قصة يوسف 14: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ
السؤال: لماذا أخذ يوسف أخاه في دين الملك؟
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
حاولنا في الجزء السابق من هذه المقالة التعرّف على شخصية صاحبي يوسف اللذين دخلا معه السجن كما جاء بصريح اللفظ القرآني في الآية الكريمة التالية:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
وأصبحا يعرفان بصاحبي يوسف السجن كما جاء في الآية الكريمة التالية:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
فتجرأنا على تقديم الافتراءات التالية التي هي بلا شك من عند أنفسنا:
1. دخل صاحبا يوسف معه السجن لأنهما كان مشتركين في حادثة مراودة المرأة لفتاها عن نفسه
2. كان أحدهما (أَمَّا أَحَدُكُمَا) فتى أمينا وكان الآخر (وَأَمَّا الآخَرُ) فتى متآمرا خائنا للأمانة
3. كان السبب بالزج بهما في السجن مع يوسف يتعلق بتسريب المعلومة عن مراودة امرأة العزيز لفتاها من داخل القصر إلى نسوة في المدينة (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)
4. كان هذا الآخر (وَأَمَّا الآخَرُ) هو من سرّب المعلومة السريّة ربما ليمسّ بهيبة العائلة المالكة.
5. كان الملك حينها شخصا طاعنا في السن لم يكن يقوى على إدارة شؤون الدولة بحزم، فعمّت بعض الفوضى في مملكته حتى وصلت إلى قصره، وليس أدل على ذلك مما فعلت ابنته امرأة العزيز مع فتاها
6. كان ولي عهد الملك لازال شابا يافعا، لم يكن يظن من حوله من أهل السياسة أنه قادر على إدارة شؤون الدولة بعد وفاة والده
7. حاول بعض أهل السياسة وخاصة هذا الفتى (الآخَرُ) الذي سرب المعلومة أن يستغل الوضع القائم، فأصبحت تلك الفترة فترة حرجة في ملك مصر
8. لما كان سيّد المرأة و(ولي عهد الملك) شابا متأنيا حذرا، صاحب حنكة سياسية (انظر الأجزاء السابقة)، استغلّ هذه الحادثة ليثبّت هيبته وأركان دولته.
9. قامت أخته بالإيقاع بالنسوة اللاتي مكرن بها في الفخ، فقطّعن أيديهن بأنفسهن، فأصبح الأمر لا يتعلق بامرأة العزيز وحدها، وإنما بكل النسوة اللاتي مكرن بها.
10. قام سيد المرأة (أخوها وولي عهد الملك) على الفور بطلب انعقاد المحكمة للنظر في تسريب المعلومات من بلاط الملك والخوض في أعراض نسوة المدينة بشكل عام ونساء القصر بشكل خاص
11. تم الزج على الفور بكل من كان حاضرا حينئذ
12. كان الفتيان اللذان دخلا السجن مع يوسف من الحاضرين هناك، فدخلا معه السجن لتنظر المحكمة في حيثيات القضية من جديد
13. نظرت المحكمة في الآيات، فتبين للمحققين أن المجرم هو صاحب يوسف هذا الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه الخبز، فصدر الحكم العادل بحقه، فكان الصلب من نصيبه.
14. تمت تبرئة الأول (وهو صاحب يوسف الذي كان يعصر خمرا) من التهمة، فخرج من السجن وطلب منه يوسف أن يذكره عند ربه (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)
15. كان هذا الفتى يعمل في عصر (أي جمع) خمرا (أي الضرائب) لإيرادها إلى خزائن الملك (انظر الجزء السابق)
16. كان الفتى الآخر الذي ثبت تورطه بالجريمة يعمل كوزير للخزانة، فكان هو المسئول عن توزيع تلك الثروة المعصورة (المجموعة) من خمر الأرض (ضرائبها).
17. ما أن تم إيقاع عقوبة الصلب بحقه، حتى ظلّ هذا المنصب شاغرا يتولاه الملك بنفسه
18. ما أن خرج يوسف من السجن حتى طلب بنفسه من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لأنه حفيظ عليم (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)
19. الخ
(للتفصيل انظر الأجزاء السابقة)
وسنتابع في هذا الجزء من المقالة تصوراتنا المفتراة عن ما حصل من أحداث في تلك القصة العظيمة، سائلين الله وحده أن يؤتينا رشدنا وأن يهدينا إلى نوره فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو السميع المجيب – آمين.
أما بعد،
لمّا كان ذلك الفتى الذي أدين بالتهمة مسئولا في المحافظة على أموال خزينة الدولة التي كانت تجمع من أغنياء الناس لتوزع على فقرائهم (أي الضرائب) لقاء الخدمات التي تقدمها الدولة بالمحافظة على الأمن الداخلي والدفاع عن الدولة من التهديد الخارجي (فكانت خزينة الدولة مثلا تدفع معاشات الجند والموظفين من تلك الأموال، وتسد حاجة الفقراء منها أيضا)، جاءت عقوبته على نحو أن يصلب لتأكل الطير من رأسه. ولكن لماذا؟
رأينا: نحن نظن أنه في إيقاع تلك العقوبة ربما تحققت على الأقل غايتان هما:
1. إنزال العقوبة المناسبة بالجرم المرتكب
2. التشهير بالذي فعل هذه الفعلة ليكون عبرة لغيره.
الباب الأول: إنزال العقوبة المناسبة
نحن نظن أن فعل ذلك الفتى قد جاء من باب الإفساد بالأرض الذي كانت عقوبته على نحو أن يصلب:
إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
فالفتى قد تلقى العقوبة التي يستحقها لأنه كان يعيث في الأرض فسادا، ونحن نظن أن فساده قد ظهر في وجهين على الأقل:
1. عندما لم يكن أمينا على خزائن الملك
2. عندما حاول أن يخون الملك بتسريب المعلومات التي تمس هيبته. فهو الذي – برأينا- نشر بين نسوة المدينة خبر أن ابنت الملك (امرأة العزيز) هي من تراود فتاها عن نفسه
منطقنا المفترى من عند أنفسنا
لمّا كان صاحب يوسف هذا الآخر هو – حسب ظننا- من عاث في الأرض فسادا في سرقة أموال خزينة الدولة كان الصلب من حقه، ولما كان هو من حاول أن يمس برأس الدولة (أي الملك) من خلال تsريب المعلومات التي تمس هيبة الملك تم اتخاذ القرار بأن تأكل الطير من رأسه.
