قصة يوسف 17: اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ
حاولنا في الجزء السابق من هذه المقالة تمرير ظننا بأن ما جاء في الآية الكريمة التالية على لسان يوسف:
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
لم تكن جزءا من رؤيا الملك، وإنما كانت معلومة "مجانية" تبرع بها يوسف من عنده للناس. وأظن أن هدفه في ذلك كان ثنائيا:
- لكي لا يضطر أن يقابل الملك
- لكي يساعد الناس على الخروج من تلك الأزمة دون الحاجة أن يضطروا للعودة إليه مرة أخرى لسؤاله
فالمدقق في السياق القرآني الكلي يجد أن الملك كان قد طلب من ملئه الفتوى بالرؤيا فقط:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
وبمثل هذه الرسالة (وهي تأويل الرؤيا) جاءه صاحبه السجن طالبا من يوسف:
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
السؤال: لماذا لم يكتف يوسف بتأويل الرؤيا؟ ولماذا تبرع لهم بالحل الذي يخرجهم من المأزق القادم عليهم؟
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
جواب: كان هذا من أخلاق النبوة. فبالرغم أنهم جاءوا يوسف طالبين الفتوى بالرؤيا فقط، إلا أن يوسف تبرع لهم بالحل الذي يخرجهم من المأزق بالرغم أن القوم قد أودعوه السجن (ربما ظلما) عدد سنين، والسبب في ذلك يعود إلى أن يوسف لم يكن ناقما على الملك أو على الناس من حوله بسبب الزج به في السجن بضع سنين. فتلك هي أخلاق نبي كريم، وقد ظهرت أخلاقه الكريمة على الأقل في أمرين اثنين:
- استعداده لتأويل الرؤيا دون شرط مسبق
- تقديم الحل المجاني دون أن يطلبوه منه
فعلى الرغم من أن يوسف كان سجينا حتى الساعة، إلا أنه لم يحاول أن يستغل الموقف كأن يلجأ (كما قد يفعل كثير من الناس) إلى مبدأ المقايضة، كأن يطلب مثلا حريته مقابل تأويله للرؤيا، أو أن يطلب مالاً مقابل تبرعه بالحل الذي سيخرجهم من الأزمة. ولعلي أجزم أن هذا السلوك النبيل النابع من شخصية كريمة هي ما جعلت الملك يتمسك بأن يأتوه به إلى بلاطه.
ولو تدبرنا قصة طلب الملك مقابلة يوسف لوجدنا فيها العجب. فهذا الملك بداية يطلب ما تنص عليه الآية الكريمة التالية:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ...
ولكن على الرغم من أن هذا الطلب قد صدر من الملك نفسه، إلا أن يوسف رفض الإذعان له:
... فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
والأهم من ذلك أن رسول الملك نفسه لم يجبر يوسف على تلبية طلب الملك، فترك يوسف في السجن وقفل عائدا إلى الملك ليخبره برفض يوسف القدوم إليه إلا بعد أن يستطلع الملك بنفسه خبر النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
ولو دققنا في ردة فعل الملك لوجدنا فيها العجب، فالملك لم يستشيط غضبا (كما يفعل ولاة الأمر عادة) لأن سجينا قد رفض الإذعان لأمره، ولكنه نزل عند رغبة السجين، فأخذ يتحقق من الأمر عندما جمع النسوة اللاتي قطعن أيديهن مستفسرا عن ما فعلنه بيوسف:
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
وما أن توصل الملك إلى هذه الحقيقة التي تظهر براءة يوسف الكاملة من التهمة المنسوبة إليه والتي أودعته السجن حتى طلب مرة أخرى أن يحضروه إليه. ونحن نظن أن طلب الملك هذه المرة قد جاء فيه شيء من الرجاء:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
فالملك هذه المرة يطلب يوسف ليستخلصه لنفسه (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)، ويكأن الملك (نحن نظن) يطلب ممن أرسلهم لإحضار يوسف أن يوصلوا له رسالة بأن هذا طلب شخصي من الملك وليس طلبا وظيفي، فالملك يطلب لقاء يوسف بصفته الشخصية (التحببية) وليس بصفته الوظيفية (الأمرية). عندها فقط نزل يوسف عند رغبة الملك بالحضور إليه وتكليمه شخصيا:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
وهذا النقاش يدعونا على الفور أن نضع التساؤلات التالية على طاولة البحث:
- من هو رب صاحبه السجن الذي طلب يوسف أن يذكره عنده؟
- لماذا أنسى الشيطان صاحبه هذا أن يذكره عند ربه؟
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
- من هو الشخص الذي جاء يوسف في سجنه يحمل رؤيا الملك ويطلب الفتوى فيها؟
- من هو رسول الملك الذي جاء ليخرج يوسف من السجن؟
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
- الخ.
باب صاحب يوسف الذي نجا
تعرضنا في أحد الأجزاء السابقة من هذه المقالة إلى افتراء القول بأن صاحب يوسف الذي نجا من السجن هو من كان يعمل في بلاط الملك كوزير لجمع الضرائب، فهو الذي كان يقوم على عصر (أي جمع) الخمر (أي الضرائب) من الأغنياء كأحد مداخيل الدولة الرئيسة، وقد كان هذا الشخص أمينا على أموال الدولة، وهو الذي ظننا أنه قد نجا من العقوبة لأنه لم يكن من المتآمرين على الملك، فلم يقم بتسريب المعلومة الخاصة بمراودة امرأة العزيز (وهي ابنت الملك نفسه) لفتاها عن نفسه لنسوة في المدينة (كما فعل صاحبه الآخر) حتى أصبح ذلك الخبر محط النميمة بينهن:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
فما أن بدأت المحكمة تجمع البينات حتى كان قرارها ينصص على سجن يوسف إلى حين:
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
واستمرت المحكمة بالانعقاد بحق صاحبيه السجن، فقضت المحكمة التي انعقدت بحق الثلاثة (يوسف وصاحبيه السجن) في نهاية التحقيقات إلى إثبات براءة الأول (أحدهما) وتثبيت التهمة بحق الآخر (صاحب يوسف الآخر في السجن)، وتعليق القرار بحق يوسف نفسه إلى أجل.
ولكن الملفت للانتباه أن يوسف قد طلب من صاحبه هذا الذي ثبتت براءته من التهمة المنسوبة إليه أن يذكره عند ربه متى ما خرج من السجن:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
ولكن الأمور جرت على نحو غير ما طلب يوسف، فما كان من صاحبه السجن هذا إلا أن ينسيه الشيطان أمر يوسف (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)، ومن هنا ننطلق لطرح التساؤلات الأولية التالية:
- كيف بصاحب يوسف لا يذكر يوسف عند ربه؟
- وكيف استطاع الشيطان أن ينسيه ذلك؟
- وهل فعلا نسي صاحب يوسف ذكر يوسف عند ربه؟
- ومن هو ربه هذا الذي طلب يوسف من صاحبه السجن أن يذكره عنده؟
- لماذا طلب يوسف من صاحبه هذا الطلب أصلا؟
- الخ.
افتراء من عند أنفسنا: من أجل محاولتنا الإجابة على هذه التساؤلات وجدنا أننا سنقحم أنفسنا بالافتراء الخطير التالي: كان رب صاحب يوسف الذي طلب يوسف منه أن يذكره عنده هو الملك نفسه. ولكن كيف حصل ذلك؟
تخيلات من عند أنفسنا
أولا، لقد افترينا سابقا أن صاحبي يوسف السجن كانا وزيري البلاط حينئذ (الوزير المشرف على جمع أموال الدولة والوزير المشرف على إنفاق أموال الدولة)، وكانا برفقة سيد المرأة التي راودت يوسف عن نفسه في بيتها، فظننا (مفترين القول من عند أنفسنا) بأن سيد المرأة الذي ألفياه لدى الباب كان أخوها ولي عهد الملك حينئذ وليس زوجها العزيز كما صورت ذلك معظم التفسيرات السابقة. فتخيلنا بأنهما كانا برفقته في تلك اللحظة، فكانا الاثنان فقط من علما بخبر مراودة امرأة العزيز لفتاها عن نفسه في بيتها، وكان ذلك بسبب تواجدهما في البلاط الملكي حينئذ.
ثانيا، وقد افترينا الظن أيضا بأن الملك (الأب) حينئذ كان رجلا طاعنا في السن(ربما راقدا على فراش الموت). فكان ولي عهده (سيد المرأة وهو ولد الملك لا زال شابا يافعا) هو من أخذ يتولى زمام الحكم في الدولة في نهاية فترة حكم والده. فكان هو السيد.
