قصة يوسف 6: وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي
كم قميص كان عند يوسف؟
أما بعد،
نبدأ النقاش في هذا الجزء من المقالة من حيث انتهينا في الجزء السابق، وكنا قد أثرنا التساؤل التالي: ما هو برهان ربه الذي رءاه يوسف حتى توقف عن الهمّ بمن همّت به؟
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
فافترينا القول حينئذ أن الهمّ كان يتمثل في وضع الملابس (أي خلعها بلغتنا الدارجة) من أجل المباشرة الفعلية، فخلعت المرأة ملابسها كاملة وتهيئات له:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وما أن بدأ يوسف بخلع ملابسه لكي يباشرها وهي على تلك الحالة التي هيأتها له، حتى رأى برهان ربه الذي منعه من الاستمرار في الهمّ بها، فحال بينه وبين الوقوع في الفاحشة، وقد صرف الله عن يوسف السوء والفاحشة لأنه كان من عباد الله المخلصين:
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
السؤال: ماذا كان ذلك البرهان؟
رأينا: نحن لا نشك قيد أنملة أن البرهان قد جاء إلى يوسف من ربه بدليل أن البرهان قد أضيف إلى ربه، فأصبح يعرف بـ (بُرْهَانَ رَبِّهِ)، ولكي نتعرّف إلى ذلك البرهان فلابدّ من التعرض للتساؤل الكبير التالي: كيف يمكن أن يكون البرهان من رب يوسف نفسه؟
جواب مفترى: ربما نستطيع أن نتفهم ذلك لو أننا جلبنا السياق القرآني التالي الذي يتحدث عن البرهان:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
لو تفقدنا هذا النص القرآني لوجدنا أنّ ما فعله موسى عندما سلك يده في جيبه كان برهانا من ربه، وأن ما فعله موسى من ضم يده إلى جناحه كان أيضا برهان آخر من ربه، فكانا معا (بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ). لذا نحن نحاول أن نتدبر كيف يمكن أن يكون ما رءاه يوسف برهان من ربه ضمن هذا الإطار العام؟
سؤال: هل البرهان هو آية؟ وما الفرق بين البرهان والآية؟
رأينا: لا بد من التمييز بين البرهان من جهة:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
والآية من جهة أخرى:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
فلقد سبق هذه الآية الأخرى آية أولى وهي عصا موسى:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
فكانت عصا موسى آية وكانت يده آية أخرى. ولكن كانت عملية سلوك يده في جيبه برهان وضم جناحه إليه برهان آخر، فلماذا؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لمّا كانت عصا موسى غير مغطاة، ولما كانت يده نفسها غير مغطاة[1]، كانت كل واحدة منهما آية لأن الجميع يستطيعون رؤيتها في الحال، ولا يحتاج موسى أن يفعل شيئا من عنده لكي يري الناس من حوله ما عنده من الآيات، ولكنّ عملية سلوك اليد في الجيب وعملية ضم الجناح إليه تؤدي إلى إخفائهما، ولابد أن يقوم موسى بفعل شيء حتى يراها من هم حوله:
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (108)
دقق– عزيزي القارئ- في هذا النص القرآني جيدا، لتجد أنه لزاما علينا أن نتدبر في الفرق بين أن تكون عصا موسى (ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ) بينما كان نزع يده (لِلنَّاظِرِينَ)، ألم تكن العصا أيضا للناظرين؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن عصا موسى كانت ثعبانا مبينا (ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ) لأنها لم تكن مغطاه أصلا، فموسى يحمل عصاه بيده ويستطيع من حوله أن يراها دون فعل يقوم به موسى من عنده، فلم يعمد موسى إلى إخراجها من داخل شيء كان يخفيها، ولكن - بالمقابل- احتاج موسى أن ينزع يده من جيبه ويظهرها لمن هم حوله لكي ينظروا إليها ليرونها بأم أعينهم، ولو أن موسى لم يفعل ذلك لما (نحن نظن) استطاعوا أن يرونها.(وسنتحدث لاحقا في سلسلة مقالاتنا عن موسى عن السبب الذي من أجله طلب الله من موسى أن يدخل يده في جيبه والسبب الذي من أجله طلب الله من موسى أن يضم إليه جناحه، ويكفي أن نبوح هنا بالعقيدة التي مفادها أن لذلك علاقة مباشرة بقصة القميص، فالله أسأل أن يعلمني علما لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع الحكيم).
إن هذا الطرح يقودنا إلى الاستنباط المفترى من عند أنفسنا التالي: البرهان هو شيءٌ مغطى يحتاج أن يُكشف لكي يراه الناس، ويصبح برهانا متى ما رءاه الناس بأم أعينهم، لذا نجد التلازم الذي يكاد لا ينفك عراه بين البرهان وفعل الرؤيا:
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
لذا، فإننا نعتقد أن ما رءاه يوسف كان برهانا لأنه كان قبل أن يراه مغطى، وما رءاه يوسف إلا بعد أن تكشف له، ونحن نزعم الظن بأن يوسف ربما كان قد رأى آية (وليس برهانا) لو أن ما رءاه لم يكن أصلا مغطى.
السؤال: ما هو الشيء الذي كان مغطى وما أن كشف يوسف عنه الغطاء حتى رءاه برهانا من ربه؟
رأينا المفترى الخطير جدا الذي نطلب من القارئ الكريم أن لا يصدقه ما لم يثبته الدليل القاطع من كتاب الله: إنه الشيء نفسه الذي كان يوسف قد سرقه، فاتهمه إخوته بسرقته منهم لاحقا:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
لذا نحن نفتري القول بأن يوسف كان قد سرق شيئا، وإلاّ لما اتهمه إخوته بذلك بصريح اللفظ القرآني، ولربما جاء ذلك في النص القرآني حينئذ من باب الإفك:
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
وإلاّ لربما جاء النص القرآني واضحا ليكذب دعواهم تلك بالقول مثلا (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ):
أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
لذا، نحن نزعم القول أن إخوة يوسف وإن كانوا يفترون القول إلا أنهم لم يكونوا يفترون الكذب عندما اتهموا أخاهم يوسف بسرقة شيء ما، فهم كانوا مقتنعين أن يوسف قد سرق شيئا منهم، ولم يكن ذلك من باب الإفك. ولو راقبنا تتمة النص القرآني الذي يتحدث عن اتهام إخوة يوسف له لما وجدنا إنكارا صريحا من يوسف لمثل هذه التهمة:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
ولوجدنا أن جل ردة فعل يوسف هي أن ينسب إليهم شراً أكبر من الشر الذي نسبه لنفسه عندما قال (أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ). ألا يعني ذلك– عزيزي القارئ- أن يوسف ينسب لنفسه بعض الشر وإن لم يكن بدرجة الشر المتوافر عند إخوته؟
السؤال: ما الذي حصل فعلا؟ وما الذي سرقه يوسف واتهمه إخوته بسرقته؟
رأينا المفترى: لقد كان إخوة يوسف يتنافسون معه على ميراث النبوة. فكان ما سرقه يوسف واتهمه إخوته بسرقته هو شيء محدد من ميراث النبوة.
