مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ (11): باب الريح
حاولنا في الجزء السابق من هذه المقالة تقديم فهمنا لجزئية تخص سبب كشف المرأة عن ساقيها عندما رأت الصرح وحسبته لجة كما تصوّرها الآية الكريمة التالية:
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ النمل 44
فزعمنا الظن أن المرأة كشفت عن ساقيها لأنها أرادت أن تسجد لذلك الصرح عندما رأته وحسبته لجة، ظانّة أن ذلك الصرح هو إله يستحق السجود له كما كانت تفعل وقومها يوم كانوا يسجدون للشمس من دون الله، وربطنا مسألة الكشف عن الساق بالسجود متعلّلين بالسبب نفسه الذي اقترن من أجله الفعلان يبعضهما البعض في قوله تعالى:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ القلم (42)
وافترينا القول أن فعل الكشف عن الساق ما هو إلا مقدّمة لازمة للقيام بفعل السجود، فزعمنا القول أن السجود لا يتم إلا بالكشف عن الساق، وذلك ليتم النزول بكامل الساقين إلى الأرض في عملية السجود. وحاولنا تسويق المنطق المزعوم التالي: كانت تلك المرأة (وقومها بالطبع) يسجدون للشمس قبل أن يقدموا إلى سليمان، وعندما جاءت تلك المرأة ورأت الصرح (الذي ظننا أنه بناء عظيم جداً بين السماء والأرض – انظر الجزء السابق من هذه المقالة) حسبته لجة، ظانة أنه إله يستحق السجود له، كما كانت تفعل وقومها عندما كانوا يسجدون للشمس من ذي قبل، فما كان منها إلا أن تقوم بفعل الكشف عن الساق (وليس كشف الساق نفسه)، وقد حاولنا التمييز بين أن تكشف المرأة عن ساقها كما فعلت هذه المرأة وأن تكشف المرأة ساقها (كما تخيل أهل الدراية والرواية). وكان هذا هو السبب الذي أخرج سليمان بنفسه إليها ليخبرها بنفسه أن ذلك الشيء الذي همت بالسجود له عندما كشفت عن ساقيها ليس إلاّ صرح ممرد من قوارير لا يجوز السجود له بأي حال من الأحوال، عندها شعرت المرأة بالظلم الذي كانت ترتكبه بحق نفسها قبل هذه اللحظة عندما كانت تسجد للشمس من دون الله، فما كان منها إلا أن اعترفت بخطئها، فكفّرت عنه بأن أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، فتركت ما كانت تعبد وقومها من دون الله إلى غير رجعة:
... قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ النمل (44)
وحاولنا تسويق منطقنا هذا بعقد مقارنة بين الصورة الذهنية التي ترسمها هذه الآية الكريمة التي تتحدث عن كشف المرأة عن ساقيها عندما حسبته لجّة:
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ النمل (44)
والآية الكريمة التي تتحدث عن البحر اللجّي:
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
فحاولنا تسويق ظننا المفترى بأن البحر اللجي هو البحر الذي يكون قد أوقد تحته، ولكنه مع ذلك لا يشتعل بفعل النار الموقدة تحته، كما أن ماءه لا تستطيع أن تطفئ النار المشتعلة تحته، فلا ماء البحر قادر على إطفاء النار الموقدة تحته، ولا النار قادرة على إشعال الماء الذي فوقها. وعندما يغطّي هذا البحر بالموج الذي من فوقه موج الذي من فوقه سحاب، فإن الظلمة تصبح محيطة به بالرغم من النار التي توقد تحته، وهذا في ظننا ما كان فرعون قد طلبه من هامان، وهو أن يوقد له على الطين فيجعل له صرحاً:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
فكان صرح سليمان – في مخيلتنا- هو عبارة عن بناء عظيم بين السماء والأرض وقد أوقد تحته، يخطف أبصار الناظرين إليه (فَلَمَّا رَأَتْهُ) فلا يستطيعون إدراك حقيقته بمجرد رؤيته (حَسِبَتْهُ لُجَّةً)، وكان هذا في ظننا ما جعل المرأة تحسب أن الصرح الذي رأته بأم عينها هو لجّة، فقامت بفعل الكشف عن الساق لتسجد له (وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا)
(للتفصيل انظر الجزء السابق من هذه المقالة).
أما في هذا الجزء من المقالة فسنتابع الحديث عن القضية التي أشرنا إليها سابقاً وهي قضية الهداية (انظر الجزء التاسع من هذه المقالة) لنربط ذلك بكشف المرأة عن ساقيها، لنفتري الظن بأن كشف المرأة عن ساقيها كان سبباً رئيسياً في هدايتها. لأننا نظن أن كشف الساق في عملية السجود هو سبب جوهري للهداية، فالآيات الكريمة التالية تصور لنا أن الذين لم يكونوا على عادة الكشف عن الساق وهم سالمون في الدنيا لن يستطيعوا القيام بذلك عندما يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود في الآخرة، فلنتدبر السياق القرآني التالي من هذا الجانب:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) القلم
فالآيات الكريمة تؤكد استحالة الاستواء (أي التقابل التطابقي) بين المسلمين من جهة والمجرمين من جهة أخرى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)، ولا شك عندنا أن المسلم هو الذي لا يتخذ مع الله شريكا، ولكن المجرم هو من اتخذ مع الله شركاء (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)، وستكون تلك دعوة تحدي يوم القيامة لهؤلاء أن يثبتوا صدقهم، لأن في ذلك اليوم لن ينفع الناس الأموال والبنون التي كانت تنفعهم في الدنيا. فلنتدبر التقابل في الآيتين الكريمتين التاليتين:
... آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء (11)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
ولكن - لا شك- سينفعهم صدقهم:
قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ المائدة (119)
وفي تلك اللحظة سيتم الكشف عن الساق والدعوة للسجود:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
ولكن الذين لا يستطيعون السجود تبقى أبصارهم خاشعة (ناظرة إلى مكان السجود الذي انكشف لهم)، وترهقهم الذلة لعدم قدرتهم على النزول بالساق للسجود:
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
ويكون السبب هو عدم تلبيتهم دعوة السجود عندما كانوا سالمين.
