قصة يوسف 3: اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ
نعود في هذا الجزء الثالث من المقالة إلى قصة يوسف نفسها مبتدئين بالتساؤل التالي: لم تآمر أخوة يوسف على أخيهم؟
جواب: نحن نظن أن الذي دفع بأخوة يوسف أن يتئآمروا (حسب الإملاء الصحيح الذي لا أعرفه) عليه هما سببان اثنان:
1. رغبتهم بأن يخلو لهم وجه أبيهم
2. لكي يكونوا من بعد يوسف قوما صالحين كما جاء على لسانهم في الآية الكريم التالية:
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
نعم، نحن نظن أن بقاء يوسف بين ظهرانيهم سيكون سببا في وجود الفساد بينما سيؤدي غيابه عن الساحة إلى الصلاح، فنص الآية الكريمة لم يكذّب دعواهم تلك بأن رد عليهم الحجة بالقول مثلا (بل أنتم قوم فاسدون، أو بل كانوا كاذبين، ونحوه).
وهنا سينطلق لسان الجميع بالقول وكيف ذلك؟ كيف يكون وجود يوسف بين ظهرانيهم سبباً في تحقق الفساد؟ وكيف سيكون غياب يوسف سببا في حصول الصلاح؟
رأينا: لابد بدايةً من الإشارة إلى أن يوسف كان الأخ غير الشقيق لمن تآمر عليه من إخوته، فنحن نظن أن نبي الله يعقوب كان قد تزوج وأنجب من أكثر من امرأة، وكان يوسف وأخوه (في ترجيحنا) أبناء أم واحدة بينما كان إخوته الآخرون (وهم الذين تآمروا عليه وعددهم عشرة) إخوة له من أبيه وليس من أمه، وربما يؤكد ظننا هذا ما جاء على لسان يوسف عند حديثه عن ذلك الأخ الآخر في أرض مصر:
وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59)
فذاك الأخ هو أخ لهم من أبيهم (ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ) وليس من أمهم، ليكون يوسف وأخوه من جهة وهم من جهة أخرى بالنسبة للأم وإن اشتركوا جميعا في الأب يعقوب النبي.
وربما يصدق ظننا هذا أيضاً ما جاء في الآية الكريمة التالية على لسان الأخوة المتآمرون أنفسهم:
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)
فالآية تشير إلى الفصل الواضح بين يوسف وأخيه من جهة وبقية الأخوة العشرة الآخرين (أي العصبة) من جهة أخرى، فانقسم الأخوة في صفين: يوسف وأخوه في صف (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) يقابله إخوته العشرة الآخرون في صف آخر (مِنَّا وَنَحْنُ). فكانوا هؤلاء بنص القرآن عصبة:
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)
فالعصبة من الرجال هم - برأينا – عشرة في العدد، يتكاتفون معا على تدبير أمر بينهم (كيد) لا يطّلع عليه الآخرون، ويكون تلاحمهم وتماسكهم كمثل أصابع اليدين الاثنتين العشرة إذا ما تشابكت مع بعضها البعض كما في الشكل:
فلا يستطيع أحد منهم أن يفلت عن المجموعة، لأن المجموعة ككل (العصبة) ضامنة عدم انفلاته. لذا نحن نفتري الظن أنه بالرغم من طول الفترة الزمنية وبالرغم من حزن يعقوب الطويل على فراق يوسف، لم ينبر من بين الأخوة من يسكت حزن والده، كأن يبوح له بالسر على نحو ما فعلوه حقاً بيوسف. والسبب في ذلك في رأينا هو أن جميعهم كانوا مشتركين في المؤامرة وكانوا يمسكون بعضهم البعض، فلا يستطيع أن يخرج أي منهم من المجموعة، وسنرى تبعات ذلك لاحقا في نهاية القصة، عندما نتحدث كيف استطاع يوسف من أرض مصر ويعقوب من البدو أن يفكوا تلاحمهم ذاك (فلا يعودوا عصبة كما كانوا). كما سنحاول لاحقا الحديث (إنْ أذن الله لنا بشيء من علمه) أن نبيّن كيف أن الذين جاءوا بالإفك (وهم عصبة) كانوا عشرة من الرجال، الذين دبروا حادثة الإفك بحق واحدة من زوجات النبي الكريم وهي السيدة عائشة، فكان تدبيرهم يشبه في ترتيبه تدبير أخوة يوسف ضد أخيهم وهو لا يعلم:
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
وسنرى أن تدبيرهم ذاك كان شرا لهم، بينما كان فيه الخير لمن دُبِّر الأمر ضده (الرسول وزوجه وصالح المؤمنون). فالعصبة - بنظرنا - هم مجموعة محددة بالعدد من الرجال (عشرة بلا زيادة ولا نقصان)، وبخلاف ذلك تصبح عملية حمل مفاتيح كنوز قارون (الذي يتحدث عنها النص القرآني في موطن آخر) أمرا غير مستساغ:
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
فنحن نظن أن عشرة من (أُولِي الْقُوَّةِ) من الرجال لا يستطيعون حمل تلك المفاتيح، ولكن لو زاد العدد عن ذلك ولو بواحد كأن يكونوا أحد عشر رجلا من (أُولِي الْقُوَّةِ) لأصبح الأمر ممكنا (وسنتحدث عن ذلك بحول الله وتوفيقه في سلسلة مقلاتنا عن قصة موسى، فالله اسأل أن يعلّمني من لدنه علما، وأسأله أن يعلمنا الحق فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو السميع المجيب).
نتيجة: لقد تآمر العشرة من أخوة يوسف (وهم عصبة) ضد أخيهم. ولم يشترك الأخ الشقيق (الحادي عشر) في تلك المؤامرة:
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
فبالرغم أن إخوة يوسف هم أحد عشر إلا أن الذي اشتركوا في المؤامرة هم عشرة فقط، فكانوا عصبة.[1]
وربما يفسر لنا مثل هذا الافتراء سبب ظن الأخوة بأن في التخلص من أخيهم يوسف سيتحقق لهم الصلاح، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة على هذا التساؤل تكمن في طرح التساؤل الثاني التالي: ما الذي جعل يوسف يختلف عن إخوته؟ ولماذا سيكون في غياب يوسف صلاح لهم جميعا (وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)؟
جواب: إنها نظرة وتصرف أبيهم يعقوب. ولكن كيف ذلك؟
جواب: لعل الكثيرون لا يجادلون بأن يعقوب النبي كان يحب يوسف (وأخيه الآخر) أكثر من بقية أولاده جميعا وذلك بصريح اللفظ القرآني كما جاء على لسان الإخوة أنفسهم في الآية الكريمة التالية:
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن هذا ربما يفسر - برأينا- الفساد (عكس الصلاح) الذي كان يمكن أن يقع لو بقي يوسف بين ظهرانيهم:ولكن كيف ذلك؟
جواب مفترى: إنه ضلال الأب يعقوب.
نعم، لقد كان يعقوب في ضلال مبين (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)، لذا فإن من الواجب علينا الخوض في التساؤل التالي الذي طرحناه في بعض مقالاتنا السابقة وهو: من الذي يجب أن يتحمل المسؤولية فيما حصل ليوسف؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن المسؤولية الأولى والأكبر تقع على عاتق الأب يعقوب نفسه، فهو سبب المشكلة لأنه هو من خلق التشاحن (وربما العداوة) بين الأخوة، وما تآمر الأخوة – في ظننا- على أخيهم إلا بسبب ما فعله أبوهم يعقوب، فإن كنا نظن أن جزءا من اللوم ربما يقع على كاهل الأخوة الذين تآمروا على أخيهم، إلا أننا في الوقت ذاته نلقي بجل اللّائمة على عاتق الأب الذي فرّق (بسبب بعض تصرفاته) بين الأخوة. وقد افترينا القول سابقا أن غياب يوسف كان يحمل في ثناياه عقابا ليعقوب نفسه على ما قدّمت يداه، ولكن كيف ذلك؟
أولا، إنني أدعو القارئ الكريم إلى أن يضع نفسه (ولو بالمخيال) في مكان إخوة يوسف، وليحاول أن يكون منصفاً في تصوره لردة فعله على ما كان يفعل يعقوب النبي مع يوسف وإخوته، فهل لو كنت أحد أبناء يعقوب النبي، هل كنت سترضى أن يفضّل أبوك يعقوب أحد أبناءه عليك وعلى إخوتك الآخرين جميعا؟
ثم إذا ما تصورنا بأن يوسف وأخاه الآخر هم أبناء يعقوب من أم واحدة بينما الأخوة الآخرين هم أبناء يعقوب من نساء أخريات، فهل كنت سترضى أن يفضل يعقوب النبي أبناء زوجة من أزواجه على أبناء الزوجة الأخرى؟
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)
ولتنسى – عزيزي القارئ- أمر يعقوب لدقيقة من الزمن لتتخيل أن والدك متزوج فعلا بأكثر من امرأة، فهل تقبل أن يكون الرجل المتزوج بأكثر من امرأة غير مقسط بين أبناءه فيفضل بعضهم على بعض؟
افتراء من عند أنفسنا: نعم، نحن نظن أن هذا هو الضلال المبين الذي كان واقعا يعقوب فيه، إنه تفضيل طرف من أبناءه على الآخرين. ولقد ورد خبر ضلاله هذا في موطنين من القصة:
1. جاء في بداية القصة على لسان الأبناء بأن الأب في ضلال مبين:
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)
2. ثم جاء مرة أخرى مع نهايتها أن الأب لازال على ضلاله القديم عندما عاد ليبكي يوسف (بدل أن يبكي أبناءه الآخرين الذين فقدهم أيضا) :
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95)
فبعد أن كان ضلالا مبينا في وجود يوسف (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)، أصبح ضلالا قديما في غيابه (قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ).
