كيف تم خلق عيسى بن مريم؟4
خلص الجزء السابق من هذه المقالة عند طرحنا التساؤل التالي حول طير إبراهيم: لماذا كانت أربعة من الطير؟ لِم لَم تكن خمسة أو ثلاثة من الطير أو أي عدد آخر؟
رأينا: ولو تدبّرنا السياق القرآني نفسه لربما خلصنا إلى إجابة على مثل هذا التساؤل:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة (260)
وخلصنا إلى القول أن إبراهيم كان مأموراً أن يضع على كل جبل منهن جزءا، وافترينا الظن بأن عدد الجبال التي كانت تحيط بإبراهيم آنذاك كانت أربعة جبال، فالمنطقة التي كان يتواجد فيها إبراهيم آنذاك –حسب زعمنا- هي منطقة محاطة بجبال أربعة، وقدمنا الافتراء الخطير التالي الذي هو بلا شك من عند أنفسنا:
افتراء من عند أنفسنا: إن المنطقة التي كان يتواجد فيها إبراهيم حينئذ كانت محاطة بأربعة جبال، وهي المنطقة نفسها التي تواجد بها موسى من بعده، وهي نفسها المنطقة التي وضعت مريم المسيح عيسى بن مريم فيها، وهي المنطقة نفسها التي أسري بمحمد ليلاً من المسجد الحرام إليها: إنها منطقة المسجد الأقصى.
الدليل
لقد أمر الله نبيه ورسوله إبراهيم أن يأخذ أربعة من الطير، فيصرهن إليه ويجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم يدعهن ليأتينّه سعياً:
... قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا...
وقد تحدثنا في الجزء السابق عن معنى السعي، وزعمنا القول أن تلك الطيور لم تكن من النوع الذي يطير بجناحية وإلا لجاءت إبراهيم طائرة بدل أن تأتيه ساعية، فحركة تلك الطيور من أعلى الجبل إلى مكان تواجد إبراهيم بين الجبال الأربعة كانت بشكل السعي (أي المشي السريع على الأرض)، ونحن نطلب من القارئ الكريم أن يتخيل كيف تنحدر دجاجة مثلاً من أعلى الجبل إلى أسفله (فتلك هي حركة السعي، أي المشي السريع الذي لا يصل إلى درجة الركض):
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) الأنبياء 12-13
فالإنسان عندما يشعر بالبأس (الخطر القادم إليه) يركض ولا يمشي أو يسعى[1] (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ).
نتيجة مفتراة: الحركة على الأرض قد تكون مشياً:
وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا
وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ ۖ أَفَلَا يَسْمَعُونَ
وقد تكون سعياً:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
وقد تكون ركضاً:
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) الأنبياء 12-13
نتيجة: الطير التي أتت إبراهيم من على رأس الجبال كانت تتحرك سعياً (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا).
لكن يبقى هناك عدة أمور يجب تجليتها قبل المضي قدماً في النقاش تتمثل في الأسئلة التالية:
1. كيف أخذ إبراهيم أربعة من الطير؟
2. كيف صرهن إليه؟
3. كيف جعل على كل جبل منهن جزءا؟
4. كيف دعاهن؟
السؤال الأول: كيف أخذ إبراهيم أربعة من الطير؟
رأينا: لقد ذكرنا في الجزء السابق من هذه المقالة أن إبراهيم قد كان مأموراً بأخذ أربعة من الطير، وقد افترينا القول أن ذلك كان من الطير الذي لا يطير بجناحيه لأن ذلك الطير من النوع الذي ما يمسكهن إلا الرحمن. ودلّلنا على ذلك بما ذكرناه سابقاً عن السعي، فزعمنا الظن أنه لو كان ذلك الطير الذي أخذه إبراهيم من النوع الذي يطير بجناحيه لأتاه طائراً عندما دعاه، ولكن لمّا كان ذلك الطير –حسب زعمنا- من النوع المدجّن الذي لا يستطيع أن يطير بجناحيه أتاه سعياً عندما دعاه.
ثانياً، نحن نظن أنه لو كان ذلك الطير من النوع الذي يطير بجناحيه لجاء الخطاب لإبراهيم على نحو أن يمسكه وليس أن يأخذ، فالطير الذي يطير بجناحيه لابد أن يمسك ولا يؤخذ فقط، فالله قد خاطب موسى بأن يأخذ عصاه:
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ
وأمره كذلك أن يأخذ الألواح:
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
وكذلك كان أخذ آل فرعون لموسى بعد أن ألقاه اليم بالساحل:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي
ونحن نفتري الظن بأن الأخذ يتم لما هو موجود أصلاً على الأرض، فحتى العذاب عندما يقع يأخذ من على الأرض:
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
نتيجة مفتراة: لقد أخذ إبراهيم الطير أخذاً ولم يمسكهن إمساكاً، فكان ذلك من النوع الذي يتواجد بين الناس على الأرض كالدجاج ونحوه. ولم يكن من النوع الذي يطير في جو السماء التي ما يمسكهن إلا الله (الرحمن):
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ النحل (79)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ الملك (19)
السؤال الثاني: كيف صرّهن إليه؟ أو ما معنى أن يصرهن إبراهيم إليه؟
تحدثنا في مقالة سابقة لنا (لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟) عن معنى الصرة، وزعمنا القول أن الصرة هي ما يوضع داخل كيس (كحقيبة المسافر)، فامرأة إبراهيم (هاجر) كانت مقبلة على إبراهيم وضيوفه وهي تحمل صرة، وقد كانت قادمة إليهم من بعيد:
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ الذاريات 29
(للتفصيل انظر سلسلة أجزاء تلك المقالة)
افتراء من عند أنفسنا: إن الذي يهمنا هنا هو زعمنا بأن الله قد طلب من إبراهيم أن يصرّ إليه تلك الطيور لكي تموت خنقاً، وذلك بأن يضعها في صرة، فتموت مخنوقة، لأن الطلب جاء على نحو أن يريه كيف يحيى الله الموتى. وهذا ينقلنا على الفور إلى السؤال الثالث.