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا
لنقرأ بداية الآية الكريمة التالية:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
لنجد أوجه التشابه بين الرؤيا (المثل) والحقيقة (بنا)
الرؤيا | الحقيقة |
الفتى يرى رؤيا | الفتى يلقى عقابا |
الفتى يرى أنه يحمل فوق رأسه | الفتى يصلب على تلك الهيئة |
الفتى يرى أنه يحمل فوق رأسه خبزا | الفتى يصلب لأنه - برأينا- سرق ذلك الخبز |
الفتى يرى أن الطير يأكل من ذلك الخبز | الفتى يصلب لتأكل الطير من رأسه |
لذا نحن نتجرأ أن نعيد نسج خيوط تلك القصة من مخيالنا على النحو التالي:
لمّا كانت الطير أمم أمثالنا، كانت تلك الطير التي رءاها في الرؤيا تعبر عن الناس في الحقيقة، وهم الذين كان هذا الرجل من المفترض أن يحافظ لهم على قوتهم. ولمّا كان الله هو ربنا الذي يرزقنا كما يرزق الطير:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6)
كان الملك (ولله المثل الأعلى) هو المسئول عن توفير أرزاق الناس من تلك المتوافرة في خزائنه. لذا نحن نتجرأ على تقديم الافتراءات التالية:
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (1): لما كان هذا الفتى قد سرق تلك الأموال كانت عقوبته على نحو أن يصلب لتأكل الطير (في الرؤيا) من رأسه لأنه هو من سرق أقوات تلك الطير (في الرؤيا) وهم الناس (في الواقع).
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (2): لما كان هذا الفتى يحاول أن يمس برأس الدولة (الملك) لينال من هيبته تم قطع رأسه لتأكل الطير منه، فيرى الناس بأم أعينهم أن الذي يمس بهيبة الملك سيكون رأسه هو من يأكل الطير منه.
ولكن كيف تم ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال نحن نجد الضرورة تستدعي أن نطرح تساؤلات أخرى ذات صلة بالموضوع نفسه، نذكر منها:
1. لِم أكلت الطير من رأسه فقط؟ لِم لَم تأكل من باقي جسده؟
2. كيف تمت عملية صلبه؟
3. أين تم صلب الفتى؟
4. كم استمر صلبه؟
5. الخ.
نحن نظن باستحالة أن تأكل الطير من رأس هذا الفتى إلا بعد أن يتم قتله، لأن في تعريض جسده كاملا للطير فرصة بأن تأكل الطير من كل أعضاء جسده وليس فقط من رأسه، ولكن النص القرآني أثبت أن الطير لم تكن لتأكل إلا من رأسه (وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ). لذا نحن نتصور مفترين القول من عند أنفسنا أنه ما أن تمّ صلب ذلك الرجل بعد قتله حتى تم فصل رأسه عن بقية جسده، فتم دفن الجثة في التراب، ثم أخذ رأسه المبتور عن جسده ليوضع على منصة مرتفعة لتأكل الطير منه، وليرى العامة من الناس بأم أعينهم ما حل بالرجل، ربما ليكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه بأن يمس برأس الدولة (الملك)، لأن رأس كل من يمس برأس الدولة سيكون - لا محالة- طعاما للطير إن هو حاول أن يضع الملك في أفواه الناس ليتحدثوا عنه بالسوء.
افتراءات من عند أنفسنا:
1. نحن نظن أن الطير لم تكن لتأكل من جسده ربما لأن الجسد كان قد دفن في التراب، وأن ما تم وضعه للطير هو الرأس فقط
2. ونحن نؤمن يقينا أن الطير لم تأكل رأس الفتى كله وإنما كانت تأكل من رأسه (وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ). لذا نحن نفتري القول بأن الطير قد أكلت شيئا من رأسه ولم تأكل رأسه كله، لأنه لو أكلت الطير رأسه كله لربما جاء النص القرآني على نحو:
وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير رأسه
فلقد اتهم إخوة يوسف الذئب بأنه قد أكل يوسف (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)، فلم يضطروا أن يبحثوا عن شيء من بقاياه، ولم يطلب أبوهم يعقوب منهم أن يأخذوه إلى المكان الذي حصلت فيه الحادثة لينظر ما تبقى من عظام ولده مثلا (للتفصيل انظر الأجزاء السابقة). وهذا آدم وزوجه يأكلان من الشجرة ولكنهما بالتأكيد لم يأكلا الشجرة كلها:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
فلو أن آدم وزوجه قد أكلا الشجرة لما تبقى منها شيئا، لذا علينا أن نميز بين أكل الشيء (أي كله) والأكل من الشيء (أي جزء منه).
3. ونحن نفتري القول أيضا بأن الطير لم تأكل شيئا من وجهه لأن الوجه ليس جزءا من الرأس (انظر مقالتنا لماذا نصلي خمسة مرات في اليوم والليلة؟ للتفريق بين الرأس والوجه)
لذا نحن نتخيل أنه قد تم بتر رأس الفتى ودفن جثته، وتم أخذ رأسه ليوضع على منصة للطير لتأكل من رأسه، فكان ذلك على نحو مكبا على وجهه كما في الشكل التالي:
فما كانت الطير تستطيع الوصول إلى وجهه لتأكل منه ولكنها تأكل فقط من رأسه (من الأعلى).
4. وُضِع ذلك الرأس على منصة ليرى الناس (في الحقيقة) ما حلّ بمن حاول خيانة الملك، عندما جعل سيرته بالسوء على لسان الناس بتسريب معلومات مهينة عن عائلة الملك (امرأة العزيز)، لذا تمت إهانته بوضع رأسه في أفواه الطير.
5. الخ.
السؤال: كيف استطاع يوسف أن يؤول الرؤيا لصاحبيه السجن؟ من أين جاء يوسف بذلك العلم حتى وصل إلى درجة اليقين بما يقول (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ):
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
رأينا: نحن نظن أن ذلك كان من علم يوسف الخاص باستباق الأحداث؟ ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نظن أنه عندما قال يوسف لصاحبيه السجن عبارة (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)، فهو في ظننا يشير إلى أن الحكم القطعي بحقهم جميعا قد صدر من المحكمة وإن لم يكن تبليغهم بالحكم قد وصل بعد.