نتيجة مفتراة: لقد توقف يعقوب عن التمييز بين من تبقى له من أبناءه بعد أن غاب يوسف عن الساحة.
ولو راقبنا النص القرآني جيدا لوجدنا أنه على الرغم من قول الذين هم حول يعقوب حينئذ أن الرجل في ضلال مبين، إلاّ أن الأب لم ينكر الخبر في الحالتين، والسبب في ذلك أن يعقوب كان – برأينا- يدرك في قرارة نفسه أنه هو السبب في إيقاع الفرقة ومن ثم الخصومة بين أبناءه. والأهم من ذلك كله أن الله لم يكذّب قولهم ذاك في النص القرآني كما هي العادة عندما يفتري أحد الكذب:
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)
أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
لذا نحن نظن أن هذه من أساسيات النص القرآني، فهو يفضح كل من يقول شيئا مفتريا الكذب، لذا نحن نتجرأ على الاستنباط بأنه لو كان إخوة يوسف غير صادقين في ظنهم، ولو لم يكن يعقوب فعلاً في ضلال مبين، لجاءت تكملة الآية على نحو (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أو وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أو أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، الخ).
افتراء من عند أنفسنا: لقد كان يعقوب فعلا في ضلال، ولم يتوقف أمر يعقوب عند الضلال بل تجاوز ذلك ليكون في (ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)، فعندما يصل الضلال إلى درجة أن يكون مبينا، فهذا يعني – في ظننا- أن الجميع ممن حوله كان يدرك هذا، فقد وصل الأمر بيعقوب أن يفضل أحد أبناءه على الآخرين دون تستتر على الأمر. فنحن عادة ما نجد أن بعض الآباء ربما يفضلون أحد أبنائهم على الآخرين، لكن غالبا ما يحاول الأب التستر على ذلك بأن لا تفضح تصرفاته مشاعره تجاه الأخوة، ولكن الأمر بالنسبة ليعقوب قد تجاوز مرحلة المشاعر إلى مرحلة الأفعال، فكان ضلاله مبينا، أي يستطيع من حوله أن يقدّم الدليل على ذلك، مصداقا لقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
فمن جاءت بالفاحشة المبينة من النساء فهي قد أشهدت على نفسها حتى يقع عليها العذاب جزاء فعلتها تلك.
ولكن كيف وصل أمر تفضيل يعقوب ليوسف على إخوته إلى درجة أن يكون ضلالا مبينا؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة على ذلك يمكن أن تستنبط من السياق القرآني التالي:
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
فلقد كان دافع الأخوة الأول في التآمر على أخيهم هو أن يخل لهم وجه أبيهم (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)، وكان دافعهم الثاني بعد ذلك هو أن يكونوا قوما صالحين من بعد يوسف (وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ). وسنحاول التعرض لهذين السببين بشيء من التفصيل.
أولا، ماذا كان يقصد الأخوة من قولهم لبعضهم البعض (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)؟ فكيف كان سيخل وجه أبيهم لهم بعد التخلص من يوسف؟ وكيف لم يكن الأمر ممكنا في وجود يوسف؟
للإجابة على هذا التساؤل لابد من التعرض لمعنى عبارة (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)، لنطرح التساؤل على النحو التالي: كيف يمكن أن يخلو الوجه؟ ومتى لا يكون الوجه خاليا؟
أولا، نحن نعلم من سياق قرآني أن الوجه يمكن أن يُقلَّب كما فعل الرسول محمد عندما كان يقلب وجهه في السماء:
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السًّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
فتقلّب الوجه هو – برأينا- النظر في أكثر من اتجاه، فعندما كان النبي محمد يقلب وجهه في السماء، فإنه كان (نحن نتصور) ينظر في أكثر من موطن فيها، أليس كذلك؟
السؤال: هل كان يعقوب يقلّب وجهه بين أبناءه؟
جواب مفترى: كلا، لأنه لو كان يعقوب يقلب وجهه بين أبناءه لما كانوا بحاجة أن يخلو لهم وجه أبيهم، فعندما يخلو شيء بشيء (أو نفر بنفر) فإنهم يكونون متجهين إلى بعضهم البعض:
وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76)
نتيجة مفتراة: لمّا لم يكن وجه يعقوب خاليا إلى أبناءه الآخرين فقد كان خاليا فقط إلى يوسف، فنحن نتصور (ربما مخطئين) أن يعقوب كان ينظر على الدوام جهة يوسف حتى في حضور أبناءه الآخرين. والآن إن صح ما نزعم، كيف يمكن أن تتخيل – عزيزي القارئ- أن تكون عليه ردة فعل أبناء يعقوب تجاه يوسف (وربما يكون كثير منه أكبر منه سنا) إذا كان يعقوب ينظر جهة يوسف على الدوام حتى في حضورهم؟
ثانيا، نحن نظن أن الخلو يتطلب أصلا التواجد معا:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
فالنذير الذي خلا في كل أمة كان متواجدا بينهم، فالأبناء إذاً يطلبون أن يتواجد الأب مع أبناءه جميعا، فيخلو لهم وجهه، لذا نحن نتخيل (ربما مخطئين) أن يوسف كان على الدوام مصاحبا لوالده يعقوب (أو لنقل أن يعقوب كان على الدوام مصطحبا يوسف معه)، فما استطاع الأخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم نتيجة ذلك. لذا كيف يمكن أن تتخيل (إن صح زعمنا بالطبع) أن تكون ردة فعل أبناء يعقوب تجاه يوسف (وربما كثير منهم أكبر منه سنا)؟
السؤال: وأين الدليل على أن يعقوب كان مصاحبا ليوسف على الدوام؟
نحن نظن أن الدليل على هذا الافتراء الذي هو بلا شك من عند أنفسنا ربما يمكن استنباطه من الآية الكريمة التالية:
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
فلو راقبنا هذه الآية الكريمة على وجه التحديد لوجدنا أن يعقوب يعترف بلسانه بأن مجرد ذهاب يوسف مع أخوته سيسبب له الحزن، أليس كذلك؟
السؤال القوي: ألم يكن ذهاب الأخوة جميعا يسبب له ذلك الحزن؟ ولم كان ذهاب يوسف على وجه التحديد هو ما يسبب له الحزن؟ أليس بقية الأخوة هم أبناءه كما أن يوسف هو أبنه؟ لم لم يحزن يعقوب على ذهاب الأبناء جميعا وحزن فقط على ذهاب يوسف؟ أليس في هذا – يا سادة- ضلالا مبينا؟
وعندما تكررت حادثة فقدان الأبناء الآخرين (أخ يوسف الشقيق الذي طلبه يوسف بنفسه أن يحضروه له، والأخ غير الشقيق الذي رفض الرجوع إلى أبيه دون أخيه الذي قطع لأبيه العهد أن يرجعوا به إليه) في أرض مصر، ألم يخص يعقوب يوسف حينها بالذكر ولم يتذكر أبناءه الآخرين:
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
السؤال القوي: لم لم يذكر يعقوب أبناءه الآخرين الذين افتقدهم كما تذكر حينها يوسف؟ أليس في هذا – يا سادة- ضلالا مبينا؟
السؤال القوي جداً جداً: لماذا أوقع يعقوب نفسه في هذا الضلال؟ ولِم تصرف نبي من أنبياء الله بهذه الطريقة التي أظهرت التمييز الفاضح بين الأبناء؟ ألم يكن يعقوب يدرك أن في تصرفه هذا اعتداء على حقوق الأبناء الآخرين؟ ألم يكن يدرك أن نتائج تصرفه هذا ربما تكون كارثية (وقد كانت فعلا كذلك)؟ ألم يدرك أن الأخوة سيتآمرون على أخيهم نتيجة ذلك؟ هل كانت الفراسة تنقص يعقوب حتى يوقع نفسه في هذا الحرج الذي نسجناه من مخيالنا (إن صح)؟
جواب: لم يكن يعقوب يستطيع أن يفعل غير ذلك. لقد كان الأمر – في ظننا- خارجا عن قدرة يعقوب النبي.