السؤال الثالث: كيف جعل على كل جبل منهن جزءاً؟
نحن نفتري الظن بأنه ما أن أخذ إبراهيم تلك الطير حتى صرهن إليه مباشرة، فالوقت بين الأخذ من جهة والصر من جهة أخرى كان قصيراً بدليل وجود حرف الجر "فـ" وعدم وجود حرف الجر "ثم" بينهما:
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا
وما أن يأخذهن إبراهيم ويصرهن إليه حتى يصعد الجبل الأول ليضع جزءاً منهن عليه، لينتقل بعد ذلك إلى الجبل الثاني والثالث والرابع، فاستغرق ذلك وقتاً من الزمن، لذا جاء هنا حرف الجر "ثم" سابقاً لجعلهن على الجبال:
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا
ثم، ينزل إبراهيم من رأس آخر تلك الجبال إلى الملتقى بين تلك الجبال الأربعة ليدعو الطير من هناك، فيتطلب منه ذلك قسطاً من الزمن، فهناك فترة زمنية بين جعلهن على الجبال والنزول إلى أسفل الجبال لدعوتهن بدليل وجود حرف الجر "ثم" هنا أيضاً:
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا
ولكن ما أن دعاهن إبراهيم حتى أتينه سعياً على الفور فغاب حرف الجر "فـ و غاب حرف الجر "ثم" هنا:
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا
فالفترة الزمنية بين الدعوة والإتيان كان معدومة، ودل على ذلك –حسب زعمنا- غياب حرف الجر "فـ" وغياب حرف الجر "ثم"، لذا يمكن ترتيب طول الفترة الزمنية التي استغرقها إبراهيم للقيام بكل واحدة من تلك الأفعال على النحو التالي:
1. عدم وجود فاصل زمني، ويدل على ذلك عدم وجود حرف جر كما في "ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا"
2. وجود فاصل زمني قصير، يدل عليه وجود حرف الجر "فـ" كما في "فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ"
3. وجود فاصل زمني طويل بعض الشيء، ويدل عليه وجود حرف الجر "ثم" كما في "فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ"
لكن يبقى السؤال هنا قائماً: كيف جعل إبراهيم على كل جبل منهن جزءاً؟
الرأي السائد: غالباً ما ظن كثير من أهل العلم والدراية أن إبراهيم قد قام بتقطيع تلك الطير ليجعلها أجزءاً متفرقة على تلك الجبال.
رأينا: نحن نفتري الظن أن إبراهيم لم يقم بتقطيع تلك الطيور إلى أجزاء متفرقة وإنما قام بوضع كل طير كوحدة واحدة على واحدة من الجبال، وهكذا. فلقد كانت الطيور كلها مصرة إلى إبراهيم، فقام بوضع واحدة منها على الجبل الأول، وأخرى على الجبل الثاني، والثالثة على الجبل الثالث، والرابعة على الجبل الرابع، فكان إبراهيم يعرف الطير الذي وضعه على الجبل الأول، ويعرف الطير الذي وضعه على الجبل الثاني، والثالث، والرابع، فهو يتوقع – نحن نتخيل- أن تأتيه الدجاجة مثلاً عن الجبل الأول، وأن يأتيه الديك مثلاً عن الجبل الثاني، والبطة عن الجبل الثالث، والوزة عن الجبل الرابع، وذلك – في رأينا- يقلل من فرص أن يحدث ذلك بالصدفة. فيكون دليلاً على صدق قدرة الله على إحياء الموتى.
ثانياً، نحن نعلم أن الطير قد جاءت إبراهيم تسعى، لذا فقد كانت مكتملة التكوين، فالسعي لا يتم – حسب ظننا- إلا لمن كان مكتملاً، فيستحيل أن تكون تلك الأجزاء قد تجمعت من الجبال المتقابلة قبل أن تأتي إبراهيم ساعية. فما أن دعاها إبراهيم حتى أتته تلك الطير تسعى، فلم يكن هناك وقت لكي تتجمع أولاً لتأتي ساعية بعد ذلك، وذلك لأن مفردة الجزء تعني – في ظننا- تقسيم الكمية وليس تقسيم الشيء نفسه، وربما يصدق ظننا هذا ما جاء في قوله تعالى عن الجزء في أماكن أخرى من كتابه الكريم:
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ الحجر 44
فالناس عندما ينقسموا إلى أجزاء لدخول أبواب جهنم (أو حتى أبواب الجنة) فهم ينقسموا كمجموعة، لكن لا يتم انقسام الواحد منهم إلى أشلاء متفتتة، فالواحد يدخل كـ كينونة متكاملة، ولكن القسمة إلى أجزاء تكون للمجموعة، وبهذا المنطق نفهم أن إبراهيم الذي كان يملك مجموعة من الطير (أربعة) كان مطلوب منه أن يقسمها إلى أجزاء، لذا فهو قد قام بتقسيم المجموعة، ولكنه لم يعمد – في ظننا- إلى تقسيم الطير الواحد إلى أجزاء متفتتة، وهذا ما سنحاول إثباته بحول الله بعد قليل.
والأهم من ذلك كله هو النظر إلى الأمر من زاوية طلب إبراهيم، فهو يطلب من الله أن يريه كيف يحيى الموتى، أليس كذلك؟
والآن لنقارن طلب إبراهيم هذا بطلب الرجل الذي يمر على تلك القرية الخاوية على عروشها، عسى الله أن يفتح علينا بشيء من علمه.
أما بعد،
إبراهيم يطلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى بينما يطلب ذلك الرجل من ربه أن يريه كيف يحيي تلك القرية بعد موتها، فما الفرق؟
فهذه قصة الرجل الذي يطلب من ربه أن يريه كيف يحيى القرية بعد موتها ترد في الآية 259 من سورة البقرة، قال تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة 259
وتأتي في الآية التي تليها مباشرة (البقرة 260) قصة إبراهيم في طلب إحياء الموتى من ربه، قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة 260
ولو تدبرنا السياقين جيداً لوجدنا أنهما يتحدثان عن إحياء الموتى باختلاف واحد بسيط، فإبراهيم يطلب من الله أن يريه كيف يحيى الموتى، ولكن ذلك الرجل يستغرب كيف يحيي الله القرية بعد موتها. وهذا يدعونا إلى تقديم الافتراء التالي الذي هو من عند أنفسنا: هناك فرق بين إحياء الشيء الميت وإحياء الشيء بعد موته.
فعيسى ابن مريم كان يحيي الميت ولكنه لم يكن يحيي الشيء بعد موته:
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ آل عمران 49
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ المائدة 110
ونحن نظن ذلك لأنه لو كانت عند عيسى القدرة على إحياء الشيء بعد موته، لربما جاء طلب القوم منه أن يحيي لهم آباءهم وأجدادهم، ولكن كانت جلّ قدرة عيسى –حسب زعمنا- تتمثل في أن يحيى من كان قد مات للتو ولم يكن قد تفتت أجزاءه، أي من لازال حديث العهد بالموت، ولازال جسده كتلة واحدة. وهكذا كان حال من طلب الله منهم ذبح البقرة:
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ البقرة 73
فلقد كانت جثة (لنقل تجاوزاً) ذلك المغدور غير متحلّلة بعد، وإلا لجاء الخطاب على أن الله يريهم كيف يحيى ذلك الجسد بعد موته كما كان الحال بالنسبة لمن طلب من الله أن يريه كيف يحيى القرية بعد موتها. فلو تدبرنا قصة ذلك الرجل على وجه التحديد جيداً لوجدنا أن الله لا يريه إحياء الموتى فقط وإنما الأحياء بعد الموت، لذا فلقد أراه كيف ينشز العظام ثم يكسوها لحماً:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة 259
فنشز العظام (إي بعثها وتجميعها) وكسوتها باللحم فذاك أمر يتم –حسب رأينا- لمن كان قد وصل إلى درجة ما بعد الموت، ولكنه لا يحصل لم كان في حالة الميت فقط (أي من لازال كتلة واحدة لم يتحلل بعد). وليس أدل على ذلك من إحياء الأرض بعد موتها:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقرة 164
وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ النحل 65
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ العنكبوت 63
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ الروم 19
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الروم 24
فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الروم 50
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ فاطر 9
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الجاثية 5
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الحديد 17
نتيجة مفتراة: لمّا كان إحياء الأرض يتم بعد موتها، فنحن نستطيع أن نراقب حركة حياتها خطوة بخطوة منذ أن تكون بذرة في الأرض حتى تصبح زرعاً مستوياً على سوقه، وهكذا سيتم بعث الناس من قبورهم يوم القيامة لحظة أن ينفخ في الصور: "فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ".
