لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه 10؟
هذه هي المقالة العاشرة في سلسلة مقالاتنا تحت عنوان "لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟،
وقد حطّ بنا قطار الحديث (train of thought) في الجزء السابق عند محطة الإسراء، فزعمنا الظن أننا قد قدّمنا الدليل من كتاب الله على رد ظن أهل العلم بحصول معراج للنبي محمد إلى السموات العلى في تلك الليلة الكريمة، فظننا أننا قد وجدنا في كتاب الله ما يثبت أنّ الذي حصل في تلك الليلة المباركة هو نزول الذات الإلهية وليس عروج النبي محمد إلى السموات العلى، وقرءنا ذلك في قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13)
فزعمنا بعد محاولتنا تدبر ماهية الضمائر في آيات سورة النجم أن الاقتراب الذي حصل كان من الذات الإلهية باتجاه نبيه (نزولاً) وليس العكس (عروجاً أو رفعاً)[1] كما ظن معظم أهل العلم والدراية، وفهمنا ذلك من قوله تعالى:
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8)
وقد حاولنا تبيان أن الهدف من تلك الرحلة كان ليري الله نبيه الكريم من آيات ربه الكبرى، فقرءنا ذلك في آية من آيات سورة النجم:
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)
التي ربطناها بما جاء في آية الإسراء التي تحدثت بصريح اللفظ عن تلك الحادثة:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
وسنتابع الحديث في هذا الجزء العاشر من المقالة عن تلك الحادثة، علّنا نستطيع - بحول الله - أن نسلط الضوء في نهاية المطاف على السبب الذي من أجله قلّب محمد وجهه في السماء باحثاً عن قبلة غير التي كان عليها قسطاً من الزمن:
قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ ...
حتى استجاب الله له طلبه، فولّاه القبلة التي يرضاها محمد بنفسه:
... فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
أما بعد،
لنبدأ النقاش بما انتهينا به في المقالة السابقة وهو السؤال التالي: ماذا كانت آيات ربه التي رءاها محمد في رحلته تلك؟
الجواب: لقد زعمنا أن تلك الآيات كانت بعضاً من آيات ربه الكبرى، لذا نعيد صياغة السؤال نفسه ليصبح: ماذا كانت تلك الآيات الكبرى التي من أجلها جيئ بالنبي إلى بيت المقدس في تلك الليلة؟
افتراء من عند أنفسنا: حاولنا البحث على عجل في كتاب الله عن رؤية الآيات الكبرى فما وجدناها تحصل لبشر إلا لمحمد في حادثة الإسراء (حسب زعمنا) كما يمكن أن يستنبط من الآية الكريمة التالية:
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ النجم (18)
ولموسى عندما وجد هدى ربه في الواد المقدس:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) طه 17-23
وقد دفعتنا هذه المشاهدة إلى تقديم افتراء آخر من عند أنفسنا يتمثل بما يلي: إننا نظن أن الذي حصل مع محمد في تلك الليلة كان بالضبط كالذي حصل لموسى في ذلك الواد المقدس: إنها ملاقاة نبي كريم ربه في نفس المكان، ولنفس السبب.
نعم، هذا ما نريد أن نفتري في هذه المحطة من الحديث: تعيدنا حادثة الإسراء إلى قصة الميعاد الذي ضربه الله لموسى، فلنحاول النبش في الحادثتين علّنا نستطيع –إن أذن الله لنا بشيء من علمه- أن نؤسس لرابط بينهما.
أولاً، هناك في ذاك الواد حصل لقاء موسى مع ربه، فكان الهدف من مجيء موسى إلى ذلك المكان هو أن يريه الله من آياته الكبرى:
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى طه (23)
وهو بالضبط ما وجدناه في قصة الإسراء بالنبي محمد كما ترد في سورة النجم في قول الحق:
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ النجم (18)
ثانياً، ربما من المعروف عند الجميع أن ملاقاة موسى ربه قد تكررت إلى ذلك المكان أكثر من مرة، فتمت في المرة الأولى عندما كان قافلاً العودة إلى مصر من أرض مدين:
فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) القصص
وتكرر اللقاء عندما ضرب الله لموسى موعداً:
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ البقرة (51)
وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الأعراف (142)
ونحن نظن أنّ لقاء محمد ربه قد تكرر مرة أخرى، ونزعم أن الآية الكريمة التالية ربما تشير إلى ذلك:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13)
لكن المفارقة العجيبة بين حالة موسى وحالة محمد ربما تكمن في أن موسى تجرأ وطلب الرؤيا المباشرة للذات الإلهية في ذلك الموقف:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ الأعراف (143)
بينما لم يطلب محمد رؤية (البصرية) الذات الإلهية[2]، ونحن نظن أن السبب ربما يكمن في أنّ محمد لم ينسى ما حصل مع موسى عندما طلب رؤية ربه، فهو يعلم استحالة الرؤيا البصرية المباشرة للذات الإلهية من حادثة موسى تلك، ولو استطاع موسى تحمل رؤية الجبل عندما تجلى الله له، ولو تمت الرؤيا المباشرة للذات الإلهية عندما طلبها موسى، لما تردد محمد – في رأينا- عن طلب رؤية الذات الإلهية في تلك الليلة.
ثالثاً، نحن نعلم كذلك أن الله قد من على موسى بالعلم عندما وجده في ذلك المكان:
قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) الأعراف
وبالمنطق نفسه، ربما يمكننا الزعم أن النبي محمد قد عاد من تلك الليلة محملاً بالعلم أيضاً:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ النجم (5)
(وسنتعرض بعد قليل للفرق بين العلم الذي عاد به موسى محمولاً في يديه والعلم الذي عاد به محمد يحمله في صدره)
نتيجة: لقد تحصل لمحمد ما كان قد تحصل لأخيه موسى في ذلك الواد وهو ملاقاة ربه، فعاد محمد محملاً بعلم كما كان موسى قد عاد من هناك بعلم من ربه.