السؤال: لماذا لم يستطع يعقوب إلا أن يحب يوسف أكثر من جميع أبنائه الآخرين؟
رأينا: نحن نفتري الظن أن هذا يعود إلى علم يعقوب.
الدليل: نحن نظن أن الدليل على ذلك يأتي مما يمكن أن نستنبطه من الآية الكريمة التالية:
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86)
لو راقبنا الآية الكريمة التالية لوجدنا أن يعقوب يثبت لنفسه علما لم يكن لأبنائه (وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، وها هو ظنه ذاك تثبت صحته بعد حين عندما عادوا من أرض مصر يحملون القميص الذي بعثه يوسف ليلقى على وجه أبيه فيرتد بصيرا:
فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96)
وهنا فقط يقر كل من حوله لأبيهم يعقوب بذلك العلم، وبصدق أفعاله، وخطأهم في عدم قدرتهم على استيعاب الأمر (كما استوعبه الأب).
قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
السؤال: ما الذي كان يعلمه يعقوب ولم يكن يعلمه أبناءه؟ وهل كان ذلك مبررا لأن يحب يعقوبُ يوسفَ أكثر من حبه لأبنائه الآخرين؟
جواب: نحن نظن أن السبب في ذلك كله يعود إلى إدراك يعقوب بنفسه بمكانة هذا الصبي على وجه التحديد. فلقد أدرك يعقوب أن الله قد رفع هذا الصبي (يوسف) فوق جميع إخوته وفوق والده يعقوب نفسه درجات. فلم يكن يستطيع يعقوب إلا أن يضع هذا الصبي في المنزلة التي يستحقها.
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب: نحن نظن أن الجواب يكمن في فهم السنة الإلهية الكونية التي تصورها الآية الكريمة التالية:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
انظر عزيزي القارئ إلى ما وضعنا تحته الخط (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). والآن ما هو مطلوب منك هو أن تطبّق هذه السنّة الإلهية الأزلية بحق الاثنين: الصبي يوسف والأب يعقوب.
أما بالنسبة للصبي يوسف: فقد جاء قول الحق في كتابه الكريم عن علم يوسف في الآية الكريمة التالية:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
فيوسف إذن يثبت لنفسه أنه عَلِيمٌ.
أما بالنسبة ليعقوب، فقد جاء قول الحق في كتابه الكريم عن علم يعقوب في الآية الكريمة التالية:
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)
فيعقوب إذن وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ (ولكنه ليس عليما).
والآن لنطبّق السنّة الإلهية بحق الاثنين معا: ففي حين أن يعقوب كان ذو علم كان يوسف عليما، وبالرجوع إلى السنة الكونية سنجد أن الله قد جعل من هو عليم (يوسف) فوق من هو ذو علم (يعقوب): وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن يعقوب النبي قد أدرك أن هذا الصبي (من بين جميع أبناءه) له مكانة خاصة تجاوزت مكانته هو بنفسه، فلم يكن له بدّ إلا أن يعطي لهذا الصبي ما يستحق من مكانة أنزله إياها ربهما. ولما كان أبناء يعقوب لا يستطيعون أن يروا بأم أعينهم في أخيهم ما راءه أبوهم فيه نتيجة عدم علمهم، ظنوا صادقين القول أن في حب أبيهم لأخيهم يوسف (وأخيه الآخر) ضلالا مبينا.
السؤال: كيف علم يعقوب بمكانة يوسف هذه التي أنزله إياه ربهما؟
جواب: ربما نستطيع استنباط ذلك من مطلع سورة يوسف نفسها، والآن لنقرأ من بداية قصتها:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
جواب مفترى: لقد علم يعقوب بمكانة يوسف من هذه الرؤيا.
السؤال: وماذا كان من أمر يعقوب مع يوسف قبل الرؤيا؟ ألم يكن يعقوب يحب يوسف قبل هذه الرؤيا؟
جواب: نحن نظن أن حب يعقوب ليوسف قبل الرؤيا لم يكن باديا تماما للعيان، بدليل أن الإخوة قد ظنوا أن أبوهم يحب يوسف وأخيه (وليس فقط يوسف) أكثر منهم جميعا.
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)
السؤال القوي جدا: لماذا كاد الإخوة ليوسف على وجه التحديد؟ لم لم يكيدوا للأخ الآخر؟ لم وجهوا كيدهم تجاه يوسف على وجه التحديد في تلك المؤامرة بالرغم أن أبوهم كان يجب الاثنين (يوسف وأخيه الآخر)؟ ولم توقف كيدهم عند يوسف فتخلصوا منه ولم يتخلصوا من أخيه الآخر؟
للإجابة على هذه التساؤلات فلابد من العودة إلى القصة من بدايتها لنفهم كيف حصلت فعلا على أرض الواقع، فالله أسأل أن يعلمني الحق الذي أقوله فلا افتري عليه الكذب إنه هو السميع المجيب.
أما بعد،
السؤال: كيف حصلت القصة فعلا؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا الذي نظن أنه يختلف تماما عن المخيال الشعبي حول القصة: نحن نفتري الظن أن القصة حدثت على النحو التالي الذي نطلب من الجميع أن لا يثق به ما لم يجد أن الدليل يدعمه:
... ما أن ولد يوسف وأخوه الآخر (الذي ظهر للإخوة الآخرين أنهما أحب إلى أبيهم منهم جميعا) حتى أصبح باديا ليعقوب (بعلم علّمه إياه ربه – سنتحدث عنه لاحقا بحول الله وتوفيقه) أن في أحد هؤلاء الاثنين سيكون الاجتباء الإلهي للرسالة، ولكن يعقوب لم يكن (قبل تلك الرؤيا التي قصّها يوسف على والده) يستطيع أن يجزم في أي منهما سيكون ذلك الاجتباء: في يوسف أم في أخيه ذاك. فتعامل مع الاثنين (نحن نتخيل) بطريقة مميّزة يظهر فيها تفضيل لهما عن بقية الأخوة، وفي هذه المرحلة بدأ تدبير الأخوة الآخرين بالمكيدة، فجاء قولهم الأول:
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)
وكان هذا – برأينا- قبل أن تتحصل ليوسف تلك الرؤيا العظيمة. ولكن ما أن قص يوسف على أبيه تلك الرؤيا:
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
حتى حذره من مكيدة ثانية من أخوته، فجاء لفظ المكيدة مرتين:
قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
وهناك تحقق يعقوب بأن الاجتباء الإلهي سيكون في يوسف:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
فانتهت حيرة يعقوب في محل الاجتباء الإلهي: فكان في يوسف ولم يكن في أخيه الآخر.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد كاد أخوة يوسف لأخيهم مرتين، مرة قبل الرؤيا واشترك في ذلك مع يوسف أخوه الصغير. ولكن ما أن جاءت الرؤيا حتى أصبح هناك كيد آخر (ثاني) خاص بيوسف فقط دون أخيه الآخر، فكاد الإخوة ليوسف مرتين وكادوا لأخيه الآخر مرة واحدة، ولكن لماذا؟
رأينا: ما أن أصبح يقينا ليعقوب (بسبب تلك الرؤيا) أن الاجتباء سيكون في يوسف وليس في أخيه، حتى أصبحت معاملة يعقوب لولده هذا (يوسف) تتميز عن معاملته لجميع أبناءه الآخرين بمن فيهم أخ يوسف الآخر الذي كان يظهر للأبناء أن أبيهم يحبه كحب يوسف. وفي هذه المرحلة انتقل تدبير الأخوة إلى مرحلة جديدة، وهي التخطيط الفعلي للتخلص من يوسف على وجه التحديد مادام أنه أصبح واضحا لديهم أن حب الوالد منحصر في يوسف فقط، فجاء في الآية التالية تدبيرهم صريحا بحق يوسف نفسه (دون أخيه):
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
فالآية تشير بصريح اللفظ بأن قتل يوسف أو طرحه أرضا هو ما سينتج عنه خلو وجه أبيهم لهم ولا علاقة للأخ الآخر ليوسف بهذا الأمر من قريب أو من بعيد. وربما يفسر مثل ظننا هذا السبب في غياب الأخ الآخر عن الساحة تماما بعد أن تم التخلص من يوسف، فلم يُقدم الأخوة على التخلص منه أو الكيد له بالرغم من ظاهر حب أبيهم له في البداية. ولكن لماذا؟
رأينا: لمّا كان يعقوب يحب ولديه يوسف وأخاه في بداية الأمر، ثم أصبح الأمر واضحا بأن الحب فعلا خاص بيوسف، وليس بأخيه، كان حتى تلك اللحظة ضلاله (أي ضلال يعقوب) مبينا، وما أن غاب يوسف عن الساحة بعد أن أبعده إخوته عن أبيهم حتى انتهى ذلك الضلال المبين، ولم يعد الأب يعقوب يميّز بين أبناءه جميعا بمن فيهم أخ يوسف الشقيق. وما بان ضلال يعقوب مرة أخرى إلا مع عودة الحديث عن يوسف في نهاية القصة، بعد أن عاد يتذكر يوسف، ولكن الملفت للانتباه في هذا النص أن ضلال يعقوب ذاك قد صوّره القرآن الكريم على أنه ضلال قديم:
قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95)
وكان ذلك يوم أن اشتم يعقوبُ رائحة يوسف:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94)
نتيجة مفتراة: لقد كان ضلال يعقوب سببه يوسف على وجه التحديد وليس أخ يوسف الشقيق، بدليل أن ذلك الضلال قد ارتبط على الدوام بوجود خبر يوسف.
