مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ (3): باب الناقة
خلصنا في الجزء السابق من هذه المقالة عند طرح الافتراض الظني الذي هو - بلا شك- من عند أنفسنا الذي فحواه أن الذي أكل منسأة سليمان كانت دابة واحدة، قامت بعملية أكل حقيقي، فانتهت تلك المنسأة التي كانت تمثل ملك سليمان وسطوته على كل جنده من الجن والإنس والطير، وكان ذلك تحقيقاً ربانياً لدعاء سليمان ربه بأن لا يهب لأحد من بعده ملكاً كملكه:
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ص 35
فكان ذهاب تلك المنسأة – في ظننا- أمراً لا مفر منه، كما كان ظننا أن دابة الأرض التي أكلت تلك العصا ربما هي نفسها الدابة التي ستخرج تكلم الناس (إذا ما وقع عليهم القول) أنهم كانوا بآيات الله لا يؤمنون:
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ النمل 82
وتوقفنا في نهاية الجزء السابق عند طرح التساؤلات التالية:
- ما هي تلك الدابة؟
- من أين جاءت تلك الدابة؟
- وأين ذهبت تلك الدابة؟
لذا سنحاول في هذا الجزء الخوض في ماهية تلك الدابة، سائلين الله أن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه، وأن يعلمنا الحق الذي يجب أن نقوله فلا نفتري عليه الكذب. وفي الوقت ذاته لابد من إعادة جوهر منهجيتنا الذي ترتكز عليه فكرتنا القديمة الجديدة المتمثلة بأن ما نقدمه في هذه السطور لا يعدو أكثر من خيالنا البشري الزائف بما نظن أنه موجود في كتاب الله، فهو غير ملزم لأحد أن يأخذ به ما لم يجد فيه من الوجاهة ما يستدعي الأخذ منه، لذا فإن كل الأفكار التي طرحت سابقاً، والتي ستطرح لاحقاً بحول الله وتوفيقه، ليست أكثر من تصوراتنا البشرية القابلة للأخذ والرد، فنأخذ منها ما يصدّقه كتاب الله، وندع (لا بل) ولنلقي بالباقي الذي لا نجد أن الدليل عليه قطعي من كتاب الله في سلة المهملات.
أما بعد
افتراء من عند أنفسنا: سننطلق بداية من الافتراض النظري التالي: لقد كانت دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان هي نفسها الناقة التي أرسلها الله إلى ثمود (قوم صالح)
الدليل
نحن نفتري الظن أن واحدة من الإشارات القرآنية التي تدعم زعمنا هذا ربما يمكن استنباطها من الآية الكريمة التالية:
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا الإسراء 59
إن أبسط ما يمكن أن نسلط عليه الضوء في هذا السياق القرآني هو الخبر الرباني بأن الناقة التي أرسلها الله إلى ثمود كانت ناقة مبصرة (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)، فما الذي يجب أن نفهمه من هذه الحقيقة القرآنية؟ أو ما معنى أن تكون الناقة مبصرة؟ وهل يسعفنا مثل هذا الظن في فهم ماهية تلك الناقة؟
افتراء مهم جداً وخطير جداً: مادام أن تلك الناقة كانت مبصرة فيستحيل إذاً أن تكون من الأنعام. ولكن لماذا؟
جواب: جاء في كتاب الله بخصوص الأنعام الحقيقة القرآنية التي تشير إليها الآيات الكريمة التالية:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الأعراف 179
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا الفرقان 44
نتيجة: الأنعام كائنات لا تفقه ولا تبصر ولا تسمع (وإن كان لها قلوب وأعين وآذان)
فالأنعام (وهي الإبل والبقر والماعز والضأن فقط) كائنات مذلّلة لا تستطيع أن تميّز بقلبها ولا بأعينها ولا بآذانها، فحتى وإن كانت ترى، فهي ترى كل ما هو موجود أمامها ويكأنه شيئاً واحدا، فهناك فرق بين أن ترى من جهة وأن تبصر من جهة أخرى، فالرؤية لا تعني بالضرورة الإبصار، فكم من الناس راءوا (ويرون) آيات الله بأم أعينهم ولكنهم لا يستطيعون أن يبصروها (أي أن يميزوها عن غيرها). لذا نحن نفتري الظن أن البقر مثلاً لا يستطيع أن يميز بين شخص يقدّم له الطعام وآخر يحمل له السكين ليذبحه بها. ولا يستطيع الإبل أن يميز بين زيد أو عمر، وكذلك الحال بالنسبة للماعز وللضأن. لذا مهما بلغت قدرة الناس على ترويض تلك الكائنات بالتعليم، فلا يستطيعون فعل ذلك مع الإبل والبقر والماعز والضأن على وجه التحديد، ولكنهم ربما يستطيعون (وقد نجحوا فعلاً) أن يفعلوا ذلك مع القطط والكلاب وحتى الأسود والفيلة وذلك لأن هذه الكائنات ليست من فصيلة الأنعام وإنما من فصيلة الدواب التي هي أصلاً أمم أمثالنا لأنها تعقل وتسمع وتبصر.
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الأنعام 38
نتيجة مفتراة: لما كانت الناقة التي أرسلها الله إلى ثمود ناقة مبصرة فإن الاعتقاد عندنا أميل إلى الظن بأنها من فصيلة الدواب وليست من فصيلة الأنعام.