الدليل
لا شك عندنا أن هذا افتراء كبير وخطير جدا لما سيترتب عليه من تبعات، لذا لابد من جلب الدليل عليه، وسنبدأ البحث عن الدليل منطلقين من الافتراء التالي الذي سبق وأن حاولنا تسويقه في مقالات أخرى لنا ألا وهو: للنبوة ميراث مادي يقع في يد من كانت النبوّة من نصيبه، ويتم تناقل هذا الميراث من نبي إلى نبي. ولما كان هذا البيت الطاهر من سلالة إبراهيم هو من جعل الله النبوة فيه بنص الآية الكريمة التالية:
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
استقر في هذا البيت الكريم (نحن نفتري القول) من ميراث النبوة ما دعى الإخوة أن يتسابقون في حيازته.
السؤال: ماذا كان ميراث النبوة الذي استقر جلّه في بيت إسحق ويعقوب ويوسف من سلالة إبراهيم عليهم جميعا أفضل السلام؟
نحن نظن أن الإجابة يمكن التوصل إليها بعد طرح التساؤل الغريب التالي الذي طرحناه في بعض مقالاتنا السابقة خاصة في سلسلة مقالاتنا تحت عنوان لماذا قدم لوط بناته بدلا من ضيوفه؟ والسؤال هو: لماذا استمرت النبوة في ذرية إبراهيم من إسحق ويعقوب ومن ثم يوسف بينما توقفت عند إسماعيل ولم تستمر في ذلك الفرع الطيب كما استمرت في الفرع الآخر؟
جواب مفترى: إنه ميراث النبوة. ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نعتقد أن هناك دلالات مادية تشير إلى أن من يملكها سيكون هو الوريث الشرعي للنبوة، فلقد كان أول شيء سأل الله موسى عنه في لقاءه ربه الأول هي تلك العصا:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
فجاء رد موسى المباشر على النحو التالي:
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
فنسب موسى العصا إليه ليدلنا على تعلقه الشديد بها، فأصبحت قصة موسى بأكملها تدور حول تلك العصا (انظر مقالاتنا تحت عنوان باب السامري). فكانت العصا بحد ذاتها دليلا ماديا على نبوة موسى.
وقد كانت آية ملك طالوت (وهو الذي لم يؤت سعة من المال) أن يأتي ذلك التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هرون:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن النبوة قد استمرت وتواصلت في بيت إبراهيم حيث فرع إسحق ويعقوب ويوسف لأن ميراث النبوة قد استقر في ذلك البيت الكريم، بينما توقفت في بيت إبراهيم حيث فرع إسماعيل لأنه خلا من ذلك الميراث.
السؤال القوي: ما هو ذلك الميراث المادي الذي استقر في هذا الفرع من بيت إبراهيم (فرع إسحق)؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: إنه ما كان يملكه إبراهيم نفسه كأعطية مباشرة من ربه.
السؤال: وما هو الشيء الذي جاء إبراهيم من ربه مباشرة؟ ومتى حصل ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن هذا التساؤل يعيدنا على الفور إلى البحث في قصة إبراهيم نفسه، لنتدبرها من هذا الجانب، وهنا نستذكر ذلك الجانب من القصة الذي يخص ما حلّ بإبراهيم نفسه يوم أن ألقاه قومه في تلك النار العظيمة التي أوقدوها من أجله:
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
وهنا تدخلت القدرة الإلهية لتنقذ إبراهيم من تلك النار:
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
وهنا نتوقف مع هذا السياق القرآني لنثير حوله بعض التساؤلات التي نظن أنها ستسعفنا في فهم ماهية ميراث النبوة الذي جاء إبراهيم مباشرة من ربه، ثم استمر في بيت إسحق ويعقوب ويوسف، وانقطع من بيت اسماعيل، حتى كان استمرار الكتاب والنبوة في فرع دون الفرع الآخر. (وسنتعرض للحديث عند الكيفية في انتقال ميراث النبوة إلى فرع إسحق دون فرع إسماعيل لاحقا بحول الله وتوفيق منه، فالله اسأله وحده أن يهديني إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون – آمين).
التساؤلات
- ماذا حلّ بإبراهيم عندما ألقاه قومه في النار؟
- هل احترق إيراهيم نفسه؟
- ماذا حصل لملابس إبراهيم التي كانت تستر عورته عندما ألقاه قومه في النار؟
- كيف خرج إبراهيم من تلك النار؟ هل خرج دون ملابس تستر عورته؟
- ماذا حلّ بجسم إبراهيم؟ ألم ينكسر له عظم مادام أنه قد ألقي من بنيان مرتفع (قَالُواابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا) إلى نار هي الجحيم بعينه (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) ؟
- كيف استطاع إبراهيم أن يخرج من ذلك الجحيم؟ أي ماذا كانت آلية خروجه من هناك؟
- الخ.
افتراء خطير جدا جدا رقم (1): نحن نفتري الظن بأن الأمر الإلهي قد صدر للنار بأن تكون بردا وسلاما على إبراهيم نفسه، ولكن لم يصدر أمر إلهي بأن تكون بردا وسلاما على ما كان يغطي جسم إبراهيم من الملابس التي كانت تستر عورته حينئذ، لذا فإن ملابس إبراهيم قد أحرقتها تلك النار التي لم تستطع أن تحرق إبراهيم نفسه، ولكن الله (نحن نفتري القول) ما كان ليدع إبراهيم ليخرج من النار دون أن يستر عورته، فألبسه الله رداء يستر به عورته وهو خارج من تلك النار، فكان ذلك أعطية من الله لإبراهيم.
افتراء خطير جدا جدا رقم (2): ونحن نفتري الظن أيضا بأن القوم قد ألقوا بإبراهيم في الجحيم، فسقط إبراهيم سقوطا شديدا من فوق ذلك البنيان الشاهق في ارتفاعه، لذا فإن كانت النار لن تحرقه، فكيف بعظامه لا تنكسر نتيجة ذلك السقوط في ذلك الجحيم السحيق في سواءه؟ وكيف به سيخرج من ذلك الجحيم مادام أن الجحيم هو مكان منخفض جدا يتم الإطلاع عليه من فوقه:
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55)
فكان لابد لإبراهيم (نحن نفتري القول) من وسيله تمكّنه من الخروج من ذلك الجحيم وتساعده على أن لا تتكسر عظامه نتيجة ذلك السقوط، فجاءته (نحن نفتري الظن) الأعطية الثانية من ربه التي تمكّنه من ذلك بكل يسر وسهوله.
السؤال القوي جدا (1): ما هو الشيء الذي ألبسه الله لإبراهيم ليستر عورته في خروجه من النار؟
السؤال القوي جدا (2): وما الشيء الذي أعطاه الله لإبراهيم لكي يتمكن من الخروج من ذلك الجحيم فلا ينكسر له عظم؟
جواب مفترى خطير جدا جدا جدا نرجو أن لا تصدقوه ما لم تجدوا أن الدليل من كتاب الله يثبته:
- أما الشيء الذي ستر الله به عورة إبراهيم فهو القميص
- وأماالذي ساعد إبراهيم للخروج من سواء الجحيم فهي العصا
ولمّا كانت العصا باديةً لا تغطى كانت آية بيّنة، ولكن لمّا كان القميص (وهو ما يستر العورة) يمكن أن يغطى بقميص آخر فوقه كان برهانا.