أما الآن فلنحاول التركيز على الرحلة نفسها بالعودة إلى تفاصيل الحادثة محاولين إثارة أوجه التشابه في الرحلتين: رحلة موسى لملاقاة ربه ورحلة محمد لملاقاة ربه، ولنبدأ بالتساؤل التالي: لماذا بدأت سورة النجم على وجه الخصوص بقوله تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1)
وربما يكون السؤال أكثر دقة إن نحن طرحناه على النحو التالي: لماذا هوى النجم هنا على وجه التحديد؟ وما هو النجم الذي هوى؟
محاولة للإجابة: غالباً ما أخذ أهل العلم هذه الآية على الإجمال، فظنوا أن مفردة النجم هنا تعني النجم بشكل عام (أيْ أيُ نجم)، لكننا لا نرى بداً من مخالفتهم الرأي لنزعم أن النجم هنا هو نجم واحد مقصود بذاته. ولكن كيف؟
افتراء خطير جداً: نحن نزعم الظن أن هناك نجما محددا إذا هوى كان دليلاً على نزول الذات الإلهية بالضبط كما حدث في تلك الليلة
الدليل
إن الذي دفعنا إلى تقديم هذا الافتراء الخطير جداً (لما سيترتب عليه لاحقاً من تبعات جمة) هو ما ظننا بأن الدليل عليه موجود في كتاب الله متى أشغلنا التفكير للتفريق بين مفردة النجم ومفردة النجوم، فقد تحدث الله في أكثر من موطن من كتابه الكريم عن النجوم (جمع مفردة نجم):
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الأنعام (97)
فالمدقق في هذه الآية الكريمة يجد أن اللفظ جاء هنا بصيغة الجمع (النجوم)، وهذا بالضبط ما يثير فضولنا لنطرح سؤالنا هنا على نحو: لماذا لم تأتي المفردة هنا على صيغة النجم (بدل النجوم)؟ أي لماذا لم يقل الله في كتابه مثلاً "وجعل لكم النجم لتهتدوا به"؟
وبالمقابل، لماذا جاءت المفردة بصيغة المفرد " النجم" في سورة النجم (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ)؟ ولِمَ لَمْ تأتي بصيغة الجمع، كالقول مثلاً "والنجوم إذا هوت"؟
جواب: إننا نزعم الظن أن الله هنا (في سورة النجم) لا يتحدث عن النجوم التي يهتدي به الناس بشكل عام، ولكنه يبرز نجما محددا بذاته يهتدي به نفر محدد من عباده (كما سنرى بعد قليل)، لذا قال:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1)
وهنا لا يتردد صاحبنا المعهود أن يسأل: إنْ كان كلامك هذا صحيحاً، فما هو ذاك النجم الذي هوى؟ ولماذا هوى النجم أصلاً؟
جواب: ربما يرشدنا مثل هذا التساؤل إلى طرح سؤال أخر لا يقل أهمية عن سابقة، ويتمحور السؤال حول موقع مفردة "إذا" في الآية نفسها لنقول: لماذا جاءت "إذا" بعد الاسم النجم (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ)؟ ولماذا لم تأتي قبل الاسم مثل (وإذا النجم هوى)؟
فلو تدبرنا آيات القرآن التي وردت فيها هذه المفردة "إذا" ملاصقة للأسماء الخاصة ببعض آيات الله الكونية كالنجوم والكواكب والشمس، لوجدنا أن مفردة "إذا" تسبق الاسم في أغلب الأحيان كما في الأمثلة التالية:
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) المرسلات
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) التكوير
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) الانفطار
ولو حاولنا عقد مقارنة بين هذه الآيات التي سبقت فيها "إذا" تلك الأسماء كما في الأمثلة السابقة مع آيات أخرى لحقت فيها "إذا" بعض الأسماء كما في قوله تعالى:
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) التكوير
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) الشمس
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1)
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2)
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ (3) الليل
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3) الضحى
وحاولنا فهم الفرق بينهما ربما يسعفنا ذلك في تسليط الضوء بدقة أكثر على قصة ذلك النجم الذي هوى، ولكن كيف؟
إننا نزعم القول أنه متى جاءت "إذا" سابقة للاسم المصاحب لها كانت تدل على مشهد من مشاهد الآخرة الذي سيحصل مرة واحدة (انظر السياقات السابقة التي تقدمت بها "إذا" على الاسم)، بينما إن جاءت "إذا" لاحقة للاسم المصاحب لها دلت على مشهد من مشاهد الحياة الدنيا الذي يحصل بشكل متكرر (انظر السياقات السابقة التي لحقت بها "إذا" الاسم)
وقد تباين هذا الاستخدام في السورة نفسها، فلو تدبرنا سورة التكوير مثلاً لوجدنا أن بدايتها تتعرض لما ستؤول إليه الأمور في يوم القيامة:
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) التكوير
ولكنها تنتقل بعد ذلك للتصوير بعض مشاهد الحياة الدنيا:
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) التكوير
إن ما يهمنا هنا هو مراقبة موقع "إذا" في الحالتين، ففي حين أن "إذا" كانت تسبق الاسم في مطلع السورة في الآيات التي تصور مشاهد يوم القيامة، جاءت "إذا" لاحقة للاسم عندما انتقل الحديث إلى تصوير مشاهد متكررة في الحياة الدنيا. وقد تكرر هذا التباين في سورة الانشقاق:
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) الانشقاق
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) الانشقاق[3]
إن ما يهمنا القول هنا هو أنه إذا جاءت "إذا" لاحقة للاسم فإن ذلك يدل على حدث يحصل في الحياة الدنيا بشكل متكرر، وليس أدل على ذلك من ما جاء في سورة الفلق:
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) الفلق 3-5
ولنعد بمثل هذا الافتراء لنقرأ ما جاء في بداية سورة النجم مرة أخرى:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ
لنفتري القول بأن هذا الحدث هو حدث من أحداث الحياة الدنيا التي تقع بشكل متكرر. ولكن ما فائدة مثل هذا الزعم؟
لو رجعنا إلى قصة لقاء موسى الأول ربه في الواد المقدس من بدايته وأثرنا جملة من التساؤلات ربما ترشدنا إلى التعرف أكثر على ذلك النجم، ولكن كيف؟
ها هو موسى يسير بأهلة راجعاً إلى أرض مصر بعد أن قضى سنين من عمره في مدين، وما أن يصل إلى مكان محدد حتى يأنس من جانب الطور ناراً فيقول لأهله:
فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ القصص (29)
إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ النمل (7)
وهنا نتوقف لنقرأ المشهد بطريقة ربما تكون جديدة، وذلك عند محاولتنا الإجابة على التساؤل التالي:
لماذا قال موسى لأهله إني آنست نار؟ وكيف يأنس موسى وحده تلك النار؟ لم لم يأنس أهله تلك النار؟ فهل تخفى رؤية النار على أحد؟
جواب: موسى آنس النار، ولكن كيف؟
هذا يدعونا إلى التفكر بمعنى هذه المفردة، فمعرفة معنى مثل هذه المفردات بالشكل المطلوب سيساعدنا - بلا شك- على الخروج باستنباطات تسعف في فهم المشهد بدقة أكبر، فما معنى أن يأنس موسى النار؟
لو دققنا في النصوص القرآنية التي تعرض تلك الحادثة كلها لوجدنا الآية الكريمة التالية التي تتطلب الوقوف عندها لنتأملها بدقة:
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى طه (10)
لاحظ - عزيزي القارئ- بداية الآية ووسطها، ففي بداية الآية جاء قول الحق عن موسى:
إِذْ رَأَىٰ نَارًا
لكن موسى لا يخبرأهله أنه قد رأى ناراً بل يقول لهم أنه آنس ناراً:
فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا
السؤال: لماذا لم يقل موسى لأهله إني رأيت ناراً؟
جواب: إننا نعتقد أنه لو قال موسى لأهله إني رأيت ناراً، لربما فهمنا أن أهل موسى قد رءوا تلك النار أيضاً، لأن رؤية النار لا تخفى على الناظر، ولكن بعد أن رأى موسى ناراً وقال لأهله إني آنست ناراً، ربما نستطيع أن نستنبط بكل سهولة ويسر أن موسى وحده هو من رأى النار لكن أهله لم يروها، وحتى لا يدخل موسى في جدل مع أهله حول تلك النار، نظن أنه لجأ أن يختصر الموضوع (لعجلته المعهودة) ليلحق بها، فقال لهم إني آنست ناراً (فلا يشغلهم بالبحث عنها)، وبكلمات أخرى فإننا نزعم الظن أنه حتى لا ينشغل موسى في تلك اللحظة بمحاولة إثبات وجود النار (أو عدم وجودها) في ذلك المكان لأهله الذين لا يرون النار في تلك اللحظة بأم أعينهم، نظن أنه قال لهم إني آنست ناراً بدل أن يقول لهم إني رأيت ناراً. ولو كان أهله يستطيعون رؤية النار في تلك اللحظة لربما قال لهم إني أرى (بصيغة المضارع) ناراً، ولكن لما كان من التعذر على أهله رؤية تلك النار جاء الفعل بصيغة الماضي "إِنِّي آنَسْتُ نَارًا".
افتراء: موسى وحده يرى ناراً لكن أهله لا يرون تلك النار، فلا ينقل موسى خبر الرؤيا لأهله (ولكنه ينقل لهم الخبر على نحو أنه آنس ناراً)، ونحن نفتري الظن أيضاً أن موسى لربما كان يعلم أن أهله لن يستطيعوا رؤية تلك النار مهما حاولوا لأنها – في رأينا- نار من نوع خاص لا يستطيع كل الناس رؤيتها.
السؤال: ما هي تلك النار؟ وهل فعلاً هي نار من نوع خاص لا يستطيع كل الناس رؤيتها؟ ومن هم المؤهلون لرؤية تلك النار؟ وما الذي أشعل (ويشعل) تلك النار؟
عند محاولتنا الإجابة على هذه التساؤلات وجدنا ضرورة النبش في الهدف الذي من أجله ذهب موسى إلى ذلك المكان تاركاً أهله وراءه لوحدهم.