إن طرحنا هذا يثير سيلاً من التساؤلات التي لابد من التعرض لها أولاً قبل المضي قدماً في النقاش الرئيس حول الدابة التي أكلت منسأة سليمان:
- ما هي تلك الناقة التي أرسلها الله إلى ثمود؟
- من أين جاءت تلك الناقة؟
- لماذا أرسل الله تلك الناقة إلى ثمود؟
- ماذا حل بتلك الناقة؟
- الخ
ما هي تلك الناقة المبصرة التي أرسلها الله إلى ثمود؟
جواب: إنها "ناقة الله"، أليس كذلك؟
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ الأعراف 73
وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ هود 64
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا الشمس 13
وهنا نتوقف لنطرح سؤالا جريئا جداً وهو: لم هي "نَاقَةُ اللَّهِ"؟ كيف بالله أن "يكون له" ناقة؟ من أين جاءت تلك الناقة حتى أصبحت نَاقَةَ اللَّهِ؟ لم لم يتخذ الله مم يخلق ما يشاء؟
ألم ينكر الله عليهم أن ينسبوا له الولد؟
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) الصافات
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا الإسراء (111)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) مريم
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا الفرقان (2)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الزمر (4)
السؤال الاستفزازي: كيف بالله الذي ينكر عليهم أن ينسبوا له الولد يقبل أن ينسب لنفسه ناقة لتصبح " نَاقَةَ اللَّهِ"؟ فهل نسب الله لنفسه شيئاً غير تلك الناقة؟
رأينا: لا نظن أن الله قد نسب لنفسه إلا صفات لخلقه (أي صفة يتصف بها عباده كـ عبد الله ورسول الله، وهكذا). ولكن هل هناك شيء محدد بذاته (وليس صفة) نسبه الله لنفسه؟
جواب: إنها الناقة، والناقة فقط.
سؤال: فلم إذاً ينسب الله لنفسه تلك الناقة على نحو (نَاقَةُ اللَّهِ)؟
رأينا: لابد أن لهذه الناقة شأن عظيم يتطلب البحث والتنقيب، لذا نسأل الله أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيرنا إنه هو السميع العليم.
أما بعد،
من أين جاءت تلك الناقة حتى أصبحت ناقة الله على وجه التحديد؟
رأينا: نحن نحمل العقيدة التي مفادها أن كل ما في الكون هو خلق من خلق الله، لذا يستطيع الله أن يتخذ مما يخلق ما يشاء، فلو أراد الله أن يتخذ لنفسه ولداً لاتخذ مما يخلق ما يشاء، ولو أراد أن يتخذ ناقة لاتخذ مما يشاء، ولو أراد أن يتخذ عجلاً لاتخذ مما يشاء، وهكذا. وبناءً على ذلك يمكن أن نقدم الافتراء التالي:
يستحيل أن يتخذ الله لنفسه من تلقاء نفسه شيئاً مم خلق هو بنفسه، فالله لا يتخذ شيئاً لنفسه.
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الزمر (4)
فمن أين إذاً جاءت تلك الناقة حتى أصبحت ناقة الله؟
افتراء خطير خطير خطير: لابد أن تلك الناقة قد قدّمت لله من غيره، فتقبلها الله، لأن الله الذي لا يتخذ يتقبل.
منطقنا: نحن نفتري الظن أن الله الذي خلق كل شيء لم يتخذ مما خلق شيئاً بحد ذاته ليكون خاصاً به، ولكننا نظن أن هناك من قام بتقديم شيء لله فتقبله الله منه، فأصبح ذلك الشيء خاصاً بالله، فالله الذي لم يتخذ ولداً تقبل مريم من أمها التي نذرتها له:
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) آل عمران
فلقد علا شأن مريم لأن الله تقبلها، فأنبتها نباتاً حسناً، وكفّلها زكريا، ونفخ فيها من روحه، فكانت صدّيقة، وكانت هي فقط المؤهلة لحمل المسيح عيسى بن مريم كآية من الله للناس جميعاً.
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن أن الله لم يتخذ الناقة وإنما تقبل الناقة، فما الفرق؟
لمّا كانت الناقة خلق من خلق الله فهو إذاً لن يتخذها من تلقاء نفسه من دون خلقه، ولكن لما كانت الناقة قد قدّمت لله "كهدية" (إن صح القول) من قبل شخص متق لله (كما فعلت امرأت عمران مثلاً)، فقد تقبلها ربها ممن قدّمها له. وعندما يُقدَّم شيء كـ "هدية لله" فإنها بالمنطق الديني وباللفظ القرآني تصبح – حسب ظننا- "قرباناً"، وبهذا ربما لنصل إلى ذروة افتراءاتنا بالقول: لقد كانت الناقة عبارة عن قربان قدّم لله، فتقبله الله ممن قدّمه، فأصبحت منذ تلك اللحظة "ناقة الله".
فمن الذي قدّم الناقة قرباناً لله؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من التأكيد بأن الناقة التي أرسلها الله إلى ثمود كانت موجودة قبل أن يتم إرسالها، والدليل على ذلك – حسب ظننا- موجود في الآية الكريمة التالية:
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ القمر - الآية 27
فنحن نظن أنه حتى يتم إرسال شيء ما إلى مكان ما، فلابد أن يكون ذلك الشيء موجوداً قبل أن تتم عملية الإرسال؛ فعندما يرسل الله أحد رسله إلى أقوامهم يكون ذلك الرسول موجودا قبل لحظة إرساله، وعندما ترسل هدية إلى شخص، فلا تتم عملية الإرسال إلا بعد أن تتوافر تلك الهدية، وهكذا، لذا نحن نظن أنه لما كانت تلك الناقة قد أرسلت إلى ثمود إرسالاً (إِنَّا مُرْسِلُو)، فلابد أنها موجودة قبل عملية الإرسال، فأين يا ترى كانت موجودة.
