قصة يوسف 2: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
حاولنا
في الجزء السابق من هذه المقالة تقديم إجابتنا المفتراة على السؤال الذي أثرناه في بدايتها وهو: لم كانت قصة يوسف على وجه التحديد هي أحسن القصص كما جاء في قوله تعالى:
الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) يوسف 1-4
وخلصنا إلى الظن الذي مفاده أن قصة يوسف هي وحدها من بين جميع القصص القرآني جاءت دفعة واحدة في مكان واحد، فلم يجري عليها تعديل أو تحسين في أي مكان آخر من كتاب الله كما هو الحال مثلا بالنسبة لقصة موسى التي وردت في سياقات قرآنية متعددة كان كل سياق يختلف عن غيره بعض الشيء، وكان لزاما أن تكمل جميع السياقات الخاصة بقصة موسى بعضها البعض ليتم فهم القصة على أصولها، وكذلك هو الحال بالنسبة لقصة نوح أو شعيب أو إبراهيم، ولكن قصة يوسف هي القصة الوحيدة التي جاءت بنسختها الأولى والنهائية في مكان واحد، فاستحقت بذلك – نحن نفتري الظن- أن تنعت بلفظ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.
وسنتابع في هذا الجزء من المقالة الحديث عن تفاصيل تلك القصة الأحسن طارحين تساؤلات جديدة. وسنحاول في هذا الجزء من المقالة طرح التساؤل المثير التالي: لماذا نزل القرآن الكريم عربيا؟ وما علاقة ذلك بقصة يوسف؟
أما بعد،
السؤال الأول: لماذا ارتبط فهم قصة يوسف بعربية القرآن الكريم كما جاء في بداية قصة يوسف؟ وهل لو نزل القرآن بلسان غير اللسان العربي كان من الممكن أن يؤثر على "تعقلنا" لقصة يوسف مثلا؟
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
جواب: نحن نرى بداية ضرورة التفريق بين الكتاب من جهة والقرآن من جهة أخرى، فلقد زعمنا في مقالات لنا سابقة أن الكتاب هو النسخة الأصلية لقول الله الأزلي، أما القرآن فهو النسخة العربية من ذلك القول كما فصله (أي ترجمه) النبي محمد بلسان قومه (لماذا قدم نبي الله لوط بناته بدلا من ضيوفه من الجزء الحادي عشر). ولا أرغب العودة إلى ذلك الموضوع هنا ولكني أود الإشارة فقط إلى قضية جديدة نظن أننا نتخذ منها موقفا عقائديا ربما يختلف (بشكل جذري) عن مجمل الفكر السائد حولها عند أهل الدراية والرواية من أبناء المسلمين، والمسألة هذه تتعلق بالهدف من أن يكون القرآن عربيا. فهل في هذا مدحا للعربية؟ وهل في هذا تفضيل لأهل هذا اللسان على غيرهم من أمم الأرض؟ وهل يجدر بأبناء العربية أن يتخذوا من ذلك موقفا عقائديا يميّز لغتهم عن لغة غيرهم؟
الفكر السائد: لعل الجميع يدرك جل ما جاء في هذه القضية في مؤلفات أهل العلم خاصة أصحاب اللسان العربي منهم، فأهل العربية (عالمهم و متعلمهم) قد تطيّروا بعربيتهم لأنها في ظنهم هي من حملت كلمات الله، فتغنى بها شعراؤهم، و امتدحها خطبائهم على المنابر في كل المحافل، فظن العامة منهم أن في هذا تميّزا لهم على غيرهم من الأمم، (فهم بالإضافة إلى أنهم يحمدون الله أن ولدوا بين المسلمين – ولا أعرف ما ذنب غيرهم أنه قد ولد في غير أهل الإسلام - فلسان حال العربي منهم أنه يحمد الله كذلك أنه عربي من أهل اللسان الذي جاء القرآن بلغتهم، فلربما شعر بشيء من التميّز على غيره من أبناء المسلمين اللذين لا يتكلمون اللسان العربي، لا بل وتنامى الشعور عند البعض أن من الخير أكثر أن يكون من أهل جزيرة العرب، وربما يزيد الخير إن كان من أهل مكة أو من بطن من بطونها، وربما يصل الحال أن تكون الخيرية في عائلة من بين كل أولئك – من يدري!!!).
رأينا: نحن نتخذ الموقف العقائدي الذي مفاده أن الله عادل لا يحابي أمة على حساب أخرى، لمجرد أن تأتي كلماته بلسانهم. لأنه إنْ كان الأمر على هذه الشاكلة، فقد سبقنا إلى تلك الخيرية أمم كثيرة، ولأصبحنا نحن آخر أمة يحق لها أن تتباهى بذلك. لكن السؤال الذي لا يجب أن يُغْفَل عنه عن قصد أو عن غير قصد هو في ظننا: هل مجيء التوراة باللسان العبراني تفضيل لتلك الأمة على غيرها؟ وهل في ذلك تفضيل للسان العبراني على غيره من الألسنة في ذلك الزمان؟ وهل إن كان الإنجيل قد نسخ باللسان الآرامي، هل في ذلك تفضيل لتلك اللغة على غيرها، ولأهل ذلك اللسان على غيرهم؟ فإن كانت الإجابة بالإيجاب، فنحن العرب إذن نكون آخر تلك الأمم في ذلك التكريم الرباني الذي نظن أنه مفترى. وإن كانت الإجابة بالنفي، فليس لنا حق إذن أن نتفاخر على غيرنا بذاك اللسان.
لكن هذا الطرح لا يحل إشكالية السؤال نفسه وهو: ما الحكمة أن يكون القرآن عربيا إذن؟
رأينا: نحن نرى أن الإجابة متوافرة في تكملة الآية الكريمة نفسها التي جاءت لتتحدث عن قصة يوسف، فانظر – عزيزي القارئ- الآية جيدا:
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
نعم هو كذلك: لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
وهنا سيظن البعض على الفور أن في هذا انتصار لموقفهم السابق، وأن في هذا تفضيل للسان العربي، ولكننا نستدركهم على الفور بطرح السؤال المباشر التالي: على ماذا يعود ضمير الجمع الغائب في مفردة لَّعَلَّكُمْ في الآية الكريمة نفسها؟ فمن هم الذي يمكن أن "يعقلون"؟ هل تعود مثلا على العرب أهل اللسان العربي فقط؟
جواب: كلا وألف كلا، فكلام الله موجه للناس كافة:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
ولا ننسى أيضا أن التحدي بالقرآن الكريم جاء للجن والإنس جميعا بغض النظر عن لسانهم:
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
لذا يأتي طرح السؤال نفسه مرة أخرى على النحو التالي: من الذي سيعقل القرآن الكريم بلسانه العربي؟ هل العرب فقط هم اللذين يستطيعون ذلك؟ وهل العرب من يجب أن يعقلوا كلام الله أولا، ليتولوا هم بعد ذلك مهمة نقله إلى الأمم الأخرى؟ فهل يجب أن يأتي فهم البشرية (الناس كافة) للقرآن الكريم من خلال أهل اللسان العربي (أي العرب)؟
إن هذا الظن هو ما دفع – في رأينا- كثير من أهل العلم إلى اشتراط توافر عنصر المعرفة باللغة العربية (لا بل وإتقانها) لمن أراد الاجتهاد في كتاب الله، ويكأن لسان حالهم يقول "أنك لا تستطيع أن تعقل ما في كتاب الله إن لم يكن لسانك عربيا، لا بل ما لم تكن متقنا للعربية وفنونها"، أليس كذلك؟ ويكأن لسان حالهم يقول بأن التصدي لمهمة فهم كتاب الله يجب أن تمر لزاما من خلال أهل اللسان العربي، ويكأنهم هم الواسطة بين كتاب الله والبشرية، ويكأنهم مكلّفون كرسل لينقلوا ما في كتاب الله إلى البشرية، ويكأنهم يظنون أن الناس كافة يجب أن ينتظروا ما تجود به عقول أهل اللسان العربي من فهم لكتاب الله.
إذن، ها هو العالم بأكمله في مرحلة انتظار منذ أربعة عشر قرنا من الزمن، والنتيجة ... . من يدري!!!
رأينا: نحن نرفض مثل هذا الموقف جملة وتفصيلا لظننا بأن ذلك يجعل أمر الاجتهاد والاشتغال بعلوم القرآن الكريم محصورا على أمة بعينها، لتبقى الأمم الأخرى تابعة مقلدة، تأخذ ولا تعطي، كما نعتقد جازمين أن مع مثل هذا الواقع (إن صح) ينتفي العدل الإلهي، فلو كنت أنا نفسي من أمة لسانها غير العربي لما قبلت بذلك إطلاقا. فما قيمة المسلم الهندي والصيني والأمريكي والتركي و...، إلخ إن بقي عملهم مختصرا جله على ما يتلقّونه من أهل اللسان العربي. أليس في ذلك تضيق على أمم الأرض؟ وأليس في ذلك تحفيز لفكرة أن القرآن الكريم خاص بأمة وبثقافة محددة بعينها؟ ألم ينفر بشر كثيرون من كتاب الله لظنهم أن هذا من ثقافة أهل الصحراء؟ ألم يصوّر الكثيرون القرآن على أنه ليس أكثر من كتاب يروي "بعض تاريخ" أمم محددة بمنطقة جغرافية بعينها؟ ألم يتوصلوا إلى النتيجة التي مفادها ما دام أن القرآن هو كذلك، فهو لا يعنيهم بأي حال من الأحوال؟
السؤال: من الذي أوصل الناس كافة إلى مثل هذه الأفهام التي هي – في ظننا - لا شك مغلوطة للسبب البسيط وهو أن هذا القرآن جاء للناس كافة وأن الرسول الذي جاء به قد أرسله الله رحمة للعالمين؟
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
الفهم البديل المفترى من عند أنفسنا: أولا، نحن نردد بداية موقفنا العقائدي الثابت بأن ليس هناك لغة على وجه الأرض يمكن أن تتسع لكلمات الله مصداقا لقوله تعالى:
قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا
الكهف (109)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لقمان (27)
لذا نحن نتجرأ على تقديم النتيجة المفتراة من عند أنفسنا التالية: نحن نظن أن لا العربية (ولا أي لغة بشرية أخرى) تستطيع أن تحتوي كلمات الله، لذا لا يحق للعرب أن يتغنوا بأن لغتهم قد وسعت كتاب الله لفظا وغاية كما رددها أحد شعراءهم في مدحه للغته العربية (كما أحفظه أنا منذ الصف الثاني أو الثالث الإعدادي ب):
وسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن آي به وعظات
ثانيا، نحن نظن أن أي كتاب سماوي (بما فيها القرآن) يأتي بلسان قوم الرسول الذي بعثه الله فيهم:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
نتيجة مفتراة: لذا جاء القرآن عربيا لأن الرسول الذي بعثه الله فينا كان عربي اللسان، وليس في هذا تفضيل للسان ذلك الرسول على لسان غيره، فلقد جاءت رسالات الله بألسنة رسله الكثيرين:
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
ولمّا كانت كل أمة قد خلا فيها رسول، تتساوى جميع الأمم في ذلك:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
فلا تفاخر للأمم على بعضها البعض من هذا الجانب، لأننا لو تفاخرنا على غيرنا، لحق لغيرنا أن يتفاخر علينا، وعندها سيقع الجميع في فلسفة مفادها (أنني ملاك سماوي وغيري شيطان رجيم).
نتيجة: لقد جاء كل رسول (بمن فيهم محمد) برسالة صاغها بلسان قومه، باستثناء عيسى بن مريم فقط وذلك لأن عيسى لم يكن له قوم، فعيسى جاء رسولا إلى بني إسرائيل ولكنه لم يكن من بني إسرائيل، فهو بظننا لم يتحدث لغة بشرية إطلاقا (انظر سلسلة مقلاتنا كيف تم خلق عيسى بن مريم).
ثالثا: كان الرسول هو من يتولى مهمة نقل الرسالة إلى الناس بلسانهم، وهذا يعني بمفرداتنا البسيطة أن الرسول كان يتلقى الرسالة كما هي في نسختها الأصلية (قول رباني) كما تشير الآيات الكريمة التالية التي جاءت في بداية سورة الشورى:
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
ثم يقوم الرسول نفسه (بما علّمه ربه) بتحويل تلك الشيفرة الإلهية إلى لغة بشرية بلسان قومه. فالقرآن مثلا نزل على قلب محمد بتلك الصيغة الإلهية الأصلية (حم (1) عسق (2))، وتولى محمد بنفسه مهمة نقل تلك الصيغة الإلهية إلى النسخة العربية منها، فكان ذلك هو – في رأينا- تفصيل الكتاب بلسان عربي:
حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
فالتفصيل هو إذن – كما نفهمه بالطبع- تحويل الكلمات من لغة إلى لغة أخرى، وهذا المعنى ربما يمكن استنباطه من السياق القرآني التالي:
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)
والآية الكريمة تشير صراحة إلى أن قضية تفصيل القرآن أعجمي أو عربي ليست بالأمر الفصل، لأنه بأي حالة كان، فهو هدى وشفاء (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء)، ولكن بالنسبة للذين لا يؤمنون بغض النظر عن لسانهم الأم فإن الوقر مستحكم في أذنيهم، وهو لا شك عليهم عمى (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، لذا لن يستطيعوا الوصول إلى معانيه مهما بلغوا من الفصاحة، ولو كان الأمر يحسمه التحكم بناصية اللغة لكان أبو جهل وأبو لهب وأمية بن خلف وسهيل بن عمر أولى بالإيمان به من سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي. فالقرآن كان هدى لسلمان وصهيب وبلال (على عجمتهم)، ولكن لسان حال أبو جهل وأبو لهب وأمية بن خلف وسهيل بن عمر فإنه سيكون على النحو التالي:
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
فهؤلاء (على فصاحة لسانهم) إلا أنهم لا يعقلون باعترافهم أنفسهم.