أهداف موسى من الذهاب إلى تلك النار
بعد تفقد السياقات القرآنية الخاصة بتلك الحادثة أصبح الظن عندنا يميل إلى اليقين أن موسى قد قدّم سببين لتلك الزيارة القصيرة وهما:
1. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ
2. أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
ولنبدأ النقاش بالهدف الأول طارحين السؤال التالي: ما هو الخبر الذي سيأتي به موسى؟
لقد فُصّل الخبر في سياقات قرآنية أخرى على نحو:
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى طه (10)
نتيجة مهمة جداً: لقد ذهب موسى إلى تلك النار باحثاً عن الهدى " أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى"، فما هو إذاً الهدى الذي كان موسى يبحث عنه ويظن أنه سيجده عند تلك النار؟
لقد أخفق – في نظرنا- كثير من علمائنا الأجلاء عندما ظنوا أن في هذه الآية دليل على أن موسى ربما ضل طريقه، فذهب يبحث عن من يرشده إلى الطريق الصحيح التي تربط مدين بمصر، إلا أننا نرفض هذا الظن جملة وتفصيلاً للأسباب التالية:
1. لم يكن موسى من النوع الذي يمكن أن يضل طريقه وقد خبرها من ذي قبل، فهو الذي قدم من مصر (غرباً) إلى مدين (شرقاً) قبل أن يعود اليوم سالكاً الطريق نفسها ولكن بالاتجاه المعاكس، أي من الشرق إلى الغرب هذه المرة.
2. لو كان الأمر كذلك للجأ موسى إلى ربه أن يهديه إلى تلك الطريق، فلا أظن أن موسى من النوع الذي يغفل عن مناجاة ربه في مثل هذه الحالة، فعندما ذهب موسى في رحلته الأولى إلى مدين وقد كان لا زال لم يخبر الطريق بعد التجأ إلى ربه قائلاً:
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
وكانت النتيجة أن وجد نفسه وارداً ماء مدين.
3. لو كان ما قاله سادتنا العلماء صحيحاً لجاء اللفظ بصيغة الجمع على نحو "أو نجد على النار هدى" لأن فقدان أو ضياع الطريق لن يكون حينئذ من نصيب موسى وحده، وإنما من نصيبه وأهله جميعاً، وعندها سيبحث موسى عن هدى لهم جميعاً وليس فقط لنفسه، فلا ننسى أنه قد استخدم ضمير الجمع عند الحديث عن جذوة النار "لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ". لذا نحن نستغرب أن يكون موسى قد ضلّ الطريق مع أهله ثم يعود ليقول:
أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى
إن هذه النتيجة تنقلنا مباشرة إلى السؤال التالي: ما هو الهدى الذي كان يبحث عنه وموسى؟ والسؤال الأكثر وجاهة هنا هو: لماذا ظن موسى أنه سيجد على تلك النار هدى؟
افتراء من عند أنفسنا: لقد كان ذلك بسبب النجم
ولكن كيف؟
جواب: إنه نجم الهدى الذي كان موسى باحثاً عنه طوال الوقت، والذي سنرى لاحقاً أنّ محمداً كان يقلب وجه في السماء باحثاً عنه. نعم - يا سادة- إننا نظن أن هناك نجم خاص بهداية بعض الناس وليس كل الناس.
السؤال: وأين الدليل على مثل هذه التخاريف التي تقول، سيرد صاحبنا على الفور.
جواب: لنقرأ قول الله تعالى:
وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) النحل 15-16
فما هو النجم الذي جاء ذكره في هذه الآيات الكريمة؟ ومن هم الذين سيهتدون بذاك النجم؟
الجواب: إننا نظن أن الجواب موجود في قوله تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1)
نعم، إنّه ذلك النجم الذي يسمى نجم الهداية، أي الهداية التي تحصل عندما يهوي ذلك النجم، ولكن ليس كل الناس يهتدون بذاك النجم، بل نفر قليل من الناس هم الذين يمكن أن يهتدوا بذلك النجم، وهم الذين يكونون دائمين البحث عنه، لذا قال الحق في آية كريمة أخرى:
وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
وهنا ندعو القارئ إلى تدبر السبب الذي من أجله جاء الضمير "هم" هنا؟ فسؤالنا يكون على نحو: لم جاء الضمير هنا ليفصل الاسم (النجم) عن الفعل (يهتدون)؟ لم لم تأتي الآية على نحو "وبالنجم يهتدون" مثلاً؟
الجواب: إنه ضمير التخصيص، فالهداية تكون هنا لنفر من الناس دون جميعهم، ولو تدبرنا السياقات القرآنية التالية لوجدنا التخصيص واضحاً عندما يأتي مثل هذا الاستخدام للضمائر:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) المؤمنون
نتيجة: عندما يهوي ذلك النجم يكون سبباً لهداية نفر بعينهم، لذا لن يستطيع أن يدركه إلا من كان باحثاً عنه على الدوام.
ولو أعدنا قراءة الآية الكريمة السابقة وتفكرنا بها من هذا المنظور عند الحديث عن موسى لربما وجدنا ما يلفت الانتباه:
وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) النحل 15-16
نعم، هناك علامات على الأرض (تحدد المكان)، ولا شك لدينا أن موسى كان يخبرها، وهناك نجم يهوي في وقت معين في ذلك المكان، ولا شك لدينا أن موسى كان يبحث عنه، فمتى اجتمعت تلك العلامات وهوى النجم فيها، عندها تحصل – دون أدنى شك- هداية لا تضاهيها هداية أخرى على وجه الأرض (وسنعود إلى هذه القضية لاحقاً بحول الله وتوفيقه)
ولو رجعنا إلى السياق القرآني الذي نظن أنه يتعرض لحادثة الإسراء في بداية سورة النجم بشكل أوسع، وحاولنا ربط الأمور مع بعضها البعض، لربما وجدنا أنفسنا في نفس المكان:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1)
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)
- فصاحبنا (محمد) لم يضل طريقه ولم يغوي لأنه وجد الهدى هناك بالضبط كما وجد موسى الهدى هناك، فالذي لم يضل ولم يغوي، يكون قد اهتدى:
أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى
- وصاحبنا لم يأتي بشيء من عنده لأن الله علمه:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6)
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7)
بالضبط كما عاد موسى من هناك بالآيات المرئية (اليد اليمنى تحمل العصا واليد اليسرى تدخل في جيبه وتضم إلى جناحه) والآيات المتلوّة (الألواح التي فيها تفصيلاً لكل شيء).
- وصاحبنا قابل ربه هناك عندما نزل الله إليه (ولم يعرج هو إلى السماء)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8)
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) النجم 8-9
بالضبط كما كان القرب المكاني الذي حصل لموسى في ذلك المكان عندما قابل ربه:
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا مريم (52)
ولا نظن أن صاحبنا كان ينتعل نعليه عندما قام من فراشه ليركب دابته التي تنقله إلى هناك، فدخل المكان المقدس بالضبط كما طُلِب من موسى أن يدخله خالعاً نعليه:
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
نتيجة: إننا نظن أنّ رحلة الإسراء بالنبي إلى المسجد الحرام كانت بالضبط ميعاد الله نبيه محمد كما واعد نبيه موسى من ذي قبل، وقد حصلت – في ظننا- في نفس المكان ولنفس السبب.
