لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه3؟
هذا هو الجزء الثالث من مقالتنا تحت عنوان: لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟
وقد خلصنا في الجزء الثاني من المقالة إلى تبرير زعمنا بأن امرأة لوط قد خانت نبي الله لوط بفرجها، وقد كان لوط على علم بخيانتها تلك، لذا جرى الخطاب بينه وبين قومه يوم أن جاءوا يهرعون إليه على شكل ألغاز، حاولنا النبش فيها للوصول إلى الرسالة الحقيقية التي كان لوط يحاول توصيلها بأقل الخسائر الممكنة في خطابه مع القوم، فقد حاول أن يفصّل القصة ليظهر علمه بخيانة امرأته، وليقيم الحجة على القوم ليدفع في الوقت ذاته الأذى عن ضيوفه عندما قال مجهاً خطابه إلى القوم الهارعين إلى بيته:
قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ الحجر (71)
فكانت رد القوم لا يقل دهاءً (لا بل ويتسم بالوقاحة) عندما خاطبوه بقولهم:
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ هود (79)
وقد كان جل النقاش منصباً على الخوض في المعاني التي يمكن استنباطها من هذه الآية الكريمة، والرسائل التي حاول القوم إيصالها للوط، دون أن تثنيهم حجة لوط السابقة عن الظفر بالغنيمة التي جاءوا يطلبون.
(للتفصيل انظر مقالتنا السابقة لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه2؟)
وكانت النتيجة الأبرز التي حاولنا الخوض فيها في نهاية المقالة السابقة الزعم بأن النظر إلى قصة لوط من هذا المنظور الجديد ربما يسعفنا في فهم تفاصيل قصص أخرى في كتاب الله كانت النساء لاعباً أساسيا فيها، فأشغلتنا قصة ترك إبراهيم زوجته الثانية هاجر وابنه الحليم إسماعيل في ذلك الواد غير ذي الزرع عند بيت الله الحرام. وقد كان السؤال الرئيس الذي جهدنا في إيجاد الإجابة له هو: لماذا ترك نبي الله إبراهيم زوجته وولده إسماعيل على وجه التحديد في الواد غير ذي الزرع وقفل عائداً إلى زوجته الأولى سارة وولده العليم إسحق؟
وقد كانت أهم النقاط التي أثيرت في نهاية ذلك المبحث:
1. علاقة نبي الله إبراهيم بلوط
2. التوقيت الذي ذهب فيه إبراهيم بولده إسماعيل وأمه إلى ذاك الواد
وتطرقنا إلى الاستنباط بأن إبراهيم ولوطا وصلا معاً إلى القرية (المدينة) التي كانت العاصمة السياسية لذاك البلد، وقد استقر لوط في تلك المدينة (القرية التي هي العاصمة السياسية آنذاك) بعد أن تزوج منها، وتزوج إبراهيم بزوجته الثانية من تلك المدينة لكنّه رحل عنها مع زوجتيه (القديمة والجديدة) ليسكن في قرية أخرى من القرى التي بارك الله فيها، فأصبح لإبراهيم علاقة نسب من خلال امرأته الثانية بتلك المدينة التي استقر فيها لوط مع امرأته.