نتيجة مفتراة خطيرة جداً: نحن نعتقد أن من كان ظنه على الدوام أن هناك إله يستحق أن تكشف عن ساقك لتسجد له، فإن ذلك سيكون سبباً كافياً له ليصل إلى طريق الهداية، ولكن الذي لم يكن يكشف عن ساقه لظننٍ عنده أنه لا يوجد هناك إله يستحق أن يكشف عن ساق ليسجد له، فلن يصل إلى الهداية أبدا.
والمهم في أمر من كان يكشف عن ساق ويظن أن هناك إله يستحق أن يسجد له (بغض النظر عن ماهية ذلك الإله) هو أن يكون صادقاً في فعلته تلك. فمن أسلم لربه وكشف عن ساقه ليسجد له صادقاً فإنه - في ظننا - لن يحرم القدرة على السجود يوم يكشف عن ساق، ويدعى إلى السجود. ولمن ما علاقة هذا كله بقصية هداية هذه المرأة التي جاءت سليمان؟
رأينا: لمّا كانت هذه المرأة تظن أن هناك رباً (بالرغم من امتلاكها لعرش عظيم وبالرغم من امتلاكها لقومها) يستحق أن تكشف عن ساقيها لتسجد له، لم تتردد أن تكشف عن ساقها لتسجد للصرح عندما رأته وحسبته لجة، ولم تتردد أن تكشف عن ساقيها لتسجد لرب سليمان عندما انكشف لها زيف تلك الآلهة الكثيرة من دون الله. فقبل أن تقدم إلى سليمان كان ظنها يتمثل في أن الشمس هي ذلك الرب الذي يستحق السجود له، فسجدت له صادقة في عبادتها. وعندما جاءت سليمان ورأت الصرح وظنت أن هذا أيضاً هو إله، كشفت عن ساقيها صادقة لتسجد لها، وعندما تبين لها أن هناك رباً أكبر من كل هذه الآلهة المزيفة، أسلمت مع سليمان له.
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن أن تلك المرأة كانت على الدوام باحثة عن ربها الحقيقي كما كان يفعل إبراهيم مثلاً عندما كان يقلب وجهه في السماء. فعندما رأى كوكباً ظن أنه ربه، وعندما رأى القمر ظن أنه ربه، وعندما رأى الشمس ظن أنها ربه، وعندما تبين له أن هذه جميعها ليست آلهة تستحق العباده، وجّه وجهه لله حنيفاً لا يشرك به شيئاً:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الأنعام (79)
نتيجة مهمة جداً: إن ما هو مطلوب من الإنسان أين ما تواجد على هذه المعمورة أن ينطلق بفطرته مخلصاً عبادته للرب الذي يظن أنه إله، ويبقى على الدوام باحثاً عن تلك الحقيقة، فلا يوقفه ممارسات من حوله عن تقبل الحقيقة أين ما وجدت.
ولو تدبرنا خطاب الهدهد لسليمان عن تلك المرأة لوجدنا أنه يلخص مشكلتهم الكبرى بسجودهم لرب غير الله:
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩ (26)
لذ، أظن أن هدف سليمان الرئيس من دعوة تلك المرأة للقدوم إليه مع قومها مسلمين هو "حنقه" و"غضبه" أن يسمع أنهم يقومون بفعل السجود لغير الله، فنحن نزعم الظن أن سليمان قد طلب أن تأتيه تلك المرأة وقومها مسلمين، ليعلّمهم أولاً وقبل كل قبل شيء أن السجود لا يكون إلا لله، وكان ذلك في ظننا هو السبب الذي من أجله أدخلها سليمان في اختبارات متتالية لينظر أتهتدي أم تكون من اللذين لا يهتدون.
فأنا لا أحمل العقيدة التي مفادها أن سليمان كان قد طلبها لما ورده عن جمالها ( باستثناء ساقيها اللذان كانا يكسوهما الهلب العظيم واللذان كانا يشبهان مؤخر أقدام الدابة كما تناقل بعض أهل الرواية عن أهل الدراية)، أو لأنه كان راغباً في الزواج منها، وذلك على الأقل لسببين:
1. أظن أن هدف سليمان كان أعظم بكثير من المصلحة الشخصية، فسليمان خرج بجنده من الجن والإنس والطير لينشر دين الله
2. كان عند سليمان ما يكفيه من النساء، فقد عرض على سليمان ما يكفيه من الصافنات الجياد (انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة)، وكان يستطيع الاختيار كما يشاء، والله قد منّ عليه بأن يمنن أو يمسك بغير حساب:
هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ص (39)
هذا من جانب سليمان، أما بالنسبة للمرأة نفسها فإننا نعتقد أن السبب الذي دعاها أن تسلم مع سليمان لله رب العالمين كان - في ظننا- هو صدق فعلتها، فهي كانت تسجد للشمس صادقة لأنها كانت فعلاً تعتقد أن هناك رباً يسحق أن يكشف عن الساق ليسجد له، وكانت تفعل ذلك مع الشمس ظانة بأن الشمس هو ذلك الإله المنشود، وما أن رأت الصرح وحسبته لجة حتى كشفت عن ساقيها لتهمّ بالسجود له ظانة أنه ذلك هو الإله المنشود، ولكن عندما نبّهها سليمان إلى أن مثل هذه الكينونات لا يمكن أن تكون آلهة تستحق أن يكشف عن الساق ليسجد لها، ما كان من المرأة إلا أن تعترف بالظلم الذي كانت ترتكبه بحق نفسها فتسلم صادقة لله رب العالمين.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن ما أقلق سليمان فعلاً هو خبر أن هذه المرأة وقومها كانوا يسجدون للشمس من دون الله كما نُقِل له الخبرُ على لسان الهدهد، فكانت ردة فعل سليمان الأولى على قول الهدهد التالي:
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ النمل (27)
وما لبث أن بعث بالهدهد (الذي جاءه بالنبأ) نفسه حاملاً كتابه إليهم بأن يأتوه مسلمين:
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) النمل
ولما كان ما افتتح سليمان به كتابه إلى هذه المرأة وقومها هو "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ"، جاءت المرأة إلى سليمان – لا شك عندنا- وهي تعلم أن لهذا الرجل (أي سليمان) إلهاً غير الإله الذي تعبده وقومها. ولما كانت دعوة سليمان تتلخص بأن يأتوه مسلمين (أي لا يسجدون لأحد دون الله) ربما ظنت المرأة أن ذلك الصرح الذي رأته وحسبته لجة هو إله سليمان، فكشفت على الفور عن ساقيها كردة فعلها الأولى لتسجد له، ولكن سليمان لم يعطها الفرصة لتقوم بفعل السجود لحظة أن راءها تكشفت عن ساقيها، فأخبرها بحقيقة ذلك الصرح بأنه مجرد صرح ممرد من قوارير.