مكان اللقاء
السؤال: أين هو ذلك المكان؟
الجواب: إننا نظن أن المكان هو البقعة المباركة من الشجرة عند جانب الطور الغربي:
فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ القصص (29)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ القصص (30)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ القصص (44)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ القصص (46)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا مريم (52)
نتيجة: لقد أسرى بمحمد ليلاً إلى نفس المكان الذي قابل فيه موسى ربه في البقعة المباركة من الشجرة[4]
توقيت الرحلة
سؤال: متى حصلت تلك الرحلة؟
جواب: نحن نظن أن رحلة الإسراء (كما ميعاد موسى) قد حصلت في نهاية فصل الصيف واقتراب موعد الشتاء
الدليل
لو تدبرنا الأسباب التي ساقها موسى لأهله لكي يتركهم ويذهب إلى تلك النار التي آنسها هناك، لوجدنا أنه يتحدث عن الهدى لنفسه (وهذا ما تعرضنا له قبل الآن)، ويتحدث أيضاً عن جذوة من النار (أو قبس) أو شهاب قبس:
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى طه (10)
فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ القصص (29)
إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ النمل (7)
إنّ ما يهمنا قوله هنا هو: لقد ذهب موسى إلى تلك النار، وقد وعد أهله أن يأتيهم بجذوة من النار لعلهم يصطلون، أليس كذلك؟
السؤال: لم كان أهل موسى بحاجة إلى جذوة من النار لعلهم يصطلون؟
جواب: إن هذا التساؤل ربما يسعفنا بالخروج بعدد من الاستنباطات نذكر منها:
- لا شك لدينا أن الوقت كان ليلاً (لأن النار قد لا ترى من بعيد في وضح النهار، فموسى يتحدث عن نار وليس عن دخان)
- ولا شك لدينا أيضاً أن الطقس كان يميل إلى البرودة وإلاّ لما كانوا بحاجة إلى ذلك القبس من النار ليصطلون بها، فالطقس أقرب إلى الشتاء منه إلى الصيف. ولكننا لا نظن أن الشتاء كان قد حلّ بعد، فمن غير المرجح أن يسافر موسى بأهله في برد الشتاء
- ولو دققنا النظر في قصة موسى أكثر لوجدنا أن موسى كان يعمل راعياً للغنم في مدين عند شعيب، وقد استأجره شعيب ثمان حجج (وأتممها موسى بعشر)، فعندما انتهى عقد إجارة موسى، أخذ موسى أهله وسار بهم إلى أرض مصر، ولا أظن أن موسى كان سيترك شعيباً في فترة الربيع، فذاك وقت المرعى وليس من أخلاق رجل كموسى أن يترك من أكرمه وهو في أمسّ الحاجة إليه، ولكننا نعلم أن أصحاب الماشية يبدءون بكف المواشي عن المراعى وإدخالها الحظائر مع انتهاء فصل الصيف عندما تنتهي المراعي استعداداً لقدوم المطر
- كما نحن نظن أنه ما أن انقضى موسم المراعي (إي انتهى موسم الرعي) انقضت معها آخر حجة من إجارة موسى، لأن من الطبيعي جداً أن تنتهي الحجة مع انتهاء موسم الرعي (وليس في بدايته أو في وسطه)، فذاك هو الأجل بين الرجلين. لذا لمّا انقضى الأجل أدخل موسى غنم الرجل إلى حظائرها، وجهز أهله وانطلق بهم قافلاً العودة إلى أرض مصر[5].
- ولا ننسى كذلك أن موسى يخبر طبيعة المناخ في المكانين، ففي حين أن الشتاء سيحل في أرض مدين (شرقاً) ويميل إلى البرودة مع اقتراب فصل المطر، إلا أنه سيكون أكثر اعتدالاً في أرض مصر (غرباً)[6]، فموسى سينتقل إلى مكان أكثر دفئاً من المكان الذي هو موجود فيه الآن.
العلم
ما هو العلم الذي حصل عليه موسى في ذلك المكان؟
ما هو العلم الذي حصل عليه محمد في ذلك المكان؟
علم موسى
في اللقاء الأول الذي ذهب فيه موسى ملاقياً ربه عاد موسى بالآيات المرئية التي تتمثل بـ
1. العصا
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17)قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19)فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)
2. اليد
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
أما في اللقاء الثاني فقد عاد موسى بالآيات المتلوّة:
وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
وهنا نتوقف قليلاً لنتعرف على آيات موسى المرئية والمكتوبة التي سنحتاج إليها كثيراً عن الحديث عن الآيات التي حصل عليها محمد عند لقاءه ربه.
آيات موسى المرئية
غالباً ما ظن الناس أن موسى قد جاء بآيتين اثنتين وهما آية العصا وآية اليد، وقد تحدثنا عن عصا موسى بشيء من التفصيل في مقالاتنا تحت عنوان (باب السامري)، فمن أراد التعرف على تلك الآية (كما نفهمها نحن)، فهو مدعو لمراجعة تلك المقالات، أما الذي دعانا للتوقف هنا هو آية اليد التي نظن أن أهل العلم قد فشلوا – كالعادة بالطبع- في تجليتها للناس كما يجب، لذا نحن نزعم الظن أن لدينا ما نقدمه في هذا السياق الذي سيختلف بشكل جذري عن كل ما سلف.
أما بعد،
إن محرك الاختلاف في التفسير (والذي دفعنا إلى مراجعة التفكير بآية موسى تلك) هو ما جاء في قوله تعالى:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ القصص (32)
السؤال: كيف يكون ما جاء في هذه الآية الكريمة عن يد موسى برهانان وليس برهان واحد؟
افتراء: لقد كانت يد موسى آية (تضاف إلى آية العصا) لكنها تختلف عن آية العصا بأنها برهانان
نتيجة: لقد كانت العصا آية واحدة وهي نفسها برهان واحد، بينما كانت اليد آية واحدة (كما العصا) ولكنها نفسها برهانان اثنان، فيكون موسى قد جاء بآيتين (العصا واليد) ولكنهما معاً (ثلاثة براهين)، ولكن كيف؟
إننا نظن أن أهل العلم لم يميزوا كثيراً بين الآية والبرهان، فأطلق اللفظ على الإجمال، أما نحن فنظن أن التفصيل أولى بالفهم، وفي هذا السياق، فإننا نزعم أن عصا موسى كانت آية (وكانت برهانا واحدا) لكن يد موسى كانت آية (ولكنها كانت برهانين اثنين)
الدليل
دعنا ندقق النظر بما جاء في الآيتين التاليتين عن يد موسى:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ النمل (12)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ طه (22)
إن التمييز هنا يجب أن ينصب أولاً – في رأينا- على الفعل "وَأَدْخِلْ" والفعل "وَاضْمُمْ"، ثم على الاسمين "جَيْبِكَ" و "جَنَاحِكَ" ، فلا شك أن الله يتحدث عن فعلين كان ينفذهما موسى بيده وهما:
1. أن يدخل يده في جيبه (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ)
2. أن يضمم يده إلى جناحه (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ)
وقد جمعا الفعلان معاً في آية كريمة أخرى
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
فكيف كان موسى يدخل (أو يسلك يده في جيبه)؟ وكيف كان يضمم يده إلى جناحه؟ وكيف يصبحا هذان الفعلان برهانين من رب موسى إلى فرعون وملئه؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن يد موسى كانت عبارة عن آية لكنها برهانين، فإدخال اليد في الجيب كانت برهان وضمّ اليد إلى الجناح برهان آخر، فيصبحا معاً برهانين[7]
ما الفرق بين أن يدخل (أو أن يسلك) موسى يده في جيبهمن جهة وأن يضم يده إلى جناحه من جهة أخرى؟
جواب: إننا نظن أن موسى كان يدخل (أو يسلك) يده في جيبه لكنه كان يضم يده إلى جناحه.
- ما الذي تقول يا رجل؟ ما الجديد في ذلك؟
- جواب: دعنا نفهم أولاً ما هي يد موسى التي كان يسلكها في جيبه وما هي يده التي كان يضمها إلى جناحه.
سؤال: ما هي يد موسى؟
جواب: إن هذا السؤال يعيدنا مباشرة إلى اللقاء الأول الذي حصل لموسى مع ربه، فلنعيد السياق القرآني ذاك لنركز الآن على قضية يد موسى، ولنبدأ النقاش بالآيات التالية من سورة طه:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ (22)
لنقسمها إلى قسمين: قسم يتحدث عن العصا:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)
والقسم الآخر يتحدث عن اليد
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ (22)
السؤال: أي يد هي التي كان يدخلها موسى في جيبه ويضمّها إلى جناحه؟
جواب: إنها اليد اليسرى
لكن لماذا؟
جواب: لأن اليد اليمنى كانت تحمل العصا:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)
فطلب الله منه أن يلقي العصا من يده اليمنى لتنقلب إلى حية تسعى:
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20)
ولكنه طلب منه بعد ذلك أن يأخذ العصا:
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)
نتيجة 1: لقد كانت العصا في يد موسى اليمنى فألقاها ثم عاد فالتقطها باليد اليمنى نفسها، ولو التقطها بغير اليد اليمنى لجاء شيء في النص يثبت ذلك، ولكن مادام السياق القرآني قد تحدث عن اليد اليمنى ولم يتحول الحديث عن ذلك، نستطيع أن نظن أن موسى كان على الدوام يحمل عصاه بيده اليمنى:
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)
نتيجة 2: مادام أن يد موسى اليمنى كانت تحمل العصا فمن غير المتوقع أن تكون هي اليد التي أمره الله أن يدخلها في جيبه أو أن يضمها إلى جناحه وهو لازال في نفس الموقف، فهل يعقل أن يدخل موسى يده وهي تحمل عصاه التي أمره الله أن يأخذها في جيبه؟ أو أن يضمهما معاً إلى جناحه؟
الجواب: لا نظن ذلك.