ثالثا، كما افترينا الظن بأن أحد الوزيرين كان يحاول التآمر على الملك للإطاحة به، وكانت واحدة من أوجه المؤامرة هو تسريب المعلومات السرية من داخل بلاط الملك كحادثة مراودة امرأة العزيز لفتاها عن نفسه وذلك بهدف المس بهيبة الملك والعائلة الحاكمة حينئذ. ولكن ولي عهد الملك (سيد المرأة) استطاع بحنكته وهدوءه ورباطة جأشه إفشال المؤامرة التي كانت تحاك ضد والده الملك. فعمد مع أخته (امرأة العزيز) إلى إيقاع تلك النسوة (اللواتي تحدثن بالخبر في المدينة) في الفخ عندما أخذن يراودن يوسف عن نفسه، فقطعن أيديهن كبيّنة واضحة على تورطهن في الأمر. عندها عمد هذا السيد (ولي عهد الملك) على الفور إلى الزج بكل من كان في القصر في السجن بمن فيهم يوسف نفسه ووزيري الملك. وكان هذا في (رأينا) سبب دخول الفتيان السجن مع يوسف
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
وحصل ذلك كله (في ظننا) تحت قضية تسمى "المس بهيبة الملك والعائلة المالكة" على خلفية انتشار خبر مراودة امرأة العزيز لفتاها بين نسوة في المدينة. فطلب هذا السيد (ولي عهد الملك) من المحكمة الانعقاد على الفور للنظر في التهمة المنسوبة لهم جميعا، وما أن تبيّن للمحكمة أن الآخر هو من ثبتت بحقه جريمة التآمر على الملك حتى كان القرار القطعي للمحكمة هو أن يصلب ذاك الرجل فتأكل الطير من رأسه:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
وتبرئة الأول من التهمة المنسوبة إليه، وتعليق الحكم بحق يوسف إلى إشعار غير مسمى.
(للتفصيل انظر الأجزاء السابقة)
نتيجة: يتم تنفيذ حكم المحكمة ببراءة الأول وصلب الآخر.
يخرج هذا الرجل (صاحب يوسف الأول) من السجن، ويلبث يوسف في السجن بضع سنين.
لكن الذي يهمنا الآن هو ما كان يوسف قد طلبه من صاحبه هذا قبل خروجه من السجن وهو أن يذكره عند ربه:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ...
فما يكون منه إلا أن ينسيه الشيطان ما كان يوسف قد طلبه منه كما تنص على ذلك تكملة الآية الكريمة السابقة:
... فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
السؤال مدار البحث في هذا الجزء من المقالة هو: كيف استطاع الشيطان أن ينسي هذا الرجل ما طلبه منه يوسف قبل خروجه من السجن؟ فما الذي حصل فعلا على أرض الواقع؟
أما بعد،
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أنه في تلك الأثناء حدث انتقال في السلطة من الملك الأب (والد امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه في بيتها) إلى الملك الابن (الذي كان سيد امرأة العزيز عندما راودت يوسف عن نفسه في بيتها)، فانتقل نظام الحكم (نحن نتخيل) من الأب (الملك العجوز الذي توفته الملائكة بالموت) إلى الملك الشاب. وكان هذا الملك الجديد هو رب صاحب يوسف السجن عندما كان لازال سيدا (أي وليّا للعهد) والذي طلب يوسف من صاحبه أن يذكره عنده.
لذا نحن نتخيل أن يوسف قد طلب من صاحبه السجن أن يذكره عند ربه الذي كان حتى تلك الساعة وليّا للعهد (سيدا)، ولكن ما أن خرج صاحب يوسف من السجن حتى أصبح رب هذا الرجل هو الملك الفعلي للدولة، وهنا تبدأ الأمور تختلف بعض الشيء، وهذا (نحن نفتري الظن) السبب الرئيس الذي من خلاله استطاع الشيطان أن ينسي صاحب يوسف هذا أن يذكر يوسف عند ربه، ولكن كيف حصل ذلك؟
رأينا: لمّا كان رب هذا الرجل لازال وليّا للعهد، كان هناك ملك فعلي للدولة هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تسيير شؤون الدولة. وكان الحديث مع ولي العهد أمرا ممكنا ربما بسبب طبيعة العلاقة بينهما، فولي العهد هو ربه بصريح اللفظ على لسان يوسف:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
ولكن الذي لا يمكن الشك فيه هو أنه في هذه الأثناء كان هناك في أرض مصر أربابٌ متفرقون كما جاء أيضا على لسان يوسف في حديثه مع صاحبيه السجن:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
ونحن نعتقد أن أولئك الأرباب كانوا أصحاب سلطة متفاوتة، فالملك هو ربٌ وهو صاحب السلطة الأعلى في الدولة، وولي العهد هو ربٌ (وصاحب السلطة الثانية)، وهكذا.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نعتقد أنه ما أن ارتقى هذا السيد إلى سدة الحكم وأصبح هو الملك الذي تأتمر البلاد كلها بأمره حتى أصبح هو ربهم الأول، فأصبح أمر مخاطبته والحديث معه أمرا مختلفا بعض الشيء. وذلك على الأقل لسببين:
- لن يكون هذا الرب الأول متوافرا في كثير من الأوقات، مادام أنه أصبح مسئولا عن الدولة بأكملها
- أن الخطاب معه يتطلب الحذر الشديد، فهو الملك صاحب الأمر النافذ الآن، ومن هذه الزاوية (نحن نتخيل) بدأ الشيطان ينجح في مهمته بأن ينسي صاحب يوسف أن يذكر يوسف عن ربه الذي أصبح ملك البلاد. فكيف تم ذلك؟
رأينا: بداية لابد من التأكيد بأن النسيان لا يعني ما يخطر على بال العامة من معاني للمفردة، فنحن نظن أن النسيان لا يعني بأي حال من الأحوال غياب المعلومة عن الذهن تماما، وذلك لأن الله نفسه ينسى. انظر – عزيزي القارئ الكريم- الآية الكريمة التالية قبل أن تستشيط غضبا:
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
ولا شك عندنا أن القرآن الكريم يثبت إمكانية أن ينسى الإنسان نفسه:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
السؤال: هل يمكن أن تغيب المعلومة عن الإله الذي نسيهم عندما نسوه (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ)؟ وهل يمكن أن ينسى الإنسان نفسه (فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) إذا كان معنى النسيان هو غياب المعلومة التام من الذاكرة؟
جواب: كلا وألف كلا، لأن النسيان (نحن نظن) هو فعل مقصود لذاته، فالإنسان ينسى لأنه يريد أن ينسى، والله نفسه ينسى لأن ذلك كان قراره:
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
السؤال: ما هو النسيان إذن؟
جواب: نحن نفتري الظن بأن النسيان هو "تجاهل الأمر أو الموقف عن قصد" (أو هو "التطنيش" بلغتنا الأردنية الدارجة). فأنا قد أنساك إذا أردت ذلك ويكون ذلك بأن "أطنشك". فيكون النسيان عندها قرار نابع من تلقاء نفسي ولا يعني ذلك أنك غير حاضر في بالي (أي في الذاكرة) تماما. فأنا أنساك عندما تكون موجودا في ذاكرتي، وهذا ما سيحصل يوم القيامة مع من أراد الله نسيانهم:
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (34)
فهؤلاء النفر من الناس لم ينسوا اليوم الآخر بمعنى أنه كان يغيب تماما من ذاكرتهم، ولكنهم نسوه (نحن نظن) لأنهم اختاروا أن يتجاهلوه "تطنيشه" عن قصد كلما ورد خبره في ذاكرتهم، فكان فعل النسيان عندهم مقصودا لذاته، وكذلك كان القرار الإلهي بحقهم وهو نسيانهم (الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ).