وبهذا المنطق المفترى من عند أنفسنا يمكننا أن نفهم بعضا من قدر الرسول الذي بعثه الله فينا، فالله لا يبعث رسولا إلا إذا كان ذلك الشخص المبعوث للناس رسولا يستطيع الاضطلاع بمهمة خاصة وهي مهمة تفصيل الكتاب، أي يستطيع أن يستوعب الكتاب بنسخته الإلهي الأصلية:
(حم (1) عسق (2) الشورى
وهذه هي لغة الوحي:
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) الشورى
ثم تكون مهمة ذلك الرسول أن يبيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم بلغة قوم ذلك الرسول:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
ويستطيع الرسول القيام بذلك بما علمه الله من الذكر (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ)، فيقوم ذلك الرسول بتفصيل (أي ترجمة) لغة الوحي إلى لغة بشرية. وهذه مهمة لا نظن أنه يستطيع القيام بها إلا رجالا من أمثال محمد. فالشرط الرئيس لقبول طلب من تقدم إلى شغر وظيفة رسول من الله إلى قومه هو أن يثبت أنه يستطيع فهم لغة الوحي وتفصيلها إلى لغة بشرية، وهذا لا شك باب من العلم عظيم:
وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
السؤال: لماذا محمد؟ لماذا موسى؟ لم لا أستطيع أنا أو أنت الاضطلاع بتلك المهمة؟ ولم لم يجتبينا الله لتلك المهمة؟ ولم اجتبى الله محمدا وأمثال محمد ممن سبقه من الرسل؟
جواب: نحن نظن أن الجواب يمكن في فهم ماهية التعقل؟ من الذي يستطيع أن يعقل ما جاء في كتاب الله؟
جواب: نحن نفتري القول أن الذي يستطيع أن يعقل ما في كتاب الله هو القلب وليس اللسان، فصاحب القلب السليم هو من يستطيع أن يعقل ما في كتاب الله وليس بالضرورة أن يستطيع القيام بذلك من كان لسانه سليما (أو فصيحا)، لذا من أراد أن يضطلع بمهمة الرسول مثلا، فعليه أن يكون قلبه كقلب محمد. فالمشكلة تكمن في القلب الذي يعقل:
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25)
فلكي يتم تعقل ما في هذا الكتاب فلابد من تزال الأكنة عن القلب، وهي ما يحجز الذين لا يؤمنون عن فهم ماهية ما في ذلك الكتاب. لذا فإن الذي استطاع أن يزيل تلك الأكنة عن قلبه هو من يستطيع أن يتصدى لتلك المهمة العظيمة. فالدعوة لدينا هي أن ننقل مهمة فهم هذا القرآن الكريم من بين أيدي أصحاب اللسان الفصيح إلى أيدي أهل القلوب التي تعقل وإن لم تكن ألسنتهم فصيحة.
(دعاء: اللهم رب العرش العظيم اكشف الأكنة عن قلبي لأعلم كيف فصّلت آيات الكتاب قرآنا عربيا، وأسألك ربي وحدك أن تنفذ قولك بمشيئتك وإرادتك لي الإحاطة بشيء من علمك لا ينبغي لغيري إنك أنت العليم الحكيم)
سؤال: وكيف يختلف قلب محمد عن قلبي وعن قلبك أو عن قلب أي شخص آخر؟
جواب: نحن نظن أن الإجابة على ذلك تكمن في جلب سياقين قرآنيين معا، ثم لننظر إلى الأمر من خلال مجمل ما يمكن أن نفهمه منهما معا، لذا حاول عزيزي القارئ أن تتدبر السياقين التاليين معا:
لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)
فما الذي يمكن أن نستنبطه من وضع الآيتين جنبا إلى جنب؟
رأينا: لقد كان قلب محمد أشد تحملا من الجبل. فالذي نزل على قلب محمد لو أنه نزل على جبل لتصدع ذلك الجبل من ثقل ما حُمِّل.
نتيجة: إن من أراد أن ينزل على قلبه كلام من ربه، فيجب أن يمتلك قلبا يزيد في قدرة تحمله على الجبل وذلك لأن كلام الله لا شك ثقيل:
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
ونحن نظن أن في هذا إشارة واضحة إلى تميّز شخص الرسول عن غيره من البشر، فالرسول ليس مجرد ساعي بريد (جو- أرض) ينقل رسالة من مصدر إلهي إلى نهاية أرضية. لا بل فهو متصرف بتلك الرسالة بطريقة لا يستطيع غيره القيام بذلك التصرف.
الدليل
نحن نظن أن الدليل على افترائنا هذا يأتي من المشاهدة البسيطة بأن الرسول قد أكتسب صفة المبعوث علاوة على صفة الرسول:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)
السؤال: كيف يكون الرسول مبعوثا؟ أو كيف يكون المبعوث رسولا؟ وما الفرق أصلا بين الرسول من جهة والمبعوث من جهة أخرى
معنى أرسل مقابل معنى بعث
تتناوب السياقات القرآنية في إيراد مفردتين متقاربتين في العربية ربما لم يجري التمييز بينهما بالدقة المطلوبة وهما مفردة "أرسل" كما في قوله تعالى:
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)
مقابل مفردة "بعث" في قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)
السؤال: كيف نفهم أن الله قد أرسل محمد رسولا فينا(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ) وفي الوقت ذاته كان محمد مبعوثا فينا رسولا من الله (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ)؟
جواب: نحن نظن بأن الفرق بين الرسول والمبعوث تكمن في الواجب المكلّف أن يقوم به كل منهما، ولكن كيف ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن مهمة الرسول المرسل تكمن في قوله تعالى:
مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ المائدة (99)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ النحل (35)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ الروم (54)
وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ العنكبوت (18)
نتيجة: تكمن مهمة الرسول (أو من أرسله الله رسولا) في التبليغ فقط ولا شيء غير التبليغ.
السؤال: فما هي مهمة المبعوث؟ أو بكلمات أكثر دقة نسأل: ما هي مهمة الرسول المبعوث، أو من بعثه الله رسولا؟
رأينا: نحن نظن أن لمن بعثه الله رسولا حق التصرف بما بُعِث فيه. فهو يستطيع أن يتدخل بالأمر ويستطيع أن يتدخل في تفاصيل الرسالة التي جاء بها.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: الرسول يحمل رسالة محددة يقوم بمهمة نقلها كما هي فقط، بينما المبعوث يحمل رسالة مجملة يحق له التصرف بتفاصيلها
الدليل
ها هم أهل الكهف يبعثوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم من طعامها أزكاه:
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
فأصبح ذلك الذاهب منهم إلى السوق مبعوثا يحمل مجمل الرسالة (وهو أن يحضر لهم رزقا من طعام المدينة)، ولكنه هو من سيتخذ القرار في نوع الطعام الذي سيختاره لهم. ولا شك أن ليس لهم بعد ذلك حق بالاعتراض على ما يختاره لهم من بعثوه منهم. فمجمل القول أن من بعثوه منهم قد ذهب يحمل رسالة مجملة (وهي أن يحضر لهم من طعام المدينة أزكاه)، ولكنهم لم يحملوه تفاصيلها، وعليهم القبول باختياره هو لهم (فهو من سيقرر ما هو أزكى طعام المدينة الذي سيحضره لهم).
وإذا ما دب الخصام بين الرجل وامرأته، فإن إحدى وسائل الحل تتمثل في أن يبعث كل طرف بواحد من أهله ليكونا حكما بينهما:
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
ولا شك عندنا أن المبعوث حكما لا يأتي وهو يحمل كامل التفاصيل لتتقلص مهمته في نقل ما يحمل، بل هو حكم مفاوض يستطيع أن يدلي بدلوه بالأمر، وعلى من بعثه أن يتحمل نتائج حكمه وقراره، فالمبعوث إذا هو صاحب قرار بتفاصيل الرسالة ضمن الإطار العام لها.
ولا زلنا حتى اللحظة نستخدم المفردتين بهذا المعنى، فعندما يدب نزاع في منطقة ما تقوم الأمم المتحدة مثلا بتسمية مبعوثا لها (فيسمونه المبعوث الأممي) ليذهب هناك في مهمة تفاوضية، ويكون مخوّلا بالخوض بالتفاصيل التي لم يأتي يحملها في جيبه. فهو يحمل رسالة مجملة (بخطوطها العريضة) وليست مفصلة (بدقائق الأمور).
وعندما ابتعثني الجامعة في بعثة دراسية إلى الخارج، فقد ذهبت حاملا في جعبتي رسالة مجملة غير مفصلة وهي الحصول على شهادة (والعودة بعد ذلك إلى الوطن)، ولكن من ابتعثني (أي الجامعة) لم تحدد جميع التفاصيل خطوة بخطوة، فتركت لي (كمبعوث) حق التصرف في كثير من تفاصيلها التي لا تتعارض مع مجمل الهدف من البعثة نفسها. ولو أن تلك الجهة قامت بإرسالي إلى جهة أخرى (ولم أكن مبعوثا)، لما كان لي حق التصرف بشيء من تفاصيل الأمر، ولما تجاوزت مهمتي القيام بنقل الرسالة كما هي.
نتيجة مفتراة: الرسول يحمل رسالة يبلغها كما هي دون زيادة ولا نقصان، أما المبعوث (أو المبعوث رسولا) فتتجاوز وظيفته مهمة النقل، ليكون له حق التصرف ببعض تفاصيلها التي لا شك لا تتعارض مع مجمل الرسالة، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
السؤال: إذا كانت مهمة من أرسله الله رسولا تقتصر على تبليغ الرسالة كما هي بدون زيادة ولا نقصان، يبقى السؤال الأكثر إثارة هو: كيف يتصرف المبعوث رسولاً بالرسالة؟
لو دققنا في السياق القرآني التالي لوجدنا أن الرسول نفسه هو من يقوم بتزكية من تلى عليهم آياته، وهو من يقوم بمهمة تعليمهم الكتاب والحكمة:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)
فكيف نفهم أن الرسول يقوم بمهمة تزكيتنا والله نفسه هو من أمرنا بأن لا نزكي أنفسنا لأن الله هو من يزكي الأنفس:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)
نتيجة: نحن نظن أن للرسول حق تزكية الأنفس التي هي في الأساس من حق الله نفسه. فكيف يكون ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الرسول ليس فقط مجرد رسول مرسل ولكنه أيضا رسولا مبعوثا، لذا فإنه يستطيع - بما آتاه الله من علم الكتاب - أن يزكي الأنفس. (وسنتعرض لهذه الجزئية لاحقا، فالله أسأل أن يأذن لي بشيء من علمه وأن أكون ممن يزكيهم رسوله المبعوث فينا وممن علمهم الكتاب والحكمة، واسأل الله أن يخرجني من الضلال المبين الذي أشهد أنني واقع فيه ما لم يعلمني رسوله)
لذا نعود إلى لب النقاش بالقول بأن محمد كان قد بعث رسولا من الله فينا لأن له حق التصرف في جزئيات الرسالة بما لا يتعارض مع المهمة الرئيسة التي أرسله الله بها للناس كافة:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
السؤال: ما علاقة ذلك كله بتفصيل الكتاب عربيا (موضوع النقاش الذي ابتدأنا به)؟
جواب مفترى: قام محمد بتلقي رسالة ربه بكلماتها الأصلية كما هي في مصدرها الرئيس (الكتاب)، وعمل – بما آتاه الله من الذكر- على تبيان ما نُزِّل للناس إليهم من ربهم:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
فقام هو (أي محمد) بالتصرف بها، فنقلها إلى الناس بلسان عربي مبين (لسان قومه) بكل صدق وأمانه، فما كان محمد يستطيع أن يتصرف بالتفاصيل بما يتعارض مع الرسالة المجملة:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
فكان الله هو المطلع على الدوام على ما يقوم محمد من تفصيل رسالة ربه للناس، لذا جاء قول الحق صريحا بأن نأخذ كل ما آتنا به محمد:
... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
وقد لخّص الله كل ما آتانا به الرسول في قوله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
وكان التحدي بهذا القرآن للجن والإنس معا على أن يأتوا بمثله:
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
وهنا يطرح التساؤل التالي على الفور: كيف يتحدى الله الجن والإنس (على حد سواء) أن يأتوا بمثل هذا القرآن مادام أنه عربي؟ فهل لغة الجن هي العربية؟ وهل يتحدث كافة الإنس اللسان العربي؟ وكيف يستطيع من لا يتحدث اللسان العربي أن يعقله كما جاء ذلك واضحا في بداية سورة يوسف وهو ما استدعى جلب النقاش هذا كله في هذا المحل:
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
افتراء جديد من عند أنفسنا: نحن نظن أن بإمكاننا أن فهم ماهية هذا التحدي لو أننا نسمح لأنفسنا (ولو لبعض الوقت) أن نغرّد خارج السرب قليلاً، لنقع عن قصد ضحية تخيّلات مفتراة من عند أنفسنا، ملتمسين في الوقت ذاته من سادتنا العلماء العذر على الإساءة التي يمكن أن نقترفها، طامعين بحلمهم الذي نظن أنه قد يتسع لنا ولو لبعض الوقت.
التخيلات
الإساءة الأولى: القرآن نزل عربيا لأن العرب هم أقل أمم الأرض قدرة على فهمه
الإساءة الثانية: القرآن نزل عربيا لأن العربية هي أقل لغات الأرض قدرة في توصيل المراد
التخريف الأول: القرآن نزل عربيا ليكون حجة على الناس كافة لأن كافة الناس (عربيهم وأعجميهم) يستطيعون فهمه دون الحاجة أن يتحدثوا اللسان العربي
إن صحت تخريفاتنا هذه، فإنه يسهل عندها تسويق النتيجة المفتراة من عند أنفسنا وهي أن القرآن الكريم ليس كتابا خاصا بأهل العربية، لذا يجب أن يكون شاغلا للبشرية بأكملها، ولن يجد شخص على وجه الأرض الحجة (أو لنقل العذر) لئلا يشتغل به حتى وإن لم يكن من أهل الفصاحة والبداوة العربية.
الخ
التعليق
هذه لا شك افتراءات خطيرة و(ربما) مسيئة للكثيرين خاصة لأهل العربية (وأظن نفسي أني أحدهم)، وأنا على يقين أن الكثيرين سيحاولون اجتزاءها عن سياقها الكلي، ليروجوا لحجم الإلحاد الذي وقع به رشيد الجراح (كما فعلوا أكثر من مرة)، ولكني أقول لكل من يمكن أن يقوم بمثل هذا الفعل (الذي أظن أنه مسيء) بأني لا أقبل أن يكون بيننا حكما سوى الله نفسه:
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
أما بعد،
الإساءة الأولى: القرآن نزل عربيا لأن العرب هم أقل أمم الأرض قدرة على فهمه
عذرا أيها السادة نحن نظن (مفترين القول بالتأكيد) أن أمة العرب ليست من الأمم الراقية فكريا، فهم أمة قلما تلتزم بجادة الصواب، ونحن نظن أن هذا جزء مما نفهمه نحن مما جاء في قوله تعالى في الآيات الكريمة التالية:
وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)
وبالرغم من هذا الكم الكبير من الآيات التي تشكّل – في ظننا- دليلا على ذم الأعراب، لم يأتي المديح لبعضهم (وليس لهم جميعا) إلا في سياق قرآني واحد:
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99)
(دعاء: أسأل الله أن أكون من هذه الفئة من الأعراب)
ولكن الذم المباشر للمجموع جاء صريحا لا لبس فيه في الآية الكريمة التالية:
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
ولو أردنا أن نكون منصفين لمن تفاخر عبر القرون بأصله العربي فإننا نقول دعنا نخرج حتى اللحظة بفكرة لا غالب ولا مغلوب: فإن كنت لا ترضى أن تُذَمَّ عربيتك، فكن منصفا فلا تسلطها سيفا على رقاب الأمم الأخرى.