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب: نحن نظن أن بالإمكان استقصاء الدليل على ظننا هذا من السياقين التاليين، حيث يتحدث أحدهما عن فراق يوسف لأبيه بينما يتحدث الآخر عن فراق أخ يوسف الآخر لأبيه، أما ما يخص فراق يوسف لأبيه عندما طلب إخوة يوسف من أبيهم أن يبعثه معهم ليرتع ويلعب، فقد جاء قول يعقوب على النحو التالي:
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
وأما ما يخص فراق الأخ الآخر مع إخوته يوم راودوا أباه عنه ليبعثه معهم إلى أرض مصر (بناء على طلب من عزيزها آنذاك الذي رفض أن يكتل لهم ما لم يحضروه معهم)، فقد جاء قول يعقوب على النحو التالي:
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
السؤال القوي: ما الفرق بين القولين: قول يعقوب في حالة مفارقة يوسف له وقوله في حالة مفارقة أخ يوسف الآخر له؟
رأينا: الحزن
لو دققت عزيزي القارئ لوجدت أن مجرد ذهاب يوسف في رحلة لمدة يوم واحد مع إخوته كان يسبب ليعقوب الحزن (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ)، ولكن ذهاب أخ يوسف الآخر مع إخوته في رحلة إلى مصر قد تستغرق وقتا طويلا لم يكن ليسبب ليعقوب ذلك الحزن، فلماذا؟
رأينا: لأن حب يعقوب كان خاصا بيوسف فقط، وما أن ذهب يوسف عن الساحة حتى أصبحوا جميعا قوما صالحين لا يفضل الأب أحدهم على غيره، فتوقف كيد الإخوة عند ذلك الحد.
السؤال القوي جدا جدا: لماذا يوسف؟ لم أحب يعقوب يوسف على وجه التحديد بالرغم أن حبه في البداية كان ظاهرا ليوسف وأخيه؟ ولماذا تغير سلوك يعقوب بعد الرؤيا؟ وبكلمات أجنبية نقول Why did he have a change of heart?
رأينا: نحن نظن – كما أسلفنا- أن يعقوب كان في بداية الأمر غير جازم رأيه في أي الاتجاه سيكون الاجتباء الإلهي: في يوسف أم في أخيه الآخر. فظهر منه عندها ما يبين أن حبه كان لكليهما: ليوسف وأخيه. ولكن ما أن جاءه خبر الرؤيا (على لسان يوسف نفسه) حتى استقر اليقين في فؤاد يعقوب أن الاجتباء لا محالة في يوسف فقط، وهنا بالضبط – نحن نفتري القول- انتهى تفضيل يعقوب لولده الآخر هذا على إخوته الآخرين ولكنه استمر في تفضيل يوسف عليهم جميعا بمن فيهم أخيه هذا. فجاء تحذيره خاصا ليوسف من مكيدة أخرى يكيدها له إخوته نتيجة تلك الرؤيا علاوة على المكيدة الأولى التي كانت بسبب حب الوالد له ولأخيه. فكان هناك – في فهمنا للقصة- مكيدتان، مكيدة قبل الرؤيا (كانت موجهة ليوسف وأخيه) ومكيدة بعد الرؤيا (كانت موجهة ليوسف فقط)، فجاء التكرار في اللفظ:
قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
ونحن نظن أن المكيدة الأولى كانت بسبب ما فعله يعقوب، أما المكيدة الثانية فأصبحت من نزغ الشيطان بين الإخوة: إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (وسنتعرض لهذا بالتفصيل لاحقا بحول من الله وتوفيق منه).
السؤال: لماذا استمر يعقوب في حب يوسف وتفضيله له على جميع إخوته بعد الرؤيا وتوقف عن حب أخيه الآخر بعد الرؤيا؟
إن صح زعمنا هذا فإننا قد نستطيع أن نستنبط الإجابة من السياق القرآني التالي:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
لو دققنا عزيزي القارئ في هذا السياق القرآني جيدا لوجدنا أن يعقوب يقر بنفسه أن ما سيحصل لولده يوسف هو اجتباء خاص من ربه، وفيه تمام نعمته عليه، ولكن الملفت للانتباه هو أن تمام تلك النعمة التي سيتمها الله على يوسف قد كانت من قبله لأبويه إبراهيم وإسحق (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ).
السؤال القوي جدا جدا: أين يعقوب نفسه في تمام تلك النعمة؟
دقق عزيزي القارئ جيدا في هذا النص، حيث يبيّن النص أن في اجتباء يوسف ذاك تمام للنعمة على يوسف نفسه وعلى كل آل يعقوب (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ) كما كانت لإبراهيم وأسحق من ذي قبل (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ). فأين يعقوب نفسه في تمام تلك النعمة؟ نحن نسأل مرة ثانية.
جواب مفترى وخطير جدا جدا: نحن نظن أن نعمة الله لم تتم على يعقوب شخصيا بينما تمت على أبويه من قبله إبراهيم وإسحق وآل يعقوب من بعده من خلال ولده يوسف.
الدليل
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن يعقوب (على وجه التحديد) لم يكن دوره يتجاوز أن يكون حلقة وصل بين من أتم الله نعمته عليهم من قبله (وهما إبراهيم وإسحق) ومن جاء بعدة (وهم آل يعقوب من خلال يوسف). فماذا كان يعقوب إذن؟
جواب: لم يكن يعقوب أكثر من نافلة:
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
فالبشرى جاءت لإبراهيم أصلا بإسحق:
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (112)
فتحصلت الذرية لإبراهيم على الكبر بإسماعيل وإسحق فقط:
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)
وما جاء يعقوب إلا حلقة وصل في تلك السلالة الطيبة:
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
عودة على بدء: لمّا كان يعقوب يعلم أن هناك اجتباء إلهي لا محالة حاصل في واحد من أبناءه، ولمّا كان يعلم أن هذا الاجتباء لم يكن له شخصيا، فهو قد وصل إلى درجة من العمر ولم يتم الله نعمته عليه كما كانت على أبويه من قبل إبراهيم وإسحق، كان متلهفا – نحن نتخيل- أن يرى ذاك الابن الذي سيكمل رحلة الآباء (إبراهيم وإسحق)، فكان ما يشغل يعقوب عن علم هو – في رأينا- إتمام تلك النعمة، فهو يعلم أن الكتاب والنبوة هي في ذرية إبراهيم من خلال هذه السلالة الطيبة:
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
ولما استقر في فؤاد يعقوب أن تلك النعمة ستتم على آل يعقوب جميعا من خلال هذا الصبي يوسف (بعد أن حدثه الصبي بما راءه في منامه)، كان حب يعقوب ليوسف – نحن نفتري الظن- هو من باب المحافظة على ذلك الإرث الديني العظيم. لذا كان حبه ليوسف ليس حبا لشخص يوسف وإنما لمكانته التي أنزله إياها ربه:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
نتيجة: نحن نظن أن حب يعقوب لأحد أبناء على وجه التحديد كان حبا خاصا بمن اجتباه ربه سواء كان يوسف أو غيره، ولما كان ذلك الاجتباء الرباني قد انكشف في أن يكون في يوسف، أصبح حب يعقوب ليوسف عن علم.