كما تطرقنا إلى الاستنباط بأن إبراهيم قد أسكن امرأته هاجر وابنها إسماعيل في الواد غير ذي الزرع عند بيت الله المحرم بعد أن رزقه الله بإسحق وليس قبل ذلك. وكانت الآية الكريمة التالية تشكل الدليل الدامغ – حسب ظننا- على مثل هذا الاستنباط:
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ إبراهيم (37)
وكان مما زعمناه في نهاية تلك المقالة القول بأن إبراهيم قد أسكن في ذلك الواد من ذريته "مِنْ ذُرِّيَّتِي" (أي بعضاً من ذريته) وليس كل ذريته، فلو قال إبراهيم "ربنا إني أسكنت ذريتي" لربما فهمنا أنه أسكن كل ذريته وهو إسماعيل حتى ذلك الوقت، ولربما فهمنا أنه لم يرزق بإسحق بعد، ولكنه عندما قال "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي"، أصبح الظن يميل أكثر إلى الاعتقاد بأنه لم يسكن كل ذريته وإنما بعضها، وربما يؤكد هذا الظن قول الحق في مكان آخر:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
فذرية إبراهيم كانت حتى تلك اللحظة تشمل إسماعيل وإسحق، وقد أسكن إبراهيم من تلقاء نفسه (وليس بأمر رباني) بعضهم (إسماعيل في ذلك الواد) وترك بعضهم (إسحق في موطنه الأصلي)، وانتهى كلامنا في ذلك الجزء من المقالة عند إثارة التساؤل التالي:
لماذا أخذ إبراهيمُ إسماعيلَ وأمه هاجر على وجه التحديد إلى ذلك المكان؟ ولماذا ترك إبراهيمُ إسحقَ وأمه سارة على وجه التحديد معه في موطنه الأصلي؟ لماذا لم يكن العكس هو واقع الحال؟
وسنحاول الخوض في تفاصيل قصة إبراهيم مع نساءه (سارة وهاجر) وولديه (إسحق وإسماعيل) كما يفصلها كتاب الله في هذا الجزء من المقالة، سألين الله أن يهدينا سبيله إنه هو نعم المولى ونعم المجيب.
أما بعد
لنبدأ النقاش هنا بطرح السؤال التالي: لماذا لم يرزق إبراهيم بالذرية إلا على الكبر؟
مما لا شك فيه أنّ صريح اللفظ القرآني يؤكد أن الذرية لم تتحصل لإبراهيم إلا على الكبر، فجاء في كتاب الله على لسان إبراهيم نفسه قول الحق:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم (39)
وهنا نجد لزاماً أن نسأل عن سبب عدم حصول الذرية لنبي الله إبراهيم إلا بعد أن أصبح شيخاً كبيراً. فها هي واحدة من نساء إبراهيم (وهي أم إسحق) تتعجب بنفسها من حصول الذرية لهما بعد أن أصبحت هي عجوزاً وأصبح زوجها شيخاً كبيرا:
قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ هود (72)
ولا يظنن أحد أن هذا كان يخص إسحق فقط، وأنّ الابن الأول (إسماعيل) قد تحصل لإبراهيم وهو في شبابه، كلا، فلقد رزق إبراهيم بإسماعيل على الكبر، لأنّ الاعتراف بذلك جاء – كما ذكرنا سابقاً- من إبراهيم نفسه بأنه قد رزق بكلا ولديه إسماعيل وإسحق على الكبر، ونعيد الآية السابقة لنتدبرها من هذا الجانب:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم (39)
إذن، لنعيد السؤال نفسه: لماذا لم يرزق إبراهيم بالذرية إلا على الكبر؟
الجواب: إننا نعتقد أن الجواب على هذا التساؤل موجود في الآية نفسها، وفي مفردة " وَهَبَ" على وجه التحديد، ولكن كيف؟
لو تدبرنا آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن ذرية الأنبياء، لوجدنا هذه المفردة مصاحبة على الدوام لـ أولئك الذين كانت عندهم مشكلة في الإنجاب بشكل تقليدي طبيعي، فلا نجد القرآني يتحدث عن "وهب" الذرية ليعقوب مثلاً بالرغم أنه قد رزق بعدد كبير من البنين، ولا نجد ذلك عند الحديث عن موسى، أو عن هارون، الخ، ولكن الحديث عن "الوهب" جاء واضحا عند الحديث عن زكريا:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ الأنبياء (90)
ووردت هذه المفردة "وَهَبَ" عند الحديث عن ذرية داوود:
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ص (30)
وكذلك عند الحديث عن ذرية مريم:
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا مريم (19)
وعند الحديث عن ذرية إبراهيم:
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الأنعام (84)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم (39)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا مريم (49)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا الأنبياء (49)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ العنكبوت (27)
فالهبة في الذرية "وَهَبَ" هي – في نظرنا- مكرمة إلهية لأناس لم يرزقوا الذرية بالطريقة التقليدية الطبيعية، فزكريا قد بلغ من الكبر عتيا يوم أن وهب الله له يحيى:
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا مريم (8)
وعيسى بن مريم كان هبة من الله إلى مريم بنت عمران التي أحصنت فرجها وذلك لأن مريم بنت عمران لم تنجب بطريقة تقليدية طبيعية مادام أنه لم يمسسها بشر ولم تكن بغيّا:
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران (47)
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا مريم (20)
لذا كان عيسى هبة من الله لها، وكذلك كانت كل ذرية إبراهيم هبة من الله لأنها لم تتحصل له إلا على الكبر.