افتراء من عند أنفسنا: لم يكن عيسى بن مريم يستطيع أن يحيي الأرض لأن ذلك إحياء من بعد الموت، ولكن جل قدرته كانت تتمثل في إحياء الموتى فقط، لذا نحن نفتري الظن أن هناك فرق بين أن يكون الإنسان ميّتاً أو أن يكون قد وصل إلى حالة ما بعد الموت، فمادام أنه ميتاً فإن علماً كعلم عيسى أو ضربة كضربة ببعض البقرة يمكن أن تحيه[2]، ولكن إن وصل إلى حالة ما بعد الموت، فإن الله وحده هو القادر على ذلك، فلا علم عيسى ولا ضربة ببعض البقرة يمكن أن تؤدي الغرض.
السؤال الرابع: كيف دعاهن؟
نحن نفتري الظن أن إبراهيم قد وضع كل واحدة من تلك الطيور على جبل، وكانت تلك الطيور ميتة (ولكنها لم تصل إلى درجة ما بعد الموت)، لذا فإن إبراهيم لن يرى ما راءاه ذلك الرجل الذي مر على القرية ما دام أن طلب إبراهيم كان فقط أن يريه الله كيف يحيي الموتى، ولم يكن طلبه على نحو أن يريه كيف يحيها بعد موتها، فلو كان طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيها بعد موتها، لكانت –نحن نفتري القول- تلك الطيور مفتتة، و لربما كان إبراهيم واقفاً فوقها لحظة أن دبت فيها الحياة ليريه الله كيف ينشز العظام ثم يكسوها لحماً، ولكن لمّا كان طلب إبراهيم هو أن يريه كيف يحيي الموتى فقط، كانت تلك الطيور لازالت كل واحدة منها كتلة واحدة متماسكة لم تتحلل بعد، وكان جل ما فعله إبراهيم هو أن يدعوها، وعندما فعل ذلك، أتته سعياً.
لكنّ مثل هذه التخريصات - التي هي بلا شك من عند أنفسنا- تثير التساؤل التالي: كيف دعاهن إبراهيم؟ أي كيف كانت ماهية دعوة إبراهيم لتلك الطير بعد أن وضع على كل جبل منهن جزءاً، ونزل هو إلى ملتقى تلك الجبال ليدعوهن؟ فهل يا ترى تم ذلك بالمناداة؟
رأينا: نحن نزعم الظن أن دعوة إبراهيم لتلك الطيور لم تتم بالمناداة للأسباب التالية:
1. تلك الطيور – كما زعمنا- ليست من الطيور التي تطير بجناحيها، لذا فهي ليست أمم أمثالنا، وليس لها منطق (أي لغة).
2. إبراهيم لم يعلّم منطق الطير (كما علم داوود وولده سليمان) حتى يستطيع أن يفعل ذلك بالمخاطبة.
الدليل
ربما لا نحتاج إلى كثير عناء أن نثبت أن إبراهيم لم يُعلَّم منطق الطير، فسليمان ووالده داوود هم من كانوا يعلمون كيف يخاطبون الطير:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ النمل 16
ولا أظن أن هناك دليلاً واحداً في كتاب الله يشير من قريب أو بعيد إلى أن إبراهيم كان قادراً على مخاطبة الطير بمنطقها (أي لغتها). لذا، لا نتردد أن نطرح السؤال على الدوام: كيف إذن دعا إبراهيم تلك الطير؟ كيف تمت مخاطبة ذلك الطير حتى لبّت دعوة إبراهيم لها؟
رأينا: يمكن أن نفهم ذلك بحول الله وتوفيقه إن نحن ركزنا على المفردة نفسها، وهي مفردة الدعوة، فإبراهيم لم يخاطب الطير، وهو لم يناد عليها، ولم يبتهل إلى الله أن يبعثهن إليه، ولكن جل الذي فعله هو أنه دعاهن، فالخطاب القرآني واضح لا يقبل التبديل:
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا
لذا، نحن بحاجة أن نتفكر في معنى مفردة " ادْعُهُنَّ"، عسى الله أن يأذن لنا بشيء من علمه لنفهم كيف حصل الأمر على أرض الواقع.
أما بعد،
كيف تتم الدعوة؟
لا شك عندنا أن الدعوة يمكن أن تنقسم في البداية إلى قسمين متضادين وهما:
1. دعوة إلى الله
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا الإسراء 110
2. دعوة إلى من دون الله
إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا النساء 117
ولا شك عندنا أن الله هو الذي يستجيب الدعوة:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ البقرة (186)
وذلك لأن الله له دعوة الحق:
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ الرعد (14)
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الحج 62
ولكن لما كان الذين يدعون من دون الله يتبعون الظن (وليس الحق):
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ۗ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يونس 66
كانوا لا يستطيعون استجابة الدعاء:
قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الأنعام 71
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ الأعراف 194
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ الأعراف 197
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا الإسراء 56
يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ الحج 12
ولكن استجابة الله للدعاء مرتبطة بمشيئته:
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ الأنعام 41
ودعوة الله تتطلب الإخلاص له بالدين:
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الأعراف 29
ودعوة الله تكون على نحو تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً:
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ الأنعام 63
وعلى نحو خوفاً وطمعاً:
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الأعراف (56)
تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ السجدة (16)
وعلى نحو رغبا ورهباً:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ الأنبياء (90)
ودعوة الله تكون باسمه الأعظم أو بأسمائه الحسنى:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا الإسراء (110)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الأعراف 180
(للتفصيل حول قضية الدعاء انظر مقالتنا تحت عنوان صلاة الاستسقاء)
إن الذي يهمنا هنا هو طريقة (أو آلية) الدعوة، أي كيف تتم الدعوة؟
جواب: غالباً ما ظن الناس أن الدعوة تتم بالكلام المباشر من الداعي إلى المدعو، فنوح قام بالدعوة بالكلام:
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) نوح 5-10
فلا شك عندنا أن القوم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا دعوة نوح لهم. ولكن يبقى السؤال قائماً: هل تتم الدعوة فقط بالكلام المباشر من الداع إلى المدعو؟
جواب: كلا، نحن نظن أن الدعوة قد تتم دون الحاجة إلى الكلام (المنطق) إطلاقاً، فها هو الشيطان يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير:
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ فاطر (6)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إبراهيم (22)
فكيف كانت دعوة الشيطان لمن استجاب دعوته؟ هل فعلاً حصلت مخاطبة مباشرة بين الشيطان ومن استجاب دعوته؟
الجواب كلا، لأن الشيطان يحدث ذلك بطرق مختلفة، كالوسوسة كما حصل مع آدم وزوجه:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ طه (120)
والله تعالى قد أعطى الرخصة لإبليس أن يستفزز من الناس من يستطيع بصوته وأن يجلب عليهم بخيله ورجله:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا الإسراء (64)
نتيجة: نحن نفتري الظن بأن الدعوة قد تكون بالصوت أو بالوسيط كالخيل والرجل كما في حالة دعوة الشيطان للناس.
