لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه 12؟
زعمنا الظن في الجزء السابق من مقالتنا هذه أنّ سورة النجم
)التي غالباً ما فهمت على أنها تعرض في بدايتها لرحلة الإسراء( قد تعرضت في سياق ذلك الحديث لعدة قضايا ظننا أنها– في رأينا- ملحة للوقوف عندها للتدبر، جازمين الاعتقاد أنه سيترتب على فهمنا لها فهماً صحيحاً تبيان قضايا هائلة ربما تمس جوهر العقيدة. وكانت تلك المحاور تخص حصول الوحي (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) وحصول العلم (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ) ووجود الفؤاد (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) وحصول الرؤيا بنوعيها القلبية (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) والبصرية (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ). فكان جل النقاش منصباً على إمعان التفكر بهذه القضايا، وقد تناولنا في الجزء السابق محورين من هذه المحاور الأربعة وهما قضية الوحي، وقضية العلم، وسنحاول في هذا الجزء الخوض في قضيتي الفؤاد والرؤيا. ولكن قبل الولوج في هذه المحاور الجديدة نجد من المفيد أن نعيد هنا الخطوط العريضة للاستنباطات المفتراة التي خرجنا بها في حديثنا عن المحورين السابقين لنربط ما افترينا سابقا بما يمكن أن نفتري عند حديثنا عن المحورين اللاحقين.
عودة على ما سبق
أما بخصوص الوحي، فلقد ظننا أن الوحي الذي نزل على قلب محمد جاء على نوعين: (1) وحياً مباشراً و(2) وحياً غير مباشر، فقرأنا ذلك في قول الحق في الآية الكريمة التالية:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ الشورى (51)
وزعمنا القول بأن الوحي المباشر حصل لمحمد في ليلة الإسراء، وكان نتيجة ذلك الوحي نزول الكتاب جملة واحدة على قلب محمد في تلك الليلة:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
أما الوحي غير المباشر فهو – في رأينا- ما كان قد تحصل لمحمد على امتداد فترة دعوته لقومه، وفي ذلك، جاء الوحي غير المباشر ليفرّق الكتاب المبين الذي نزل على قلب محمد مرة واحدة قرآناً مبيناً ليقرأه محمد على الناس على مكث:
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا الإسراء (106)
وكان جل النقاش يحاول إثبات الافتراء بأن الوحي (مباشراً كان أم غير مباشر) ما كان يتم إلا رمزا، وزعمنا أن هذا الظن يمكن استنباطه من قوله تعالى:
حم (1) عسق (2) كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
(انظر الجزء السابق للتفصيل في هذه القضية)
أما بخصوص العلم، فقد زعمنا أن العلم الذي تحصل لمحمد كان علم تفصيل الكتاب، وهو – في رأينا- العلم الذي كان يمكّنه من تبيان آيات الكتاب المبين (الذي نزل عليه رمزاً جملة واحدة ) قرآناً مبيناً بلسان قومه على مكث، وكان ذلك العلم هو – كما زعمنا- علم الذكر:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
وظننا أيضاً أنه هو نفسه العلم المتواجد بين يدي الرحمن (أو العلم اللّدني). وحاولنا تبسيط الفكرة بالشكل التوضيحي التالي:
المصدر الوسيلة النتيجة
الكتاب المبين الذكر القرآن المبين
([1]source
فزعمنا الفهم أن الكتاب هو المصدر والقرآن هو النتيجة والأداة المستخدمة لتفصيل الكتاب قرآن عربي هو الذكر.
وحاولنا تقديم بعض الأدلة التي ظننا أنها ربما تثبت ما افترينا من عند أنفسنا، فكان من جملة ما قدمناه ما يلي:
أولاً، إنّ المتدبر للسياقات القرآنية قد يجد أنها تارة تتحدث على أن ما نزل على محمد جاء جملة واحدة:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) الدخان
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر (1)
وتارة أخرى تتحدث على أن ما نزل على محمد كان مفرقاً
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا الإسراء (106)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة
فزعما الظن أن ما نزل جملة واحدة كان هو الكتاب أما ما نزل مفرقاً فهو القرآن، والدليل على هذا التحول من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية واضح في كثير من السياقات القرآنية:
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
فكان الافتراء الكبير الذي خرجنا به هو أن الكتاب هو ما نزل جملة واحدة وأن القرآن هو ما تم تفريقه
ثانياً، ربما يجد المتدبر للسياقات القرآنية أن ما جاء في هذا الكتاب هو كلام رب العالمين:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا الإسراء (106)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا الفرقان (32)
ولكنه لا يعدم الدليل من سياقات أخرى أن هذا قول رسول كريم:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) التكوير
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) الحاقة
وكان الافتراء الخطير الذي خرجنا به يتمثل في الظن بأن الكتاب هو كلام الله الأزلي ولكن القرآن هو قول الرسول الكريم
ثالثاً، ربما يجد المتدبر للسياقات القرآنية أن بعضها يؤكد على شمولية ما نزل من عند الله:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الأنعام (38)
ولكنه في الوقت ذاته لن يعدم الدليل على أن ما جاء من عند الله لم يكن شاملاً :
إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
(انظر الجزء السابق للتفصيل في هذه القضية)
وكان الافتراء الكبير الذي خرجنا به هو أن الكتاب هو الشامل الذي لم يفرط فيه، ولكن القرآن لم يكن كذلك.
رابعاً، ربما يجد المتدبر للسياقات القرآنية أن بعضها يؤكد أن كلمات الله لا تنفذ:
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا الكهف (109)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لقمان (27)
ولكنه في الوقت ذاته لا يجد أن ما يقرأه بين دفتي المصحف يتجاوز بضع مئات من الصفحات.
وكان الافتراء الذي خرجنا بثمثل في أن الكتاب هو الذي لا يمكن أن تنفذ كلماته (مادام أنه هو كلام الله) بينما لا يتوافر في القرآن كل كلمة من كلمات الله.
(وسنتعرض لهذه الجزئية بشيء من التفصيل بعد قليل بحول الله وتوفقه)
وقد حاولنا جمع كل الافتراءات السابقة معاً لنخرج بعدئذ بالافتراء الأشد خطورة على عقيدة الأمة وهو إننا نرى أن الفرق بين الكتاب والقرآن يكمن في أن الكتاب صناعة الله والقرآن صناعة محمد، لذا كانت تكمن مهمة محمد كرسول في تحويل كتاب الله المبين إلى قرآن مبين بلسان قومه، وكان يقوم بذلك بما أنزل الله عليه من علم الذكر. وزعمنا أن فهم السياق القرآني التالي:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
ثم محاولة ربط ذلك بما جاء في السياق القرآني التالي:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
ربما يسعف في النظر إلى الأمور من هذه الزاوية الجديدة (انظر الجزء السابق للتفصيل في هذه القضية)
استراحة قصيرة: قصة الوحي في غار حراء
كان أول ما نخر أهل الدين في أذهاننا من العقيدة في أول عهدنا بالمدرسة (كمؤسسة من المفترض أنه وجدت لتعلِّم) تلك الحادثة الأولى لنزول الوحي على النبي محمد في غار حراء، ولعلي أجزم أن أبناء المسلمين لا يكادون يشكّون قيد أنملة بتلك الحادثة، لا بل ويحفظونها ويرددونها على مسامع أطفالهم ليحفظوها بدورهم عن ظهر قلب، ظانين أنهم بذلك يعلمونهم الدين الصحيح. وهنا أجد من الضروري بداية أن أؤكد على أني لا أود أن أدخل في جدلية هذه القضية هنا، ولكني أود أن أستغل فهم أبناء المسلمين لتلك الحادثة لأطرح عليهم سؤالاً واحد بعد إعادة الخطوط العريضة لتلك الحادثة الشهيرة.
أما بعد،
إننا نعلم أن أول عهد للنبي بالوحي كان في غار حراء عندما نزل عليه الوحي، وكان أول قوله له "اقرأ"، فرد عليه النبي بالقول "ما أنا بقارئ"، فيكرر الوحي عليه الأمر ثانية بالقول "اقرأ" فيعيد النبي محمد جوابه نفسه "ما أنا بقارئ"، فيكرر الوحي الأمر للمرة الثالثة بالقول نفسه "اقرأ"، فما يكون من محمد إلا أن يعيد الإجابة نفسها "ما أنا بقارئ"، عندها فقط يقول الوحي للنبي – كما تقول الرواية- قرآناً يتلى حتى يومنا هذا:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
أليس هذا ما تعلّمناه عن تلك الحادثة؟ والآن لنطرح السؤال: إذا كانت مهمة النبي محمد تكمن في نقل ما يقوله الوحي بلا زيادة ولا نقصان (كما يروج لذلك تقريباً كل أهل العلم والدراية)، فلم لا يصبح القرآن على نحو
اقرأ اقرأ اقرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)؟
ألم يقل "جبريل" (كما تقول الرواية) تلك الكلمة الأولى "اقرأ" لمحمد ثلاث مرات قبل أن يقرأ عليه القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)؟ لم تم نقل جزء من قول جبريل (إن ظننا أن الوحي هو جبريل نفسه) كقرآن يتلى؟ ولم لم ينقل قول جبريل من بدايته حتى نهايته؟!
كلا وألف كلا، إننا نظن أنه لو كانت مهمة محمد تكمن بالنقل المباشر فقط (كما ظن أهل العلم)، لما كان من محمد إلاّ أن ينقل تلك الحادثة كما حصلت فعلاً حتى لو تكرر اللفظ ألف مرة (والقارئ مدعو لقراءة سورة الرحمن أو سورة الكافرون ليتدبر كيف تتكرر الألفاظ نفسها).
سؤال: لماذا لم يتم نقل كلمات جبريل (أو الوحي بكلمات أكثر دقة) الأولى قرآناً بالرغم أن جبريل هو نفسه من قالها (كما أفهمنا علماؤنا الأجلاء)؟
جواب: إننا نظن أنه لمّا كانت مهمة محمد لا تكمن فقط في النقل وإنما بالتبيان ثم النقل، ولمّا كان جبريل (إن كان هو فعلاً جبريل) قد خاطب محمد بلغة الوحي (رمزاً) وليس بلسان قوم محمد (فأنا لست ممن يعتقدون أن لجبريل لسان كـ لساننا، ولا أعتقد أن له قوم كقومنا أيضاً):
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إبراهيم (4)
كان ما توافر بين أيدينا هو تفصيل ذلك الوحي من الكتاب المبين (كما نقله الوحي جبريل) إلى قرآن مبين كما نقله محمد بلسان قومه بما كان محمد يمتلك من علم الذكر.