(وسنرى لاحقا أن مثل هذا الافتراء ربما يفسر لنا لِم كانت العصا في يد موسى هي الآية البينة من ربه ولِم كان سلوك موسى يده في جيبه (أي جيب ذلك القميص) وضم جناحه إليه من الرهب هما البرهانان من رب موسى إلى فرعون وملئه. وسنتحدث عن قصة العصا عندما نتابع حدينا عن قصة موسى لاحقا بحول الله وتوفيق منه، فالله أسأله وحده أن يعلمني تفصيل الكتاب الذي أحكمت آياته من لدنه إنه هو الحكيم الخبير- آمين)
أما الآن فسنتناول فقط قصة ذلك القميص الذي كان جزءا من ميراث النبوة، والذي جاء إبراهيم كأعطية ربانية يوم أن أخرجه من النار ليستر به عورته، لنفتري القول بأن يوسف كان يلبس ذلك القميص ليستر به عورته، وهو البرهان نفسه الذي رءاه يوسف عندما همّ بالمرأة التي همّت به، فحال بينه وبين الوقوع في الفاحشة.
عودة على بدء: البرهان الذي رءاه يوسف
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل ما حصل مع يوسف في بيت تلك المرأة التي راودته عن نفسه على النحو التالي: سنحت الفرصة لامرأة العزيز أن تخلو بيوسف فتغلّق بنفسها عليه الأبواب بعد أن كانت تراوده على ذلك منذ زمن (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ)، وما أن تجده عندها في خلوة حتى هيأت نفسها له (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ)، فحاول يوسف أن يمنع نفسه (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). إلا أن الغريزة كانت أقوى منه، فعندما وجدها قد همّت به وقد وضعت عنها (أي خلعت) ملابسها كاملة (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، ما كان منه إلا أن يهمّ بها (وَهَمَّ بِهَا)، فبدأ يخلع ملابسه شيئاً فشيئا ليواقع المرأة في فراشها، وما أن خلع شيئا من ملابسه حتى وصل إلى ما كان يستر عورته وهو – برأينا- القميص نفسه الذي ستر الله به عورة نبيه وخليله إبراهيم يوم أن أخرجه من النار. وما أن رءا يوسف ذلك القميص حتى ذكرّه ذلك القميص على الفور بمن اتبع ملتهم بعد أن ترك ملة القوم الذين تربى فيهم بعد أن أصبح عبدا يباع ويشترى في السوق:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
فكان ذلك القميص الذي يغطي عورته هو - في رأينا المفترى من عند أنفسنا- برهان ربه الذي منعه عن متابعة الهم بالمرأة (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ). ولآن لندعو القارئ الكريم أن يقرأ السياق القرآني كله من هذا المنظور الذي نفتريه من عند أنفسنا، لندع له الحكم بالمقارنة بين ما نفتريه نحن من قول عند أنفسنا وما قاله من سبقنا من أهل الدراية والرواية عن علم من عندهم:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
نعم، لقد جلبت رؤية ذلك القميص الداخلي (البرهان) على الفور صورة آباءه إبراهيم وإسحق ويعقوب إلى الذهن، فتذكر على الفور أن هذه السلالة الطاهرة ما كانت لتعصي الله وتقع في هذا المحظور الكبير (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا). عندها فقط هرب يوسف من ذلك المكان مستبقا المرأة إلى الباب، ليخرج سالما بتوفيق الله الذي صرف عنه السوء والفحشاء، ولكن لم تكن رغبة المرأة الجامحة به لتتركه وشأنه، فما كان منها إلا أن لحقت به إلى الباب، لتمسك بقميصه من الخلف فتقدّه، وهناك ألفيا سيد تلك المرأة لدى الباب:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
الدليل
لو دققت - عزيزي القارئ- في هذا السياق القرآني لربما وجدت بكل يسر وسهوله أن أدوات تلك الجريمة التي كادت أن تحصل كانت متوافرة عندما ألفيا سيدها لدى الباب. فلم يكن بالإمكان إخفاء تهمة الفاحشة. ولكن لماذا؟ أي لماذا لم تستطع المرأة إلاّ أن تعترف لسيّدها بأن حادثة الزنا كادت أن تقع؟ ولماذا لم يحاول يوسف إنكار أن حادثة الزنا كادت أن تقع؟
جواب: بداية نحن نعرف بأن يوسف كان فتى لتلك المرأة، أليس كذلك؟
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
لذا، لو أن تلك المرأة لم تكن في وضع محدد بعينه يبين من خلاله بجلاء لكل من شاهده أن المرأة في حالة وقوع في الفاحشة، لما كانت المرأة بحاجة أن تذكر ذلك لسيدها لتدافع عن نفسها عندما ألفياه عند الباب:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
ولو لم يكن يوسف في حالة توحي بالوقوع بالفاحشة، لما تحدّث لسيدها ليدفع عن نفسه تلك الفاحشة أصلا:
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26)
فهل كان يمكن أن يخطر في بال سيّدها أن الإثنين (المرأة وفتاها) كان في حالة وقوع في الفاحشة لو أنهما كانا يلبسان ثيابهما كالمعتاد؟ أليس يوسف فتى للمرأة يمكن أن يتواجد معها في البيت؟ فما الغرابة أن يتواجدا معا لدى الباب؟
ولو تصورنا بأن المرأة كانت لابسة ثيابها وأن يوسف لم يكن كذلك، ألا يكون واضحا حينها أن يوسف هو المعتدي، فهل تحتاج أن تدافع عن نفسها؟
... قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
وما الحاجة أن تكون هي متواجدة في تلك اللحظة معه عند الباب؟ أليس من المفترض أن تكون المرأة في وضع هروب من يوسف وليس في وضع لحاق به عند الباب؟
ولو تصورنا أن المرأة كانت لابسة ثيابها بينما كان يوسف هو من خلع ملابسه، فهل تحتاج المرأة حينها أن تدافع عن نفسها؟ ألا يكون حينها واضح للعيان من هو المعتدي؟ من يدري!!!
ولو تصورنا أن يوسف لم يكن واضعا شيئا من لباسه حينئذ، فلم يحتاج سيدها أن يبحث عن المعتدي منهما؟ وما الداعي أن يشهد شاهد من أهلها على من كان المعتدي منهما؟
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
رأينا: نحن نظن أن المرأة لم تستطع أن تنكر احتمالية وجودها في موقف كاد أن يترتب عليه وقوع الفاحشة، وأن يوسف لم ينكر ذلك كذلك، لأن هيئتهما من حيث اللباس على وجه التحديد كانت – برأينا- تظهر ذلك لكل من نظر بأم عينه. فكيف كانت حالتيهما من حيث الملابس عندما ألفيا سيدها لدى الباب؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن المرأة كانت واضعة (أي خالعة) لجميع ملابسها فانكشفت عورتها، بينما كان يوسف واضعا لشيء من ملابسه، فلم تنكشف عورته.