وبنفس المنطق يمكن أن فهم كيف رزق داوودُ بسليمان، ولِمَ لَمْ يرزق بغيره، فقد كان سليمان هو الوريث الوحيد لداوود:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ النمل (16)
فلو كان داوود ينجب بالطريقة التقليدية الطبيعية لربما تحصل له ذرية أكثر من ذلك كما تحصل ليعقوب مثلاً.
نتيجة: عندما يرزق أحد أنبياء الله بالذرية بطريقة غير الطريقة التقليدية الطبيعية يسمي ذلك هبة " وَهَبَ" في السياق القرآني، لذا يمكن أن نجرؤ على القول بأن إبراهيم قد رزق بالذرية بطريقة الوهب "وَهَبَ"، أليس كذلك؟
ولكن تستوقفنا ملاحظة عجيبة (يطير لها عقل كل لبيب) في النص القرآني، ملاحظة تسترعي الانتباه وتستوجب التفكر والتأمل، وربما يكون لها تداعيات هائلة – إن صحت- في النقاش التالي، وتتلخص الملاحظة في مراقبة الآيات الكريمة التي تتحدث عن ذرية إبراهيم على وجه التحديد، وقد قدمنا الآيات سابقاً ونعيدها ثانية لنتدبرها من جديد، فقد وجدنا الحديث عن إسحق كهبة من الله في أربعة مواضع:
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الأنعام (84)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا مريم (49)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا الأنبياء (49)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ العنكبوت (27)
بينما وجدنا الحديث عن إسماعيل في موضع واحد فقط:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم (39)
إنّ المدقق في جميع هذه السياقات القرآنية يجد أن الخطاب الإلهي الذي جاء خاصاً بإسحق ويعقوب فقط جاء على صيغة وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لكننا لا نجد مثل هذا الخطاب خاصاً بإسماعيل، فعندما جاء الخطاب عن إسماعيل جاء على لسان إبراهيم نفسه على صيغة "وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ"، فما الذي يمكن أن نفهمه من هذا التباين في الاستخدام؟
1. الله يؤكد أن إسحق ويعقوب هبة منه لإبراهيم[1] (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)
2. إبراهيم يظن أن إسماعيل وإسحق هبة من الله له (وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)
نتيجة خطيرة جداً: يظن إبراهيم أن إسماعيل وإسحق كان كلاهما هبة من الله، في حين أن الحقيقة هي أن إسحق فقط (وليس إسماعيل) هو هبة من الله. لماذا؟
جواب من عند أنفسنا: : الله يؤكد أن إسحق هبة منه لإبراهيم لأن إبراهيم لم ينجب إسحق بالطريقة التقليدية الطبيعية، بينما لم يكن إسماعيل هبة من الله لأنّ إبراهيم قد أنجب إسماعيل بطريقة طبيعية تقليدية.
الخطأ الذي وقع فيه إبراهيم: سنتجرأ على البوح بأن نبي الله إبراهيم قد أخطأ فهم الطريقة التي رزق بها ولداه إسماعيل وإسحق، فلقد حسب إبراهيم أنه لم ينجب إسماعيل بطريقة تقليدية طبيعية، فقد ظن أن إسماعيل هبة من الله كما كان الحال بالنسبة لإسحق، لذا قال من تلقاء نفسه:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم (39)
النتيجة الحاسمة في النقاش التالي: إبراهيم لم يكن يعتقد أنه قادر على الإنجاب بطريقة طبيعية، لذا كانت كل ذريته (إسماعيل وإسحق) في ظنه هبة من الله.