الإساءة الثانية: القرآن نزل عربيا لأن العربية هي أقل لغات الأرض قدرة في توصيل المراد
نحن نظن أن القول بأن القرآن نزل عربيا لا يشكل بأي حال من الأحول دعوة للظن بأن العربية قد تميزت على غيرها من لغات الأرض، وذلك للأسباب التالية:
1. لقد سبقت لغاتٌ كثيرة العربيةَ في حمل كلمات الله، وما كانت العربية إلا آخر تلك اللغات التي شرفت بحمل الرسالة، ولو كان هناك داع للتفاخر بعنصر اللغة لكانت العربية هي آخر من يستحق ذلك، ولكن لغيرنا السبق في ذلك.
2. جاءت جميع رسل الله أقوامهم برسالاتهم بلسان غير عربي، فنوح لم يكن عربي، ولم يكن إبراهيم عربيا، ولم يكن موسى عربيا، ولم يكن عيسى عربيا، أليس كذلك؟ وقد حاولت بعض الأمم السابقة الدعوة إلى أمميتهم (كأن يكونوا شعب الله المختار مثلا)، عندها شعرنا نحن (من لسنا جزءا من ذلك الشعب) بالامتعاض، وظننا أن في ذلك فوقيّة نتنه وإساءة واضحة لا تمت إلى العدل الإلهي بصلة، لذا كان على علمائنا الأجلاء من باب أولى أن لا يقعوا (وأن لا يوقعونا) في الشرك نفسه الذي وقعت فيه الأمم الأخرى. فكما أن الله أختار بني إسرائيل على العالمين:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
جاء خطاب الله واضحا ليضع كل من اتبع عيسى بن مريم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة:
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
وجا خطابه جليا لتكون أمة محمد خير أمة أخرجت للناس:
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
ولو راقبنا الشرط في ذلك جميعا لوجدناه شرط الإيمان وليس شرط اللغة أو العرق، فمن تبع رسالة موسى ومن تبع رسالة عيسى ومن اتبع رسالة محمد الصحيحة فهو من فضله الله على العالمين وهو من جعله الله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وهو من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وذلك لأن دين الله واحد في جميع تلك الرسالات وهو دين الإسلام:
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
فكما كان محمد مسلما، كان إبراهيم وموسى وعيسى وجميع رسل الله من المسلمين.
3. إن الدعوة إلى أفضلية اللسان العربي تجعل من القرآن الكريم كتابا خاصا بثقافة محددة بعينها وبأمة محددة بلسانها. الأمر الذي نرفضه عقائديا جملة وتفصيلا.
4. الخ
النتيجة: إن ترك الأوهام القديمة المتمثلة بثقافة التعالي على الآخرين، ووضع الأمور في نصابها الصحيح ربما يقودنا إلى النتيجة التي مفادها أن يكون القرآن شغلا شاغلا للبشرية بأكملها، ولا يجب أن يجد شخص على وجه الأرض الحجة (أو لنقل العذر) لئلا يشتغل به، وذلك لأن مجرد الدعوة إلى التحيّز للسان العربي تحرم البشرية من العقول الكبيرة والكثيرة التي كان يمكن أن تشتغل بكتاب الله لو أنهم ظنوا أن لسانهم غير العربي ليس حاجزا بينهم وبين قول ربهم، وأننا بحاجة إلى قلوبهم لتفقه ما في هذا الكتاب العظيم وليس فقط إلى ألسنتهم التي تردد ألفاظه ولا تعي معانيه. وهنا أطرح السؤال على كل ذي لب: ماذا قدّم غير أهل اللسان العربي لهذا الدين؟ وكيف ساهموا في فهم كتاب الله؟
وهنا لا أتحدث عن من كان من أصل غير عربي ولكنه أتقن العربية كالبخاري ومسلم و... الخ. فأمثال هؤلاء الرجال قد أتقنوا العربية وامتلكوا ناصيتها ثم عملوا بعد ذلك في قضايا الدين، لكن سؤالي يدور حول من لم يملك اللسان العربي وإن كان مسلما (وما أكثرهم!). فهل ساهم مسلمو الصين والهند واندونيسيا وتركيا وأوروبا والأمريكيتين (ممن لا يتقنون اللسان العربي) في هذا الدين غير مهمة النقل؟ هل ساهموا في صناعة الفكر الإسلامي؟!
الخطأ الجسيم
لقد نخر علماؤنا الأجلاء (من أهل اللسان العربي) في ذهن المسلمين (غير العرب) أن الاشتغال بالدين (وخاصة كتاب الله) يتطلب معرفة اللسان العربي أولا، ولمّا كان غالبية المسلمين لا يستطيعون ذلك (فعدد المسلمين من غير العرب أضعاف أضعاف عددهم من الأعراب ومن أبناء العربية)، فقد أراحوا أنفسهم وضمائرهم عناء المحاولة عندما ظنوا أن ليس من واجبهم أن يشتغلوا بكتاب الله ما دام أنهم لا يتقنون اللسان العربي، فظلوا قرونا طويلة من الزمن يتلقّون ما تجود به عقول أبناء العربية التي لا أظن أنها (مع احترامي لنفسي ولأبناء جلدتي من أهل العربية) قد أجادت أصلا بشيء أكثر من خربطات وتخريصات ضحكوا بها على "بعض الآخرين"، فأضحكوا بها كثير من الآخرين علينا.
السؤال: ولكن كيف يستطيع أهل غير اللسان العربي أن يعقلوا ما في كتاب الله؟
التخريف: نحن نظن أن القرآن قد نزل عربيا ليكون حجة على الناس كافة لأن كافة الناس يستطيعون فهمه حتى دون أن يفهموا اللسان العربي، وأن العرب هم أقل الناس قدرة على العلم بما في كتاب الله. ولكن كيف ذلك؟
رأينا: لما كان الأعراب هم الأشد كفرا والأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ)، كانت المهمة واقعة لا محالة على غيرهم ممن هم أقرب إلى الوصول إلى جادة الصواب (وهم لا شك من غير الأعراب). لذا فإن الظن أميل عندي إلى الاعتقاد بأن غير الأعراب هم الأولى أن يتصدوا لهذه المهمة (أي أن يعلموا حدود ما أنزل الله)، وأتخيل أنه لو فعلاً حصل أن أشتغل غير الأعراب في كتاب الله، لخرج منه علما غزيرا لا تستطع عقول أهل العربية أن تتبيّنه.
السؤال: ألا ترى يا رجل أنك قد وصلت إلى درجة متقدمة من الهذيان؟ فما الحكمة أن ينزّل الله القرآن بلسان أمة هي الأقل بين أمم الأرض بالعلم بحدود ما أنزل على رسوله؟
جواب: نحن نظن أن في هذا إيقاع للحجة على البشرية بأكملها، ولكن كيف ذلك؟
رأينا:نحن نعتقد جازمين أن القرآن الكريم جاء مبينا للناس كافة:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
لنخلص إلى نتيجة بسيطة من خلال هذه الآيات الكريمة وهي أن التبيان لم يكن لأمة العرب ولكن للناس جميعا (مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ). لذا لابد أن يكون هذا القرآن مبينا حتى لمن لا يملك اللسان العربي، ولكن كيف ذلك؟
سنرى لاحقا عندما نقدم بعض الأمثلة لشرح هذه الفكرة بأن السبب في ذلك يكمن في أن القرآن يبين نفسه بنفسه، فمن أراد أن يصل إلى الإبانة المتوافرة في كتاب الله فهو لا يحتاج لأكثر من كتاب الله نفسه (وسنتحدث عن تلك الآلية بحول الله لاحقا)
أما ما يهمنا هنا قبل أن ننتقل إلى هناك هو القول بأنه لو اشتغل الناس كافة (وليس فقط أهل اللسان العربي) بكتاب الله (حتى مع وجود حاجز اللغة) لخرج العلم المكنون الذي نظن أنه لا يقدر عليه من تحجرت عقولهم وراء لسان أباءه وأجداده.
ونحن نظن (معتذرين مسبقا لمن يشعر بالإساءة) أن الأعراب هم أقل الناس قدرة على التوصل إلى إبانة الكتاب الكريم، وفي هذا حجة على الناس كافة بالمنطق المفترى التالي: متى ما استطاع الأعراب أن يعلموا ما في كتاب الله وهم أي الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ، عندها لن تبقى على وجه الأرض أمة أخرى لا تستطيع ذلك، فما دام أن الأعراب قد علموه وهم الأجدر (أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ)، فإن غيرهم من أمم الأرض لا محالة سابق لهم، وهنا لا تبقى حجة لأحد على الأرض بأن لا يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله. ولنضرب المثال التالي (ولله المثل الأعلى) لتوضيح الفكرة فقط:
تخيل أنك معلم في الصف، وقد قمت بشرح درس في الرياضيات لطلاب هذا الصف جميعا، ولكن ذلك الدرس (أو تلك الحصّة كما نقول نحن في الأردن) كان موجها للطلبة الأكثر ذكاء وقدرة على الفهم فقط، فمن يستطيع إذن أن يفهم درسك؟ هل يستطيع الطلبة الأقل قدرة على الاستيعاب فهم الدرس الذي شرحته للصف مرة واحدة بطريقة لا تتماشى وقدراتهم العقلية؟ ثم ألا يكون للطلبة الأقل قدرة على الفهم حجة عليك كمعلم أنك لم تعطهم حقهم من الانتباه والتدريس؟ ألن تصل عندها الفكرة التي تنوي تقيدمها فقط للقلة القليلة بينما تبقى الأكثرية محرومة من هذا الخير الغزير الذي تفضلت به عليهم؟
والآن لنتصور الموقف على النقيض من ذلك. تخيل أنك قمت بشرح المعلومة الرياضية في ذلك الدرس بطريقة ميسّرة (ميسرة ميسرة)، كما القرآن الذي يسره الله:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17)
أي بطريقة سهلة مبسطة جدا لدرجة أن أقل الطلبة ذكاء وقدرة على الاستيعاب قد وصلته المعلومة، ألن تصل المعلومة إذن للجميع؟ فهل يبقى لأحد من الطلبة (الذكي والكسلان منهم على حد سواء) حجة عليك في توصيل مرادك؟
نحن نتخيل الموقف في الرسالة الإلهية (ولله المثل الأعلى) على تلك الشاكلة. لقد جاءت الرسال الخاتمة مبينة بلسان عربي لأن أهل هذا اللسان هم في ذيل القافلة (علما) للوصول إلى علم حدود ما أنزل الله فيه، والحالة كذلك، فإن أهل الأرض جميعا قادرون أن يعلموا ويستوعبوا تلك الرسالة مادام أن أقلهم (الأعراب) قد علموها.
كما أننا نفهم كذلك - وإن كان في قولنا المفترى بأن العربية هي أقل لغات الأرض قدرة على إيصال المراد تقليل من شأن العربية بحد ذاتها- أن في قولنا ذاته في الوقت نفسه تعظيم لشأن منزل الكتاب. فالله هو من أنزل الكتاب المبين، ورسوله الكريم هو من فصّله لنا قرآنا عربيا مبينا، ولو كانت اللغة بحد ذاتها مبينة لما كان للمنزل وللمفصّل فضل كبير في إحكامه، ولكن لما كانت أدوات التفصيل (اللغة العربية) غير دقيقة، و (بالمقابل) خرج المنتج (القرآن عربيا) بأحسن حال (محكما)، نستطيع حينها أن نضع قدرة المنزل وبيان المفصل كل في مكانها الذي يليق بها. ودعنا نضرب مثلا (ولله المثل الأعلى) على ذلك. فلو وفّرت لي أدوات صناعة سيارة كاملة، وقمت أنا فقط بمهمة تركيبها، فهل يكون لي فضل عظيم في ذلك؟
ولكن (بالمقابل) تخيل لو أني لا أملك كامل الأدوات لصناعة تلك السيارة (أو أن الأدوات لم تكن بأحسن حال)، وقمت بالرغم من ذلك بإخراج السيارة التي قمت بتركيبها بأحسن ما يمكن أن تكون عليه سيارة على الإطلاق، ألا يرفع ذلك من شأني كصانع لتلك السيارة؟ ألا يكون لي في ذلك فضل لا يمكن أن يشكك به أحد؟ نعم، نحن نفتري الظن أن العربية ليست أكثر من أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان:
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)
(فهي لا تختلف في ذلك عن غيرها من لغات الأرض – انظر مقالاتنا تحت عنوان علم اللغة، وهل للغة العربية قدسية خاصة؟)
ولكن على رغم من أن الأدوات ليست بأحسن حال (سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)، خرج المنتج وهو القرآن العظيم باستخدام تلك الأدوات نفسها بأحسن صورة:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
الأعراب هم آخر من يستطيع أن يعلم حدود ما أنزل الله
قال تعالى:
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97))
لقد أوكل الأعراب إلى أنفسهم مهمة التصدي لفهم كتاب الله قرونا من الزمن، متسلحين بذريعة أنهم هم أهل اللغة التي نزل القرآن بها، وأنهم أهل بلاغة وفصاحة قد أخذوا باللغة من ناصيتها، وأنهم لا يجاريهم إلى ذلك أحد من أمم الأرض الأخرى، فما الذي فعلوه؟[1]
رأينا: سنحاول تقديم بعض الأمثلة على ما فعله الأعراب بكتاب الله، أظن مفتريا القول من عند نفسي أن أمة على وجه الأرض غيرهم لم تكن لتقع بمثل الأخطاء الفادحة الفاضحة التي وقع الأعراب فيها وأوقعوا الناس من بعدهم في شرك أفعالهم، وسنحاول في الصفحات التالية أن نقدم بعض الأمثلة التي قد لا تنطلي على ... في تفكيرهم. وهنا أتقدم بالاعتذار المسبق لكل من يجد في كلامنا هذا إساءة له أو لمشايخه من سادتنا العلماء أصحاب الفضيلة والإمامة والآيات، (فالعذر العذر يا إمامنا الأعظم ويا آية الله الأكبر!!!)