إن ما يهمنا في هذا الطرح هنا هو التأكيد على الفكرة التي نحاول جاهدين إبرازها وهي أن المرأة كانت صادقة في بحثها عن رب لها لتكشف عن ساقيها وتسجد له، لذا لمّا أدركت أن إلهها (الشمس) الذي كانت تسجد له لا يستحق أن يكون إله يكشف عن الساق ليتم السجود له، ولما أدركت كذلك أن هناك إلهاً أعظم من كل هذه الكينونات الزائفة، لم تتردد أن تتقبل الأمر لتترك وراءها إرثاً كبيراً حملته زمناً طويلاً على أكتافها. فكانت بذلك من الذين يهتدون.
لاحظ - عزيزي القارئ- أننا نفتري الظن من وراء هذا الطرح أن المرأة لم تأت سليمان وهي تظن باستحالة أن يكون دين آباءها وأجدادها ديناً خاطئاً، أو أن عقيدتهم يستحيل أن يكون قد شابها التحريف، ولكننا نظن أنها وإن كانت صادقة في عبادتها، إلا إنها كانت دائمة التفكر فيها، فهي لم تكن عبارة عن شخص يقلد ما وجد عليه آباءه من دين وعقيدة. لأن من كان هذا ديدنه، ومن كانت هذه عقيدته، فهو ليس أكثر من مقلد متبع لا يمكن له أن يكون من المهتدين. فنحن لسنا من المدافعين عن العقيدة لا لشيء وإنما لأنها دين آبائنا وأجدادنا، بل نحن ممن لديهم القابلية على تقبل الحقيقة حيثما وجدت بغض النظر عن من يملكها، وإن كانت مخالفة لما ألفينا عليه آباءنا وأجدادنا.
لذا، فإننا ندعو الناس كافة إلى البحث عن دين الله بغض النظر عن العقيدة التي ورثوها عن آباءهم وأجدادهم، فليكن دافع الإنسان على الدوام هو البحث عن دين الله الحق، وليس فقط الإكثار من العبادة التي ألف عليها آباءه وأجداده لأنه بذلك لن يكون له الفضل في شيء. فأنت عندما تولد في قوم، فإنك – لا شك- تتبع عقيدتهم، والناس في القوم الواحد لا يختلفون في العقيدة بقدر ما يتفاوتون في كمية تطبيقهم لتلك العقيدة، فالمتدين في بلاد المسلمين مثلاً هو من يؤدي الشعار التي ألفها عن آباءه وأجداده بنسبة أكبر ممن يسمونه بغير المتديّن، ولكنهم جميعاً (المتدين وغير المتدين) في النهاية أصحاب عقيدة واحدة، وهكذا الحال بالنسبة لكل المجتمعات أصحاب العقائد المختلفة.
رأينا: إن الذي يشاء الهداية ليس من كان هدفه الإكثار من تطبيق العقيدة التي ورثها عن آباءه وأجداده، ولكن المهتدي – في رأينا- هو من كان لديه الاستعداد لتقبل الحقيقة مهما تعارضت مع الحالة التي اكتسبها بالوراثة، فهذا إبراهيم لم يتردد أن يتخلى عن ذلك الكوكب أو عن الشمس أو عن القمر عندما اكتشف أنهم لا يصلحوا أن يكونوا آلهة:
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
الأنعام
ولم يتردد أن يتخلى عن أبيه نفسه عندما تبين له أنه عدو لله:
... فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
وهذا موسى يصبح العدو الأول والأكبر لفرعون عندما علم أن فرعون عدو لله بالرغم أنه تربى في بيته، وهكذا هي سير الصالحين جميعاً. إنهم القوم الذين ثاروا على العقائد البالية عندما علموا أنها عقائد محرّفة ملوّثة بالخرافات والأساطير التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ونحن نظن أن تلك المرأة كانت من هذا النوع، الذي لا شك يبحث عن الهداية، وبكلمات أكثر دقة إنها كانت ممن "يشاءون الهداية"، وهذا ما نفتري الظن أنه من معاني عبارة "يَهْدِي مَن يَشَاءُ" التي ترد في سياقات قرآنية متنوعة:
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ البقرة 142
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ البقرة 213
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ البقرة 272
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ يونس 25
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إبراهيم 4
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ النحل 93
لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ النور 46
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ القصص 56
أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ فاطر 8
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ المدثر 31
نتيجة: نحن نعتقد جازمين أن الله ما كان ليمنع من شاء الهداية من الوصول إليها.