السؤال المعكوس: ما معنى غياب المعلومة تماما من الذاكرة؟ أو كيف جاء اللفظ القرآني بخصوص من غابت المعلومة تماما من باله (فلم تعد موجودة في ذاكرته)؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: إنها الغفلة:
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن صاحب يوسف السجن لم يغفل عن يوسف، ولكنه نسي يوسف بتحريض من الشيطان. لذا فإننا نعتقد أن صورة يوسف في السجن لم تفارق مخيلته يوما منذ أن خرج من السجن حتى لحظة إدكاره بعد أمة يوم أن طلب الملك تأويل رؤياه:
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
نتيجة مهمة سنحتاج إليها لاحقا: لاحظ أن صاحب يوسف قد ادكر (ولكنه لم يتذكر). فنحن نظن أنه لو كان صاحب يوسف في غفلة عن يوسف لكانت حادثة رؤية الملك سببا لأن يتذكر (بالذال)، ولكن لما كان صاحب يوسف ناسيا (مطنش) كانت حادثة رؤية الملك سببا له لأن يدكر (بالدال) كما في الشكل التالي:
نسيان | غفلة |
إدكار (إدكر) | تذكر (تذكر) |
السؤال مرة أخرى: كيف استطاع الشيطان أن ينسي صاحب يوسف أن يذكر يوسف عند ربه؟ فكيف حصل ذلك مادام أن خبر يوسف لم يغيب عن باله كما نزعم؟
جواب مفترى: نحن نظن أن صاحب يوسف قد تذكر يوسف على الدوام ولكنه اختار (بتحريض من الشيطان) أن لا يذكر يوسف عند ربه. السؤال لماذا؟
جواب: نحن نظن أن السبب في ذلك يكمن على الأقل في أمرين اثنين:
- لم تتح لهذا الرجل الفرصة المناسبة أن يذكر يوسف عند ربه
- خاف هذا الرجل (بتحريض من الشيطان) أن يذكر يوسف عند ربه
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن الشيطان كان يخوِّف صاحب يوسف من أن يذكره عند ربه. فكيف حصل ذلك؟
تخيلات من عند أنفسنا: ما أن خرج صاحب يوسف من السجن حتى وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه، وهو أن المحكمة قد أجلّت النظر في قضية يوسف بالتحديد، وأن ربه الذي كان وليا للعهد (سيدا) قد أصبح الآن ملكا. لذا أصبحت الفرصة متاحة له بشكل أقل أن يتحدث مع من كان ربه (الملك الجديد) بهذا الشأن، فالملك الآن منشغل بأمور الدولة الكبرى، ومن غير المنطقي أن يعمد إلى أن يشغله بمثل هذه القضايا الجانبية هذا إن سنحت الفرصة بذلك أصلا، وأظن أن صاحب يوسف لم يرقى أن يكون الملك الجديد هو ربه، وسنرى لاحقا (بحول الله وتوفيق منه) بأنه لم يكن ضمن ملأ الملك الجديد، فبقي يقبع في الدائرة الثانية من الحكم ولم يرتقي إلى الدائرة الأولى من الحكم (وهي ملأ الملك نفسه).
كما نظن مفترين القول من عند أنفسنا أن السبب الأكبر هو أن هذا الرجل كان يخشى (بتحريض من الشيطان) أن يفعل ذلك، ربما (نحن نظن) خوفا من أن يظن الملك الجديد أن في تصرفه هذا نوع من أنواع الفساد في الدولة. فيوسف في السجن بقرار من المحكمة، والتشفع له ربما يفهم على أنه تدخل في استقلالية القضاء. وكان خوفه (نحن نعتقد) نابعا بأن يرتبط اسمه باسم يوسف السجين. فسكت الرجل عن فعل ذلك بالرغم أنه كان متذكرا لقضية يوسف على الدوام، فجاء تخويف الشيطان له من هذا الباب. وما أتيحت له الفرصة إلا عندما طلب الملك بنفسه المساعدة في تأويل رؤياه، عندها حصل أمر غريب جدا وهو أن هذا الرجل قد ادّكر:
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
فالادّكار هو – كما افترينا القول في مقالات سابقة لنا- الوصول إلى المعلومة بطريقة سريعة بسبب حادث ما، وانتهاز الفرصة فيها.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17)
فأنت تصل إلى معلومة ما في كتاب الله بسبب أن معلومة أخرى قد أدت إلى تذكيرك بالمعلومة السابقة لتستفيد منها. فالحديث هنا مثلا عن نسيان صاحب يوسف في الآية قيد البحث هنا:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
هي التي جلبت معها الادكار بأن الله نفسه ينسى:
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
إن مراد القول هو أن الرجل (صاحب يوسف) قد ادّكر لأنه كان ناسيا ولم يكن غافلا، ولو أنه كان غافلا لتذكر تذكرا. والسبب في أن الرجل قد ادكر (ولم يتذكر) هو لأن الفرصة الآن أصبحت مواتية لأن يذكر يوسف عند ربه مادام أن الملك قد طلب تأويل رؤياه بنفسه، وهو الآن يعلم أن الشخص الوحيد القادر على ذلك هو صاحبه القديم في السجن: يوسف.
أما الدليل الأكبر الذي نظن أنه ربما يسوّغ افتراءاتنا هذه هو المشاهدة التالية من الآية الكريمة نفسها:
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
المشاهدة: لاحظ - عزيزي القارئ- أن صاحب يوسف هنا يخاطب من حوله بصيغة الجمع (أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)، أليس كذلك؟
السؤال: إلى من كان يوجه صاحب يوسف خطابه هذا في تلك اللحظة؟
رأينا: إلى من حوله؟
السؤال: ومن هم؟
جواب مفترى: نحن نظن أنه من الاستحالة بمكان أن يحصل ذلك بحضور الملك؟ فلو كان الملك موجودا لما تم توجيه الخطاب لمجموع من حوله.
الرأي المعاكس: قد يرد البعض على الفور بالقول بأن خطابه كان موجها إلى الملك بصيغة الجمع ليدل على الاحترام (أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ).
رأينا: نحن ننكر – كما فعلنا في أكثر من مقالة سابقة- هذه القضية جملة وتفصيلا، فالخطاب بصيغة الجمع للمفرد من أجل التعظيم هذه – برأينا- غير واردة في النص القرآني، وذلك لأن الأحق بالتعظيم هو الله، ولو كان هذا مقبولا لكان الأحق بنا أن نعظم الله نفسه كأن نقول مثلا:
أنتم يا الله
أسألكم يا الله
رب أنتم...
الخ.
وربما يؤكد ظننا بأن صاحب يوسف هذا لم يكن يخاطب الملك بصيغة الجمع وأنه لم يكن أصلا حاضرا المجلس عندما طلب الملك من الملأ حوله تأويل رؤياه هو ما قاله الرجل بنفسه ليوسف يوم أن جاءه السجن:
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لو كان صاحب يوسف حاضرا المجلس، ولو أن الملك هو من أرسله شخصيا ليأتيه بتأويل رؤياه من عند يوسف لربما قال الرجل حينها شيئا كهذا:
لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى الملك
تساؤلات:
- كيف يمكن لهذا الرجل أن يتحدث لمن حوله أنه قادر على أن ينبئهم بتأويل رؤيا الملك والملك موجود (أَنَاْ أُنَبِّئُكُم)؟!
- وكيف يطلب منهم (بصيغة الجمع) أن يرسلوه (فَأَرْسِلُونِ)؟
- وكيف يطلب من يوسف تأويل الرؤيا لعل الناس يعلمون (لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)؟
- فكيف به إذن لا يذكر الملك إطلاقا على لسانه؟
- فهل يعقل أن يكون الملك هو من بعثه ليأتيه بالتأويل فيشير في خطابه إلى الناس ولا يأتي على ذكر الملك إطلاقا؟
- وهل من المنطقي أن يكون ذلك الرجل حاضرا مجلس الملك حينها وأن الملك هو من بعثه ليأتيه بالتأويل ولا يأتي على ذكر ذلك ليوسف؟ من يدري؟!!!
- الخ.
رأينا المفترى: نحن نظن أننا نتجرأ على تقديم الافتراءات التالية التي هي من عند أنفسنا:
- صاحب يوسف لم يكن حاضرا مجلس الملك حينها
- الملك لم يكن هو من بعث هذا الرجل إلى يوسف ليأتيه من عنده بتأويل رؤياه
- صاحب يوسف لم يرجع إلى الملك بالخبر مباشرة من عند يوسف ولكنه رجع إلى من أرسله
فكيف حصل كل ذلك؟
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن الذي حصل كان على النحو التالي: يرى الملك تلك الرؤيا الشهيرة:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ...
فيطلب من الملأ من حوله أن يفتوه في رؤياه:
... يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
فلم يجد بينهم من يستطيع ذلك، لا بل وينعتوا رؤيا الملك على أنها من باب أضغاث الأحلام:
قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44)
نتيجة: لقد أجمع الملأ من حول الملك على أن ما رءاه يقع في باب أضغاث الأحلام بعد أن عجزوا عن القيام بذلك. لذا نحن نتجرأ على القول بأن صاحب يوسف هذا لم يكن من بين الملأ الذين أخبرهم الملك برؤياه وإلا فكيف به سيجمع الأمر مع الملأ على أن هذا من باب أضغاث الأحلام ثم به يعود من ساعته ليتبرع بأن يأتيهم بتأويله؟ من يدري؟!!!