المثال الأول: سد يأجوج ومأجوج
تَذْكُرُ بعضُ مؤلفات أهل العلم أن أحد الخلفاء العباسيين قد شكّل بعثة من العلماء (على غرار هيئة كبار العلماء التي شكّلها غيرهم)، وأسند إلى تلك البعثة مهمة الذهاب في أصقاع الأرض للبحث عن سد يأجوج ومأجوج. وتكاد تتزاحم مؤلفات "أهل الدراية" بالحديث عن سد يأجوج ومأجوج، فاختلفوا فيه، فمنهم من ظن أنه سد الصين العظيم، ومنهم من ظن أنه خط برمودا الذي تحدّث الناس عنه لاحقا، ومنهم من ظن أنه قد اندثر ولم يعد موجودا على سطح الأرض، ومنهم من ظن أنه في باطن الأرض عندما أعيته الحيلة في التوصل إليه على سطحها، ومنهم من رفعه إلى السماء، وهكذا.
لكن السؤال المربك الذي أود أن أطرحه هنا – يا ساده- هو سؤال غاية في البساطة: هل فعلا يتحدث القرآن الكريم عن سد ليأجوج ومأجوج؟ هل ذكر القرآن الكريم أن هناك سد تم بناؤه فعلا من قبل ذي القرنيين؟ أو بكلمات أكثر دقة نحن نسأل: هل قام ذو القرنين ببناء سد أصلا ليحجز مأجوج ومأجوج عن من طلبوه منه؟
رأينا: كلا وألف كلا، لا يذكر القرآن الكريم أن ذا القرنين قد قام فعلا ببناء سد، وجل ما قام به الرجل – كما نفهمه- هو الردم. فالرجل لم يبن سدا ولكنّه قام بفعل الردم، فانظر – عزيزي القارئ- السياق القرآني جيدا حيث يطلب القوم من ذي القرنين أن يبني لهم سدا ليحجز عنهم يأجوج ومأجوج:
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
فالقوم هم من طلبوا من ذي القرنين أن يبني لهم السد، ولكن ماذا كان فعلاً من ذي القرنين نفسه؟ أي ما الذي فعله ذو القرنين نتيجة طلبهم ذاك؟
جواب: لم يبن لهم السد ولكنه عمل لهم ما هو خير من بناء السد وهو الردم، انظر السياق القرآني التالي:
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
المعضلة: مادام أن ذا القرنين قد اتخذ قراره بعمل الردم ولم يبن السد أصلا، فالسؤال هو يا سادتنا العلماء أصحاب الفضيلة والإمامة والآيات: ما الذي ذهبت بعثة الخليفة العباسي من كبار العلماء لتبحث عنه؟ وأين هو السد أصلا الذي يجب أن يبحث عنه؟ وأين هو السد الذي أنفق علماؤنا الأجلاء وقتهم وجهدهم في التأليف عنه؟ فهل هناك أصلا سد لنختلف في تحديد مكانه؟! وهل هناك أصلا -كما يقول المثل الأردني الشهير- جوز لتتهاوش عليه الضراير)؟ من يدري!!!
النتيجة الموجهة إلى العامة من الناس فقط: هل عقلية من ذهب ليبحث عن السد (وإن سمى نفسه عالما واختاره أهل السياسة ليجمعوه في فرقة كبار العلماء) ومن كتب المؤلفات لتحديد مكان سد (هو في الأصل غير موجود) هي عقلية - يا سادة- تستحق أن تقود أمم الأرض الأخرى فكريا؟ هل هذه عقلية يجب أن يتم الوثوق بقدراتها؟
أما أنا، فلا أدري!!!
المثال الثاني: كيف بدت لآدم وزوجه سوءاتهما بعد أن أكلا من الشجرة
بعد مراجعة أمهات كتب التفسير للآية الكريمة التي تتحدث عن ظهور سوءة آدم وزوجه لهما بعد أن أكلا من الشجرة:
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
وجدنا أن ما جادت به معظم عقول علمائنا الأجلاء بخصوص مفردة السوءة هو القول بأنها العورة، أي أن عورة آدم وزوجه قد ظهرت مباشرة بعد أن أكلا من الشجرة، وهنا السؤال الذي نريد أن نطرحه على العامة قبل الخاصة هو: ألا تختلف –حسب مفردات أهل العلم أنفسهم- عورة الرجل عن عورة المرأة؟ فهل إذن ما ظهر من عورة آدم يختلف عن ما ظهر من عورة زوجه (التي سموها حواء- وأنا لا أعرف من أين جاءت هذه التسمية غير أكاذيب أهل الكتاب من قبلنا)؟ فكم حجم ما بدا من آدم (وهو رجل) من عورة مقارنة بحجم ما ظهر من حواء (وهي أنثى)؟ فهل ما بدا من عورة حواء أكبر مما بدا من آدم (مادام أن معظم جسم المرأة هو عورة)؟
السؤال: هل يعقل أن السوءة هي العورة فقط؟
رأينا: لو أن عقول غير الأعراب اشتغلت بهذا الكتاب العظيم لما عجزوا أن يحلّوا المعضلة ربما بأقل التكاليف وأعظم الفائدة، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: أنا أظن أن عقول غير الأعراب لن تغفل عن بقية قصة آدم خاصة أبناءه من بعده، الذين تخاصموا فيما بين بعضهم لأسباب سنتحدث عنها بحول الله في مقالات منفصلة، فسوّلت لأحدهم نفسه قتل أخيه (وقد تحدّثنا عن القاتل والمقتول في سلسلة مقلاتنا تحت عنوان لماذا قدم لوط بناته بدلا من ضيوفه) فقتله، وبعد أن أقدم على فعل القتل، قام القاتل بعمل شي بخصوص سوءة أخيه، مقلدا ما فعله الغراب على مرأى من القاتل:
فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
وهنا تظهر مفردة السوءة من جديد، ليتكون السؤال الآن على النحو التالي: هل السوءة هنا تعني العورة؟ فهل قام القاتل فقط بمواراة جزء من جسد أخيه وهي عورته فقط؟
جواب: كلا وألف كلا، لقد قام بمواراة كامل جسد أخيه، وهذا برأينا معنى السوءة: إنه الجسد بأكمله، وهو ما نظن أنه ظهر من آدم وزوجه عندما أكلا من الشجرة بعد أن كانت أجسادهما نورانية بفضل النفخ الإلهي فيهما:
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)
فالله الذي هو نور السموات والأرض:
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
هو من نفخ في آدم بعد أن سواه، فكان آدم نورا ظاهرا (وكذلك كانت زوجته التي خلقت من نفسه) حتى أكلا من الشجرة بناءً على نصيحة الشيطان لهما، فانطفأ ذلك النور الإلهي، وبان التراب الحقيقي الذي خلق منه آدم في البدء. فأجسادهم كانت قبل الأكل من الشجرة كالقمر الذي نراه في كبد السماء (نور بفعل انعكاس أشعة الشمس عليه)، ولكن لو انطفأ ذلك النور عنه لما تبقى من ذلك القمر أكثر من التراب الذي يتكون منه.
النتيجة: أظن أن عقول غير الأعراب يمكن أن تصل إلى مثل هذه النتيجة البسيطة بكل يسر وسهوله لأنهم – برأينا- لن يغفلوا أن يضعوا النصين (النص الذي يتحدث عن سوءة آدم وزوجه والنص الذي يتحدث عن سوءة المقتول من ولديهما) جنبا إلى جنب ليستنبطا بكل يسر وسهولة معنى السوءة.
فأنا ممن يظن أن مشكلة الأعراب كانت تكمن على الدوام في المعالجة المتقطعة للنصوص، المعالجة التي تضفي القدسية على كل نص لوحده دون تمحيصه وتدقيقه في ضوء منطوق النصوص الأخرى. وهذا المنطق هو الذي كنا نفعله على الدوام في جميع مقالاتنا السابقة: جلب النصوص مع بعضها البعض لتتحدث هي عن نفسها، ولا أظن أن عقبة اللغة ستعيق التوصل إلى الحقيقة، وسأقدم المثال التالي لتبيان كيف أن غير أهل اللسان العربي يمكن أن يصلوا إلى استنباطات ربما تكون أكثر دقة من أصحاب اللغة أنفسهم، فمن خلال المثال التالي سنوضح كيف استطاع بعض الطلبة الأجانب الذين جاءوا ليدرسوا عن القرآن الكريم وهم لا يعرفون اللسان العربي من التوصل إلى نتائج أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مرضية.
المثال (آلية تعقل ما في كتاب الله)
قرأنا في واحدة من الدروس الآية الكريمة التالية من بداية سورة الإسراء وكان ذلك في محض الحديث عن بني إسرائيل:
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2)
فكان السؤال اللغوي الذي طرحناه حينئذ (من أجل فهم الآية نفسها) على نفر من الطلبة الأجانب الذين جاءوا ليتعلموا عن القرآن الكريم يخص الضمير في الفعل وَجَعَلْنَاهُ: فكان السؤال حينئذ على النحو التالي: من الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل، موسى أم الكتاب (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ)؟ فهل الضمير في وَجَعَلْنَاهُ يعود على موسى أم على الكتاب أم على كليهما؟
وعندما حاولنا الرجوع إلى أقول أهل الدراية كما نقله عنهم أهل الرواية وجدنا ما كنا نُسْكَت به على الدوام وهو الرد المفحم التالي: في ذلك أكثر من قول، فمنهم من قال أنه يعود على موسى، ومنهم من قال أنه يعود على الكتاب، ومنهم من قال أنه يعود على كليهما معا؟
سبحان الله! حلت المشكلة إذن؟ وهل هناك خيارات أخرى؟ فما الذي استفدته أنا من أهل العلم إذن؟ ومن منهم يجب أن أثق بقوله؟ جميعهم، أليس كذلك؟ من يدري!!!
وهنا طلبت من الطلبة الأجانب الذين لا يعرفون اللسان العربي أنفسهم أن يحاولوا حسم الخلاف بين سادتنا العلماء أهل الفصاحة والبلاغة، وما أن أخذ الطلبة الأمر بالجدية المطلوبة حتى بدأ تحاورنا بالأمر على النحو التالي:
أولا، كان لابد من التعرض للآية القرآنية نفسها في ضوء آية قرآنية أخرى تظهر فيها المعضلة (قيد البحث نفسها)، وهي موجودة في سورة السجدة:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
وهنا يظهر موسى ويظهر الكتاب ويأتي فعل الجعل مرتبطا بالضمير (وَجَعَلْنَاهُ)؟
ثانيا، كان القرار الأول أن الضمير لا يمكن أن يعود على موسى والكتاب معا، وذلك لأن في مثل هذه الحالات كان الضمير يأتي بصيغة المثنى، فلو كان الفعل يعود على موسى والكتاب معا، لجاء الفعل على نحو وجعلناهما، كما في الآيات التالية:
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23)
النتيجة: الضمير في الفعل وَجَعَلْنَاهُ يعود على مفرد: موسى أم الكتاب؟ ولا يجب أن يفهم على أنه يعود على كليهما معا، فكيف ستحل المشكلة إذن؟
عند هذه النتيجة، لم يتردد الطلبة الأجانب أن يظنوا أن الحل يكمن في التعرض لفعل الهداية، فكان المنطق المفترى حينئذ على النحو التالي: مادام أن الله قد جعل هذا الشيء (سواء كان موسى أو الكتاب هدى لبني إسرائيل) فلابد من معرفة الجواب على التساؤل التالي: من الذي يمكن أن يهدي موسى أم الكتاب؟
فجاءت الإجابة على الفور من السياق القرآني التالي الذي يتحدث عن هداية محمد للناس:
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
فكان الاستنباط حينئذ هو: مادام أن محمد لا يهدي فإن موسى أيضا لا يهدي، ولا تتجاوز مهمة محمد أكثر من أن يهدينا إلى صراط مستقيم:
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)
وفي هذه الآية الكريمة جاء الجواب واضحا أن محمد يهدي إلى الصراط المستقيم ولكن مهمته لا تتجاوز ذلك الحد، ولكن تشير الآية نفسها أن الهداية تأتي من الكتاب (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا). فمهمة محمد تقتصر بأن يوصلنا إلى الصراط المستقيم، وهناك سنجد إبليس قاعداً لنا صراط الله المستقيم:
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
ولا يمكن أن يفلت من شراك إبليس هناك إلا من أراد أن يهديه الله:
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ (16)
(دعاء: أللهم أشهدك أني أريد الهداية، فأسألك أن تهديني أنت صراطك المستقيم)
فكانت النتيجة أن من يهدي هو الله، ولكن يبقى السؤال قائما: ماذا عن الكتاب؟هل يمكن للكتاب أن يهدي؟
ما أن طرح هذا التساؤل حتى جاء الجواب سريعا، فاستذكرنا على الفور ما جاء في مطلع سورة البقرة التي تؤكد أن الهداية يمكن أن تأتي من الكتاب:
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)
وجاءت الآية الكريمة التالية لتؤكد أن القرآن يهدي:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
فانتهى النقاش الذي دار لأكثر من ساعة من الزمن في الغرفة الصفية انتهى إلى الظن بأن مصدر الهداية هما مصدران فقط: الله نفسه والكتاب (القرآن)، عندها لم يتردد الطلبة الأجانب في العودة إلى قضية حسم مسألة الخلاف في الضمير في الآية الكريمة مدار البحث وهي:
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2)
فكانت النتيجة السهلة التي توصلوا لها بأنفسهم (وبمساعدة المدرس في التذكير بالآيات، والتسلسل في تدبرها) هي أن الضمير هنا يعود على الكتاب وليس على موسى.
وقد ساعدني صاحبي علي (الشريك في الادكار على الدوام وهو الذي يحمل شهادة دبلوم فقط) بالتذكير بأنه لو كان موسى هو الذي يهدي لانتهت هدايته لبني إسرائيل بمجرد موته، ولكن لمّا كان الكتاب هو الذي يهدي لا تنفك أن تكون هدايته واصلة لبني إسرائيل على مر العصور وتقلب الأجيال، بالضبط كهذا القرآن الذي لازال يهدينا حتى الساعة بعد موت محمد قبل أربعة عشر قرنا من الزمان.