وربما ينطبق مثل هذا الظن على دعوة الناس بعضهم البعض، فهم قد يدعون بعضهم البعض بالصوت (المنطق) وقد يكون بالوسيط، فها هي ابنة شعيب مثلاً تنقل دعوة أبيها إلى موسى:
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ القصص (25)
إن مراد القول هو أن شعيب لم يخاطب موسى مباشرة، وأن موسى لم يسمع كلاماً مباشراً من شعيب، ولكن بالرغم من ذلك فهي تعتبر دعوة من شعيب إلى موسى، فلا يتردد الأخير في تلبية دعوة الأول.
وها هي النار نفسها تدعو من أدبر وتولى:
كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَىٰ (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17) المعارج 15-17
فالأصم قد لا يسمع الدعوة إن كانت كلامية (صوتية):
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ۚ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ الأنبياء (45)
ولكنه قد يسمع الدعوة إن لم تكن كلامية مادام أنه ينظر جهة الداع (أي غير مدبر عنه):
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ النمل (80)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ الروم (52)
نتيجة مفتراة: ليس شرطاً أن تتم الدعوة بالكلام المباشر (المنطق)، لذا نحن نفتري القول أنه لمّا كان إبراهيم قد دعا الطير لم يكن ذلك بالكلام المباشر (المنطق) وذلك لأن ذلك الطير لم يكن من النوع الذي له منطق (لأنه لم يكن من النوع الذي يطير بجناحيه)، ولأهم من ذلك لأن إبراهيم نفسه لم يُعَلّم منطق الطير حتى يستطيع أن يخاطبه بمنطقه.
سؤال: إذا كان إبراهيم لم يدع الطير بطريقة الخطاب (المنطق) كما تزعم، فكيف فعل ذلك؟
جواب: نحن نزعم القول أن الدعوة المستجابة يجب أن تتم بمنطق المدعو وليس بمنطق الداع. ولكن كيف؟
أما بعد،
لا شك عندنا أنه عندما تريد أن توصل رسالة (دعوة) إلى شخص ما، فإنك تحاول أن تجعل تكل الرسالة واضحة له ليفهم رسالتك (دعوتك) فيلبيها بالطريقة التي ترغب. لذا فإن إبراهيم – لا شك عندنا– قد دعا تلك الطير بطريقة يمكن لتلك الطير نفسها أن تفهم الدعوة لتلبي رسالة (دعوة) إبراهيم لها.
- فـ لكي يتمكن الشيطان من إيقاع الناس في شركه، فلابد أن يوصل دعوته لهم بطريقة يستطيعون هم أن يفهموها، وإلا لمّا كانت الاستجابة منهم إلى دعوته حاصلة.
- ولو جاءت ابنة شعيب إلى موسى وخاطبته بطريقة لا يفهمها موسى، لما استطاع أن يلبي الدعوة إلى بيت والدها، و لربما أخطأ في تفسير رسالتها وفعل شيئاً آخر.
- وتستطيع أن تسمع الصم دعوتك شريطة أن لا يكونوا مدبرين، لأن الأصم يحتاج إلى أشارة يراها بعينه، فلا يفيدك أن تصرح بأعلى صوتك لتسمع أصم مادام أنه لا ينظر جهتك:
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ النمل (80)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ الروم (52)
أما إن كان غير مدبر، فأنت تستطيع أن تستخدم طريقة في الدعوة يمكن للمدعو (الأصم) أن يفهمها.
إن ما يهمنا بالموضوع هو القول بأنك لا تستخدم طريقتك أنت (الداع) لكي تدعو الأصم مثلاً، ولكنك تستخدم طريقته هو (أي المدعو).
نتيجة: أنت تستطيع أن توجه الدعوة (وإن لم تكن كلامية) شريطة أن تأخذ بعين الاعتبار قدرة المدعو على فهم تلك الدعوة.
افتراء من عند أنفسنا: يقودنا مثل هذا المنطق (على ركاكته) إلى الافتراء بأن إبراهيم قد دعا تلك الطير بطريقة يمكن لذاك الطير أن يفهمها ليستطيع بعدئذ أن يلبي دعوة إبراهيم على الفور، فما هي تلك الطريقة؟
جواب: لو استعرضنا السياق القرآني نفسه مرة أخرى وأثرنا هذا السؤال حوله، لوجدنا شيئاً أظن أنه غاية في الغرابة، ولكن كيف؟
ها هو إبراهيم يطلب من ربه أن يريه كيف يحي الموتى وذلك ليطمئن قلب إبراهيم:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ...
وها هو رب إبراهيم يرد على طلب نبيه منه بأن يأخذ أربعة من الطير فيصرهن إليه ثم يجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم يدعوهن:
... قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
التساؤل: مادام أن إبراهيم لا يعرف منطق الطير، ومادام أن الله يطلب من إبراهيم أن يدعوهن، فلم إذن لم يطلب إبراهيم من ربه استفساراً حول كيفية أن يدعوهن؟ أي لِمَ لَمْ يرد إبراهيم على ربه بالقول: وكيف سأدعوهن وأنا لا أعرف منطقهن؟
جواب: لم يفعل إبراهيم ذلك (أي لم يطلب من ربه توضيحاً عن كيفية أن يدعوهن) لأنه بكل بساطة كان –حسب ظننا- يعرف كيف يدعو ذلك الطير. فلو كان إبراهيم لا يعرف كيف يدعو ذلك الطير لما تردد – نحن نفتري القول- أن يطلب توضيحاً من ربه عن الكيفية.
استراحة قصيرة
لو عدنا إلى قصة بني إسرائيل الشهيرة حول حادثة ذبح البقرة، لربما تجلت الصورة حول هذه الجزئية بشكل أكثر، فغالباً ما سوّق أهل العلم والدراية أن بني إسرائيل كانوا كثيرين الجدال، وغالباً ما اقتبسوا قصة البقرة للتدليل على زعمهم ذاك، فهم يرددون القول أن بني إسرائيل ما كفوا عن إتباع السؤال بالسؤال حول ماهية تلك البقرة، فكان ذلك – حسب ظن أسلافنا الكرماء- تضيقاً من بني إسرائيل على أنفسهم.
ونحن إذ لا نريد أن ندخل هنا في جدلية هذا الموضوع، إلا أننا نرغب أن نثير سؤالاً واحداً فقط إن صح ما زعم من سبقونا، ألا وهو: لِمَ لَمْ يجادل بنو إسرائيل نبيهم عندما أمرهم بأن يضربوا المغدور ببعض البقرة:
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ البقرة (73)
إن مراد قولنا هنا هو: لِمَ لَمْ يتبع بنو إسرائيل هنا الأمر بالسؤال عن بعض تلك البقرة؟ أي لِمَ لَمْ يسألوا نبيهم عن بعض تلك البقرة التي سيضربون به المغدور منهم إن كان ديدنهم كما يزعم أهل العلم والدراية هو الجدال؟ لم توقف جدالهم هنا بالرغم أنه المكان الذي من المتوقع أن يستمر طرح الأسئلة حوله؟ ألم نختلف نحن في معنى ذلك البعض؟
رأينا: نحن نفتري القول أنه لو صح ما قاله الأقدمون (ولحقهم في ذلك المحدثون)، لكان الأولى ببني إسرائيل أن يسألوا نبيهم عن ذلك البعض. ونحن نتخيل الموقف على النحو التالي: فلو أخبرهم أن ذلك البعض هو رِجْلُها مثلاً، لربما سألوه عن أي الرجلين يقصد: اليمنى أم اليسرى؟ ولو قال لهم أن ذلك البعض هو يدها، لطرحوا سؤالاً حول نفس الإشكالية، ولو قال لهم أنه ذيلها، لربما جادلوا نبيهم في أنه لم يكن هناك أصلاً حاجة أن تذبح البقرة ولربما فعلوا ذلك (أي قطع الذيل) وهي لازالت حية؟ ولو كان جوابه على نحو أنه رأسها، لربما سألوه عن كيفية أن يضربوا الميت برأس تلك البقرة، وهكذا.
