لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه4؟
في هذا الجزء الرابع من مقالتنا تحت عنوان: لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه4؟
سنواصل الحديث عن قصة نبي الله إبراهيم مع نساءه (سارة وهاجر) وأبناءه (إسحق وإسماعيل)، وقد أنتهت مقالتنا السابقة عند طرح الأسئلة التالية:
- لماذا أفرح خبر هلاك قوم لوط سارة وربما أغضب هاجر؟
- لماذا أغضب خبر البشرى هاجر وفاجأ سارة؟
- كيف كانت علاقة إبراهيم بنساءه نتيجة هذا الصراع الواضح بينهم ؟
- ما هي تبعات هذا الصراع بين نساء إبراهيم؟
- لماذا حضرت الملائكة إلى بيت إبراهيم ليخبروه بهلاك قوم لوط؟
- لِمَ لَمْ يذهبوا مباشرة إلى قوم لوط فيهلكوهم، ثم يأتوا بيت إبراهيم ليبشروه بالمولود الجديد؟
- لم كان خبر هلاك قوم لوط مهماً بالنسبة لإبراهيم وأهل بيته؟
- الخ؟
كانت واحدة من النتائج التي خلصنا إليها في بحثنا السابق تتعلق بردة فعل نساء إبراهيم على زيارة رسل الله، ففي حين ضحكت من كانت منهن في تلك اللحظة قائمة (سارة):
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
أقبلت الأخرى (هاجر) ولم تخفي غضبها مما سمعت:
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
وكانت النتيجة التي توقفنا عندها تتلخص بما يلي: لقد نزل رسل الله في بيت امرأة إبراهيم الأولى سارة، وأقبلت امرأته الثانية هاجر في صرة، وكانت ردة الفعل عند كل واحدة منهن على ما سمعن من أخبار متباينة، ففي حين أن الفرح كان بداياً على وجه الزوجة القديمة "فَضَحِكَتْ"، كان الوجوم مسيطراً على وجه الأخرى " فَصَكَّتْ وَجْهَهَا":
وقد حان الوقت أن ندرس بشيء من التفصيل ردة فعل إبراهيم نفسه على زيارة الملائكة، فلو تدبرنا السياقات القرآنية التي تتحدث عن زيارة رسل الله إلى بيت لإبراهيم وركّزنا على ردة فعل إبراهيم نفسه حول الزيارة نفسها، وردة فعله بخصوص الأخبار التي نقلها رسل الله إليه في تلك الزيارة، ربما وجدنا الكثير الذي يمكن أن يسعفنا في فهم القصة بإطارها الأوسع.
فنحن نستطيع أن نتحدث أولاً عن ردة فعل إبراهيم على من حضر إلى بيته:
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
كما يمكن أن نتحدث بعد ذلك عن ردة فعله على خبر البشرى بالمولود الجديد:
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
وردة فعل إبراهيم على خبر هلاك قوم لوط:
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
الرسل والوليمة
جاء في سورة هود عن زيارة رسلُ الله نبيَّ الله إبراهيم السياق القرآني التالي:
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) هود
وورد السياق القرآني التالي يصور المشهد نفسه في سورة الحجر:
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) الحجر
وجاء في سورة الذاريات قول الحق:
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
ونحن نطلب من القارئ الكريم دراسة هذه السياقات القرآنية بشيء من التأني، علّنا – بحول الله وتوفيقه- نستطيع أن نخرج ببعض الاستنباطات التي يمكن أن تساعدنا في تشكيل صورة حقيقية لما حدث في تلك الساعة، لذا فإن دراسة مفردات هذه الآيات الكريمة سيشكل جزءاً كبيراً في النقاش التالي.