السؤال: هل تحتاج هذه الادّكارات إلى أصحاب الألسنة (التي حصّلت لهم الشهادات العالية والألقاب التي أُنعمت عليهم من ولي النعمة من أهل السياسة) أم إلى أصحاب القلوب (التي تعقل وتفقه)؟
أما أنا: فأسأل الله أن يؤتيني قلبا يفقه ويعقل ما جاء في كتابه الكريم.
المثال الثالث: ملك الموت قابضا وليس زائرا
صعد الخطيبُ المنبرَ في واحدة من أيام الجمع لنضيّع (كالعادة) جزءا من وقتنا غير المهم في ساعة مما نفتري القول أنه ليس أكثر من تهريج ديني، فتحدث في تلك الخطبة عن بعض الأحداث التي حصلت – حسب رواياته- في اللحظات الخيرة من حياة النبي ساعة وفاته، وكان مما أتحف أذاننا في سماعه جزءا من حديث مطوّل في ذلك، نجتزئ شيئا منه هنا، وهو استئذان ملك الموت للدخول على رسول الله ليقبض روحه الطاهرة، ولمّا أنني غير قادر أن أتذكر حرفية ما قاله الخطيب في ذلك الحديث الطويل، اضطررت للبحث عنه في ما نقله أهل الرواية في هذا الشأن، فوجدت أن كثيرا مما قاله شيخينا وخطيبنا الجليل في تلك الخطبة العصماء (لا تخلو من جزالة الألفاظ التي لم استطع أن أفقهها حينئذ) قد جاء عن بعض أهل العلم في الرواية التالية:
... فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت ملك الموت صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمة من بالباب؟ ". فقالت: يا رسول الله، إن رجلاً بالباب يستأذن في الدخول فأجبناه مرة بعد أخرى، فنادى في الثالثة صوتًا أقشعر فيه جلدي وارتعدت فرائصي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة أتدرين من بالباب؟ هذا هازم اللذات ومفرقُ الجماعات، هذا مُرمل الأزواج ومُوتِم الأولاد، هذا مُخرِّبُ الدُّور عامر القبورِ، هذا ملك الموت صلى الله عليه وسلم ادْخل رحمك الله يا ملكَ الموت". فدخل ملك الموت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا ملك الموت جئتني زائرًا أم قابضًا". قال: جئتك زائرًا وقابضًا، وأمرني الله أذنت وإلا رجعت إلى ربي عز وجل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا ملك الموت أين خلفت حبيبي جبريل؟ " قال: خلفته في السماء الدنيا والملائكة يعزونه فيك، فما كان بأسرع أن أتاه جبريل عليه السلام، فقعد عند رأسه فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل هذا الرحيل من الدنيا فبشرني ما لي عند الله". قال: أبشرك يا حبيب الله أني قد تركت أبواب السماء قد فتحت، والملائكة قد قاموا صفوفًا صفوفًا بالتحية والريحان يحيون... (منقول)
والآن دقق - عزيزي القارئ- بهذا النص الذي يسميه بعضهم"حديثا"، لنطرح عليك بعض التساؤلات علّنا نجد عندك ما قد يُسْكِتُ تفلتنا عن جادة الصواب التي سلكها مشايخنا من أهل العلم.
السؤال: هل يرى الناسُ ملكَ الموت؟ كيف إذن فتحت فاطمة لملك الموت؟ هل يمكن لأحد أن يرى جبريل؟ من الذي رأى جبريل يخاطب الرسول حينها، فسمع تحاورهما؟
السؤال: مادام أن جبريل لا يراه الناس، ومادام أن الناس لا يستطيعون أن يسمعوا الحوار بين ملك الموت من جهة ومن جاء لأجله قابضا من جهة أخرى، ومادام أن الرسول نفسه قد انتقل إلى الرفيق الأعلى (... فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)، فمن - يا ترى- نقل مثل هذاالكلام الذي يسمونه حديثا؟ هل أخبر الرسول أحدا به قبل موته؟ فلو كان كذلك، لقال المخبر ذلك، ولجاء نص الحديث على نحو " أخبرني رسول الله ... الخ)، ولربما جاء الحديث مرويا عن فاطمة (وهي التي فتحت الباب لملك الموت حسب رواية الحديث نفسه) أو على لسان عائشة (وهي التي مات الرسول وهو واضع رأسه في حجرها كما تشير إلى ذلك روايات أخرى). ولكن مادام أن الرسول قد مات ولم يحدّث أحدا بما جرى بينه وبين ملك الموت من حوار وبما جرى بينه وبين جبريل من حوار (هذا إن كان هناك حوار قد جرى أصلا)، وما دام أن ملك الموت - في ظني- لم يخبر أحد بذلك، فكيف انتهى ذلك الكلام ليكون حديثا منقولا عن رسول الله؟ من يدري؟!
السؤال: هل يا ترى يمكن أن تنطلي مثل هذه الكذبة الكبيرة إلا على عقول من جاءوا إلى الجمعة لظنهم أن ذلك مكان للتسلية الدينية التي نأخذها كما هي، ولا يحق لنا أصلا أن نتدبرها ولو للحظة من الزمن؟ وهل يمكن أن تنطلي مثل هذه الكذبة على عقول غير عقول الأعراب؟!
أما أنا، فلا أظن غير ذلك.
السؤال: كيف يستطيع غير الأعراب (الأمم الأخرى التي لم ينزل القرآن بلسانها) إدراك علم حدود ما أنزل الله؟
رأينا: لأنهم يستطيعون أن يضعوا المتناقضات مع بعضها البعض لتمحيصها والتدقيق فيها، ولكن كيف ذلك؟
جواب: سمعت من خطبائنا حديثا عن القضاء بين المتخاصمين، فبحثت عن متنه على الشبكة العنكبوتية، فوجدت بعض صيغه:
( 1 ) حدثنا أبو بكر قال حدثنا وكيع قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم تختصمون إلي ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة .
( 2 ) حدثنا أبو بكر قال حدثنا وكيع قال حدثنا أسامة بن زيد الليثي عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم يختصمان في مواريث بينهما قد درست ليس لهما بينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم تختصمون إلي ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه ، فإنما أقطع له به قطعة من النار ، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة ، قالت : فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إذ فعلتما فاذهبا واقتسما وتوخيا الحق ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه .
( 3 ) حدثنا أبو بكر قال حدثنا محمد بن بشر الغنوي قال حدثنا محمد بن عمرو قال حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فمن قطعت له من حق أخيه قطعة فإنما أقطع له قطعة من النار
عندها حاولت أن أتدارس الأمر مع السيد علي الشرمان (صاحبي في هذه الخربطات) وهو من كان قد جلب انتباهي إلى هذا الحديث في البداية، فلم ننتظر طويلا حتى جاءتنا الآية القرآنية الكريمة التالية التي تدلّ بما لا يدع مجالا للشك أن حكم النبي صحيحا على إطلاقه:
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)
ألا تشير هذه الآية الكريمة – يا سادة – أن حكم النبي بين الخصمين قطعي؟ ألا ترشدنا إلى القبول بحكم النبي في الحال؟ ألا تنفي الإيمان عن من شك بحكم النبي ولو للحظة؟ فكيف بعد كل ذلك يمكن أن يأتي شخصان ليتحاكما عند النبي في خصومة بينهما، فيستطيع أحدهم أن يتلاعب بالكلام ليجعل محمدا (نفسه) يقضي له بما لا يستحق؟ ولو حصل فعلا وقضى النبي بمثل ذلك، فأين تأيد السماء له؟ لم لا يأتيه جبريل في الحال ليرد الحقوق إلى أصحابها؟ هل النبي على هذه الدرجة من السطحية ليتمكن أحد الخصام أن يوقع به؟ وها هو صاحبي علي يذكرني مرة أخرى بالآية الكريمة التالية التي لا أظن أن عقول غير الأعراب يمكن أن تغفل عنها:
وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
ألا تدل هذه الآية الكريمة أن الرسول يعرف هذه الفئة من الناس من لحن القول (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)؟ فكيف إذن سيستطيع أحد الخصمان أن يتلاعب بالقول ليوقع النبي في مثل هذا الفخ؟
أما أنا فهذه ليست عقيدتي، فأنا أعلم أن محمدا ما كان لينطق عن الهوى، وأعلم أنه ما كان لأحد مهما بلغ من فصاحة الكلام وقوة الحجة أن يوقع بمحمد في شرك أفعاله؟ فهذا ربما لا ينطلي على قاض متمرس (كذاك الذي تحدثون عنه في نوادرهم) ناهيك أن يكون القاضي هو محمد بن عبد الله نفسه وهو الذي شهد الله له بأنه يعلم من يحاول التلاعب بلحن القول (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).
المثال الرابع: باب استنباط الأحكام
لقدأسهب أهل العلم في الحديث عن الحدود، وكان من بينها حد الزاني وحد السارق، وما يهمنا هنا هو أن نتحدث عن كيف يمكن أن يفكر عقل غير العربي بما جادت به عقول الأعراب في هذين الحدين على وجه التحديد.
حد الزاني
ميّز العلماء بين حد الزاني المحصن من جهة وحد الزاني غير المحصن (حسب مفرداتهم التي هي في ظننا خاطئة وسنتحدث عن معنى المحصن في مقالات لاحقة بحول الله) من جهة أخرى، لكن الذي يهمنا هنا هو اعتقادهم بأن الزاني غير المتزوج (أي غير المحصن في مفرداتهم) هو المئة جلدة، بينما حد الزاني المحصن (أي المتزوج في مفرداتهم) هو الرجم.
السؤال في عقل غير أهل العربية هو: إذا كان حد الزاني المحصن هو الرجم، فكيف يمكن تطبيق الحد في الآيات الكريمة التالية؟
يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
السؤال: كيف يمكن تطبيق الرجم بالمضاعفة ضعفين في حالة نساء النبي لو وقعت احداهن (لا قدر الله) بفعل الفاحشة؟
وكيف يمكن تطبيقه في حق فتياتنا المؤمنات (وهو أمر وارد) بتنصيف الحد إلى نصفين؟ فهل ترجم نصف رجمة؟ وكيف يمكن إذن تنفيذ ذلك الحد على أرض الواقع؟
وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25)
وهنا ربما سيطير البعض إلى جلب حد الرجم الذي طبقه (حسب رواياتهم نفسها) الرسول بحق الغامدية، وهنا لا أتوقف عن طرح التساؤلات التالية:
- إذا كان الرسول قد طبق حد الرجم بحق الزانية (الغامدية)، فلم لم يطبقه بحق الزاني (من ارتكبت الغامدية معه واقعة الزنى)؟ ألا يحق للقاضي أن يتحقق من وقوع الجرم قبل إيقاع العقوبة؟ وهل يقع الزنى بوجود طرف واحد (الزانية)؟
- ألا تذكر رواياتهم أن الناس قد تجمعوا ليشهدوا الواقعة، وهم من رموها بالحجارة، فكيف ينتهي الحديث أن يكون من الأحاديث المختلف فيها سندا ومتنا؟
أما أنا فإن كنت عزيزي القارئ لا تريدني أن ألقي بظلال الشك على كل رواياتهم عن هذه الحادثة، فعليك أن تقدم الإجابات.
حد السرقة
تحدث العلماء بأن حد السارق هو قطع اليد، وكان القطع في ظنهم وفي تطبيقهم هو بتر اليد من رسغها (كما تفعل ذلك بعض الدول التي تطبق حدود ربهم على الأرض).
السؤال في عقل غير أهل العربية هو: ما الذي فعلته النسوة عندما رأين يوسف؟ ألم يقطعن أيديهن؟ هل تم ذلك ببتر الرسغ عن بقية اليد؟ ألم تشعر إحداهن بذلك؟ وكيف استطاعت باستخدام سكين أن تفصل عظم اليد بعضه عن بعض؟ أليس ذلك فعل تقطيع الأيدي؟
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
السؤال: هل تظن أن عقول غير الأعراب ستغفل عن وضع النصين جنبا إلى جنب: النص الذي يتحدث عن حد السرقة:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
مقابل النص الذي يتحدث عن تقطيع النسوة لأيديهن عندما رأين يوسف:
... فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
(هذا ما سنحاول التعرض له في واحدة من المقالات القادمة بحول الله وتوفيقه عن قصة يوسف مع أولئك النسوة، فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علما، فيأذن لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع المجيب)
السؤال: كيف يستطيع غير أهل اللسان العربي الوصول إلى تبيان ما في كتاب الله وهم لا يتحدثون اللسان العربي أصلا:؟
رأينا: بالاستفادة من التشابه الموجود فيه.
سؤال: وكيف ذلك؟
جواب: نحن نظن أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، ولا يحتاج من يريد أن يشغل نفسه به أكثر من النظر في تشابهه. ولكن كيف ذلك؟
مثال: المحصنات
تحدث العلماء في جل مؤلفاتهم أن مفردة المحصنة (ومشتقاتها) تدل على المتزوجة من النساء،، أليس كذلك؟ ففرقوا كما ذكرنا سابقا بين حد المحصن (والمحصنة) في الزنا و حد غير المحصن (والمحصنة)، فظنوا أن الحد الوارد في الآية الكريمة التالية:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
يطبق فقط في حالة الزانية والزانية غير المحصنين (حسب مفرداتهم بالطبع). بينما ذهب علماؤنا الأجلاء إلى الظن بأن الدليل على حد الرجم في حالة الزانية والزاني المحصنين قد جاءنا في السنة. وقد حاولنا أن نسجل في مقالة لنا سابقة (تحت عنوان تعدد الزوجات 2) تحفظاتنا على مثل هذا الفهم الذي جاءنا من عند أهل الدراية كما نقله لنا أهل الرواية. وحاولنا تقديم فهمنا المفترى الذي نظن أنه بديلا لما جاءنا من عند أهل العلم. ومن أحب أن يدخل في هذه الجدلية فلينظر في مقالتنا تلك.
أما هنا، فسنحاول فقط أن نناقش معنى مفردة المحصنة (ومشتقاتها)، ظانين بأن المعنى هو على عكس ما قال وظن سادتنا العلماء أهل الدراية في ذلك.
المعنى المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن المحصنة من النساء هي التي لم تتزوج قط، وأن المحصن من الرجال هو الذي لم يتزوج قط.