رأينا: ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة، فصحيح أن بني إسرائيل تلكأوا في ذبح البقرة، ولكن ذلك كان خوفاً من أن تنكشف الحقيقة التي يحاولون أن يخفوها (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)، وكان هدف أسئلتهم (خاصة من كان منهم يريد كشف الحقيقة) هو معرفة الكيفية التي يجب أن ينفذ بها الفعل، بينما كان هدف من أراد إخفاء الحقيقة هو إعاقة القيام بالفعل، فقد كان يسأل من أراد الحقيقة لكي يعلم، ولكن الغريب في الحادثة هو ما حصل عندما طلب منهم أن يضربوه ببعضها، فلم يحاول أحد منهم أن يستفسر عن ذلك البعض، وذلك - برأينا- لسبب بسيط وهو أنهم كانوا يعرفون ما هو بعض البقرة. ولو لم يكونوا يعرفون ما هو بعض البقرة لما ترددوا – نحن نفتري الظن- عن طرح السؤال، لا بل وإتباع السؤال بالسؤال.
(وسنحاول أن نبين في مقالة منفصلة ما هو بعض البقرة التي ضرب بها بنو إسرائيل المغدور منهم في مقالة خاصة عند الحديث عن قصة موسى بحول الله وتوفيقه، فالله أسأل أن يصطفيني بعلم من عنده لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع المجيب)
نتيجة مفتراة: إن مرادنا من القصة السابقة هو الخروج بالاستنباط البسيط التالي: عادة ما يتم طرح السؤال لاستكشاف المعلومة التي لا تعرف، ولكن إن كنت أنت تعرف المعلومة فلن تقحم نفسك في سؤال وجواب حولها.
عودة على بدء
لذا، نحن نفتري القول أنه لمّا كان إبراهيم يعرف كيف يدعو ذلك الطير الذي وضعه على تلك الجبال وقد كان قد صره إليه من قبل لم يكن بحاجة أن يستجلي من ربه عن كيفية دعوتهن.
فكيف دعا إبراهيم ذلك الطير؟
جواب: نحن نفتري القول أن إبراهيم ما كان ليخرج عن نواميس الكون وسنن الله في خلقه، فإبراهيم يعرف كيف يدعو الطير الذي يعيش حوله (المدجن)، وأظن أنه ما قام بأكثر من ذلك. ولكن كيف؟
قصة شعبية
نحن من سكان القرى (أو الأصح من أهل البداوة) الذين نادراً ما وطئت أقدامهم "المدينة" إلا بعد أن أنهوا تعليمهم المدرسي وانتقلوا إلى التعليم الجامعي، وكنا على الدوام نشاهد كيف كانت نساء الحي يقمن بتربية الدواجن في البيوت الريفية، وكيف كانت تقوم كل واحدة من أولئك النسوة بدعوة دجاجها إليها عند الحاجة، فهي تقوم بحمل الطعام لتنثره في مكان محدد على الأرض، وهي تصدر بعض الأصوات "الدجاجية" (أي أصوات خاصة بالدجاج تختلف عن تلك الخاصة بالحمير أو البقر ونحوها)، وما هي إلا لحظات حتى تتسابق تلك الطير إلى صاحبتها، فيتحلقن حولها، ليلتقطن ما قدّمت لهن صاحبة البيت من طعام وشراب، ولا زلت أذكر تلك القصة الشعبية التي رووها لنا (فنحن لا نتحمل مسؤولية صدق الرواية) عن بيت أحد الأقارب الذي كان متزوجاً من سيدتين، وكان لكل واحدة منهن بضع دجاجات (ولكن كان هناك ديك واحد مشتركاً)، وعندما يتم تقديم الطعام (أو العلف كما نسميه في منطقتنا) للدجاج، تتحلق الدجاجات كل حول صاحبتها، فلا تعتدي دجاجة على علف جاراتها، ويبقى الديك فقط حراً يأكل من الطرفين (فهو مشترك)!!!
نعم، أظن أن دعوة إبراهيم لم تكن أكثر من تقديم الطعام لتلك الطير بالطريقة التقليدية، فما أن نزل إبراهيم إلى الملتقى بين تلك الجبال حتى قام بنثر الطعام (الأكل) لتلك الطير كما كانت عادته اليومية على الدوام، وهناك لم تتردد تلك الطير عن تلبية دعوة إبراهيم لهن بأمر من رب إبراهيم الذي هو يحيي الموتى، فأتته تلك الطير تسعى.
نتيجة مفتراة: بعد هذا السرد الطويل المفترى ربما نستطيع تلخيص ما حصل مع إبراهيم بالسطور القليلة التالية:
إبراهيم يطلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئن قلبه، فيرد الله على إبراهيم أن يأخذ أربعة من الطير التي كان يربيهن هو في بيته (حوله)، فنحن نتخيل أن إبراهيم كان يربي الكثير منها حوله، فطلب الله منه أن يأخذ أربعة منهن (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْر) فقط وليس كل الطير المتواجد حوله حينئذ، فيقوم بصرهن إليه (أي خنقهن) لينهي الحياة فيهن، ثم يقوم بتوزيع كل واحدة من هنّ على واحد من الجبال التي حوله (وهي أربعة جبال)، ثم يقوم بعد ذلك بدعوة تلك الطير بالطريقة المعهودة (أي بتقديم الطعام وإصدار الأصوات الخاصة بتلك الكائنات)، فما تتردد تلك الطير بأمر من ربها أن تلبي دعوة إبراهيم لتأتيه ساعية، أي مستعجلة طالبة رزقها كما كانت تفعل قبل أن يقوم إبراهيم بصرهن إليه (أي ينهي حياتها الأولى).