ثانياً، عندما نخبر بالدليل القاطع من كتاب الله أن تلك الناقة كانت مبصرة فهذا يعني أن إبصارها لم يحدث على انقطاع (إي في فترة زمنية محددة وكفى)، بل كان إبصارها على الدوام بدليل أن اللفظ جاء (كما يرغب أهل اللغة أن يصفوه) على صيغة اسم الفاعل "مُبْصِرَةً":
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا الإسراء 59
فلو جاء اللفظ على صيغة الفعل "أبصرت أو تبصر ونحوهما"، لربما فهمنا أن ذلك الإبصار كان محدداً بزمن معين، ولكن لما جاء اللفظ على نحو أنها مُبْصِرَةً، فهذا يعني أن إبصارها كان على الدوام.
ثالثاً، لما جاء لفظ الناقة بصيغة المعرّف بالـ التعريف (أو ما يرغب أهل اللغة بتسميته بالـ العهدية)، ربما يحق لنا أن نستنبط أن الناقة هي ناقة معروفة للمخاطِب والمخاطَب:
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الأعراف 77
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا الإسراء 59
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ القمر 27
ولم ترد إطلاقاً في كتاب الله على صيغة التنكير أي على نحو "ناقة"، لأنها لو وردت على ذلك النحو، لربما صح لنا أن نزعم أن الله قد بعث ناقة من بين عدد كبير منها، ولكن اللفظ القرآني يشير إلى أنها ناقة محددة معهودة للمخاطِب وللمخاطَب.
نتائج مفتراة
يمكننا أن نخرج من طرحنا السابق بالنتائج التالية حول ماهية الناقة:
1. لم تكن تلك الناقة من الأنعام لأنها كانت مبصرة
2. تلك الناقة كانت موجودة من ذي قبل حتى تم إرسالها
3. تلك الناقة لم يتخذها الله مما خلق لأن الله يقدر أن يتخذ ما يشاء من خلقه
4. تلك الناقة تقبلها الله تقبلاً ممن قدمها له فصارت ناقة الله
5. تلك الناقة لا مثيل لها لأنها ناقة محددة بذاتها بدليل أنها "الناقة"
من أين جاءت تلك الناقة؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أن هذا السؤال "الضال المضل بحد ذاته" يعيدنا على الفور إلى قصة بداية الخلق، لنستذكرها من أولها إلى آخرها باحثين عن من قدّم قرباناً لله فتقبله الله منه، ولابد لنا أن نبحث في الزمن الذي سبق ثمود (قوم صالح)، فالناقة التي أرسلت إلى ثمود لابد – حسب زعمنا – أن تكون موجودة قبل أن يتم إرسالها إلى أولئك القوم، وهذا يدعونا إلى النبش في الزمن البعيد عن تلك الناقة التي قدّمت لله من بعض خلقة فتقبلها الله منهم.
جواب: ربما لن نجد عناءً كبيراً في أن نتذكر قصة ابني آدم (إسرائيل وإدريس) اللذان لجأءا إلى فض الخلاف بينهما بتقديم القربان (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟"):
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
لعل الفكر الإسلامي عندما تصدى لشرح هذه الآية الكريمة لم يتعرض بالتفصيل إلى السؤال الذي لابد من إثارته حول هذه الآية الكريمة وهو: ماذا كانت ماهية ذلك القربان الذي قدّمه ابني آدم بالحق؟
رأينا: نحن نظن أن ذلك القربان كان عبارة عن ناقة
الدليل
لابد من الإشارة أولاً إلى أن القربان يجب أن يكون شيئاً مادّياً ملموساً، فيمكن أن يكون آلهة:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ۖ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ۚ وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
ولأن ذلك القربان يكون شيئاً مادياً ملموساً، فيمكن أن تأكله النار:
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
ولو تدبرنا هذه الآية الكريمة الأخيرة جيداً لوجدنا أنها تؤكد أن القوم يطلبون رسولاً يقدم لهم قرباناً تأكله النار (إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)، وهنا يأتي الرد الإلهي بأن ذلك قد حصل فعلاً (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)، فالآية الكريمة تؤكد بأن تقديم القربان للنار التي تأكله قد جاء فعلاً، فمتى - يا ترى- حصل ذلك؟ أي متى حصلت القصة التي جاءهم فيها رسولاً من ربهم وكان آية نبوته قرباناً تأكله النار؟
إن هذا السؤال يعيدنا مرة أخرى إلى قصة ابني آدم، اللذين قربا قرباناً واحدا، فتقبل الله من أحدهم ولم يتقبل من الآخر:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
وهنا يجب التأكيد على أنهما قربا قرباناً واحداً، فتكون الصورة –في مخيلتنا- على نحو أحد السيناريوهين التاليين:
1. يقدم أحد ابني آدم القربان فيتقبل الله منه ويقوم الآخر بتقديم نفس القربان في وقت آخر فلا يتقبل الله منه
2. يقدم أحد ابني آدم قربانا فيتقبل الله منه ويقوم الآخر بتقديم قرباناً من نفس الصنف في نفس الوقت فلا يتقبل الله منه
ولعل هذا التصور يثير على الفور التساؤل التالي: كيف كانت ماهية التقبل؟ أي ماذا حصل عندما تقبل الله من أحدهم؟ وما الذي حصل عندما لم يتقبل الله من الآخر؟ أو ماذا حصل للقربان في الحالتين؟ وبكلمات أكثر دقة ربما نسأل: كيف كانت آلية التقبل الإلهي للقربان؟
رأينا: لابد للقربان من أن تأكله النار:
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