(دعاء: أسأل الله من له الأسماء الحسنى أن يهديني إلى دينه الحق، فإني أبرأ إلى الله من أن أكون متبعاً فقط لما ألفيت عليه آبائي)
مثال
سنحاول أن نقدم فيما تبقى من هذا الجزء من المقالة مثالاً من قصة سليمان نفسها لنبين من خلاله أن ما ألفينا عليه آباءنا من عقائد ربما لا تصح على الدوام، لذا نحن نؤمن بضرورة أن نراجع عقيدتنا في كل لحظة لنتحقق من صحة ما نقوم به من شعائر وعبادات، ولنتأكد أنها صحيحة لم يعتريها التحريف من قبل من جعلوا الدين سلعة تباع وتشترى، ولنتأكد بأن العقيدة لم تكتنفها الأساطير والأكاذيب مهما كان مصدرها، لنبقى نعبد ربنا بالطريقة التي يرضاها لنكون من المخلصين من عباده. والمثال الذي نقدمه هنا هو ما جاء في كتاب الله عن قصة سليمان نفسه في الآية الكريمة التالية:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ سبأ (12)
لنطرح السؤال التالي: كيف كانت تجري الريح لسليمان غدوها شهر و رواحها شهر؟
فما هي المسافة التي ربما تقطعها الريح في مسيرة شهر ذهاباً وشهر آخر إياباً خصوصاً إذا ما حاولنا أن نربط ذلك بما جاء عن قصة ريح سليمان نفسها في الآية الكريمة التالية؟
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
فنحن نزعم الفهم أن غاية الريح كانت الأرض التي باركنا فيها كما يتضح عندنا من منطوق الآية الصريح (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)، فهل يا ترى تحتاج الريح لشهر من الزمن لتصل إلى ذلك المكان ولتعود منه في شهر آخر؟ وأين هو أصلاً موطن سليمان الذي كانت الريح تنطلق منه؟
منطقنا المحرّف
إذا كانت الريح تجري عاصفة بأمر سليمان إلى الأرض التي باركنا فيها (أي الأرض المقدسة)،
- فهل تحتاج تلك المسافة المقطوعة من الريح مسيرة شهر من الزمن ذهاباً والعودة من هناك في شهر آخر؟
- ثم، ما هي سرعة تلك الريح التي يمكن أن تبقى شهراً كاملاً لتصل إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين؟
- وأين كان موطن سليمان إذن؟ ألم يكن يسكن الأرض المقدسة أصلاً؟
- أليست الأرض التي باركنا فيها للعالمين هي الأرض التي نجّى الله إبراهيم ولوطاً إليها:
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
- هل تحتاج الريح لشهر من الزمن لتصل تلك الأرض ولتعود منها في شهر آخر؟
- وما معنى مفردة الريح أصلاً؟
- وما الفرق بين مفردة الريح التي ترد في بعض السياقات القرآنية ومفردة الرياح التي ترد في سياقات قرآنية أخرى؟
- وكيف تجمع مفردة الريح؟ هل تجمع على ريح نفسها أم على رياح؟
- وما الفرق؟
- الخ.
رأينا: نحن نظن أن ما جاء في أمهات كتب التفسير حول ما تثيره هذه التساؤلات هو برأينا أبعد ما يكون عن الحقيقة، فالريح التي تسير مسافة شهر ذهاباً وآخر إياباً ربما تلف الكرة الأرضية بأكملها وليس فقط إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، الأمر الذي دفعنا إلى الاعتقاد بضرورة النبش من جديد في هذه القضية، لنخرج بافتراءات من عند أنفسنا (نحن) نظن أنها غير مسبوقة، ولكن قبل طرحها نجد لزاماً تنبيه من ظن بأن عقيدة آباءه وأجداده يستحيل أن يأتيها الباطل وهي صحيحة على إطلاقها بأن متابعة القراءة بعد هذا الفقرة فيه خطر شديد، لربما يفضي إلى ما قد لا يحمد عقباه، لذا ننصحه بداية أن يطرح هذا الملف بأكمله في سلة المهملات recycle bin على جهازه، ولا يكلف نفسه عناء المشقّة، ليبقى ينام قرير العين، مرتاحاً لعقيدة ورثها عن آباءه قروناً من الزمن، ستنتهي به في نهاية المطاف – حسب ظنه- في جنات الخلود بغض النظر عن كل أفعاله وتصرفاته.
أما من كان يظن بأنه لازال هناك مجال للاجتهاد، وأنه من الاستحالة بمكان أن يكون جيل من البشر قد أحاط بكل ما في كتاب الله، وأن هذا الكتاب العظيم فيه من العلم ما يعجز البشرية بأكملها حتى ولو اجتمعت عليه، فهو مدعو لمتابعة القراءة، كما نرجوه أن لا يبخل علينا بطرح التساؤلات التي ربما لا يجيب عليها (عن قصد أو عن غير قصد) طرحنا هذا، لأن عقيدتنا تتلخص بأن الطرح السليم هو الذي يجيب على كل التساؤلات. كما يجب علينا لفت الانتباه إلى أننا نطلب النصيحة لأننا نعتقد جازمين أننا سنتجرأ على افتراءات كبيرة (وكبيرة جداً) ربما تمس جوهر الشعائر الدينية التي نقوم بها.
(والله أسأل أن يأذن لنا بشيء من علمه لا ينبغي لغيرنا، إنه هو السميع المجيب، وأسأله بأسمائه الحسنى كلها أن يعلمنا من لدنه علماً فلا نفتري عليه الكذب وأن يعلمنا فلا نقول عليه إلا الحق، إنه هو السميع المجيب).
