن طرح التساؤلات التالية:
- ما علاقة مال أبي لهب بالأمر؟
- وما هو ماله الذي كسبه أصلا؟
- ومن أين جاء لأبي لهب المال الذي لن يغني عنه؟
- وهل كان عبد العزى (أبي لهب) صاحب مال أصلا؟
رأينا: نحن نظن أن الحاجة ملحة لجلب الآيات الكريمة مع بعضها البعض لنخرج بتصور أكثر دقة لما حصل فعلا. فنحن بحاجة أن نربط مال أبي لهب بالقصة لنطرح التساؤلات عن المال نفسه وعن طريقة كسبه له: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
الافتراء الرابع: لقد شاركت امرأت أبي لهب (حمالة الحطب) زوجها فيما فعل حتى استحقت أن تذكر معه لتلاقي المصير نفسه
نحن نفتري القول بأن ما فعلته امرأت أبي لهب لم يكن أقل خطورة مما فعله بعلها حتى جاء القرآن الكريم ليثبت لها المصير نفسه الذي كان لبعلها. وهذا يدعونا إلى النبش في التساؤلات التالية:
- من هي امرأت أبي لهب هذه؟
- لماذا كانت حمالة الحطب؟ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
- لماذا كان عقابها على نحو أن يكون في جيدها حبل من مسد؟
- فما قصة جيدها وما قصة ذلك الحبل من المسد الذي هو في جيدها؟ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
-
الافتراء الخامس: لم يفعل فرعون نفسه ما فعله أبو لهب
نحن نفتري القول بأن أبي لهب قد فعل شيئا لم يفعله فرعون نفسه، وذلك للأسباب التالية:
1. لم يثبت الله في كتابه الكريم لفرعون المصير بالعذاب في حياته.
2. أرسل الله لفرعون رسولين وطلب منهما أن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى.
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
3. مات فرعون وقد آمن برب هارون وموسى، فكان من المسلمين:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
4. أنجاه الله ببدنه ليكون آية لمن خلفه:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
5. الخ.
السؤال الكبير جدا جدا: ما الذي فعله أبو لهب على وجه التحديد حتى استحق أن ينزل بحقه قرآنا يتلى ينبئ بمصيره؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن أبا لهب قد قام بفعل لم يفعله فرعون نفسه، وأنه قد كسب من خلال فعله ذاك شيئا من المال (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)، كما نفتري القول بأن امرأته حمالة الحطب قد شاركته في ذلك الفعل وفي ذلك الكسب (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)، وأن عقابها على نحو (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ) له علاقة مباشرة بما كانت قد فعلت مع زوجها.
السؤال: وهل كان ما فعله أبو لهب (بمساعدة امرأته) وكسبه لهذا المال أعظم ذنبا مما فعل فرعون نفسه عندما كان يقتّل أبناء بني إسرائيل ويستحي نساءهم؟ وهل كان أعظم ذنبا مما قاله فرعون بملء فيه؟
فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
جواب: نعم لقد كان ما فعله أبو لهب وساعدته في ذلك امرأته حمالة الحطب عملا شنيعا جدا لم يقم به فرعون نفسه. فما الفرق بين أبي لهب وفرعون؟
جواب: في محاولتنا لمعرفة الإجابة على الفرق بين أبي لهب (من جهة) وفرعون (من جهة أخرى)، وجدنا الحاجة ملحّة للتعرض للسؤال التالي مباشرة: ما هو الفعل الذي قام به أبو لهب وساعدته عليه امرأته حمالة الحطب حتى استحق أن ينزل بحقه قرآنا ينبئ بمصيره ومصير امرأته حمالة الحطب؟
جواب خطير جدا لا تصدقوه إلا إن ظننتم أن الدليل من كتاب الله يدعمه: نحن نفتري القول أن أبا لهب قد فعل فعلا شنيعا جدا وكسب من خلال هذا الفعل شيئا من المال، وكان غرضه في ذلك تقديم الدليل للناس على "بطلان" رسالة محمد.
السؤال: ماذا كان فعله؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لقد كتب أبو لهب بيديه شيئا من القول مدّعيا أن هذا قرءانا جاء به محمد نفسه. وقد كانت امرأته هي من تقوم بتوصيل تلك الرسالة للقوم، والغرض من فعلتهما تلك هو أن يثبتا للعامة من الناس بأن رسالة محمد باطلة، وبكلمات أكثر دقة فإننا نفتري من عند أنفسنا القول بأن أبا لهب كان يحاول أن يدسّ للناس من الكلام (الذي هو من عنده ومن عند امرأته) ليزعم بأن هذا الكلام قد جاء به محمد. ونحن نظن أن هدف أبي لهب من وراء فعلته تلك هو لكي يلغوا في القرآن الذي جاء به محمد من عند ربه (أي ليضع فيه شيئا هو بالأصل ليس منه). فهو يحاول أن يدسّ بالقرآن ما ليس منه أصلا ليشوش على الناس الرسالة الحق التي جاء بها محمد من ربه.
الدليل: علاقة مفتراة من عند أنفسنا بين أبي لهب والغلام الذي قتله صاحب موسى
انظر - عزيزي القارئ- إلى الآية الكريمة التي تتحدث عن من قيّض الله له قرناء ليزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم والتي كانت في لبّ نقاشنا السابق عن ذلك الغلام الذي قتله صاحب موسى:
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
والآن حاول – عزيزي القارئ- أن تتدبرها في ضوء ما جاء في كتاب الله عن أبي لهب وامرأته:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
فلو تدبرنا الآيات التي تتحدث عن أبي لهب وربطناها بما جاء في الآيات السابقة لوجدنا (مفترين القول من عند أنفسنا) أن جزاء أبي لهب النار، وأن هذا هو الجزاء بحق من جاء فيهم قوله تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
وأن هؤلاء هم من قُيّض لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم:
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
لربما دعانا هذا الظن إلى تقديم الاستنباطات المفتراة من عند أنفسنا التالية:
1. كان أبو لهب من الذي قيض الله لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
2. كان من الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين
وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ
3. كان هذا الكافر – نحن نظن- من الذين حالوا أن يلغوا في القرآن
لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
4. كان جزاءه أن الله سيذيقه عذابا شديدا
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا
5. كان عقابه على نحو أنه سَيَصْلَى
نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ
6. كان هذا العذاب جزاء بما كان يعمل
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ
7. كان هذا الكافر من أعداء الله الذين لهم النار جزاء بما كانوا يجحدون بآيات الله
ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ
8. الخ
الدليل: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
السؤال: أين الدليل أن أبا لهب كان من الذين جحدوا بآيات الله، فكتب بيديه شيئا من القول، ونسبه إلى محمد لكي يلغي فيما جاء به محمد من القول الحق من عند ربه؟
جواب: نحن نجد الدليل على ذلك في عبارة "وَمَا كَسَبَ" التي وردت في السورة نفسها التي تتحدث عن أبي لهب وامرأته حمالة الحطب في الآية الكريمة التالية على وجه التحديد:
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: دعنا نرد على السؤال بتساؤل مثله: ما الذي كسبه أبو لهب؟ وما الذي يمكن أن يكسبه شخص مثل هذا الكافر الجاحد بآيات الله حتى يتحدث الله عنه بصريح اللفظ القرآني (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لو تدبرنا مفردة الكسب في كتاب الله لوجدناها قد وردت في سياقات قرآنية كثيرة، فالإنسان قد يكسب السيئات:
بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
والكسب يمكن أن يكون بالأمور المادّية التي يمكن أن تنفق من الطيبات من الرزق ومما أخرج الله لنا من الأرض:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
والكسب قد يكون بالقلب:
لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
ولكن الكسب يكون أيضا بالأيدي:
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79)
وفي جميع هذه الحالات تكون هذه المكتسبات (المادية وغير المادية) مما كسبت نفس الإنسان:
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
السؤال الحتمي: ما الذي كسبه أبو لهب حتى جاء القرآن الكريم ليتحدث عنه بصريح اللفظ (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)؟
جواب: لقد كسب أبو لهب شيئا بيديه بدليل أن الله قد أنزل العقاب بكلتا يديه:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
السؤال: لماذا تبت يدا أبي لهب وتب؟ لم لم تنزل "المتبة" (إن صح القول) برأسه أو برجليه أو بقلبه أو بكليّته؟ لِم لَم يكن النص القرآني على نحو:
تب رأس أبي لهب وتب أو
تبت رجلا أبي لهب وتب أو
تب أبو لهب كلّه وتب
الخ
جواب: لأنه كسب شيئا بيديه؟ فلقد كان جزاء ما فعله أبو لهب جزاء بما فعله بيديه؟
سؤال: وماذا فعل بهما؟
جواب: لقد كسب بهما مالا بدليل أن السورة تتحدث عن ماله الذي كسبه:
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
السؤال: من أين كسب أبو لهب ذلك المال الذي أخبر الله بأنه لن يغني عنه؟
جواب مفترى: مما كتب بيديه.