أما بعد،
لعل من الطبيعي أن تبدأ الزيارة بالسلام، فعندما يدخل ضيف إلى بيت صاحب الدار لا شك يبادروه بطرح السلام، وهذا بالضبط ما فعل رسل الله يوم أن نزلوا بدار إبراهيم، ولكن المتفحص لكيفية سلام الملائكة وكيفية رد إبراهيم على سلام الملائكة، ربما يجد فيه شيء من الغرابة، ولكن كيف؟
لنستعرض السياقات القرآنية التي ورد فيها سلام الملائكة على نبي الله إبراهيم لحظة دخولهم بيته:
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ.... هود
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ الحجر
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ الذاريات
إن المدقق في هذه السياقات القرآنية، يجد أن إبراهيم لم يرد على سلام الملائكة بالسلام في واحدة منها:
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ الحجر
ويجد أن إبراهيم يرد السلام بالسلام في السياقين الأخريين:
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ.... هود
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ الذاريات
ولكن الغريب في هذا السلام – حسب ظننا- هو طريقة رد إبراهيم على سلام الملائكة، ففي حين أن الملائكة طرحوا السلام على إبراهيم بالشكل التالي (حالة النصب):
فَقَالُوا سَلَامًا
جاء رد إبراهيم (بحالة الرفع):
قَالَ سَلَامٌ
وهنا نستميح أهل اللغة لعذر أن نسألهم السؤال التالي: لم جاء خطاب الملائكة بصيغة النصب (فَقَالُوا سَلَامًا)، بينما جاء رد إبراهيم بصيغة الرفع (قَالَ سَلَامٌ)؟
رأينا: لا شك لدينا أن مفردة سَلَامًا في كلام رسل الله جاءت منصوبة لأنها – حسب رأي أهل اللغة- مفعول به للفعل فَقَالُوا، بينما جاءت مفردة " سَلَامٌ" في رد إبراهيم مرفوعة لأنها مبتدأ، أليس كذلك؟
تبعات هذا الفهم: عندما يتبع الفعل قال بمفعول به تكون الجملة قد اكتملت، لأن الحديث قد وصل إلى نهايته، لذا فإننا نفهم أن الملائكة قد قدموا إلى بيت إبراهيم فطرحوا السلام عليه (وبالطبع على من كان حاضراً عنده)، فذاك جل ما أراد رسل الله قوله في تلك اللحظة.
ولكن عندما رد إبراهيم عليهم، لم يقل لهم سلاماً لينهي بذلك هذه الجزئية من الخطاب، وإنما جاء رده مغايراً بصيغة الرفع (قَالَ سَلَامٌ)، ربما لأن إبراهيم – في رأينا- أراد أن يوصل من وراء ذلك رسالة معينة، ولكن كيف؟
مما لا شك لدينا أن جملة مقول القول يجب أن تكون مؤلفة من مبتدأ وخبر، وليس فقط مبتدأ، فأنت عندما تقول: قال الطقس جميل، تكون مفردة الطقس مبتدأ ومفردة جميل خبراً، لتكون الجملة الاسمية بأكملها (الطقس جميل) في محل نصب مفعول به لفعل القول، لذا لا يمكن أن تكتمل جملة مقول القوم لحظة أن تتبع بمبتدأ إلا بخبر يلحق ذلك المبتدأ، وبهذا المنطق فإننا نتساءل عن الخبر الذي كان إبراهيم يريد إيصاله عندما أتبع فعل القول بجملة إسمية حذف منها الخبر:
قَالَ سَلَامٌ ...
فأين خبر سَلَامٌ؟
لو تتبعنا مثل هذا الخطاب من إبراهيم نفسه في النص القرآني، لوجدنا أنه قد حصل في موقف آخر، وكان ذلك عندما جرى خطاب بينه وبين أبيه:
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
فإبراهيم في هذا الخطاب يستخدم نفس التركيب ولكن بجملة مكتملة الأركان من المبتدأ والخبر:
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ
ففي حين أن سَلَامٌ هي المبتدأ، جاءت شبه الجملة " عَلَيْكَ" في محل رفع خبر للمبتدأ سلام، لتكون وظيفة الجملة الاسمية بأكملها " سَلَامٌ عَلَيْكَ" في محل نصب مفعول به للفعل قال، أليس كذلك؟
النتيجة: إن مراد القول عندنا هو: عندما يدخل شخص إلى مكان ما ويقول سلاماً، فتلك لا شك تحية تخص كل الحاضرين، ولكنه عندما يقول "سلام عليكم" فتلك تحية تخص قوم معينين وليس القوم بأكملهم، فإبراهيم يوجه التحية لأبيه فقط بالقول " سَلَامٌ عَلَيْكَ، فالتحية إذاً تخص أبيه فقط (حتى ولو كان هناك جمع من الحاضرين)، ولا تخصهم إطلاقاً، فلو كانت التحية تخصهم لجاء قوله على نحو:
قال سلام عليكم، أو
قال سلاماً
النتيجة: إننا نرى أن الفرق بين قول الملائكة (فَقَالُوا سَلَامًا) وقول إبراهيم (قَالَ سَلَامٌ) تتلخص بأن كلام الملائكة كان قد وصل إلى نهايته، لذا فإن جملة السلام قد اكتملت في قول الملائكة:
قَالُوا سَلَامًا ۖ .ٌ
بينما لم يصل كلام إبراهيم إلى نهايته لأنّ هناك خبر محذوف يريد إبراهيم التستر عليه، لذا فإن جملة سلام إبراهيم لم تكتمل:
قَالَ سَلَامٌ ...