أما بعد
المفردات قيد البحث
الريح
جاء الحديث عن الريح التي سخرها الله لسليمان في السياقات القرآنية التالية:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ الأنبياء (81)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ سبأ 12
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ص 36
فوردت جميعها بلفظة "الريح"، ولم تأت بلفظة الرياح مثلاً بالرغم من وصول الخبر إلينا بأن المفردتين (الريح والرياح) تشيران في معظم أقوال أهل الدراية إلى الكينونة نفسها، الأمر الذي دفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما الفرق بين مفردة "الريح" ومفردة "الرياح" كما تصورها السياقات القرآنية نفسها؟
رأينا: عندما كنّا نطرح مثل هذا السؤال على طلبة الدراسات العليا في مساقات تحليل الخطاب، كان الكثيرون يسارعون بالجواب الذي نقله أهل الرواية عن بعض أهل الدراية، والذي مفاده (كما قاله أحدهم) أن مفردة الريح تدل على الشدة بينما تدل مفردة الرياح على الرخاء. لكن الذي كان يثير الاستهجان لديّ على الدوام هو أن طلاب العلم كانوا ينقلون مثل هذه الآراء ويكأنها قطعيّة، يصعب المجادلة فيها، فهم يظنون أنه مادام أن شيخهم قد قالها فلابد أن كلامه صحيحاً (Napoleon is always right). فلو شاع ما قاله رشيد الجراح عن الفرق بين العام والسنة في مقالة "كم لبث نوح في قومه؟" مثلاً، لأصبح رأيه – عند من يظنون أن رأي الرجل صحيحاً- ويكأنه كلام لا يأتيه الباطل، ولما اشتغل في القضية أهل العلم أكثر مما فعل هذا المخرّص (أعني رشيد الجراح)، ولأصبحوا مرددين لذاك القول على علاته دون مزيداً من التهذيب بعرضه على علم الكتاب. أما أنا (رشيد الجراح نفسه) فما انفككت يوماً عن الظن اليقيني بأن هذا من البلاء الذي أوقع الأمة في ركود فكري قروناً طويلة من الزمن.
إن ما يهمني قوله هنا هو أنه مهما عظم رأي الشخص فهو في نهاية المطاف رأي لا يخرج عن مجال احتمالية ورود الخطأ فيه أو (على الأقل) أن يبقى قولاً يعتريه النقص، لذا لابد للأمة أن تبقي طلاب العلم منشغلين على الدوام بالقضايا كلها حتى تلك التي يظنون أنها لا شك صحيحة، فأنت لا تدري من يأذن الله له بشيء من علمه ربما يغير ما ساد من فكر قروناً من الزمن، وسنطرح في هذه الجزئية كيف يمكننا أن نلقي بظلال الشك على ما شاع بين الناس قروناً من الزمن حول الفرق بين مفردتي الريح من جهة والرياح من جهة أخرى.
أما بعد،
الرأي السائد: قال فقيههم أن مفردة الرياح تدل على الخير بينما تدل مفردة الريح على الشدة والصعوبة وربما العذاب، وقد استنبطوا ذلك من قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الأعراف 57
مقابل ما جاء في قوله تعالى:
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الأحقاف 24
تفنيد هذا الرأي: ربما نستطيع بحول الله وتوفيقه أن نلقي بظلال الشك على هذا الرأي السائد بكل يسر وسهوله عندما نطرح طرح التساؤل التالي: إذا كان شيخهم قد ظن أن الريح (مثلاً) تعني الشدة كما ترد في السياقات القرآنية العديدة التالية:
مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ آل عمران 117
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ الأنفال 46
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يونس 22
مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ إبراهيم 18
أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ۙ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا الإسراء 69
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ الحج 31
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ الروم 51
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا الأحزاب 9
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ فصلت 16
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الأحقاف 24
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الذاريات 41
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ القمر 19
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ الحاقة 6
ألم يتنبّه شيخهم إلى ما جاء في قوله تعالى عن مفردة الريح نفسها في الآية الكريمة التالية:
إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ الشورى 33
ألم ينتبه شيخهم إلى الآية الكريمة التالية التي تصف الريح أحياناً بالشدة وأحياناً أخرى بالطيبة:
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يونس (22)
وإذا كان شيخهم ربما غفل (عن قصد أو عن غير قصد) عن هذه السياقات القرآنية الذي قد لا يظهر فيها الشدة والعذاب جليّا، ألم يفطن أهل الرواية من بعده إلى ما جاء في كتاب الله عن ريح يوسف التي جاءت يعقوب؟
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ يوسف 94
السؤال: هل كانت ريح يوسف – يا سادة- التي شعر بها يعقوب لحظة أن فصلت العير تحمل في معانيها العقاب والعذاب؟ هل وقع على يعقوب (أو ربما على قومه) العذاب بسبب ريح يوسف؟ فأين يا ترى معنى العذاب أو العقوبة في "رِيحَ يُوسُفَ"؟
رأينا: كلا وألف كلا، فريح يوسف هي ريح فيها الخير والبركة، فهي التي حملت البشرى ليعقوب بانتهاء سنين حزنه "وعذابه" على فراق ولده. فمفردة الريح هنا – على عكس ما قاله شيخهم تماماً- تدل على وجود الرحمة والخير والبركة. والقرآن نفسه يبين لنا بما لا يدع مجالاً للتأويل بأن هناك ريح طيبة وهناك ريح عاصفة (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ). إذن لابد – نحن نستطرد القول- من إعادة النظر في الملف بأكمله من جديد، لأنه من الاستحالة بمكان أن يصمد رأي شيخهم ذاك أمام الآية الكريمة التي تتحدث عن رِيحَ يُوسُفَ وأمام الآية التي تصف الريح بالطيبة.
هذا ما يخص مفردة الريح، فماذا عن الرياح التي ظن شيخهم أنها تحمل في ثناياها الخير والبشرى على الدوام؟ فهل تعني مفردة الرياح وجود الرحمة على الدوام كما تصور ذلك الآيات القرآنية التالية؟
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقرة 164
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الأعراف 57
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ الحجر 22
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا الفرقان 48
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ النمل 63
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الروم 46
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الروم 48
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ فاطر 9
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الجاثية 5
تفنيد الرأي السائد: يمكننا أيضاً إلقاء ظلال الشك على قول شيخهم ذاك بكل يسر وسهوله بحول الله وتوفيقه بعرض السياق القرآني التالي على الناس لنترك لهم الفصل في القول:
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الكهف 45
فهل يا ترى يمكن أن يصمد رأي شيخهم ذاك أمام الحقيقة الساطعة التي تصورها هذه الآية الكريمة؟
رأينا: كلا وألف كلا. إذن لابد – نحن نستطرد القول- من فتح الملف بأكمله مرة أخرى، لأنه من الاستحالة بمكان أن يصمد رأي شيخهم ذاك أمام هذه الآية الكريمة.