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا خطير جدا: نحن نجد الدليل على ذلك بما نفهمه من الآية الكريمة التالية:
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79)
اقرأ -عزيزي القارئ – هذه الآية الكريمة جيدا علّك تساعدنا في الخروج بالاستنباطات التالية:
- هناك من يمكن أن يكتبوا الكتاب بأيديهم
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ
- هناك من يمكن أن يكتبوا الكتاب بأيديهم ثم يقولون أن هذا من عند الله
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ
- هناك من يمكن أن يكتبوا الكتاب بأيديهم ثم يقولون أن هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا:
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
- الجزاء لكل من كتب الكتاب بأيديهم هو الويل، والجزاء لمن كتبوا الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله هو الويل، والجزاء لمن كتب الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا هو الويل. انظر كم مرة تكررت مفردة الويل في الآية الكريمة نفسها:
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79)
- الخ.
الافتراء السادس: إن كل من فعل أو سيفعل ما فعله أبو لهب فإن مصيره ما كان لأبي لهب وامرأته حمالة الحطب
السؤال: كيف حصلت قصة أبي لهب هذه حتى أنزل الله بحقه قرآنا ينبئ بمصيره وهو لا زال على قيد الحياة؟
جواب: تخيلات مفتراة من عند أنفسنا
نحن نظن أن أبا لهب كان من الذين يكذّبون بيوم الدين، فكان معتد أثيم، وعندما تليت عليه آيات الله نعتها بأنها أساطير الأولين، ولم يتوقف عند ذلك كله، بل ران على قلبه ما كان يكسبه:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
ولما ران على قلبه ما كان يكسبه من ذلك، قام (بمساعدة امرأته حمالة الحطب) بالكتابة بيده ما زعم أنه من عند الله ليخلطه بما جاء به محمد، فيلغي فيه، فكان ممن قيّض الله له قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم. والآن انظر عزيزي القارئ إلى سياق هذه الآيات الكريمة السابقة الأوسع كيف تسبقها الآية التي تتحدث عن من قيض الله له قرناء ليزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم:
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
وكانت النتيجة الحتمية من عمله هذا (نحن نفتري القول) أن حق عليه القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين. فكانت خسارة أبي لهب أعظم خسارة:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
لذا نحن نتخيل القصة وقد حدثت على النحو التالي: عَمَدَ نفر من قريش إلى مناصبة النبي محمدا العداء جهارا نهارا، وكانت واحدة من وسائل هجومهم على محمد هي أن يكذّبوا بدعواه ويصدّوا الناس عن هذه الدعوة الجديدة، فسلكوا إلى ذلك طريقين وهما:
1. أن لا يسمعوا لهذا القرآن
2. أن يلغوا فيه
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
ولما باءت جهودهم بأن يقنعوا الناس بعدد الاستماع لهذا القرآن (الطريقة الأولى) بالفشل، ما كان منهم إلاّ أن أخذوا يسلكون الطريق الثانية وهي أن يلغوا فيه، فكيف حصل ذلك؟
جواب: كان القوم بحاجة إلى شخص يملك من الفصاحة في القول ما يملك، وعلى درجة من المكانة الاجتماعية لا يستطيع الناس أن يقدحوا بها، ولا شك أن في قربه للنبي سببا أكبر لنجاح التجربة، فما وجدوا ضالتهم إلا في بيت ذلك الشقي أبي لهب، فاستأجروه (نحن نتخيل) حتى يلغي في قرآن محمد. أي حتى يأتي بالكلام المعسول شكلا الفارغ مضمونا يسوقه للناس على أنه كلام من عند محمد أُنزِل إليه من ربه، فيختلط اللغو من القول (ما جاء به أبو لهب) مع القول الحق (ما جاء به محمد)، فتضيع الرسالة بين العامة. فكان أبو لهب (نحن نفتري القول) هو من لغي (أي قال لغوا من القول) ليدسّه في قرآن محمد بمساعدة امرأته حمالة الحطب. وكان يكسب من وراء ذلك بعض المال. فجاء قول الحق – كما نظن- ليفضح على العلن ما كان يقوم به هذا الداهية في الخفاء:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
وقد كان أبو لهب جِبِلًّا من الذين ضلوا وحاولوا أن يضلوا غيرهم، فكانت عاقبتهم أن يصلَوا نار جهنم بما كانوا يكسبون بقلوبهم وأيديهم:
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
وقد كان لهذه السورة العظيمة مردودات إيجابية على رسالة محمد، نذكر منها على عجل:
1. صدق الخبر الإلهي باستحالة أن يؤمن هذا الكافر مادام أنه قد حق عليه القول
2. الفضح على رؤوس الأشهاد في العلن ما كان يدور في السر
3. التزام محمد بدعوته حتى لو كان في ذلك إيذاء له في آله، فبالرغم أن أبا لهب كان (كما تقول رواياتهم) هو عمّ النبي محمد بالنسب، إلا أن محمدا لم يكن يستطيع أن يسكت على فضحه بقرآن يقرأَه الوحي الإلهي عليه. فمحمد لا يستطيع أن يخفي من القرآن شيئا.
4. الخ
خروج من قصة أبي لهب وعودة على قصة الغلام الذي قتله صاحب موسى
لقد كان الهدف من هذا الخروج في هذه الشطحات الفكرية (لمن ظن أنها كذلك) هو العودة منها بالاستنباط التالي: بأن أبا لهب كان ممن حق عليهم القول وممن قيّض الله له قرناء فزينوا له، وممن ران على قلوبهم، وممن حقت عليه كلمة العذاب.
ونحن نفتري القول بأن هذا بالضبط ما كانت عليه حال الغلام الذي لقيه موسى وصاحبه في الطريق. فلقد وصل ذلك الغلام إلى درجة من الكفر يستحيل بعدها الرجوع خطوة واحدة إلى الوراء لأن القول قد حق عليه مادام أنه قد قال لوالديه المؤمنين "أُفٍّ لَّكُمَا" صراحة:
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
فكان من الذين قيّض الله لهم قرناء:
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
فكان من الكافرين الذين حق عليهم القول: فأصبح من الاستحالة بمكان أن يكون مؤمنين مادام أن الله قد قيض له قرين:
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
فكان كشر الدواب الذين لا يؤمنون:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55)
فأصبح قتله أو عدمه لا يعدو أكثر (نحن نفتري القول) من أن يكون كمن يقتل من الدواب شرها.