الحقيقة: أكد الله أن إسحق هبة منه لإبراهيم (فهو لم يولد بالطريقة الطبيعية التقليدية)، لذا جاء قول الحق صريحاً (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) في أربعة مواضع من كتابه الكريم، بينما لم يكن إسماعيل هبة من الله (لأن إسماعيل كان قد ولد بالطريقة التقليدية الطبيعية)، فلا نجد في كتاب الله عبارة (وهبنا له إسماعيل وإسحق)، وجل ما نجده هو ظن إبراهيم نفسه بأن كلا ولديه إسماعيل وإسحق هما هبة من الله، فما يكون منه إلا أن يحمد الله بالقول (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ).
تبعات هذا الافتراء: دخول الشك في قلب إبراهيم
بشرى الملائكة لإبراهيم بميلاد إسحق ومن وراء إسحق يعقوب:
فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) هود 70-72
إن المتفحص للنص يجد أن امرأة إبراهيم الأولى سارة قد أخذت اعترافاً على لسان رسل الله بأن مولودها القادم هو هبة من الله، لذا لا يمكن أن يكون هناك شك عند إبراهيم أو عند غيره بصحة نسب وليدها القادم، فهو بلا شك من ذرية إبراهيم وهبة منه تحصل لإبراهيم عندما كان شيخاً كبيراً، وامراته هذه عجوزا:
قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ هود (72)
لكن يبقى الخلاف (وبالتالي الشك) – دعنا نتجرأ القول للحظة- عند إبراهيم بصحة نسب ولده إسماعيل وهو يعلم تمام العلم عجزه في الإنجاب، فمما لا شك لدينا أن إبراهيم - قد تساءل على الأقل مع نفسه عن كيفية أن يرزق بذرية من امرأته الجديدة (الشابة) وقد وصل من الكبر ما وصل، قبل أن يصل - مخطئاً بالطبع- إلى قناعة لدية بأن كلا ولديه هما هبة من الله، فإبراهيم قد قال هذا الكلام بعد أن رزق بالأثنين (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)، ولكن كيف كان شعورة –نحن نسأل- لحظة أن رزق بإسماعيل فقط؟
فيصبح المشهد – في نظرنا- على النحو التالي:
نبي الله إبراهيم رجل متقدم في السن، لم يرزق بالذرية في ريعان الشباب، يتقدم به العمر فيرزق بإسماعيل من امرأته الشابة الجديدة، ثم تأتيه البشرى من الملائكة بذرية جديدة (إسحق) من امرأته الأولى (العجوز) كـ "هبة" من الله.
التحليل: لا يمكن أن يساور الشك إبراهيم بصحة نسب إسحق فقد جاءت البشرى بإسحق على لسان رسل الله يوم جاءوا معذبين لقوم لوط، فهل يا ترى اطمأنت نفس إبراهيم – نحن نسأل فقط- لنسب إسماعيل كما اطمأنت لنسب إسحق؟
إبراهيم رجل في قلبه شك
لعل الجميع لا يخفى عليه كثير من تفاصيل شخصية نبي الله إبراهيم، فالرجل قد اهتدى أصلاً لربه بطريقة الشك، فلقد شك الرجل بعبادة قومه للأصنام:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ الأنعام (74)
فولى وجهه إلى السماء باحثاً عن ربه، فعثر على كوكب فظن أنه ربه:
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ الأنعام (76)
ولكن لم يكن ذلك ليرضي عقلية إبراهيم وهو دائم البحث عن الحقيقة المطلقة، فترك عبادة ذلك الكوكب لما رأى أنه إله متقلب يظهر تارة ويغيب تارة، فولى وجهه جهة القمر، فكانت النتيجة هي نفسها "الأفول":
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ
الأنعام (77)
فطلب من ربه الذي لا زال يبحث عنه أن يهديه، ولم ينتظر طويلاً حتى ولى وجهه جهة الشمس ظاناً أنها أكبر:
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
الأنعام (78)
ولما وجد أن الشمس لا تختلف كثيراً عن الكوكب أو عن القمر في الظهور والاختفاء، وجه وجهه جهة ربه الذي لا يغيب:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الأنعام (79)
وقد كانت حكمة الله في أن يمر إبراهيم بكل هذه المراحل ليصل في نهاية المطاف إلى عبادة الواحد الأحد واضحة جلية في قول الله الذي سبق كل هذه المراحل:
وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
النتيجة: لقد كان الشك عند إبراهيم على الدوام سبباً (أو طريقاً) في وصوله إلى اليقين
فكان البحث والتفكر هو أهم سمة تميز هذا النبي الجليل، وقد تعرضنا في مقالة سابقة لنا إلى هذا الموضوع وخلصنا إلى أن إبراهيم هو النبي صاحب الحجة:
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ الأنعام (83)
فإبراهيم لا يمكن أن يرضى بأقل من الحجة، فهو دائم التفكر حتى يصل إلى الدليل (الحجة) التي متى أقامها لا يبقى في قلبه شيء من الشك، فيكون في النهاية من الموقنين.