لذا، يمكننا القول أنه عندما دخلت رسل الله بيت إبراهيم، قالوا سلاماً ليعم السلام على كل من حضر وكفى، فعلى الأقل كانت زوجته قائمة، ويصدّق ظننا هذا ما قالته الملائكة بعد ذلك:
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۖ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ هود (73)
ولكن إبراهيم لم يرد عليهم بالقول "سلاماً" كما قالوا هم، لأنه لم يكن –في رأينا- يريد أن يعم السلام على كل من حضر ذلك اللقاء، ولا ننسى أن إحدى نساءه كانت قائمة، والأخرى كانت مقبلة، لذا جاء قول إبراهيم:
قَالَ سَلَامٌ ...
فهو لا يريد أن يعم السلام على كل من حضر، ولكن لماذا؟
الجواب: إننا نظن إن الغضب كان بادياً على إبراهيم لحظة أن طرح رسل الله السلام على من حضر في ذلك الموقف، ويؤكد ظننا هذا مشاهدتان وهما:
1. عدم وجود رد لإبراهيم على سلام رسل الله في واحدة من هذه السياقات القرآنية، فلا نجد أن إبراهيم قد رد السلام أصلاً:
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ الحجر
2. طريقة رد إبراهيم على بشرى الملائكة بالمولود الجديد
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
إن المتفحص لهذا السياق القرآني يجد - بما لا يدع مجالاً للشك- أن إبراهيم لم يكن في أحسن حالاته النفسية، فالعصبية (وربما الحنق) كان باد في كلامه، فبدل أن يستقبل إبراهيم مثل هذه البشرى من رسل ربه بالفرح والابتهاج (كما هو متوقع)، نجد أنه يستقبلها بالاستغراب (وربما عدم الرضا)، فرد الملائكة على طريقة تلقيه خبر البشرى يبين أن الملائكة لم تجد من إبراهيم كثير فرح وسرور بالخبر ولكن بشيء من القنوط:
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ
عندها فقط يرجع إبراهيم بالقول:
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
ونستطيع أن نستنبط من كلام إبراهيم هذا أن القنوط لم يكن هو سبب انزعاجه، ولكن هناك شيء آخر هو ما سبب عند إبراهيم هذا النوع من ردة الفعل التي لا تظهر كثيراً من الفرح والسرور بالخبر.
لماذا لم يبد إبراهيم كثير فرح بخبر البشرى؟
إننا نجرؤ على البوح بالافتراء التالي: لم تكن علاقة إبراهيم بنسائه في تلك اللحظة في أحسن صورها، لقد كان إبراهيم يعاني من الصراع الذي كان ناشباً بين نسائه، فإحداهما قد فرحت بخبر إيقاع العذاب على قوم لوط، والأخرى أغضبها (لا بل أثار حنقها) تحصيلُ الذرية لضرتها بعد هذا السن.