(للتفصيل انظر لماذا قدّم لوط بناته بدلاً من ضيوفه11؟)
تبعات هذا الافتراء
لعلّنا نكاد نجزم الظن بأن من أهم تبعات هذا الافتراء الذي من عند أنفسنا هو الحاجة إلى إعادة التفكر بفواتح السور المرموزة في كتابنا الكريم. فلقد جاء في بداية بعض سور القرآن الكريم حروفاً مقطّعة مثل ألم، الر، المص، كهيعص، عسق، حم، طس، طسم، طه، يس، ن، ق، وقد حارت بذلك عقول العلماء منذ أن نزل القرآن وحتى يومنا هذا، ولمّا (نحن نظن) استحال عليهم فهم الأمر، ذهب كثير منهم إلى الظن بأن مجرد التفكر بذلك قد لا يكون ضرورة ملحّة، ولكن كانت الكارثة الكبرى على الأمة الإسلامية (لا بل والبشرية كلها) تكمن في أن كثيراً من أهل العلم والدراية قد شجعوا العامة من الناس (وربما استطاعوا إقناع السواد الأعظم منهم) بعدم جدوى (بل أحيانا بعبثية) التفكر في ذلك، فخرجوا على الناس بافتراءات (نظن نحن) أن لا أصل لها في العقيدة، وكان من أكبر تلك الافتراءات أن هذه الحروف لا يعلم سرها إلا الله (انظر كتب التفاسير)، ولما كانت ثقة كثير من الناس بعلمائهم قد أصبحت شبه مطلقة، تعطلت عند الكثيرين منهم (خاصة من كان عقيدته أن يتبع دين أبآءه وأجداه) نعمة التفكر بهذه الأمور، ومرت قرون طويلة لم يخرج على الناس أحد ينبّهم إلى خطر مثل هذه الفتاوى التي أهلكت و(لا زالت) تهلك الأمة.
أما نحن فنرى أن الحقيقة تكمن في غير ما ظن أهل العلم وزعموا، فنرد على حجتهم تلك بالقول: إذا كانت تلك أمور لا يمكن أن يعلمها إلا الله (كما تظنون)، فلم ينزلها الله علينا لنقرأها صباح مساء؟ ولم يدعونا الله بعد ذلك إلى التفكر بكتابه مادام أن فيه ما لا يمكن التفكر فيه؟ ثم أين هي تلك الأمور التي يمكن لنا إمعان التفكير بها وتلك التي لا يحق لنا التفكر بها؟ وكيف يمكن لأسيادنا العلماء أن يحددوا لنا ما يجب علينا أن نتفكر به وما لا يجب علينا أن نتفكر به؟ ثم ألا ترون – يا سادة- أنه إنْ صح كلام أسيادنا العلماء (بأن هناك ما لا يجب علينا أن نتفكر به)، ألا ترون أنه سيكون للناس بذلك حجة على الله؟ فأنا شخصياً على استعداد أن أقف بين يدي الله في يوم الحساب الأكبر لأقول له: لم أنزلت علينا ما لا يمكن لأي منا أن يفهمه وها أنت تحاسبنا اليوم جميعاً إما إلى جنة أو إلى نار؟
كلا، وألف كلا، إن عقيدتي (والتي لا شك فيها من الانحراف ما فيها) تتمثل في أنه ليس هناك في كتاب الله ما لا يمكن تدبره (لا بل) وفهمه، هذه هي عقيدتي التي أبدي كل استعداد أن أتحمل عواقبها مهما كانت، نعم ليس في كتاب الله ما لا يمكن تدبره، لأنّ الله نفسه هو من طلب منا أن نتدبر القرآن (كل القرآن):
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا النساء (82)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا محمد (24)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ص (29)
فـ لربما أوافق السادة العلماء الرأي (بأن هناك ما لا يجب علينا تدبره) إن هم قبلوا أن لا تكون تلك الأحرف المتقطعة جزءاً من القرآن. أو أنها ليست من آيات الكتاب التي أنزلت على محمد وأمرنا الله بتدبرها كما جاء في آية ص (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ). أما بالنسبة لي، فإن عقيدتي تتلخص بالتالي: مادام أنّ هذه الأحرف المتقطعة هي جزء من القرآن، وهي لا شك من آيات الكتاب، فلابد (لا بل يجب) علينا أن نتدبرها كما نتدبر القرآن كله (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ).
خروج عن النص
إنني أعتقد جازماً أن جزءاً من مشكلة الفكر الإسلامي الذي توقف عن الحركة لقرون ربما تكمن في هذه العقائد "المصطنعة الكاذبة" التي ظن كثير من الناس أنها جزء من العقيدة وهي – نحن نظن- لا تعدو أكثر من تحريف للعقيدة الصحيحة، لا بل وطعنا في العقيدة نفسها، وسأحاول في هذا الجزء من المقالة التعرض لبعض الأمثلة التي شكّلت على الدوام عائقاً وهمياً كاذباً منع الناس من أن يتدبروا كلام الله كما أمرهم الله (لا كما وجههم أسيادهم ممن ظنوا أنهم أهل علم ودراية).
المثال الأول: من قال أنه علم فقد جهل
خرج علينا أحد علماء زمانه بهذه المقولة التي نعتقد نحن أنها "كاذبة"، فأصبحت على مر السنين (لا بل والقرون) نبراساً يهتدي به أهل العلم والدراية، وأخذت حناجر الخطباء على المنابر تنفجر مرددة مثل هذه العبارة، لا بل ويحذرون الناس ممن يظن في نفسه أنه قد علم فسولت له نفسه أن يقول مثل هذا القول (كما نفعل نحن أحياناً)، ولما كان التكرار "يعلم الحمار" (كما تقول أمثلتهم الشعبية")، تعلمت هذه العبارة ... كثير، فن.. بها دون أن يعوا ما يقولون، فأصبحوا يرددونها ويكأنها آية من كتاب الله (حاشاه جل وعلا).
وقد يرد علينا الكثيرون مستغربين مثل هذه اللهجة التي نتحدث بها عن هؤلاء الناس، ظانين أننا ربما قد تجاوزنا حدودنا، فنرد بالقول: إذا كنتم قد غضبتم من مثل كلامي هذا وأنا لا أهاجم إلا بشراً مثلي ومثلكم، أفلا يحق لنا أن نهاجم من يفتري على الله الكذب ويسوّق كلامه ويكأنه من عند رب العالمين؟ فلو روّج العلماء لمثل هذه البضاعة وأفهموا الناس أنها على أنها من عند أنفسهم (كما نفعل نحن) لربما التمسنا لهم كل العذر، فهم في نهاية المطاف بشر يصيبون ويخطئون، أما أن يسوقوا بضاعتهم تلك ويكأنها من عند الله، فذاك أمر جد خطير.
ثم ماذا ستفعلون – يا سادة- لو علمتم أن في مثل مقولة علمائكم هذه شتم صريح لنبي من أنبياء الله؟ ألا يحق لنا عندها أن نشتم من ألحق الأذى بنبي كريم؟
وقد يرد البعض على الفور بالقول: ماذا تقول يا رجل؟ كيف يكون في مثل هذه العبارة (من قال أنه علم فقد جهل) شتم لنبي كريم؟
جواب: دعنا نحتكم إلى كتاب الله، ونرى النتيجة التي ربما سننتهي إليها إن نحن صدّقنا دعوى فقيهكم الذي صدقتموه عندما قال "من قال أنه علم فقد جهل"، فلنقرأ – يا سادة- ما جاء على لسان يوسف ابن يعقوب ابن اسحق ابن إبراهيم:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
هذا – يا سادة – ما يقوله يوسف (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم)؟ ألا ترون – يا سادة- أن يوسف يشهد لنفسه بالعلم (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)؟ بالله عليكم دلوني على مخرج من هذه "الورطة"؟!
هل نصدق ظنّ فقيهكم بأن من قال عن نفسه أنه عليم فقد جهل لنوجه اللّوم بعدئذ ليوسف: "ما لك يا يوسف تشهد لنفسك بالعلم؟ ألا ترى أنك قد "جهلت" حسب رأي فقيهنا (ومن ظن ظنه وروّج لبضاعته) مادام أنك تشهد لنفسك بالعلم؟
كلا، وألف كلا، إنّ الجاهل هو من قال مثل تلك المقولة، والأكثر جهلاً منه هو من صدّقها وروّجها للناس، إن أبسط ما يمكن أن ننعت به من قال مثل تلك العبارة هو أنه أبعد ما يكون عن العلم لأنه ببساطة لم يعرض مقولته تلك على كتاب الله؟ فلو تدبر "فقيهنا" الجليل قول يوسف هذا، لما تجرأ أن ينطق لسانه بمثل تلك المقولة الكاذبة، وإلاّ فهو مدين لنا جميعاً أن يفسر مقولته تلك في ضوء ما جاء في كتاب الله على لسان نبي الله ورسوله يوسف عليه السلام، وإن هو لم يفعل، فهو عندنا – بلا شك - ممن يفترون على الله الكذب، لأنه ينعت رسول كريم مثل يوسف بالجهل، ويكأن يوسف لا يعي ما يقول!!!
فأي الأمرين – يا سادة- أحق أن يتبع، قول يوسف (وهو من ظن نفسه أنه قد علم) أم قول "عالمنا" الجليل (الذي ظن أن من ظن أنه يعلم فقد جهل)؟ من يدري!!!
المثال الثاني: علم لا ينفع وجهل لا يضر
جاء في كتاب الله الكريم في معرض الحديث عن بقرة بني إسرائيل قوله تعالى:
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ البقرة (73)
وعندما حاولنا البحث في ذلك، كان لزاماً في مرحلة ما التعرض لمعنى مفردة "بِبَعْضِهَا" التي ترد في الآية الكريمة (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا)، فحاولنا الخوض في ذلك ظانين أننا بحاجة أن نفهمها في سياقها القرآني الصحيح، وكانت الوظيفة البيتية التي كنت أطلب على الدوام من طلابي في مساقات الدراسات العليا القيام بها، خاصة في مساقي علم المعاني (semantics) وتحليل النص (Text Analysis)، تتمثل في مراجعة كتب التفاسير للبحث فيها عن معنى هذه المفردة (ِبَعْضِهَا)، كما كنت أطلب منهم أيضاً طرق أبواب أهل العلم (مادام أن العلم –حسب ظنهم- يؤتى ولا يأتي!)، ومحاولة سؤالهم عن معنى مثل هذه المفردات، وكانت المفارقة العجيبة تكمن في أن أغلبية الطلبة كانوا يرجعون إليّ بخفي حنين، محمّلين مقولة تحمل طابع الشعار (وجدوها في كتب التفاسير التي تشكل مرجعاً أساسياً لكل طلاب العلم، ورددها على أسماعهم كثيرون ممن بحثوا عن الإجابة في مكاتبهم على تراب جامعاتنا العتيدة) شعار مفاده "أن العلم بذلك لا يفيد والجهل به لا يضر"، ويكأن لسان حال المسؤول من أهل العلم يقول لمن يسأل من أهل الجهالة من مثلي: ما لك ولهذه الأمور؟ وما الذي ستستفيدة من العلم بها؟ ولم تسأل عنها أصلأ؟ لم لا تبحث لك عن شيء ربما تجد فيه فائدة؟!!!