سؤال: أين حدث كل ذلك؟ في أي مكان حصلت تلك القصة؟
لا شك أن هذا السؤال يعيدنا إلى قصة إبراهيم الأولى خاصة هجرته إلى ربه بعد أن أنجاه من نار قومه، وقد تحدثنا عن جزء من تلك القصة في سلسة مقالاتنا تحت عنوان: لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟ لذا ندعو القارئ الكريم إلى مراجعة ما جاء في تلك المقالة حول قصة هجرة إبراهيم إلى ربه، وكان من بين افتراءاتنا السابقة زعمنا أن إبراهيم قد خرج من نار قومه، فاتخذ قراره بالهجرة مباشرة إلى ربه، ولم يرجع إلى قومه لأن العذاب كان قد نزل بهم (للتفصيل انظر تلك المقالة). فكانت وجهته من الشرق إلى الغرب، فقصد بيت المقدس وذلك لظن إبراهيم أنه سيجد ربه هناك:
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ الصافات (99)
وزعمنا القول أنه لو كان رب إبراهيم متواجد في المكان الذي أشعلت فيه النار لإحراق إبراهيم لما جاء قول إبراهيم على نحو أنه ذاهب إلى ربه، وذلك لأن "الذهاب إلى" يتطلب الانتقال من مكان إلى مكان آخر، فالله نفسه يطلب من موسى وأخيه أن يذهبا إلى فرعون، لذا فهم يحتاجون أن ينتقلوا من مكان إلى مكان:
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ طه 24
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ طه 43
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا الفرقان 36
فإبراهيم قصد الذهاب إلى ربه ليجده في مكان غير المكان الذي انطلق منه (كلام خطير جداً، أليس كذلك؟)
فأين يا ترى حط بإبراهيم الترحال؟
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ الأنبياء (71)
ويميل الظن عندنا إلى الاعتقاد اليقيني أن قصة إبراهيم مع الذي حاجه في ربه قد حصلت بعد هجرته إلى ربه:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ البقرة (258)
فإبراهيم لم يعطى الفرصة من قومه ليحاج غيرهم بعد أن نكّل بأصنامهم، فما أن أقام الحجة على قومه بتجذيذ تلك الأصنام حتى اتخذوا قرارهم بإلقائه في النار، فنجّاه الله منها، وهاجر إلى ربه، وما أن يصل إلى المدينة[3] التي كان يتواجد فيها لوط معه هناك، حتى التقى إبراهيم بذلك الرجل (الحاكم) الذي حاجه في ربه، وهناك فقط عاد شيء من الشك إلى قلب إبراهيم بعد حجة ذلك الرجل بأنه هو أيضاً يحي ويميت. وما أن اختلى إبراهيم بنفسه حتى توجه إلى ربه أن يريه كيف يحيي الموتى وذلك ليطمئن قلبه:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة 260
ونحن نفتري الظن أن إبراهيم (كما ذكرنا في مقالة سابقة) قد ترك لوطاً في تلك المدينة، فهم الذين جاءوا لوطاً مستبشرين بضيوفه:
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ الحجر 67
وأنتقل إبراهيم بأهله إلى مكان آخر، فالعذاب الذي نزل على قوم لوط لم يقع على إبراهيم وقومه، وهناك حصلت دعوة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى. فأين يا تري يقع ذلك المكان؟
لو تدبرنا قصص الأنبياء جميعاً الذين ذهبوا لملاقاة ربهم (وهم إبراهيم وموسى ومحمد) لوجدنا أن اللقاء كان في موعد محدد بالزمان والمكان. فالله واعد موسى في مكان محدد، وأسري بمحمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (انظر مقالتنا تحت عنوان أين حصلت مناداة الله نبيّه موسى)، وقد افترينا الظن في أكثر من مقالة سابقة لنا أن المكان هو نفسه، وزعمنا أيضاً أنه المكان الأول الذي كان هو جنة المأوى، أي جنة آدم الأولى على الأرض، وهي الجنة التي أخرجه الله منها يوم أن وقع في مكيدة الشيطان، وانتقل من هناك إلى مكان البيت الحرام حيث وضع أول بيت للناس، فآدم وزوجه كانا يسكنا الجنة (كل الجنة) لا يحتاجان إلى بيت يحميهما من تقلبات الطقس، لأن سوءاتهما لم تكن بادية لهما بعد، وما أن أكلا من الشجرة حتى بدت لهما سوءاتهما، فطفقا يخصفان عليهما من ورق تلك الجنة، ولمّا انتقلا للعيش في ذلك الواد غير ذي الزرع احتاجا إلى بيت يوءيهما من تقلبات الطقس، فكان أول بيت وضع للناس هناك في بكة (انظر سلسة مقلاتنا لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه).
إن ما نودّ أن نطرحه هنا بخصوص عيسى بن مريم هو أن مريم قد وضعت طفلها في ذلك المكان (جنة المأوى) الذي كان جنة آدم الأولى (وأصبح مكان موعد الله نبيه موسى، والمكان الذي أسرى بمحمد إليه، وهو المكان نفسه الذي تواجد به إبراهيم يوم أن طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى). ولكن لا بد من التنبيه أن ذلك المكان قد حصل على جغرافيته تغيراً مهماً، فما هو؟
قبل الخوض في جغرافية ذلك المكان لابد من التعريج على معنى جنة المأوى، لنحاول أن نبين كيف تختلف جنة المأوى عن جنة الخلد التي وعد الله عباده بالغيب.
سؤال: ما الفرق بين جنة المأوى وجنة الخلد؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن الفرق بين المأوى والخلد يتمثل في أن المأوى ليس خلوداً وهو ليس مكوثاً[4]، وإما بين الحالتين، إي البقاء في مكان محدد لفترة محددة من الزمن.
الدليل
لو استعرضنا السياقات القرآنية التي تتحدث عن المأوى لوجدنا أنها لا تصور الموقف على سبيل الدوام، فها هو ابن نوح يظن أنه يستطيع أن يؤوي إلى جبل يعصمه من الماء، ولا أعتقد أنه يقصد أن يبقى يعيش في ذلك الجبل حتى النهاية، ولكنه سيتخذ من ذلك الجبل –حسب ظنه- مأوى حتى ينقضي الطوفان:
قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ هود 43
وها هو لوط نفسه يتمنى مأوى ينجيه من قومه الذين جاءوه يطلبوا ضيوفه:
وها هو يوسف يؤوي إليه أخيه وأبويه عندما دخل كل واحد منهم عليه:
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
وها هم الفتية الذين آمنوا بربهم يؤون إلى الكهف علّ ذلك ينجيهم من الذين يطاردوهم، ولا أعتقد أنهم كانوا يتصورون أن يبقوا في ذلك الكهف إلى الأبد:
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا الكهف 10
وها هو موسى وفتاه يأويان إلى الصخرة فترة من الزمن ثم يتركوها ليتابعوا مسيرهم بحثاً عن الرجل:
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا الكهف 63
وها هي مريم وابنها يؤويان إلى تلك الربوة فترة قصيرة من الزمن:
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ المؤمنون 50
وها هم المؤمنون جميعاً لهم عند ربهم جنات المأوى (وليس فقط جنة مأوى واحدة):
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ السجدة 19
ولو تدبرنا هذه الآية الكريمة جيداً، لربما خرجنا بفائدة عظيمة، تتمثل – في ظننا- أن تلك الجنات هي جنات مأوى (وليست جنات خلد) لأن من يدخلها لا يمكث فيها طويلاً، فالله قد أعد للمؤمنين من عباده جنات مأوى كثيرة، ليبقى المؤمنون الفائزون بها دائمين التنقل من واحدة إلى أخرى. وربما يثبت ظننا هذا هو أنه في في حين أن هناك جنات مأوى كثيرات (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا)، هناك فقط جنة خلد واحدة:
قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۚ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا الفرقان 15
فالجنة بأكملها هي جنة خلد للمؤمنين، ولكن في تلك الجنة الفسيحة الكبيرة هناك جنات مأوى متعددة يستطيع من كان ذو حظ عظيم أن يتنقل بينها لتكون كل واحدة منها له نزلا (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا)، فهو لا يخرج من جنة الخلد الكبرى، ولكنه يخرج من جنة مأوى لينتقل إلى جنة مأوى أخرى.