لماذا فرحت سارة بخبر إيقاع العذاب على قوم لوط؟
لقد استنبطنا في الجزء السابق من مقالتنا هذه أن سارة قد فرحت (ما دام أنها ضحكت) بسبب خبر إيقاع العذاب على قوم لوط، ولنقرأ الآيات الكريمة التالية ونتفقدها من هذا الجانب:
فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) هود
إن المدقق في هذا السياق القرآني يجد أن المرأة التي كانت قائمة (فرسل الله في بيتها) قد ضحكت مباشرة بعد سماعها خبر إنزال العذاب بقوم لوط، وليس بعد أن سمعت البشرى بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب، فقد صدر الضحك عن المرأة قبل سماعها خبر الذرية، وفي هذا فرق كبير. ويؤكد كلامنا هذا – كما فصلنا في الجزء السابق- ردة فعلها على خبر البشرى الذي أثار الغرابة والدهشة عندها (وليس الضحك):
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) هود
النتيجة: لقد ضحك امرأة إبراهيم هذه مباشرة بعد سماعها خبر العذاب الذي سينزل على قوم لوط وقبل سماعها خبر البشرى بالذرية (انظر الآية 71)، واستغربت وتعجبت بعد أن سمعت خبر الذرية (انظر الآية 72)
(للتفصيل انظر الجزء السابق من مقالتنا: لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه3؟)
لماذا ضحكت؟
وهنا سيبادرنا الجميع بالاستفسار عن سبب أن تكون سارة قد ضحكت لمّا سمعت خبر العذاب الذي سينزل بقوم لوط، فلا بد من وجود سبب قوي (ومقنع) يدفع بسارة أن تضحك لحظة أن تسمع خبر هلاك القوم، فليس من الطبيعي أن يفرح الإنسان بهلاك قوم إلا إن كان هناك سبب قوي يدفعه إلى ذلك، فماذا كان ذلك السبب؟
إننا نرى (مخطئين بالطبع ونتمنى أن يقدم أحد تفسيراً أفضل مما سنفتري) أن السبب الذي دفع بسارة أن تضحك لحظة أن سمعت خبر عذاب قوم لوط هو أن ذلك العذاب سينزل بقوم تنتمي له ضرتها.
فمما لا شك فيه لدينا أن لوطاً قد تزوج من أهل المدينة (واستقر فيها)، بينما تزوج إبراهيم بهاجر (امرأته الثانية) من تلك المدينة ورحل عنها، ولكن لما كان خبر امرأة لوط قد وصل قوم إبراهيم (بالسوء طبعاً)، لم يكن وقع ذلك الخبر على امرأة إبراهيم الثانية بالأمر البسيط، ويزيد الطين بله ما كان يفعل قومها من الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين. ولنتحدث عن الأمر بشيء من التفصيل.
فنساء تلك المدينة (تمثلهم امرأة لوط بخيانتها) وأهل تلك المدينة (يمثلهم كل القوم بلواطهم) لم يكن مثالاً مشرفاً لمن كان ينتمي لهم، فنحن نستطيع أن نفهم بكل بساطة أنه عندما ينتشر اللواط بين الرجال لدرجة أن يذر الرجال ما خلق لهم من أزواجهم:
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) الشعراء
يصبح من الطبيعي – في نظرنا- أن لا تقف النساء مكتوفات الأيادي، فرجال تلك المدينة قد تركوا ما خلق الله لهم من أزواج طلباً للفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، فماذا ستفعل النساء إذاً؟ هل ستخرج تغني في زفاف من المفترض أن يكون زوجها على شاب جميل مثله؟!
الجواب: لا بد أن كثيراً من (ولكن ربما ليس كل) نساء تلك المدينة سيبحثن عن تلبية رغباتهن (التي لم يلتفت إليها أزواجهم وطلبوها عند أمثالهم من الرجال) بطريقة غير مشروعة، لذا لمّا كان الرجال غارقين في فاحشة اللواط علنا، ربما كانت النساء غارقات في فاحشة الزنا سراً.
إن ما يهمنا هنا قوله هو الظن بأن الانتساب لتلك المدينة التي جاء رسل الله بخبر هلاكهم جميعاً (إلا آل لوط بالطبع) لم يكن بالشرف العظيم، فالانتساب إلى تلك المدينة هو بحد ذاته تهمة تستوجب ممن تقع عليه أن يدافع عن نفسه.
النتيجة: لم أكن لأتصور أن امرأة إبراهيم الأولى (سارة) كانت تنظر بعين الرضا إلى نسب ضرتها هاجر (امرأة إبراهيم الثانية).