كان أكثر الذي يقلقني على الدوام من هذه المواقف أمور ثلاثة: أولها، أن طلابي لم يعودوا يوماً إلي يحملون إجابة شافية لما كانوا يسألون عنه، فجل ما كانوا يجدون في كتب التفاسير وعند أهل العلم والدراية هو "قال فلان وقال علان" دون دليل على ما زعموا (انظر كتب التفاسير في هذه الجزئية مثلاً)، فالطلبة أنفسهم هم من كانوا يعودون بالقول بأنهم ليسوا راضين عن كل ما وجدوه في بطون الكتب الصفراء أو على ألسنة أهل العلم والدراية. وثانيها، وهو الأهم، هو محاولة أهل العلم أن يسكتوا الناس عن طرح السؤال ظانين عدم جدوى البحث عن معلومة كهذه. وثالثها، لقد كان أكثر ما يمكن أن يثير الحيرة من طريقة رد أهل العلم أنهم لا يرددون مثل هذه العبارة إلا على الأشياء التي استعصى عليهم فهمها، فعندما كنا نسألهم عن قصة البقرة أو قصة (ما يسموه) الخضر، أو ذي القرنين، أو شق البحر بالعصا (الأمور التي درجوا على تسميتها بالمعجزات) كان جوابهم على الدوام أن العلم بذلك قد لا ينفع والجهل بها قد لا يضر، ولكن - بالمقابل- إن أنت سألتهم عن شيء ربما لديهم علم به، فقد لا يتوقفون عن الكلام عنه لساعات، فيضخمون أهميته ويكأن الدين كله منصباً على ما عندهم من علم. فنحن لا ندري ما هي الأشياء التي يمكن أن تنفع فنسأل عنها، وما هي الأشياء التي قد لا تنفع حتى نتوقف عن السؤال عنها، فيا ليت أهل العلم قد وضعوا للبسطاء من مثلي جدولاً من خانتين تكون احدهما لما ينفع فيسأل عنه والأخرى لما لا ينفع فيسكت عنه!!!
والآن، تدبر -عزيزي القارئ- ما يمكن أن تفهمه من قولهم أن هناك علم لا ينفع وجهل لا يضر بعد طرح جملة من التساؤلات:
هل هناك فعلاً علم لا ينفع؟ هل هناك فعلاً جهل لا يضر؟ وهل هناك شيء أكثر منفعة من العلم؟ وهل هناك مضرة أكثر من الجهل؟ فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الزمر (9)
وماذا يمكن أن نقول لموسى وهو نفسه من استعاذ بالله في سياق الحديث عن البقرة نفسها من أن يكون من الجاهلين:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ البقرة (67)
ثم ليتذكر كل علماء الإسلام أننا نبحث عن علم يخص كتاب الله، فهل هناك - يا سادة- علم يمكن أن يستنبط من كتاب الله قد لا ينفع (كما تزعمون)؟ وهل هناك جهل أكبر (وأعظم خطراً) من الجهل بما في كتاب الله؟ من يدري!!!
إن ما أود أن أقوله لسادتنا العلماء أننا نزعم الظن أننا عندما حاولنا الخوض في تلك الآيات الكريمة التي ربما استعصى عليكم علمها لقرون خرجنا نحن بفهم لمفرداتها (كمفردة بِبَعْضِهَا) في قوله تعالى (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) يختلف بشكل جذري عن كل ما ظننتم. ونحسب أننا قد توافر لنا علماً قد يفيد من تساءل يوماً عن قصة تلك البقرة التي حارت بها عقول العلماء قروناً من الزمن، وسنحاول في مقالة منفصلة (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) أن نتعرض لقصة البقرة ليرى العامة من الناس (قبل أهل العلم والدراية أنفسهم) كيف أن الباب لا زال مفتوحاً لطرح السؤال، وأن العلم الذي قد يتوفر لنا (على جهلتنا) ربما لم يتوافر لكم (على علمكم)، والأهم من ذلك كله هو اعتقادنا اليقيني في أن علم الله لن ينفذه جيل من الأجيال مهما بلغ من العبقرية المزعومة التي صورتموها للناس ويكأنها أسطورة يصعب أن تتكرر.
دعاء: نسأل الله أن يعلمنا كل ما جهلتم، وأسأله تعالى أن يأذن لي بشيء من علمه لم يحط به أحد قبلي، وأسأله تعالى أن أعلم منه ما لا تعلمون، إنه نعم المولى ونعم المجيب.
عودة على بدء
لقد قدّمنا هذين المثالين لنزعم القول أن ما يتناقله الناس من بعض كلام أهل العلم والدراية (والتي ربما أصبحت جزءاً من مسلمات الأمة) قد لا يعدو في بعض الأحيان أكثر من خرافات لا أصل لها في عقيدتنا، فهم كالذين يشرّعون القوانين والتعليمات الوضعية التي هي من عند أنفسهم ثم ما يلبثوا أن يصدّقوها ليصبحوا عبيداً لها، فيحتكمون لها ويكأنها من سنن الله الكونية. أما نحن فإننا نظن أن وظيفة تلك "الموضوعات" البشرية لا تعدو أكثر من المخدر الذي يحقن به المريض ليسكت عنه الألم فترة من الوقت، لكنه بكل تأكيد لا يشفيه من مرضه، فما هي إلا ساعات حتى يفيق المريض من غيبوبته ليكتشف الحقيقة المؤلمة أن ذلك لم يكن أكثر من حيلة أسكتت عنه الألم فترة من الزمن.
لذا، فإننا نظن أنه مهما حاول أهل العلم إسكات الناس عن السؤال عن مثل هذه الأمور التي أشكلت على الفهم فترة طويلة من الزمن (كالسؤال عن الأحرف المتقطعة في بدايات بعض السور مثلاً) فإنهم لن ينجحوا، لأن الغريزة في حب المعرفة جامحة عند الناس لا يمكن أن تتوقف إلا لفترة قصيرة من الزمن (بالفعل كما يعمل المخدر للمريض)، وما هي إلا لحظات حتى تثور من جديد كلّما شعر الناس أن هناك فرصة سانحة للمعرفة.
لقد كانت ردة الفعل الأولى لكل طلابي على هذه المواقف هو محاولتهم السؤال في كل فرصة عن هذه الأشياء متى ما أثيرت، وقد كنت أحاول أن أرد على الدوام بالقول: إذا كانت عقيدتكم التي جئتموني بها وحملتموها في صدوركم عقوداً من الزمن تتمثل بما قاله أهل العلم سابقاً وهو صعوبة (لا بل واستحالة) الوصول إلى معرفة هذه الأمور لأنّ علمها – كما ظننتم- عند الله وحده، فلم تصدقون شخصاً مثلي ربما يدّعي أن الله قد أذن له بشيء من ذلك العلم؟
إن الهدف الأكبر عندنا هو إشاعة فكر السؤال عند العامة، والكف عن ترداد ما تناقله الناس عن بعض أهل العلم بأن إثارة السؤال حول مثل هذه القضية ربما يندرج في باب إثارة الشبهات. فنحن ممن لا يؤمنون بعقيدة تحمل في ثناياها الحاجة "إلى عدم إثارة الشبهات" لأننا لا نرى أن في شريعة محمد شبهة يمكن أن تثار أصلاً، ولسنا كذلك من أهل العقيدة الذين يؤمنون بالتستر والتقية لأن عقيدتنا تتمثل في أن ليس هناك في الشريعة التي جاء بها محمد مسألة لا يمكن أن يفتح ملفها للبحث والنقاش، إن جوهر العقيدة التي نؤمن بها في صدورنا تلخصه الآية الكريمة التالي:
قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
يوسف (108)
ولما كانت هذه هي عقيدتنا، فإننا لا نجد بداً من فتح الملفات العالقة جميعاً، رضي من رضي وغضب من غضب، ولنبدأ بمسألة الأحرف المتقطعة في بداية بعض سور القرآن الكريم، سألين الله أن يهدينا الحق فلا نفتري عليه الكذب. ولا نعدم الرجاء أن يغفر لنا إن نحن فعلنا ذلك عن غير قصد منا.
أما بعد،
سؤال: لماذا الأحرف المتقطعة في بداية بعض سور القرآن؟ هل هذا أمر لا يمكن فهمه فعلاً؟ هل هذا علم لا يعلمه إلا الله وحده كما حاول كثير من أهل العلم أن يفهمونا؟
كلا، وألف كلا. نحن نظن أن كثير من أهل العلم والدراية ما فعلوا ذلك إلا ليسكتوا الناس عن طرح السؤال حول القضايا التي لا يملكون هم إجابة شافية لها. فلو كان عندهم شيء من علمها – نحن نفتري الظن- لتغنوا به صباح مساء، (والقارئ الكريم مدعو لتأمل افتراءات بعض الذين يروجون للاكتشافات العلمية من القرآن)، فيا سبحان الله، لم تكن تلك الكنوز في القرآن إلا بعد أن اكتشفها الغرب! فما لكم - يا علماء الإسلام- لا تقومون أنتم باكتشافها وتسويقها للعالم بدلاً من أن تستوردوا منهم كل اكتشاف لتضعوه في القرآن؟ ما لكم لم تتركوا حشرة ولا جرثومة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا ووضعتموها في كتاب الله بالدليل وبدون الدليل؟
كلا، إننا نظن إن جل ما أجدتموه لم يكن – في رأينا- أكثر من سياسة التسكيت وكتم الأفواه، حتى يأتيكم خبراً من وراء البحار تلاحقونه بكل ما أوتيتم من قوة، لتروجوه على أنه حقيقة قرآنية، وكم يصبح مخجلاً أن نرى أنّ ما جلبتموه بالأمس لم يعد صحيحاً اليوم!
إننا نعتقد أن العلم الحقيقي هو الذي يصدر من القرآن وليس الذي يستورد إليه، فلو كنتم أهل علم حقاً، ولو كان ما تقولونه صحيحاً، لكنتم أنتم المبادرين إلى تسويقه للعالم، لا أن تستوردوا بضاعة فاسدة من كل زاوية من زوايا الكون لتروجها إعجازاً علمياً في كتاب الله على كل شاشات الفضائيات على حفنة من الأميين الذين لا يجدون حتى القراءة والكتابة. فهل يا ترى يملك من لا يجيد القراءة والكتابة (بمعنى الجاهل) القدرة أن يكذب أمثالكم من أهل العلم والدراية؟!!!