الدليل
نحن نظن أن الدليل قد جاء صارخا في كتاب الله كما في قوله تعالى:
وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25)
السؤال: إذا كانت المحصنة هي المتزوجة من النساء (كما زعمنا سادتنا العلماء)، فكيف سنستطيع أن ننكح من هي أصلا محصنة متزوجة (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ)؟ وكيف ستنكح المحصنة (أي المتزوجة) بإذن أهلها؟
ثانيا، إذا كانت المحصنة من النساء هي المتزوجة (كما أفهمنا أهل العلم)، فكيف يمكن أن ترمى المحصنة (أي المتزوجة حسب رأي سادتنا العلماء) وفي الوقت ذاته لا ترمى غير المتزوجة كما جاء في الآية التالية؟
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
وما معنى أن ترمى المحصنات أصلا؟ وهل تكون المحصنة غافلة مادام أنها متزوجة أصلا (حسب رأي سادتنا العلماء)؟
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
وكيف سيتم إثبات رمي المحصنة إن كانت متزوجة أصلا؟ ألم يدخل بها؟ أليس الرمي أكثر تأثيرا بحق غير المتزوجة؟ أليس ذلك ما يطعن في شرفها؟ ثم أليست غير المتزوجة أكثر غفلة عن المتزوجة؟ من يدري!!!
ثالثا، لكن الذي أربكني أكثر بخصوص مفردة المحصنة هو السؤال التالي: كيف إذا يحرم علينا (نحن مجموع الرجال) أن ننكح المحصنات من النساء كما جاء في قوله تعالى؟
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
فمن هم الذين حرمت عليهم نكاح المحصنات؟ هل هناك فئة محددة من الرجال مقصودة في هذا التحريم؟ أم أن التحريم على الرجال كل الرجال؟ وكيف يمكن استثناء ما ملكت اليمين منهن (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)؟ فهل لو كانت المحصنة من ذات اليمين، فهل يجوز نكاحها وهي أصلا منكوحة (حسب رأي سادتنا العلماء)
رأينا: إن الخروج من هذا المأزق الذي أوقع العلماء أنفسهم فيه قد جاء – في ظننا- في الآية الكريمة التالية:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33)
نعم، نحن نظن أنه يحرم الدخول بمن أرادت التحصن من النساء، ولا يجوز إكراه من أرادت من النساء أن تتحصن كما فعلت مريم بنت عمران التي أحصنت فرجها:
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
ولكن يستدعي الأمر التوقف هنا عند معنى البغاء في قوله تعالى:
...وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(33)
فلقد ظن علماؤنا الأجلاء مدفوعين بلغة أجدادهم وبقواميس آبائهم اللغوية أن البغاء يعني الوقوع في فعل الفاحشة، مستنبطين ذلك من أحاديثهم عن البغايا (خاصة من دخلت منهن الجنة بقط أو بكلب). فإن كان ما قاله سادتنا علماء عن أن البغاء هو الوقوع في فعل الفاحشة (أي الزنا)، فليحاول أحدهم الإجابة على التساؤل التالي الذي نثيره من خلال الآية الكريمة نفسها، ألا وهو: كيف تكون عاقبة من أكره فتياته على البغاء (أي الزنا) أن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)؟ هل هذه إذن دعوة لفتح بيوت الدعارة (فترتكب فيه الفتيات البغاء أي الزنا الذي أكرهن عليه) لنجد أن الله (من بعد ذلك الإكراه) غفور رحيم لمن أكرههن على ذلك؟ من يدري!!!
رأينا: كلا وألف كلا، فنحن نظن أن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، مدفوعين بالافتراء من عند أنفسنا بأن لا علاقة للبغاء بالزنا إطلاقا، وأن البغاء ليس أكثر من اعتداء طرف على طرف كما جاء في قوله تعالى:
وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
فعندما تبغي طائفة على طائفة فإن ذلك يحصل بأن تأخذ طائفة (وهي الأقوى) حق طائفة أخرى (وهي الأضعف)، كما حصل في حالة قارون الذي بغى على قوم موسى:
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
وكما فعل فرعون بمن رحل مع موسى من أرض مصر:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
وكما كان يفعل أهل الكتاب فيما بين بعضهم:
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
عندها نكون ملزمين أن نقف إلى جانب من بُغِي عليه:
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
فهي إذن دعوة إلى إيجاد حالة من التساو لا يبغي طرف فيها على طرف آخر كما في حالة وجود البرزخ بين البحرين، فيحول دون أن يبغي البحر الكبير على البحر الصغير:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20)
وسنتعرض بالتفصيل بحول الله إلى الاتهام الذي وجهه الناس إلى مريم يوم جاءت بوليدها تحمله:
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
لنؤكد حينها استحالة أن يتبادر إلى ذهن القوم اتهام مريم بنت عمران بالزنا، وهو الغلط الذي نظن أن معظم أهل الدراية قد وقعوا به عندما تعرضوا لتفسير ما جرى من أمر مريم مع قومها يوم عادت تحمل طفلا (فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علما)
ولكن دعنا نعود هنا إلى لب التساؤل وهو: كيف تحرم علينا المحصنات من النساء بهذا الفهم المفترى لمفردة البغي؟
رأينا نحن نظن أن من أرادت تحصنا من النساء (اي أن لا تتزوج إطلاقا)، فلا يحل نكاحها، لأن في ذلك اعتداء عليها، فمريم ابنت عمران هي من أحصنت فرجها:
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
نتيجة: المحصنة من النساء - في ظننا- هي التي اختارت أن لا تفض بكارتها من قبل الرجال. وبهذا يصبح من المحرّم على الرجال نكاح المحصنات من النساء مادامت حرة، أما إن كانت من ذات اليمين، فلا تستطيع أن تمنع نفسها عمن ملكها:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
تبعات هذا الظن
أولا، نحن نعتقد أن في ظننا هذا تخريجا للمأزق الذي أوقعنا به أهل العلم عندما أخطأوا في فهم ما جاء في قوله تعالى:
... وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33)
فالسؤال الذي طرحناه سابقا حول هذه الآية الكريمة هو: كيف سيكون الله غفورا رحيما لمن أكره فتياته على البغاء إن أردن تحصنا؟
رأينا: نحن نظن أنه إنْ اختارت الحرة من النساء أن تحصن نفسها فلا تتزوج (فلا تفض بكارتها)، فلها ذلك (كما فعلت مريم ابنت عمران)، وليس لأحد الحق أن يبغي عليها حتى وإن كان وليّها، ولكن لو حصل أن بغى عليها وليّها (كأبيها أو أخيها) كونه هو الأقوى، وأجبرها على الزواج كونها هي الأضعف، ففضت بكارتها، فإن الله غفور رحيم من بعد ذلك الإكراه، فعلى من أكره فتياته على الزواج وهن غير راغبات فيه، فعليه أن يتوب إلى ربه ويستغفره على ما ارتكب من ذنب بحقهن، فعسى أن يتوب الله عليه، ولتبسيط الفكرة نقول مرة أخرى أنه إنْ حصل وأجبر الوالد (أو الولي) فتاته على الزواج لأنه ربما يرى في ذلك خير لها، فإن هذا قد يتعارض مع رغبة الفتاة نفسها التي قد لا ترى في ذلك الزواج خيرا لها، ولو حصل أن أجبر الطرف القوي وهو الولي الطرف الضعيف وهي الفتاة على الزواج، لكان في هذا اعتداء عليها (أي بغاء)، فقد بُغِي عليها من قبل وليّها، ولكن ما يهمنا قوله هنا هو أن هذا الاعتداء ليس من القبح لدرجة أن لا يغفره الله لمن أوقع نفسه فيه، لأن ذلك البغي غالبا ما يكون مدفوعا بالمصلحة التي قد يراها الولي لفتاته ولا تراها هي لنفسها، ولو تدبرنا عزيزي القارئ الآية الكريمة نفسها من هذا الجانب لوجدنا أن دافع الولي واضح في ذلك، وهو أن يبتغي الولي عرض الحياة الدنيا:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33)
ولتوضيح الفكرة أكثر فإننا نقول أن بعض أولياء أمور الفتيات قد يقدمون على إجبار فتياتهم على الزواج من شخص ربما لا تريده هي، وفي هذه الحالة تكون رغبة ولي الأمر مدفوعة بشيء من عرض الدنيا (لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، كما شاهدنا ذلك مرات ومرات في المسلسلات المصرية أو الأفلام الهندية التقليدية، حيث يقدم والد الفتاة الفلاحة الجميلة على تزويجها من ولد العمدة (أو ربما العمدة) نفسه (الذي غالبا ما يكون بشعا أو أبله أو ...الخ) طمعا بشيء من مكاسب الدنيا (لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وغالبا ما يكون ذلك على حساب الطرف الأضعف (وهي الفتاة نفسها)، فتعيش الفتاة المسكينة في ظل راجل (بالمصرية) لا تطيقه، ولكن تضحية منها ربما لإنقاذ عائلتها الفقيرة، أليس في ذلك بغي عليها؟
ثانيا، نحن نظن أن مثل هذا الفهم ربما يحل لنا إشكالية الرجم التي تحدثنا عنها سابقا، ولكن كيف ذلك؟
جواب: إن صح زعمنا أن المحصنة هي غير المتزوجة، فإن التفريق بين المحصنة وغير المحصنة (كما جاء في كتب الأحكام عند معظم أهل العلم) يصبح غير ضروري، فيصبح حد الزنا واحد للجميع:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
(للتفصيل انظر مقالتنا تعدد الزوجات 2)
نتيجة: نحن نظن أن هذه الإشكالات التي وقع فيها أهل العلم (حسب ظننا) كان سببها الرئيس هو عدم الاحتكام إلى كتاب الله نفسه، وخاصة عدم الرغبة في (أو ربما الخوف من) وضع المتناقضات جنبا إلى جنب لتمحيصها وتخريجها بالطريقة التي لا تؤدي إلى بقاء تلك التناقضات، وبالتالي الوقوع في أغلاط هي في ظننا كارثية على العقيدة في التشريع وعلى الناس في المعاملات. وربما لا يقل خطورة عن ذلك هو عدم قدرة أهل – نحن نفتري القول- في الوصول إلى أحكام قطعية للأمور العقائدية التي تخص حياة الناس اليومية، وسنقدم المثال التالي الذي نظن أنه غاية في البساطة لو أن هذه المنهجية التي نقترحها قد كانت مسلك أهل العلم منذ قرون من الزمن.
المثال: اتيان المرأة من المكان الذي أمرنا الله به.
سألني أحد الزائرين الذين جاءوني محمّلين بالتساؤلات الكثيرة في زياراتهم الأولى، وأظن أنهم قد جاءوا فاحصين في بداية الأمر لأنهم كانوا يحجزون لأنفسهم حيزا كبيرا في الحديث، ثم أصبحوا – على ما أظن- راغبين في المعرفة لاحقا عندما أخذت أصواتهم تخفت شيئا فشيئا لحساب أذانهم التي أصبحت تصغي أكثر فأكثر، المهم أن صاحبنا ذاك قد سألني في واحدة من زياراته الأولى السؤال المثير التالي: ما هو المكان الذي أمرنا الله أن نأتي المرأة منه؟ وقد جاء سؤاله هذا بعد أن تلى على مسامعنا الآية الكريمة التي تبين أن نساءنا حرث لنا:
نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
فكيف علينا أن نأتي المرأة من مكان محدد بذاته كما أمرنا الله بذلك في الآية التالية؟ يسأل صاحبنا.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
فكأن مراد القول عند صاحبنا هو: مادام أن الله قد شرع أن تكون نساؤنا حرث لنا، فكيف جاء التقيد بأن نأتي النساء من حيث أمرنا فقط؟ وما هو إذن المكان الذي أمرنا الله أن نأتي النساء منه أصلا؟ وهل هناك مكان أمرنا الله أن لا نأتي المرأة منه؟ وكأن لسان حال صاحبنا كان يقول: هل يجوز أن تؤتى المرأة من دبرها؟ وهل أمرنا الله أن لا نأتي النساء من ذلك المكان؟ وأين ذلك في كتاب الله؟ وقد ساعدني صاحبنا ذاك عندما أكد بأنه قد بحث عن إجابة لهذا التساؤل عند أهل العلم فوجد في ذلك أقوال، وهو ما نجده على الدوام عندهم: في المسألة وجهات نظر، وهناك أكثر من رأي، أليس كذلك؟
رأينا: لكن - يا سادة- هل هذا هو فعلا شرع الله؟ ألا يجب أن يكون شرع الله واضحا للجميع؟ هل في اختلاف الأئمة في مثل هذه القضايا رحمة بالأمة كما يحاول علماؤنا الأجلاء أن يفهمونا على الدوام؟
رأينا المفترى: كلا وألف كلا، لابد أن يكون شرع الله واضحا، ولابد من الحسم في هذه القضايا، ولابد أن تكون الاجابة واحدة لا تخفى على الصغير قبل الكبير، ويجب أن يعرفها غير المتعلم كما يعرفها طالب العلم. فهذا لا يخص شخص بعينه، وإنما هو من الأمور التي تخص كل فرد في الأمة.
السؤال: كيف يمكن فض الخلاف في ذلك؟ سألني صاحبي محاورا ومجادلا في بادئ الأمر.
جواب: إنني أظن يا صاحبي أن الجواب واضح تماما لو أننا قرأنا الآيتين الكريمتين معا وبنفس الترتيب كما وردتا في كتاب الله، ولنتدبر الآيتين معا الآن:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
فهمنا المفترى: نحن نظن أن الله قد أمرنا أن نأتي النساء من المكان نفسه الذي يخرج الحيض منه فقط.
الدليل
دعنا نقدم الدليل على افتراءنا هذا بطرح جملة من التساؤلات أولاً:
سؤال: ماذا طلب الله منا أن نفعل في حالة أن تكون المرأة في المحيض؟
جواب: الاعتزال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ)
سؤال: وكم يجب أن تستمر فترة اعتزال النساء؟
جواب: حتى يطهرن (وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ)
السؤال: ومتي يحق لنا أن نأتي النساء؟
جواب: فقط عندما يتطهرن (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ)
سؤال: ومن أين تحيض المرأة؟
جواب: من فرجها (أي من قبلها)
سؤال: وما علاقة دبرها بالمحيض؟
جواب: لا علاقة له بذلك، فالمحيض لا يخرج إلا من الفرج.