ولكن حتى نثبت ذلك لابد من معرفة ما الجيب وما الجناح اللذان ذكرا في النص القرآني، وكيف كان موسى يسلك يده وكيف كان يضم يده
السؤال: ما هي اليد؟
جواب: عندما كنت أطرح مثل هذا السؤال في قاعة الدرس، كان الاستغراب هو ردة الفعل الأولى للطلبة، ولكن ما هي إلاّ لحظات حتى يتبين لهم مدى التفاوت في الفهم عندهم (وإن كانوا من أبناء العربية كما يزعمون وربما يتفاخرون)، فمنهم من يطبق ذلك على نفسه فيشير إلى جزء من الشكل الذي يظهر في الصورة، ومنهم من يشير إلى الشكل كله، وهكذا، والقارئ الكريم مدعو إلى طرح هذا السؤال على من حوله لينظر ردة الفعل عندهم.
أما نحن فنريد أن نصل إلى تعريف لليد مما يظهر في الشكل التالي عندما نطرح السؤال التالي: ما هي اليد؟
(المصدر:http://www.google.jo/search?q=body+parts+hand+images&hl=en&prmd=imvns&tbm=isch&tbo=u&source=univ&sa=X&ei=QFl8T__CO5Ga8gOMnt2wDQ&ved=0CCAQsAQ&biw=1614&bih=870)
الجواب: إننا نظن أن ما يظهر في الصورة (ويظن كثير من الناس أنها هي اليد) يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام وهي: (1) اليد و (2) اليد إلى المرفق و (3) الجناح
1. اليد: أما اليد فهي المنطقة الأمامية التي يتجمّع فيها الأصابع الخمسة حتى بداية الرسغ، ودليلنا على ذلك قول الحق:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ المائدة (38)
2. اليد إلى المرفق: أما الجزء الذي يصل إلى المرفق فهو يسمى اليد إلى المرفق وليس اليد فقط:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة (6)
فلو كانت اليد تعني اليد إلى المرفق لما كان هناك ضرورة من أن يطلب الله منا أن نغسل أيدينا إلى المرفق عند القيام للصلاة، ولاكتفى بالقول فاغسلوا أيديكم وكفي.
3. الجناح: أما الشكل كله فيسمى الجناح، فالمنطقة التي تبدأ من الأصابع وتنتهي عند ملتقى الرقبة (أو الكتف مع الرقبة) فهي تسمى الجناح، فالإنسان له جناح كما للطائر جناح، ولكن الفرق بين جناح الإنسان وجناح بعض الطيور فيكمن – في رأينا- في أنّ جناح الإنسان لا يطير بينما جناح الطائر قد يطير، لذا نجد الروعة في التصوير القرآني في الآية الكريمة التالية:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الأنعام (38)
فلقد ظن البعض أن في هذه الآية شيء من الإطناب عندما قال الله (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ)، فهل من الضروري أن يقول الله يطير بجناحيه لو كان الجناح يعني كما فهم الناس الجزء الذي يطير؟
كلا وألف كلا، لقد قال الله ذلك لأن الجناح قد يطير وقد لا يطير، فجناح بعض الطيور تطير بينما جناح الإنسان مثلاً لا يطير، لذا طلب الله من موسى أن يضمم يده إلى جناحه:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ طه (22)
فلقد كان لموسى جناح وطلب الله منه أن يضمم يده (الجزء الأمامي) إلى الجزء الخلفي ويكون ذلك بالضم
سؤال: ما الفرق بين أن يدخل يده في جيبه (أو أن يسلكها في جيبه) من جهة و أن يضمم يده إلى جناحه من جهة أخرى؟
لقد كانت حركة اليد إلى داخل الجيب حركة دخول (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) وسلك (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) بينما كان حركة اليد إلى الجناح حركة ضم (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ)، ونحن نظن أنه عندما تدخل اليد في الجيب تدخل مفتوحة الأصابع كما في الشكل:
(المصدر: http://www.google.jo/#hl=en&sclient=psy-ab&q=hand+images&oq=hand+images&aq=0&aqi=g4&aql=&gs_l=hp.1.0.0l4.0l0l1l5346l0l0l0l0l0l0l0l0ll0l0.frgbld.&pbx=1&bav=on.2,or.r_gc.r_pw.r_qf.,cf.osb&fp=ca4e46aa8ec5e8e8&biw=1614&bih=870&safe=images)
بينما عندما تضم تكون مقبوضة الأصابع كما في الشكل:
المصدر: http://www.fotosearch.com/CSP288/k2883773/)
افتراء من عند أنفسنا: لقد كان إدخال يد موسى في جيبه برهان إلى فرعون وملئه وضم يده إلى جناحه برهان آخر إلى فرعون وملئه (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ)، ولكن لماذا؟
ينقلنا هذا السؤال إلى ذروة ما نود طرحه حول ماهية يد موسى كآية من ربه تضاف إلى آية العصا.
فالعصا كانت تنقلب ثعبان مبين في كل مرة يلقيها موسى كآية إلى فرعون وملئه (انظر ما طرحناه بخصوص حية تسعى في مقالتنا تحت عنوان باب السامري 2)، أما اليد فقد كانت برهانين إلى فرعون وملئه، فكان موسى يدخل (أو يسلك يده في جيبه) وكان يضم يده إلى جناحه، فكان إدخال اليد في الجيب برهانا، وكان ضم اليد إلى الجناح برهاناً آخر (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ)، ولكن لماذا؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أنه بإمكاننا استنباط الجواب من الآية الكريمة التالية:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ النمل (12)
تجمع هذه الآية الكريمة يد موسى مع التسع آيات التي جاء بها موسى فرعون وقومه، فما هي تلك الآيات التسعة؟
جواب: غالباً ما اختلف أهل العلم في تلك الآيات التسعة فعدّوا ما شاءوا وتركوا ما شاءوا، فكانت العصا وكانت اليد وكانت ... وكانت...الخ. ولو حاولنا أن نعدّ ما جاء به موسى إلى فرعون وملئه وإلى فرعون وقومه كما يرغب أهل العلم أن يفعلوا دون دليل أو برهان، لربما استطعنا أن نحصي العشرات من الآيات وليس فقط تسع آيات، فما هي تلك الآيات التسع التي جاء بها موسى فرعون وقومه؟
أولاً، لابد من التفريق بين الآيات التي (1) جاء بها موسى فرعون وملئه و(2) تلك التي جاء بها موسى فرعون وقومه.
(1) هناك أدلة كثيرة في كتاب الله تتحدث عن الآيات التي جاء بها موسى إلى فرعون وملئه:
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الأعراف (103)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ يونس (75)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ هود (97)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ المؤمنون (46)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ القصص (32)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الزخرف (46)
(2) ولكن - بالمقابل- هناك آية واحدة في كتاب الله تتحدث عن ما جاء به موسى إلى فرعون وقومه:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ النمل (12)
لذا يجب التمييز بين الآيات التي كانت موجهة إلى فرعون وملئه (أي حاشيته وخاصته) وتلك التي جاءت لتعم فرعون وقومه أجمعين، فنحن لم نجد في كتاب الله من الآيات ما يخص فرعون وقومه جميعاً سوى تلك الآيات التسعة.