الدليل
بداية نحن نحمل الرأي الذي مفاده أن السر الأكبر في قصة يوسف بأكملها يتمحور حول سر ذلك القميص، فهناك في سورة يوسف ثلاث حوادث رئيسة كان القميص فيها الفصل في الأمر وهي:
1. الموقف الأول: عندما جاء إخوة يوسف على قميصه بدم كذب:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
2. الموقف الثاني: عندما قدّت تلك المرأة قميص يوسف من دبر:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
3. عندما أرسل يوسف إخوته بقميصه إلى أبيه ليرتد بصيرا:
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
ونحن نتوقف هنا لننظر في التساؤلات التالية:
1. ما هي قصة القميص في سورة يوسف؟
2. لماذا تكرر ذكر القميص في قصة يوسف؟
3. كم كان يملك يوسف من "القمصان" (جمع "قميص" بلهجتنا الأردنية)؟
4. ما هو القميص الذي عاد به إخوته إلى أبيهم وعليه ذلك الدم الكذب؟
5. ما هو القميص الذي قدّته المرأة التي راودته عن نفسه؟
6. ماذا حلّ بذلك القميص المقدود من الدبر؟
7. ما هو القميص الذي أرسل يوسف به إخوته إلى أبيهم ليرتد بصيرا؟
9. هل كان القميص نفسه في الحالات كلها؟ أم هي ثلاثة من القميص (أي القمصان: إن كانت هي جمع قميص) في الحوادث الثلاث؟
10. الخ.
هذه تساؤلات لابد من الخوض فيها للوقوف على تفاصيل القصة كما حصلت على أرض الواقع كما نفهمها نحن من السياقات القرآنية. وسنبدأ البحث بها طارحين بداية التساؤل التالي: ما هو القميص أصلاً؟
استراحة قصيرة
نحن نظن أن القرآن تفصيلا للكتاب الذي ما فرّط الله فيه من شيء:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
لذا، لابد أن نجد في كتاب الله المفصل قرآنا عربيا جوابا على تساؤلنا هذا عن القميص، ولكن كان استفسار بعض من تحاورت معهم حول مثل هذه الجزئيات يتلخص بالتساؤل الإجرائي التالي: كيف يمكن أن نصل إلى مثل هذا الهدف إن كانت المفردة (كمفردة القميص مثلا) لم ترد إلا في قصة يوسف فقط؟ فهل نستطيع – يا ترى- أن نصل إلى المعنى الحقيقي لهذه المفردة مثلا من خلال أحداث قصة يوسف نفسها؟
رأينا: كلا، لا نستطيع ذلك. أي لا نستطيع أن نستنبط معنى مفردة القميص مثلا من قصة يوسف فقط، ولابد من ربطها مع القرآن بأكمله، لأننا نؤمن إيمانا يقينيا بأن القرآن جملة واحدة لا يتجزأ. لذا فإن فهمنا للآية الكريمة التالية ربما يكون مغايرا عن ما ألفناه عند أهل الدراية من قبلنا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
فقد كنا نجد من خلال مشاهداتنا اليومية لتصرفات وأقوال أهل الدراية وأهل الرواية أن شطر هذه الآية الكريمة قد سُلِّطت سيفا قاطعا على رقاب الناس لكي لا يسألوا إلا عن ما يريدهم أهل الدرية من أصحاب الفضيلة والإمامة والآيات (والسماحة بالطبع) أن يسألوا عنه. فإذا ما وجد عالمهم أنه لا يملك إجابة على تساؤل قد أثير يلجأ فورا إلى سلاحه الجاهز على الدوام ليشهره في وجه من سأله قائلا: "هناك أشياء لا يجوز أن نسأل عنها ونحن نأخذها بالإيمان (بالنقل لا بالعقل)"، ولكن إن أثار الناس من حوله سؤالا يظن أن باستطاعته الإجابة عليه لا تتوقف حنجرته عن الصدع بما في جعبته ربما لساعات وساعات. ولا يتوقف عن التغني بالمنطق والعقلانية التي يجدها في هذا الدين ويميزه عن غيره من الأديان (في نظرهم). ويكأن لسان حالهم يقول لمن حولهم هناك أشياء يحق للإنسان أن يسأل عنها، وهي ما نملك لكم جوابا عليها. وهناك – بالمقابل- أشياء لا يحق للناس أن يسألوا عنها، وهي تشمل (بمنطقنا المفترى هذا) كل ما لا يملك أهل الدراية أصحاب الفضيلة والإمامة والآيات (والسماحة بالطبع) إجابة مقنعة لها. ولعلي أظن أن هذا كان أحد المحركات الرئيسة التي دعت أن يظهر في مؤلفاتهم ما يسمّونه بفقه إثارة الشبهات عند أهل السنة والجماعة والتقية عند أهل التشيع المنتصرين لآل البيت.
أما نحن فلا هذه عقيدتنا ولا تلك، ونحن على العقيدة التي مفادها أن ليس في دين الله شبهة حتى يتم إثارتها أو السكوت عليها، وليس في دين الله ما يدعو إلى التقية، فدين الله واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار، ولا يتقي ولا يسكت عن شبهات إلا (نحن نظن) من كان يبطن ما لا يظهر. وأظن (أقول أظن) أن هذا ليس إلا سلوك أهل النفاق، الذين كان منهجهم على الدوام هو ما نظن أن كتاب الله يصوره أحسن تصوير في الآية الكريمة التالية:
وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
وهم الذين تصورهم (في ظننا) الآية الكريمة التالية أحسن تصوير:
أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79)
ونحن نؤمن إيمانا يقينيا أن كتاب الله لم يفرط في شيء، وأن كتاب الله جملة واحدة يجيب على كل تساؤل يمكن أن يقع في قلب بشر، ولكن بشرط واحد، ألا وهو: أن يُقرأ كتاب الله كاملا بالطريقة التي أرادها الله. لذا فإن النهي عن السؤال عن بعض الأشياء في بداية الدعوة كان (في ظننا) بهدف أن يكتمل تنزّل القرآن، وما أن يكتمل تنزلّه حتى تكون الأشياء قد بدت لنا بنص الآية الكريمة نفسها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أنه مادام أن القرآن قد نزّل، فلابد أن تكون الأمور بادية لنا عن كل شي.