السؤال المربك لي (1): لو أن إتيان المرأة في دبرها مسموح به، فما الداع أن نعتزل النساء في المحيض أصلا؟
السؤال المربك لي (2): لو أن إتيان المرأة في دبرها مسموح به، فما الداع أن يأتي الأمر الإلهي ليس فقط بأن نعتزل النساء في المحيض ولكن لأكثر من ذلك وهو أن لا نقربهن (وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ)؟
نتيجة: على الرجل أن يعتزل المرأة وأن لا يقربها فلا يأتيها مادامت في حالة محيض، ولكن لماذا؟
جواب: لأن الله أمرنا أن نأتيها من حيث أمرنا.
سؤال: وما هو ذلك المكان؟
جواب: إنه المكان الذي يخرج منه المحيض. فمادام أن ذلك المكان فيه الأذى وهو المحيض (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى)، فعلى الرجل أن لا يأتي زوجته ولا يقربها حتى تطهر منه. ولو كان إتيان المرأة في دبرها مسموح به، لما كان هناك أصلا حاجة إلى اعتزال النساء في المحيض، ولما كان هناك أمر إلهي بعدم القرب من النساء مادمن على تلك الحالة. فهل هذا منطق يصعب فهمه؟
هنا استدركني صاحبي نفسه بالسؤال المباشر التالي: إذا كان الأمر بهذه السهولة كما تزعم، فلم لم يدركه أهل الدراية من قبلك؟ أتظن نفسك أنك أكثر قدرة على فهم كتاب الله من كل من سبقك؟
جواب: لما كنت أظن أن في هذا التساؤل اعتداء على قدراتي التعقلية (غير العادية)، جاء جوابي له صادما: نعم أنا أكثر أهل الأرض علما بكتاب الله، ولا أظن أن أحد سبقني إلى ذلك.
عندها اشتد النقاش مع صاحبنا، ولم تنقصه الفراسة أن يستنبط من قولي ذاك مقدار الغرور الذي وصلت أنا إليه، فتغيّرت نبرة صوته، وتبدّلت تعابير وجهه، لذا آثرت أن أصدمه أكثر في تلك اللحظة، فقلت له: أتدري يا صاحبي لم ذلك؟
وعندما رأيت الدهشة بادية على وجهه الذي لا تخفي تعابيره رغبته في معرفة السبب، قلت له على الفور: لأن القرآن نفسه ليس أكثر من كلام مفترى.
عندها لم يستطع صاحبي أن يتمالك نفسه، وآثر أن يتوقف النقاش عند هذا الحد، ولمّا وجدت أنه يفضل ذلك، حاولت أن أنقل الحديث إلى مواضيع أقل جدية على الفور. ولم الحظ من صاحبنا رغبة في معرفة ماهية ما افتريت من قول بخصوص القرآن، ولمّا كان من عقيدتي أن لا أتبرع بالعلم (الذي عندي) لمن لا يطلبه، آثرت السكوت عليه في تلك اللحظة، ولم أوضح لصاحبي ما أقصد من قولي أن القرآن ليس أكثر من كلام مفترى.
باب: القرآن كلام مفترى
بادئ ذي بدء، إن ما أود أن أقوله من خلال النقاش التالي هو أن الأعراب (أهل اللغة العربية) قد فتنوا بلغة آبائهم وأجدادهم، وطاروا وتطيّروا بها، ففسّروا كتاب الله بناءً على أفهامهم لتلك اللغة التي ورثوها، فكانت الكارثة – برأينا- طامة عامة. وكان الأولى بهم (في رأينا المفترى) أن يخضعوا كلام أبائهم وأجدادهم للغة القرآن الكريم بدل أن يخضعوا القرآن الكريم لألسنتهم المحرفة. وسنقدم هذا المثال للتدليل على ما نفتريه من القول بأن القرآن هو كلام مفترى (جملة ذهبية لمن أراد أن يجتزء النصوص لينشر فضائح العباد على رؤوس الأشهاد، أليس كذلك؟)
السؤال: ما هو الافتراء أولا؟ وما معنى أن يكون الشيء مفترى؟
جواب: لو راجعنا قواميس اللغة العربية جميعها، وألسنة الخطباء والفصحاء من أبناء العربية الذين يُشهَد لهم بأنهم قد امتلكوا ناصيتها، لوجدنا أنهم غالبا ما يربطون مفهوم الافتراء بالكذب، فهم يظنون أن المفترى من القول هو القول الذي فيه الكذب، أليس كذلك؟
لذا، فإني أزعم أنه عندما قلت لصاحبي أن القرآن هو كلام مفترى، ظن على الفور (كما يظن مخطئا بعض من يقرأ هذه السطور الآن) بأني أنعت القرآن على أنه كلام فيه الكذب، لذا آثر أن لا يجادل، وأكتفى أن يطلب منى أن استغفر ربي على تلك الكلمة العظيمة التي قد هوت بي في جهنم سبعين خريفا (ولا أدري لم خريفا وليس شتاء بالرغم أن فصل الشتاء هو أكثر برودة! أو لِم لَم تكن سبعين صيفا بالرغم أن الصيف أشد حرارة! ربما لأن هذا ما نقله أهل الرواية لهم).
رأينا: كلا وألف كلا، نحن نظن أن لا علاقة لافتراء القول بالكذب فيه. فالكلام المفترى ليس كلاما كاذبا أبدا، بل هو كلام حق لا جدال فيه.
الدليل
نحن نظن أن الدليل على ذلك يأتي من الآيات الكريمة الكثيرة التي تفرق بين الكلام المفترى من جهة والكلام المفترى كذبا من جهة أخرى، فهناك كم كبير من الآيات القرآنية التي تورد لفظ الكذب مصاحبا لمفردة الافتراء (ومشتقاتها)، انظر الآيات الكريمة التالية:
فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (37)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68)
السؤال: لم جاءت مفردة الافتراء مصاحبة لمفردة الكذب في جميع هذه السياقات القرآنية (افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)؟
السؤال المربك: لو كان الافتراء بحد ذاته يحمل في ثنياه معنى الكذب، فلا أظن أن هناك ضرورة لأن ترد مفردة الكذب مصاحبة لها (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ)، فما الداعي أن تأتي مفردة الكذب مصاحبة لمفردة الافتراء في جميع هذه السياقات القرآنية إن كان الافتراء يحمل في ثناياه معنى الكذب؟ ألا يكفي عندها أن ترد مفردة الافتراء لوحدها؟
رأينا: نحن نظن أن الافتراء لا يحمل معنى الكذب إلا إذا جاءت مفردة الكذب مصاحبة لها كما في جميع السياقات السابقة، وانظر عزيزي القارئ في هذه الآية الكريمة من هذا الجانب:
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
نتيجة: مادام أن هناك من يفتري الكذب، فلابد أن هناك من يفتري القول فقط، أليس كذلك؟
السؤال: وهل هناك سياقات قرآنية ترد فيها مفردة الافتراء غير مصاحبة لمفردة الكذب؟
جواب: انظر الآية الكريمة:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (43)
لاحظ كيف أن مفردة الافتراء قد جاءت مصاحبة لمفردة الإفك، الذي هو أصلا الاتهام بالباطل.
السؤال: وهل جاءت مفردة الافتراء لوحدها؟
جواب: انظر الآية الكريمة التالية جيدا:
إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
ألا تدل هذه الآية الكريمة أن الكاذب هو من يفتري الكذب، ولكن من يفتري القول فهو ليس بكاذب؟ وإلاّ لما كان لهؤلاء الفئة من الناس الذين يفترون الإثم مشكلة تذكر، لأن الإثم سيكون غير موجود أصلا مادام أنه قد جاء من باب الكذب في القول. لأن قولهم يصبح حينها من باب قولهم الكذب الذي لا يقصدونه، فلو كان شركهم الذي جاء من باب الافتراء هو من القول الكاذب، لأصبحت مشكلتهم سهلة لا تستدعي أن لا يغفر الله لهم. لكن لما كان الافتراء (كما نظن) هو قول حق يقصده صاحبه بلفظه، فإن قولهم بالشرك هو من باب القول المقصود لذاته، لذا استحقوا أن لا يغفر الله لهم بسبب فعلتهم تلك لأنهم افتروا (عن قناعة) الإثم العظيم:
لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
ولكني أظن أن هذا ليس دليلاً قطعيا على صحة ما نزعم، أليس كذلك؟ فهل هناك سياقات قرآنية أخرى يمكن الاستدلال من خلالها على صحة ما نقول؟
جواب: انظر السياقات القرآنية التالية التي تتحدث عن ما قاله المشركون بحق النبي محمد وعلاقته بكتاب الله:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (35)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
السؤال: هل يعتقد المشركون أن ما جاء به محمد هو كلام كاذب؟
رأينا: كلا وألف كلا، لو كان كذلك، لما كانوا بحاجة أن يتحدثوا عن مصدر ذلك الكتاب، لأن مشكلة المشركين هنا في ظننا تكمن في مصدر ذلك الكتاب، وليس بما جاء فيه، فهم يظنون أن هذا الكلام هو من صنع محمد نفسه، لذا فهم يظنون أن محمدا هو من افترى ذلك الكلام. لذا جاء دفاع محمد عن نفسه بنص القرآن نفسه على النحو التالي:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (35)
وقد كان جلّ جهد المشركين منصبا على أن يقنعوا محمد بأن يفتري كلاما غير الذي يأتيه من عند ربه:
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)
والآن حاول – عزيزي القارئ- أن تربط هذه الآية الكريمة السابقة بالآية الكريمة التالية:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
نتيجة: يحاول المشركون أن يقنعوا محمدا بأن يأتيهم بقرآن غير هذا أو أن يبدل هذا القرآن، فهم يريدونه أن يفتري الكلام من تلقاء نفسه (ولكنهم بالتأكيد لا يطلبون منه أن يكون كلامه الجديد المفترى فيه الكذب). فهل يستطيع محمد أن يفتري هذا القرآن من تلقاء نفسه؟
جواب، كلا، فـ لكي يستطيع محمد أن يفتري هذا القرآن فلابد له من مساعدة خارجية، فمن الذي ساعد محمد أن يفتري هذا القرآن؟
جواب مفترى: الله هو من ساعد محمدا حتى استطاع محمد أن يفتري هذا القرآن. كلام خطير جدا جدا. فأين الدليل على ما تفتريه من قول؟
جواب: نحن نظن أن الآية الكريمة التالية تقدم لنا الدليل (حسب فهمنا لها بالطبع) على أن هذا القرآن هو كلام مفترى، فانظر – عزيزي القارئ- السياق جيدا:
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37)
ألا تدل هذه الآية الكريمة - عزيزي القارئ – على أن القرآن هو فعلا كلام مفترى، ولكن من الذي افترى هذا القرآن، أليس محمد هو من افتراه بتأييد من ربه (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ)؟ وهل يستطيع محمد أن يكذب القولَ فيه في ضوء ما جاء في قوله تعالى:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن محمد كان يفتري القول (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، ولكن قول محمد كان يختلف عن قول الشعراء (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) أو قول الكهنة (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، لأنه كان يتنزل إليه من ربه (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)، ولم يكن محمد يستطيع أن يضيف فيه شيء من عنده (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ)، لأن النتيجة ستكون وخيمة جدا (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46))
السؤال: ما معنى الافتراء إذن؟ وكيف يختلف القول المفترى عن القول المفترى كذبا؟
رأينا: نحن نظن أن القول المفترى كذبا هو القول الذي فيه الكذب، وهو الذي يكون قائله قد قصد (عن نية مسبقة) تمرير معلومة كاذبة غير صادقة، لذا فالمتكلم يعلم في قرارة نفسه أن ما يقوله ليس صحيحا وأن الهدف من ذلك هو تشويه الحقيقة أو التغطية عليها. فيكون بذلك قد افترى كذبا.
أما من يفتري القول فقط، فهو الذي يقول المعلومة وهو مصدّق لما فيها، ويظن أن ما جاء فيها صحيحا، ويكون غرضه إيصال الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. ولكن هذا لا ينفي احتمالية أن تكون المعلومة بحد ذاتها خاطئة، فقد أفتري أنا قولا (ظانا ومؤمنا أن ما أقوله صحيحا)، فيتبين بعد ذلك أنه لم يكن كذلك، ويتبين خطأه بالدليل القاطع، لذا فإن صحة المعلومة أو خطأها ليست ركنا أساسيا في القول المفترى ولكن ما هو أساسي في افتراء القول هو قصد (ولنقل نيّة) المتكلم فقط، فمادام أن المتكلم يصدّق كلامه ولا يقصد به تشويه الحقيقة أو إخفاء شيء منها، فكلامه يأتي من باب افتراء القول، ولا يندرج في باب القول المفترى كذبا إطلاقا.
ولكن لماذا؟
رأينا: نحن نظن أن السبب في ذلك هو وضع الكلام للاختبار والتدليل عليه بالبرهان، فالكلام المفترى هو الكلام الذي يمكن اختباره لإثبات صحته أو خطأه بالبرهان، فعندما أقول أنا شيئا مقتنعا بصحته يكون ذلك من باب افتراء القول (ولكنه ليس من باب افتراء الكذب مادام أني لا اقصد الكذب فيه) وبالمقابل يمكن أن تقول أنت شيئا آخر مختلفا تماما وتكون مقتنعا بصحته فيكون كلامك أيضا من باب افتراء القول (ولكنه ليس من باب افتراء الكذب مادام أنك لا تقصد الكذب فيه). وربما يكون قولي (ما قلت أنا) وقولك (ما قلت أنت) متعاكسان تماما (بالضبط كما في حالة الجدال العلمي الذي يحصل بين أهل الاختصاص)، فكيف يمكن فض الخلاف بيننا؟
جواب: بالدليل، فعندما يحدث صراع فكري بين أهل العلم تكون الغلبة لمن يقدم البرهان على صحة ما يقول. فمن يستطيع تقديم الدليل على إثبات صحة قوله (أو ربما تقديم الدليل على إبطال قول خصمه)، فهو الذي يجب أن تكون له الحجة، أليس كذلك؟
السؤال: وهل ينطبق مثل هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا على القرآن الكريم؟
جواب: نعم، نحن نظن أن هذا المنطق يمكن أن يطبق على القرآن الكريم نفسه، ولكن أين الدليل على ذلك؟
جواب: نحن نظن أن الإله هو إله، وهو يسأل ولا يسأل، أليس كذلك؟
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
ولكن بالرغم من ذلك، هل قال الله لنا في كتابه الكريم أن هذا القرآن هو كلامه، ومادام كذلك فهو صحيح، ويجب علينا أن نأخذه حتى دون دليل؟ وبكلمات أخرى نقول: هل استخدم الله نفوذه كإله وطلب من الناس الانصياع لأمره والأخذ بقوله دون الحاجة إلى الدليل؟
جواب: كلا وألف كلا، هذه ليست منهجية الإله، ولكن منهجيته تلخصت في أمرين أثنين، أولهما أنه قدم بنفسه الدليل على صدق ما يفتري من قول، ويلخص ذلك حسب ظننا قوله تعالى:
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
وثانيهما أنه تحدى الجن والإنس أن يقدموا الدليل الذي يمكن أن ينقض كلام الإله نفسه، كأن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13)
أو أن يجمعوا أمرهم ليأتوا بمثله:
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
ونحن نظن أن هذا النهج الإلهي تلخصه الآية الكريمة التالية:
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111)
أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24)
أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)
نعم، قُلْ (هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)،إن من أراد أن يثبت أن كلام الله غير صحيح فعليه أن يقدم الدليل على صحة ما يقول (أي البرهان).