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
رأينا: نحن نظن أنه من الاستحالة بمكان أن يكون صاحب يوسف من بين ملأ الملك الذين سمعوا خبر الرؤيا مباشرة من الملك، وإلا لما نعت ذلك (كما فعل ملأ الملك) على أنه من باب أضغاث الأحلام ولما عاد ليتبرع بأن يأتيهم بتأويل الرؤيا.
الدليل: بَعْدَ أُمَّةٍ
نحن نجد الدليل على ذلك في الآية الكريمة نفسها في عبارة (بَعْدَ أُمَّةٍ):
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
الرأي السائد: غالبا ما سوق أهل العلم للناس الفكرة هذه العبارة (بَعْدَ أُمَّةٍ) على أنها تدل على فترة زمنية، أي بمعنى بعد فترة من الزمن. انظر ما جاء في الطبري أولا:
القول في تأويل قوله تعالى : { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } . يقول تعالى ذكره : وقال الذي نجا من القتل من صاحبي السجن اللذين استعبرا يوسف الرؤيا { وادكر } يقول : وتذكر ما كان نسي من أمر يوسف , وذكر حاجته للملك التي كان سأله عند تعبيره رؤياه أن يذكرها له بقوله : { اذكرني عند ربك } { بعد أمة } يعني بعد حين . كالذي : 14796 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن عاصم , عن أبي رزين , عن ابن عباس : { وادكر بعد أمة } قال : بعد حين - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا وكيع ; وحدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن عاصم , عن أبي رزين , عن ابن عباس , مثله . - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا الثوري , عن عاصم , عن أبي رزين , عن ابن عباس , مثله . 14797 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو بكر بن عياش : { وادكر بعد أمة } : بعد حين 14798 - حدثنا الحسن بن محمد , قال : ثنا عمرو بن محمد , قال : أخبرنا سفيان , عن عاصم , عن أبي رزين قال : { وادكر بعد أمة } قال : بعد حين - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا سفيان , عن عاصم , عن أبي رزين , عن ابن عباس مثله . - قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله : { وادكر بعد أمة } يقول : بعد حين - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { وادكر بعد أمة } قال : ذكر بعد حين 14799 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , عن الحسن : { وادكر بعد أمة } بعد حين - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة , عن الحسن , مثله . - حدثنا الحسن بن محمد , قال : ثنا عفان , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا سعيد بن أبي عروبة , عن قتادة , عن الحسن , مثله . 14800 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { وادكر بعد أمة } : بعد حين 14801 - حدثنا الحسن بن محمد , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن كثير { بعد أمة } : بعد حين . قال ابن جريج , وقال ابن عباس : { بعد أمة } قال : بعد سنين 14802 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي : { وادكر بعد أمة } قال : بعد حين 14803 - حدثني المثنى , قال : ثنا الحماني , قال : ثنا شريك , عن سماك , عن عكرمة : { وادكر بعد أمة } أي بعد حقبة من الدهر وهذا التأويل على قراءة من قرأ : { بعد أمة } بضم الألف وتشديد الميم , وهي قراءة القراء في أمصار الإسلام . وقد روي عن جماعة من المتقدمين أنهم قرءوا ذلك : " بعد أمه " بفتح الألف وتخفيف الميم وفتحها بمعنى بعد نسيان . وذكر بعضهم أن العرب تقول من ذلك : أمه الرجل يأمه أمها : إذا نسي , وكذلك تأوله من قرأ ذلك كذلك . ذكر من قال ذلك : 14804 - حدثنا الحسن بن محمد , قال : ثنا عفان , قال : ثنا همام , عن قتادة , عن عكرمة , عن ابن عباس , أنه كان يقرأ : " بعد أمه " ويفسرها : بعد نسيان - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا بهز بن أسد , عن همام , عن قتادة , عن عكرمة , عن ابن عباس أنه قرأ : " بعد أمه " يقول : بعد نسيان 14805 - حدثني أبو غسان مالك بن الخليل اليحمدي , قال : ثنا ابن أبي عدي , عن أبي هارون الغنوي , عن عكرمة أنه قرأ : " بعد أمه " والأمه : النسيان - حدثني يعقوب وابن وكيع , قالا : ثنا ابن علية , قال : ثنا أبو هارون الغنوي , عن عكرمة , مثله . - حدثنا الحسن بن محمد , قال : ثنا عبد الوهاب , قال : قال هارون , وثني أبو هارون الغنوي , عن عكرمة : " بعد أمه " : بعد نسيان - قال : ثنا عبد الوهاب , عن سعيد , عن قتادة , عن عكرمة : " وادكر بعد أمة " : بعد نسيان - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , عن ابن عباس : أي بعد نسيان 14806 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة : " وادكر بعد أمة " قال : من بعد نسيانه 14807 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو النعمان عارم , قال : ثنا حماد بن زيد , عن عبد الكريم أبي أمية المعلم , عن مجاهد , أنه قرأ : " وادكر بعد أمة " 14808 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا عمرو بن محمد , عن أبي مرزوق , عن جويبر , عن الضحاك : { وادكر بعد أمة } قال : بعد نسيان - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وادكر بعد أمة " يقول : بعد نسيان وقد ذكر فيها قراءة ثالثة , وهي ما : 14809 - حدثني به المثنى , قال : أخبرنا إسحاق , قال : ثنا عبد الله بن الزبير , عن سفيان , عن حميد , قال : قرأ مجاهد : " وادكر بعد أمه " مجزومة الميم مخففة وكأن قارئ ذلك كذلك أراد به المصدر من قولهم : أمه يأمه أمها , وتأويل هذه القراءة , نظير تأويل من فتح الألف والميم . وقوله : { أنا أنبئكم بتأويله } يقول : أنا أخبركم بتأويله . { فأرسلون } يقول : فأطلقوني أمضي لآتيكم بتأويله من عند العالم به . وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره استغناء بما ظهر عما ترك وذلك : فأرسلوه فأتى يوسف , فقال له : يا يوسف يا أيها الصديق . كما : 14810 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال : { قال الملك } للملإ حوله : { إني أرى سبع بقرات سمان } الآية , وقالوا له ما قال , وسمع " نبو " من ذلك ما سمع ومسألته عن تأويلها ; ذكر يوسف وما كان عبر له ولصاحبه وما جاء من ذلك على ما قال من قوله , قال : { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } يقول الله تعالى : { وادكر بعد أمة } : أي حقبة من الدهر , فأتاه فقال : يا يوسف إن الملك قد رأى كذا وكذا ! فقص عليه الرؤيا , فقال فيها يوسف ما ذكر الله تعالى لنا في الكتاب فجاءهم مثل فلق الصبح تأويلها , فخرج نبو من عند يوسف بما أفتاهم به من تأويل رؤيا الملك , وأخبره بما قال وقيل : إن الذي نجا منهما إنما قال : أرسلوني ; لأن السجن لم يكن في المدينة . ذكر من قال ذلك : 14811 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي : { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } قال ابن عباس : لم يكن السجن في المدينة , فانطلق الساقي إلى يوسف , فقال : { أفتنا في سبع بقرات سمان
لو تدبرت عزيز القارئ أقوال سادتنا العلماء أهل الدراية الذين جاء ذكرهم في هذا التفسير العظيم لوجدت أنهم انقسموا حول عبارة (وادكر بعد أمة) إلى رأيين:
- قال بعضهم أنها تعني بعد فترة أو حقبة من الزمن (أي بعد حين)
- وقال الآخرون أنها تعني بعد نسيان
وإذ لا نريد الدخول في الأدلة التي قد تفند ما قاله سادتنا العلماء إلا أننا نريد أن نقدم رأيا مخالفا لهم جميعا ونترك للقارئ الكريم الحكم بنفسه
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن عبارة (وادكر بعد أمة) التي جاءت في الآية الكريمة في قصة يوسف هذه تعني أن صاحب يوسف لم يتقدم ليبدي براية إلا بعد أن فعل هذا الكثيرون قبله. فالرجل لم يتبرع بتقديم الحل إلا بعد أن حاول الكثيرون من قبله لأن عبارة الأمة في النص القرآني تعني مجموعة من الناس (بمعناها الدقيق):
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)
وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (66)
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34)
قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38)
وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47)
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (8)
مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (89)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ ۖ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ۚ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ۚ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (44)
وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ۖ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22)
وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23)
وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
السؤال: كم مرة إذن وردت مفردة الأمة في كتاب الله؟ هل جاءت بمعنى الفترة الزمنية أم بمعنى مجموعة من الناس؟
رأينا: نحن نظن أن مفردة الأمة لا تعني إلا المجموعة من الناس الذين يجتمعون معا على أمر ما.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن صاحب يوسف قد ادكر بعد أمة لأنه لم يكن أول من تبرع بإيجاد التأويل لرؤيا الملك، فقد فعل قبله الكثيرون وفشلوا في التوصل إلى الحل الأمثل لتأويل تلك الرؤيا. وما جاء إدكار هذا الرجل إلا بعد أن فعل ذلك قبله أمة من الناس.