السؤال: لماذا قتل صاحب موسى الغلام؟
جواب: لأنه كان من الممكن أن يحدث بقاءوه فتنه لوالديه فيرهقهما طغيانا وكفرا:
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
سؤال: لماذا لم يلقى أبو لهب المصير نفسه بالقتل إن صح ما تقول؟ يسأل صاحبنا.
جواب (1): لأنه لم يعد أبو لهب (بعد هذا التنزيل) يشكل بقاءوه فتنة لأحد ما دام أن أمره قد فضحه الوحي
جواب (2): لأن الله لم يجعل سنته الكونية أن يعجل العذاب لكل من ظلم بما كسبت يداه:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
لأنه سيكون في تعجيل العذاب لكل من ظلم عاقبة لا شك وخيمة:
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: في حين أن الله قد عجّل لهذا الغلام العذاب لم يعجل الله العذاب لأبي لهب.
السؤال: لماذا عجل الله لهذا الغلام العذاب على يد صاحب موسى؟
جواب: لأن في ذلك رحمة له.
السؤال: وكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نؤمن أن في قتل ذلك الغلام رحمة إلهية لوالديه لأن الإرادة (كما صاغها صاحب موسى) كانت منصبة على نحو أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما:
فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
لكن يبقى التساؤل الكبير قائما: ألم يزل ذلك المقتول غلاما؟ كيف بصاحب موسى يقتل غلاما ربما لم يبلغ بعد سن التكليف؟ ألن يكون لذاك الغلام حجة بأنه لازال دون سن التكليف؟ ألن تبقى حجته على نحو أنه لو تقدم به العمر ربما أصبح من المؤمنين؟
جواب: لعلي أظن أن في هذا الطرح ربما تقع أخطر التساؤلات في الوجود، تساؤلات مفادها: ما بال أناس يعيشون من العمر المديد ما يعيشون بينما يموت غيرهم في ريعان شبابهم؟ وما بال أناس يمرضون وآخرون يتمتعون بصحة لا يعكر صفوها شيء؟ الخ.
أما بعد،
دعنا بداية نطرح السؤال الكبير التالي: لِم لَم يقضي الله أمره بالقضاء على فرعون مباشرة بدل أن يرسل إليه رسولين ويطلب منهما أن يقولا له قولا لينا:
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
فما الداعي أن يذهب رسولان إلى فرعون ليقولا له قولا لينا؟ والأهم من ذلك: لم لم يكون رد موسى على ربه في تلك اللحظة (نحن نتساءل فقط): أليس أنت الله العليم؟ فكيف ستكون نهاية فرعون: الإيمان أم الكفر؟ نحن نتخيل موسى وأخوه هارون يسألان.
وإذا كانت نهايته الكفر: فما الداعي أن تدفعنا إلى مصير مجهول مع هذا الكافر؟ ألم يكن رد موسى على طلب ربه بالذهاب إلى فرعون يظهر بعض التردد؟
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45)
ولِم لَم يأت التطمين الإلهي لهما بأنه لن يفرط عليهما فاكتفى الإله بالقول:
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)؟
هذه تساؤلات أثرناها في سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: هل لعلم الله حدود: جدلية القلب والعقل. وقد حاولنا حينئذ أن نطرح تصورا لم يألفه أهل الدين من قبل، ولا يستطيع العامة أن يتقبلوه إطلاقا ما لم يرخّصه لهم أهل دينهم الذين يثقون بهم في كل ما يرددونه على أسماعهم دون عناء تفكر ولا تدبر مادام أنهم يظنون أنهم يتلقون المعلومة ممن يعتقدون أنهم أهل صلاح وتقوى، ولكن مادام أن المعلومة قد جاءت من غير تلك المصادر الموثوقة فلا شك أنها ستلقى المقاومة الشديدة. ولكن بغض النظر عن ما ستئول إليه الأمور، فإننا عازمون على المضي قدما في افتراءاتنا مادام أننا لا زلنا لا نجد الدليل على بطلانها، وما دام أن أحدا لم يقدم لنا بعد دليلا على نقضها، والافتراء هو: محدودية علم الله عن ما في قلب عباده. فبالرغم أن الله عليم بكل شيء، إلا أن علم الله لا يصبح مطلقا إلا بعد أن يتحصل الشيء نفسه. وبكلمات فلسفية من كلامنا نحن البشر فإننا نقول: أن الله عليم بالأشياء لكنه ليس عليما بما لم يصبح شيئا بعد. ولعلي أظن أن في هذا الطرح المفترى من عند أنفسنا يمكن أن نجد مخرجا للتساؤلات التي تخص أبي لهب وفرعون وهذا الغلام الذي قتله صاحب موسى، كما نظن أنها فيها إجابات للتساؤلات الخاصة بالوجود التي سنتعرض لها لاحقا إن أذن الله لنا بشيء من علمه. فالله وحده أسأل أن يعلمني من لدنه ما لم أكن أعلم، وأن يختصني برحمة منه إنه هو العليم الحكيم – آمين.
السؤال: لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق فرعون يحق فيه القول عليه؟
جواب: لأن هناك شيء في قلب فرعون لم يكن الله يعلمه فجاء القول الإلهي على نحو:
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
فالله لم يكن يعلم أن فرعون سيتذكر أو أنه سيخشى، فكان لابد من تمحيص قلب فرعون لتظهر حقيقته، فأرسل إليه رسولين ليقولا له قولا لينا، وأيد الله رسولاه بالآيات، إلا أن ذلك كله لم يكن ليخرج ما كان في قلب فرعون[1]، فما حق على فرعون هذا القول بعد ولم يكن الله ليقيض له قرينا ليزين له ما بين يديه وما خلفه، ولو راقبنا ما طلب بنو إسرائيل من هذا الفرعون وراقبنا رد فرعون على طلبهم لوجدنا أن فرعون لم يحسم أمره بعد:
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
ولو راقبنا هذا السياق القرآني لوجدنا أن هذا الفرعون كان حتى الساعة يتخذ لنفسه آلهة بدليل ما قاله الملأ من قومه له (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ). ونحن نظن أن هذه ملحوظة غاية في الأهمية سنحتاج لها لاحقا عندما نتحدث عن فرعون الذي قال:
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
ونحن نظن أن الدليل على أن هذا الفرعون لم يكن قد حسم أمره بعد واضح عندما سنحت الفرصة له أكثر من مرة ليتخلص من موسى إلا أنه لم يكن في حقيقة الأمر راغبا في ذلك حتى وإن جهر بالقول للملأ:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
فالمتدبر لهذه السياقات القرآنية يجد صيغة التردد واضحة في قول فرعون. لنخرج من ذلك بالاستنباط التالي: لم يحسم فرعون أمره بالكفر بعد وكان لازال ممن يتخذ آلهة، فكانت الفرصة لازالت قائمة أن يتذكر أو أن يخشى. لذا نحن نظن أن القول لم يحق عليه بعد لكي ينزل الله قرآنا يتلى يقطع خبره كما كان في حالة أبي لهب.