لذا نحن نتخيل أن الأمر قد حصل على النحو التالي: تنعقد المحكمة في جلستها الأخيرة في غياب المتهمين (يوسف وصاحبيه السجن)، فتتخذ قراراتها على النحو التالي:
1. تبرئة صاحب يوسف الأول من التهمة المنسوبة إليه
2. صلب صاحبه الآخر حتى تأكل الطير من رأسه لأنه هو من ثبتت إدانته
3. إبقاء يوسف في السجن على ذمة التحقيق
ولم يتم (نحن نتخيل) تبليغ المتهمين بالقضية بتلك الأحكام الصادرة بحقهم في ذلك اليوم (أو ربما في الأيام القليلة اللاحقة). فينام صاحبيه السجن، وما يكون منهما إلا أن يروا تلك الرؤيا الشهيرة:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ...
وعندما يستيقظان من نومهما يقومان بإخبار يوسف بما رءاوه في منامهما طالبين نبأ ذلك على شكل تأويل:
... نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
فما يكون من يوسف إلا أن ينبئهما بما حصل بالضبط في المحكمة:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ...
ولا يتوقف عند ذلك بل يضيف لهم قائلا بأن القرار (أي قرار المحكمة) قد جاء قرارا قطعيا لا رجعة فيه، فكانت تمت الآية الكريمة السابقة على النحو التالي:
قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
الدليل
لو راجعنا قصة يوسف مع صاحبيه السجن كما جاءت في كتاب الله، لربما وجدنا الدليل على ذلك واضحا في قوله لهما:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
نتيجة: لقد كان عند يوسف من العلم ما يؤهله استباق الأحداث، فهو كان ينبئهم بكل طعام يرزقانه قبل أن يأتيهما (لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا)، وهو بالمنطق نفسه ينبئهم بتأويل الحكم الذي صدر من المحكمة قبل أن يأتيهما، وبكلمات أكثر دقة نقول بأنه ما أن يحصل الحدث على أرض الواقع حتى يكون نبأه (العلم به كخبر) عند يوسف قبل أن يصل صاحبه، فهو ينبئهم بتأويل الطعام الذي كانا يرزقانه قبل أن يأتيهما. وها هو الآن ينبئ صاحبيه السجن بقرار المحكمة التي انعقدت لهما قبل أن يصلهما خبر ما جرى فيها. وهذا ما نسميه بمفرداتنا علم التأويل: إنه العلم باستباق الأحداث بمجرد أن تحصل.
السؤال: من أين حصل يوسف على العلم؟
جواب خطير جدا جدا مفترى من عند أنفسنا: إنه العلم بالآيات المحكمات:
هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7)
لاحظ - عزيزي القارئ- أن هذه الآية العظيمة تثبت وجود نوعين من الآيات في الكتاب:
1. الآيات المحكمات (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)
2. والأخر المتشابهات (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)
كما تثبت الآية الكريمة نفسها أنه في حين أن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)، إلا أن الراسخون في العلم يتبعون الآيات المحكمات للعلم بتأويله، فالله قد حصر علم التأويل الحقيقي بنفسه والراسخون في العلم:
... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ...
(دعاء: اللهم أسألك أن أكون أكثر أهل الأرض رسوخا في العلم، إنك أنت السميع البصير – آمين).
ونحن نظن (مفترين القول من عند أنفسنا) بأن يوسف كان من الراسخين في العلم، فهو من شهد بنفسه لنفسه بأنه عليم:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
ونحن نظن بأن يوسف كان – كما ذكرنا في أكثر من مقالة سابقة لنا- يفوق والده يعقوب في العلم، لأن يعقوب كان ذا علم فقط:
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)
ولكن يوسف كان "عليم":
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
ولو طبّقنا السنة الإلهية التي جاءت في الآية الكريمة التي جاءت في سورة يوسف نفسها التالية:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
لما ترددنا لحظة واحدة أن نخرج بالاستنباط أن يوسف العليم لا شك يتفوق على والده يعقوب ذي العلم.
استراحة قصيرة
السؤال: لماذا جاءت السنة الإلهية هذه (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) في قصة يوسف بالتحديد وفي هذه الآية الكريمة على وجه الخصوص؟ انظر – عزيزي القارئ- الآية الكريمة جيدا:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن أحد الأسباب التي ربما جاءت هذه السنة الإلهية في هذه السورة العظيمة وفي هذه الآية الكريمة التي تتحدث عن بعض مجريات قصة يوسف يتعلق بموقف يوسف مقابل موقف والده يعقوب من بعض أحداثها. فلنطرح التساؤل على النحو التالي: هل كان يعقوب (وهو ذو علم) سيقبل بنفس الرأي (الذي ورد في هذه الآية) كما ارتضاه يوسف (وهو العليم) فعلا؟ وبكلمات أكثر دقة نحن نسأل: هل كان يعقوب سيرضى أن يؤخذ أبنه في دين الملك كما رضي يوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك؟
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
رأينا: نحن لا نظن أن وجهة نظر كليهما ستكون متطابقة فيما يتعلق بالحكم الوارد في الآية الكريمة نفسها (الخاص بأخذ شخص يتبع ملة إبراهيم في دين الملك الذي لم يكن يتبع دين إبراهيم)، فقد يتخذ يعقوب – نحن نفتري القول- رأيا يختلف تماما عن الموقف الذي اتخذه يوسف. ولكن كيف ذلك؟
جواب: دعنا نقرأ الآية الكريمة نفسها مرة أخرى من هذا المنظور في سياقها القرآني الأوسع:
قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77):
لا شك أن الآيات الكريمة تتحدث عن وقوع حادثة السرقة (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ)، أليس كذلك؟ والآيات الكريمة تتحدث عن جزاء من اقترف هذه الجريمة (قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ). ليكون السؤال الآن على النحو التالي: لِم لَم يعمد يوسف (وهو المسئول الآن في أرض مصر) إلى قطع يد السارق؟ أليس من سرق جزاءه قطع اليد؟
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
رأي من سبقونا من أهل الدرية: نحن نظن أن موقف سادتنا العلماء من أهل الدراية للخروج من هذه الأزمة الفكرية كان على الدوام يتمثل بالظن بأن هذا الحد (أي حد قطع يد السارق والسارقة) لم يكن موجودا في شريعة يعقوب وولده يوسف من بعده وأبيهم إبراهيم من قبلهم. انظر ما جاء عند أهل الدراية في تفسير الآية الكريمة التالية:
قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
فهذا ما جاء في تفسير ابن كثير:
وهكذا كانت شريعة إبراهيم عليه السلام أن السارق يدفع إلى المسروق منه .