السؤال: كيف حصل الأمر إذن؟
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أن الملك قام بإخبار ملئه بالرؤيا، ولم يكن صاحب يوسف هذا (طليق السجن) من بين الملأ حينئذ. فانفضّ مجلس الملك بما قاله الملأ لهم:
قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44)
ولكن الخبر لم يتوقف عند انتهاء اجتماع الملك بملئه في ساعته، فقد أخذ الملأ (وهم الدائرة الأولى من حول الملك) رؤيا الملك (الرب الأول) وخرجوا بها من عنده، ولم يكف البعض منهم عن البحث عن إجابة لها علّ ذلك يجلب له بعض الخير عند الملك. فمن سيستطيع أن يحل مشكلة تؤرق الملك نفسه؟ ألن يكون ذا شأن عنده؟ لعلي أظن أن هذا ما كان يدور في ذهن الكثير منهم وهو يخرجون من مجلس الملك.
ولما كان الملأ من حول الملك هم أرباب متفرقون على من هم تحتهم، وهكذا. يأخذ هؤلاء بالبحث عن حل لمشكلة الملك في دوائرهم، وهنا تأتي المفاجأة الكبرى في الحلقة الثانية من دوائر الحكم (الأرباب المتفرقون)، فهنا (نحن نفتري الظن) كان صاحب يوسف السجن متواجدا. فيخبر من حوله بأنه قادر على أن ينبئهم بتأويله (الضمير الغائب الذي يعود على رؤيا الملك)، وما عليهم إلا أن يرسلوه.
السؤال: إلى أين سيرسلونه؟
جواب: إلى السجن حيث يقبع يوسف.
السؤال: لماذا يطلب منهم أن يرسلوه؟ لِم لم يذهب لوحده؟
جواب: إنه يحتاج إلى الإذن لكي يستطيع الدخول عند يوسف في السجن وسؤاله.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نتخيل أنه لو كان صاحب يوسف ذا سلطة حينها تمكنه من دخول السجن وسؤال يوسف لما طلب (نحن نظن) ممن حوله أن يرسلوه ولربما ذهب لوحده، ولكن لمّا لم يكن هذا الرجل (نحن نتخيل) ذا سلطة تمكنه حينها من دخول السجن والحديث مع يوسف طلب ممن حوله أن يرسلوه لكي يأتيهم بتأويل الرؤيا:
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
السؤال: لماذا حصلت الأمور على هذه الشاكلة؟
جواب مفترى: ليحتفظ يوسف بحقوق الملكية الفكرية في التأويل، فلا يستطيع أحد أن ينسب لنفسه الفضل في تأويل رؤيا الملك، ولكن كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أنه لو أن أحدا من الملأ قام بذلك مباشرة لربما جاء بالخبر من عند يوسف ونسب ذلك الفضل بعد ذلك إلى نفسه، ولربما استطاع أن يتكتم على يوسف وإلى الأبد لكي ينسب الفضل في ذلك لنفسه كما يفعل ملأ السلطان في العادة. فعندما يحصل بعضهم على معلومة بطريقة ما غالبا ما يتكتم على مصدرها إن هو استطاع إلى ذلك سبيلا، فلا يتردد بأن ينسبها لنفسه مادام أن أحدا لا يستطيع إثبات ملكيتها الفكرية. ولكن لمّا أصبح الخبر يشترك فيه كثير من الناس، لم يعد ممكنا سلب صاحب الفكرة (وهو يوسف) حقوقه الملكية الفكرية، وذلك لأنه أصبح لزاما أن يشيع بين الناس من هو صاحب الفضل الحقيقي في ذلك. فلو قام أحدهم فنسب الفكرة إلى نفسه، لقام الآخرون بالتصدي له. فملأ الملك مثلا لا يعلمون أن هناك شخص في السجن يستطيع تأويل الرؤيا، وصاحب يوسف نفسه لا يستطيع الدخول إلى السجن والتحدث معه إلا بإذن منهم، عندها أصبح إرجاع حق الملكية الفكرية إلى صاحبه الحقيقي أمرا لا مفر منه.
نتيجة: لا يستطيع أحد من الملأ أن ينسب الفضل في تفسير رؤيا الملك لنفسه، ولا صاحب يوسف أن يدعي ذلك دون الدخول إلى السجن بأمر من الملأ، فما استطاع أحد أن يسرق حق الملكية الفكرية الحصرية ليوسف صاحب التأويل.
خروج عن النص في استراحة قصيرة: ألم يعمد الكثيرون من "ملأ السلطان" إلى سرقة "عقول" الآخرين مادام أن محطات التلفزة ومنصات الإعلام المختلفة لا تُسْمِع الناسَ إلا صوتَهم. فكم ممن جلسوا على كرسي الإدارة (ربما دون وجه حق) قد سرق الأفكار ممن هم حوله من المستضعفين في الأرض ليخرج على الناس متغنيا بأن هذا نتاج جهده الذهني الخارق!!! ألم يفعل ذلك حتى صغار القوم الذين يجدون المعلومة في مصدر ما ثم ما يترددون أن ينقلوها للناس على أنها من بنات أفكارهم؟ فأبحث عزيزي القارئ في الشبكة العنكبوتية وخاصة عند أهل الدين في منتديات التواصل الاجتماعي وانظر في الأفكار التي أصبحت مثار بحث والأسئلة التي غدت تطرح ثم انظر هل تجد أحد ينسب هذه الأفكار وهذه الأسئلة إلى أصحابها الحقيقيين؟ من يدري!!!
إن أبسط ما يمكن أن نقوله لكل هؤلاء "اللصوص" هو أنكم إن استطعتم أن تخدعوا العباد في ذلك فلن تستطيعوا أن تخدعوا رب العباد لأنه هو من يعرف الدافع الحقيقي لثمن الأضحية التي ذبحتموها على الملأ باسمكم الموقر وانتم الذين لم تدفعوا فلسا واحدا من ثمنها. فإن كنتم أخذتم الأجر من الناس، فإن المالك الحقيقي هو من ينتظر ليأخذ الأجر من رب الناس. وأنا مالي، هو في حدا سرق مني إشي، من يدري!!!
إن ما يهمنا قوله هنا بخصوص قصة يوسف هو أن صاحب يوسف السجن لم يكن من ضمن الدائرة الأولى حول الملك، فهو لم يكن من ملأ الملك، فلم يكن الملك هو ربه المباشر. ولكنه كان من ضمن الدوائر الأخرى التي تأتي بعد الملك، فكان ربه الآن من بين الأرباب المتفرقون (الملأ) كما ذكرهم يوسف بنفسه عندما كانوا لازالوا يقبعون في السجن جميعا:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
فالرجل (نحن نظن) لم يكن يستطيع الوصول إلى يوسف في السجن إلا بعد أن يُعطى الإذن بذلك ممن هم من حوله. ولما أُذن له، ذهب بالفعل إلى يوسف وقصّ عليه خبر رؤيا الملك ليعود بالخبر اليقين من عنده، لينتهي ذلك إلى علم الناس جميعا حينئذ:
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
وبالفعل رجع صاحب يوسف إلى الناس (وليس إلى الملك)، فعلم الناس التأويل الحقيقي لخبر الرؤيا التي اجتاحت المملكة بأسرها وعجز عن تأويلها ملأ الملك جميعا. ولعلي أجزم أن السؤال الذي كان يتردد حينها على لسان الناس جميعا (بمن فيهم الملك والملأ أنفسهم) هو: من صاحب هذا التأويل؟ أي من الذي استطاع القيام بذلك؟
جواب مفترى: نحن نظن أنه لم يكن ليجرؤ أحدٌ من "لصوص الأفكار" (بغض النظر عن منصبه ومكانته) أن ينسب الفضل في ذلك لنفسه أو لمن يريد. فلهجت ألسن الناس جميعا باسم شخص واحد هو صاحب حق "الملكية الفكرية" في التأويل وهو ذاك السجين الذي يقبع في السجن منذ سنين:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
فكانت ردة فعل الملك حينها على النحو التالي:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ...
نعم، لقد طلب الملك بنفسه أن يؤتوه به على الفور، فبعث رسوله (وليس صاحب يوسف نفسه) ليحضر يوسف إلى بلاط الملك:
... فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ...