السؤال: وما علاقة هذا كله بقصة القميص؟
عودة على بدء
رأينا: نحن نزعم القول أننا بمثل هذا الكلام المفترى من عند أنفسنا نضع المنهجية التي نظن أنها صحيحة للبحث عن معاني المفردات كما يريدها الله في كتابه الكريم بغض النظر عن عدد المرات التي ظهرت فيها المفردة في كتاب الله وبغض النظر عن المكان الذي ظهرت فيه، لذا فمن أجل أن نستجلي معنى مفردة القميص التي لم تظهر إلا في قصة يوسف مثلا، فلابد أن نتعرض لقصة الملابس بأكملها في جميع السياقات القرآنية. وإن نحن فعلنا ذلك بطريقة سليمة وصحيحة، فسوف يتبين لنا (نحن نفتري القول) ما هو القميص على وجه التحديد، وسنتعرف حينها على ماهية القميص الذي جاء ذكره في كتاب الله في قصة يوسف، والأهم من هذا كله هو أننا لن نكون رهن خرافات نسجناها من مخيالنا الشعبي. فأنا على يقين أن من يقرأ قصة يوسف ويتعرض لمفردة القميص من أبناء العربية، فإن الصورة التي ترسم في مخياله لا تتجاوز فكرة ذلك القميص الذي يشتريه من متجر الملابس، وأن صورة القميص المعلّق في دولابه (أي خزانة الملابس بالأردني) تسيطر على المشهد برمته فلا تفارق مخياله حتى يفرغ من قراءة القصة كلها، وحينها يقع (نحن نزعم القول) فريسة سهلة لتلك الأسماء التي سميناها نحن وآباؤنا وما أنزل الله بها من سلطان. والأغرب من هذا كله في ظني هو أنه عندما بحثت في الترجمات لمعاني الكتاب الكريم في نسخه باللغة الإنجليزية وجدت أن جلّها قد أجمع على أن كلمة (shirt) في اللغة الإنجليزية هي المرادفة لمفردة القميص في النص القرآني. لذا فإن من لا يعرف العربية ويقرأ النص القرآني من خلال ترجماته إلى لغات الأرض الأخرى سيقع ضحية نفس الأوهام والتصورات الشعبية التي رسمها أهل العربية وصدّروها إلى العالم كله من حولهم على أنها علم.
أما أنا، فإني أشك إن ما كتبوه بأيديهم يستحق الحبر الذي كتب فيه ناهيك عن الورق الذي كتبوه عليه.
السؤال: كيف نفهم ماهية القميص الذي جاء ذكره في أكثر من حادثة في قصة يوسف؟
رأينا: لكي نستطيع أن نجيب على مثل هذا التساؤل فلابد من طرح التساؤل الأعرض وهو: ما هي الملابس التي يرتديها الإنسان وجاء ذكرها في كتاب الله؟
جواب: ربما نستطيع أن نبدأ النقاش بالأشياء التالية: الخُمُر،الجلابيب، الثياب
السؤال: ما الفرق بين القميص من جهة وهذه الأشياء الثلاثة الأخرى من جهة ثانية؟
أولاً، نحن نظن أن الخُمُر والجلابيب من ملابس النساء والبنات ولا علاقة للرجل بذلك من قريب أو بعيد:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (59)
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
وقد تعرضنا في مقالة سابقة لنا لهذه الجزئية (انظر تعدد الزوجات2). أما ما يهمنا هنا فهو التساؤل التالي: هل الجلابيب والخمر هو ما يمكن أن تلبسه المرأة فقط؟
جواب: كلا، فالمرأة تلبس (بالاضافة للجلابيب والخُمُر) الثياب:
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
وهنا يبدأ التلاقي بين لباس الإناث من جهة ولباس الذكور من جهة أخرى، فبالرغم أن الرجال لا يلبسون الجلابيب والخُمُر (كما تفعل النساء) إلا أنهم يلبسون الثياب:
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
فالنبي نفسه أمر أن يطهّر ثيابه في بداية الدعوة إلى الله:
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
ولا شك أنّ الثياب هي لباس جميع أهل الجنة:
أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
وكذلك هي لباس أهل النار:
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
السؤال: أين القميص إذا؟ وكيف يختلف القميص عن الثوب؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن الثوب هو ما يغطي الجسم من الخارج، وبكلمات أكثر دقة هي آخر ما يلبس الشخص من قطع الملابس المتعددة التي قد يلبسها في المرة الواحدة ليظهر بها على من حوله وهي أول قطعة يخلعها إذا ما أراد أن ينزع عنه لباسه (وبكلمات العسكر الذين يستخدمون السلاح هي آخر ما يركب وأول ما يفك):
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
دقق – عزيزي القارئ- جيدا في هذه الآية الكريمة، ألا تشير بكل وضوح إلى أن الإنسان يلبس أكثر من قطعة واحدة من اللباس؟ ألا تشير الآية الكريمة أن ما يضعه الإنسان من ملابسه في وقت الظهيرة (أي القيلولة) هو الثوب فقط (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ)؟ فهل يضع الإنسان كامل ملابسه في وقت الظهيرة؟! من يدري!!! على الأقل أنا لا أفعل ذلك.
والآن راقب الآية الكريمة التالية التي تتحدث عن القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا:
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
ألا تشير الآية الكريمة أن القواعد من النساء يضعن شيئا من اللباس ولكن لا يضعنه كله؟ فما الذي رُخِّص للقواعد من النساء أن يضعنه من اللباس؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن ما رُخِّص للنساء اللاتي لا يرجون نكاحا أن يضعنه من اللباس هو الثوب فقط (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ)، ولا يحق لمن كانت من القواعد من النساء أن تضع عنها الجلباب والخُمُر.
السؤال: ما هي الثياب التي تسطيع من لا ترجو نكاحا من القواعد من النساء أن تضعه؟
رأينا المفترى: إنه فقط ما يغطي الجسم من الخارج ويظهر به الإنسان على من حوله. أما الجلباب والخمر فهما يغطيان جسم المرأة من الداخل، ليصبح لباس المرأة على النحو التالي:
1. الخُمُر: وهو ما تضرب به المرأة النصف الأعلى من جسمها، فلا تنكشف عورتها:
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
2. الجلباب: وهو ما تستر المرأة به النصف الأسفل من جسمها، فلا تنكشف عورتها:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (59)
3. الثوب: وهو ما يغطي كامل جسم المرأة من الخارج ولا يسبب وضعه انكشاف عورتها:
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
السؤال: وماذا عن الذكور الذين يلبسون الثياب، فيضعونها في وقت الظهيرة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
فهل يضع الرجل (مثلا) كامل لباسه في وقت الظهيرة؟ وهل يبقى عاريا في ذلك الوقت؟ وكيف تكون حالته في وقت الظهيرة متى ما وضع ثيابه؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الرجل يمكن له أن يضع ثيابه وقت الظهيرة، ولكن وضع الثياب هذا لا يؤدي إلى انكشاف عورته أمام أهل بيته كأبنائه وبناته المتواجدون معه في نفس البيت.
السؤال: وكيف يكون ذلك؟
رأينا: يحصل ذلك لأن الرجل يكون يلبس شيئا ما ليغطي عورته بعد أن يكون قد وضع ثيابه من وقت الظهيرة.
السؤال: ماذا يلبس الرجل ليغطي عورته به بعد أن يضع ثيابه من وقت الظهيرة؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: إنه القميص
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الرجل يلبس على الأقل نوعين من الملابس في كل مرة هما:
1. القميص (بغض النظر عن العدد) الذي يغطي عورته فلا يستطيع أن يضعه عنه في وقت الظهيرة لأن هذا سيسبب انكشاف عورته أمام أبناءه وبناته وكل أهل بيته.