وما خرج ما في قلب فرعون إلا لحظة أن أدركه الغرق:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
وهنا جاء العتاب الرباني لفرعون بالقول:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
السؤال: لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق فرعون كما أنزله بحق أبي لهب؟
جواب مفترى: لأن القول لم يحق على فرعون إطلاقا، فكان هناك فرصة محتملة أن يؤمن فرعون، لأن من حق عليه القول يستحيل أن يؤمن:
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
ونحن نفتري الظن بأن فرعون لم يكن ممن قيض الله له قرناء:
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
فكانت احتمالية إيمان فرعون قائمة مادام أن القول لم يحق عليه، وهذا بالضبط ما نظن أنه قد حدث في نهاية المطاف عندما أخرج فرعون ما كان في قلبه من الإيمان:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
فلقد مات فرعون مسلما مؤمنا بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل – رضي من رضي وغضب من غضب. ففرعون حتى لحظة غرقه لم يكن من شر الدواب الذين كفروا فهم لا يؤمنون:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55)
السؤال: وكيف كانت حال أبي لهب؟
جواب: لقد حق القول على أبي لهب، فما كان ليؤمن وكان من الكافرين لأنه لم يبقى في قلب أبي لهب (نحن نفتري القول) مثقال ذرة من إيمان يمكن أن تخرج منه، فما كان نتيجة لذلك أكثر من دابة من شر الدواب:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55)
فما كان بقاءوه من عدمه (نحن نظن) سيحدث فرقا. فأنزل الله بحقه قرآنا يتلى ينبئ بمصيره مادام أن القول قد حق عليه:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
السؤال: ماذا عن الغلام الذي قتله صاحب موسى؟
جواب: لقد حق عليه القول؟
سؤال: لماذا قتله؟
جواب: هذا ما نجده في نهاية تأويل صاحب موسى لما لم يسطع عليه موسى صبرا:
... رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)
سؤال: وكيف في قتل الغلام رحمة من ربه؟
جواب: بما أن الغلام قد حق عليه القول فقد تضاءلت (نحن نفتري القول) فرصته في أن يكون من المؤمنين. فكان من الأفضل له (نحن نظن) أن يموت وهو دون سن التكليف، لأنه لو حصل أن بقي حيّا حتى سن التكليف ولم يؤمن لأصبحت حاله كحال أبي لهب وسيصلى نارا ذات لهب. ولكن لمّا كان موته قد حصل قبل أن يصل سن التكليف فإن في ذلك (نحن نظن) رحمة له من ربه، مادام أنه لن يحاسب على فعلته تلك في يوم الحساب الأكبر هذا إذا كانت عقيدتنا تتلخص بأن الحساب لا يقع إلا على من بلغ سن التكليف كما نخر ذلك سادتنا أهل العلم في أذهاننا.
السؤال: كيف عرف صاحب موسى ذلك؟
رأينا: من رؤيته للقرين الذي قيّضه الله لذاك الغلام ليزيّن له ما بين يديه وما خلفه.
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30)
سؤال: هل وجود هذا القرين يعني انتفاء حصول الإيمان؟
جواب: كلا، ذلك لا يعني انتفاء حصول الإيمان ولكن يعني أن الفرصة تضاءلت كثيرا
سؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب: نحن نقرأ الدليل على ذلك في الآيات الكريمة التالية:
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
لو تدبرنا هذا السياق القرآني لوجدنا أنه يتحدث عن حال بعض عباد الله المخلصين (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين يتنعمون بخيرات جنات النعيم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، حيث يثبت السياق القرآني أنّ من هؤلاء من كان له قرين (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ). وقد كان هدف هذا القرين هو أن يشكك ذلك العبد بالبعث (يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53)). وبالرغم من أن ذلك القرين كاد أن ينجح في ذلك (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ) إلا أن نعمة الله قد تداركته (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ). فلقد استطاع من كان له قرين (من أهل النعيم) أن يفلت من ذلك القرين بنعمة من الله وفضل منه، فلم يكن من المحضرين. لأن أولئك ممن متعهم الله متاع الحياة الدنيا حتى كان يوم القيامة من المحضرين
أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
السؤال: من الذي استطاع أن يفلت من قرينه بعد أن قيّضه الله له؟ هل هناك دليل على أن أحدا من عباد الله المخلصين استطاع أن يفلت من قرينه الذي قُيِّض له؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: موسى.
نعم، لقد قيّض الله لموسى قرينا (شيطانا) ولكن موسى استطاع أن يفلت من شَركِه لأنّ نعمة الله قد تداركته.
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب: لو تدبرنا ما حصل مع موسى يوم أن دخل المدينة على حين غفلة من أهلها لربما استطعنا أن نتصور حصول ذلك على أرض الواقع. فها هو موسى يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها بعد أن آتاه الله حكما وعلما:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)
وما أن يدخل موسى المدينة حتى يجد العراك قائما بين من هم من شيعته (بني إسرائيل) ومن هم من عدوه (قوم فرعون) حتى يقدم موسى على قتل نفس بعد أن استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه (للتفصيل انظر الأجزاء السابقة). لكن الذي يهمنا هنا أمران:
1. لم يتردد موسى لحظة واحدة أن يرجع ذلك إلى أنه عمل من عمل الشيطان (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ)
2. لم يتردد موسى أن يعترف بذنبه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)
لذا نحن نفتري القول (بناء على ما نفهمه من ذلك) أنه في اللحظة التي أقدم فيها موسى على قتله لهذا الرجل الذي هو من عدوه أصبح له قرين (شيطان) ملازما له:
قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)
الدليل
نحن نظن أن موسى قد اعترف بذنبه واستغفر ربه على فعلته تلك مباشرة. انظر السياق القرآني:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17)
ولكن بالرغم من ذلك، ها هو في اليوم التالي لا يكاد يتردد بأن يقدم على قتل نفس أخرى:
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
السؤال: لماذا حاول موسى أن يقتل نفسا أخرى في اليوم التالي وهو الذي أقر بذنبه في اليوم الأول واستغفر ربه على فعلته تلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن ذلك الشيطان وهو قرينه الذي قيّضه الله له (نحن نظن) قد أخذ يزين لموسى ما بين يديه وما خلفه، ولولا أن الرجل الذي من عدوه نبّههه إلى خطر ذلك لما تردد موسى أن يبطش به.
السؤال: كيف ولماذا تداركت نعمة الله موسى ولم تتدارك فرعون مثلا أو أبا لهب أو هذا الغلام الذي قتله موسى؟
جواب: لأن موسى رجع إلى ربه على الفور وأقر بخطأه: انظر السياق القرآني كاملا لتجد أن موسى قد قضى وقته بين قتله الرجل الأول ومحاولة قتله الرجل الثاني مستغفرا ربه:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
السؤال: كيف تداركت نعمة الله موسى؟
جواب: لقد كانت من النعمة الإلهية على موسى (نتيجة استغفاره وتعهده بأن لا يكون ظهيرا للمجرمين) أن قيّض الله عدوه نفسه أن يذكره بربه:
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
فالله لم يمنع موسى عن القتل في المرة الأولى وما كان الله ليمنع موسى عن القتل في المرة الثانية، ولكن الله (العالم بما في الصدور) هيأ لموسى (الذي لم ينسى ربه بعد ارتكابه الذنب) من يذكِّره بسوء فعلته ليوقفه عن التمادي في الغلط، ولو أن موسى اختار أن لا يتذكر (كما فعل فرعون) لكان موسى نفسه نسخة طبق الأصل عن فرعون ولربما ازداد في طغيانه وأكثر من القتل في الذين هم من عدوه (كما كان يفعل فرعون) لأن قرينه (ذلك الشيطان) كان حينها سينجح في أن يرديه.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد كاد قرين موسى أن يرديه لولا نعمة ربه:
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
إن هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا يقودنا إلى جملة من الاستنباطات التي نظن أنها مصيرية بالنسبة للإنسان في حياته الدنيا وفي حياته الأخرى:
1. أن الله لا يتدخل بشؤون العباد. فلو كان الله يتدخل بشؤون العبد لمنع موسى عن قتل رجل ولمنعه أن يريد البطش بالآخر في اليوم التالي. لكن السنَّة الإلهية التي تمثل العدل المطلق تقضي بأن ينأ الله بنفسه عن أعمال البشر ليكونوا هم المحاسبون عليها
إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
2. أن الله لا يعلم ما في قلوب العباد فيمحصها ليعلم ما فيها.