نتيجة: لقد كانت الآيات الأولى التي جاء بها موسى (كالعصا واليد) هي آيات موجهه في الأساس إلى فرعون وملئه (أي حاشيته وبلاطه)، ولكن كانت تلك الآيات التسعة عامة على فرعون وقومه جميعاً (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)، ولكن ما علاقة ذلك باليد؟
جواب: إننا نظن أن العلاقة مباشرة، فلنعيد الآية السابقة ونتفقدها من هذا الجانب جيداً:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ النمل (12)
إن الملحظ الذي نود إثارته هنا هنا هو تلازم حدوث تلك الآيات التسعة مع إدخال اليد إلى الجيب، لذا فنحن نعتقد أن تلك الآيات التسعة كانت تحصل بمجرد أن يدخل موسى يده في جيبه لتخرج بيضاء من غير سوء.
السؤال: ماذا كانت تلك الآيات التسعة؟
جواب: إننا نعتقد أن الآيات التسعة التي جاء بها موسى فرعون وقومه (وليس فقط فرعون وملئه) قد وردت جميعها في الآية الكريمة التالية:
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
نعم هذه هي الآيات التسعة التي جاء بها موسى إلى فرعون وقومه جميعاً وهي نفسها التي ارتبطت – على ما نظن- بشكل مباشر مع إدخال موسى يده في جيبه، فكان إذا أدخل موسى يده إلى جيبه يحصل الطوفان وإذا أدخل يده مرة أخرى حصل الجراد، وإذا أدخلها ثالثة حصل القمل وإذا أدخلها رابعة حصل الضفادع وإذا أدخلها للمرة الخامسة حصل الدم.
لكن – توقف يا رجل- ما الذي تقول؟ هذه فقط خمسه : الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فكيف تفتري الكذب أنها تسع آيات؟ ألا ترى أنك تهذي؟
ربما، لكن دعنا لا ننسى ما فهمناه سابقاً حول آية اليد كما جاءت في الآية الكريمة التالية:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ القصص (32)
ألم نزعم أنّ إدخال اليد إلى الجيب برهان وضمّها إلى الجناح برهان آخر؟
نعم، لكن ما علاقة ذلك بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم؟
جواب: لنقرأ الآية الكريمة التالية:
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الأعراف (134)
السؤال: كيف كان موسى يكشف الرجز عن فرعون وقومه (وليس فقط فرعون وملئه)؟
جواب: بيده
سؤال: كيف ذلك؟
جواب: بأن يضمها إلى جناحه
سؤال: ما علاقة ذلك بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نعتقد أن إدخال موسى يده في جيبه لتخرج بيضاء من غير سوء هي برهان على حصول آية (كالجراد) وضم يده إلى جناحه هي برهان آخر على حصول آية أخرى (ككشف ضر الجراد)، فيصبح الجراد آيتين (حصول الرجز آية وكشف الرجز آية أخرى)، والبرهان على ذلك دخول اليد في الجيب وضم اليد إلى الجناح (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ). والمنطق نفسه ينطبق على الضفادع (فبإدخال اليد في الجيب يحدث الرجز كآية وبضم اليد إلى الجناح ينكشف الرجز كآية أخرى فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ)، فتصبح المعادلة على النحو التالي:
5 × 2 = 10
حصول (الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم) = 5
كشف (الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم) = 5
سؤال: ألا ترى أن هذه عشر آيات بينما يتحدث النص القرآن عن تسع آيات؟ ألا ترى أن هذا دليل على بطلان كلامك كله؟
جواب: ربما يكون ما تقوله صحيحاً، لكن لنعيد الآية الكريمة نفسها لنقرأها بشيء من الدقة؟
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الأعراف (134)
إنّ أبسط ما يمكن أن نخرج به من استنباطات من هذه الآية الكريمة هو أن القوم يطلبون من موسى أن يكشف عنهم الرجز؟ أليس كذلك؟
نعم، لكن ما علاقة ذلك بالآيات التسعة؟
جواب: لم يطلب القوم من موسى أن يكشف عنهم كل شيء وإنما طلبوا منه أن يكشف عنهم الرجز فقط، فيكون السؤال على النحو التالي: هل كشف موسى عن القوم كل تلك الآيات التي حصلت؟
جواب: لا أظن ذلك، لم يكشف موسى عنهم إلا الرجز منها (وبالضبط ما طلب القوم منه أن يكشفه عنهم).
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن تلك الآيات الخمسة وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم قد حصلت جميعها بمجرد أن يدخل موسى يده في جيبه
حصول خمس آيات (الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم)
لكن موسى لم يكشف عن القوم تلك الآيات جميعها عندما حصلت ولكنه كشف عنهم ما طلبوا هم أن يكشفه عنهم
نتيجة: لم يكشف موسى جميع تلك الآيات عندما حصلت
سؤال: ما هي الآيات التي كشفها موسى عنهم
جواب: الرجز
سؤال: ما هي الآيات التي لم يطلب القوم من موسى أن يكشفها عنهم
جواب: ما ليس برجز
ولكن كيف؟
لو دققنا جيداً في ماهية تلك الآيات وفي ترتيبها كما ترد في النص القرآني ربما نخرج ببعض الاستنباطات حول القضية قيد الدراسة، فلنرقب تلك الآيات في سياقها القرآني الأوسع:
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
افتراء من عند أنفسنا: إن الهدف من السطور التالية هو إعادة قراءة هذه الآيات الكريمة مرة أخرى محاولين أن نثبت زعمنا التالي:
لم يطلب القوم من موسى أن يكشف عنهم الطوفان ولكنهم طلبوا منه أن يكشف عنهم الجراد والقمل والضفادع والدم لأنها:
1. هي من الرجز الذي طلبوا كشفه
2. هي ما يمكن أن تحصل بطريقة تشبه السحر، فلا ننسى أنهم قد قالوا لموسى وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، فالقوم إذاً يتحدثون عن حصول ما يشبه السحر (وهو ما سنتعرض لأهميته بعد قليل بحول الله)
3. أن الطلب جاء لموسى أن يكشف بنفسه ذلك الرجز، فهم يخاطبون موسى قائلين (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ)، فالقوم إذاً يقرّون أن موسى هو من يقوم بكشف الرجز، فلم يرد موسى عليهم بالقول بأن الله هو من سيكشف عنهم الرجز ولكنه يقرهم على دعواهم تلك، ولهذا يمكن أن نفهم أن عملية كشف الرجز قد كانت تتم من قِبَلِ موسى نفسه وبطريقة يخيّل للناظر أنها تشبه السحر.
ونحن لا نتوقع أن يكون القوم قد طلبوا من موسى أن يكشف عنهم الطوفان عندما وقع عليهم وذلك للأسباب التالية:
1. لا نظن أن الطوفان من الرجز
2. لا نظن أن الطوفان يمكن كشفه بطريقة تشبه ما يمكن أن يفعل الساحر
3. لقد كان الطوفان هو الآية الأولى (حسب ترتيب الآيات كما ترد في كتاب الله)، فلا نظن أن القوم قد اقتنعوا جميعاً بأن حصول الطوفان كان بسب إدخال موسى يده في جيبه، لذا لم يكونوا يتصورا أن موسى يستطيع كشفه عنهم، لذا نحن نعتقد أنهم لم يطلبوا من موسى كشفه عنهم لأنهم لم يربطوا حصول الطوفان بموسى.
4. لا شك أن الطوفان سينتهي بالطريقة الطبيعية، فلا أظن أنهم بحاجة أن يتسرعوا بأن يأخذوا على أنفسهم تعهداً أن يؤمنوا بموسى وأن يبعثوا معه بني إسرائيل بمجرد أن ينقضي الطوفان (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، فهم يستطيعون أن ينتظروا بعض الوقت فينقضي الطوفان من تلقاء ذاته، ولا ننسى أن ذلك الطوفان لم يكن عظيماً جداً في حجمه كطوفان نوح مثلاً لأن ذلك كان سيعني نهايتهم عن بكرة أبيهم.