نعم، ذلك هو في ظننا ما حصل للقربان الذي تقبله الله، فنحن نفتري الظن أنه حتى يتم قبول القربان فلابد من أن يأخذه من كان القربان قد قدّم له، ولمّا كان القربان قد قدّم لله، فلابد أن الله –نحن نزعم الظن- قد أخذ ذلك القربان فكانت تلك العلامة الدالة التي لا جدال فيها أن الله قد تقبل ذلك القربان، ولنحاول تبسيط الفكرة بالمثال التالي (ولله المثل الأعلى):
لو قمت بتقديم هدية لشخص، فكيف تعرف أن ذلك الشخص قد تقبل هديتك؟
جواب: لابد أن يأخذها وتصبح ملكاً له
افتراء: من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أن الله عندما تقبل القربان من ولد آدم الذي قُتِل فيما بعد أخذ ذلك القربان لنفسه، وكانت ماهية ذلك الأخذ بالنار، ونحن نتصور المشهد في مخيلتنا الزائفة على النحو التالي:
يقوم ولدا آدم بتقديم قربان (من نفس الصنف) في نفس الوقت في مكان ما، ويكون ذلك القربان مقدّما لله، ويكون ذلك من أجل فض خلاف نشب بينهما، ولا يختلفان في أن صاحب الحق هو من يتقبل الله قربانه، وما هي إلا لحظات حتى تأتي النار المقدسة فتلتهم قربان أحدهما وتترك قربان الآخر على حاله، فلا يختلف الأخوان في من تقبل الله منه، بل يتوعد الذي لم يتقبل الله منه أخاه بالقتل، فتطوع له نفسه قتل أخيه فيقتله:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) المائدة
ومنذ تلك اللحظة أصبح ذلك القربان الذي قدّم لله خالصاً له (أي ملكاً خاصاً لله) لا يستطيع الآخرون النيل منه.
قصة النار
لعل القارئ الكريم يحاول أن يتقبل مثل هذه الفكرة فتصعب عليه لغرابتها، فتثور لديه تساؤلات كثيرة نذكر منها مثلاً: لماذا النار؟ وأين الدليل أن النار هي من أخذت ذلك القربان؟ وكيف نفترض أنها النار المقدسة؟
جواب: لاشك لدينا أن للنار قدسية خاصة، فإبليس يتكبر على آدم لأن مادة خلقه من نار:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ الأعراف 12
ولا شك أن أمما كثيرة قدّست النار لدرجة الإشراك والعبودية لها. فمن أين - يا ترى- جاءت مثل هذه القدسية للنار؟ وهل يوجد في ديننا مكانة خاصة للنار؟
رأينا: نحن نظن أن السياق القرآني التالي ربما يسعفنا في فهم مصدر القدسية التي أفضاها الكثيرون على النار:
إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) النمل
فها هو موسى يأنس من جانب الطور ناراً، فيذهب إليها تاركاً أهله وحدهم، متعللاً بواحد من سببين:
1. أن يأتيهم منها بخبر (أو أن يجد على النار هدى)
2. أن يأتيهم بشهاب قبس لعلهم يصطلون
وما أن يصل إلى النار حتى يجد أن الله هو من يكلمه تكليماً:
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) القصص
فيطلب من موسى أن يلقي ما في يمينه، فأين يا ترى ألقى موسى ما في يمينه (أي العصا)؟
رأينا: لعل جل الفكر الإسلامي السائد يظن أن موسى قد ألقى ما في يمينه (العصا) على الأرض، ونحن نستميح السادة العلماء العذر لنخالفهم الرأي ظانين أن موسى قد ألقى عصاه (ما في يمينه) في النار وليس على الأرض، فنحن نتصور المشهد على النحو التالي:
يطلب الله من موسى تعليلا عن ما في يمينه:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ
وبعد أن يقدم موسى ذلك التعليل:
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ
يطلب الله منه أن يلقيها:
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ
فما يكون من موسى إلا أن يلقي بتلك العصا – حسب زعمنا- في النار، فتدب الحياة في تلك العصا
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ
ونحن نظن أن الدليل على إلقاء العصا في النار ربما يمكن استنباطه من السياق القرآني التالي:
وَأَلْقِ عَصَاكَ ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ النمل 10
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ القصص 31
فلماذا يا ترى – نحن نسأل- ولى موسى مدبراً ولم يعقب وهو في حضرة الذات الإلهية؟ فما الذي أخاف موسى؟ وهل يمكن أن يخاف موسى (المعروف بجرأته وشدّته) من أفعى أو ثعبان؟ ثم الأهم من ذلك هنا هو لم تحولت العصا كَأَنَّهَا جَانٌّ؟ لم لم تكن كأنها أسد (دابة) أو كأنها طير؟ فما المسوغ أن تكون "جان" على وجه التحديد؟
رأينا: لقد تشكلت عصا موسى على شكل جان لأنها خرجت من النار التي ألقيت فيها، فعندما ألقى موسى عصاه بأمر من ربه في تلك النار، أخذت تهتز وكأنها جان، فكانت على شكل الجان الناري الأمر الذي – برأينا- أخاف موسى فعلاً حينئذ حتى اضطر أن يولي مدبراً ولم يعقب وإن كان في صحبة الوجود الإلهي، ويمكن تصور هذا الفهم لو نحن جلبنا السياق القرآني التالي الذي يؤكد أن الجان مخلوقات نارية:
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
فالجان- ذلك الكائن المخلوق من نار- عندما يهتز، فإن اهتزازه يكون له طابع وشكل يختلف عن اهتزاز غيره، ويمكن لك أن تتصور شكل تلك العصا وهي تخرج من النار ملتهبة وتهتز اهتزاز الجان.