نتيجة مفتراة: إننا نزعم الظن أن جنة المأوى التي جاء ذكرها في سورة النجم والتي حاولنا الخوض فيها عنما تعرضنا لرحلة الإسراء التي قام بها النبي محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لم تكن المحطة الأخيرة فيها هي جنة الخلد وإنما كانت جنة المأوى:
لذا لم تكن رحلته قد انتهت إلى السماء (كما يزعم الكثيرون حيث جنة الخلد)، وإنما انتهت (حسب ظننا) عند جنة المأوى حيث البقاء لا يكون فيها على الدوام.
سؤال: أين هي جنة المأوى تلك؟
لو ربطنا حادثة الإسراء تلك بما حل بمريم بعد أن وضعت مولودها لوجدنا أن المأوى موجود هناك، وظروف الجنة المعروفة متوافرة فيه:
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ المؤمنون 50
فلقد كان للمسيح وأمه مأوى (وَآوَيْنَاهُمَا)، وحصل ذلك في مكان مواصفاته على نحو أنه (رَبْوَةٍ) تتصف بأنها (ذَاتِ قَرَارٍ) و (وَمَعِينٍ)، فالمكان مرتفع، أليس كذلك؟
سؤال: ما هي الربوة؟
جواب: نحن نظن أن الربوة هو المكان المرتفع الذي يمكن أن تتوافر به عناصر الجنة:
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ البقرة 265
سؤال: كيف كانت الربوة التي وجدت بها مريم نفسها وأبنها فيها؟
جواب: ذات قرار ومعين
سؤال: ما هو القرار؟
يصور الله القرار في السياقات القرآنية التالية:
أولاً: الشجرة لها قرار:
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ إبراهيم 26
فلو تخيلنا شجرة قد اجتثت من فوق الأرض، فتلك الشجرة تصبح بلا قرار، لذا نحن نستنبط أن القرار هو التجويف الأرضي الذي يكون داخل الأرض، فما كان من الشجرة تحت التراب (تحت الأرض) فذاك هو قرار الشجرة:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ إبراهيم 24
فالشجرة التي لازال أصلها ثابت فهي شجرة لم تجتث من فوق الأرض، وهي شجرة لها قرار، وما أن تجتث من فوق الأرض حتى تصبح شجرة لا قرار لها، لأن قرارها يبقى تحت الأرض بعد أن تجتث هي من فوق الأرض، (فتجف شيئاً فشيئاً حتى تموت). فقرار الشجرة هو مبعث حياتها، لأن الشجرة التي لا قرار لها لا حياة فيها.
ثانياً: يتشابه شكل قرار الشجرة مع رحم المرأة الذي تحمل فيه جنينها:
فتجويف رحم المرأة الذي تستقر فيه النطفة لتبدأ مشوار الحياة في النمو هناك هو قرار، فهذا القرار (كما قرار الشجرة) أصل الحياة، ولو خرجت النطفة من ذلك القرار لهلكت كما تهلك الشجرة التي تجتث من فوق الأرض.
نتيجة مفتراة: المكان الذي يكون هو القرار يكون على شكل تجويف يشبه تجويف الأرض الذي تنبت فيه الشجرة أو ما يشبه رحم المرأة التي تبدأ فيه النطفة.
ثالثاً: لو تأملنا ذلك التجويف لوجدنا أنه ذات حواجز لا يمكن تجاوزها، فقرار الشجرة ينهي مع جذور تلك الشجرة في الأرض، وقرار النطفة له حدود لا تخرج منه تلك النطفة، وهكذا يمكن أن نتخيل جهنم التي تكون مأوى الكافرين:
فجهنم هي نهايتهم وهي محيطة بهم لا يستطيعون النفاذ منها، والصورة نفسها يمكن أن تنطبق على الآخرة بأكملها:
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ غافر 39
وهكذا يمكن أن نتخيل الأرض بالنسبة لنا نحن البشر:
أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ النمل 61
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غافر 64
افتراء من عند أنفسنا: نحن نتخيل المكان الذي يكون على شكل قرار على أنه مكان يشبه التجويف (وإن كان مفتوحاً) يمكن الخروج منه من اتجاه واحد فقط، فالشجرة تخرج من قرارها باتجاه الأعلى والجنين يخرج من قراره باتجاه الأسفل، ومن دخل جهنم لا يخرج منها إلا من اتجاه محدد، والناس لا شك تخرج من الدنيا باتجاه محدد، وهكذا.
ولو حاولنا إسقاط هذا التصور على المكان الذي كانت تتواجد فيه مريم وابنها لوجدنا أنه مكان مرتفع، لا يمكن الخروج منه إلا باتجاه واحد.
المعين
لاشك أن المعين هو أجود المشروب من الماء، ويمكن الحصول عليه بالكأس:
يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ الصافات 45
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ الواقعة 18
فهو ماء قريب لم يصبح غوراً، لأن الماء الغور هو عكس الماء المعين:
ومتى أصبح الماء غورا أصبح الوصول إليه متعذراً:
افتراء من عند أنفسنا: نحن نتخيل المكان الذي تواجدت به مريم مع طفلها على أنه مكان مرتفع محاط من كل جانب، ولا يمكن الخروج منه إلا باتجاه واحد، ويتوافر فيه ماء معينا (سهل الحصول عليه). وقد كان ذلك المكان مثالياً لمريم لأنه يمكّنها من أشياء كثيرة هي بحاجة لها، نذكر منها:
1. الأمان، فالمكان مرتفع لا يتم الوصول إليه إلا من اتجاه واحد، لذا تبقى مريم مترقبة باتجاه واحد لا تخشى أن يراها أحد من كل اتجاه، فلا تنشغل بمراقبة المكان بدل أن تنشغل بنفسها.
2. وجود الماء الذي تحتاجه للشرب والتنظيف
3. وجود الطعام، وهذا ما سننتقل للحديث عنه في الحال.