افتراء من عند أنفسنا: يبدو لنا أن شيخهم قد حسم الفرق بين مفردة الريح والرياح بناء على النتيجة التي تنبعث عن كل واحدة منها، فلقد ظن أن نتيجة أحدهما العذاب "الريح" بينما نتيجة الأخرى الرحمة (الرياح)، أما نحن، فنعتقد جازمين أن الفرق بين الريح من جهة والرياح من جهة أخرى لا علاقة له بالنتيجة (كما ظن شيخهم) لأننا نظن أن هناك سياقات قرآنية تدل على أن نتيجة الريح هي العذاب، ولكن – بالمقابل- هناك سياقات قرآنية واضحة تماماً كـ (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) و كـ (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) تدل على أن نتيجة الريح نفسها هي الرحمة وليس العقاب أو العذاب (على عكس ما ظن أهل الدراية ونقل عنهم أهل الرواية). والعكس صحيح بالنسبة لمفردة الرياح، فهناك سياقات قرآنية كثيرة تدل على أنها تحمل في ثناياها الخير بالبشرى بالمطر، ولكن هناك – بالمقابل - سياق قرآني واحد على الأقل يدل على أنها جاءت في سياق حصول العذاب (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) . فما الفرق بين الريح والرياح إذاً؟
الرأي الجديد الذي نطرحه
افتراء من عند أنفسنا: نحن نعتقد جازمين أن الفرق بين الريح من جهة والرياح من جهة أخرى يعود إلى الأصل وليس إلى النتيجة. ولكن كيف؟
أولاً، لنتدبر السياق القرآني التالي:
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الأحقاف 24
لو أمعنا التفكر في هذا السياق القرآني ربما لا نختلف كثيراً في أن هذا السياق القرآني يصور لنا الفرق بين ظن القوم الذين سيقع عليهم العذاب من جهة وحقيقة ذلك الشيء الذي يرونه بأم أعينهم من جهة أخرى، أليس كذلك؟ فالقوم قد ظنوا أنه عارض ممطرهم فقط (قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا)، ولكن تبين لهم فيما بعد أنها ريح فيها عذاب أليم (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ).
نتيجة1: هناك تعارض بين ما ظنه القوم وحقيقة الشيء الذي يرونه بأم أعينهم.
ولو تدبرنا طبيعة ردهم أكثر، لربما حق لنا أن نظن أن العارض الممطرهم (الذي ظنوه) هو ما يشبه الرياح وليس الريح، فمعظم سياقات القرآن الكريم التي وردت فيها مفردة "الرياح" تصورها على أنها تحمل في ثناياها بشرى المطر، ولكن الدقة تستدعي القول أنهم لم يذكروا أنها رياح بصريح اللفظ، ولكنهم ذكروا أنها "عارض ممطرهم"، لنستنتج مفترين القول أنهم لم يكونوا جازمين أمرهم أنها رياح ولكنها – حسب ظنهم- حاملة لهم البشرى بالمطر بكل تأكيد:
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الأعراف 57
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ الحجر 22
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا الفرقان 48
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ النمل 63
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الروم 46
فهذا هو ظنهم: إنه عارض ممطرهم، ولو كانت مفردة الرياح تعني البشرى بالمطر لربما نعت القوم ذلك الشيء القادم إليهم بأنها رياح بصريح اللفظ.
لكن في المقابل يكذّب الله ظنهم ذاك، ليصحح المعلومة المغلوطة عندهم بقوله تعالى (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، لنجد أنه في حين أن ظنهم كان أن ذلك الشيء الذي يرونه بأم أعينهم هو عارض ممطرهم (أي ما يشبه الرياح التي تحمل في ثناياها بشرى المطر) تبين لهم فيما بعد الحقيقة التي يثبتها الله وهي أن ذلك الشيء هو في حقيقته ريح (رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، فالتقابل هو بين ما يشبه الرياح (كما يظنون هم) والريح (كما هي فعلاً)، أليس كذلك؟
ثانياً، نحن نظن كذلك أنه لو صح قول شيخهم أن مفردة الريح تحمل في ثناياها معنى العذاب، لما كان هناك حاجة لتكملة الآية الكريمة على نحو " فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ"، دقق عزيزي القارئ في الآية الكريمة نفسها مرة أخرى:
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الأحقاف 24
لنطرح السؤال التالي: إذا كانت مفردة الريح تحمل في ثناياها العذاب، فما الحاجة إلى القول أنها ريح فيها عذاب أليم؟ ألا يكفي القول بأنها ريح وكفى؟ ألا يجب أن نستنبط معنى العذاب من مفردة الريح نفسها؟ فما الداعي (إن صح قولهم) إلى هذا الاستطراد الذي ربما لا يكون ضرورياً؟
رأينا: كلا وألف كلا. ذلك لا يصح، لأن الاستنباط الصحيح في رأينا كان يجب أن يكون على النحو التالي:
مادام أن هذه ريح فيها عذاب أليم (رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، فلابد إذن من وجود ريح من نوع آخر قد لا يكون فيها عذاب أليم. فأين يا ترى يمكن أن نجد مثل هذه الريح؟
جواب: أولاً، نحن نظن أنها موجودة في الآية الكريمة التالية،
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يونس (22)
فانظر عزيزي القارئ إلى التقابل بين نوعين من الريح (1) الريح العاصف التي تحمل معها العذاب و(2) الريح الطيب التي لا تجيء إلا بالخير.