ولم يكن إخوة يوسف – نحن نفتري الظن أيضا- على دراية بهذا العلم الذي كان يخبئه يعقوب في صدره، فطلب يعقوب بنفسه من ولده يوسف أن لا يقصص رؤياه على إخوته، لأن هذا سيفتح الباب واسعا لفتنة لا يعلم مدى خطورتها إلا الله وحده، وذلك لأن الشيطان هو من سيشعل فتيلها حينئذ
قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
المعضلة: في حين أن الإخوة كانوا يظنون أن الأب يفضّل يوسف عليهم اعتباطا دون وجه حق، استقر العلم في قلب يعقوب أن يوسف يستحق منزلة لا ينازعه عليها أحد من إخوته، منزلة تفوق منزلة الوالد نفسه، ولكن لمّا كان الأب مجبولا على حب الخير لأبنائه ربما أكثر من نفسه، لم يكن خبر الرؤيا إلا ليدخل البهجة والسرور على قلب الوالد لأن العلاقة بين الوالد والولد هي علاقة تكاملية، فالولد مكملا لوالده، ولكن هل الإخوة مجبولون على ذلك؟
رأينا: كلا، ليس بالضرورة أن يحب الإخوة لبعضهم البعض ما يحبونه لأنفسهم، فالعلاقة بين الإخوة هي علاقة تنافسية، بالضبط كما حصل في قصة ابني آدم، حيث قتل الأخ أخاه. ولمّا كان يعقوب يعي مثل هذه العلاقة التنافسية، حذّر يوسف من أن يطلع إخوته على ما رأى في منامه حتى لا يتسبب ذلك في إشعال فتيل كيدهم له من جديد.
نتيجة مفتراة: لم يكن الإخوة يعون تماما سبب تفضيل والدهم ليوسف عليهم، ولم يكن يستطيع يعقوب أن يبوح لهم بالسر، واكتفى أن يذكّرهم على الدوام بالقول بأنه يعلم من الله من لا يعلمون:
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86)
فاكتفى بأن يشكو بثه وحزنه إلى الله مادام أنه لا يستطيع أن يشكوهما لأولاده الذين قد لا يتحملوا الأمر. وما تأكد للأولاد خبر ذلك (أي أن أباهم يعلم من الله ما لا يعلمون ويسكت عليه) إلا بعد أن تكشّفت القصة برمتها:
فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96)
عندها فقط أقر الإخوة جميعا بخطئهم أمام يوسف:
قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
فعلموا كيف أن الله قد آثره فعلا عليهم، كما أقروا بذلك أمام أبيهم يعقوب نفسه:
قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
السؤال: ماذا لو أن يعقوب قد شكا بثه وحزنه لأولاده (أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي)؟ أي ماذا كان يمكن أن يحصل لو أخرج يعقوب ذلك السر الذي دفعه لتفضيل يوسف عليهم من صدره؟ وماذا لو حدّث يوسف إخوته بخبر تلك الرؤيا؟ ما الذي كان يمكن أن يحصل من أمر الإخوة تجاه أخيهم حينئذ؟
جواب: نحن نظن أن يعقوب لم يكن يستطيع أن يبوح بذلك السر لأبنائه لأن ذلك – برأينا- كان سيسبب فتنة عظيمة لا يتحملها كل بني إسرائيل من بعده. كما نفتري الظن بأن النتيجة ستكون على نحو قتل يوسف وليس الاكتفاء في طرحه أرضا، فقد كان الخيار أمام الإخوة هو إما أن يقتلوا يوسف أو أن يطرحوه أرضا:
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
ونحن نظن أنه لو تأكد للإخوة بأن الله قد اجتبى يوسف عليهم جميعا لربما لجئوا إلى خيار القتل بدل خيار أن يطرحوه أرضا، ونحن نفتري الظن بأنهم ما طرحوه أرضا إلا لأن خبر الاجتباء لم يصلهم. فلا يعقوب أفشى السر ولا قص يوسف على إخوته الرؤيا.
رأينا: للخوض في هذه القضية العظيمة نحن نرى ضرورة الوقوف عند بعض التفاصيل التي لا يمكن تجاوزها، وربما تشكل أساسيات في فهمنا لهذه القصة، نذكر منها:
1. أن نبي الله يعقوب لم يكن ليتصرف بطريقة هوجاء، فالرجل متعقل يعلم ما يفعل، لذا لو كان في بوح الأمر خير لبني إسرائيل لفعل
2. أن يعقوب رجل على قدر من العلم لا يستطيع أحد أن ينكر ذلك (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
3. أن الأولاد كانوا على دراية بمنزلة والدهم النبي، لذا كانوا طامعين في أن يخلو لهم وجه أبيهم
4. أن الأولاد يعلمون قدر هذا البيت العظيم، لذا كانوا ينشدون الصلاح
5. أن الأولاد لا شك طامعين جميعا في ميراث هذا البيت العظيم
6. والأهم من هذا كله هو إدراكهم في أن ميراث النبوة والكتاب هو في هذا البيت العظيم مصداقا لقوله تعالى:
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
السؤال: من - يا ترى- يمكن أن يحظى بهذا الشرف العظيم من الأبناء؟ هل تتخيل عزيزي القارئ أن الأبناء سيقتتلون على حفنة من الدراهم أو قطعة من الأرض (كما نفعل نحن)؟
رأينا: كلا وألف كلا. إنه ميراث النبوة والكتاب، ولا أظن أن أحدا منهم كان غير راغب فيها، ولا أظن أن أحدا منهم كان يمكن أن يسكت عن الأمر لو بان له منذ البداية أن صاحب هذا الشرف سيكون يوسف على وجه التحديد، ولربما دب عندها الخلاف بين الإخوة منذ تلك اللحظة، ولرفض الإخوة أن يكون الفضل لأحدهم دون الآخرين، ولربما تكررت قصة ولدي آدم مرة أخرى، ولربما أقدم بعضهم على قتل بعض، ولربما ظهر الفساد في الأرض من جديد، ولربما خسروا جميعا ميراث النبوة والكتاب منذ تلك اللحظة.
الدليل:
الأولاد يريدون أن يقتلوا يوسف لكي:
1. يخلو لهم وجه أبيهم يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ
2. ليكونوا صالحين من بعد يوسف وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
السؤال القوي جدا: إذا ما استطعنا أن نتفهّم أن في قتل يوسف سيخل للأولاد جميعا وجه أبيهم، فكيف يمكن أن نتفهم أن في قتله صلاحا لهم من بعده (وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)؟
افتراء من عند أنفسنا: نعم، نحن نظن أن في التخلص من يوسف صلاح لهم جميعا، بينما في بقاءه بين ظهرانيهم الفساد في الأرض (عكس الصلاح)، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الصلاح لا يتحقق إلا بوجود العدل، ومتى انتفى العدل ظهر الفساد في البر والبحر:
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
فالفساد الذي كان سيظهر فيهم كان سببه ما كسبت أيدي الناس (ربما يعقوب نفسه)، وما كان يمكن أن تكسبه أيديهم جميعا، وقد تحدثنا في مقالتنا تحت عنوان "ماذا كتب في الزبور؟" عن معنى الصلاح، وزعمنا القول أن الصلاح هو السبب الرئيس في وراثة الأرض:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
فتلك سنة إلهية كونية لا يمكن إلا أن تنفذ (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، ونحن نفتري القول بأن خسارة يعقوب للأرض المقدسة وهبوطه مصرا (وأبناءه جميعا) واستعبادهم في الأرض من بعد هلاك يوسف على يد الفراعنة، وقدوم موسى ليعيد بني إسرائيل إلى الأرض كلها هزات ارتدادية لذلك الحدث العظيم، وهو – برأينا- نتيجة طبيعية لذاك الفساد الذي كانوا شركاء فيها جميعا. ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نستطيع الخوض بذلك من خلال افتراءات هي بلا شك من عند أنفسنا، نبدأها بالافتراء الخطير التالي: لقد كان في غياب يوسف عقابا ليعقوب نفسه.