اقرأ – إن شئت- قول الله تعالى:
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
مادام أنه يطلع عليها من الخارج فقط، فهو يقضي أمره لكي يمحّص ما فيها:
وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
فالابتلاء الإلهي يأتي للناس لكي يخرج الله أضغانهم:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
فنحن نفتري القول بأنه كان في قلب موسى شيئا من المرض (المتمثل بحبه المفرط لبني إسرائيل وكرهه لآل فرعون) على حساب إحداث الصلاح في الأرض كما جاء على لسان من أراد موسى أن يبطش به في اليوم التالي (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ). فجاء الابتلاء الرباني ليخرج ذلك المرض من قلب موسى، على شكل فتنة قتله لمن هو من عدوه استنصارا لمن هو من شيعته (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) دون أن يحاول موسى أن يتبين من هو صاحب الحق منهم، فلربما كان الذي من شيعته هو المعتد على الذي هو من عدوه إلا أن موسى لم يتثبت من الأمر، فما كان منه إلا أن يقتل من هو من عدوه لمجرد أنه من عدوه (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ). ونحن نكاد نقرأ هذا من قول الرجل الثاني الذي هو من عدوه الذي أراد موسى أن يقتله في اليوم التالي:
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
فنحن نفهم أن هذا الرجل الذي من عدوه كان شخصا ذا رجاحة عقل يبحث عن الصلاح بدليل أنه طلب ذلك من موسى وحثّه عليه، لذا لا نتردد أن نفتري القول أن الرجل الذي هو من شيعته كان المعتدي بدليل أن موسى نفسه قد اعترف بذلك عندما وجّه له الخطاب قائلا (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ):
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
ولو دققنا في هذا السياق القرآني لربما تأكدت لنا الفكرة التي مفادها أن قلب موسى لازال يعاني من بعض المرض (في حبه المفرط لبني إسرائيل على حساب الإصلاح) فموسى يدرك أن هذا الذي يستنصره هو غوي مبين (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ)، إلا أن ذلك لم يمنع موسى أن ينصره على حساب الرجل الذي هو من عدوه والذي كان أكثر رجاحة عقل وتأني (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ).
ولعلي أكاد أجزم أن موسى لم يشفى من مرضه هذا إلا بعد هذه الحادثة التي قيّضها الله له ليخرج ما تبقى في قلبه من أضغان:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
وهنا فقط (نحن نظن) أدرك موسى أن الحق لا يكون على الدوام مع من هو من شيعته، فقد يكون من هو من عدوه على الحق، لذا لا يجب أن يؤخذ الناس بمواقف أقوامهم، فلا يجب أن يؤخذ كل من كان من قوم فرعون بذنب فرعون نفسه، وليس أدل على ذلك من ذلك الرجل الذي جاءه من أقصى المدينة ليحذر لموسى من مؤامرة الملأ به مباشرة بعد هذه الحادثة:
وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
فلقد كان من قوم فرعون من يريدون الإصلاح وكان من بني إسرائيل من يريدون الإفساد في الأرض. وليس أدل على ذلك من موقف الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه من آل فرعون:
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: كانت هذه الحادثة لحظة فارقة في حياة موسى، ففي حين أنه كان هناك شيء من المرض لازال يعاني منه قلب موسى حتى الساعة، استطاع موسى أن يتشافى تماما من مرضه هذا فما عاد ليكون ظهيرا للمجرمين بعد، حتى وإن كان هذا على حساب من هم من شيعته، فأصبح موسى يدور مع الحق حيثما دار لا يحيده عن ذلك حبه لأحد أو كرهه للآخر، فأصبح منذ هذه اللحظة متمثلا لقول الحق:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
3. أن الله يعلم ذات صدور العباد فيبتليها
اقرأ – إن شئت- قول الله تعالى:
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
مادام أن الله عليم بذات الصدور، فقد كان مطلعا على ما قاله موسى في نفسه بعد أن قتل الرجل الأول الذي هو من عدوه:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
فموسى قد تلقى المغفرة من ربه لمجرد أنه قد طلبها منه، ولكن الملفت للانتباه أن موسى قد قطع على نفسه عهدا جديدا بعد هذا الكرم الإلهي مباشرة:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17)
لكن ذلك لم يكن ليخفى على الله. فبالرغم من أن موسى قد قطع العهد على نفسه بذلك، جاء الاختبار الإلهي له ليخرج الله حقيقة ما تعهد به موسى على نفسه. فكانت فتنته في اليوم التالي:
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18)
وهنا جاء الابتلاء الإلهي ليخرج ما كان في صدر موسى وليمحص ما في قلبه (وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ):
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
فكاد موسى أن يقع في فتنة أكبر لو أنه قتل ذلك الرجل، ولربما أخرج ما في قلبه من أضغان على نحو ما لا يرضي.
4. أن الله يقيض شيطانا قرينا (شيطانا) لكل من ارتكب إثما
نحن نظن أنه في اللحظة التي يرتكب فيها العبد إثما يقيض الله له قرينا (شيطانا) على الفور، لتكون مهمة هذا القرين تكمن في أن يزين لمن وقع في الذنب ما بين يديه وما خلفه. فما أن قتل موسى نفسا في اليوم الأول حتى قيض الله له قرينا شيطانا، فأصبح يزين له ما بين يديه (من إقدامه على قتل هذا الرجل الآخر) وما خلفه (من قتله فعلا للرجل الأول بالأمس). وما كان موسى يستطيع أن يتخلص من هذا الموقف الذي لا يحسد عليه إلا أن تتداركه نعمة ربه. فكيف جاءت تلك النعمة؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: ما أن همّ موسى بقتل الرجل (أي أنصت إلى صوت قرينه الشيطان الذي كان يحثه على القتل) حتى جاء صوت أعلى من صوت ذلك القرين الشيطان، وهو صوت الرجل الذي أراد موسى أن يبطش به من عدوه:
... قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ
وهنا كان لابد لموسى أن يقرر بنفسه حقيقة ما في قلبه وما في صدره ليظهر إلى أي الفريقين هو أقرب: فريق القرين الذي يزين له الأمر ويحثه على المضي قدما في الغلط، أم فريق الذي هو من عدوه ولكنه يدعوه إلى الحق والصواب. وهنا بالضبط (نحن نظن) جاء التمحيص الإلهي لما في قلب موسى والابتلاء لما في صدره. ولما اختار موسى طريق الحق وتخلى عن قرينه استطاع أن يفلت منه فما عاد ليكون من المحضرين:
أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
فما عاد موسى من المحضرين بنعمة من ربه الذي قيض له من ينبهه إلى الرجوع عن الغلط (وهو من عدوه) بعد أن قيض الله له قرينا يحثه على التمادي في الخطأ:
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
5. أن القرين يهدف إلى أن يوصل العبد المذنب إلى النقطة التي لا رجعة فيها وهي إنكار البعث.