أما نحن، فإننا نرى أن سياستكم تلك وإن نجحت بعض الوقت فهي لن تنجح كل الوقت، ونحن لا نعدم الإيمان بأن الحقائق ستتكشف مع توالي الأيام والأشهر والسنوات، وسينكشف للدّاني والقاصي كثير من الزيف الذي سوقتموه للناس على أنها حقائق قرآنية وهي لا تعدو – في نظرنا- أكثر من افتراءات من عند أنفسكم، فحالكم لن تكون أفضل من حالنا ما دام أننا جميعاً نخرّص دون دليل من كتاب الله. والأهم من ذلك كله هو أن الكثيرين سيستيقظون من غيبوبتهم ليعيدوا إلى طرح السؤال نفسه من جديد، كالسؤال التالي مثلاً: ما هي قصة تلك الأحرف المتقطعة في بداية بعض سور القرآن الكريم؟
ألم، الر، حم، ...
جواب مقترح بزعم مفترى: إننا نزعم الظن أن طرحنا السابق حول الفرق بين الكتاب والقرآن ربما يحل جزء من هذه الإشكالية، ولكن كيف؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم الفهم بأن هذه الأحرف هي لغة الكتاب المبين الذي فصّله محمد قرآناً مبيناً بلسان قومه. فتلك هي لغة الإله نفسه، إنها الرموز التي يتم بها الوحي.
الدليل
لقد نزل الكتاب على قلب محمد جملة واحدة بالوحي (أي بلغة الرمز)، وكانت مهمة محمد كرسول (كما كانت مهمة من سبقه من الرسل) هو إخراج ما في قلبه من الكتاب (المتواجد رمزاً) قرآناً مبيناً بلسان قومه، وكان ذلك يحدث بشكل مفرق، وقد استنبطنا هذا الافتراء من قول الحق:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
طه (114)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا الإسراء (106)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا الفرقان (32)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) الشعراء
إن المتدبر لهذه السياقات القرآنية يجد حقائق صارخة تخص القرآن على وجه التحديد نذكر منها:
1. أن القرآن نزل مفرقاً (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ)
2. الطلب من الرسول أن لا يعجل به (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ)
3. أوكلت مهمة جمعة وقرآنه إلى غير محمد (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)
4. جاء الأمر لمحمد بإتباع قرآنه (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)
5. نزل به الروح الأمين (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)
6. جاء تنزيله بتلك الطريقة تثبيتاً لفؤاد محمد (كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)
وجاء تنزيل الكتاب، فكانت مهممة الرسول على وجه التحديد خاصة بتبيان ما نزل من الله إلى الناس:
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
وكانت الوسيلة المتبعة في تبيان آيات الكتاب إلى لغة يفهمها الناس أنفسهم هي احداث الذكر:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
ولم تكن تلك هي مهمة محمد فقط بل كانت مهمة كل من جاء رسولاً من الله إلى الناس:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إبراهيم (4)
السؤال: كيف كان الكتاب ينزل بلغة الوحي وكيف كان يفرق قرآناً بلسان قوم الرسول؟
جواب: لقد حاولنا في الجزء السابق تسليط الضوء بما قدمنا من افتراءات على جملة من هذه القضايا، لكننا نجد من الضروري أن تناول قضية نظن أنها ستكون ذات صلة وثيقة بموضوع النقاش هنا، والقضية تتعلق بالتبادل اللفظي بين مفردتين اثنتين وردتا في صلب الحديث عن قضية التنزيل، والمفردتان هما القلب والفؤاد، لنطرح السؤال المعهود عندنا الذي يتعلق بتبيان الفرق بين الألفاظ المتشابهة التي درج الناس على الظن بأنها تعود على نفس الكينونة.
التساؤلات:
1. ما هو القلب؟
2. ما هو الفؤاد؟
3. ما الفرق بين الفؤاد والقلب؟
4. كيف نزل به الروح الأمين على قلب محمد؟
5. كيف كانت طريقة التنزيل تثبيتاً لفؤاد محمد؟
6. الخ.
وبعد أن نخرج ببعض الافتراءات التي نظن أنها صحيحة حول موضوع التفريق بين الفؤاد والقلب سنجد أنفسنا ملزمين أن نربط ذلك بقضية الرؤيا.
القلب
تحدثنا في مقالات سابقة لنا (انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان هل لعلم الله حدود؟) عن هذا العضو في جسم الإنسان، وزعمنا الظن بأن القلب هو أداة التفكير الأولى في الإنسان، كما زعمنا الظن بأن القلب هو العضو القادر على اتخاذ القرار، لذا فهو الذي يتحكم بالدماغ (وليس العكس):
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الحج (46)
وكان اليقين عندنا قاطعاً أن القلب هو ذلك العضو المتواجد داخل الصدر وليس الموجود في الرأس
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الحج (46)
وقلنا أنه يمثل المستقر بينما يمثل الدماغ المستودع:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ الأنعام (98)
لذا فإن عملية اتخاذ القرار (أي قرار) لابد – في رأينا- أن تنبع من القلب الذي في الصدر(فَمُسْتَقَرّ)، ثم يتم نقلها بعد ذلك إلى الدماغ الذي في الرأس، فما يجري في الدماغ لا يعدو أكثر من عملية تخزين للمعلومات أو الخبرات التي يمر بها الإنسان (وَمُسْتَوْدَعٌ)، وإن هو احتاج إلى استرجاع تلك المعلومة بحث عنها في دماغة وليس في قلبه، فالطالب الذي يدرس المادة يخزنها في دماغه ليتم له استرجاع المعلومة من هناك في يوم الامتحان، فوظيفة المدرسة (كمؤسسة تعليمية) لا تتعدى أكثر من الاهتمام بالدماغ (مُسْتَوْدَعٌ) لكنها نادراً ما تهتم بالقلب (فَمُسْتَقَرّ)، فالتدريس التلقيني هو الذي يشجع الدارس على تخزين أكبر قدر من المعلومة، لكنّه قلما يحثه على تدبرها، ليخرج هو منها بشيء ربما لم يدركه أحد قبله. فها هي أمم قد حملت التوراة والإنجيل قروناً من الزمن، وها هم آلاف من الناس يحفظون القرآن عن ظهر قلب، ولكن يبقى السؤال الذي لا مفر من طرحه على كل واحد منا هو: ما الذي خرجت به من تلك المادة العظيمة التي خزنتها في دماغك سنوات وسنوات؟ إن أخشى ما أخشاه أن نصبح نسخة طبق الأصل لمن حمل التوراة من قبل:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الجمعة (5)
فهل يا ترى يستفيد الحمار من الأسفار التي لا تعدو مهمته أن تكون أكثر من حملها على ظهره؟
دعاء: أعوذ بك ربي أن أكون (عند حملي شيء من كتابك) كالحمار الذي يحمل أسفارا
ويمكن تبسيط فكرة المقارنة بين القلب (الذي يعقل) والدماغ (الذي يخزّن) بالنظر إلى الأمر بمفهوم مفردات علم الكمبيوتر، فالقلب يمثل السوفتوير (software) المشغل للجهاز أو المعالج للمعلومة، بينما يمثل الدماغ الذاكرة التي يتم تخزين المعلومات فيها.
وقد زعمنا أن ذلك القلب لا يمكن لأحد أن يدخل إلى داخله، فهو عبارة عن جهاز يمكن قفله:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا محمد (24)
افتراء خطير ومهم جداً: لابد لأي معلومة جديدة من أن تنفذ إلى داخل ذلك الجهاز ليتم معالجتها فيه، لتخرج منه بعد ذلك متشكلة بالفهم الذي حصل لها داخل تلك الآلة (إنْ صح التعبير) قبل أن تصل إلى مرحلة التخزين في الدماغ. وهذا يعني بالضرورة أن المعلومة نفسها يمكن أن تدخل في قلبي فيعالجها قلبي بطريقته ليتحصل لي بعد ذلك فهماً بها ربما يختلف عن الفهم الذي تحصل لك بعد أن عالجها قلبك. فالقلب هو عبارة عن جهاز معالجة المعلومة (information processing machine).
نتيجة هذا الافتراء: إننا نظن أن لهذا الظن تبعات خطيرة جداً، يمكن أن نلخص أهمها بـ (1) التأويل و (2) التحريف.
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن القلب عندما يعالج المعلومة إما أن يؤولها أو أن يحرفها
فالقلب هو الذي يحرف الكلم من بعد مواضعه:
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المائدة (13)
ولابد من أن يطهّر القلب لكي يستطيع أن يؤول (فلا يحرّف):
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
فحتى يفقه الإنسان مثل هذا الكلام لابد من إزالة الأكنة التي تغلّف قلبه:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ۚ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام (25)
وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا الإسراء (46)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا الكهف (57)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ فصلت (5)
ولا بد من إزالة ما طبع وما ختم على قلوبهم به:
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ المنافقون (3)
لأن القلوب التي يتم تغليفها وطبعها وختمها، تصبح قلوب مريضة لا تستطيع أن تعمل بشكل سليم:
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
فعندما تغلف تلك القلوب بالأكنة وتغلق بالأقفال، تصبح قلوباً فيها مرض وقلوب قاسية أيضاً:
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
وتكون النتيجة أن هؤلاء الناس من الذين لا يعلمون:
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
والتضرع إلى الله هو السبيل لأن تلين القلوب:
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الأنعام (43)
ولا يمكن أن يتم تدبر القرآن ما لم يتم إزالة تلك الأقفال عنها:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا محمد (24)
ولو تدبرنا السياق القرآني التالي لربما وصلنا إلى ذروة ما نود طرحه حول هذه القضية:
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا الإسراء (46)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا الكهف (57)
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ المنافقون (3)
فالآية الكريمة تدلنا على أن السبب الأول الذي يمنع الكثيرين من أن يفقهوا هذا القرآن وهو بسبب وجود تلك الأكنة على قلوبهم، فلو تم إزالة ما على القلب من أكنه، ولو تم فتح ذلك القفل الذي أغلق به القلب، لأصبح هناك مجال لأن نفقه هذا القرآن العظيم. ولكن الكفار والمنافقون – لا شك- لا يفقهون:
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنْفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ المنافقون (7)
ولا شك لدينا أن الذي "يفقه" هو من يفقه القول:
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
دعاء: أللهم إنّا نتضرع إليك أن تكشف الأكنة عن قلوبنا وأن تفتح أقفالها لتلين فتفقه القول
التأويل
لما كان قلب محمد غير مقفل، ولما كان قلبه لم يختم ولم يطبع عليه، ولما كان قلب محمد لم تلفّه الأكنة، كان إذاً قلباً مستعداً أن يفقه ما يقرأ عليه من القول:
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
سؤال: كيف كان يفقه محمد قول الوحي مادام أن ما جاء به الوحي كان رمزاً؟
إننا نظن أن هذا السؤال هو ذروة العلم الذي نبحث عنه. فإن استطعنا أن نفقه القول كما كان يفقهه محمد لوصلنا بكل تأكيد إلى مراتب متقدمة جداً في العلم. فنحن نظن أن هذا هو علم التفصيل، أي تفصيل الكلام من لغة رمزية (لغة الوحي: ألم، ألر، عسق، طسم، ...) إلى لغة بشرية كلسان قوم النبي:
الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هود (1)
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فصلت (3)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فصلت (44)
فكيف كان يستطيع محمد القيام بذلك؟
ذكرنا في مقالتنا السابقة أن محمد ما كان يستطيع القيام بذلك بدون ما أنزل الله عليه من علم الذكر، فبالذكر كان يستطيع محمد أن يبيّن للناس ما نزّل إليهم من ربهم:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
وهكذا كانت مهمة كل رسل الله إلى الناس:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إبراهيم (4)
وذكرنا أيضاً أن ذلك العلم (علم الذكر) هو العلم اللّدني:
الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هود (1)
وزعمنا القول أن ذلك العلم موجود بين يدي الرحمن:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا الكهف (65)
استراحة قصيرة: الفرق بين التأويل والتفصيل
لو توقفنا عند قصة موسى مع ذاك العبد الصالح، وحاولنا النظر إلى جزئية فيها من هذا الجانب، ربما نخرج باستنباط هام جداً قد يساعدنا في فهم ما نحن بصدد الخوض فيه.