لماذا غضبت هاجر من خبر حصول الذرية لضرتها العجوز سارة؟
إننا نظن أنه لم يكن لامرأة إبراهيم الثانية هاجر (وهي من جاءت من مدينة لوط) نقطة قوة تدافع به عن نفسها إلا مولودها إسماعيل، فهي في نهاية المطاف قد أنجبت الذرية لإبراهيم، وهو ما لم تستطع امرأته الأولى أن تقوم به على فترة طويلة من الزمن، أما اليوم وقد جاءت الملائكة لامرأة إبراهيم الأولى بالبشرى بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب، شعرت المرأة الثانية هاجر أنها قد خسرت ما كانت تمتلك من قوة تدافع به عن نفسها أمام الهجوم الشرس من ضرتها، فهي تعي مقدار تأثير الزوجة الأولى سارة على إبراهيم، فما كانت تستطيع أن تخفي حنقها وغضبها من حصول الذرية لإبراهيم من امرأته الأولى عندما أقبلت من بعيد في صرة.
لماذا في صرة؟
أما الدليل الثاني الذي نسوقه على تفاقم الخصام بين إبراهيم ونسائه لحظة حضور الملائكة إلى بيت إبراهيم فنجده في قوله تعالى " فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ"، طارحين السؤال التالي: لم أقبلت امرأة إبراهيم الثانية في صرة؟
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
لقد تحدثنا سابقاً أن امرأة إبراهيم التي أقبلت لم تكن هي القائمة التي ضحكت، فالتي أقبلت في صرة هي امرأة إبراهيم الثانية التي لم ينزل رسل الله في بيتها والتي لم يسرها خبر الذرية لضرتها، فهي قد أقبلت عليهم من بعيد في حين كان امرأة إبراهيم التي نزل رسل الله في بيتها قائمة تضحك، أليس كذلك؟ ولكن ما يهمنا هنا هو طرح التساؤل التالي: لماذا أقبلت المرأة في صرة؟
إن ما تحصل لنا من فهم حتى الساعة يتمثل في أن مفردة "الصرة" ربما تعني "حقيبة السفر على الخطوط الجوية" (أو suitcase باللسان الأعجمي)، ولكن لما كانت الحياة لا زالت بدائية كانت حقائب السفر عندهم هي الصرة، وربما تعني أن المرأة كانت تحمل طفلها إسماعيل في تلك الصرة، فالمرأة قد كانت مقبلة تحمل حقيبة سفرها تحزم فيها أمتعتها وربما طفلها، ولكن لماذا؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن المرأة لم تكن لتحزم أمتعتها أو تحمل إبنها في صرة لو لم تكن الأمور قد وصلت إلى مرحلة لم تعد تطيق البقاء في نفس المكان الذي تتواجد فيه ضرتها، فهي قد طلبت الرحيل، أو على الأقل تنوي ترك بيت زوجها (كما تفعل كثير من النساء عندما يحدث خصام بينها وبين زوجها)، فربما تفضل أن تترك البيت الذي تعيش فيه لترحل عنه إلى بيت أهلها أو إلى أي مكان آخر (وسنناقش السناريوهات المحتملة لهذا التصرف لاحقاً بحول الله وتوفيقه). ونكتفي هنا القول بأن المرأة كانت قد حزمت أمتعتها، وربما حاملة طفلها في صرة[1].
على أن مسني الكبر؟
أما الدليل الثالث على وجاهة ما نزعم في أن حياة إبراهيم مع نساءه لم تكن في أفضل حالاتها (لا بل ومرشحة للتفاقم) فيأتي من رد إبراهيم نفسه على بشرى الملائكة
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
وهنا نطرح التساؤل التالي: لماذا يستغرب إبراهيم من أن يرزق الذرية الجديدة (إسحق ومن وراء إسحق يعقوب) على الكبر؟ ألم يكن قد رزق بإسماعيل على الكبر؟ هل نسي ذلك؟ ألم يقل في مكان آخر:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
هل هذا الوهب من الله لإبراهيم يدعوه أن يعبر عن استغرابه من حصول الذرية له على الكبر وهو قد رزق بها من قبل على الكبر؟!