نحن نكاد نجزم القول بأنه لو صدّق موسى دعوة قرينه الشيطان لربما تمادى في طغيانه ولربما أصبح من القانطين من رحمة ربه، ولو وصل إلى هذه الحال لجاءه القرين في نهاية المطاف بهدفه النهائي وهو أن يصده عن ربه بالدعوة إلى إنكار البعث:
قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
ولربما وصلت الحال بموسى أن يكفر بربه (كما فعل فرعون) بعد أن ينكر البعث، فيخسر عندها خسارة كبيرة جدا لا تقل عن خسارة أبي لهب نفسه.
6. أن العبد المذنب إذا عاد عن غلطه فتذكر ربه واستغفر لذنبه تلوح له فرصة أن يفلت من قرينه، فلا يكون من المحضرين
لما استطاع موسى أن يتذكر، ولما عَدَلَ أن يكون جبارا في الأرض، وأصبح أقرب إلى أن يكون من المصلحين، استطاع أن يفلت من قبضة قرينه، فكان هروبه من المدينة هو الحل الأسلم حتى يستطيع أن يطهر قلبه تماما من تلك الأضغان التي كانت تعيش فيه. فمكث في مدين سنين من عمره تائبا مستغفرا ربه، ناذرا نفسه بأن لا يكون فعلا ظهيرا للمجرمين، وأن يكون من المصلحين في الأرض. فعاد بالرسالة التي تظهر منتهى القسط وهو الطلب من فرعون بأن يرسل معه بني إسرائيل ليخرجهم من أرض مصر:
حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
فلقد عاد موسى لا يقول على الله إلا الحق، يقر بأن مصر هي حق لأهلها، وأن بني إسرائيل هم دخيلون عليها، وأن الإنصاف يقضي بأن يخرج بنو إسرائيل من الأرض التي ليست لهم، فيكون بذلك إقرار من موسى بأحقية فرعون بملك مصر:
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
وسنتعرض لهذه الجزئية بالتفصيل لاحقا بحول الله وتوفيق منه عندما نحاول في الأجزاء القادمة أن نربط قصة موسى هذه بقصة من سبقه من أنبياء بني إسرائيل وهو يوسف الصديق. ففي حين أن يوسف هو من أدخل بني إسرائيل أرض مصر كان موسى هو من جاء ليخرجهم منها. فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم من الحق الذي أقوله فلا أفتري عليه الكذب، إنه هو الواسع العليم.
7. أن الله يبقى يمحص ما في قلوب العباد ويبتلي ما في صدورهم مهما بلغوا من الذنوب
وأخيرا، نحن نفتري القول أن الله يبقى يمحص ما في قلوب العباد ويبتلي ما في صدورهم ليخرج كل أضغانها مهما عظم ذنب الإنسان. فقد يرتكب الإنسان من المعاصي الكثير، ولكن هذا لا يعني أن يقنط الإنسان من رحمة ربه، فمادام أن في قلب الإنسان ذرة من إيمان فإن الله لا يضيعها ويبقى يمحص تلك القلوب ليخرج أضغانها. فبالرغم من كل الذنوب التي ارتكبها فرعون، إلا أن الله قد أرسل له رسولين ليقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى:
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
السؤال: لماذا أرسل الله رسولين إلى فرعون؟
جواب: لعله يتذكر أو يخشى؟
السؤال: وهل كان هذا ممكنا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نعم. لقد كان في قلب فرعون من الإيمان ما لم يظهره على الملأ، وقد كان فرعون هذا (نحن نظن) عارفا بربه[2]، مقرا بخطئه كلما وقع فيه، فما كان القول سيحق عليه وهو على تلك الشاكلة. فما أنزل الله قرآنا يتلى يقطع خبره كما حصل في حالة أبي لهب. فبعث الله رسولين لفرعون، وأيدهما بالآيات البيّنة ليقدمان له الدليل حتى يخرج فرعون ما كان في قلبه من الإيمان.
ونحن نكاد نجزم القول أن فرعون هذا كان ذا شخصيتين: إحداهما تبين على الملأ من قومه والأخرى يحتفظ بها لنفسه فلا يعلم بها إلاّ ربه. ففي حين أنه كان قد طغى كما يبين من أفعاله إلا أنه كان يدرك حقيقة ما يقوم به على أنه عمل خاطئ، ويعلم أنه يجب أن يتراجع عن ذلك. وعندما ارتكب فرعون من الخطايا ما ارتكب، قيّض الله له شيطانا (مثله مثل الآخرين) ليزين له ما بين يديه وما خلفه، ولكن بالمقابل تداركت نعمة الله فرعون بأن قيض الله له من يذكره بالحق، فكان الذي من عدوه (موسى) هو من جاءه بصوت الحق. وهنا كان لابد أن يحسم فرعون أمره إلى أي الفريقين يجب أن يصغي: إلى صوت قرينه الذي يدلّه على السوء ويزينه له أم إلى صوت الحق الذي يدفعه للرجوع عن طغيانه وإن كان على لسان من هو من عدوه. وهنا تحدث المفارقة: ففي حين أن موسى استمع إلى صوت الحق (وإن كان قد جاءه من عدوه) إلا أن فرعون آثر أن يستمع إلى صوت قرينه الشيطان، فكانت ردة فعله على النحو التالي:
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
نتيجة مفتراة: لا يقيض الله القرين للعبد إلا بعد أن يقوم العبد نفسه بارتكاب المعصية. فمادام أن العبد لم يرتكب معصية فإن القرين لا يستطيع أن يحثه عليه. فالذي يحث الإنسان على الوقوع في السوء هي نفسه الأمارة به:
وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)
وما أن يستمع الإنسان لصوت نفسه الأمارة بالسوء ويقع بالمحظور حتى يجد القرين (وهو شيطان) قد حضر على الفور ليقوم بتزين السوء الذي وقع فيه ويحثه على التمادي فيه:
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
وهنا يأتي الابتلاء لما في الصدور والتمحيص لما في القلوب لتخرج أضغانهم:
وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
ونحن نفتري القول بأنه عندما جاء الابتلاء الرباني لما في صدر موسى خرج منه الإيمان بدليل أنه تراجع عن خطأه وأقر بذنبه واستغفر ربه على ما فاته، ولكن لما جاء الابتلاء الرباني لما في صدر فرعون خرج منه الكفر:
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
السؤال: لماذا لم يستمع فرعون إلى صوت الحق الذي جاء على لسان من هو من عدوه؟ ولماذا آثر أن يستمع إلى صوت قرينه (الشيطان)؟
جواب مفترى: كان حب آل فرعون في قلب فرعون وكرهه لبني إسرائيل أكبر من حبه للحق، فانتصر الظلم عنده على القسط.
السؤال: لماذا استمع موسى إلى صوت عدوه وأفلت من قبضة قرينه؟
جواب مفترى: كان حب القسط في قلب موسى أكبر من حبه بني إسرائيل وكرهه لآل فرعون، فانتصر القسط عنده على الظلم.
السؤال: لماذا انتصر حب آل فرعون في قلب فرعون على القسط؟
جواب: إنه الكِبْر
سؤال: وكيف ذاك؟
جواب: نحن نظن أن الذي حصل في حالة فرعون يشبه إلى حد كبير ما حصل في حالة إبليس يوم أن رفض الأمر الإلهي بالسجود لآدم.