فها هو موسى يذهب مع غلامه حاثاً الخطى لملاقاة ذاك العبد الصالح:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا الكهف (60)
وعندما وجده موسى كان الرجل يتمتع بصفات عظيمة أنعمها عليه ربه:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا الكهف (65)
فيطلب موسى صحبة الرجل ليطلب العلم على يديه:
قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا الكهف (66)
ويحصل موسى على صحبة الرجل بعد جهد، لكن الرجل ينبّه موسى بالكلمات التالية:
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا الكهف (70)
وهنا نجلب انتباه القارئ الكريم إلى ملاحظة –نظن أنها- غاية في الأهمية هنا تتعلق بمفردة "ذِكْرًا"، فالرجل يطلب من موسى السكوت على ما يجد من أمره حتى يحدث هذا الرجل بنفسه لموسى من الأمر ذكرا، أليس كذلك؟
سؤال: ما معنى أن يحدث الرجل لموسى من الأمر ذكرا؟
لننتظر قليلاً لنرى ما الذي حصل فعلاً. فها هو موسى يصاحب الرجل قسطاً من الزمن، إلا أنه لا يستطيع أن يصبر على كل ما يرى من أمر الرجل، فيقوم الرجل بفضّ الصحبة تلك بعد محاولة موسى استطلاع الخبر للمرة الثالثة. ولكن قبل أن يترك موسى، نجد الرجل يقول لموسى ما يلي:
قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا الكهف (78)
إن أكثر ما يهمنا لفت الانتباه إليه هنا هو مفردة "بِتَأْوِيلِ"، فلو أمعنا التفكر في هذا الموقف لوجدنا أن الرجل لم يحدث لموسى من الأمر ذكرا (كما وعده في بداية رحلته معه)، بل قام بتأويل ما لم يستطع موسى الصبر عليه. إن لب القول هو في حين أن الرجل قد طلب من موسى أن يسكت حتى يحدث له من الأمر ذكرا، قام فقط بتأويل ما صعب على موسى السكوت عليه.
السؤال: لماذا قام الرجل بالتأويل ولم يحدث لموسى من الأمر ذكرا كما وعده في بداية الرحلة؟
جواب: إن هذه الحادثة تنبهنا إلى الحاجة أن نميّز بين إحداث الذكر والـتأويل
افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم الظن بأنه لو صبر موسى على صحبة الرجل حتى وصلا إلى المكان الذي كانوا يقصدونه لقام ذاك الرجل بإحداث الذكر لموسى، ولكن لمّا لم يصبر موسى على الأمر اكتفى الرجل بالتأويل. (للتفصيل انتظر مقالتنا القادمة بحول الله تحت عنوان باب الخضر)
نتيجة وافتراء: نحن نفتري القول بأن التأويل أقل درجة من إحداث الذكر (أي التفصيل)
وسنرى - إن أذن الله لنا بشيء من علمه- في مقالة مستقلة عن هذه الحادثة الكثير من المفارقات التي لابد من التنبيه لها، ولنترك قصصا وأوهاما توارثت عن يهود )ربما لا تسمن ولا تغني من جوع(، وسنحاول عند التعرض لحادثة هذا الرجل الصالح وحادثة البقرة الصفراء أن نبين - بحول الله وتوفيقه- كيف يقص هذا القرآن فعلاً على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه مختلفون، وسنترك للقارئ بعدئذ أن يتخذ القرار بنفسه في أيهما أحق بأن يتبع: الأوهام والتحريفات التي تناقلها يهود وأخذتها أمم أخرى دون تمحيص، أم استنباطات يمكن أن تدعم من كتاب الله بالحجة والدليل.
إن أكثر ما يهمنا هنا هو التفريق بين تأويل الحديث (كالذي كان يفعله يوسف وما فعله الرجل الصالح مع موسى) أم إحداث الذكر، أي استخدام علم الذكر الذي يؤخذ من لدن حكيم عليم (كالذي وعد به الرجل الصالح موسى إن هو صبر على صحبته).
إحداث الذكر
إن إحداث الذكر هو بكل تأكيد – في نظرنا- العلم الأعظم، إنه علم تفصيل الكلام، أي نقل الكلام من لغة الوحي إلى لغة البشر والعكس، إنها الشيفرة التي بها تفكك الرموز بالطريقة الصحيحة.
محمد كان يمتلك الذكر
لا شك لدينا أن الله قد نزّل على محمد علم الذكر الذي من خلاله كان يقوم محمد بتفصيل (إحداث الذكر) لما يُقرأ عليه من الكتاب وحياً. فالكتاب كله نزل على قلب محمد رمزاً،، وطلب من محمد أن لا يتعجل بما في قلبه:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
فكان محمد مأمور بإتباع وحي القرآن، فيخرج ما في قلبه بأمر من ربه، فيقوم الوحي بقراءته برمزيته:
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) طه
ويقوم محمد بتبيان ذلك للناس بلسان قومه:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) الشعراء
فكان محمد يقوم بتلك المهمة بنجاح لامتلاكه علم الذكر:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ النحل (44)
سؤال: ما هي ماهية ذلك العلم؟
افتراء من عند أنفسنا: يميل الظن عندنا أن ذلك هو العلم الذي علّمه الله لآدم "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا":
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ البقرة (31)
فاستحق آدم لامتلاكه ذلك العلم أن تسجد له الملائكة:
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ البقرة (33)
وتسخر له ما في السموات والأرض:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [2] الجاثية (13)
فكان آدم يعيش حياة رغدا في الجنة حتى ضاع منه ذلك العلم بسبب وسوسة الشيطان له:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ طه (120)
وقد حصل أن نسي آدم ما علمه الله من قبل من ذلك العلم الأزلي:
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا طه (115)
فلم يكن لآدم عزم، فنسيه.
ولو راجعنا قصة وحي القرآن لوجدنا الترابط العجيب بين قصة آدم تلك ودعوة الله لنا طلبه الاستزادة من ذلك العلم:
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) طه 114-115
دعاء: اللهم رب أنفذ مشيئتك وإرادتك لي بالزيادة من ذلك العلم، واجعلني لأهل الذكر إماما.
سؤال: ما الذي كان يقرأه الوحي مما في قلب محمد من الكتاب
جواب: لقد كان الوحي يقرأ ما أمر الله به "أن يوحى" مما في قلب محمد، وعندما يخرج ما أمر الله به من ذلك العلم الموجود أصلاً في قلب محمد، يقوم محمد بتفصيل (أي ترجمة) ما خرج من قلبه بلسان قومه.
افتراء خطير: كان محمد يفصل "أي يترجم" لغة الوحي الرمزية قرآناً عربياً بما أمر الله به من الوحي.
سؤال: ما الذي كان في قلب محمد؟
جواب: الكتاب كله بلغة الوحي
سؤال: وما هو؟
افتراء خطير خطير خطير: إننا نزعم القول أن الكتاب الذي كان في قلب محمد هو تلك الأحرف المتقطعة المتواجدة في بداية بعض سور القرآن، وهذا هو – في نظرنا- الكتاب كله.
ألا ترى أنك تهذي يا رجل؟ ما الذي تقول؟ هل الكتاب كله هو عبارة عن أربعة عشر حرفاً؟
جواب: نعم هذا هو الكتاب كله.
سؤال: ولكن كيف يكون الكتاب كله 14 عشر حرفاً والله يقول "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ"؟
جواب: هو كذلك. الكتاب هو تلك الأحرف المتقطعة الأربعة عشر لا غير. فانتظر - عزيزي القارئ- قليلاً لترى ما ستؤول إليه الأمور بعد أسطر قليلة. ولكن لابد أولاً من العودة إلى بناء جملة من الأفهام نعتقد أنها ضرورية لفهم الصورة التي نود أن نطرحها. ومن هذه الأساسيات التي لابد من أن نعرج عليها قبل الخوض في ذلك العلم قضية اللغة نفسها. لنطرح السؤال على النحو التالي:
ما هي اللغة؟
ملاحظة (نرى ضرورة أن يقرأ هذا الجزء بعد العودة إلى مقالتنا السابقة تحت عنوان:علم اللغة و هل للغة العربية قدسية خاصة؟
أولاً، غالباً ما تحدّث الناس عن اللغة، وفهموا أنها رموز صوتيه منطوقة (وأحياناً تكون مكتوبة) تتجمع معاً لتكوّن كلمات يستطيع الناس أن يفهموا معانيها، ومن ثم يتم تجميع الكلمات معاً لتعبر عن معاني يمكن أن تكون موضوع الخطاب بين المتحادثين، وهكذا. ولو دققنا جيداً في كيفية تكوين ما يسمى لغة لوجدنا أن هناك على الأقل حاجة إلى عاملين أساسين وهما (1) تلك الرموز الصوتية التي ربما يرغب البعض أن يسميها بالحروف عند الكتابة وبالأصوات عند النطق و (2) طريقة تركيب هذه الرموز الصوتية لتشكيل مفردات اللغة.