(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان مقالة في تفضيل بعض الرسل على بعض مع عدم التفريق بينهم)
وقد تكررت قصة الشك عند إبراهيم مع ذلك الذي حاجه في ربه، فإبراهيم يقيم الحجة على الرجل بالقول:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ... البقرة 258
فيرد الرجل عليه الحجة بالحجة:
... قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ ....
فلا يكذّب إبراهيم حجة الرجل، بل يدفع إليه بحجة أخرى أكبر من حجته الأولى:
... قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ
فلا يستطيع الرجل أن يدفع ذلك بحجة أقوى من حجة إبراهيم، فتكون النتيجة
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
إن ما يهمنا من هذا الطرح هو الفهم التالي:
في هذا السيناريو القرآني نجد إبراهيم يستخدم حجة إحياء الموتى ليقيمها كدليل على صحة دعوته، أليس كذلك؟ فيرد الرجل عليه بالحجة نفسها بأنه هو كذلك يحي ويميت، وكان ذلك في الآية 258 من سورة البقرة (دقق عزيزي القارئ جيداً)، ولكن الملفت للانتباه أن إبراهيم في الآية 260 من البقرة ،أي فقط بعد آية واحدة كفاصل بين حجته على الرجل وبين طلبه من الله أن يريه كيف يحيي الموتى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ
فيأتي الرد من الله على طلب إبراهيم موضحاً لنا وجود مقدار من الشك في قلب إبراهيم:
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ
فنحن نظن أن هذا الشك كان مصدره الحجة التي رد بها الرجل بأنه يحيي ويميت ورد بها على حجة إبراهيم بأن الله هو من يحيي ويميت، فلقد أدخلت حجة الرجل شيئاً من الشك في قلب إبراهيم، ونفهم ذلك من قول الحق في رده على طلب إبراهيم، فالله العالم المطلع على القلوب يسأل إبراهيم عن إيمانه بصيغة الاستفسار (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)، فيرد إبراهيم على سؤال ربه، فلا ينكر أن قلبه لم يكن مطمئناً تمام الاطمئنان:
قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ
فيقدم الله الدليل لإبراهيم ليطمئن قلب إبراهيم، وليكون من الموقنين في نهاية رحلة الشك هذه:
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
النتيجة: لقد كان الشك هو سمة بارزة في شخصية نبي الله إبراهيم، وقد كانت رحلة حياته هي رحلة من الشك إلى اليقين حتى توفاه الله بقلب سليم:
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
لنتذكر هذه الفكرة فقد نحتاجها بعد قليل
قصة رسل الله مع نساء إبراهيم
يتحدث النص القرآني عن تصرفات نساء إبراهيم (سارة وهاجر) يوم أن حضر الملائكة إلى بيت إبراهيم بخبر هلاك قوم لوط وبالبشرى بولادة إسحق ومن وراء إسحق يعقوب، ونحن نظن متيقنين أن الفكر الإسلامي قد أخفق إخفاقاً شديداً في فهم هذه الجزئية التي ربما تسعفنا في فهم القصة في إطارها الأوسع. ولنقدم الآيات الكريمة التي تتحدث عن ردة فعل نساء إبراهيم يوم أن حضرت رسل الله إلى بيت نبي الله إبراهيم، لنبين حجم الغلط الذي وقع فيه كثير من علمائنا الأجلاء، محاولين تصحيحه بحول الله وتوفيقه.