فما كان من يوسف إلا أن يتمنّع عن الحضور، راهنا حضوره مجلس الملك بتبرئته من التهمة المنسوبة إليه والتي كلفته بضع سنين في السجن بالإضافة إلى سمعته التي لوّثتها أكاذيب المتربصين به:
... قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
ولو دققنا في النص جيدا لوجدنا أن هناك دليلا ربما يصدق ظننا هذا وهو أن الذي بعثه الملك لإحضار يوسف إلى بلاطه لم يكن صاحبه السجن الذي جاء يوسف يطلب منه تأويل الرؤيا ورجع إلى الناس بها. انظر الآية الكريمة مرة أخرى:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
فالذي جاء يوسف ليحضره إلى بلاط الملك هو "الرسول"، فطلب منه يوسف أن يرجع إلى ربه وهو الملك نفسه (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) ليسأله عن النسوة اللاتي قطّعن أيديهن (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، محملا رسول الملك رسالة واضحة جدا للملك نفسه وهي (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).
السؤال المهم جدا جدا: لماذا طلب يوسف من الملك تحري أمر النسوة اللاتي قطعن أيدهن مخبرا إياه في الوقت ذاته بأن ذلك كان من باب كيدهن (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)، انظر عزيزي القارئ الآية الكريمة جيدا:
... قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
السؤال: كيف بيوسف أن يخبر الملك بأن ذاك كان من باب كيد النسوة والملك لم يبدأ التحقيق بالأمر بعد؟ لم لم يترك الأمر للملك ليتوصل إلى هذه النتيجة بنفسه؟ ولم استخدم هذه العبارة (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) على وجه التحديد؟
جواب مفترى مهم جدا جدا: دعنا نسترجع شريط المعلومات إلى الوراء لننظر من قال هذه العبارة في السابق. أليس سيد المرأة الذي ألفياه لدى الباب هو من قال هذه العبارة قديما؟
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
السؤال: ألم يكن سيد المرأة هو من قال هذه العبارة بعد أن تبين له أن يوسف بريء من التهمة التي كانت المرأة التي راودته عن نفسه إلصاقها به، ألم يتوصل سيدها بعد أن رءا قميصه قَد قُدّ من دبر أنها هي (أي امرأة العزيز) المذنبة التي راودت يوسف عن نفسه؟
السؤال: ما الذي فعله يوسف عندما قال لرسول الملك (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)؟ ما هي الرسالة التي أوصلها يوسف للملك إذن؟
جواب: لقد ذكر يوسف الملك بكلامه هو عندما كان لازال سيدا (ولي للعهد)، ليستذكر الحادثة بأكملها. وأن هذا السجين صاحب التأويل هو نفسه ذاك الفتى الذي تحقق الملك (يوم كان سيد) بنفسه بأنه بريء من التهمة التي نسبت إليه.
نتيجة مفتراة: لقد أعاد يوسف إلى ذهن الملك الجديد شريط الأحداث التي حصلت قبل بضع حسنين إلى ذاكرته كاملة.
السؤال: كيف كانت ردة الفعل عند الملك؟
لقد أمر الملك على الفور حضور النسوة اللاتي قطعن أيديهن جميعا إلى مجلسه، ليتحقق بنفسه مما حصل:
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
السؤال: لماذا لم تستطع أحد من النسوة أن تنكر علاقتها بقصة يوسف؟
جواب: لأنّ أيديهن كانت مقطّعة، فالعلامة بارزة في يد كل من اشتركت في مراودة يوسف عن نفسه
السؤال: لماذا تبرعت امرأة العزيز بالاعتراف بالرغم أن الخطاب لم يوجه لها وبالرغم أن يدها لم تكن مقطوعة؟
جواب: لأن الحق في تلك اللحظة قد حصحص:
... قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
وهنا نتوقف عند جزئية غاية في الأهمية وهي قول امرأة العزيز في خطابها هذا عبارة "وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ"، فما الرسالة التي كانت تنوي أن توصلها إلى الملك؟
جواب: لنعيد شريط الأحداث مرة أخرى ونستذكر متى جاءت هذه العبارة أول مرة في قصة يوسف:
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27)
السؤال: من الذي جاء بهذه الرسالة؟ أليس هو سيدها نفسه عندما ذهب يبحث عن الدليل ليفض الخلاف بين امرأة العزيز (أخته) وفتاها في تلك الحادثة الشهيرة؟
السؤال: ما الذي حصل للملك في تلك اللحظة؟ وما الرسالة التي أوصلتها امرأة العزيز للملك حينئذ؟
جواب مفترى: في تلك اللحظة انتزع الملك اعترافا شفهيا من أخته بأنها هي من راودت الفتى عن نفسه وأنه هو من كان صادقا وهي من كانت كاذبة. فالمرأة ذكرت الملك بذاك الموقف الذي كان يبحث فيه عن الصادق في القول وعن الكاذب في القول (أهو يوسف أم أخته)، وها هي المرأة الآن تعترف بملء فيها أنه هو من كان من الصادقين (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ):
... قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
فقد حصص الحق رغما عنها.
السؤال: ماذا أدرك الملك على الفور؟
جواب: لقد أدرك الملك أن ذاك الشخص هو يوسف نفسه الذي كان قد طلب منه عندما كان لازال سيدا أن يعرض عن هذا. انظر السياق القرآني الأوسع:
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
السؤال: ماذا فعل الملك بعد ذلك؟
جواب: لم يكن الملك إلاّ أن يطلب من يوسف الحضور إليه ليستخلصه لنفسه:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
فالملك يطلب من يوسف القدوم إليه ليستخلصه لنفسه. فكيف حصل ذلك؟
جواب مفترى: حضر يوسف إلى مجلس الملك، فخرج كل الحاضرين، وحصل خطاب بينهما على انفراد.
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الجواب متوافر في الآية الكريمة التالية (كما نفهمها بالطبع):
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
بداية نحن نظن أن حصول الكلام كان عن قرب، فمن كلم غيره فلا شك أنه قد حصل بينهما قرب، كما حصل مثلا في حالة موسى عندما كلمه ربه:
وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
ونحن نظن أنه بسبب ذلك التكليم حصل تقريب لموسى إلى ربه:
وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
ولكن المفارقة في حالة موسى أنه الكلام كان تكليما:
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
فجرى الخطاب في حالة موسى مع ربه بطريق القول:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
ورد القول:
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
وكان القرار الإلهي هو أن يصطنع موسى لنفسه:
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
ولكن قرار الملك هنا كان على نحو أن يستخلص يوسف لنفسه:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
تخيلات من عند أنفسنا: عندما جيئ بيوسف إلى الملك، تم إخلاء المجلس تماما من كل من كان حاضرا، فحصل كلام من يوسف مع الملك، فكان الملك هو من يستمع وكان يوسف هو من يتحدث، فاستطاع يوسف أن يخبر الملك بكل تفاصيل حياته منذ ولادته في بلاد البدو حتى يومه هذا، وأخبره بكل الأحداث التي مرّ بها، كما نظن جازمين أنه قد أخبره بعقيدته التي يؤمن بها وخاصة أنه لا يتخذ ربا من دون الله حتى وإن كان الملك نفسه، فلا أظن أن يوسف سيتردد بأن يعيد على مسامع الملك ما قاله لصاحبيه السجن سابقا:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40)
فإن وافق الملك (نحن نتخيل) على هذه الشروط يقبل يوسف بأن يستخلصه لنفسه وإلاّ ذهب كل واحد منه في طريق غير طريق الآخر. فمن غير المتوقع أن يقبل يوسف بالعمل عند الملك ومن غير المتوقع أن يطلب يوسف من الملك بنفسه أن يجعله على خزائن الأرض إذا اشترط عليه الملك أن يكون ربه:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
عندها وافق الملك على شروط يوسف فاستخلصه لنفسه.
السؤال: كيف استخلص الملك يوسف لنفسه؟
جواب: أن جعله عزيزا كما يرشدنا إلى ذلك ما قاله إخوته يوم أن جاءوه طالبين المعونة:
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
تضارب واضح: لو دققنا في ما حصل مع يوسف بخصوص عمله عند الملك لوجدنا أنه قد طلب بنفسه أن يكون على خزائن الأرض، أليس كذلك؟
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
ولو دققنا فيما قاله إخوته لوجدنا أن يوسف قد أصبح العزيز:
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
السؤال: ماذا كانت وظيفة يوسف عند الملك؟ هل كان قائما على خزائن الأرض أم كان عزيزا؟
الرأي السائد: غالبا ما سوق أهل العلم الأمر للناس على أنها هي الوظيفة نفسها، فمن كان قائما على خزائن الأرض فهو (هم يظنون) عزيز مصر.
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نرفض هذا الفهم جملة وتفصيلا، فالعزيز هو عزيز والقائم على خزائن الأرض هو قائم على خزائنها ولا يجب الخلط بين الاثنين.