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن القول المفترى هو القول الصحيح الصادق الذي لا يمكن أن ينقض إلا بالبرهان، فمن يملك البرهان هو الذي يستطيع أن يثبت أو أن ينفي صحة القول المفترى. وما لم يثبت بطلان القول المفترى بالبرهان يبقى صحيحا لا جدال فيه.
نتيجة: وبهذا المنطق المفترى نقول: مادام أنك لا تملك الدليل على اثبات بطلان القرآن الكريم يبقى القرآن هو كلام مفترى، افتراه محمد (ليس من تلقاء نفسه) ولكن بتأييد إلهي:
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37)
ولا شك أن كل منا يفتري على قدره، فأنا أفتري القول ولكن هذا لا ينفي أن لي حدود في العلم لا أستطيع أن أتجاوزها، وكذلك هي الحال بالنسبة للبشر جميعا، فيبقى لكل منا حده الذي لن يتجاوزه مهما بلغ علمه:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
فمادام أن فوق كل ذي علم عليم، تبقى الفرصة مهيأة أن نخطئ فيما نفتري من القول وإن لم نكن نقصد الكذب فيه.
ولكن عندما يأتي افتراء القول من عند الإله نفسه، فهل هناك علما يمكن أن يتجاوز علم الإله نفسه:
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً (122)
أليس قول الإله هو الحق بعينه:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
وهل هناك بعد الحق إلا الضلال:
فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
نتيجة مهمة جدا جدا: إن قول الله هو قول مفترى وذلك لأنه يمكن أن يمحّص بالدليل وبالبرهان، ولكن ذلك البرهان أو الدليل سيفضي بلا شك إلى نتيجة واحدة وهي أن قول الله صحيح صادق لا كذب فيه.
لو كان صاحبنا القديم حاضرا لربما سألني: لماذا لم يلحظ أهل الدراية من قبلك الفرق بين القول المفترى والقول المفترى كذبا؟ ولِمَ لم يتوصلوا إلى ما توصلت إليه من أفهام (لا شك افتريتها من تلقاء نفسك)؟
جواب: ألا ترى يا صاحبي – كنت سأقول له- أن في هذا دليلا على أني أعلم أهل الأرض بكتاب الله، وأني غير مسبوق في ذلك؟!
سيهز صاحبنا رأسه، الذي لن تخفي تعابير وجهه ما يدور في داخله (إنك مغرور، وماخذ بحالك مقلب – كما نقول بلهجتنا الأردنية)
نعم، أظن أنك يا صاحبي قد أصبت كبد الحقيقة، لذا فإن ملاذي الوحيد هو أن أدعو الله وحده قائلا: اللهم آتني رحمة من عندك وعلمني من لدنك علما لا ينبغي لأحد غيري إنك أنت السميع المجيب، وأسألك ربي أن تنفذ مشيئتك لي الإحاطة بشيء من علمك لم تنفذ مشيئتك به لغيري إنك أنت العليم الحكيم).
السؤال: لِم لَم تصل أفهام سادتنا العلماء لمثل هذه الافتراءات؟ ربما يريد أن يسأل من ظن بأن في كلامنا هذا شيء من الصواب.
جواب: ربما لأنها افتراءات لا تستحق منهم (وهم أهل الفضيلة والإمامة والآيات) كثير عناء التفكر بها، فاشتغلوا بما هو (في نظرهم) أهم من ذلك. ولكن إن صح شيء مما نفتريه نحن من قول، فلابد من وجود سبب حقيقي ربما منعهم عن الوصول إلى حقيقة ألفاظ الكتاب الكريم، فما هو يا ترى؟
رأينا المفترى: إننا نظن أن السبب في ذلك هو تطيّرهم (كما ذكرنا أكثر من مرة) بلغة آباءهم وأجدادهم. وقد وصلت الجرأة ببعضهم أن يضع ما يسميه هو بالقواعد ثم ما يلبث أن يطبق تلك القواعد التي هي من صناعته وصناعة أهل العلم من أبناء جلدته على ما جاء في كتاب الله. والذي استوقفني هنا في محض حديثنا عن قصة يوسف هو ما جاء في مؤلفات بعض أهل الدراية (أهل اللسان الفصيح) عن الآية الكريمة التالية:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
فقال بعض أهل اللغة منهم، وتبعه في ذلك كثير من أهل الشريعة، أن الباء في مفردة (بِمَكْرِهِنَّ) هي زائدة. لأن المعنى يستقيم حسب ظنهم بدونها.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر
الباء زائدة؟! وهل في كلام الله يا أهل اللغة ويا أهل الشريعة (نحن نصيح بأعلى صوتنا) ما يمكن أن يكون زائدا؟ أليس كلام الله هو الكلام المطلق الذي لا تشوّهه زيادة فيه ولا يعتريه نقص؟
وكم هناك من الأمثلة التي خرجتموها على تلك الشاكلة؟ ومن أراد الاستزادة من مثل تلك الأمثلة، فما عليه إلا أن يراجع صاحبنا العزيز الدكتور هيثم العزام الذي وقعت يداه مؤخرا على بحث منشور في إحدى المجلات العلمية المحكمة عن موضوع الزيادات في القرآن الكريم، عندها ربما سيتعرف على كمية المعلومات التي جاءت زائدة في كتاب الله!!! فالله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله!!!
موقفنا العقائدي: نحن لا نتزحزح عن موقفنا العقائدي بأن كتاب الله كتاب كامل لا تشوّهه زيادة فيه ولا يعتريه نقص، وأن من يقول بغير ذلك، فحسابنا وحسابه على ربنا وحده:
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
(دعاء: اللهم ربنا افتح بيننا بالحق وأنت خير الفاتحين)
أما بعد،
السؤال: هل الباء زائدة في مفردة بِمَكْرِهِنَّ قوله تعالى:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)؟
سنحاول يا سادة أن نجمل في الصفحات الأخيرة من هذا الجزء من المقالة ما استطعنا (وبحول من الله وتوفيق منه نرجوه) أن نحصيه من الحاجة إلى تلك الباء في هذا السياق القرآني، طارحين المشكلة من خلال التساؤل التالي: ما فائدة الباء في مفردة بِمَكْرِهِنَّ في هذه الآية الكريمة؟ وماذا لو جاءت تلك المفردة بدون تلك الباء؟ فهل كان النص سيختلف كثيرا؟ وهل كانت الرسالة التي ستصلنا من ربنا ستختلف كثيرا؟
رأينا: لو لم تكن تلك الباء موجودة في مفردة بمكرهن لأصبحت الرسالة التي يريد ربنا أن يوصلها لنا عن تلك القصة مختلفة تماما، فوجود تلك الباء في هذا السياق القرآني لا شك يفيد في فهمنا القصة الحقيقية كما حصلت فعلا على أرض الواقع، ولكن كيف ذلك؟
جواب: للإجابة على هذا التساؤل فلابد من التعرض لمعاني هذه الباء في هذا السياق القرآني، وعندها سنتعرض على حجم المعلومة التي كان يمكن أن نفقدها لو غابت تلك الباء عن النص.
أولا، نحن نفهم أن استخدام الباء في بداية المفردة تدل على وجود الواسطة، كما جاء في قوله تعالى:
وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)
فالعذاب سيقع عليهم، ولكن الواسطة في تنفيذ ذلك العذاب هي أيديهم أنفسهم.
نتيجة مفتراة: لذا نحن نفتري الظن أن هناك واسطة جاءت بالخبر لامرأة التعزيز عن مكر النساء. فامرأت العزيز لم تسمع من النساء مباشرة، ولكنها سمعت عن مكرهن من خلال واسطة نقلت لها خبر مكر النسوة في المدينة (وسنتحدث عن تلك الواسطة التي نقلت الخبر لامرأة العزيز في الأجزاء القادمة من هذه المقالة، فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم إنه هو السميع المجيب)
ثانيا: نحن نظن أن وجود الباء تدل على أن السماع لم يكن مباشرا، فما الفرق بين أن نقول:
سمعت مكرهن
سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ
فلو كانت امرأة العزيز قد سمعت مكر النساء، لكان سماعها للخبر جاء مباشر ولحصل ذلك مرة واحدة، ولكن لما كان سمعاها كان على نحو (بمكرهن) فهي إذن لم تسمع من النساء مباشرة، ولكنها سمعت بالخبر عن طريق الواسطة كما أسلفنا.
ثالثا، لو كان سماع الخبر من قبل امرأة العزيز مباشر لسمعت الخبر كما قالته النساء بحرفيته، ولكن لما كان سماعها للخبر منقولا (وليس مباشر) يستحيل أن يكون الخبر قد وصلها بالضبط بالحرفية التي قالته النسوة. فالباء قد تفيد الجزئية كما في قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
فبالرغم أننا مأمورون أن نغسل وجوهنا وأيدينا وأرجلنا (انظر حركة الفتح وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... وَأَرْجُلَكُمْ) كاملة إلا أننا مأمورون أن نمسح برؤوسنا (أي جزء منها) فقط.
رابعا، لما كان الخبر قد جاءها بطريقة غير مباشرة، وربما أصابه شيء من التحريف، يستحيل أن يكون صحيحا على إطلاقه، لأن نقل الأخبار غالبا ما يشوبه التحريف والتشويه بواسطة من ينقل الخبر، خاصة إذا كان الناقل أكثر من طرف. فأنت عندما تسمع بخبر أن رئيس الوزراء الأردني المبجل قد ألقى خطابا (ليعلن تخفيض أسعار السلع كعادتهم بالطبع)، ولا تسمع الخطاب نفسه، فإن الناقل للخبر غالبا يضفي صبغته الخاصة (وربما شيئا من آراءه الشخصية) على الخبر ذاته (كما أفعل الآن عن حديثي عن السيد رئيس الوزراء الأفخم!)
خامسا، لمّا كان النقل يمكن أن تنقصة بعض الدقة (لخلوة من عنصر المباشرة)، فلا يستبعد أن يكون فيه شيء من التهويل والمبالغة، خاصة عندما يصل الأمر إلى الحديث عن أخبار علية القوم (كامرأة مثل امرأة العزيز)، لذا لابد أن المرأة قد أخذت تدابيرها الخاصة لتحقق مما يتناقله الناس عن أخبارها.
سادسا، عندما يأتي الخبر بطريقة غير مباشرة، فربما يتم تناقله في أكثر من مرة، فلو كانت امرأة العزيز قد سمعت مكرهن (أي مباشرة)، لربما فهمنا أن سماع الخبر قد حصل في مناسبة واحدة، فتكون النسوة بذلك قد دبّرن الأمر معا مرة واحدة، ولكانت هي قائمة حينئذ تسمع الخبر مباشرة في تلك اللحظة، ولكن لما كانت قد سمعت بمكرهن (أي ليس مباشرة)، فلربما فهمنا أن مكر تلك النسوة قد حصل على فترة من الزمن، وتم نقل تلك الأخبار تدريجيا لامرأت العزيز في أكثر من مرة، فهي كانت – كما نتخيل الأمر- تتابع (من خلال من يقوم بنقل الأخبار لها) مجريات مكر النسوة شيئا فشيئا (وسنرى بحول الله وتوفيقه تبعات هذا الظن على فهمنا القصة الكلية لاحقا).
سابعا، مادام أن النقل لم يكن مباشرا، وقد أخذ قسطا من الزمن، استطاعت امرأة العزيز – في ظننا- أن تأخذ وقتا كافيا لتدبير الخطة التي ستنفذها لتوقع تلك النسوة في شرك أفعالهن ضدها (وسنحاول تبيان ذلك لاحقا بحول الله وتوفيق منه).
الخ.
السؤال: هل الباء إذن زائدة يا أهل اللغة ويا أهل الشريعة؟
استغاثة: أسألكم بالله يا أهل القلوب التي تفقه وتعقل أن لا تلتفتوا إلى أكاذيب أهل الألسنة التي تظن أنها فصيحة، وأسألكم بالله أن تنقلوا أمانة هذا الكتاب العظيم من بين أيدي أهل اللسان (الذين ظنوا أنهم أهل الفصاحة والبلاغة) لتضعوه في أيدي أهل القلوب التي تعقل وتفقه (وإن لم تكن من أهل الفصاحة). وأن لا تسقطوا قواعد وضعتموها أنتم وآباءكم على ما في كتاب الله، فتجزوا ما جوزته قواعدتكم وتحطوا ما حطت، بل فانظروا إلى الأمر من الزاوية المعاكسة تماما، فاحكموا على قواعدكم التي حاكتها عقولكم من خلال ما جاء في كتاب الله، فالقرآن حكم على غيره، ويستحيل أن يكون غيره حكما عليه. وسنبيّن في مقالات لاحقة بحول الله وتوفيقه الكم الهائل من الأمثلة القرآنية التي لا تتماشى مع قواعدكم ... ، والقارئ مدعو لمراجعة بعض ما جاء في سلسلة مقلاتنا تحت عنوان ماذا كتب في الزبور كنقطة بداية في هذا النقاش الذي سيطول إن أذن الله لنا بشيء من علمه!!!
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
21 تشرين أول 2013
[1] نحن نجلب انتباه القارئ الكريم للتفريق بين الأعراب أهل اللغة العربية (ببدوهم وحاضرتهم) والبدو الذين قد لا يكونون أصلا من الأعراب، فيعقوب وأبناءه (وهم من بني إسرائيل) قد جاءوا يوسف من البدو:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)