ثانيا، دعنا نستذكر أن الله طلب من موسى أن يأخذ تلك العصا وهي تهتز وكأنها جان، فمن أين أُمِر موسى أن يأخذ تلك العصا؟ وما الذي حدث عندما أخذ تلك العصا؟
رأينا: لقد أقدم موسى على أخذ تلك العصا من تلك النار (أو على الأقل وهي ملتهبة)، وربما من أجل ذلك أصبحت يد موسى – نحن نفتري الظن- بيضاء للناظرين، فلقد اكتسبت يد موسى النورانية من تلك النار مصاحبة للوجود الإلهي، لماذا؟
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
ولا ننسى كذلك أن فكرة الإلقاء في النار هي فكرة متكررة في السياق القرآني:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فصلت 40
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ الملك 8
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن أن النار كانت على الدوام مصاحبة للوجود الإلهي، والنار المصاحبة للذات الإلهية ليست هي النار التي توقد بالنار، ولكنها النور الذي لا يحتاج إلى نار لتوقده، فلقد اتقدت عصا موسى فأصبحت تهتز كأنها جان بسبب تلك النار، واتقدت يد موسى فأصبحت بيضاء للناظرين بسبب تلك النار، وأصبح ذلك القربان الذي قدمه ابن آدم (وتقبله ربه منه) متقداً وكأنه نور (ولو لم يمسسه نار)، لنصل إلى الافتراء التالي:
لقد صار القربان الذي قدّمه ابن آدم وتقبله ربه منه مبصراً – في رأينا- بسبب اكتسابه تلك الخاصية من النار المقدسة التي التهمته، لذا عندما أرسل الله ذلك القربان إلى الناس مرة أخرى، جاء ذلك القربان (الذي نظن أنه ناقة) على شكل ناقة مبصرة بسبب ما اكتسبت من خاصية النور من تلك النار المصاحبة للتواجد الإلهي.
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
رسول الله وناقة الله
عند استعراضنا للآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن الناقة استوقفنا اللفظ بأن رسول ثمود جاء على صيغة "رسول الله"، ولما كانت عقيدتنا الراسخة تتمثل بأن لاشيء جاء في كتاب الله مصادفة، انطلق صاحبي في صناعة الادّكار علي يبحث عن عبارة "رسول الله" على وجه التحديد في كتاب الله كله، فأجائني بالخبر التالي: لم يرد اللفظ "رسول الله" إلا عن صالح "رسول الله إلى ثمود":
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا الشمس 13
وعن موسى:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ الصف 5
وعن عيس بن مريم:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ الصف 6
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا النساء 157
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا النساء 171
وعن محمد:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الأعراف 158
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ التوبة 61
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ التوبة 81
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ التوبة 120
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا الأحزاب 21
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا الأحزاب 40
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا الأحزاب 53
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا الفتح 29
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ الحجرات 3
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ الحجرات 7
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ المنافقون 1
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ المنافقون 5
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ المنافقون 7
وعندها حاولنا طرح التساؤل التالي: لم جاء اللفظ خاصاً بهؤلاء الرسل (صالح، موسى، عيسى ومحمد) فقط على نحو "رسول الله"؟ ولم لم يأتي هذا اللفظ مع إبراهيم أو مع نوح أو مع لوط وغيرهم؟
وبعد جدال طويل خرجنا بافتراءين خطيرين: أولهما، أن هؤلاء الرسل لم تكن لهم ذرية من الذكور ترثهم كما حصل في حالة إبراهيم أو داوود أو زكريا مثلاً. وثانيهما أن ما تركه هؤلاء من ورثة النبوة بقيت علامة بارزة لا تنقضي على مر الزمان، فلقد جاء موسى بالتوراة وهي لازالت متوافرة كآية بينة للناس كافة وكذلك كان الإنجيل الذي آتاه الله لعيسى بن مريم، وأنزل الله القرآن مهيمناً عليهم جميعاً؟
السؤال: إن صحّ منطقنا هذا، فما الذي يكون قد تركه صالح وراءه من أرث النبوة فلم ينقضي مع مرور الزمن حتى استحق أن يكون رسول الله مصاحباً لموسى وعيسى ومحمد؟
رأينا: إنها الناقة. نعم، ذلك هو ظننا، إن "ناقة الله" التي كانت علامة فارقة ومميزة لرسالة صالح لازالت موجودة بيننا لا يمكن أن تزول على مر الزمان، فهي "ناقة الله"، فأين هي تلك الناقة؟
أين الناقة؟
ما الذي حصل للناقة؟ ولماذا بعث الله الناقة إلى ثمود؟
للإجابة على مثل هذا السؤال لابد من التعريج أولاً على قصة ثمود، فلربما نفهم بعض التفاصيل التي ستسعفنا إن صحت في فهم السياق العام للأحداث، وبالتالي ربطها مع بعضها البعض، لنخرج بتصور جديد قد يكون منافساً لما ألفه الناس من أفهام عن أسلافهم.
قصة ثمود
لا شك لدينا أن القرآن الكريم يصور تلك القصة بالتفصيل المطلوب، وكل ما نحن مطالبين به هو محاولة الخوض في تفاصيل تلك القصة، لنقدم للقارئ تصورنا الخيالي لتلك الحادثة العظيمة التي كانت حدثاً مفصلياً في تاريخ البشرية.