السؤال: كيف كان ذهاب يوسف عقابا ليعقوب نفسه؟
نحن نظن أن تجلية الأمور التالية ربما تساعدنا على تهذيب معرفتنا عن القصة التي سننسج خيوطها من مخيالنا ولا نطلب من الآخرين تصديقها ما لم يجدوا الدليل عل ما نزعم جليا.
- يعقوب لم يدع ربه أن يعيد له ولده
- يعقوب كان يعلم ما يدبره الأخوة لأخيهم لكنه أرسله معهم
- يعقوب هو من ذهب للقاء يوسف (بالرغم من تقدمه في السن) ولم يأتي يوسف للقاء ولده (بالرغم من نفوذه في الأرض)
- يعقوب هو من هبط إلى مصر بدل أن يعود يوسف إلى الأرض المقدسة
- الخ
ولنبدأ بهذه القضايا تباعا.
السؤال الأول: يعقوب لم يدع ربه أن يعيد له ولده
نحن نعلم مقدار حب يعقوب لولده يوسف (بغض النظر عن الدافع وراء ذلك)، ونعلم كذلك أن يعقوب لم يكن مقتنعا تماما بالقصة التي نسجها أبناءوه عن موت أخيهم يوسف، فبعد أن جاءوا أباهم عشاء يبكون وأخبروه بأن الذئب قد أكل يوسف كما في السياق القرآني التالي:
قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
جاء رده على كلامهم على النحو التالي:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
ونحن نظن أن شك يعقوب بالقصة التي افتراها كذبا أبناءوه يأتي أولاً من دليلين هما
- نبرة التشكك في خطاب الأبناء عندما قالوا وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ، فالذي يقول الصدق لا يهمه في العادة ردة فعل من يحاوره، لذا يأتي كلامه قاطعا بالدليل اليقيني بالضبط كما حصل عندما فعل الأبناء أنفسهم يوم أن أخبروا والدهم ما حل بولده الآخر في أرض مصر:
ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
- طريقة رد يعقوب على الافتراء الكاذب لأبنائه، فالرجل يعلم أن هذا من باب ما سولت لهم أنفسهم:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
نتيجة مفتراة: يعقوب يشك بخبر وفاة يوسف ويظن أن ما جاء به الأخوة من خبر موت أخيهم هو من باب ما سولت لهم أنفسهم.
والملفت للانتباه في الموضوع أن يعقوب لم يلتجئ إلى ربه ليدعوه أن يعيد له ولده، ولكنه اختار الصبر على ذلك، فأكمل ردة فعله على النحو التالي:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
نتيجة: يعقوب يختار أن يصبر على فراق يوسف بالرغم من يقينه بعدم وفاته، وهنا نثير تساؤلين اثنين هما:
1. أين الدليل على أن يعقوب كان متيقنا أن يوسف لم يمت
2. لماذا اختار يعقوب الصبر على ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الدليل على يقين يعقوب بعدم موت يوسف ربما يمكن استنباطه من سياقين قرآنيين هما:
أولا، استمرت قناعة يعقوب بعدم موت يوسف حتى بعد أن فقد بعض أبناءه الآخرين في أرض مصر، عندها قال:
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
وخص يوسف بالذكر ليبحثوا عنه:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
ثانيا، أما الدليل الأكبر على ذلك فيأتي من السياق التالي:
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
فلقد علم يعقوب أن الدم الذي جاء به أبناءه على قميص يوسف هو دم كذب.
السؤال: كيف علم يعقوب ذلك؟ أي كيف علم يعقوب أن ذاك الدم المتواجد على القميص الذي أحضروه ليس بدم يوسف؟
رأينا: نحن نظن أن يعقوب كان يستطيع أن يميز ريح يوسف عن بعد، والدليل على ذلك هو أنه قد اشتم ريح يوسف عندما فصلت العير:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94)
وسنتحدث عن تلك الكيفية التي استطاع من خلالها يعقوب أن يشتم رائحة يوسف لاحقا عندما نفرد فصلا خاصا بقصة القميص بحول الله وتوفيق منه (فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، فلا أفتري عليه الكذب إنه هو العليم الحكيم)
أما مراد القول هنا هو أن الذي يستطيع أن يشتم ريح يوسف عن بعد لا يمكن أن يخدع بذلك الدم الكذب. وسنرى لاحقا أنه ما أن رأى يعقوب ذلك الدم (واشتمه) حتى علم أن ذلك من باب ما سولت لهم أنفسهم، وأنهم قد دبروا أمرا لأخيهم فسكت يعقوب على ذلك. واكتفى بأن يصبر على الأمر.
نتيجة مفتراة: إن ما نود إثارته حتى الساعة هو أنه على الرغم من كل ذلك العلم المتوافر عند يعقوب عن ما حصل فعلا ليوسف، إلا أنه لم يتوجه إلى ربه طالبا العون منه في أن يرد إليه ولده المفقود، فلا نجد في كتاب الله نصا يبين لنا أن يعقوب قد دعاء ربه أن يعيد له يوسف إلا مع نهاية القصة بعد كل تلك المعاناة التي تحملها نتيجة فراق ولده له:
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
السؤال: لماذا لم يتوجه يعقوب إلى ربه بأن يعيد له ولده المفقود كل تلك السنين وصبر على ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري القول بأن يعقوب هو نفسه من أرشد أولاده إلى تلك الخطة التي سينفذوها بحق يوسف. ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الجواب على هذا التساؤل له علاقة مباشرة بقضية الصلاح والفساد التي طرحناها آنفا. ولكن كيف ذلك؟
افتراء من عند أنفسنا: لقد أيقن يعقوب بأن الخير (له ولجميع أبناءه) يكمن في غياب يوسف وليس في وجوده بين ظهرانيهم، ولكن لماذا؟
رأينا: نحن نظن أن يعقوب قد علم بأنه إن بقي يوسف بين ظهرانيهم فإن أبناءه الآخرين لا محالة قاتلوه، وستحدث عندها المفسدة في الأرض، وسيخسر بنو إسرائيل جميعا وراثة الأرض التي وعدها الله لعباده الصالحين:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
لذا فإن المخرج الوحيد لكي ينجو يوسف ببدنه أولا، ولكي لا يحدث الفساد في الأرض بالقتل ثانياً هو أن يبتعد يوسف عن هذه الأرض حتى حين. فكيف حصل ذلك؟
رأينا المفترى الغريب جدا: نحن نظن أن يعقوب هو من دبر المؤامرة التي نفذها الإخوة بأخيهم يوسف، فهو من رسم لأبنائه الخطة التي يجب أن ينفذوها بحق يوسف، ولكن كيف ذلك؟
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
وبالرغم أن الأولاد قد أكدوا للوالد أن باستطاعتهم حماية يوسف من الذئب كما في الآية التي تليها:
قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ (14)
إلا أنهم عادوا مساءا ليخبروا والدهم أن الذئب هو من أكل يوسف:
قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
السؤال: ألا تجد عزيزي القارئ غرابة في ذلك؟ ألم يكن الأبناء يستطيعون أن يفكروا بطريقة أخرى للتخلص من يوسف غير تلك التي رسمها أبوهم في البداية؟ ألا يمكن أن يكون هناك سيناريو آخر يمكن تنفيذ الجريمة من خلاله؟
رأينا: كلا. ولكن لماذا؟
جواب: نحن نظن أن الإجابة على ذلك يكمن في الخطة التي وضعها الأبناء في البداية للتخلص من أخيهم، فلقد كان أمامهم واحد من خيارين: إما أن يقتلوا يوسف فعلا أو أن يطرحوه أرضا:
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
وانتهى القرار الذي اتخذوه (بعد تشاور) كما اقترحه أحدهم (والذي نظن أنه هو نفسه الذي رفض العودة إلى أبيه من أرض مصر بعد فقدانهم الأخ الآخر الذي قطعوا العهد لأبيهم أن يعيدوه إليه) إلى الخيار الثاني:
قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
وهنا لابد من الانتقال إلى السؤال الحتمي وهو: كيف سيتم تنفيذ عملية طرحه أرضا؟ أو بكلمات أخرى، ما معنى أن يطرحوا يوسف أرضا؟
رأينا: نحن نظن أن الطرح أرضا تعني بمفرداتنا الدارجة "النفي"، فعندما يتم طرح شخص الأرض، فإنه يتم نفيه منها، أي إخراجه منها عنوة.