ثانياً، ونحن على يقين أنه لم يكن هناك ريح أطيب ولا أزكى من رِيحَ يُوسُفَ. فالدليل الذي نظن أنه قاطعاً على أن مفردة الريح –كما نزعم- قد لا تحمل معنى العذاب (كما زعموا) فتأتي من الآية الكريمة التي تتحدث رِيحَ يُوسُفَ، فعلى الرغم من أنها لم تكن تحمل العذاب (بل البشرى بالخير والبركة) إلا أنها ريح. فريح يوسف كانت ريح طيبة بكل ما في العبارة من معنى. والحالة كذلك، ألا يحق لنا إذن أن نطرح السؤال التالي: لماذا كانت إذاً رِيحَ يُوسُفَ ولم تكن رياح يوسف مثلاً؟ فإذا كانت الرياح هي التي تحمل الخير وإذا كانت الريح هي التي تحمل العذاب كما يصورها لهم محدثهم، ألم يكن الأجدر أن تأتي البشرى بخبر يوسف تحمله الرياح وليس الريح؟
رأينا: كلا وألف كلا. إننا نؤمن إيماناً مطلقا أنها رِيحَ يُوسُفَ (كما ترد في كتاب الله) وأنها قد جلبت الخير ليعقوب (فارتد عليه بصره) ولقومه جميعاً، فلقد انقضى حزن يعقوب مع تلك الريح، وربما ما عاد يعقوب في ضلاله[1] القديم كما يصور حاله من كان متواجداً حوله في تلك اللحظة:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
السؤال: كيف يمكن إذن أن نفهم معنى مفردة الريح في هذا السياق القرآني؟ وكيف يمكن أن نربطها مع مفردة الريح نفسها التي وردت في قصة عذاب القوم التي تصورها الآية التي تعرضنا لها سابقاً:
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الأحقاف 24
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن مفتاح الفهم هو ما وضعنا تحته خطاً في السياقات التي تتحدث عن يوسف وهو "لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ" و "إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ"، فالسياقات القرآنية تثبت أن من كان حول يعقوب حينئذ لم يكن يدرك حقيقة تلك الريح، ولكن الشخص الوحيد الذي عرف حقيقتها هو يعقوب نفسه. فالذين كانوا حينئذ حول يعقوب كانوا بلا شك خاطئين بدليل أنهم هم أنفسهم قد اعترفوا بخطئهم ذاك عندما قالوا "إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ"، أليس كذلك؟
والآن لنربط السياقين القرآنيين معاً من هذا المنظور الذي نظن (ولا نجزم) أنه صحيحاً: هناك شيء قادم من بعيد، قد لا يدركه البعض أصلاً كما هي حال من كان حول يعقوب، وقد يخطئ البعض في فهم ماهيته إن هم رأوه (كحالة القوم الذين ظنوا أنه عارض ممطرهم)، فيظنون (ربما من شكله الخارجي الذي يرونه بأم أعينهم) أنه شيء ما، ليتبين فيما بعد أنه ليس ذلك تماماً، وأنهم بلا شك مخطئون في ظنهم، فلقد ظن أهل القرية الذين استقبلهم العذاب أن ذلك عارض ممطرهم، وتبين بعد ذلك أنها ريح عقيم تدمر كل شيء بأمر ربها. وظن من كان حول يعقوب أن الرجل لازال في ضلاله القديم فلم يدركوا كنه ذلك الشيء القادم إليهم من بعيد، وتبين لهم بعد ذلك أنها ريح طيبة قد جلبت لهم البشرى بنجاة يوسف وانتهاء سنين حزن يعقوب على ضياع ولده.
النتيجة: نحن نعتقد جازمين أن مفردة الريح تشير إلى تلك الكينونة التي يصعب التنبؤ بها من ظاهرها، لأن حقيقتها على غير ما يمكن أن يبين لنا ظاهرها. إنها تحتوي على عنصر المفاجأة بغض النظر عن النتيجة سواء كان ذلك عذاباً (كما كان في حالة عذاب القوم) أو رحمة (كما كان في حالة ريح يوسف). فالريح هي تلك العاصفة التي لا نستطيع أن نفهم كنهها من ظاهرها. فأنت قد تظن أنها شيئاً ما، ويتبين لك فيما بعد أنها شيء آخر. لذا لابد من علم يأذن الله لك به لتعلم كنهنا، كما كان الحال بالنسبة ليعقوب، فهو على علم لم يحط به من كان حوله:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
فهذا يعقوب نفسه يؤكد لم حوله أنه يعلم من الله ما لا يعلمون، لأنهم ببساطة لم ولن يستطيعوا أن يدركوا كنه تلك الريح القادمة إليهم بالبشرى.
(دعاء: أسأل الله أن أعلم منه ما لا تعلمون)
وكـ أخ عاد نبي القوم الذي حذرهم من الأحقاف:
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
ولو تدبّرنا تتمة السياق القرآني لوجدنا أن الله يبيّن لنا أن سمع القوم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغني عنهم شيئاً، لأنها ببساطة لم تساعدهم في فهم كنه ذاك الزائر القادم إليهم من بعيد ويحمل في ثناياه العذاب الأليم.