افتراء من عند أنفسنا: لقد طلب القوم من موسى أن يكشف عنهم الرجز فقط، فهم قد طلبوا منه أن يكشف عنهم ما يمكن ربطه مع موسى وما يكون حصوله وكشفه يشبه للناظر بأنه ضرب من أعمال السحر حتى قالوا هم بأنفسهم:
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ۖ وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) الأعراف
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) النمل
نتيجة: لقد طلب القوم من موسى أن يكشف عنهم الرجز وهي أربعة (الجراد والقمل والضفادع والدم) بينما لم يطلبوا من موسى أن يكشف عنهم الطوفان
الآيات التي كشفها موسى عنهم (الجراد والقمل والضفادع والدم)
والآن لو جمعنا الآيات التي حصلت فعلاً بمجرد أن يدخل موسى يده في جيبه وهي خمسه (الطوفان الجراد والقمل والضفادع والدم) مع تلك التي طلبوا منه أن يكشفها عنهم وهي أربعة (الجراد والقمل والضفادع والدم) يصبح مجموع الآيات التي قام بها موسى بحركة يده بإدخاله في جيبه كبرهان وبضمها إلى جناحه كبرهان آخر تسع آيات عمّت فرعون وقومه جميعاً (وليس فقط فرعون وملئه):
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ النمل (12)
السؤال: لماذا كانت تخرج يد موسى بيضاء من غير سوء في كل مرة يدخلها في جيبه؟
جواب: إن هذا السؤال يعيدنا مرة أخرى للنبش بمعنى السوءة التي حصلت في أكثر من موضع من كتاب الله، وقد تعرضنا لهذه الجزئية أكثر من مرة في مقالاتنا السابقة ولكننا لا نجد بداً من إعادة بعض الأفكار السابقة التي يمكن أن ننطلق منه للحصول على أفهام جديدة حول قصة يد موسى التي نحن بصدد البحث فيها هنا:
عودة إلى ما سبق
لقد حصلت السوءة أول مرة عندما أكل آدم وزوجه من الشجرة:
"... فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا..." الأعراف 22
وقد حاولنا أنْ نفهم المعنى المقصود من "بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا"، أي كيف بدت لآدم وزوجه سوءاتهما؟
وحاولنا رد الفكر السائد الذي درج عليه الفكر الإسلامي قروناً من الزمن عندما حاول أن يسوّق فكرة أنّ السوءة تعنى "العورة" أي أنّ عورة آدم وحواء بدت لحظة الأكل من الشجرة، فزعمنا الظن أن السوءة لا تعني فقط العورة وإنما الجسد بأكمله، أما دليلنا لإثبات زعمنا هذا فيأتي على النحو التالي:
أولاً، لعلنا جميعاً على دراية (ولو قليلة) بقصة ابني آدم:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) المائدة 27-30
ولكن ما الذي حصل بعد أنْ طوعت له نفسه قتل أخيه؟ إنه الندم ولا شك، ولكنّ الأمر كان قد فات، فلا يستطيع أنْ يعيد أخاه إلى الحياة، وجلّ ما يستطيع فعله هو عمل شيء بـ جثة أخيه، فلا شك أنّه في تلك اللحظة وقف حائراً لا يعلم ما يفعل حتى:
فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ المائدة 31
لعل القارئ الكريم قد أدرك ما نجهد أنفسنا الوصول إليه باستعراضنا لحادثة ابني آدم، فهل تعني عبارة "سَوْءةَ أَخِيهِ" "عورة أخيه"؟ أي هل كان ابن آدم يبحث عن مواراة عورة أخيه فقط؟ كلا وألف كلا، لقد كان يقصد مواراة الجثة بأكملها، فلربما أنّ عورة أخيه لم تكن مكشوفة لحظة أنْ قتله. وهنا لا بد أنْ نطلب من القارئ الكريم إمعان النظر بتطابق الألفاظ في حالة الحديث عن سوءة ابن آدم المصروع وما كان لآدم وحواء في مكان آخر من القرآن الكريم:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف 20
فهل تعني كلمة "سوءة" كلمة عورة في هذه الآية الكريمة؟ إنْ كان كذلك فإن المقصود بالمواراة هو ليس العورة وإنما جزء منها بدليل قوله تعالى "لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا"، أي هل تكشف جزء من العورة ووري جزء آخر؟ الجواب النفي بكل تأكيد، ولعل الروعة في هذه الآية القرآنية أنّها تشير إلى مواراة (ولنقل مجازاً تغطية) الجسد ولكن ليس كل الجسد، وإلا لربما فهمنا أنّ آدم وحواء قد غطوا أجسادهم بأكملها بما فيها الوجه والكفين وهكذا. وحتى لا يبدأ البعض الدفاع بالقول أن الحالتين مختلفتين (حالة آدم وزوجه من جهة وحالة ولديهما على الأرض من جهة أخرى) فقد لا نحتاج أن نرد بأكثر من التأكد من تطابق الألفاظ، ففي كلتا الحالتين استخدمت لفظة سوءة واستخدم الفعل "المواراة"، وفي كلتا الحالتين جاء الحديث عن السوءة "أي الجسد" بعد الوقوع في المحظور (كما يقال على لسان العامة)، فآدم يأكل من الشجرة وولده يقتل أخاه، أليس كذلك؟
فنخلص إلى القول بأنّ كلمة "سوءاتهما" تعني إذاً أجسادهم، وبهذا نعتقد أنّ الله سبحانه قد حذر آدم وزوجه من الأكل من الشجرة حتى لا تبدوا أجسادهم الآدمية الفيزيائية، وهذا يعني بالضرورة أنّ آدم وزوجه كانا يقطنا الجنة بدون تلك الأجساد التي نراها، لقد كانا في هيئة وماهية على غير هذه التي نعرف، وما بدت تلك الأجساد إلاّ لحظة الأكل من الشجرة، وهنا سيرد البعض بالسؤال: هل فعلاً كان آدم وحواء يقطنان الجنة بلا أجساد "سوءة"؟ نقول كلا، لقد كانا يسكنان الجنة بأجساد ولكنها لم تكن بادية "ظاهرة". وقد يقول البعض وكيف ذلك؟ فنرد على هذا التساؤل بتساؤل آخر أكثر إثارة ربما وقع في خاطر أحدكم في يوم ما وهو: لماذا لا نرى نحن الآدميين الجن بينما الجن يرانا؟ ولماذا لا نرى نحن الملائكة بينما هم يرونا؟ لماذا نحن الجنس البشري فقط نُرى ولا نَرى؟
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ الأعراف 27
نعم لقد كان آدم وزوجه يقطنان الجنة بأجساد غير بادية كأجساد الجن أو الملائكة في كيفيتها ولكنها مختلفة في ماهيتها. فالشيطان بفعلته تلك نجح في أنْ ينزع عن آدم وزوجه لباسهما الذي كان يسترهما حتى لا يكونا عرضة للأذى، وبدلاً من ذلك اللباس أصبح آدم وحواء بحاجة إلى لباس جديد يواري سوءاتهما "وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ".