وهذا ما جاء عند الطبري:
قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } . يقول جل ثناؤه : وقال إخوة يوسف : ثواب السرق من وجد في متاعه السرق فهو جزاؤه , يقول : فالذي وجد ذلك في رحله ثوابه بأن يسلم بسرقته إلى من سرق منه حتى يسترقه . { كذلك نجزي الظالمين } يقول : كذلك نفعل بمن ظلم ففعل ما ليس له فعله من أخذه مال غيره سرقا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 14942 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق : { فهو جزاؤه } أي سلم به , { كذلك نجزي الظالمين } : أي كذلك نصنع بمن سرق منا 14943 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا عبد الرزاق , عن معمر , قال : بلغنا في قوله : { قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } أخبروا يوسف بما يحكم في بلادهم أنه من سرق أخذ عبدا , فقالوا : { جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } 14944 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي : { قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } تأخذونه فهو لكم ومعنى الكلام : قالوا : ثواب السرق الموجود في رحله , كأنه قيل : ثوابه استرقاق الموجود في رحله , ثم حذف " استرقاق " , إذ كان معروفا معناه , ثم ابتدئ الكلام فقيل : هو جزاؤه ; { كذلك نجزي الظالمين } . وقد يحتمل وجها آخر : أن يكون معناه : قالوا ثواب السرق الذي يوجد السرق في رحله , فالسارق جزاؤه . فيكون " جزاؤه " الأول مرفوعا بجملة الخبر بعده , ويكون مرفوعا بالعائد من ذكره في " هو " , و " هو " رافع " جزاؤه " . ويحتمل وجها ثالثا : وهو أن تكون " من " جزائية , وتكون مرفوعة بالعائد من ذكره في الهاء التي في " رحله " , والجزاء الأول مرفوعا بالعائد من ذكره في " وجد " , ويكون جواب الجزاء الفاء في " فهو " . والجزاء الثاني مرفوع ب " هو " , فيكون معنى الكلام حينئذ : قالوا : جزاء السرق من وجد السرق في رحله , فهو ثوابه يسترق ويستعبد
فسادتنا العلماء أهل الدراية يظنون (وهم ربما يكونون محقين في ذلك) أن حدّ قطع يد السارق (الذي هو لا شك من شريعة محمد) لم يكن من شريعة إبراهيم وذريته من بني إسرائيل.
رأينا المفترى: إذا كان الأمر كذلك، فما بال النص القرآني يؤكد في السياق نفسه بأن يوسف قد أخذ أخاه في دين الملك؟
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
ألا تؤكد الآية الكريمة أن يوسف قد أخذ أخاه فعلا في دين الملك؟ ألا يدل ذلك أن دين الملك هو النافذ تطبيقه بحق السارق حينئذ؟ فكيف كان يختلف دين الملك عن دين يوسف؟ أم هل كان يوسف حينها على دين الملك؟
رأينا المفترى: كلا، لقد كان دين يوسف يختلف عن دين الملك وإلا لما استوجب الفصل بينهما في الآية الكريمة التي تتحدث عن جزاء السارق في تلك البلاد. وسنرى لاحقا تبعات هذا الظن عند الوصول إلى أحداث قصة يوسف بعد خروجه من السجن، فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم إنه هو الحكيم الخبير – آمين).
ثانيا، إذا كان حد السرقة بقطع اليد من شريعة محمد فقط (ولم يكن من شريعة إبراهيم وولده من بعده كما جاء في أمهات كتب التفاسير من عند أهل الدراية)، فما الذي سنفعله بالآية الكريمة التالية إذن؟
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
السؤال: ألم يكن يوسف على ملة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب، ألم يقل بملء فيه؟
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
السؤال: هل ملة محمد تختلف عن ملة إبراهيم وهو من كان أولى الناس بإبراهيم؟
جواب: كلا، نحن نظن أن دين إبراهيم هو الإسلام:
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
وأن دين محمد هو الإسلام كذلك، وأن تطبيق الحدود هي من سنن الله التي يجب أن تنفذ في دينه، وأن حدّ السرقة هو واحد منها، فقطع يد السارق هو الحدّ الذي يجب أن يطبق عند كل من اتخذ من الإسلام دينا. لكن هذا يعيدنا على الفور إلى التساؤل التالي: لِم لَم يعمد يوسف إلى قطع يد أخيه الذي سرق؟ ولِم لَم يطلب أبناء يعقوب (إخوة يوسف) بتطبيق ذلك التشريع؟ ألا يمكن حينها أن تقطع يد من اتهم بالسرقة (بعد أن جاءت الأدلة لتثبت ذلك: ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ)، ويعود مع إخوته إلى دياره بعد أن يكون قد تلقى جزاء ما فعل؟ ألم يكونوا متلهفين جميعا للعودة بأخيهم إلى أبيهم حتى لو كان على حساب أن يأخذ عزيز مصر واحدا منهم بدلا منه؟
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
فلم أخذ يوسف أخاه إذن في دين الملك؟
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
نتيجة: لقد أخذ يوسف أخاه في دين الملك ولم يطبق عليه حد قطع اليد مادام أن تهمة السرقة قد ألصقت به. لكن مثل هذا القول يلزمنا طرح السؤال التالي: كيف أخذ يوسف أخاه في دين الملك؟
جواب: لقد طبق عليه القانون المدني الذي ينصص عليه دين الملك، ولم يطبق عليه القانوني التشريعي الذي ينصص عليه دينه ودين أخيه (وهو ملة أبيهم إبراهيم وإسحق ويعقوب).
السؤال: لماذا؟ لماذا رضي يوسف بأن يأخذ أخاه في دين الملك؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لو كان يعقوب هو من يقوم على تطبيق الحدود حينها لربما (نحن نظن) نفّذ حد قطع اليد بحق ولده مادام أنه ثبت له بالدليل (ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ) أنه قد سرق (للخوض في الكيفية، انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة الخاص بتقطيع النسوة أيديهن). ولكن لما كان يوسف هو من يقوم على تطبيق الحدود لم يفعل بذلك، واكتفى بأن يأخذ أخاه في دين الملك، فعمد إلى استرقاق أخيه ولم يعمد إلى قطع يده؟
السؤال: لماذا لم يعمد يوسف إلى قطع يد أخيه الذي سرق وعمد إلى أخذ أخيه في دين الملك؟
جواب: نحن نظن أن السبب ربما يعود في ذلك لأن يوسف كان عليما ولم يكن فقط ذا علم كأبيه يعقوب. فما الفرق؟
جواب: نحن نظن أن ذا العلم يتلقى المعلومة فيتصرف بها بما يجب (وهذا هو حال يعقوب لأنه ذو علم، فلابد أن يطبق حد السرقة كما يعلمه)، ولكن العليم – بالمقابل- هو الذي يفقه العلم ومقاصده، فيتصرف بالمقصد الذي من أجله جاءت المعلومة. فهو يعلم مقصد العلم ذاته.