إن هذا السؤال يقودنا إلى استفسار أكثر قوة (نستميح السادة القراء العذر إن كان لا يروق للكثيرين منهم طرحه) وهو: لماذا انتظر إبراهيم حتى رزق بإسحق ليعبر عن حمده لله على هذه النعمة؟ وبكلمات أكثر دقة، لم لا نجد في كتاب الله أن إبراهيم قد حمد ربه يوم أن رزق بإسماعيل؟ لماذا انتظر كل هذه الفترة من الزمن؟ ما الذي كان يدور في خلد إبراهيم حتى منعه أن يعبر عن حمده لربه أن رزقه بإسماعيل في البدء؟ لم لا نجد في كتاب الله آية تدلنا على أن إبراهيم قد حمد الله أن وهب له إسماعيل، وأخرى تعبر تكرار حمده ربه يوم أن وهبه إسحق وإسماعيل؟ ألا يكون الأب أكثر فرحاً وحمداً لله على مولوده الأول خصوصاً إذا ما جاء ذلك المولود بعد طول انتظار؟!
نتيجة: إننا نظن أن إبراهيم كان بحاجة ماسة للذرية، وكان متلهفاً للحصول عليها، وقد تحصلت له تلك الذرية من امرأته الثانية هاجر، ولكننا لا نجد في كتاب الله أن إبراهيم قد حمد ربه على تلك الذرية يوم أن رزقها، وها هي تتحصل له ذرية أخرى من امرأته الأولى التي قد أصبحت عجوزا ويأتي ذلك الخبر من السماء عن طريق رسل الله، فما يكون منه إلا أن يحمد الله على أن وهب الله له إسماعيل (المولود الأول) وإسحق (المولود الثاني).
لكن هناك مفارقتان في هذا الفهم
1. إن خبر حمل امرأته الأولى سارة بولده الثاني إسحق قد جاء على لسان رسل الله وامرأته عجوز، فلا يستطيع إبراهيم أن يشك قيد أنملة في صحة نسب إسحق فهو هبة من الله، وقد تعرضنا لهذه الجزئية في الجزء السابق من مقالتنا:
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الأنعام (84)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا مريم (49)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا الأنبياء (49)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) الأنبياء
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ العنكبوت (27)
2. أن إبراهيم هو من ظن أن إسماعيل هبة من الله، فقال:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم (39)
فلا نجد في كتاب الله آية واحدة تؤكد أن إسماعيل كان هبة من الله، ولكننا بالمقابل نجد خمسة سياقات قرآنية تؤكد أن إسحق هبة من الله، وقد حاولنا تسليط الضوء على معنى الهبة في الذرية، وزعمنا القول أن المولود الذي يتحصل للنبي كهبة من الله لا يولد بطريقة تقليدية طبيعية كما في حالة زكريا ومريم بنت عمران، أما المولود الذي لا يكون هبة من الله، فهو يولد بطريقة تقليدية طبيعية، لذا لا نجد أن الله قد وهب يوسف ليعقوب، والأهم من ذلك هو أن نتأمل قول الحق في الآية نفسها التي تتحدث عن إسحق:
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الأنعام (84)
فنحن نعلم أن سلالة النبوة كانت على النحو التالي:
إبراهيم ... إسحق... يعقوب ... يوسف
فلماذا قال الله أنه قد وهب لإبراهيم أسحق ومن وراء إسحق يعقوب، ولم يكمل القول ومن وراء يعقوب يوسف؟ لماذا توقفت الهبة عند يعقوب وليس عند يوسف بالرغم أن يوسف هو نبي من نفس الذرية وهم جميعاً من وراء بعضهم البعض؟
رأينا: لقد كان إسحق هبة من الله لإبراهيم (فإسحق لم يولد ولادة تقليدية طبيعية) وكذلك الحال بالنسبة ليعقوب، فيعقوب (الوريث الوحيد لإسحق) لم يأتي بطريقة تقليدية طبيعية، ولكن يوسف لم يكن هبة من الله (لأن يوسف قد جاء بطريقة تقليدية طبيعية)، فيوسف وإخوته لم يكونوا هبة من الله، ولكنهم كانوا ذرية يعقوب الذين ولدوا جميعاً بطريقة تقليدية طبيعية.