سؤال: من أين كانت مريم تحصل على الطعام؟
تحدثنا في الأجزاء السابقة من هذه المقالة كيف أن الله قد كف رزق السماء عن مريم لحظة أن وضعت المسيح، وزعمنا القول أن مهمة مريم (كتحضير جسمها الفيزيائي) قد انتهى عند هذه المحطة، فلم تعد مؤهلة لرزق خاص من السماء، وأصبح باستطاعتها أن تأكل مما يأكل منه الناس وتشرب مما يشربون (للتفصيل انظر الأجزاء السابقة)، فنحن نعلم أنه ما أن فرغت مريم من وضع طفلها حتى أمرت بأن تهز إليها بجذع النخلة لتساقط عليها رطباً جنياً،
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا مريم 25
فتأكل منه وتشرب من الماء القريب منها:
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا مريم 26
سؤال: كيف تستطيع مريم أن تهز إليها بجذع النخلة؟
لنحاول الآن أن نتخيل شكل النخلة التي يمكن أن تحمل الرطب، فكيف يمكن أن نفهم أن مريم تؤمر أن تهز إليها بجذع النخلة (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ)، انظر الشكل التالي:
إن ما نود إثارته هو استحالة قدرة مريم البدنية أن تهز بجذع النخلة ناهيك أن تستطيع أن تهزه إليها، فكيف قامت بذلك؟
جواب: نحن نفتري القول أن الجذع ليس ما نعرفه نحن على أنه ساق الشجرة الذي يخرج من الأرض، فمريم لا تستطيع أن تهزه (فذاك أمر ربما ينوء بالعصبة أولى القوة من الرجال)، ناهيك أن تكون مريم مأمورة أن تهزه إليها، فهل يا ترى تستطيع مريم أن تهز بذاك الساق الغليظ الثابت إليها لتساقط عليها رطباً جنيا؟
رأينا: كلا وألف كلا، مريم كانت مأمورة أن تهز إليها بجذع النخل، لذا علينا أن نفهم ما هو جذع النخلة، وهذا يعيدنا على الدوام إلى الافتراض الذي نتبناه وهو فهم معاني مفردات القرآن كما أرادها الله في كتابه لا كما فهمها آباؤنا وأجدادنا.
ما هو الجذع؟
رأينا: هناك فرق بين الجذع من جهة والفرع من جهة أخرى، فنحن نزعم القول أنه لابد أن يكون للشجرة أكثر من جذع، وذلك لأن للشجرة فرع واحد فقط:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ابراهيم 24
إن الاستنباطات التي نود أن نخرج منها من هذه الآية الكريمة والآيات السابقة هي على النحو التالي:
1. الجزء الذي تحت الأرض من الشجرة – كما ذكرنا سابقاً- هو قرارها:
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ابراهيم 26
فما تبقى من الشجرة في الأرض بعد أن تكون قد اجتثت من فوق الأرض هو قرارها
2. الجزء الثابت من الشجرة فوق الأرض الذي لا يتحرك هو أصل الشجرة:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ
3. الجزء الذي يرتفع في السماء من الشجرة هو فرعها، فالفرع يبدأ عند آخر أصل الشجرة حيث يبدأ ذلك يتحرك بتأثير عامل خارجي كحركة الرياح مثلاً[5].
4. الجزء المتدلي من الشجرة الذي يحمل الرطب (الثمر) من الشجرة هو الجذع (أو ما نسميه نحن خطأ بالغصن)[6].
5. لا شك عندنا أنه في حين أن للنخلة فرع واحد، لها أكثر من جذع، فها هو فرعون يتوعد السحرة بعد أن آمنوا برسالة موسى ليصلبنهم في جذوع (مفرد جذع) النخل:
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ طه 71
ولو راقبنا النص جيداً لوجدنا أن فرعون سيقوم بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم يقوم بعد ذلك بتصليبهم في جذوع النخل، فكيف – يا ترى- تستقيم صورة التصليب التي غرسها أسيادنا من أهل العلم والدراية في أذهاننا والقوم قد قطعت أيديهم وأرجلهم؟
رأينا: نحن نفتري القول بأن فرعون كان يظن أنه يستطيع أن يقطع أيدي السحرة وأرجلهم من خلاف أولاً، ثم يقوم بعملية التصليب في جذوع النخل، فيأخذ كل واحد منهم ليضعه في أعلى النخلة ليتدلى بين جذوعها المتعددة (أي غصونها)، والهدف هو أن يكون عبرة لغيره، فلا يستطيع أحد أن يقترب من المصلوب لأن ذلك يتطلب الصعود إلى أعلى النخلة وإنزال المصلوب من بين جذوعها. ولا ننسى أن فرعون يستخدم حرف الجر في ليدل على أن الشخص المصلوب سيكون متواجد في الداخل، فوجوده بين جذوع النخلة يدل عليه حرف الجر "في" (انظر مقالتنا تحت عنوان معنى حرف الجر على).
والآن لنحاول أن نتخيل كيف هزت مريم إليها بجذع النخلة (أي غصن النخلة بلغتنا المحرّفة)، فنحن نتخيل الصورة على النحو التالي:
مريم موجودة على ربوة (حيث المكان المرتفع والماء القريب)، النخلة تنبت من أدنى الربوة وتتسلق جذوعها التي تحمل الثمر لتصل أعلى الربوة حيث تجلس مريم مع طفلها، فتتدلى تلك الجذوع على مريم لتوفر لها الظل من أشعة الشمس (فالبشر عادة ما يستظلون بظل الشجرة ليبتعدوا عن الحر: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ)[7]. وتكون تلك الجذوع التي تحمل الرطب قريبة إليها، فتمسك مريم بواحدة من تلك الجذوع لتهزه إليها (أي باتجاهها)، فتساقط الرطب عليها لتأكل هي منه.
فأين هو ذلك المكان؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أنه المكان الذي توافرت به عناصر الجغرافيا السابقة التي تعرضنا لها، وهو المكان الذي تغيرت جغرافيته بسبب حدث جلل وقع عليه من ذي قبل، وهذا ما سنحاول الخوض فيه في الجزء القادم من هذه المقالة إن أذن الله لنا بشيء من علمه، فالله أسأل أن يهدينا إلى الحق فلا نفتري عليه الكذب، وأن تنفذ كلمته بإرادته بمشيئته لنا الإحاطة بعلم لا ينبغي لغيرنا، إنه هو السميع المجيب.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح
علي محمود سالم الشرمان
18 أيلول 2012
بقلم: د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن
للتواصل مع الكاتب أرسل على بريده الإلكتروني التالي:
أو أنقر على صفحته الإلكترونية على العنوان التالي:
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ
وللريح:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ
وللفلك في البحر:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
وللشمس والقمر والأفلاك السماوية:
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
[2] وسنتعرض لقصة البقرة في مقالة منفصلة بحول الله وتوفيقه عند الحديث عن موسى، فالله تعالى أسأل أن يأذن لي بشيء من علمه إنه هو السميع المجيب.
[3] وقد ذكرنا سابقاً أن مفردة المدينة في النص القرآني تعني العاصمة السياسية التي يتواجد فيها الحاكم، أما القرية فقد تكون أكبر من المدينة في الحجم إلا أنها لا تكون عاصمة سياسية، فمكة قرية ولكن المدينة المنورة هي المدينة لأنها كانت العاصمة السياسية للدولة الإسلامية الأولى. لمزيد من الأدلة أنظر لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ الرعد 17
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى طه 10
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ النمل 22
فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ القصص 29
[5] لو بحثت القرآن كله لا تجد أن كلمة فرع تجمع، فهناك في النص القرآني مفردة فرع وليس هناك مفردة فروع، ولكن بالمقابل هناك جذع (مفرد) وهناك جذوع (جمع).
[6] لاحظ أن مفردة غصن (وجمعها غصون) غير متوافرة في النص القرآني، لذا نحن نظن أنها تقع في باب الأسماء التي سمتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ القصص (24)
وما دام أن هناك رطباً بالنسبة لمريم فهو وقت أواخر الصيف حيث تكون الحرارة لازالت مرتفعة.