أولاً، يصور القرآن الكريم أن رسالة صالح إلى القوم كانت على الفور سبباً في انقسام القوم إلى فريقين متخاصمين:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ النمل (45)
وعلى الرغم من الحجة الواضحة والجهد الصادق الذي يقدمه هذا النبي الكريم لقومه إلا أن القوم ينكرون عليه عمله هذا:
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ۖ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ۚ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) النمل
وهنا تبدأ المحاولة الأولى لإثارة الفتنة في القوم ويكون ذلك عن طريق المفسدين في المدينة (أي البلطجية بلغة المصريين أو الشبيحة بلغة السوريين أو الزعران بلغة الأردنيين والفلسطينين):
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) النمل
وهنا نتوقف لنحاول أن نفهم هذه الجزئية لما سيترتب عليها من فائدة في فهم القصة الكلية للحدث، فنحن نتصور الموقف على النحو التالي: ما أن ينقسم القوم إلى فريقين متخاصمين (وليس إلى فريقين أحدهما مؤمن والآخر كافر) كان أحد الفريقين يدعم فكرة التخلص من صالح ومن معه:
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ۚ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
بينما كان الفريق الآخر (ربما مدفوعا بالحمية والعصبية أو لأي سبب آخر) لا يؤيد هذا الرأي، ويصر على أن صالح من المرجوين بينهم، ولكنهم في شك من دعوته:
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) هود
وهنا ينتهز التسعة رهط (البلطجية الشبيحة الزعران) المفسدون في الأرض آنذاك تلك الحادثة لإثارة الفتنة في البلد بأكملها، فيدبروا الأمر على النحو التالي:
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
فالتبييت – في رأينا- هو تدبير الأمر ليلاً:
ويكون ذلك بالمكيدة على غير الظاهر في أحد البيوت سراً كما في الآية الكريمة التالية:
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا النساء 81
وتكون السرية التامة هي أهم ميزات ذلك الحدث:
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا النساء 108
فيكون ذلك هو المكر الذي قاموا به:
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
ولكن الله لم يكن ليترك رسوله فريسة سهلة لهؤلاء المفسدين في الأرض، فكان مكر الله حاصل وهم لا يشعرون.
سؤال: كيف حاولوا أولئك الرهط تنفيذ مكرهم بصالح وأهله؟
لو تدبرنا السياق القرآني جيداً لربما خلصنا إلى نتيجة مفادها أن هؤلاء التسعة رهط هم من دبروا المكر بصالح وأهله ولكنهم ربما لم يكونوا هم المنفذون له، وهذا واضح من السياق القرآني نفسه:
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
فهم يريدون إيقاع المكر بصالح وأهله ولكن دون أن يكونوا هم شاهدين على الحدث بأم أعينهم حتى تكون الحجة لهم بالبراءة من تهمة الإيقاع بصالح وأهله، وحتى يبرروا موقفهم أمام ولي صالح متى ما حاول الأخذ بالثأر ممن مكر به (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ)، ويكون ذلك من باب الصدق فعلاً (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ). فهم إذاً لا ينوون تنفيذ مكرهم بأيديهم (أو على الأقل بأهل صالح). لأن ولي صالح ما كان سيسمح بأن يستباح دم صالح وأهله رخيصاً على أيدي القوم. وهذا يدلنا على أن صالح لم يكن له والد يدافع عنه، ولكن كان هناك ولي له يحميه ممن يعتدي عليه، فالولي هو من يتولى الحماية، وليس أدل على ذلك من الله نفسه الذي هو ولي الصالحين:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ البقرة 257
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة 282
ولكن الولاية لا تكون فقط للمؤمنين، فقد تكون لغير المؤمن وقد تكون للشيطان نفسه:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ البقرة 257
إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ آل عمران 175
فكان ظن القوم أن ولي صالح ربما يقتص ممن قتله إن هو اكتشف أمرهم:
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا الإسراء 33
لذا نحن نتصور أن هؤلاء النفر ربما قاموا باستئجار من ينفذ مكرهم بصالح وأهله (أو على الأقل بأهل صالح) نيابة عنهم، أو ربما أنهم قد خططوا الأمر على نحو أن يقع المكر بصالح وأهله دون حضورهم حتى لا يشهدوا الحدث بأم أعينهم، ليكون ذلك حجتهم قوية لتبرئتهم من الجريمة أمام ولي صالح:
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
فكيف تم تنفيذ الأمر؟
نحن نفتري الظن أنه بإمكاننا أن نستنبط الصورة من السياق القرآني التالي:
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ القمر 29
فلقد قاموا بالمناداة على صاحبهم، فمن هو صاحبهم ذاك الذي نادوه؟
رأينا: إنه صالح لأن صاحب القوم في السياق القرآني هو رسولهم الذي أرسل إليهم:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ الأعراف 184
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ سبأ 46
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ النجم 2
وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ التكوير 22
ربما نستطع أن نستنبط من السياقات القرآنية هذه أن صاحب القوم هو رسولهم الذي أرسل إليهم، لذا، نحن نتخيل أن أولئك الرهط قاموا بمناداة صالح إلى مكان معين حتى سيتم تنفيذ المكر به، وتم ترتيب الأمر على أن يتم المكر بأهله في مكان آخر، حيث لا يكون هؤلاء الرهط حاضرين هناك بأنفسهم، ليكون كما ذكرنا آنفاً دليلاً على تبرئتهم من المكر بأهل صالح الذين ستولى ولي صالح الدفاع عنهم (وربما الأخذ بثأرهم ممن اعتدى عليهم). فلقد دبر الرهط المكر على نحو أن يكونوا متواجدين في مكان فيه من الشهود ما يثبتون أنهم صادقون بأن أيديهم لم تقترف جريمة المكر بأهله، فلا شك أنه ما أن تقع جريمة في بلد ما حتى تكون الشكوك تحول في بداية الأمر حول المفسدين في الأرض (البلطجية الشبيحة الزعران).