النتيجة: إسماعيل لم يكن هبة من الله (فهو قد ولد بطريقة تقليدية طبيعية) بينما كان إسحق هبة من الله (لأنه لم يولد بالطريقة التقليدية الطبيعية). وسنتعرض لتبعات هذا الظن لاحقاً.
لماذا كان إسحق هبة ولم يكن إسماعيل هبة؟
إن المدقق في النص القرآني يجد أن المشكلة لم تكن تكمن في إبراهيم نفسه ولكن في نساء إبراهيم، ولكن كيف؟
لنقرأ ردة فعل امرأة إبراهيم الأولى على بشرى الملائكة:
قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
لقد نسبت المرأة العجز في الإنجاب أولاً إلى نفسها "وَأَنَا عَجُوزٌ" ثم إلى زوجها "وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا"
والآن لنرقب ردة فعل المرأة الثانية التي أقبلت في صرة على هذا الخبر:
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
لقد نسبت المرأة الثانية العجز إلى ضرتها فقط " وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ"، ولم تنسبه إلى إبراهيم بالرغم أنه شيخ، فلم كانت نظرتهما متباينة حيال سبب العجز في الإنجاب؟
الجواب: إن هذا يقودنا إلى استنتاجين اثنين مهمين حول ردة فعل نساء إبراهيم على الخبر وكل منهما قد خبرت الرجل في الفراش:
1. لقد قلّلت الأولى (سارة) من قدرة الرجل على الإنجاب ولكنها لم تنفي عنه ذلك بالكلية، فهي قد نسبت العجز إلى نفسها أولاً، وإلى زوجها من بعد ذلك.
2. نسبت الثانية العجز إلى ضرتها ولم تنكر قدرة إبراهيم على الإنجاب
ولكن لماذا؟
إن قراءة ردة فعل المرأة الثانية على الخبر يفيدنا في الخروج باستنباط مهم جداً ربما يسعفنا في المضي قدماً في النقاش:
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
لقد "عيّرت" (باللسان الأردني) المرأةُ الثانية المرأةَ الأولى ضرتها بأنها عجوز، أليس كذلك؟
إنّ أبسط ما يمكن أن نخرج به من استنباط حول هذه القضية هو أن المرأة الثانية لم تكن عجوزا، فلا يمكن أن تتهم أحداً بشيء من باب التجريح وتكون أنت من تتصف به، فلا يمكن أن تتهم الآخرين بالبخل وأنت نفسك بخيل، أو أن تتهم الآخرين بالكذب وأنت أكذبهم، وهكذا، فالمرأة الثانية هاجر رءات أن نقطة ضعف ضرتها هو في عجزها المتمثل في سنها فقالت عنها "عَجُوزٌ عَقِيمٌ"، لذا فهي نفسها (هاجر) لم تكن عجوز حتى اللحظة، هل هذا منطقي؟
تبعات هذا الافتراء: ربما يدلنا هذا على أن المرأة الأولى سارة وهي عجوز عقيم لم تكن تجد في فراش إبراهيم ما تجده هاجر (الشابة) في فراشه، فمن الطبيعي أن يميل الرجل بشهوته إلى الشابة أكثر من ميله إلى العجوز، لذا قلّلت العجوز من فرصة إبراهيم على الإنجاب عندما قدمت عجزها على ضعفه، فهي بلا شك عاجزة (وَأَنَا عَجُوزٌ) وتجد في بعلها الضعف (وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا) لأنها لا تخبر منه الكثير في الفراش، ولكن – بالمقابل- نسبت الثانية هاجر المشكلة إلى عجز ضرتها (وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) ولم تنسب المشكلة في الإنجاب إلى إبراهيم ربما لما تكون قد خبرت منه في فراشها وهي لا زالت إلى حد ما شابة[2].
ولكن هل كان إبراهيم متيقناً من قدرته على الإنجاب؟
كلا، إن أبسط ما يمكن أن نخرج به من استنباط حول قول إبراهيم:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم (39)
هو الافتراء التالي: إن ظن إبراهيم بأن إسماعيل وإسحق كلاهما هبة من الله يدعونا إلى الاعتقاد بأن إبراهيم لم يكن متيقناً من قدرته الطبيعية على الإنجاب، فلو كان إبراهيم متيقناً من قدرته على الإنجاب لما تحدث عن الذرية بصيغة الهبة من الله.