(دعاء: اللهم رب أسألك أن لا تجعلني ممن لا يغني عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء)
نتيجة مفتراة: الريح هي تلك العاصفة التي تأتي على الدوام بشيء مفاجئ، لذا نحن نفتري الظن أنها (أي الريح) غير مفهومة عند الذين يعقلون لأن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم قد لا تغني عنهم شيئا، ولكنها تحتاج إلى الذين يعلمون لكي يدركوا ماهيتها (وسنحاول - إن أذن الله لنا بشيء من علمه- أن نستجلي الفرق بين الذين يعقلون من جهة و الذين يعلمون من جهة أخرى)
أما الرياح – بالمقابل- فإننا نعتقد أنها هي التي نعرفها من ظاهرها، والتي لا تحمل عنصر المفاجأة إطلاقاً:
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الأعراف 57
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ الحجر 22
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا الفرقان 48
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ النمل 63
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الروم 46
ولو تدبرنا بعض سياقاتها القرآنية لوجدنا القرآن الكريم يصورها على أنها آية للقوم الذين يعقلون، أي يستطيعون أن يخضعوها للتعقل (أي الدراسة):
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقرة 164
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الجاثية 5
ولو دققنا في سياقاتها أكثر لوجدنا أن الرياح تثير سحاباً (وهو ما لم يذكر إطلاقاً في حالة الريح):
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الروم 48
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ فاطر 9
ولا شك عندنا أن الرياح تصرّف، فهناك تصريف للرياح:
وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقرة 164
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الجاثية 5
عودة على بدء: ريح سليمان
نخلص من النقاش السابق إلى الظن بأنه لمّا كان ما سخره الله لسليمان هي ريح وليست رياح، لذا فهي لا تحمل في ثناياها العذاب، ولكنّها كانت ببساطة من نوع خاص لا يستطيع أن يفهم كنهها إلا من أوتي العلم كـ سليمان نفسه، لذا نحن نفهم أن تلك الريح جاءت خاصة بسليمان فقط كما تصور ذلك الآيات الكريمة التالية:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ الأنبياء (81)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ سبأ 12
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ص 36
فجميع السياقات القرآنية التي تتحدث عن ريح سليمان تصورها لنا بأنها ريح خاصة بسليمان نفسه، لذا لا يستطيع الآخرون أن يتنبأوا بها أو أن يفهموا كنهها، وذلك لأن قوانينها لا تخض للتعقل (أي للذين يعقلون) وإنما للعلم (للذين يعلمون)، ونحن لا نشك قيد أنملة أن سليمان كان من الذين يعلمون:
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) الأنبياء
ولكن الذي يلفت الانتباه في قضية "ريح سليمان" هي الحقيقة القرآنية على أن تلك الريح كانت عاصفة:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
الأنبياء (81)
فكيف إذن كانت؟ وما معنى أن تكون تلك الريح عاصفة؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن مفردة "عاصفة" جاءت هنا لتصور لنا سرعة تلك الريح، ولكن كيف؟
جواب: لو تدبرنا السياق القرآني التالي لوجدنا أن الريح العاصف هي النقيض من الريح الطيبة؟
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ[2] وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يونس (22)
ففي حين أن الريح الطيبة هي الريح التي يشتهيها من كان يركب الفلك في البحر، فإن الريح العاصف هي التي لا يتمناها من كانت تلك حالته، وذلك لأن الريح العاصف تكون بلا شك سريعة جداً لدرجة أنها قد تغرق الفلك التي يركبونها.
نتيجة: الريح العاصف هي الريح السريعة جداً، وليس أدل على ذلك مما جاء في الآية الكريمة التالية:
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ إبراهيم (18)
افتراء من عند أنفسنا: لذا نحن نفتري الظن بأن ريح سليمان كانت ريح سريعة جداً لأنها كانت عاصفة، ولكن مع ذلك فهي كانت تجري بأمره رخاء:
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ص 36
لذا كانت حركتها مقيدة بأمر من سليمان، فهو يستطيع أن يتحكم بسرعتها لدرجة أن يجعلها تسير به بسرعة شديدة (عاصفة) ويستطيع كذلك أن يبطئ حركتها لأنها كانت تجري بأمره رخاء، وهو يستطيع أن يوقفها حيثما أراد لأنها كانت تجري بأمره رخاء حيث أصاب. فما معنى "حيث أصاب"؟
جواب: نحن نظن أن العبارة تدل على مقصد الرحلة (destination)، أنظر السياقات القرآنية التي تصور لنا المكان (أو القوم) الذي انتهت إليه تلك الريح أو الرياح:
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ آل عمران (117)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الروم (48)
فنحن نظن أن عبارة حيث أصاب تشير إلى المكان الذي كان يريد أن يصل إليه، أي مقصد الرحلة.
إن ما يهمنا أن نثيره هنا هو الإشارة إلى أن سرعة ريح سليمان كانت كبيرة جداً لأنها كانت عاصفة، وهذا يعيدنا على الفور إلى السؤال الرئيس الذي بدأنا به وهو: لماذا كانت ريح سليمان تجري به مسيرة شهر ذهاباً وآخر إيابا؟ وما هي المسافة التي يمكن أن تقطعها ريح سريعة كهذه في فترة شهر كامل ذهاباً وآخر إياباً؟
لقد دعانا هذا السؤال إلى إعادة النظر في مفردة شهر التي ترد في هذا السياق القرآني، لنضعها قيد البحث والتنقيب في القرآن كله:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ سبأ (12)
ولكن قبل الانتقال إلى البحث في مفردة الشهر فإننا نلخّص عرضنا السابق حول مفردتي الريح والرياح بالنتيجة المفتراة التالية:
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: الفرق بين الرياح و الريح
الرياح: كلمة تدل على جمع، ليس لها مفرد، تأتي بما هو مألوف ولا تحتوي على عنصر المفاجأة، يمكن إخضاعها للتعقل، لذا فهي آيات للذين يعقلون. |
الريح: كلمة تدل على المفرد والجمع معاً (فهي تفرد على ريح وتجمع أيضاً على ريح)، تأتي بما هو ليس مألوفا وتحتوي على عنصر المفاجأة، لا يمكن إخضاعها للتعقل ولكنها بحاجة إلى العلم، لذا فهي آية للذين يعلمون |
وللحديث بقية...
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
4 كانون ثاني 2013
[1] أرجو أن لا تقتبس هذه العبارة خارج سياقها لأننا سنحاول أن نبين في مقالات منفصلة بحول الله وتوفيقه بالتفصيل كيف كان يعقوب فعلاً في ضلاله القديم، فالله أسأل أن يأذن لنا بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيرنا إنه هو السميع المجيب.
[2] لاحظ التقابل بين ريح سليمان التي كانت عاصفة وهذه الريح التي هي عاصف (وليست عاصفة)، ربما لنستنتج أن مفردة "ريح" يمكن أن تستخدم لمفرد في حالة سليمان (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً) ويمكن أن نستخدمها كجمع (رِيحٌ عَاصِفٌ). ولو دققنا النظر في السياقات القرآنية التي تتحدث عن الرياح بالمقابل لربما وجدنا أن كلمة رياح تأتي بصيغة الجمع على الدوام