السؤال: وما الفرق؟
جواب: نحن نظن أن العزيز هي وظيفة اجتماعية مكتسبة ولكن القيام على خزائن الأرض هي وظيفة إدارية متحصلة.
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب: دعنا نطرح الفكرة على النحو التالي: ماذا كانت وظيفة يوسف الرسمية في الدولة؟
جواب: لقد كان متوليا أمر خزائن الأرض، فهو الذي طلب ذلك من الملك شخصيا:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
السؤال: لماذا كان عزيزا إذن إن صح ما تقوله؟
جواب: لأن الملك استخلصه لنفسه؟
سؤال: وكيف ذلك؟
جواب: لأن الملك قد قرب يوسف إليه عن طريق المصاهرة.
نتيجة: لقد كان في أرض مصر حينئذ عزيزان، وهما:
- زوج المرأة التي راودت يوسف عن نفسه عندما كان في بيتها
- يوسف نفسه
السؤال: من هو العزيز إذن؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لقد تحدثنا في مقالة سابقة لنا في قصة يوسف عن المسميات الثلاثة التي وردت في قصة يوسف وهي:
- الملك
- السيد
- العزيز
وزعمنا أن الملك هو رأس الدولة، وأن السيد هو ولي العهد، وأن العزيز هو من تقرب من الملك بالمصاهرة أي بزواج أحد بناته أو أخواته، فاكتسب المكانة الاجتماعية اكتسابا.
السؤال: وكيف تزوج يوسف من فتيات الملك؟
جواب مفترى: نحن نرفض جملة وتفصيلا تخاريف يهود التي دخلت إلى عقيدتنا على ألسنة أهل الدراية من أبناء الإسلام الذين غالبا ما روجوا للفكرة الشعبية أن امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه قد عادت إلى جمالها السابق بعد خروج يوسف من السجن، وتزوجت به أن أصبح مقربا من الملك كما راج ذلك في المخيال الشعبي. وقد حاول بعض سادتنا العلماء أهل الدراية ليّ عنق النص التالي ليتلاءم مع تصوراتهم:
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
السؤال: كيف بامرأة العزيز تنفي عن نفسها خيانة؟ ومن هو الذي لم تخنه بالغيب؟ وهل كانت هي امرأة يوسف حتى تتحدث عن خيانته؟ وأين كان يوسف في ذلك الوقت؟ ألم يكن قابعا في السجن؟ ثم ألم تكن هي على ذمة رجل آخر وهو زوجها العزيز؟ أم هل كان زوجها (كما ظنوا) في عداد الأموات؟
السؤال المحوري: كيف بسادتنا العلماء أهل الدراية ينسبون الضمير في قولها (لَمْ أَخُنْهُ) إلى يوسف. أنظر ما جاء في الطبري أولا:
القول في تأويل قوله تعالى : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } يعني بقوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } هذا الفعل الذي فعلته من ردي رسول الملك إليه , وتركي إجابته والخروج إليه , ومسألتي إياه أن يسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن , عن شأنهن إذ قطعن أيديهن , إنما فعلته ليعلم أني لم أخنه في زوجته بالغيب : يقول : لم أركب منها فاحشة في حال غيبته عني . وإذا لم يركب ذلك بمغيبه , فهو في حال مشهده إياه أحرى أن يكون بعيدا عن ركوبه . كما : 14846 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : يقول يوسف : { ذلك ليعلم } إطفير سيده , { أني لم أخنه بالغيب } أني لم أكن لأخالفه إلى أهله من حيث لا يعلمه 14847 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } يوسف يقوله - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } يوسف يقوله : لم أخن سيدي - قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا عبد الله , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال يوسف يقوله 14848 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال : هذا قول يوسف 14849 - حدثني المثنى , قال : ثنا عمرو بن عون , قال : ثنا هشيم , عن إسماعيل بن سالم , عن أبي صالح , في قوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } هو يوسف يقول : لم أخن الملك بالغيب وقوله : { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } يقول : فعلت ذلك ليعلم سيدي أني لم أخنه بالغيب , وأن الله لا يهدي كيد الخائنين : يقول : وأن الله لا يسدد صنيع من خان الأمانات , ولا يرشد فعالهم في خيانتهموها . واتصل قوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } بقول امرأة العزيز : { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } لمعرفة السامعين لمعناه , كاتصال قول الله تعالى : { وكذلك يفعلون } بقول المرأة : { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } , وذلك أن قوله : { وكذلك يفعلون } خبر مبتدإ , وكذلك قول فرعون لأصحابه في سورة الأعراف : { فماذا تأمرون } وهو متصل بقول الملأ : { يريد أن يخرجكم من أرضكم }
إن أغرب ما في هذا التفسير هو أن البعض من أهل الدراية قد جعل ذلك من قول يوسف، فهم يظنون أن هذه العبارة قد جاءت على لسان يوسف؟ ونحن نستغرب ذلك أشد الاستغراب وذلك لأن هذا الحديث قد جرى في مجلس الملك عندما كان يوسف لازال قابعا في السجن. فالسياق القرآني يتحدث عن ما دار في بلاط الملك بعد أن جمع النسوة وقبل أن يأتي يوسف، انظر الآية الكريمة في سياقها الأوسع
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
السؤال: إذا كان هذا ما قيل في بلاط الملك قبل أن يأمر الملك بأن يأتوه بيوسف ليستخلصه لنفسه، فكيف بسادتنا العلماء أهل الدراية ينسبون هذا القول إلى يوسف؟ من يدري؟!!!
وكيف ببعضهم الآخر ينسب هذا القول إلى امرأة العزيز نفسها ولكنه يظن أنها تتحدث هنا عن عدم خيانتها ليوسف؟ فهل كانت المرأة تحت يوسف (كزوج لها) لتتحدث عن خيانته كما حصل في حالة نوح ولوط؟
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن من قال هذه العبارة هي امرأة العزيز نفسها وهي تنفي هنا خيانتها لزوجها الحقيقي وليس ليوسف
الدليل
السؤال: من الذي قال هذه العبارة (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) في الآية الكريمة:
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ
جواب: امرأة العزيز؟
السؤال: وعلى من يعود الضمير في قولها (لَمْ أَخُنْهُ)؟
جواب: على زوجها العزيز نفسه وليس على فتاها يوسف
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب مفترى: نحن نفتري الظن بأننا نجد الدليل في الآية العبارة نفسها:
لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب" مفترى: أظن أن الدليل موجود في مفردة "بِالْغَيْبِ" على وجه التحديد.
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب مفترى: نحن نفتري القول بأنه حينما راودت امرأة العزيز فتاها عن نفسه لم يكن زوجها (العزيز نفسه) لم يكن موجودا في البلاد، وإنه كان خارج البلاد حينئذ، فكان غائبا، فلم تحدث خيانة من قبل امرأة العزيز لزوجها في الغيب (أي عندما كان يغيب عن البيت)، لذا نحن نطرح تصورنا المفترى للقصة وقد حصلت على أرض الواقع على النحو التالي:
نحن نتخيل أن امرأة العزيز كانت متزوجة من رجل أصبح يسمى بالعزيز الذي اكتسب هذه المكانة الاجتماعية بسبب مصاهرته للملك. ونحن نتخيل أن هذا الرجل لم يكن موجودا في المملكة عندما حصلت مراودة امرأته لفتاها عن نفسه، وذلك لأن زوجها (الذي كان عزيزا بالمصاهرة) كانت له وظيفة رسمية في الدولة. وكانت وظيفته (نحن نتخيل) تتطلب منه الخروج من المملكة لبعض الوقت، فكان يغيب عن زوجته فترة من الزمن بين الحين والآخر، وأظن (أقول أظن) أن الرجل كان يلبس الزي العسكري الذي كان يتطلب منه أن يخرج ليدافع عن حدود الدولة، فكانت وظيفته الإدارية أنه قائد جند ولكن وظيفته الاجتماعية أنه عزيز. فكان يتطلب منه الذهاب في حملات عسكرية تستمر فترة من الزمن خارج المكان الذي تتواجد فيه امرأته، فكان يغيب عنها فترة من الزمن:
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ
وما أن عاد الرجل إلى البلاد (نحن نتخيل) بعد واحدة من حملاته العسكرية حتى وجد أن الكلام (القيل والقال) قد كثر في البلاد حول خبر مراودة امرأته لفتاها عن نفسه، ولكنه لم يكن يستطيع التثبت من الأمر لأن الكلام لم يكن يخص امرأته فقط وإنما نسوة في المدينة كثيرات. والأهم من ذلك هو أنه في حين أن امرأة العزيز لم تكن مقطوعة اليد، كانت النسوة الأخريات مقطعات الأيدي، فلم يتمكن الرجل من الوصول إلى الدليل المادي على تورط امرأته مع فتاها في خيانة فعلية وإن كان شعوره الداخلي لا يستطيع أن ينكره، فبقي الرجل (زوج المرأة) محتارا في أمر زوجته لا يستطيع أن يقطع شكه باليقين خصوصا أن إنكار المرأة نفسها كان الحاجز الأكبر الذي صرفه عن الوصول إلى الحقيقة، وما حصص الحق إلا في ذلك اللقاء الشهير يوم أن جمع الملك النسوة بنفسه ليتحقق من الأمر. ولما لم يعد بمقدور امرأة العزيز أن تتكتم على الحقيقة بعد ذلك اليوم، خرج الحق رغما عنها، فكان خروجه حصحصة:
... قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)
فلو كانت المرأة تستطيع كتمانه أكثر من ذلك لربما فعلت، ولكن لم يعد بمقدورها فعل ذلك، فاعترفت رغما عنها بذنبها، وصدّقت رواية يوسف الأولى بأنها هي من راودته عن نفسه وأنه هو من الصادقين. وأردفت ذلك بالقول:
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)
ويكأن لسان حالها يقول (كما نفهمه بالطبع) أنني قد راودته فعلا عن نفسي، ولكن الخيانة الفعلية لزوجي (وهو العزيز) لم تحصل إطلاقا في غيابه، وهي تعترف بذلك بملء فيها وتضيف قائلة بأن هذا الكلام لا يخرجني من المسؤولية الكاملة:
وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
فهي لا تطلب البراءة لنفسها وذلك لأن النفس أمارة بالسوء باستثناء من رحم ربي ولم تكن هي واحدة من أولئك (كيوسف مثلا).