نتيجة كبيرة وافتراء خطير جداً: إبراهيم لا يستطيع أن يشك قيد أنمله في أن إسحق هبة من الله لأنّ امرأته قد أنجبته وهي عجوز وجاءته البشرى بذلك على لسان رسل ربه يوم جاءوه معذبين قوم لوط، ولكن إبراهيم لم يكن يملك نفس القدر من القناعة بخصوص نسب إسماعيل وقد تحصل له على الكبر وامرأته التي أنجبته لا زالت شابة يانعة خصوصاً إذا ما أخذت الظروف المحيطة (امرأته الأولى، نسب امرأته الثانية، تقدم العمر، الخ) بالحسبان.
النتيجة: شك يساور إبراهيم لا يستطيع البوح به على الملأ، وهو في رأينا ما كان يقصد إبراهيم التستر عليه يوم أن أسكن من ذريته بواد غير ذي زرع:
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
لماذا أسكن إبراهيم من ذريته بواد غير ذي زرع؟
إن السبب الذي صرّح به إبراهيم من وراء ذلك هو " رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ"، ولكن هل فعلاً إقامة الصلاة في ذلك الوادي كان سبباً كافياً لأن يترك إبراهيم امرأته الثانية هاجر وهي لا زالت شابة مع طفلها الذي لا زال غلاماً صغيرا في ذلك الوادي المقفر غير ذي الزرع؟
رأينا، كلا، لقد كان هناك سبب (أو ربما أسباب أخرى) دفعت بإبراهيم للقيام بذلك العمل الذي يبدو ظاهره غير مقنع؟
السبب الأول: فض الخلاف بين ذريته
إننا نظن أن إبراهيم قد كان أذكى مما يمكن أن نتخيل، فلقد تصرف إبراهيم بحكمة عظيمة استطاع من خلالها أن ينقذ ذريته كلها (أو بعضها) من خطر كاد يصيبهم، ولكن ما هو ذلك الخطر؟
رأينا: إنه المكيدة بين الإخوة
إننا نعلم أن مثل هذا الكلام قد يثير الحنق والغضب عند الكثيرين، ولكننا على استعداد لتحمله في سبيل أن نستطلع الخبر الذي يمكن أن تؤول إليه الأحداث بعد قليل. إنّ جل ما نستطيع البوح به حتى الساعة هو شعور إبراهيم بأن المكيدة لا محالة واقعة بين ذريته إن هو تركهم جميعاً في مكان واحد، فعلامات الفرقة واضحة أمام عينيه لا يستطيع أن يغفل عنها أو أن يتجاهلها، فهم بلا شك سيكونون فريقان لا فريق واحد، فبالرغم أن الأب واحد (إبراهيم) إلا أن اختلاف الأم (سارة وهاجر) سيكون سبباً كافياً ليدب الصراع بينهم حول ميراث النبوة، فالنبوة كما سنرى لاحقاً هي ميراث الأنبياء باقية في ذريتهم، مصداقاً لقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) آل عمران
فلا أظن أنّ اكتساب ميراث النبوة (أو خسارته) سيكون أمر يمكن التساهل فيه عند بعض ذرية أنبياء الله، وهو ما سنتناوله بحول الله في الجزء القادم من المقالة نفسها
وللحديث بقية
12 شباط 2011
المدّكرون: رشيد سليم الجراح &علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
[1] ويمكن أن نتخيل الموقف على النحو التالي: هناك نزاع بين النساء، تقرر أحداهن أن تحمل صرتها (ربما لتذهب إلى بيت أهلها)، يأتي خبر العذاب الذي سينزل بكل القرية التي يقطنها أهلها، فما يكون من الأخرى إلا أن تضحك من ما آلت إليه حال ضرتها، فما يكون من الأخرى إلا أن تعيرها بعقمها.
[2] ولا ننسى ما يحدثنا به مشايخنا عن قصة هاجر وهي تركض بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء يوم أن تركها إبراهيم مع طفلها في ذاك الوادي غير ذي الزرع، فهذا مشهد لا يمكن أن نتصور فيه المرأة إلا أن تكون شابة.