2. الثوب الذي يغطي الجسم من الخارج ولا يسبب وضعه عنه في وقت الظهيرة انكشاف عورته
الدليل
نحن نظن أن الدليل على مثل هذا الظن ربما يمكن استنباطه من قصة يوسف يوم أن جعلوه إخوته في غيابة الجب.
السؤال: وكيف يمكن استنباط ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن بالامكان تخيل الأمر بكل يسر وسهولة متى ما حاولنا طرح التساؤل التالي: كيف كانت حالة يوسف من حيث الملابس عندما جعله إخوته في غيابة الجب؟ فهل كان الغلام عاريا؟ هل نزع الإخوة ملابس أخيهم عنه كلها؟ فهل نزعوا جميع ما كان يلبس حينئذ؟ وهل خرج يوسف من غيابة الجب على أيدي السيارة عاريا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: كلا، لقد جعل إخوة يوسف أخيهم في غيابة الجب وهو لازال لابسا شيئا من الملابس، نظن أنها - على أقل تقدير- ما كان يستر عورته. فمن غير المرجح أن يعطي أبناء الأنبياء فرصة لأنفسهم ليروا بأم اعينهم عورة أخيهم، فهذا ليس من سلوك من كان هدفهم من التخلص من يوسف حتى يكون من بعده قوما صالحين:
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
السؤال: وكيف يكون ذلك وقد عاد الإخوة عشاءً يبكون وهم يحملون قميص يوسف بين أيديهم ليضعوه دليلا عند أبيهم على أكل الذئب للغلام؟
رأينا: نحن نظن أن الإنسان مجبول على لبس أكثر من قطعة واحدة من الملابس في الوقت الواحد. فمن منا يلبس قطعة واحدة من اللباس فقط إن هو خرج من بيته (خاصة إذا كان ذاهبا في نزهة كما فعل إخوة يوسف)؟ لذا في حين أن المرأة تلبس الخُمُر والجلباب لستر العورة وتلبس الثوب من فوقهما لتخرج به على الناس، حتى إذا ما وضعت من كانت منهن من القواعد من النساء ثوبها لا يسبب ذلك إنكشافا لعورتها، فإن الرجل يبدأ اللباس عادة بالقطع التي تغطي عورته شيئا فشيئا، فيكون كل ما يلبسه لهذا الغرض يسمى (في رأينا المفترى) قميصا. وربما يلبس أكثر من قطعة لهذا الغرض (أي أكثر من قميص)، ويتحكم بذلك عوامل العادة السائدة في المجتمع والمناخ والرفاه الإقتصادي، الخ. وما أن يفرغ من ذلك حتى يلبس القطع الخارجية التي تسمى ثوبا، والتي لا يسبب وضعها في وقت الظهيرة عند الرجال أو وضعها من قبل القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا إنكشافا للعورة.
تصور جديد لقصة قميص يوسف الأول وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ
نحن نفهم من صريح اللفظ القرآني أن الإخوة قد عادوا إلى أبيهم مساء يبكون وهم يحملون قميص يوسف ليكون دليلا على أن الذئب قد أكل يوسف:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
لذا فإن من غير المنطقي أن لا يكون القميص هو قميص يوسف فعلا، فمن غير المرجح أن يكون الإخوة قد جاءوا بقميص لا يخص يوسف، لأن ذلك لن يشكل دليلا على أن الذئب قد أكل يوسف، فصاحب القميص هو - لا شك- من أكله الذئب، أليس كذلك؟
السؤال: لماذا لم يجيئوا أباهم عشاء بثوب يوسف بدلاً من قميصه؟
رأينا: مادام أن الثوب هو القطعة الخارجية من اللباس فمن غير المنطقي (نحن نتخيل) أن يكون الدم قد وصل إليه بما يشكل دليلا كافيا على أن يوسف قد مات فعلا، فعندما يهاجم حيوان مفترس شخصا ما، فإن ذلك الشخص لن يقف مكتوف الأيدي يتفرج على ما سيفعله الذئب به، ولكنه سيقاوم ويحاول أن يهرب من بين مخالب المفترس، أليس كذلك؟ لذا فإن الإنسان في هذه الحالة سيتنازل عن شيء من ملابسه يمسكها الذئب بمخالبه أو بأسنانه، ولكن ذلك لا يمنع الإنسان الذي هاجمه الحيوان المفترس أن يهرب إذا ما استطاع أن يترك ثوبه بين مخالب الذئب لينجو بنفسه، لذا نحن نظن أن إخوة يوسف لم يعودوا يحملون ثوب يوسف ملطخا بالدم لأن ذلك ربما لا يكون دليلا كافيا على أن يوسف قد مات بين مخالب وأسنان الذئب، لذا ربما سيطلب منهم أبوهم في هذه الحالة أن يعاودوا البحث عن يوسف في البرية، فلربما كان يوسف مصابا ولكنه غير مقتول. وذلك لأن تلطيخ الثوب (أي اللباس الخارجي) بالدم لا يشكل دليلا كافيا على نهاية الغلام على يد الذئب. ولكن الإخوة الذين يفكرون بطريقة سليمة لتنفيذ مكيدتهم المدبرة مسبقا، عرفوا كيف يكف والدهم عن الطلب منهم أن يتابعوا البحث عن يوسف. فكانت الخطة أن يحضروا له شيئا من لباس يوسف الداخلي، ربما لتصل رسالتهم إلى أبيهم على النحو الذي نفتريه التالي: مادام أن قميص يوسف قد لطخته الدماء، ومادام أن الذئب قد استطاع من الوصول إلى القميص، فمن غير المرجح أن يكون يوسف قد نجا من قبضته، فالذئب الذي يمسك بقميص فريسته من الناس، يستحيل أن يترك له فرصة للهروب.