السؤال: وكيف يمكن تطبيق ذلك في حق يوسف وأخيه في حادثة السرقة؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن في قصة يوسف من الأحكام التشريعية ما يمس جوهر العقيدة ذاتها ويبين كثير من مقاصد أحكامها، ونقصد هنا على وجه التحديد الأحكام الخاصة بالمغتربين (أي من يعيش في أرض غير الإسلام). فقصة يوسف هي قصة ذلك الشاب الذي خرج من بلاده، وحطت به الرحال طلبا للعلم في بلاد لا يعرفها، فعاش فيها غريبا، وواجه من المشاكل ما يمكن أن يواجهه كل من اغترب عن دياره كتلك الخاصة بالنساء (العلاقات الجنسية)، والعمل، والمواطنة، وتطبيق الأحكام التشريعية في تلك البلاد التي هو فيها غريب. وعمل هناك فنجح في تحقيق ذاته. وبدل أن يقفل عائدا إلى بلاده الأصلية، اختار أن يطلب مجيء أهله جميعا إليه، فعاشوا جميعا في بلاد ليست في الأصل بلادهم وبين قوم ليسوا هم قومهم. فكيف يجب أن تكون الأحكام التشريعية الخاصة بهؤلاء الناس؟
جواب: لنتحدث بداية عن بعض تلك الأحكام كما نراها في قصة يوسف. ولنبدأ بالجانب التالي وهو باب العيش في بلاد الإلحاد مقابل العيش في بلاد الشرك:
جاء في كتاب الله في قصة يوسف على لسان يوسف نفسه بأنه قد ترك ملة قوم ملحدين:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
السؤال: من هم القوم الذين ترك يوسف ملتهم؟ ألم يكن يوسف يعيش في أرض مصر؟ ألم يكن أهل مصر حينئذ متخذين أرباب متفرقون من دون الله كما جاء في كتاب الله في قصة يوسف وعلى لسان يوسف نفسه؟
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40)
ألم يطلب يوسف من صاحبه السجن أن يذكره عند ربه؟
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
السؤال مرة أخرى: من هم القوم الذين ترك يوسف ملتهم وقد كانوا لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)؟
جواب: إنهم القوم الذين تربى فيهم بعد أن اشتراه ذلك الرجل من مصر:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن يوسف قد نشأ في بيت ذلك الرجل في أرض غير أرض مصر، وهناك حصل له التمكين الأول في الأرض، وهناك تلقى علم تأويل الأحاديث. ولكن ما أن بلغ أشده واستوى حتى آتاه الله حكما وعلما:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وما أن وجد يوسف نفسه يعيش في بلاد لا يؤمن أهلها بالله ولا باليوم الآخر (أي على عقيدة الإلحاد) حتى آثار أن يترك تلك الأرض ليرحل إلى أرض مصر حيث الناس هناك يتخذون أربابا من دون الله ويؤمنون باليوم الآخر (أي على عقيدة الشرك)، ونحن نفتري القول من عند أنفسنا أنه لو بقي يوسف في تلك الأرض التي تربى فيها لما حصل أن سجن فيها، لأن التمكين الإلهي له فيها قد حصل:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
افتراء من عند أنفسنا: لما كان يوسف عليما وجد أن عليه أن يترك ملّة هؤلاء القوم الملحدين فلا يعيش بينهم (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، فآثر أن ينتقل إلى أرض مصر ليعيش هناك لأن الناس في مصر وإن كانت عقيدتهم ليست عقيدة التوحيد إلا أنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر، ولكن مشكلتهم تكمن في أنهم يتخذون من دونه أربابا متفرقون:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40)
فالمدقّق في هذه الآيات الكريمة يجد أن أهل مصر حينئذ كانوا يعبدون من دون الله أرباب متفرقون بالضبط كما فعل قوم الفتية الذين خرجوا ليأووا إلى الكهف:
هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد عاش يوسف بين قومين:
1. قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
2. قوم يعبدون من دون الله أرباب متفرقون: مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ
السؤال: أين موطن كل منهما؟
جواب مفترى: لا شك أن النوع الثاني (وهم المشركون الذين يتخذون من دون الله أرباب) هم أهل مصر في زمن يوسف. ليبقى السؤال على النحو التالي: من هم القوم الذين كانوا لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم منكرون والذين ترك يوسف ملتهم (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)؟ وأين هي ديارهم؟
جواب خطير جدا جدا مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنهم القوم الذين كانوا يعيشون في الأرض المقدسة حينئذ. لذا نحن نتخيل قصة يوسف من هذا الجانب وقد حصلت على النحو التالي:
قصة يوسف بتصور جديد: تخيلات مفتراة من عند أنفسنا
يجعل إخوة يوسف أخاهم في غيابة الجب، فيلتقطه بعض السيارة ويذهبوا به إلى أرض مصر، وهناك يتواجد في سوقها ذاك الرجل الصالح الذي اشترى يوسف بثمن بخس دراهم معدودة، ويعود بيوسف من أرض مصر إلى بيته في بيت المقدس (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)، يمكث يوسف في ذلك البيت في صغره بين أولئك القوم الذين لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، فيمكن الله له في تلك الأرض، وما أن يبلغ أشده حتى يؤتيه الله حكما وعلما (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا). ولكن ما أن وجد أن أهل تلك البلاد لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر حتى يتخذ قراره بالخروج من تلك الديار قاصدا أرض مصر حيث عقيدة الشرك هي السائدة بدلاً من عقيدة الإلحاد. فيشتغل يوسف في أرض مصر ولا يحصل له تمكين فيها، فتراوده المرأة التي هو في بيتها عن نفسه، فيمتنع، وتحاول نسوة المدينة أن يمكرن به، فيفضل يوسف أن يسجن على الوقوع في الفاحشة، فيمكث في سجن مصر بضع سنين، وما يحصل له التمكين في أرض مصر إلا بعد رؤيا الملك ومكالمته:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
نتيجة لقد حصل ليوسف تمكينان في الأرض، ونحن نفتري الظن بأن التمكين الأول له كان في الأرض المقدسة بينما كان التمكين الآخر في أرض مصر.