سؤال: وكيف ذلك؟
جواب: نحن نؤمن يقينا بأن الكِبْر هو الذي منع إبليس من الامتثال للأمر الإلهي بالسجود لآدم:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
ونحن نكاد نجزم الظن بأن مثل هذا السيناريو قد تكرر في حالة فرعون. فعندما رءا فرعون (الذي وإن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) أن الفضل أصبح لا محالة لبني إسرائيل مادام أن الرسول منهم، جن جنونه حسدا لما آتاهم الله من فضله:
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54)
(دعاء: اللهم أعوذ بجلال وجهك الذي لا يهلك وعظيم سلطانك الذي لا يفتر أن أكون ممن يحسدون الناس على ما آتيتهم من فضلك. وأسألك رب أن ترحمني وتكشف ما بي وأهلي من ضر وأعوذ بك أن أكون من الذين يلجون في طغيانهم يعمهون - آمين)
فلو تدبرنا السياقات القرآنية لوجدنا أن فرعون لم يكن ملحدا بمعنى إنكار وجود الآلهة، بل على العكس، فقد كان (وملأه) ممن يؤمنون بالآلهة:
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
فهذا السياق القرآني يدل – ربما بما لا يدع مجالا للشك- بأن فرعون كان من الذين يؤمنون بوجود الآلهة. ولكن لو تدبرنا السياق القرآني التالي:
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
لما وجدنا أن فرعون قد أنكر الوجود الإلهي إلا لحظة أن أراه موسى الآية الكبرى. ففي هذه اللحظة بالذات أصبح فرعون منكرا ليس فقط لإله موسى وإنما للآلهة التي كان يتحدث عنها الملأ من قومه. ونسب لنفسه الإلوهية المطلقة (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى).
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: إن مراد القول هو أن فرعون لم يكن يقول للناس بأنه ربهم الأعلى إلا لحظة أن أدرك أن الآية الكبرى قد أصبحت في يد موسى الذي هو من بني إسرائيل. فعندها لم يستطع فرعون أن يتمالك نفسه، فما كان منه إلا أن يزيد في التمادي على ما فعله إبليس نفسه، ففي حين أن مشكلة إبليس قد توقفت عند التكبر على آدم ولم تصل إلى مرحلة التعالي (التطاول على الذات الإلهية) كما نفهم ذلك من السياق القرآني التالي:
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76)
لم تتوقف مشكلة فرعون عند التكبر على موسى (أو على بني إسرائيل) وإنما تجاوزت إلى العلو في الأرض:
مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
نتيجة مفتراة: عندما رأى فرعون الآية الكبرى في يد موسى، أظهر احتجاجه الشديد على رب موسى نفسه فأدعى لنفسه بالإلوهية المطلقة.
السؤال: لماذا؟ أي لماذا تعالى فرعون في الأرض؟
جواب مفترى من عند أنفسنا لا نطلب من القارئ الكريم أن يصدقه ما لم يجد أن الدليل من كتاب الله يثبته وهو: لأن فرعون كان طامعا أن يكون هو الرسول الذي يمسك بيده تلك الآية الكبرى التي أراها إياها موسى. فكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نفتري القول من عند أنفسنا أن فرعون كان ضانا أن الرسالة ليست حكرا على بني إسرائيل، وأن من حق آل فرعون أن تكون رسالة السماء فيهم. فكان يظن أن هناك انحيازا إلهيا غير مبرر لبني إسرائيل إن ظهرت الرسالة فيهم من جديد بعدما هلك يوسف. لذا نحن نظن أن علة فرعون في الأرض كان سببه الاختيار الإلهي لبني إسرائيل على غيرهم:
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33)
تخيلات من عند أنفسنا
نحن نظن أن هذا الفرعون كان من الطامعين في أن تقع الآية الكبرى في يده، فيكون هو بذلك رسول من الله إلى الناس. فكان ساكتا لا يقتل أبناء بني إسرائيل ولا يستحيي نساءهم كما طلب الملأ من قومه:
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
فجاء رده على طلب قومه من باب الوعد بأن يقوم بذلك لاحقا. وبقي هذا الفرعون صامتا مترددا في أن يحسم أمره، تثنيه عن التقتيل في بني إسرائيل (كما فعل الفرعون الذي سبقه) الرغبة في الحصول على تلك الآية الكبرى. وما أن رأى هذا الفرعون أن أمر الآية الكبرى قد حسم لتقع من جديد في واحد من أبناء بني إسرائيل حتى جن جنونه ليس انتقاما من موسى وبني إسرائيل وإنما تعاليا على رب موسى الذي ظن فرعون أنه لم يكن منصفا بهذا الاختيار الجديد للرسالة، فجاءت ردة فعله على الفور على النحو التالي:
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
التساؤلات:
1. ما هي تلك الآية الكبرى؟
2. ما الذي كذبه فرعون؟
3. وكيف عصى؟
4. لماذا فرعون هو من أدبر يسعى؟ ألم يكن الأولى بموسى أن يدبر؟ فكيف بفرعون هو من يدبر؟
5. إلى أين كان فرعون يسعى بعد أن أدبر؟
6. لماذا حشر ونادى؟
7. ومن الذي حشرهم فرعون وناداهم؟
8. وكيف بفرعون يقول للملأ جميعا أنا ربكم الأعلى فيسكتوا له على ذلك وهم الذين كانوا قبل هذه اللحظة يقرون بوجود آلهة لفرعون نفسه؟
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
9. الخ.
السؤال: كيف حصل ذلك كله؟
تخيلات من عند أنفسنا: لقد كان التنافس شديدا في الأرض (أرض مصر) بين بني إسرائيل من جهة وآل فرعون من جهة أخرى. وقد كان كل منهما يظن أن الاصطفاء الإلهي حق له على غيره. فبنو إسرائيل يظنون أن النبوة حق مكتسب بالوراثة فيهم، وكان آل فرعون (وخاصة فرعون نفسه) يظنون أن النبوة (ولنقل الرسالة) اصطفاء إلهي لا يكتسب بالوراثة وأن لهم نصيب في هذا الاصطفاء الإلهي. ولعلي أكاد اجزم القول بأن هذا الجدل هو الذي أشعل فتيل العداوة المزمنة بين الطرفين بعد أن كانوا يعيشون فيها آمنين، فلقد دخل بنو إسرائيل أرض مصر في زمن يوسف الصديق آمنين:
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99)
كما كاد أجزم القول بأن هذا الجدل بين الطرفين قد نشب مباشرة بعد هلاك يوسف:
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34)
فكانت الفكرة السائدة حينها (أنا أتخيل فقط) هو الظن بأن الله لن يبعث رسولا من بعد يوسف. ولكن لو وضعنا هذه الآية الكريمة في سياقها الأوسع لوجدنا أن هذا كان من باب الجدال في آيات الله بغير سلطان:
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
فلقد كانت الفكرة المسيطرة على قلوب نفر من بني إسرائيل أن النبوة (أو الرسالة) قد انقطعت وللأبد بسبب أن يوسف قد هلك. فمادام أن يوسف قد هلك فإن الرسالة قد توقفت لأن خط وراثة النبوة قد انقطع. فلا شك عندنا أن يوسف قد هلك فلم يكن لد ولد:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
فكانت وراثة يوسف من باب الكلالة مادام أنه قد هلك، فلم يكن له ولد ولكن لا شك أن يوسف كان له إخوة رجالا. وهنا احتدم الجدل داخل بني إسرائيل أنفسهم، فحتى لا يتفضل بعض منهم على البعض الآخر (نحن نتخيل) خلص نفر منهم إلى القول بأن الله لن يبعث رسولا من بعد يوسف:
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34)
ولكن هذه النتيجة لم تكن مرضية لنفر من بني إسرائيل كما لم تكن بكل تأكيد مرضية لغيرهم. فلِم يجب أن تكون النبوة (ومن ثم الرسالة) في بني إسرائيل؟ ولم يجب أن تنقطع مادام أن يوسف قد هلك؟ أليس هذا (إن صح) تحيّز إلهي واضح لبني إسرائيل على حساب الآخرين؟ ربما تساءل البعض.