ولكن هذا التصور لا يمنع أن يكون يوسف كان يلبس أكثر من قميص (أي أكثر من قطعة داخلية). فالأولاد جاءوا أباهم يحملون بين أيديهم قميصا واحدا بنص الآية الكريمة، ولا نشك أنهم قد تركوا يوسف مرتديا قميصا آخر ليستر عورته عندما جعلوه في غيابة الجب. ولعلي أظن أن يعقوب قد فرح فرحا كبيرا عندما رأى القميص الذي أحضره أبناءه له، فكانت ردة فعله المباشرة على ذلك في الآية نفسها على النحو التالي:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
السؤال: كيف عرف يعقوب أن ذلك الأمر كله هو من باب ما سولت لهم أنفسهم؟
رأينا المفترى: لما رأى يعقوب القميص الذي جاء به أبناءه عرف على الفور أن يوسف لازال حيا وأن أبناءه قد طرحوا أخاهم يوسف أرضا، ولكن لماذا؟
افتراء خطير جدا جدا جدا: لأن الأبناء لم يأتوا بالقميص الذي ألبسه يعقوب ليوسف كميراث النبوة وهو الذي ورثه عن آباءه إبراهيم وإسحق، والذي لم يؤذن ليعقوب أن يلبسه هو بنفسه، فالله لم يتم نعمته على يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحق وكما سيتمها على ابنه يوسف من بعده:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
الدليل
نحن نفتري الظن بأن ميراث النبوة (القميص والعصا) كانا متواجدين في بيت يعقوب، وفي حين أن يعقوب كان ممسكا على الدوام بالعصا إلا أنه لم يؤمر بلبس القميص، فكانت نعمة الله عليه غير تامة، وكان ينتظر واحدا من أبناءه ليلبسه ذلك القميص، فكانت الحيرة بادية على يعقوب ليختار يوسف أو أخاه الآخر، فظن الإخوة جميعا نتيجة تصرف أبيهم هذا أن يوسف وأخاه أحب إلى أبيهم منهم جميعا:
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)
فكان كيدهم الأول ليوسف وأخيه معا. وما أن حدّث يوسف والده بتلك الرؤيا الشهيرة حتى أصبح مستقرا عند يعقوب أن الوريث الشرعي للنبوة من بين أبنائه جميعا هو يوسف، فأصبح واضحا للجميع أن الكيد يجب أن يوجه ليوسف فقط وليس لأخيه:
قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
ولما علم يعقوب أن الإخوة لا محالة قاتلين أو طارحين أخاهم أرضا، خطط لهم كيفية طرح أخيهم أرضا:
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
فاختاروا طرح أخيهم أرضا:
قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
وفي هذه الأثناء قام يعقوب بتجهيز يوسف لتلك الرحلة الطويلة، فألبسه ذلك القميص الذي كان أُعطية من الله لجده إبراهيم ليستر به عورته عندما أخرجه من النار، فأصبح ذلك القميص هو برهان ربه (وسنرى لاحقا بحول الله وتوفيق منه أن هذا القميص نفسه هو سبب البرهانان اللذان ذهب بهما موسى إلى فرعون وملئه، فالله اسأل ان يعلمني قول الحق فلا أفتري عليه الكذب إنه هو الحكيم العليم). فخرج يوسف في تلك النزهة مع إخوته وهو يلبس ذلك القميص، ولكن والده لا شك ألبسه أكثر من قميص في نفس الوقت (ربما كما تفعل الأمهات عندما يخرج صغارهن من المنزل، فيلبسنهم من الثياب ما يحميهم من البرد مثلا). وبالإضافة إلى ما كان يلبس من القميص (جمع قمصان وهي التي نظن أنها مفرد وجمع في الوقت ذاته)، كما كان يوسف يلبس (كبقية الناس ممن حوله) ثوبا من الخارج فوق تلك القمصان التي تستر العورة من الداخل. ولكنّ الإخوة لم يكونوا مدركين لما فعله يعقوب (الذي كان يعلم من الله ما لا يعلمون) مع يوسف.
ما أن وصل الإخوة إلى غيابة الجب حتى نزعوا عن أخيهم ثوبه ليأخذوا واحدا فقط من قميصه فيلطخوه بالدم ليكون دليلا كافيا على أن الذئب قد أكله. فجعلوه في غيابة الجب (نحن نتخيل) وهو لازال يلبس ذلك القميص الذي ألبسه إياه ابوه من الداخل، وهناك بالضبط بدأ الوحي يتنزل على يوسف:
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15)
(وسنتحدث عن السبب في ذلك لاحقا بحول الله وتوفيق منه، فالله أسأل أن يعلمني منه الحق الذي أقوله فلا أفتري عليه الكذب وأن يهديني إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون – آمين)
وما أن عاد الأبناء إلى أبيهم عشاءا وقد أخرجوا له ذلك القميص الملطخ بالدم، حتى علم يعقوب (علم اليقين) أن يوسف لم يقتل، وأن الخطة التي رسمها بنفسه لهم ليطرحوا أخاهم أرضا فلا يقتلوه قد نجحت، وأن يوسف لا زال بخير، وكان الدليل لديه يتلخص (في ظننا) بالتالي:
1. لم يحضر الأبناء القميص نفسه الذي ألبسه يعقوب لابنه يوسف وهو القميص الذي ستر عورة جده إبراهيم، فلا شك لدى يعقوب الآن أن عورة يوسف لازالت مستورة. وأن برهان الله لن يصل إليه من يعارض مشيئته (كإخوة يوسف حينئذ). ونظن أن يعقوب كان يعلم مسبقا أن هذا القميص نفسه هو الذي سيحول بين يوسف والوقوع في الفاحشة في قادم الآيام (فيعقوب رجل علمه الله من لدنه علما، فلا يجوز الاستهانة بتصرفات الرجل، ولابد أن تحمل على محمل يليق به وبعلم الله الذي علمه إياه).
2. كان الدم الذي يلطخ ذلك القميص الذي أحضروه هو دم كذب. فكيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن واحدة من أهم نقاط القوة (العلم) عند يعقوب هي حاسة الشم، فلقد استطاع يعقوب أن يشتم ريح يوسف عندما فصلت العير:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94)
فهل تتصورون - يا سادة- أن الذي يستطيع أن يشتم ريح يوسف من تلك المسافة البعيدة لا يستطيع أن يشتم ريح يوسف من قميصه؟
كلا وألف كلا، فنحن نتخيل بأنه ما أن رأى يعقوب القميص حتى أدرك أن يوسف لم يصب بأذى، وما أن اشتم ذلك الدم حتى علم أن هذا الدم ليس بدم يوسف ولكنه دم كذب. ولكن كيف حصل ذلك؟
رأينا المفترى: ما أن أراد إخوة يوسف أن يجعلوا أخاهم في غيابة الجب حتى وضعوا عنه ثوبه، وخلعوا عنه قميصا كان يلبسه، ثم عمدوا أن يجعلوه في غيابة الجب. ولا نجد في كتاب الله إشارة بأن الإخوة قد مسوا أخاهم بأذى عندما جعلوه في غيابة الجب. ولا نجد أن يوسف قد كانت تظهر عليه علامات الأذى كالجروح مثلا عندما أخرجه السيارة من غيابة الجب. لذا فإن الدم الذي كان يلطخ القميص لم يكن هو دم يوسف. وأظن أن أنف يعقوب لم يكن ليخطئ الهدف، فقد كان قادرا على أن يدرك هذه الحقيقة. لذا نحن نظن أن الإخوة قد وضعوا على قميص يوسف دما لم يكن أصلا من دم يوسف. فكان يوسف لازال سليم الجسم يلبس ذلك القميص الذي يستر عورته تماما كما ستر ذلك القميص عورة جده إبراهيم يوم أن أخرجه الله من النار ويكأنه في نزهة. فكان خروج يوسف من غيابة الجب يشبه في تفاصيله خروج جده إبراهيم من النار. فالحادثتان حصتلا بمكيدة من الأهل، فقد كاد للجد (إبراهيم) كلُ أهله بمن فيهم أبوه، فألقي في النار، ولكن الله أخرجه منها مستور العورة لأنه كان من المحسنين المخلصين. وكاد الإخوة للحفيد (يوسف)، فألقوه في غيابة الجب، فأخرجه الله منها مستور العورة. ويكأن القميص هو الأداة التي بقيت برهانا من ربهما لا يستطيع أن يصل لهما من كان يريد أن يحارب الله ولا يتقبل مشيئته. (وسينقلنا هذا التصور لاحقا للحديث للحديث عن السبب في لبس الإحرام في فريضة الحج عند الطواف، وعن السبب في الحلق والتقصير، وربما كل شعائر الحج التي أخذناها مسلمات ولم ندرك ماهيتها أو سبب أن تكون على تلك الشاكلة- فنحن نكتفي البوح هنا بأن مناسك الإحرام كلها قد ابتدأها إبراهيم الذي خرج من النار لابسا ذلك الثوب الذي ألبسه إياه ربه عندما أخرجه من النار، فذهب إلى ربه ليهديه- وسنتحدث عن تفاصيل ذلك لاحقا، فالله وحده أسأله أن يهديني رشدي وأن يهديني إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه، إنه هو الحكيم الخبير – آمين).