فعندما تتجمع الأحرف الثلاث التالية (ر-ج- ل) أو الأصوات الخمسة التالية (رَ-جُ-ل) لتكون معاً مفردة رَجُل، يفهم الناس الكلمة على أنها تدل على تلك الكينونة التي نسميها في العربية رجل ويقابلها في الإنجليزية (MAN)، وهكذا، ولكن لو طرحت على أحدهم السؤال التالي: لماذا يسمي الناس تلك الكينونة الذكرية البالغة من العمر سناً معيناً رجلاً وليس دلواً أو حجراً مثلاً، لردوا عليك بالقول: ألا تهذي يا رجل: هي كذلك؟ وكفى. فهموا ألفوا تلك الكلمة وألفوا معناها، ولكنهم لا يستطيعون أن يبرروا العلاقة بين لفظ الكلمة ومعناها، فهم لا يعلمون لم نسمي هذا الشيء كرسي وتلك طاولة، وليس العكس مثلاً. وهم لا يعلمون –بكل تأكيد- لم الكرسي في العربية مذكرا بينما الطاولة مؤنثة، وهذا ينطبق على كل لغات البشر.
(للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان علم اللغة)
نتيجة ضرورية سنحتاج إليها لاحقاً: إن من أهم ميزات لغة البشر أنها لا تبرر العلاقة بين لفظ الكلمة ومعناها. فالعلاقة بينهما غالباً ما فهمت على أنها علاقة اعتباطية (ARBITRARY).
ثانياً، لابد أيضاً من تسليط الضوء على الأصوات التي يستخدمها البشر في لغاتهم، فلغات البشر تختلف في عدد الأصوات التي تتبناها لتشكل منها مفرداتها، فهناك في العربية بضع وعشرون حرفاً (حوالي بضع وأربعون صوتاً)، والرقم يكاد يكون متقارباً في الإنجليزية أو الفرنسية، ولكن هناك لغات قد لا تتعدى عدد حروفها الخمسة عشر حرفاً، وهناك لغات يزيد عدد حروفها عن الخمسة والثلاثين، وهكذا. المهم في الموضوع هو القول بأننا لا نجد كل الحروف في كل لغة، فالخاء والحاء والعين والغين والقاف أحرف متواجدة في اللغة العربية لكنها غير متوافرة في اللغة الإنجليزية، وبالمقابل هناك ch، g، v، p...الخ تقع ضمن مجموعة أحرف اللغة الإنجليزية ولكنها غير متوافرة في العربية (كحروف وليس كأصوات بالطبع).
نتيجة ضرورية سنحتاج إليها لاحقاً: كل لغة تختار عدد الحروف التي تشكل منها مفرداتها
ثالثاً، تختلف اللغات أيضاً في كيفية تركيب الأحرف في كلمات (phonotactic constraints)
إن الحاجة ملحة لإدراك حقيقة ثابتة تخص اللغات بشكل عام وهي أن اللغات تختار طريقتها الخاصة بها في تشكيل أحرفها في كلمات ذات معنى، فلا تتطابق اللغات في ذلك، فلو أخذنا كلمة man من اللغة الانجليزية لوجدنا أنها تتألف من ثلاثة حروف هي m---a---n لتشكل معاً الكلمة التي نعرفها نحن بالعربية بمعنى رَجُلْ. ولكن لو أمعنا التفكر في أحرف مفردات الكلمة الإنجليزية man لوجدنا أنها جميعاً موجودة في اللغة العربية، فهناك الميم والألف والنون، ولكن هل هناك كلمة في العربية مثل "مان"؟ لا، لا يوجد.
سؤال: لماذا؟
جواب: بالرغم أن الأحرف متوافرة في اللغة، إلا أننا لا نجد أن كل تجمع لعدد من الأحرف يشكل كلمة في اللغة، فحتى تتشكل كلمة في لغة ما، فلابد من توافر الأحرف (الأصوات)[3] أولاً، وأن تركب تلك الأحرف بطريقة ما تسمح بها اللغة نفسها لينتج عن ذلك مفردة ذات معنى في اللغة نفسها.
نتيجة مفيدة سنحتاجها لاحقاً: كل لغة تختار طريقتها في تركيب أحرفها في كلمات، فليس كل تجمع لعدد من الأحرف ينتج عنه كلمة من كلمات اللغة نفسها
ولكن تبقى هناك مشكلة أخرى تتعلق بمعنى التراكيب التي تنتج عن تجميع الحروف مع بعضها البعض، فلو أخذنا مفردة بسيطة مثل can من اللغة الانجليزية، لوجدنا أن أحرفها جميعها موجودة في العربية، ولو حاولنا تشكيل كلمة من هذه الأحرف في العربية لخرجنا بكلمة مثل "كان"، وهي كلمة موجودة في العربية، لكن بالرغم أن اللغة الانجليزية تقبل هذا "التوليفة" (CLUSTERING) لهذه الأحرف كما تقبلها العربية إلا أن كل لغة خرجت بمفردة مختلفة في المعنى، فكلمة can الانجليزية لا تعطي معنى مثل معنى "كان" العربية.
سؤال: لماذا؟
جواب مفترى: إننا نزعم الفهم أنه بالرغم من كثرة الأحرف في اللغات البشرية إلا أنها غير معبرة بالدقة المنشودة، وهو ما ذكرناه سابقاً تحت الافتراض بأن اللغات البشرية لا تبرر العلاقة بين اللفظ والمعنى وتعتبر أن العلاقة لا تعدو أكثر من علاقة اعتباطية (ARBITRARY).
ما فائدة هذا الزعم؟
جواب: مادامت لغات البشر من صنع البشر أنفسهم، فمفرداتها لا تبرر
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ النجم (23)
فنحن أذاً نستخدم المفردة بمعناها الدارج لا لشيء إلا لأننا نظنها كذلك، أي إتباعا للظن وما تهوى الأنفس (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ)، ولو دققنا النظر في تكملة الآية نفسها لوجدنا أن علماً غير ذلك قد جاءنا من الله من قبل (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ)، فلقد جاءنا الهدى يوم أن علم الله آدم الأسماء كلها، ولكن عندما أضاع آدم ذلك العلم لم يكن أمامنا بداً من إتباع الظن وما تهوى الأنفس:
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
نعم، لقد هبط آدم من تلك الجنة التي كانت الحياة فيها رغداً بسبب ما أودع الله فيه من علم الأسماء إلى مكان آخر حاملاً كلمات من ربه وليس علماً. لقد خرج آدم من الجنة بعد أن أضاع ذلك العلم.
ولم كانت حياة آدم في المكان الجديد غير مستندة إلى علم الأسماء الأول، اختلفت التسميات باختلاف الظنون والأهواء، وأصبح لك قوم لغتهم التي تميزهم عن غيرهم من الأمم. فأصبحت هناك – كما نشهد اليوم مثلاً- العربية والإنجليزية والألمانية والعبرية والسنسكريتية، والصينية، وهكذا.
تخيلات: ماذا كان سيحصل لو لم يضيع آدم ذلك العلم الذي علمه إياه ربه؟
افتراء مهم جداً: إننا نعتقد جازمين أنه لو كان كذلك، لأصبحت كل حرف في لغة البشر (وبالتالي كل كلمة وكل جملة) معبرة بالدقة المطلوبة بلا زيادة ولا نقصان، ولما دخل الظن والهوى في الموضوع. ولكانت النتيجة على نحو أن أي تركيب للأحرف بأي ترتيب كان، سينتج عنه كلمة ذات معنى حقيقي (لا ظني). ولما اختلف الناس بالتسميات، ولاتبعوا الهدى بدلاً من إتباعهم الظن والهوى، ولكن كيف؟
مثال
لنأخذ الكلمة الانجليزية cat ونحاول أن نتلاعب بترتيب أحرف هذه المفردة، فعندها ستنتج الخيارات الستة التالية:
Cat, act atc, tac, tca, cta
ولو أمعنا التفكر جيداً لوجدنا أنه من بين الخيارات جميعاً، نجد اثنتين فقط ذات دلالة ومعنى، وهما cat و act، بينما الخيارات الباقية فضلة لا قيمة لها.
ولو حاولنا تطبيق المنطق نفسه على كلمة عربية تتكون من ثلاثة حروف فقط مثل "رجل" لوجدنا الخيارات على النحو التالي:
جرل، جلر، لرج، لجر، رجل، رلج
ولوجدنا بكل سهولة ويسر أن واحدة منها فقط هي كلمة عربية ذات دلالة، بينما البقية المتبقية لا تعدو أكثر من فضلة (زيادة) لا حاجة لنا بها. فالعربية تستفيد من هذه الأحرف الثلاثة مجتمعة لتشكل كلمة واحدة في قاموسها، بينما لا تستفيد من تشكيلات خمسة أخرى محتملة.
نتيجة: هناك في العربية وفي الإنجليزية (كأمثلة على لغات بشرية) عدد كبير من الأحرف، لكن لا يتم الاستفادة منها بالطاقة القصوى.
نتيجة: إن هذا هو – في رأينا- السبب الرئيس على محدودية القاموس في أي لغة، فكلمات أي لغة محدودة لأن الأحرف لا يتم استغلالها بالطاقة القصوى، فما يتم الاستغناء عنه أكثر بكثير مما يتم الاستفادة منه، وتخيل عزيزي القارئ لو كانت الحال على نحو أن كل تجمع للأحرف يشكل كلمة ذات دلالة، فكم سيصبح حجم قاموس تلك اللغة؟
جواب: لا يمكن أن تنفذ كلماته
الدليل:
لنعقد مقارنة بين علم اللغة وعلم الحساب، فعلم اللغة يستخدم الأحرف (الأصوات) بينما يستخدم علم الحساب الأرقام، ولكن لماذا الكلمات في لغة البشر محدودة بالرغم أن هناك كمية كبيرة من الأحرف (تصل إلى أكثر من خمسة وعشرين في العربية أو الإنجليزية مثلاً)، ولكن – بالمقابل- ليس هناك حد للأعداد بالرغم أن كل الأعداد تتألف من عشرة أرقام فقط وهي:
0 -1- 2- 3 – 4 - 5 - 6 – 7 – 8 - 9
أليست هذه هي أرقام الحساب كلها؟ ولكن لم لا يوجد حد لعدد الأرقام؟
الجواب: لأن كل رقم له معنى، لذا لو أخذت أي عدد من الأرقام مثل (765) وحاولت أن تتلاعب بترتيبها سينتج عندك ستة توليفات (CLUSTERING) مختلفة، يكون كل رقم جديد ذات دلالة ومعنى:
567 576 657 675 765 756
فهل هناك رقم من هذه الأرقام الجديدة زيادة لا حاجة لنا به؟
كلا، وألف كلا. كل واحد من هذه الأرقام له قيمته الخاصة التي تميزه عن غيره
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن هذا النوع من التفكير (على بساطته) ربما يسعفنا في تسليط الضوء على قضايا عديدة أعيت الفكر الديني لقرون، مثل آلية اصطفاء الرسل، وقضية النسخ والاستنساخ، وهي قضايا جوهرية سنحاول – إن أذن الله لنا بشيء من علمه- أن نتعرض لها في مقالات منفصلة، لكننا نحتاج أن نعود (بمثل هذا الفهم المشوش) إلى موضوع حديثنا عن كتاب الله لنرى ما ستؤول إليه الأمور.