الدليل
نحن نظن أن الدليل على ذلك يأتي من السياق القرآني نفسه، وهو بمنطقنا المفترى على النحو التالي: الأولاد يريدون التخلص من أخيهم يوسف سواء بالقتل، أو بالطرح أرضا، وهنا يأتي الحل على لسان أحدهم ويكون ذلك على نحو أن يلقوه في غيابت الجب، ولكن ليس بهدف أن يهلك يوسف فيها، وإنما من أجل أن يلتقطه بعض السيارة، ويأخذوه معهم خارج هذه الأرض، إلى أرض أخرى:
قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
وهذا بالفعل ما حصل، فخرج الإخوة مع أخيهم إلى المكان الذي سيرتعون به ويلعبون، وقاموا بإلقائه في غيابت الجب، وانتظروا حتى جاءت السيارة، وأخرج واردهم يوسفَ منها بعد أن أدلى دلوه، وأسروه بضاعة، وما أن تأكد للإخوة جميعا أن يوسف قد ترك الديار إلى غير رجعة (في ظنهم) حتى قفلوا عائدين ليلا إلى أبيهم لينقلوا له خبر يوسف. وعلى الرغم من أنهم قد نفذوا خطة طرحه أرضا (أي الخيار الثاني) إلا أنهم نقلوا الخبر لأبيهم على أن يوسف قد مات (الخيار الأول).
السؤال: وكيف يمكن أن يقتنع الوالد بأن الذئب قد أكل يوسف؟ وكيف سيسوّق الأبناء ذلك على الوالد؟ لِم لَم يختاروا طريقة أخرى غير طريقة أن الذئب قد أكله كما قال الوالد لهم في البداية؟ ألم يأخذوا عهدا على أنفسهم بأن لا يدعوه فريسة سهلة للذئب وهم عصبة؟ ألا يشكل ذلك قدحا في قدراتهم؟ ألا يشكل ذلك دليلا على أنهم مسئولون عن فقدانه؟ لم لم يحملهم الأب المسؤولية؟
جواب: للإجابة على هذه التساؤلات فلابد من التعرض لكيفية أن يأكل الذئب إنسانا (كيوسف)، وعندها ستطرح التساؤلات التالية:
1. ما هو الذئب الذي أكل يوسف؟
2. كيف أكل الذئب يوسف؟
3. أين أكله؟
4. متى أكله؟
5. كم يبعد ذلك المكان عن ديارهم الأصلية؟ وكم يبعد عن مكان السبق الذي ذهب إليه الإخوة جميعا؟
6. لم تركوا يوسف على وجه التحديد عند المتاع؟
7. لم لم يتركوا غيره هناك؟ ولم لم يتركوا أحدهم معه هناك؟ ألا يكفي أن يستبق بعضهم ويمكث بعضهم الآخر مع يوسف عند المتاع؟ ألم يطلب منهم والده أن لا يتركوه فريسة سهلة للذئب أصلا؟
8. كيف سيسوّقون الأمر على الوالد إذن؟
9. لِم لَم يطلب يعقوب الذهاب إلى ذلك المكان ليتفقده بعد أن جاءه أبناءه بهذا الخبر المفجع؟
10. لِم لَم تطلب والدة يوسف (إنْ كانت موجودة حينئذ) الذهاب إلى ذلك المكان لتبكي ولدها المفقود عنده؟
11. الخ
جواب: نحن نظن أن مفردة الذئب لا تعني المفرد (ذئبا واحدا) بل هي الفصيلة، فعندما نقول أن الأسد حيوان قوي مثلا، فذلك لا يعني أننا نتحدث عن قوة حيوان واحد بعينه، وإنما نتحدث عن تلك الفصيلة، لذا يستحيل أن يكون الأبناء (أو ربما الأب يعقوب) كان يقصد ذئبا واحدا بعينه، وإنما كان يشير إلى فصيلة الذئاب.
ثانيا، مادام أن الذئب قد أكل يوسف في غياب الإخوة (حسب روايتهم) فيستحيل أن يكونوا على دراية بعدد الذئاب التي اشتركت في أكل يوسف. فهل يستطيع أحد أن يجزم بأن من قام بأكل يوسف هو ذئب واحد محدد بعينه؟
ثالثا، لو أن ذئبا واحد قد أكل يوسف لربما ترك شيئا منه غير قميصه مثلا، فأين شعر يوسف؟ وأين عظامه؟ وأين...؟
لذا لابد من إعادة إعمال مخيالنا الشعبي في القصة من جديد، ونحو نتصور الأمر على النحو المفترى التالي:
نحن نفتري القول بأن خوف يعقوب من الذئب في البداية (وتبني الأولاد لقصة الذئب كما صورها أبوهم) يعود إلى سبب رئيس واحد، وهو العلم المسبق لدى الجميع أن هذا المفترس (الذي يسمى ذئبا) عندما يهاجم فريسته فإنه يأخذها إلى مكان آخر غير ذلك المكان الذي قتلها فيه. فلو أن ذلك الذئب من النوع الذي يقتل الفريسة فيأكلها في المكان نفسه، لترك (نحن نتخيل) منها مخلفات تدل على أثر المقتول. ولو أن الأمر قد حصل على تلك الشاكلة، لربما أحضر الأبناء إلى أبيهم من مخلفات يوسف أكثر من القميص، ولو أن الأمر حصل على تلك الشاكلة، لربما طلب الوالد الذهاب للوقوف على مكان مسرح الجريمة. ولربما طلب بعض الأهل (كالأم والأقارب) القيام بتلك المهمة نيابة عن الرجل نفسه.
أما الدليل الثاني على زعمنا هذا فيأتي من عودة الأبناء ليلا حاملين قميص يوسف فقط، وفي هذا – في رأينا- أشارة للقول بأن الأبناء قد جدّوا في البحث عن يوسف طوال يومهم عندما عادوا من السبق فلم يجدوا يوسف عند متاعهم، ويكأن لسان حالهم يقول لوالدهم بأننا ما أن عُدنا من السباق ولم نجد يوسف عند متاعنا حتى أخذنا نبحث عنه جميعا في كل مكان فما وجدنا من أثره إلا هذا القميص. فلا تتعب نفسك ولا غيرك في البحث عنه، لأن الذئب (الفصيلة المفترسة من هذه الحيوانات) لا محالة قد أخذ يوسف بعيدا عن مكان الجريمة. وفي هذا في ظننا سببا كافيا أن يتوقف الوالد عن البحث عن الولد مادام أن الجاني هو الذئب.
ولا أخال أن هذا يمكن أن يفوت يعقوب النبي، لذا فإن يعقوب – في ظننا- هو من أرشد أولاده إلى الطريقة التي يمكن أن يتخلصوا بها من يوسف: أن يأكله الذئب، فيتحقق طرح يوسف في الأرض (النفي) بدل أن يقتل الإخوة أخاهم بأيديهم.