فالمتفحص للنص القرآني يجد خطابين اثنين يخصان ردة فعل نساء إبراهيم على زيارة الملائكة والأخبار التي ساقوها إلى نبي الله في بيته، والخطابان هما:
(1) المرأة كانت قائمة
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
(2) المرأة كانت مقبلة
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
إنّ الإخفاق الذي وقع فيه الفكر الديني حتى الساعة يتمثل في عدم التفريق بين هذين الموقفين، واللذان غالباً ما حملا على أنهما نفس الصورة للحدث بتعبيرين مختلفين، ونحن ننكر على علمائنا الأجلاء هذا الفهم ونقدم نظرتنا الجديدة التي نظن أنها أكثر دقة وتميزاً.
رأينا: إننا نظن أن الموقفين هما موقفان مختلفان يصور كل واحد منهما حركة واحدة من نساء إبراهيم، فلقد كانت واحدة منهما قائمة بينما كانت الأخرى مقبلة.
الدليل: إن الدليل الذي نسوقه سهل للغاية يتمثل في أن الموقف الأول يصور المرأة على أنها كانت واقفة بينما يصور الموقف الثاني المرأة على أنها كانت مقبلة
الاستنتاج: كان الموقف الأول يخص واحدة من نساء إبراهيم وهي سارة (أم إسحق التي جاءتها البشرى بالغلام، واقرأ النص ثانية - عزيزي القارئ- لتتيقن من وجاهة ما نزعم:
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
فالمرأة تتحدث عن نفسها، وتتعجب من خبر أن تلد وهي عجوز وبعلها شيخ كبير، فمن تكون إذاً؟
بينما - في المقابل - يصور الموقف الثاني الهيئة التي كانت عليها المرأة الثانية لإبراهيم وهي مقبلة على المكان الذي كان يتواجد به إبراهيم مع رسل الله وامرأته الأولى صاحبة البشرى، واقرأ النص جيداً - عزيزي القارئ- لترى وجاهة ما نزعم:
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
فالمرأة هنا لا تتحدث عن نفسها بل تنكر على امرأة زوجها الأولى (أو ضرتها باللسان الدارج بين الناس) أن تلد، فتنعتها بأنها عجوز عقيم، فما يكون من الملائكة إلا أن ردوا عليها بالقول بأن هذا من أمر الله، فهي حكمته وعلمه اللذان لا يحق لأحد أن يحتج عليهما.
صراع الضرائر: نعم، نستطيع أن نستنبط من هذين الموقفين طبيعة العلاقة التي كانت قائمة بين نساء إبراهيم مع بعضهم البعض، فلقد كانت مبنية – كما في الوضع الطبيعي- على التصادم والغيرة (وربما المكيدة أحياناً).
لنتذكر هذه الفكرة فربما تفيدنا بعد قليل
ردة فعل نساء إبراهيم على ما جاء به رسلُ الله نبيَّ الله إبراهيم
إننا نعتقد جازمين أنّ رسل الله قدموا إلى بيت إبراهيم وهم يحملون رسالتين من ربهم إلى نبي الله إبراهيم، والرسالتان هما:
1. إنزال العذاب على قوم لوط
2. البشرى بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب
ولو تدبرنا ردة فعل نساء إبراهيم على رسائل الملائكة هذه، لوجدنا العجب العجاب.