كيف هي كلمات الله في الكتاب؟
لتقريب الصورة إلى الأذهان باستخدام عنصر المشابهة، فإننا نظن أن كلمات الله في الكتاب تشبه في عملها أرقام الحساب، لذا:
1. لكل حرف معناه
2. وكل تجمع للأحرف بأي توليفة (CLUSTERING) كانت، ينتج عنه كلمة ذات دلالة ومعنى
مثال: عسق
لا شك لدينا أن هذه من كلمات الأحرف المتقطعة التي ابتدأت بها سورة الشورى:
حم (1) عسق (2) كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
وهي - لا شك عندنا- كلمة ذات دلالة ومعنى في كتاب الله (وإن كنا نحن لا نعرف معناها)، فعدم معرفتنا لدلالتها ومعناها لا يعني أنها لا تعني شيئاً بعينه، بالضبط كالكلمة الروسية أو اليابانية أو الصينية التي لا نعرف معناها، فحقيقة أننا لا نعرف معناها، لا يعني بأي حال من الأحوال أنها ليست كلمة ذات دلالة ومعنى في لغتها الأم. المهم بالموضوع القول هو أن "عسق" هذه هي إحدى مفردات الكتاب. ولكن يبقى السؤال مطروحاً على النحو التالي: ماذا لو حاولنا تغيير ترتيب تلك الأحرف على نحو:
عسق، عقس، سقع، سعق، قسع، قعس
هل نقول أن مفردة عسق هي فقط مفردة ذات دلالة ومعنى في الكتاب بينما المفردات الأخرى التي نتجت عن إعادة ترتيب الحروف ليست كلمات ذات دلالة ومعنى في الكتاب؟
كلا، وألف كلا. إنّ كل كلمة يمكن أن تتشكل من تلك الحروف بغض النظر عن الترتيب هي كلمة ذات دلالة ومعنى في كتاب الله، وهذا الظن نابع من الإيمان اليقيني التي يمكن أن نلخصه على النحو التالي: لا يوجد في كتاب الله ما يمكن أن يعتبر زيادة لا حاجة له. فكل حرف في كتاب الله بغض النظر عن الترتيب الذي يأتي فيه ينتج عنه معنى جديد (بالضبط كما لو تصورنا ترتيب الأرقام في الحساب).
سؤال: لماذا 14 حرفا فقط؟ لماذا ليس هناك 25 أو 27 أو ربما 35 حرفاً بدلاً من أربعة عشر أو حتى عشرة كما في حالة أرقام الحساب مثلاً؟
جواب: إن ذلك العدد هو الحد الأدنى من الحروف التي يمكن أن تفي بالغرض لتكون كلمات الله غير نافذة:
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لقمان (27)
فحتى لا تنفذ كلمات الله، فقد تألفت جميعها من تلك الحروف الأربعة عشر، ومادام أن 14 حرفاً يمكن أن تفي بالغرض ليكون عدد كلمات الكتاب غير نافدة، فلا حاجة لـ 15، وهذا الظن نابع من الاعتقاد اليقيني بأنه لا يوجد في كتاب الله نقص، لأن الإله القدير لا يستخدم ما يمكن الاستغناء عنه. فلو كان العدد أقل من ذلك لأصبح هناك خلل بسبب نقص لا يمكن تعويضه، ولو كان العدد أكثر من ذلك لأصبح هناك خلل بسبب الزيادة التي لا حاجة لها.
نتيجة: 14 حرفاً هي عدد الأحرف اللازمة لتكون كلمات الكتاب غير نافدة:
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
ولكن كيف؟
جواب: لا شك عندنا أن كل حرف من تلك الأحرف الأربعة عشر هو كلمة مستقلة بحد ذاته، لذا نجد في كتاب الله أن بعض سور القرآن الكريم تبدأ بحرف واحد:
ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
ولا شك عندنا أيضاً أن أي تجمع لتلك الأحرف (بغض النظر عن عددها بالضبط كما يحصل في علم الحساب) يشكل كلمة جديدة، لذا تبدأ بعض سور القرآن الكريم بكلمات من الكتاب تتألف من حرفين:
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
طس ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
وهناك بعض سور القرآن تفتتح بكلمات متقطّعة من ثلاثة أحرف:
الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) آل عمران
الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) يوسف
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) القصص
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) الشعراء
وهناك بعض السور التي ابتدأت بكلمات من الكتاب تتكون من أربعة أحرف:
المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
وهناك سور ابتدأت بكلمات تتألف من خمسة أحرف:
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) مريم
نتيجة وافتراء من عند أنفسنا: الحرف الواحد في كتاب الله هو كلمة، والحرفان يشكلان كلمتين بغض النظر عن ترتيبهم، والكلمة قد تتألف من ثلاثة أو أربعة أو خمسة،(الخ) من عدد من الأحرف بغض النظر عن ترتيب تلك الحروف، ولا يمكن أن تنتج توليفة من تلك الحروف لا تكون ذات دلالة ومعنى وذلك لأن كتاب الله لا يمكن أن يكون فيه زيادة تشوبه أو نقص يعيقه.
سؤال: لماذا اصطفى الله بعض خلقه ليكون هم رسلاً ولم يصطفي غيرهم؟ لماذا لا أكون أنا أو أنت رسول من ربنا إلى الناس؟
جواب: لأننا لا نعلم كيف نفصّل آيات ربنا إلى الناس، فنحن لا نملك العلم بتلك اللغة، ولا نملك كيف يمكن أن نفصّلها (أي نترجمها) إلى لغة بلسان قومنا.
سؤال: من يكون رسولاً؟
جواب: لا يمكن أن يكون رسولاً إلا من كان يستطيع أن يبين (يفصل) للناس ما نزّل إليهم من ربهم
وهنا يبرز سؤالان مهمان جداً وهما:
1. كيف كان يقوم محمد بذلك؟
2. هل نستطيع نحن البشر أن نحيط بشيء من ذلك العلم؟
أما بالنسبة للسؤال الأول "كيف كان يستطيع محمد القيام بتلك المهمة التي أوكلها الله إليه؟"، فأننا نظن أنّ محمداً كان يمتلك العلم بتفصيل آيات الكتاب المبين (كما هي في نسخته الأصلية) بسبب ما أنزل الله إليه من علم الذكر:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ النحل (44)
أما بالنسبة للسؤال الثاني: هل يمكن لنا نحن البشر الإحاطة بشيء من ذلك العلم؟ فإننا نزعم الظن بأننا قد نستطيع القيام بذلك. صحيح أننا لن نستطيع الإحاطة به كله، لكنا – بلا شك- نستطيع الإحاطة بشيء منه، مصداقاً لقوله تعالى:
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ البقرة (255)
دعاء: أللهم ربنا نسألك أن تنفذ مشيئتك وإرادتك لي الإحاطة بشيء من علمك لم تأذن لغيري العلم به.
سؤال: كيف يمكننا القيام بذلك؟
جواب: بواحدة من طريقتين: إما (1) بطريقة الوحي كما أوحى الله إلى بعض عباده (فالله قد أوحى إلى أم موسى وإلى الحواريين) أو (2) بطريقة العلم اللّدني الذي يمنّ الله به على من يشاء من عباده (كحالة صاحب موسى وجليس سليمان).
سؤال: وكيف السبيل إلى ذلك؟
1. طريقة الوحي
لنبدأ النقاش حول طريقة الوصول إلى علم التفصيل بالوحي بالسؤال التالي: كيف كان يقوم محمد بتلك المهمة؟
جواب: ربما نحتاج أن نتدبّر قوله تعالى كما جاء في سورة النجم مرة أخرى:
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11) النجم 10-11
ربما يجد المتدبر لهذا السياق القرآني التلازم العجيب بين الوحي والفؤاد، وهنا يُطرح السؤال الذي لا مفر منه وهو: ما سبب التلازم بين الوحي في الآية رقم 10 والفؤاد في الآية التي تليها (11)؟
ولو تدبرنا سياقاً قرآنياً آخر لوجدنا تلازماً عجيباً بين الكتاب والرؤيا:
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا النساء (105)
وهنا يبرز التساؤل الأكبر وهو: ما هي العلاقة بين الكتاب والفؤاد والرؤيا؟ وكيف سيحكم الرسول بين الناس بما أراه الله؟
جواب: إننا نظن أن الوحي (أي فك رموز الشيفرة) يتم في الفؤاد. فالفؤاد عندما يري يكون ذلك وحياً من الله. وهنا ربما يطرح سؤالان اثنان وهما:
1. كيف يرى الفؤاد؟
2. وكيف يعمل الفؤاد على فك الشيفرة؟
كيف يرى الفؤاد؟
لاشك لدينا أولاً أن الفؤاد هو أحد وسائل الوصول إلى العلم (أي الحصول على المعلومة)، فالله قد أخرج الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيء، ولكنه في الوقت ذاته زودته وبالوساءل التي يستطيع من خلالها الوصول إلى العلم وهي السمع والابصار والأفئدة:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
وعندها أصبح الإنسان محاسباً لمتلاكه هذه هذه النعم الثلاثة، مصداقاً لقوله تعالى:
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا الإسراء (36)
فوسائل الحصول على العلم (أو الوصول إلى المعلومة) حسب الآية الكريمة السابقة هي ثلاث:
1. السمع ويكون ذلك عن طريق عضو يسمى الأذن
2. البصر ويكون ذلك عن طريق عضو يسمى العين
3. والفؤاد ويكون ذلك عن طريق عضو يسمى القلب.
ويمكن أن نروج لزعمنا هذا من خلال الآية الكريمة التالية:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
فمادام أن الآذان هي آداة السمع والأعين هي أداة البصر فإن القلوب هي آداة العقل.