نتيجة خطيرة جدا: ربما سنجد لاحقا بأن رحلة يوسف كانت هي الرحلة المعاكسة في خط سيرها لرحلة موسى في الأرض، ففي حين أن موسى قد تربى في أرض مصر، وذهب إلى بيت المقدس وهناك تلقى حكما وعلما بعد أن بلغ أشده واستوى:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) القصص
فإن رحلة يوسف قد بدأت من الأرض المقدسة حيث تلقى هناك حكما وعلما:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يوسف (22)
ومن هناك انتقل إلى أرض مصر. فنحن نفتري الظن بأن كلاهما تلقى العلم في المكان نفسه (الأرض المقدسة)، وأن كلاهما قد ذهب إلى المدينة (العاصمة السياسة للبلاد حينئذ). وسنتحدث عن تحديد المكان جغرافيا عندما نحاول أن نربط قصة يوسف مع قصة موسى في نهاية سلسلة مقالاتنا الخاصة بيوسف وموسى بحول الله وتوفيق منه.
ونحن على العقيدة التي مفادها أن بني إسرائيل أيام يوسف كانوا لازالوا يعيشون حياة البداوة:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وما كتب الله لبني إسرائيل تلك الأرض إلا زمن موسى عندما جاء ليخرجهم من أرض مصر:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
السؤال: من هم القوم الذين كانوا يسكنون الأرض المقدسة زمن يوسف حتى مجيء موسى إليها مع بني إسرائيل من أرض مصر؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لو قرأنا السياق القرآني السابق بشيء من التدبر لربما خلصنا إلى النتيجة الخطيرة المفتراة من عند أنفسنا التالية: إنهم القوم الجبارين. أنظر الآيات السابقة مرة أخرى:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
خلاصة: لقد عاش يوسف في الأرض المقدسة في صباه في بيت ذلك الرجل الذي اشتراه من مصر، وقد كان القوم الذين يسكنون تلك الأرض هم القوم الجبارين الذين لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، وهم الذين آثر يوسف أن يتركهم عندما بلغ أشده بعد أن آتاه الله حكما وعلما هناك:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يوسف (22)
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
وربما يرشدنا مثل تصرف يوسف هذا إلى استخلاص الأحكام الخاصة بالعيش في بلاد لا دين لأهلها، بلاد لا يؤمن أهلها بالله وهم بالآخرة هم منكرون.
كما قد يرشدنا قرار يوسف في الذهاب إلى بلاد يدين أهلا بدين الشرك، بلاد يعبد أهلها آلهة من دون الله ويؤمنون بالآخرة إلى استنباط الأحكام الخاصة بالعيش فيهم والعمل عندهم، الخ.
ونحن نترك لسادتنا العلماء أهل الدراية مهمة استنباط الأحكام التشريعية مادامت تلك صنعتهم، أما نحن فلا نخرج للناس بفتاوى لأن هذه ليست صنعتنا وجل ما نفعل هنا هو أننا نفكر فقط بصوت مرتفع. هذا والله أعلم
(دعاء: أعوذ بالله مما افتريت من قول من عند نفسي، وأسأل الله أن يتم نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون، وأسأله وحده أن يؤتينا رشدنا، فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو الواسع العليم – آمين).
ثانيا، تطبيق حد السرقة (بقطع اليد كما بنص الشرع) في بلاد غير بلاد الإسلام.
الوضع السائد: لو حصلت السرقة في بلاد الاغتراب من قبل من يعتنق من الإسلام دينا، لربما عمد بعض سادتنا العلماء إلى اتخاذ الموقف العقائدي الذي يلزم بقطع يد السارق (أو جلد الزاني أو رجمه كما يحبون أن يطبقونه) أليس كذلك؟ فكثيرا ما ظن بعض أهل العلم بأن السارق يجب أن تقطع يده بغض النظر عن القانون الوضعي الخاص بالدولة التي يعيش فيها ذلك الشخص، فنشأ نتيجة ذلك الخلاف بين أهل الدين (كما يرغبون أن يسمّون أنفسهم) والعلمانيين (كما يحب أهل الدين أن يسمونهم). فأهل الدين يتهمون العلمانيين بالتخلي عن الشرع والركون إلى القوانين الوضعية، ويعدون ذلك منقصة في حقهم.
رأينا: لكننا نتوجه إلى أهل الدين الحريصين على تطبيق شرائعه في كل زمان ومكان بالتساؤل التالي: هل تظنون – يا ساده- أنكم أكثر حرصا على تطبيق شرع الله في الأرض من يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الذي أخذ أخاه في دين الملك؟ ألم يكن الأولى بيوسف أن يتخلى عن قانون دين الملك ليتبع القانون التشريعي الإلهي فيقطع يد أخاه الذي سرق؟ وهل كان يوسف سيكيد بإخوته على تلك الشاكلة لو أن النتيجة ستكون على نحو قطع يد أخيه وهو (أي يوسف) من دبّر مؤامرة السرقة له بنفسه؟ وهل كان أخوه هذا سيرضى بأن يطبّق عليه حد السرقة بقطع اليد ليوافق يوسف على الكيد بإخوته الآخرين على تلك الشاكلة؟ هل كان سيرضى أن يكون هو ضحية كيد يوسف بإخوته الآخرين؟ ألم يكن يجدر بيوسف أن يكيد بإخوته بطريقة أخرى غير "تلفيق" السرقة لأخيه ليأخذه بعد ذلك في دين الملك؟ والأهم من هذا كله، لم يشرك الله نفسه في هذا الكيد مادام أن شرعه لن يطبق؟
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
فلم حصلت المشيئة الإلهية بأن يكيد ليوسف على تلك الشاكلة؟
الجواب: لأنّ يوسف لم يكن ذا علم فقط ولكنه كان عليما. لذا نحن نظن أن يوسف لم يكن ذا علم بحد السرقة فقط ولكنه كان يدرك المقاصد من التطبيق، فيكون علمه على نحو أن يأخذ أخاه في دين الملك (فيبقيه في بلاده من باب الرق كما يظن إخوته)، وهو في الواقع من كيد الله ليوسف ليكيد يوسف بإخوته:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
(وسنتحدث عن بعض الأحكام الأخرى بالتفصيل عندما نصل إلى قصة طلب يوسف العمل في بلاط الملك نفسه)، فالله أسأله وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم إنه هو الواسع العليم – آمين
وسنترك لسادتنا العلماء أهل الدراية مهمة استنباط الأحكام التشريعية الخاصة بأهل الاغتراب مادامت تلك صنعتهم، أما نحن فلا نخرج للناس بفتاوى لأن هذه ليست صنعتنا وجل ما نفعل هنا هو أننا نفكر فقط بصوت مرتفع. هذا والله أعلم
(دعاء: أعوذ بالله مما افتريت من قول من عند نفسي، وأسأل الله أن يتم نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون، وأسأله وحده أن يؤتينا رشدنا فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو الواسع العليم – آمين).