نتيجة: كان زوج المرأة التي راودت يوسف عن نفسه هو عزيزا لأنه كان مصاهرا للملك، ولكن الرجل كان له وظيفة رسمية بالدولة تتطلب منه الغياب فترة من الزمن عن بيته وعن امرأته، وأظن مفتريا القول من عند نفسي أنه كان قائدا للجيش الذي يخرج للدفاع عن البلاد من الأخطار التي كانت تتهدده من الخارج.
السؤال: وماذا كانت وظيفة يوسف في بلاط الملك إذا كان يوسف نفسه قد أصبح أيضا عزيزا بمصاهرته للملك في واحدة من بناته أو أخواته الأخريات؟
جواب: لقد كان وزيرا للخزانة، وذلك بطلب منه:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
السؤال: لماذا طلب يوسف ذلك من الملك؟ هل بحث يوسف لنفسه عن منصب في تلك البلاد؟ هل كان يوسف يطمح بالوصول إلى السلطة؟
للإجابة على هذه التساؤلات نجد لزاما في البداية أن نطرح التساؤل التالي: لماذا طلب يوسف بنفسه تلك الوظيفة؟ لماذا طلب يوسف بنفسه أن يكون على خزائن الأرض على وجه التحديد؟
جواب: لأنه حفيظ عليم
رأينا: لقد برر يوسف طلبه من الملك بأن يجعله على خزائن الأرض لسببين، وهما:
- أنه حفيظ
- أنه عليم
السؤال: لماذا شهد يوسف لنفسه بالحفظ حتى يسند إليه ذلك المنصب؟ ولماذا شهد لنفسه بالعلم حتى يسند إليه ذلك المنصب؟
جواب: لأن ذلك المنصب يتطلب أن يكون من يتولاه حفيظا وعليما
السؤال: ولماذا طلب يوسف أن يتولاه بنفسه. وكيف بيوسف يشهد لنفسه بالحفظ والعلم؟ ألم يسمع يوسف بمقولة شيخنا الجليل (وأظن أنه يسمى ابن المبارك) أن من شهد لنفسه بالعلم فقد جهل؟ فما بالك يا يوسف تشهد لنفسك بالعلم؟ وما بال رشيد الجراح (هذا الجاهل) مثلا يكرر في مقالاته أنه أكثر الناس علما؟ ألا يكفي ذلك دليلا على جهله؟!
رأينا: أبرأ إلى الله مما كذبوه عليه، وأشهد أن يوسف كان عليما، وأسأل الله وحده أن يعلمني من لدنّه علما، فأكون ممن يشهدون لأنفسهم بأنه عليما – آمين.
جواب مفترى: نحن نعتقد أن يوسف قد طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لأن ذلك المنصب كان شاغرا، فلم يكن أحد يشغله في تلك اللحظة.
الدليل
نحن نظن أنه ليس من أخلاق يوسف أن يطلب من الملك أن يشغل وظيفة ما في الدولة لو أن ذلك المنصب كان يشغله غيره، فيوسف ليس من الذين يتصيّدون في الماء العكر، ليطيحوا بغيرهم في كل فرصة تتاح لهم ليجلسوا على الكرسي حيث كان يجلس "خصمهم"، أو لنقل تجاوزا "منافسهم" كما يفعل أصحاب المناصب الإدارية والسياسية في بلاد الإسلام والمسلمين.
نحن نظن أن يوسف كان يعلم يقينا أن ذلك الكرسي (خزائن الأرض) لم يكن يجلس عليه أحد في ذلك الوقت حتى يعمل على إزاحته عن.
السؤال: لماذا كان هذا المنصب شاغرا؟
جواب: نحن نفتري الظن أن هذا المنصب كان شاغرا لأن هذا المنصب هو الذي كان يشغله صاحبه الآخر في السجن الذي قضت المحكمة عليه بالصلب حتى تأكل الطير من رأسه:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
تخيلات من عند أنفسنا: لما كان صاحب يوسف السجن ذاك غير أمين على أموال الدولة، ولما كان هو من تآمر على الملك، اتخذت المحكمة القرار الذي يستحق. فتم صلبه حتى أكلت الطير من رأسه. وعندما وصل الملك الجديد إلى سدة الحكم ربط ذلك المنصب به شخصيا، حتى يحافظ على أموال الناس، وبقي الأمر كذلك حتى خرج يوسف من السجن وكلّم الملك. ولما كان يوسف يعلم حجم الأعباء التي تراكمت على الملك من جراء توليه ذلك الشأن بالإضافة إلى مسؤولياته الأخرى، اختار يوسف أن يساعد الملك (العادل) على تحمل أعباء الدولة. فطلب من الملك أن يسند إليه هذا المنصب، وعلّل ذلك بأنه حفيظ (على عكس صاحبه السجن الذي خان الأمانة) وزاد على ذلك بالعلم:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
لذا نحن نتجرأ على افتراء القول بأنه من أُوكلت إليه هذه المهمة سابقا (وهو صاحبه الآخر في السجن) لم يكن حفيظا، فقد فرّط في أموال الدولة، ولم يكن عليما لأن سجلاته المالية لم تكن موثّقة تماما (وسنرى ما فعله يوسف بهذا الصدد في سنين القحط وتصريف أمور الدولة لاحقا إن أذن الله لنا بشيء من علمه). فطلب يوسف من الملك أن يسند إليه تلك المهمة مادام أنه سيحافظ عليها، ومادام أن لديه العلم في تصريف أمورها بالطريقة التي تكفل للناس حقوقها وللدولة تسيير شؤونها بأحسن حال. فكان نجاحه باهرا في زمن الأزمة التي حلّت بالبلاد يوم أصابها القحط.
والله أعلم
هذه افتراءات كثيرة هي بلا شك من عند أنفسنا، فما صدق منها فذاك لأنها الحق من عند ربنا، وما كذب منها فتلك من عند أنفسنا نبرأ إلى الله منها، ونعوذ به أن نفتري عليه الكذب عن علم، وبها نصل إلى نهاية الشطر الأول من قصة يوسف عندما حصل له التمكين في أرض مصر:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57)
لنكمل الحديث في الأجزاء القادمة من هذه المقالة (بحول الله وتوفيق منه) عن الشطر الثاني من القصة حيث تعود قصته مع أهله الذين فرطوا به يوم أن قدموا أرض مصر طالبين المعونة:
وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58)
فالله وحده أسأل أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يهدينا رشدنا، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمّه ولو كره الكافرون، فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو العليم الحكيم – آمين.
والله أعلم
دعاء: رب أسألك أن تأذن لي الإحاطة بما لم تأذن لغيري الإحاطة به من علمك، فأسألك أن تعلّمني ما لم أكن أعلم، وأعوذ بك أن أفتري عليك الكذب عن علم، إنك أنت السميع المجيب – آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
3 أذار 2014