لكن هذا الطرح لا يحل الإشكالية الأكبر وهي أن لا يتحمل الإخوة المسؤولية. فالأب قد حذر الأبناء من الذئب مسبقا، فكيف سيعودون إليه بالقول أن الذئب قد أكل يوسف؟ والأهم من هذا كله هو: لم تركوا يوسف عند متاعهم؟ ولم لم يتركوا عنده من يحميه منهم من الذئب مادام أن خطر الذئب كان متوقعا؟ ألم يحذرهم الأب نفسه من هذا الخطر قبل الانطلاق في رحلتهم القصيرة؟
رأينا: نحن نظن أن الأبناء قد تنصلوا من المسؤولية بكل ذكاء، ولكن كيف ذلك؟
جواب: عندما تركوا يوسف عند متاعهم. ولكن كيف ذلك؟
جواب: نحن نرى أن الإجابة تكمن في مفردة واحدة وهي "يَبْكُونَ" عندما جاءوا أباهم عشاء:
وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16)
قد يظن البعض على الفور بأن البكاء هو نزول الدمع من العيون، فيتصور أن الأبناء قد جاءوا تفيض أعينهم من الدمع حزنا:
وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92)
السؤال القوي: هل جاء الأولاد أباهم عشاء وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا؟
جواب: كلا، لأنه لو حصل ذلك فعلا لجاء النص على نحو:
وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء تفيض أعينهم من الدمع حزنا
السؤال: القوي: ما معنى يبكون إذا؟ كيف جاء الأولاد أباهم عشاء يَبْكُونَ؟ وما الفرق بين من يبكي ومن تفيض أعينهم من الدمع حزنا؟
جواب: ألا ترى عزيزي القارئ أن الوقت كان عشاء، فهل كان الدمع الذي يفيض من العين سيرى في وقت العشاء؟
رأينا: كلا وألف كلا، ذلك (برأينا) أبعد ما يكون عن الحقيقة، فالأولاد لم يذرفوا دمعة واحدة على أخيهم، وجل ما فعلوا أنهم قد جاءوا أباهم يَبْكُونَ؟ فكيف تم ذلك إذن؟
رأينا: نحن نظن أن البكاء هو ارتفاع الصوت بالعويل عند النائبة (ولا زال إخواننا السوريون يستخدمون لفظة العياط: أي المناداة برفع الصوت)، ولكن لماذا كان صوت الإخوة مرتفعا؟
جواب مفترى: لقد جاء الإخوة يرفعون أصواتهم ربما لإيصال الرسالة إلى أبيهم بأنهم لا ذنب لهم في خسارة يوسف. وأنهم غير مسئولون عن ذلك إطلاقا؟ وأنهم لم يقصروا في الحفاظ على يوسف؟ وأنهم قد اتخذوا أقصى درجات الحيطة للمحافظة على يوسف؟ وكما نقول بلهجتنا الأردنية (أخذوه بالصوت العالي)، فقد رفعوا صوتهم فوق صوت أبيهم.
فكانت نبرة صوتهم لا تخلو من القوة، ولو كانوا يشعرون بالذنب (نحن نتخيل) لما ارتفع صوتهم في حضرة والدهم المكلوم على ولده. ولما كانوا أصلا قادرين على الكلام بهذه الجرأة. لذا نحن نتخيل المشهد على النحو المفترى التالي: يعود الأولاد إلى أبيهم، ليخبروه نبأ أن الذئب قد أكل يوسف، فتكون أصواتهم مرتفعة (لا تخلو من نبرة التنصل من المسؤولية)، ويكأن لسان حالهم يقول لوالدهم لا تلقي باللائمة علينا، ولكن هناك من هو فعلا مسئول عن ضياع يوسف وهو ليس بالتأكيد نحن إخوته، لأننا ما قصرنا بواجب الحفاظ على أخينا الذي قطعنا لك العهد عليه عندما وافقت أن ترسله معنا.
السؤال القوي جدا: من المسئول إذا (حسب رأي الإخوة بالطبع)؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: إنه يوسف نفسه. نعم نحن نفتري القول أن الأولاد يريدون أن يوصلوا الرسالة لوالدهم بأن يوسف هو من يجب أن يتحمل مسؤولية ضياعه وليس نحن.
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب: لأن الإخوة قد تركوه عند متاعهم:
قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
وما علاقة ذلك بتحمل يوسف نفسه مسؤولية ضياعه وليس إخوته؟
جواب مفترى لا تصدقوه: نحن نعلم أنه في مثل هذه الحالات التي يخرج بها الناس لأن يرتعوا ويلعبوا لا شك يضعون متاعهم في مكان يظنون أنه آمنا لا يمكن أن يتهدده الخطر، أليس كذلك؟ كما أن المكان الخاص باللعب والرتع يكون (نحن نفترض) مألوفا لكثير من الناس، لذا يصعب أن يتهدده خطر كقدوم الذئاب إليه مثلا، إن صح زعمنا هذا، فإن الرسالة التي ربما يريد الأولاد أن يوصلوها إلى أبيهم من قولهم وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا هي (في ظننا) أننا فعلا قد تركنا يوسف في المكان الأكثر أمنا الذي يستحيل أن تقربه الذئاب أو أن يتهدده الخطر، لذا فنحن قد حافظنا على يوسف، ولم ننكث العهد الذي قطعناه معك في المحافظة عليه من الذئب، ولكن الذي حصل (حسب منطقهم) هو أن الذئب لم يأت إلى يوسف في ذلك المكان ولكن يوسف هو من ذهب إلى الذئب برجليه، فكيف ذلك؟
نحن بحاجة من القارئ الكريم أن يتصور المشهد بناء على التساؤل التالي: أين أكل الذئب يوسف؟ هل يمكن أن يأكل الذئب إنسانا في مكان يرتع فيه الناس ويلعبون؟ وهل الذئب (وجميع الحيوانات المفترسة بلغتنا الدارجة) معتادة أن تقترب في رابعة النهار من المكان الذي يتواجد فيه الناس؟ من يدري!!!
رأينا: نحن نشكك بتلك الاحتمالية، لذا نحن بحاجة أن نتخيل فنبحث عن المكان الذي كان يمكن لذئب أن يأكل فيه إنسانا. فأين هو ذلك المكان؟
رأينا: نحن نظن أن الرسالة التي كان الأولاد ينقلونها للوالد من خلال قولهم (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا) هي أننا قد تركنا يوسف في مكان يستحيل أن يقترب منه الذئب، ولكن الذي حصل أن يوسف قد ترك ذلك المكان بنفسه، وهرب منه، وأن الذئب قد أكله في مكان غير المكان الذي تركناه فيه.
السؤال: لماذا هرب يوسف إذن؟ لماذا ترك المكان؟
جواب مفترى وخطير جدا جدا: إنها السرقة
وكيف ذلك؟
جواب: نحن نتخيل أن الأبناء سيقولون لوالدهم بأننا قد تركنا يوسف عند متاعنا لأننا كنا نعتقد أن يوسف هو الشخص الأكثر حفظا للأمانة، فنحن قد وثقنا به، فتركناه (تكريما له) عند متاعنا ليحافظ لنا عليه، ونحن نظن (كما يقول المنطق البسيط) أن هذا المكان هو الأكثر أمنا من الخطر. ولكننا نأسف أن نخبرك أن يوسف (هذا الصبي الذي تحبه أكثر منا) قد خان تلك الأمانة لأنه قد سرق شيئا من ذلك المتاع وهرب به، وما أن هرب من المكان الذي تركناه فيه بسبب فعلته تلك حتى كان الذئب له بالمرصاد، فأكله. لذا لا تحملنا (يا أبت) مسؤولية فقدان يوسف بعد أن حافظنا عليه، ولكن يجب أن تحمّل يوسف نفسه مسؤولية أنه خان الأمانة بالسرقة كما يجب أن تلومه لأنه هو من ترك إخوته عن رغبة منه وطمعا بشيء سرقه من متاعنا.
السؤال: وأين الدليل على هذه الخربطات التي لا تقنع أحدا؟ وأين الدليل (على الأقل) على أن الإخوة يتهمون أخاهم يوسف بالسرقة؟ هل جننت – يا رجل؟ سيصيح كثير من القراء مشكورين.
جواب: نحن نجد الإجابة على ذلك في السياق القرآني التالي:
قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)
تساؤلات حول هذه الآية الكريمة:
- من هو الأخ الآخر الذي يتهمونه بالسرقة؟
- أليس ذلك يوسف نفسه؟
- فما الشيء الذي سرقه يوسف (حسب دعوى إخوته)؟
- ومتى حصل ذلك؟
- ولم اتهم الإخوة أخاهم بالسرقة؟
- ولم لم ينفي يوسف عن نفسه تهمة السرقة؟
- لم اكتفى بالقول بأنهم هم أكثر شرا منه؟
- وهل في يوسف فعلا شر حتى يقرّ بأن الشر في إخوته أكثر من الشر عنده؟
- الخ.
هذا ما سنحاول النبش فيه في المرة القادمة بحول من الله وتوفيق منه، فالله أسأله وحده أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علما لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع المجيب، وأعوذ به سبحانه أن أفتري عليه الكذب أو أن أقول عليه ما ليس لي بحق، إنه نعم المولى ونعم المجيب.
وللحديث بقية.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
26 كانون ثاني 2013
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)