السؤال: كيف حصل يوسف على هذا العلم؟
جواب: لقد كان يوسف من الراسخين بالعلم، من العالمين بالتأويل، فهذا بالضبط ما طلبه صاحبيه السجن منه أساسا:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
السؤال: كيف عرف صاحبي يوسف السجن بقدرة يوسف على علم التأويل؟
جواب: نحن نظن أن السبب في ذلك من وجه نظر صاحبيه السجن لأن يوسف كان – كما رءاوه بأم أعينهم- من المحسنين:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
ولكن السبب كان من وجه نظر يوسف نفسه لأنه من باب العلم الذي علمه إياه ربه:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
السؤال: وأين حصل ليوسف هذا التعليم؟
جواب: في بيت الذي اشتراه من مصر:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
ولكن هذا يقودنا إلى طرح السؤال نفسه بالصيغة التالية: لِم علمه ربه ذلك العلم؟
جواب: لأنه كان من المحسنين، فانظر – عزيزي القارئ- الآية التالية التي جاءت بحق علم يوسف الذي علمه إياه ربه:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
فلقد كان الإحسان هو السبب الذي من أجله استحق يوسف أن يختصه الله بعلم من لدنه، ولو تدبرنا سيرة يوسف كلها لوجدنا بما لا يدع مجالا للشك بأن الإحسان كان واضحا في يوسف في جميع مراحل حياته.
فالله هو من شهد ليوسف بالإحسان:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وقد كان إحسان يوسف جليا للعيان حتى استطاعا صاحبيه السجن أن ينعتاه بتلك الصفة حتى وهو في أقسى مراحل حياته (السجن):
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
كما كان الإحسان واضحا في سلوكه في أكثر مراحل حياته رخاء عندما أصبح عزيز مصر، فجاء وصف يوسف بأنه من المحسنين على لسان إخوته اللذين لازالوا حتى الساعة له منكرون:
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
وتثبتت تلك الصفة بحق يوسف على لسان يوسف نفسه، فهو من أكد على إحسانه كما جاء بصريح الآية الكريمة التالية:
قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
السؤال: ما هو الإحسان؟ وكيف كان يوسف من المحسنين؟ وما الذي كان يفعله يوسف حتى أصبح من المحسنين؟ الخ.
بداية، يجب أن نلفت انتباه القارئ إلى ملحوظة مهمة في هذا السياق وهي أنه لم يكن يوسف وحده من بين جميع رسل الله من اتصف بتلك الصفة، فلقد اتصف بها رسل جاءوا من قبله ومن بعده. فلقد كان نوح من المحسنين:
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)
وكان إبراهيم من المحسنين:
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
وكذلك كان إلياس:
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
وكان موسى من المحسنين:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
وكذلك كانا موسى وأخوه هارون معا من المحسنين:
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
ولكن الملحوظة الأخرى التي يجب التنبيه إليها أيضا في السياق ذاته تكمن في أن مفردة الإحسان لم تصاحب نبيا ولا رسولا في النص القرآني كما صاحبت يوسف، فلقد جاءت المفردة بحق يوسف في مواضع كثيرة من كتاب الله ومن مصادر مختلفة. (انظر الآيات السابقة).
السؤال: لماذا جاء وصف الإحسان مصاحبا ليوسف في كتاب الله أكثر من أي رسول آخر؟
جواب: إن هذا السؤال يدعونا للخوض في معنى مفردة الإحسان ذاتها. فما معنى أن يكون الشخص (أي شخص) محسنا؟
جواب: لا شك عندنا أن الإحسان يختلف عن الإيمان، فبالرغم أن إبراهيم كان من المؤمنين فلقد كان أيضا من المحسنين:
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
السؤال: من هو المحسن إذن؟
أولا، نحن نظن أن المحسن هو من جاهد في الله:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
ثانيا، والمحسن لا شك قد عمل الكثير من الحسنات، ولكن بعضها أميز من بعضها الآخر، حتى جاء الجزاء له بأحسن ما كان يعمل:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
ثالثا، والمحسن قد يكون محسنا بالقول:
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا (63)
رابعا، وقد يكون الإحسان بالفعل كالإحسان للوالدين مثلا:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مَُّعْرِضُونَ (83)
وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)[1]
أو كتسريح المرأة بإحسان:
الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
خامسا، والإحسان هو ما يقابل المنكر
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى عَنِ
بِالْعَدْلِ | الْفَحْشَاء |
وَالإِحْسَانِ | وَالْمُنكَرِ |
وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى | وَالْبَغْيِ |
سادسا، ونجد أن الإحسان كما نفهمه من الآية الكريمة التالية:
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
يتحقق في ثلاثة أمور مجتمعة وهي:
1. الإنفاق في السراء والضراء الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء
2. كظم الغيظ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
3. العفو عن الناس وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
ويتأكد مبدأ العفو والصفح عند المحسنين في الآية الكريمة التالية:
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
سابعا، لا شك عندنا أن من يقوم بهذه الأعمال جميعها لا يمكن أن يكون من الذين يفسدون في الأرض:
وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
ثامنا، ونحن لا نشك أن يوسف كان من المحسنين لأنه كان يقيم الصلاة، وينهى عن الفساد في الأرض:
وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116)
نتيجة: إنها سنة من سنن الله الكونية أنه لا يضيع أجر المحسنين، فكيف لم يضيع الله أجر يوسف مادام أنه كان من المحسنين؟
جواب: انظر الآية الكريمة التالية
هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
السؤال: هل قابل الناس من حول يوسف إحسانه لهم بالإحسان؟
جواب: نعم، بكل تأكيد. لقد قابل كل من أحسن إليهم يوسف إحسانه لهم بالإحسان له، فما كان الله ليضيع أجر المحسنين وعلى رأسهم جميعا يوسف الصديق، فكيف حصل ذلك؟
جواب: لقد رد كل من أحسن إليه يوسف بإحسان مثله حتى اللذين ألحقوا به الأذى عن قصد:
1. فلقد أساء إليه إخوته، فما كان منهم إلا أن يعترفوا في النهاية بفضله عليهم لأن الله ما كان ليضيع إحسان يوسف لهم:
قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
2. وقد أساءت إليه امرأة العزيز، فلم تصدر من يوسف إساءة بحقها، فما كان منها إلا أن ترد الإحسان بالإحسان ولو بعد حين، فشهدت له بأنه من الصادقين مكذبة بنفسها شهادتها السابقة:
... قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
3. وقد أساءت له النسوة اللاتي راودنه عن نفسه، فبرأنه من التهمة وشهدن له بالبراءة من السوء:
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ... (51)
4. وقد أساء له صاحبه السجن الذي سرب خبر مراودة امرأة العزيز له فشهد له بالإحسان في السجن:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
5. ولم تصدر إساءة ليوسف من صاحبه الأول في السجن (الذي رأى أنه يعصر خمرا)، فما كان مضطرا أن يعتذر ليوسف، ولكن لمّا كان يوسف هو من أحسن إليه في السجن لم يكن منه إلا أن يتذكر يوسف عندما انتشر خبر رؤيا الملك، فهو من دلهم على يوسف.