نتيجة: لو دققنا في السياق القرآني لوجدنا أن المناداة على صالح قد تمت من قبل مجموعة بدليل ضمير الجمع مع فعل المناداة:
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ القمر 29
ولكن لو تقدمنا في السياق القرآني نفسه لوجدنا أن صالح هو من قام بفعل التعاطي وهو من عقر (انظر لحركة الضمائر في الآية الكريمة):
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ القمر 29
فكيف تعاطى صالح؟ وكيف عقر؟
لاشك أن صالحاً بتأييد من ربه استطاع أن ينفذ من تلك المكيدة، فالتسعة رهط الذين مكروا بصالح لم يكونوا حاضرين في المشهد، لذا لابد أن صالحاً أخذ وتعاطى مع من كان ينوي القيام بالفعل، فما معنى أن يتعاطى؟
نحن نظن أن فعل التعاطي يدل على المشاركة والتفاعل، لذا لابد أن صالحاً قد قام بفعل فيه مشاركة وتفاعل مع من أراد تنفيذ المكر فيه. ولربما يمكن تخيل المشهد على النحو التالي:
يستأجر الرهط من يقوم بتنفيذ الفعل نيابة عنهم، ولا يكونوا حاضرين وقت تنفيذ الفعل ليشهدوا ذلك بأم أعينهم، فما يكون من صالح إلا أن يتعاطى (أي "يعقد صفقة") مع من جاء لينفذ المكر به، وذلك بإعطاءه ما يمكن أن يرده عن قتله، فلا شك أن الرهط قد استأجروا "القاتل" بالمال أو بأي وسيلة مغرية له، وربما يكون صالح قد قدم له ما يثنيه عن النيل منه ، فيكون بذلك قد "تعاطى" ما يمكن أن يغري الماكر بالعدول عن الظفر منه، وربما حصل ذلك شريطة أن لا يبقى صالح متواجداً في المكان حتى يثبت القاتل لمن استأجره بأنه قد قام بتنفيذ مهمته بكل دقة وإتقان، وهنا يقوم صالح بفعل "العقر":
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ القمر 29
فكيف عقر صالح؟
لقد تعرضنا إلى قضية العقر ومشتقاتها (العقور والعاقر) في أكثر من مقالة سابقة خاصة عند الحديث عن امرأة زكريا، ولا نجد ضيراً أن نعيد جزءً من النقاش هنا لتسليط الضوء مرة أخرى على معنى المفردة قيد الدراسة.
أما بعد،
ترد لفظة عاقر على لسان نبي الله زكريا ثلاث مرات في كتاب الله:
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ آل عمران 40
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا مريم 5
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا مريم 8
وغالباً ما درج الفكر الديني السائد على الاعتقاد بأن نبي الله زكريا يصف امرأته أنها عاقر لأنها لا تنجب، وقد تساءلنا حينئذ عن كيفية معرفة نبي الله زكريا بأن مشكلة عدم الإنجاب تقع على عاتق امرأته وليس بسببه هو شخصياً، وطرحنا التساؤل التالي: إذا كان فعلاً يعتقد أن المشكلة في زوجته، فلم لم يقم بالزواج من غيرها لتتحصل له الذرية مادام أن رغبته في الذرية ملحّة كما تظهرها السياقات القرآنية الكريمة؟
وخلصنا إلى الافتراض بأنه من المستحيل أن يقوم نبي الله زكريا باتهام امرأته بمثل هذه التهمة الكبيرة إن لم يكن على يقين منها، فنحن لا نفترض أن فحوصات الحمل والإنجاب كانت متوافرة زمن ذلك النبي الكريم، لذا ظننا أن المشكلة تكمن في فهمنا لمفردة "عاقر" التي وردت على لسان هذا النبي الكريم ليصف امرأته آنذاك، وزعمنا القول أنه من المستحيل أن تكون لفظة "عاقرا" تحمل معنى المرأة التي لا تنجب الولد كما فهم سادتنا أهل العلم والدراية، وذلك بدليل أن عدم الإنجاب ورد في كتاب الله بصيغة "عقيم"، وكان ذلك على لسان امرأة إبراهيم:
الفرق بين العاقر والعقيم
إن هذا الظن يدعونا إلى ضرورة التمييز بين أن تكون المرأة عاقر من جهة (كامرأة زكريا) وأن تكون عقيم (كامرأة إبراهيم). فما هي المرأة العاقر؟ وما هي المرأة العقيم؟
رأينا: نحن نظن أن مفردة "عقيم" هي التي تحمل معنى عدم الإنجاب بدليل قوله تعالى:
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ الشورى - الآية 50
لذا يبقى السؤال قيد البحث مطروحا وهو: ما معنى العاقر؟
لو استعرضنا السياقات القرآنية التي تتحدث عن الجذر "عقر" لوجدنا أنفسنا نقرأ آيات الله الكريمة التي تتحدث عن ناقة الله التي أرسلها إلى ثمود (قوم صالح):
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الأعراف 77
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ هود 65
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ الشعراء 157
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ القمر 29
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا الشمس 14
فالقوم هم من قاموا بعقر الناقة حتى كانت الناقة قد "عقرت"، لذا فهي "عاقر"، فكيف عقر القوم الناقة؟ وكيف أصبحت الناقة عاقر؟ وما علاقة ذلك بقصة زكريا؟ وما هو الرابط بين قصة امرأة زكريا وناقة الله إلى ثمود؟
رأينا: نحن نفهم أن الله قد أمر القوم بأن لا يمسوا الناقة بسوء، فما يكون منهم إلا أن يعقروها، لذا يمكننا أن نستنبط أن العقور هو المس بالسوء، ولكن ما هو السوء الذي مسوها به؟
رأينا: يستحيل أن يكون القوم قد ذبحوا الناقة لأن مفردة الذبح وردت في كتاب الله خاصة عند الحديث عن فرعون يذبح أبناء بني إسرائيل:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ البقرة 49
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ إبراهيم 6
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ القصص 4
ووردت عند الحديث عن ذبح البقرة:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ البقرة 67