(للتفصيل انظر مقالتنا السابقة أين كانت جنة آدم؟)
نتيجة: السوءة هي الجسم الآدمي
لنعود الآن بهذا الفهم لتسليط الضوء على قصة يد موسى:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى طه 22
إنّنا ندعي أنّ موسى كان إذا أدخل يده في جيبه تخرج بيضاء "مِنْ غَيْرِ سُوءٍ" أي بيضاء "من غير الجسد الآدمي الذي نعرف". ولكن لماذا؟
افتراء من عند أنفسنا: عندما كانت يد موسى تخرج من جيبه بيضاء من غير سوء كانت تبدو للناظر بأنها جسم نوراني يصعب على الناظر أن يحدّق النظر فيه طويلاً، فلم يكن القوم يستطيعوا أن يفهموا كيف تحصل الآية بمجرد أن يخرج موسى يده من جيبه، فكان أول (وربما آخر) ما ظنوا أنه ضرب من أصناف السحر، ولا ننسى أنهم على دراية بأن أكثرما يتقن الساحر هو خفة ورشاقة حركة يديه:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) النمل
فالآية المبصرة هي الآية المضيئة، التي تكون ناصعة البياض، كبياض النهار الذي يميزه عن الليل[8]:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا الإسراء (12)
نتيجة: لقد كان موسى يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، عندها تحصل الآية (كالجراد مثلاً)، وما هي إلاّ أن يضم موسى يده إلى جناحه حتى تقع آية أخرى بانكشاف ذلك الرجز
السؤال: لماذا كان العدد تسعه؟ لماذا لم تكن سبعة أو خمسة عشر أو أكثر أو أقل من ذلك؟
جواب: إننا نزعم أن الفهم الذي يوسس للعلاقة المباشرة بين تلك الآيات التسعة ويد موسى ربما يعطينا تفسيراً لعدد تلك الآيات، ولكن كيف؟
جواب: إننا نظن أن قوة موسى بالآيات المرئية التي جاء بها من لقاءه الأول بربه كانت تكمن في كلتا يديه، فيد موسى اليمنى تحمل – كما أسلفنا- عصاه التي كان يحدث بها آيات من نوع معين (سنتعرض لها بعد قليل بحول الله) ويده اليسرى تحدث آيات من نوع آخر عندما كانت تدخل في جيبه أو تضم إلى جناحه.
ولو دققنا النظر في الآيات التي كانت تقع بواسطة العصا التي يحملها في يمينه لوجدنا أن جميعها كانت خيراً كشق البحر وتفجير الماء من الحجر وهكذا، ولم يكن ذلك يحدث رجزاً يتطلب من موسى أن يكشفه عن القوم (ولم يطلب القوم يوماً من موسى أن يكشف عنهم ما احدثته عصاه)، فكانت حركة اليد اليمنى هي حركة واحدة وهي الضرب (وسنرى لاحقاً أن الضرب لا يأتي إلا بخير عندما نتحدث بالجزء القادم من المقالة بحول الله وتوفيقه عن قصة البقرة). ولكن – بالمقابل- نجد أن الآيات التي كانت تحدث بسبب يد موسى اليسرى التي كان يدخلها في جيبه كانت بمجملها آيات عذاب (كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم)، فهي تحدت رجزاً تطلب من موسى أن يكشفه عن القوم (كالجراد والقمل والضفادع والدم) بطلب منهم.
لكن يبقى السؤال: لماذا تسعة على وجه التحديد؟
جواب: لندقق النظر باليد، ألا تتكون اليد من خمسة أصابع؟
- بلى، لكن ما علاقة ذلك بالعدد؟
افتراء: إننا نزعم الظن أن في كل إصبع من أصابع اليد اليسرى الخمسة كانت آية تقع بمجرد أن يدخل موسى يده في جيبه الجيب، وتنكشف الآية بمجرد أن يضم ذلك الأصبع في قبضة اليد إلى الجناح، ولو حاول أي شخص منا أن يسلك يده في جيبه لأدخل اليد بأكملها:
ولكنه لو حاول أن يضم يده لما استطاع أن يضم غير أربعة من الأصابع فقط، لأن الإبهام (الأصبع الأكبر: الطوفان) لا يضم مع بقية الأصابع:
وللحديث بقية
9 نيسان 2012
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
[1] إننا نظن أن الحركة إلى داخل السماء هي عروج مصداقاً لقوله تعالى:
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
ولكن الوصول إلى الذات الإلهية يتطلب أكثر من العروج لأننا نعتقد أن الذات الإلهية هي خارج أقطار السموات والأرض (وسنناقش هذا الزعم في مقالات منفصلة بحول الله)، فالوصول إلى الله يتطلب رفعاً كما حصل مع عيسى بن مريم:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
وسنتعرض لهذه الجزئية عندما نفرد مقالات للحديث عن عيسى بن مريم بحول الله وتوفيقه
[2] سنتحدث في مقالة لاحقة – إن شاء الله- عن الفرق بين رؤيا العين ورؤيا الفؤاد
[3] وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) الفجر
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) الفجر
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) الزلزلة
[4] وسنرى لاحقاً انه المكان نفسه الذي وضعت فيه مريم بنت عمران ابنها عيسى، فالشجرة المباركة هي – في رأينا- النخلة نفسها التي طلب من مريم أن تهزها لتأكل من ثمارها بعد أن جاءها المخاض هناك، فهي قد اتخذت من دون قومها مكاناً قصياً لتضع فيه طفلها:
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
وأسري بمحمد إلى المسجد الأقصى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
والصوت الذي ناداها من تحتها كان مصدره الصوت نفسه الذي نادى موسى هناك، أي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة (وسنتعرض لهذا الموضوع بتفصيل أكبر عند الحديث عن عيسى بن مريم بحول الله)
[5] ولو دققنا جيداً فيما نقل عن حادثة الإسراء لوجدنا الكثير من الوقائع التي تؤكد هذا التصور، فنحن نعرف مثلاً أن حادثة الإسراء قد حصلت بعد عودة النبي وبصحبته زيد من دعوة أهل الطائف الذين صدوه صدوداً كبيرا، وكيف أنه جلس إلى ذلك البستان وجاءه من كان في البستان بشيء من العنب (لذا كان وقت قطاف العنب وهو آخر الصيف)
ولو اطلعنا على بعض الجزئيات التي تم تناقلها، لوجدنا في واحدة منها أن النبي يخبر القوم بعد عودته عن قافلة لهم كانت عائدة من أرض الشام كانت قد أضاعت بعيراً لها، ويتيقن القوم من الخبر بعد عودة القافلة، إن ما يهمنا قوله هنا هو أن ذلك الوقت كان وقت عودة قوافل التجارة من الشام إلى أرض الحجاز (إنها وقت عودة رحلة الصيف)
[6] ولا يظنن أحد أننا نستخدم أسماء هذه المناطق كما يمكن أن تفهم على الخارطة السياسية الجغرافية المعاصرة، فتسميات المناطق الحديثة هي وليدة اتفاقية سايكس بيكو، وأعتقد أن القرآن الكريم لا يلتزم بالتقسيمات الجغرافية كما جاءت في سايكس بيكو، فعندما يذكر أسم مصر في القرآن يطير ظن الكثيرين إلى مصر الحديثة وهكذا. كلا، إننا نظن أن المنطقة الجغرافية التي جرت فيها أحداث قصة موسى تنقسم – حسب النص القرآني – إلى ثلاث مناطق رئيسية وهي مصر في الغرب ومدين في الشرق وسيناء بينهما، فقد عاش موسى طفولته في مصر وهرب إلى مدين، وحصل اللقاء مع ربه في الطريق الواصلة بينهما وهي سيناء (للمزيد حول معنى سيناء وهذه المناطق الجغرافية انظر مقالتنا تحت عنوان سفينة نوح ونظرية تكون القارات)
[7] لذا نظن أن هذا الطرح يمكن أن يحل سبب أن يرد اللفظ بصيغة " فَذَانِكَ"، فلو كانت يد موسى آية واحدة ببرهان واحد، لجاء اللفظ بصيغة المفرد (فذلك)، ولو كان هناك آيتان ببرهانين لجاء اللفظ بصيغة المثنى "فذلكما"، ولو كان هناك أكثر من آيتين وأكثر من برهانين لجاء اللفظ بصيغة الجمع "فذلكم"، ولكننا نظن أنه لمّا كانت هي آية واحدة (يد موسى اليسرى) ببرهانين (تدخل في الجيب كبرهان وتضم إلى الجناح كبرهان آخر)، فإننا نعتقد أن المعنى لم يكن ليستقيم أن تأتي بصيغة المفرد لأنها ليست مفرد، ولا يستقيم المعنى أن تأتي بصيغة المثنى لأنها ليست مثنى، ولا يستقيم المعنى أن تأتي بصيغة الجمع لأنه ليست جمع، لكن لما كانت مفرد (وهي اليد) ببرهانين (مثنى) جاء اللفظ بصيغة " فَذَانِكَ"، أي اللفظ الذي يقع بين المفرد والمثنى.
[8] وربما يفسر مثل هذا الكلام كيف كانت ناقة ثمود آية، فلقد كانت تلك الناقة مبصرة:
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا الإسراء (59)