نتيجة: إن الإساءة للمحسن لابد أن تنقلب إلى إحسان له مهما طالت المدة ومهما تغيرت الظروف لأن الله ما كان ليضيع أجر المحسنين.
(دعاء: اللهم أسألك أن أكون من المحسنين، وأعوذ بك أن أكون من الذين يريدون فسادا في الأرض بعد إصلاحها - آمين)
السؤال: ما علاقة الإحسان بالرؤيا؟
جواب: نحن نجد بداية أن الإحسان مرتبط بالحكم والعلم. فجاء ذلك بحق يوسف:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وتكررت الصورة نفسها بحق موسى:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
السؤال: مادام أن الله قد آتى موسى حكما وعلما جزاء على إحسانه، ومادام أنه قد آتى يوسف حكما وعلما جزاء على إحسانه، فهل كان علم موسى وحكمه كعلم يوسف وحكمه؟
جواب: لا بكل تأكيد، فبالرغم أن الله قد آتاهما حكما وعلما، إلا أن ذلك كان على التنكر (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)، لأن علم كل واحد منهما يختلف عن علم الآخر، فصحيح أن الله قد آتى موسى علما إلا أنه علم من نوع خاص. وصحيح أن الله قد آتى يوسف علما، إلا أنه كان علما من نوع خاص. فما هو علم يوسف الذي نحن بصدد الحديث عنه؟ وكيف يختلف عن علم غيره ممن آتاهم الله حكما وعلما؟
جواب: إنه علم تأويل الأحاديث، فلقد جاء ذلك على لسان والده يعقوب منذ رؤيا يوسف الأولى في صغره:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
وجاء التأكيد الرباني لذلك يوم أن كان يوسف في بيت الذي اشتراه من مصر:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
قصة يوسف: عودة على بدء
لقد افترينا القول في أحد الأجزاء السابقة من مقالتنا عن قصة يوسف بأن واحدة من أهم الأسباب التي دعت يوسف أن يترك والده يعقوب هو البحث عن علم تأويل الأحاديث الذي لم يكن متوافرا عند أبيه يعقوب نفسه، فيوسف ترك والده يعقوب الذي كان ذا علم (واحد):
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)
فهداه الله إلى ذلك الرجل الذي اشتراه من مصر ليجد في بيته ذلك العلم العظيم، وحصل ذلك رغما عن يوسف نفسه:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
(دعاء: اللهم يا من غلبت يوسف على أمره فعلمته من تأويل الأحاديث أسألك أن تغلبني على أمري فتنفذ مشيئتك لي بالإحاطة بعلم من لدنك لا ينبغي لأحد غيري إنك أنت السميع المجيب – آمين).
فكان ذلك من باب وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216)
(دعاء: أدعوك باسمك الله وباسمك الرحمن وبأسمائك الحسنى كلها أن تجعل الخير لي في كل ما أحببت وفي كل ما كرهت- إنك أنت العليم الحكيم – آمين).
ويكأن يوسف قد ذهب في رحلة علمية (ولنقل في بعثة دراسية) إلى خارج البلاد (البدو) إلى المكان الذي سيجد فيه نفسه يتلقى العلم بتأويل الأحاديث. لذا نحن نتخيل أن يوسف كان في مهمة تعليمية خارج بلاده الأصلية (البدو) حيث كان يسكن أهله:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
ففي حين أن يعقوب (وأهله جميعا) كانوا يسكنون البدو، ترك يوسف حياة البداوة وذهب إلى الحظر لتلقى تعليمه العالي هناك، فوجد العلم في بيت ذاك الذي اشتراه من مصر. فتحقق ليوسف علما من خلال أبيه يعقوب كما تحقق له علما آخر من خلال أبيه هذا الذي تبناه:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)
فتحصل ليوسف أكثر من علم واحد، فانتقل من مرحلة أن يكون ذا علم إلى مرحلة أن يكون عليما (أي ذو علم + ذو علم = عليم)، فشهد لنفسه بذلك:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
السؤال: ما هو العلم الذي تلقاه من والده يعقوب؟ وما هو العلم الذي تلقاه في بيت الذي اشتراه من مصر؟
جواب: هذا ما سنحاول النبش فيه في الجزء القادم من هذه المقالة سائلين الله وحده أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يؤتينا رشدنا، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون، فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو العليم الحكيم – آمين.
والله أعلم
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
12 كانون أول 2014
(قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ) عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
لتكون الأقسام على النحو التالي حيث تشترك مفردة عَلَيْكُمْ فيها جميعا: فنبدأ بالقول عَلَيْكُمْ
1. أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا
2. وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
3. وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
4. وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
5. وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ
فتكون تلك من باب ما الوصايا (ما وصانا الله به):
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
وسنتحدث عن ذلك بشيء من التفصيل بحول الله وتوفيقه عندما نتعرض لمعنى التحريم في مقالات قادمة. فالله اسأل أن يأذن الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع المجيب