جواب: نحن نظن أن آل فرعون (من بين كل سكان المحروسة – كما يرغب أهل مصر أن يدلعوها) هم من تزعموا حركة "معاداة السامية" (بالمصطلحات الحديثة) حينئذ. فكيف حصل ذلك؟
جواب: لا شك عندنا أن بني إسرائيل قد دخلوا مصر زمن يوسف الصديق بطلب من يوسف يوم كان هو عزيزها:
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
فجاء يعقوب النبي مع بني إسرائيل ودخلوا مصر آمنين:
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99)
ولا شك عندنا أن يعقوب وبنيه قد جاءوا أصلا من البدو:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وأن شيئا من ملك مصر (وليس ملك مصر كله) قد وصل إلى يوسف:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
وقد عاش بنو إسرائيل في أرض مصر في عصر الملوك، وليس أدل على ذلك من الملك الذي رءا في منامه:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
ويؤكد الله هذه الحقيقة بحق بني إسرائيل:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20)
فكان النظام السياسي السائد في مصر حينئذ هو نظام ملكي ينتقل الحكم فيه بالوراثة. وقد استطاع بنو إسرائيل أن يسيطروا على ذلك النظام، فتحكموا بمقدرات البلد (مصر) على حساب بعض أهلها الأصليين.
فما كان من بعض أهل البلد (المصريين) خاصة آل فرعون منهم إلا أن بدأوا يبدون امتعاضهم شيئا فشيئا لهذا النفوذ المتنامي لبني إسرائيل في أرض مصر على حساب أهل البلد الأصليين.
لمّا أخذ بنو إسرائيل ينشغلون بتسوية خلافاتهم بخصوص من ستؤول إليه النبوة (أي خلافاتهم الدينية العقائدية):
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
وأصبح جدالهم من باب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ضعفت شوكتهم لصالح آل فرعون الذين كانوا يتزعمون حركة "معاداة السامية" حينها.
وأصبح آل فرعون يدبرون الأمر للإطاحة بنفوذ بني إسرائيل في أرض مصر. فتمكنوا من ذلك عندما استطاع الفرعون الأول الوصول إلى الحكم، فكان أول ما فعله هذا الفرعون الأول هو استعباد بني إسرائيل وتقتيل أبنائهم واستحياء نساءهم (انظر مقالاتنا تحت عنوان: قصة موسى: فرعون الطفولة):
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
ولكن ما أن استتب الأمر لهذا الفرعون العسكري حتى أصبح بنو إسرائيل مستعبدين في الأرض:
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
وكان هذا الفرعون الأكبر هو عدو لله، فكانت حكمة الله تقضي بأن يتربى طفل من بني إسرائيل في بيته، فكان موسى هو ذلك الطفل:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
ما أن نشأ موسى في بني إسرائيل حتى أدرك أن هذا الفرعون هو عدو لله، فكان موسى عدوا وحزنا ليس فقط لهذا الفرعون وإنما لآل فرعون:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
ونحن نظن أن موسى قد تعلم ذلك كله في أهل البيت الذين كفلوه لهم، فكانوا له ناصحين:
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
كما تعلم ذلك من امرأة فرعون نفسها التي طلبت من الله أن ينجيها من فرعون وعمله:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وهنا حصلت المفارقة الأولى العجيبة التي تمثلت في هروب موسى الأول من بلاط فرعون وخروجه من المدينة كلها. وما عاد إلى ليدخل المدينة من جديد إلا يوم موت ذلك الطاغية، فكانت المدينة كلها على حين غفلة:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)
ولقد زعمنا الظن بأن المدينة كانت على حين غفلة من أهلها لأن ذلك الفرعون الأول قد مات، ولم يكن له ولد يتولى الحكم من بعده بدليل أن امرأته قد بررت كفالة موسى بأن يتخذاه ولدا:
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
فلم ينتقل الحكم بطريقة سلسة في غياب الوريث الشرعي للفرعون. فبقيت الفوضى تعمّ المدينة، واستطاع بنو إسرائيل أن يبدوا شيئا من المقاومة بدليل أن موسى عندما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها وجد الصراع على أشده بين من هم شيعته مع من هم من عدوه:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)
وما توقف ذلك إلا لحظة أن وصل فرعون جديد إلى سدة الحكم، فكانت النصيحة الأولى له من ملأه تتمثل بأن لا يذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، فقطع هذا الفرعون الجديد العهد للملأ من قومه بأنه سيقتل أبناء بني إسرائيل ويستحي نساءهم.
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
عودة على قصة الغلام الذي قتله صاحب موسى
وهنا نعود إلى قصة الغلام الذي قتله موسى بالقول بأن وجه الشبه بين هذا الغلام وفرعون كانت منعدمة تماما بينما كان هناك تشابه كبير بين ذاك الغلام وأبي لهب. ففي حين أن أبا لهب قد حق عليه القول وأن هذا الغلام قد حق عليه القول فكان قتله من باب قتل من الدواب شرها، لم يكن فرعون كذلك، فحتى اللحظة الأخيرة من حياته (لحظة أن أدركه الغرق) لم يكن فرعون من الذين حق عليهم القول فهم لا يؤمنون، بدليل أنه فعلا مات مؤمنا بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل فكان من المسلمين:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
والله أعلم
وللحديث بقية
دعاء: فالله وحده أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً، وأسأله وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يجعل فضله عليّ عظيما، والحمد لله رب العالمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
23 أيار 2013
ما هو العقم؟
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
العقيم هي عبارة عن ما يشبه الشيء الذي يدفع (كالريح) أو كمني الرجل أتى على شيء جعله كالرميم
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
والرميم هو عبارة عن تفتيت الشيء إلى جزيئاته المكونة له:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
ما الذي يحصل في حالة الرجل العقيم؟
ينحدر ماء الرجل إلى رحم الأنثى بقوة دافعة (كحالة الريح) فإذا كان الرجل عقيما كانت عملية القذف تشبه حركة الريح العقيم، فتأتي على بويضات المرأة وبدل أن تلقحها تقوم بتفتيتها لتجعلها كالرميم، أي تحيل بويضات المرأة إلى ركام هامد، عندها يصحب من الاستحالة بمكان أن يحدث الحمل.
فمن يستطيع تصليح الأمر؟
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
[1] نحن نميّز بين فرعون الذي تربى موسى في بيته عندما كان صغيرا وفرعون الذي جاءه موسى بالرسالة. انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة.
[2] نحن لا نتحدث هنا عن فرعون الذي تربى موسى في بلاطه، لأن هذا الفرعون الذي أخذ موسى كان منذ تلك اللحظة عدو لله:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
بعد أن التقطه آله في اليم ليكون لهم عدوا وحزنا:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
ولكننا نتحدث عن هذا الفرعون الذي جاءه موسى بالرسالة، وهو الذي وإن كان قد طغى إلا أنه لم يصبح بعد عدوا لله:
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)