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ البقرة 71
ووردت عند الحديث عن الذبح على النصب:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المائدة 3
وجاءت عند الحديث عن سليمان وهو يتوعد الهدهد بالذبح:
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ النمل 21
وجاءت كذلك عند الحديث عن عن رؤيا إبراهيم بأنه يذبح ابنه:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ الصافات 102
ولا نظن أيضاً بأن القوم قد قتلوا الناقة لأن مفردة القتل قد وردت كثيراً خاصة عند الحديث عن قصة قتل الأخ أخوه:
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ المائدة 30
فكيف إذاً عقر القوم الناقة؟
نحن نظن أنهم ما فعلوا أكثر من إبعادها من الديار، فالقوم كانوا مأمورين بقسمة الماء، أليس كذلك؟
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ۖ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ القمر 28
فكانت الناقة تشرب (لنقل) طيلة أيام الأسبوع وكان القوم يشربون في يوم واحد فقط:
قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ الشعراء 155
فلو دققنا جيداً في هذا النص نفسه لوجدنا أن قسمة الماء كانت تتم على نحو أن تشرب الناقة متى تريد، فشربها ليس محدد بزمن (لَّهَا شِرْبٌ)، ولكن شرب القوم كان محددا بزمن يوم معين (شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ)، وقد أمر الله القوم أن يذروا الناقة تأكل في أرض الله كما تشاء، فلا يمسوها بسوء:
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ الأعراف 73
وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ هود 64
نتيجة: لقد جاء الأمر الإلهي للقوم على نحو أن تشرب الناقة وأن تأكل كما تشاء فلا يمسوها بسوء، ولمّا كنا نؤمن إيماناً مطلقاً بأن الناقة كانت فتنة للقوم:
كان الهدف هو أن يميز الله الخبيث من الطيب، فلم تستطع الغالبية العظمى من القوم تحمل تلك الفتنة، فما صبروا على وجود الناقة والتعايش معها بهذه الطريقة، ولمّا كانت تلك الناقة مبصرة، ولما كانت تلك الناقة هي "ناقة الله"، لم يستطيع القوم أن يذبحوها أو أن يقتلوها، وجل ما فعلوا هو أنهم منعوها عن المكوث في الديار.
نتيجة مفتراة: العاقر هي التي تخرج من ديارها
عودة على بدء
لما كانت امرأة زكريا عاقر، فهي إذا كانت متواجدة خارج بيتها، أي لقد كانت شاردة من بيت زوجها (أو حردانة بمنطق نساء قومي). وكان هذا هو سبب استغراب زكريا من الله أن يبشره بيحيى، فقال مستغرباً:
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا مريم 8
لذا جاء الخطاب الرباني في موقع آخر من كتابه الكريم ليؤكد حدوث الصلح بين زكريا وزوجته التي تمكث الآن خارج بيته:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ الأنبياء 90
فكيف أصلح الله لزكريا زوجته؟
لو تفقدنا السياقات القرآنية التي تتحدث عن الصلح بين الزوجين لوجدنا على الفور قول الحق:
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة 228
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا النساء 35
لقد أراد زكريا (وهو البعل) أن يتمتع بحقه في رد امرأته إلى بيته (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا)، فوجدها راغبة في الإصلاح بعد أن بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا)، ولما كانت إرادة الإصلاح متوافرة عند الطرفين، كان التوفيق من الله على الفور حاصلا (إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا). فما عادت تلك المرأة عاقراً بعد اليوم، فجاء اللفظ عنها للمرة الأولى تحت لفظ "زوجه" بعد أن كان اللفظ قبل هذه اللحظة يأتي على الدوام على صيغة "امرأته". لقد أصبحت زوجة له بعد أن كانت مجرد امرأة له (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: ماذا ستفعل النساء في الجنة؟)
عودة على بدء
بعد أن أدرك صالح مؤامرة التسعة رهط (البلطجية الشبيحة الزعران)، وربما بعد أن أبرم صفقة مع من استأجروه للنيل منه، ما كان منه إلا أن عقر:
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ
فيكون صالح قد خرج من بين القوم بعد أن أنجاه الله منهم:
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ
نتيجة مفتراة: بعد أن عقر القوم الناقة (أي أجبروها على الخروج من المكان)، دبر تسعة رهط في المدينة (البلطجية الشبيحة الزعران) المكيدة لصالح، ما كان من صالح إلا أن يتعاطي (أي يتحايل على مكيدتهم إن صح القول) بأن عقر من المنطقة حتى جاء وعد الله، ولم يكن ذلك أكثر من فترة زمنية محددة لا تتجاوز ثلاثة أيام:
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
افتراء خطير جداً جداً: نحن نظن أن من عقر لا يغيب طويلاً، فامرأة زكريا كانت عاقر لأنها بعد أن خرجت فترة من الزمن عادت إلى بيت زوجها مرة أخرى، وكذلك بعد أن عقر صالح لابد أنه عاد إلى المكان ليطلع على ما حل به:
فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) الأعراف
ويبقى السؤال الأكثر إثارة هو: بعد أن عقرت ناقة الله، متى ستعود؟
إن أذن الله لنا بشيء من علمه، فإن للحديث بقية
المدّكرون رشيد سليم الجراح
علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
22 تشرين أول 2012