تصور جديد لقصة قميص يوسف الثاني وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ
عاد الحديث في سورة يوسف ليبرز قصة القميص من جديد في بيت التي راودته عن نفسه. فحاول يوسف – كما أسلفنا أن يمنع نفسه عن الوقوع في الفاحشة، ولكن التي هيأت له نفسها وغلقت عليه الأبواب وهمت به، استطاعت أن تكسر قدرته على التحمل، فما كان من يوسف إلا أن يجد نفسه واقفا أمام امرأة فائقة الجمال، ذات مقام رفيع، عارية تماما، تدعوه إليها، فما كان منه إلا أن يهمّ بها، فبدأ بالهمّ بها (أي بوضع ملابسه)، فوضع عنه ثوبه الخارجي، وبدأ بنزع ما كان يلبس من القمصان (جمع قميص) التي تغطي عورته شيئا فشيئا حتى وصل إلى ذلك القميص المشهود الذي ألبسه إياه والده يعقوب، وما أن رءا يوسف ذلك القميص حتى تذكر على الفور تلك السلالة الطيبة: إبراهيم إسحق يعقوب
فما كان ليوسف وهو الذي انحدر من تلك السلالة الطيبة والمتمم لها أن يقع في الفاحشة، فكان ذلك القميص هو برهان ربه الذي رءاه فحال بينه وبين الوقوع في الفاحشة:
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
ولمّا كان الشيطان قد أخذ عهدا على نفسه أن يغوي عباد الله كلهم أجمعين إلا المخلصين منهم:
قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
كان يوسف من المخلصين الذين يستحيل أن يغويهم الشيطان:
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
عندها ركض يوسف إلى الباب ليخرج من المكان كله، ولكن المرأة التي شغفها حبا لم تكن لتستسلم، فركضت وراءه في سباق نحو الباب، ولم يكن يوسف ليصل إلى الباب إلا وكانت المرأة قد قدّت بعض مما تبقى عليه من اللباس الداخلي (القميص) من الخلف، وهناك كانت المواجهة (وجها لوجه) مع سيدها، فلم يستطع أحد منهما (المرأة ويوسف) إنكار أن حادثة الفاحشة كادت أن تحصل، فحاولت هي أن تلبس يوسف تهمة الاعتداء عليها:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
وحاول يوسف الدفاع عن نفسه، وجاء فصل الخطاب من الشاهد الذي شهد من أهلها:
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26)
تصور جديد لقصة قميص يوسف الثالث: اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي
إن ما يسترعي الإنتباه في هذه الحادثة الثالثة حيث يأتي الخطاب مبرزا قميص يوسف مرة ثالثة هو وجود اسم الإشارة هَذَا في هذا المقام على وجه التحديد (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا)، فما الذي يمكن أن نستنبطه من وجود هذا التحديد في هذا المقام على وجه التخصيص؟
رأينا: نحن نظن أن يوسف كان عنده أكثر من قميص، كباقي خلق الله أجمعين، ولكن كان من بينها جميعا قميص واحد هو القميص المميز الذي يمكن بواسطته القيام بمهمة خاصة لا يمكن لأي قميص آخر أن ينفذها ألا وهي أن يرد ليعقوب بصره. فما الذي حصل؟
تصورنا المفترى: جاء إخوة يوسف واعترفوا له بالإيثار الرباني له عليهم:
قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
وهنا فقط، أصبح الأمر مكشوفا تماما لا يستطيعون أن ينافسوه عليه (على ميراث النبوة)، فقد استتب الأمر ليوسف ولا يستطيعون الآن إلحاق الأذى به كما فعلوا من قبل:
قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89)
فقام يوسف، وعمد إلى إحضار ذلك القميص الذي كانوا يطاردون يوسف من أجله وهم لا يعلمونه أصلاً، ولا يعلمون أن أباهم يعقوب قد ألبسه ليوسف يوم أن أرسله معهم ليرتع ويلعب. فطلب يوسف من إخوته أن يذهبوا بهذا القميص على وجه التحديد (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا) ليلقوه على وجه أبيهم فيرتد بصيرا، وكأني أتصور يوسف يقول لإخوته الآن هذا هو القميص الذي كنتم تنافسونني على حيازته، هذا هو القميص الذي اتهمتموني بسرقته:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
ولكن جهلكم لم يكن ليهديكم إليه، ولم تكونوا لتعلمون أني لم أسرقه من بيت أبي، ولكن أبي هو من ألبسني إياه بنفسه، ولم أكن استطيع أن أبدها لكم، فأسرتها في نفسي. والآن إذهبوا بهذا القميص نفسه فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا:
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
وما أن حمل الأخوة قميص أخيهم هذا وتوجهوا به نحو أبيهم، حتى استطاع يعقوب أن يجد ريح يوسف تملأ المكان كله، فأخبر من حوله بذلك:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94)
ولمّا لم يكن من هم من حول يعقوب على علم بما علمه ربه لم يستطيعوا أن يجدوا من ريح يوسف ما وجد يعقوب منه، فكان ردهم غاية في الردع:
قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95)
وما أدركوا ذلك وتيقنوا من علم أبيهم إلا بعد أن جاءه البشير وألقاه على وجهه فارتد بصيرا:
فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96)
وللحديث بقية
اللهم فاطر السموات والأرض أسألك وحدك أن تؤتيني رشدي وأن يعلمني الحق الذي أقوله فلا أفتري عليك الكذب، وأعوذ بك ربي أن يكون أمري كأمر فرعون، وأسألك وحدك أن تهديني إلى نورك الذي أبيت إلا أن تتمه ولو كره الكافرون، وأن تعلمني تفصيل الكتاب الذي أحكمت آياته من لدنك إنك أنت الحكيم الخبير – آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
14تشرين ثاني 2013
[1]لاحظ أن اليد كما ذكرنا في مقالات سابقة لنا هي ما يقطع في حالة السارق، لذا فهي لا تتعدى الكف والأصابع فقط، لأن هناك اليد إلى المرفق الذي يغسل في حالة الوضوء.
[2] سيكون لهذا الأمر (إن صح) تبعات عظيمة نتعرض لها عندما تتلاقى قصة يوسف مع قصة موسى قريبا بحول الله وتوفيق منه (فالله أسأل أن يعلمني من لدنه ما لا ينبغي لغيري إنه هو السميع البصير).