أولاً، تفرح سارة (امرأة إبراهيم الأولى) بخبر وقوع العذاب على قوم لوط، كلام خطير أليس كذلك؟
ولكن دعنا نقرأ النص القرآني جيداً لنرى بأم أعيننا أن سارة لم تخفي فرحتها بهلاك القوم:
فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
دقق- عزيزي القارئ- جيداً، ثم اسأل نفسك السؤال التالي: لماذا ضحكت المرأة؟
لقد أخفق الفكر الديني إخفاقاً لا مثيل له يوم أن ظن علماؤنا الأجلاء بأن المرأة ضحكت بسبب البشرى بولادة إسحق ومن وراء إسحق يعقوب. فنقول لهم لو تدبرتم النص جيداً، لما وقعنا في هذا الغلط قروناً من الزمن، فالنص يبين لنا أن المرأة قد ضحكت مباشرة بعد أن أخبر رسل الله إبراهيم بأنهم قد أرسلوا لإيقاع العذاب على قوم لوط، وقبل أن تسمع البشرى بإسحق ويعقوب:
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
فالمرأة ضحكت قبل البشرى وليس بعدها، أليس كذلك؟
ولو تدبرنا ردة فعلها على البشرى، لوجدنا المرأة قد تعجبت واحتارت من الخبر، لا بل لقد صعقت، ويكأنها تحاول أن تدافع عن نفسها وعن زوجها:
قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
النتيجة: لقد تمثلت ردة فعل امرأة إبراهيم التي نزل الملائكة في بيتها (وهي سارة) في سلوكين وهما:
1. الضحك (وكان ذلك مباشرة بعد سماعها خبر هلاك قوم لوط وقبل البشرى)
2. التعجب والحيرة (بعد سماعها خبر البشرى)
ثانياً، لو تدبرنا ردة فعل المرأة التي أقبلت (وهي هاجر) أم إسماعيل التي كانت قادمة من بعيد في صرة، لوجدنا أنها لم تفرح بالخبرين، فلقد صكت وجهها بعد أن سمعت الخبرين، لا بل وزادت على ذلك بمحاولتها إيذاء ضرتها بالكلام عندما قالت عنها بأنها عجوز عقيم:
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
نتيجة: لقد نزل الملائكة في بيت المرأة الأولى سارة، وأقبلت المرأة الثانية في صرة، وكانت ردة الفعل عند كل واحدة منهن على ما سمعن من أخبار متباينة، ففي حين أن الفرح كان بداياً على وجه الزوجة القديمة "فَضَحِكَتْ"، كان الوجوم مسيطراً على وجه الأخرى " فَصَكَّتْ وَجْهَهَا":
الأسئلة:
لماذا أفرح خبر هلاك قوم لوط سارة وربما أغضب هاجر؟
لماذا أغضب خبر البشرى هاجر وفاجأ سارة؟
كيف كانت علاقة إبراهيم بنسائه نتيجة هذا الصراع الواضح؟
ما هي تبعات هذا الصراع؟
لماذا حضرت الملائكة إلى بيت إبراهيم ليخبروه بهلاك قوم لوط؟ لم لم يذهبوا مباشرة إلى قوم لوط فيهلكوهم، ثم يأتوا بيت إبراهيم ليبشروه بالمولود الجديد؟
لم كان خبر هلاك قوم لوط مهماً بالنسبة لإبراهيم وأهل بيته؟
ألخ؟
هذا ما سنتناوله بحول الله في الجزء القادم من المقالة نفسها
وللحديث بقية
9 شباط 2011
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
[1] لاحظ أن يعقوب أيضاً هو هبة من الله، فإسحق لم يرزق بأكثر من يعقوب، بالضبط كما الحال بالنسبة لداوود عندما وهب الله له سليمان، لذا فإننا نعتقد أن مشكلة الإنجاب كانت متواجدة عند إسحق كما كانت عند إبراهيم أو عند زكريا أو عند داوود، لكن لا نجد أن الله يتحدث عن أن يوسف –مثلاً- كان هبة من الله ليعقوب، وذلك لأن يعقوب – في نظرنا- لم يكن يعاني من مشكلة الإنجاب، فلقد تحصل له كثير من الأولاد بالطريقة التقليدية الطبيعية.