ولو تدبرنا الآية الكريمة التالية لربما خرجنا باستنباط غاية في الأهمية يتمثل في أنّ الفؤاد لا يبصر ولكنه يرى:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الحج (46)
فهناك حاجة للتفريق بين الإبصار (الذي يتم عن طريق العين) والرؤيا (التي تتم عن طريق الفؤاد)، فالمعلومة يمكن أن يتم التوصل إليها بالطرق الثلاثة التالية:
1. السمع عن طريق الأذنين،
2. البصر عن طريق العينين (أو هي رؤيا العين)،
3. والرؤيا عن طريق الفؤاد (أو هي رؤيا الفؤاد)
ولو دققنا أكثر في العلاقة التي يمكن أن تنشأ بين هذه النعم الإلهية الثلاثة في الوصول إلى المعلومة والقرآن الكريم نفسه لوجدنا السياقات القرآنية التالية ذات دلالات عظيمة:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
فهناك تلازم عظيم بين القرآن الكريم من جهة والفؤاد من جهة أخرى، ولو دققنا في سياقات قرآنية أخرى لوجدنا تلازماً عظيماً بين ما أنزل على محمد وقلب محمد:
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ البقرة (97)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) الشعراء
فما هي العلاقة بين الفؤاد والقلب؟ أو ما الفرق بين القلب والفؤاد؟
جواب: ربما يمكننا التوصل إلى الفرق بينهما عند عقدنا مقارنة مع النعم الأخرى التي أنعم الله بها علينا وهي السمع والبصر، فالذي على عينيه غشاوة لا يبصر:
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
والذي في أذنيه وقرا لا يسمع:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ۚ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
ولو دققنا أكثر لوجدنا التلازم العجيب بين القلب والآذن على وجه التحديد، فهما العضوان اللذان يختمان ختماً:
خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
ولكن العيون لا تختم، ولكن يمكن أن تغشى:
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
ولو حاولنا تدبر ذلك لوجدنا أن التكليف يقع على من لديه قلب يعقل وآذان تسمع حتى لو كان لا يبصر بعينيه (كالأعمى مثلاً)، لأن إعاقة البصر لا تعيق التدبّر، ولكن من ليس له أذنين يسمع بهما فهو يصبح أصم أبكم لا يستطيع تدبر المعلومة، وكذلك من كان قلبه مختوماً (أو مغلفاً بالأكنة) فيصبح كما الأصم الأبكم الذي لا يعقل، أو بكلمات أكثر دقة، فهو يصبح كالأنعام:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
أو كنوع من الدواب:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
وستكون النتيجة على هؤلاء الدواب أنهم لا يؤمنون:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الأنفال (55)
نتيجة وافتراء: إن طرق الوصول إلى الإيمان هما طريقان: السمع والقلب فقط.
لذا حتى يتم تعقل هذا القرآن لابد من أن يدخل للإنسان بالسمع عن طريق أذنيه ولا بد أن يتدبره بقلبه:
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) فصلت 1-5
افتراء من عند أنفسنا: القرآن لا يرى وإنما يسمع بالأذنين ويعقل بالقلب (انظر مقالتنا تحت عنوان هل للغة العربية قدسية خاصة: جدلية الكتاب والقرآن)
دعاء: اللهم أسألك أن لا تختم على سمعي ولا على قلبي، رب أسألك أن تزيل الأكنة عن قلبي والوقر من أذني حتى أستطيع أن أعقل هذا القرآن:
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
القلب والفؤاد
وهنا يبرز السؤال التالي: ما علاقة القلب بالفؤاد؟ فلقد بدأنا الحديث عن الفؤاد وانتهينا بالقلب، فكيف يمكن أن نفرّق بينهما؟
إنّ تدبّر الآية الكريمة التالية ربما يسعفنا في تسليط الضوء على التفريق بين القلب من جهة والفؤاد من جهة أخرى:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ القصص (10)
فها هي أم موسى نفسها، وهذا نص القرآني يتحدث عن فؤاد أم موسى وعن قلب أم موسى في الآية نفسها، فكيف يمكن أن نفرق بين الأثنين؟
تساؤلات:
1. لماذا أصبح فؤاد أم موسى فارغاً؟
2. كيف أصبح فؤاد أم موسى فارغاً؟
3. لماذا ربط الله على قلبها؟
4. كيف ربط الله على قلبها؟
5. وما علاقة فؤاد أم موسى بقلبها؟
جواب: إننا نظن أن فؤاد أم موسى قد أصبح فارغاً بعد أن فعلت ما أوحى الله إليها في أمر رضيعها:
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
ولكن لمّا ألقت رضيعها في اليم وانتهى الأمر به في يد فرعون، أصبحت (أي في اليوم التالي) فارغة الفؤاد:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ القصص (10)
فكانت النتيجة أنها تحاول أن تبدي به (أي تظهر الخبر لشدة خوفها وحزنها على طفلها)، وهنا تتدخل القدرة الإلهية لتربط على قلبها، أليس كذلك؟
نتيجة وافتراء: إن أبسط ما يمكن أن يستنبط من هذا السياق القرآني هو أن القلب قد تدخل في آخر الحدث، فلقد كان هناك خوف وكان هناك حزن وكان هناك قبل هذا وذاك وحي من الله إلى أم موسى، ولكن عندما كاد ذلك الحزن وذلك الخوف (وربما ذلك الوحي) أن يظهرا، تدخلت القدرة الإلهية لتربط على قلبها.
افتراء: إننا نظن أنه لما كان القلب وهو أداة التعقل (أي أداة اتخاذ القرار) كان الفؤاد هو الوعاء الذي شمل الوحي والحزن والخوف. فالفؤاد هو الوعاء الذي تدخل إليه المعلومة ليتم معالجتها بالقلب بعد ذلك، فلا شك لدينا أن الله قد أوحى إلى أم موسى حسب نص الآية الكريمة نفسها:
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
وهنا يبرز السؤال الذي لا مفر منه وهو: كيف كانت طريقة الوحي الذي جاء إلى أم موسى؟
جواب مفترى: إننا نظن أنه ما دام أن العلم قد جاء لأم موسى وحياً فلابد من الرؤيا، ولا شك لينا أن الذي يرى الوحي هو الفؤاد مصداقاً لقوله تعالى:
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12)
فالذي يرى الوحي هو – لا شك عندنا- الفؤاد. ولكن الذي يعالج المعلومة هو القلب. لذا عندما حاولت أم موسى أن تعالج المعلومة الموحاة إليها بقلبها (ولم تتوقف عن الوحي كما جاءها)، كادت أن تبدي به. وهنا فقط تدخلت القدرة الإلهية بأن تربط على قلبها لتصدها عن ما يمكن أن يخرجه قلبها مما في فؤادها. ولو دققنا التدبر في اللفظ نفسه، لربما احتجنا أن نطرح السؤال التالي: كيف يتم الربط على القلب؟ أو ما معنى أن يتم الربط على القلب:
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ الأنفال (11)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) الكهف
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ القصص (10)
فلا شك أن عملية الربط على القلب تأتي في آخر مراحل اتخاذ القرار، لذا يمكننا الخروج بالاستنباط المفترى التالي: تدخل المعلومة الموحاة من الله إلى الإنسان عن طريق الفؤاد وتخرج عن طريق القلب بعد أن يتدبرها.
لذا، عندما جاء الوحي إلى أم موسى، دخلت المعلومة الموحاة إلى فؤادها، وأخذ القلب يعالجها (ليعقلها)، فكانت شدة الخوف والحزن الذي رافق تلك المعلومة يدفع به لتخرج من فؤادها إلى عقلها دون تدبر كبير يعي نتائج ما يمكن أن تؤول إليه الأمور بعد ذلك، ولولا أن تدخلت القدرة الإلهية لخرج الخبر عن طريق قلبها، ولربما انتشر أمر الوحي الذي رأته أم موسى في فؤادها على الملأ، وعندها كان يمكن أن يحدث ما لا تتمناه المرأة وترجوه (وسنرى لاحقاً عندما نفرد مقالة خاصة لطفولة موسى هذه – إن أذن الله لنا بشيء من علمه- كيف أن أم موسى لم تطلع أحداً على خبر الرؤيا تلك).
إن جل ما يهمنا في نقاشنا هنا هو الظن بأن القلب والفؤاد هما كينونة عضوية واحدة داخل صدر الإنسان، يكون الفؤاد هو مدخلها والقلب هو مخرجها، فما يدخل عن طريق الفؤاد لا يمكن أن يخرج إلا من خلال القلب بعد أن يعقلها بالطريقة التي يريدها الإنسان نفسه، وبالتالي فذلك العضو في داخل صدر الإنسان هو عبارة عن جهاز بمدخل واحد وبمخرج واحد، فالفؤاد هو المدخل الذي تتراكم فيه المعلومات والعقل هو المخرج لتلك المعلومات بعد أن يعالجها.
سؤال كيف يمكن أن تربط ذلك بتنزيل الكتاب وتفريق القرآن؟
جواب: لقد رأى محمد الكتاب بفؤاده:
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12)
فجاء الأمر الإلهي لمحمد أن يحكم بين الناس بما أراه الله:
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
افتراء من عند أنفسنا: الكتاب يرى بالفؤاد ويعقل بالقلب على غير القرآن الذي يسمع بالأذنين ويعقل بالقلب.
(دعاء: اللهم أسألك أن تجعلني ممن يرون آياتك فيعرفونها وممن يسمعون آياتك فيعقلونها)
ولم يكن تنزيل الكتاب والحكم بما يراه الرسول أمراً خاصاً بمحمد فقط، بل كانت تلك هي سنة الله في جميع رسله:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ البقرة (213)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ص (26)
فكان محمد يحكم بين الناس بالحق بما رأى من الكتاب، ولكن لمّا كان الناس لا يستطيعون أن يفهموا آيات الكتاب كما هي في نسختها الأصلية، ولما كان محمد لا يستطيع أن يري الناس آيات الكتاب كما رأها هو، كان لابد أن تخرج تلك الآيات من فؤاد محمد عن طريق قلبه بعد أن يعالجها، فخرجت قرآن يسمع بالأذنين ويعقل بالقلب.
2. طريقة العلم
السؤال: كيف نستطيع نحن أن نصل إلى ذلك العلم؟
جواب: لقد يسر الله القرآن للذكر:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ القمر (17)
وَكَذَٰلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا طه (113)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
ولو دققنا جيداً، لوجدنا أن الله الذي أنزل إلينا هذا الذكر كان قد أنزله إلى أنبياءه من قبل، فلقد جاء موسى وهارون كما جاء محمد نفسه:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
نتيجة إن تدبر هذا القرآن بالطريقة الصحيحة (كما يجب) سيرشدنا بكل تأكيد إلى ذلك الذكر، وسنحاول – إن أذن الله لنا بشي من علمه- أن نثبت مثل هذا الزعم بالدليل العملي من كتاب الله.
وربما يمكننا أن نفتري القول أن لدينا الدليل بأن الله قد أذن لبعض عبادة بشيء من ذلك العلم، وليس أدل على ذلك من قصة صاحب موسى الذي رافقه موسى ليحدث له شيئاً من الذكر الذي من الله به على ذلك العبد الصالح:
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا الكهف (70)
أسأل الله أن ينفذ قوله بمشيئته وارادته لي الإحاطة بشي من ذلك العلم، فادعوه بالقول "اللهم آتني رحمة من عندك وعلمني من لدنك علماً"، فأسأله تعالى أن أعلم منه ما لا تعلمون، إنه نعم المولى ونعم المجيب.
وللحديث بقية
23 أيار 2012
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح