هل كان موسى ساحرا؟
فالتسا ؤل الذي نثيره هو: هل نؤمن نحن المسلمين بأنّ موسى مثلاً قد شق البحر بالعصا؟
أو أن عصاه قد انقلبت إلى أفعى تأكل عصيّهم وحبالهم؟ وإذا كان الجواب – بلا شك – بالإيجاب، فكيف نستطيع تفسير ذلك
باستخدام الطريقة العلمية في البحث؟!
قد يرد البعض علينا قائلا بأنّ تلك معجزة.
فنرد قائلين وهل يعني ذلك أنّها غير قابلة للتفسير؟ وإذا كان كذلك، فلِمَ لَمْ يدعونا الله سبحانه للإيمان بذلك فقط دونما تدبر أو تفكير؟ وبكلمات أخرى لِمَ جاءت دعوة الله لنا بإعمال العقل (التفكر والتدبر) في كل "ما يسمى معجزة" وردت في القرآن
الكريم؟ فكيف يطلب الله منا التفكير في شيء لا يمكن تفسيره أصلاً؟ وإذا كانت هي فعلاً معجزة فلم يخبرنا
الله بها ونحن الذين لم نراها بأم أعيننا؟ وماذا سيفيدنا إنْ نحن علمنا بها أو لم نعلم؟ فلقد أخبر الله في كتابه
الكريم عن العديد من الرسل ولم يخبر عن الآيات التي قدّ موها لأقوامهم بشيء من التفصيل؟ إنّ مرادنا هنا هو:
لِمَ يفصّل الله بعض آياته في كتابه الكريم؟
رأينا: لقد حان الوقت أنْ ننظر إلى هذه الأمور من زاوية أخرى، وقد تناولنا هذا الاقتراح بشيء من التفصيل في مقالات أخرى سابقة، ولكننا نظن أننا قد نحتاج أن نقدم هنا مثالاً واحد لتبرير ما نزعم أنه الحق من منظورنا فقط، فهو بلا شك لا يمثل الحق بعينه وإنما هو حق كما نراه نحن، لذا نرجو أن لا يؤخذ على محمل غير أنه رأي يمكن أن يثبت صحته أو خطأه. ومثالنا هنا هو عصا موسى.
إنّ السؤال الذي نحاول أن لا نغفل عنه عن قصد (كما فعل الكثيرون) هو: ما الفرق بين ما فعله موسى وما
كان يفعله سحرة فرعون؟ ألم يلقي موسى عصاه كما ألقوا هم حبالهم وعصيهم؟ ألم تنقلب عصا موسى حية تسعى
كما تحولت حبالهم وعصيهم؟ ألم تقهر عصا موسى حبال السحرة وعصيهم؟ فما الفرق؟ لماذا ننظر إلى ما
فعله السحرة على أنه السحر، ولا نتقبل فكرة أنّ ما جاء به موسى هو من باب السحر كذلك؟ فمن أراد أن
يجادل فعليه أن يقدم جواباً على التساؤل المشروع التالي: ما الفرق بين السحر الذي جاء به السحرة "وذاك
الشيء" الذي جاء به موسى (إن لم يكن أصلاً سحرا أكبر من سحرهم كما صور ذلك فرعون نفسه)؟
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ ◌ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ◌ۖ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
( خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ طه (71)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ ◌ۚ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ◌ۖ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
( وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( 49
لا، لا، لا، لم يكن موسى ساحرا، ما الذي تقول يا رجل؟ اتق الله.
أقول: إن لم يكن ما جاء به موسى سحرا، فما هو؟ وكيف يختلف عن سحرهم؟ فما الفرق بين ما جاء به
موسى وما جاء به سحرة فرعون؟ كيف نستطيع أن نبرهن لغيرنا (إن لم يكن لأنفسنا أولا ) أن موسى لم يكن
يستخدم أدوات السحر، ولم يكن ما قام به من باب السحر؟
تفنيد الفكر السائد
لقد تداول الفكر الإسلامي عبر قرون من الزمن فكرة مفادها أن قوم فرعون كانوا بارعين بالسحر لذا جاءت
معجزة موسى (كما يرغبوا هم أن يسموها) من هذا القبيل، لكن ألا ترى - عزيزي القارئ- أن في هذا التفسير
اتهاماً مبطّناً على أن ما جاء به موسى كان من نفس صنعة السحرة؟
رأينا المفترى: نحن نظن - من حيث المبدأ- أن الذي قدّمه موسى هو نفس الذي قدمه سحرة فرعون: فالطرفان ألقوا ما
كان بأيديهم فتحولت إلى "أفاعي" (أو على الأقل أصبح يخيّل إليهم أنها تسعى)، وكانت أفعى (أو ثعبان)
موسى أقوى من أفاعيهم فابتلعت جميع ما ألقوا. ومن يظن خلاف ذلك (كما نفعل نحن المسلمين) فعليه تقديم
التفسيرات المرضية للتمييز بين ما جاء به موسى من جهة وما جاء به سحرة فرعون من جهة أخرى، ولكننا
نود هنا أن نثير سلسلة من التساؤلات قبل أن نقدم إجابتنا على السؤال الرئيس ألا وهو: لماذا لم تتعطل قدرة السحرة على السحر بدلاً من اضطرار موسى أن يلقي ما بيمينه ويستخدم نفس طريقة السحرة لقهرهم والتغلب عليهم؟ فموسى نفسه توجه للسحرة لحظة أن القوا حبالهم وعصيهم بالخطاب التالي:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ◌ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُه ◌ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ
( يونس ( 81
وأبسط ما يمكن أن تعنيه هذه العبارة – في رأينا- أن الله لا محالة مبطل سحرهم، ولكن لِمَ جاء إبطال سحرهم باضطرتر موسى أن يلقي عصاه؟ فلم لم يبطل الله سحرهم مثلاً بعدم قدرتهم على الإلقاء أصلا ؟ لماذا لم تتدخل إرادة الله بتعطيل قدرة عصيهم وحبالهم على التحول؟ ألم يكن ذلك يكفى موسى؟ ولِمَ لم يبطل الله سحرهم بغير إلقاء العصا واستخدام نفس الأسلوب؟ ولكن الذي حصل أنهم جاءوا بسحر عظيم (بنص القرآن الكريم) عندما القوا حبالهم وعصيهم:
( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُ وا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ الأع ا رف ( 116 ◌ۖ قَالَ أَلْقُوا
فلم تتوقف قدرتهم على السحر، واضطر موسى عندها لإلقاء عصاه كما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم من قبله:
فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ ◌ۖ قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ ( 65 ) قَالَ بَلْ أَلْقُوا
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ ( 66 ) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ ( 67 ) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ
وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ ◌ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ◌ۖ الْأَعْلَىٰ ( 68 ) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا
69- أَتَىٰ ( 69 ) طه 65
فموسى يقهرهم باستخدام التقنية نفسها، أليس كذلك؟ فلِمَ إذاً ننظر إلى تقنية السحرة على أنها سحر وإلى تقنية موسى على أنها ليست من باب السحر؟ أليس ذلك سؤال مشروع لمن أراد فهم هذا الدين قبل أن يكون سؤال مفهوم لمن أراد أن يتحدى هذا الدين؟!
والتساؤل الآخر هو: كيف فهم القوم أن ما جاء به السحرة هو سحر بينما ما جاء به موسى هو الحق؟
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( 116 ) وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَ ىٰ ◌ۖ قَالَ أَلْقُوا
( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( 117 ) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 118 ◌ۖ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
118- الأع ا رف 116
وبالمنطق نفسه: كيف فهم ال حرة أنفسهم أنّ ما جاء به موسى ليس سحرا أقوى وأكبر من سحرهم؟ وكيف فهموا أنه هو الحق المبين؟ ولِمَ لم يطلبوا منه أن يعلمهم ذلك؟ فلقد كانت حجة فرعون على النحو التالي:
مِنْ ◌ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ◌ۖ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
( خِلَافٍ وَلَأُصَلِّ بنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ طه ( 71
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ ◌ۚ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ◌ۖ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
( وَأَرْجُ لَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ الشع ا رء ( 49
فكيف يمكن دحض افتراء فرعون هذا بالدليل والحجة؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة الشافية على مثل هذه التساؤلات تتطلب التفريق بين ما جاء به السحرة من السحر وما جاء به موسى من الحق، ونحن مطالبين كـ مسلمين تبيان بأن ما جاء به موسى ليس سحرا من صنعة السحرة، ومطالبين كذلك بالرد عل ادعاء وافتراء فرعون ومن ظنّ ظنّه أن موسى هو كبيرهم الذي علمهم السحر، ومطالبين بتقديم الجواب الشافي على السؤال الكبير: كيف نفرق بين السحر والحق؟
جواب: إننا نظن مفترين القول من عند أنفسنا بأنّ ما جاء به موسى وما جاء به السحرة هو شيء واحد: لقد استخدم موسى عصاه كما استخدم السحرة حبالهم وعصيهم، وقد ألقى السحرة عصاهم وحبالهم، وألقى موسى عصاه رداً على فعلتهم، فتحولت عصا موسى إلى حية تسعى، وتحولت حبال السحرة وعصيهم كذلك فكانت تسعى، ولكن ما الفرق؟
رأينا: إن النص القرآني في هذا السياق غاية في الدقة في التمييز بين الحالتين، وسنورد بعض الآيات القرآنية ونمعن النظر فيها لنستجلي الفرق:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ ( 17 ) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ
20- أُخْرَىٰ ( 18 ) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ ( 19 ) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ( 20 ) طه 17
( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الأع ا رف ( 107
( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الشع ا رء ( 32
أما ما يخص السحرة فقد جاء النص القرآني بحقهم على النحو التالي:
( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ الأع ا رف ( 116 ◌ۖ قَالَ أَلْقُوا
( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِ لَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ طه ( 66 ◌ۖ قَالَ بَلْ أَلْقُوا
إن المدقق في الحالتين ربما يستطيع أن يلحظ بأن الهدف هو تحويل الشيء من حالة إلى حالة أخرى، أليس كذلك؟ ولكن يبقى التساؤل المشروع هو: ما الفرق بين التحول الذي حصل في حالة إلقاء السحرة حبالهم وعصيهم من جهة والتحول الذي حصل بعد أن ألقى موسى عصاه من جهة أخرى؟
رأينا: نحن نقرأ الفرق (كما جاء بنص الآيات القرآنية) على النحو التالي: في حين أن التحول في حالة موسى كان حقيقياً (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ) ، كان التحول في حالة السحرة وهمياً (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ ).
ولكن ما فائدة هذا الظن؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أنه إذا تحوّل الشيء إلى الحالة الأخرى على الحقيقة، وأصبح فعلاً الشيء الجديد بأم عينه، فذاك هو الحق، وهو ما كان من أمر موسى:
( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِ يَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الأع ا رف ( 107
( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الشع ا رء ( 32
وأما إذا كان التحوّل وهمياً، ليس أكثر من توهيم الناس وخداعهم على أنها شيء آخر (وهي في الحقيقة ليست كذلك)، فذاك هو السحر بعينه، وذاك ما كان من أمر السحرة:
( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ الأع ا رف ( 116 ◌ۖ قَالَ أَلْقُوا
( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ طه ( 66 ◌ۖ قَالَ بَلْ أَلْقُوا
فأنت إن استطعت أن تحوّل الشيء فعلاً (على الحقيقة) فذاك لا شك هو حق، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا إذا كان مبنياً على علم حقيقي، وأما إن كانت قدرتك تقتصر على خداع أعين الناس، فذاك ليس أكثر من السحر، ولهذا لما رأى السحرة أنفسهم بأم أعينهم أن عصا موسى لم تكن خداعاً بصرياً، وإنما تحولا حقيقياً، (وهم بلا شك الأكثر دراية بالسحر وفنونه) تهاوت قدراتهم على الفور وخروا سجداً:
( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ طه ( 70
إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ ◌ۖ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ◌ۖ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا
وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ◌ۗ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 72 ) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
73- 73 ) طه 72 )
فالسحرة استطاعوا أن يميزوا بين السحر (ما يقوموا هم به) والبينات (التي قدّ مها موسى)، ولكن فرعون لم يستطع (وهو لم يكن أصلاً راغباً) أن يميّز بين الحالتين، فأصر على أن موسى هو كبيرهم الذي علمهم السحر:
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ ◌ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ◌ۖ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
( خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ طه ( 71
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ ◌ۚ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُ مُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ◌ۖ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
( وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ الشع ا رء ( 49
فهو أصلاً قد بدأ القصة بالافتراض التالي:
( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ( 39 ) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( 40
40- الشع ا رء 39
أما العامة من الناس، فالأمر بالنسبة لهم سيان، فما يهمهم من الأمر هو مَنْ يقهر مَنْ ، فلو تمكّن السحرة من التغلب على موسى، لكان عامة الناس- بلا شك- إلى جانب السحرة، ولكن لمّا تمكن موسى من قهر السحرة انحازوا إلى جانبه، لهذا لمّا غاب موسى في لحظة ما، وظهرت قدرات السامري، استطاع التغرير بالسواد الأعظم منهم وإيقاعهم في شركه، ولا شك أن السامري استطاع القيام بمثل ما قام به موسى، وجاءت الدقة والروع القرآنية في تصوير قدرات السامري في قوله تعالى:
( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ طه ( 88
فالنص القرآني يبين لنا أنّ السامري لم يسترهب الناس ولم يسحر أعين الناس، بل أخرج لهم فعلاً عجلاً جسداً له خوار (للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان: باب السامري)
افتراء من عند أنفسنا: إننا نعتقد أن فكرة تحويل الأشياء من حالة إلى حالة أمر مسوغ في الفكر الديني، ولكن بشرط أن يكون ذلك التحوّل حقيقياً وليس وهمياً، فنحن نستطيع تحدى السحرة بهذا المنطق، فهناك مثلا من يدعي مثل هذه القدرات، كأن يضع يده بالماء فينقلب دماً أحمر، فيقتنع نفر من الناس بتلك القدرات، ويصر أصحاب الفكر الديني على تحديهم بأن ذلك ليس إلا من باب السحر، وتضيع الحقيقة في هذا الجدل، ويصعب على العامة (من مثلي) استجلاء الحقيقة، فنقول أن الخروج من الموضوع ربما يكون بسيطا جد اً: دعنا نأخذ ذلك الماء الذي انقلب إلى دم مثلاً إلى المختبر لنفحصه، فإن تبين أنه دم حقيقي، فذاك لا شك علم يستوجب علينا شكر من علمه، والإيمان والتصديق بقدراته كما آمنّا بعصا موسى وصدقناه، وأما إن فشل في الاختبار، وتبين أنّه ليس أكثر من خداع أعين الناس فنرفضه، ونصرّ على انّه من باب السحر كالذي جاء به سحرة فرعون في يوم الزينة.
وهنا يبقى التساؤل الكبير التالي قائماً: لماذا لم يبطل الله قدرة السحرة على السحر من حيث المبدأ؟ أي لماذا لم تتدخل إرادة الله لحظة أن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم فمنعها أن تتحول إلى أفاعي كما تخيلها من كان حاضرا؟ ولا ننسى أنّ موسى نفسه وقع في نفسه شيْ من الخوف:
( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ طه ( 67
لقد وصل سحرهم إلى موسى نفسه، ونحن نفترض أن الله كان قادرا أن يبطل قدرتهم على خداع الناس بالسحر، وتنتفي بذلك الحاجة إلى أن يستخدم موسى عصاه.
رأينا: إن الجواب على هذا التساؤل يتطلب إعمال التفكير في قوله تعالى على لسان موسى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ◌ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُه ◌ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ
( يونس ( 81
فما معنى قوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُه"؟ أي كيف يبطل الله شيئاً ما؟ إننا نعتقد دون أدنى شك أنّ ما جاء به موسى هو الحق وأن ما جاء به السحرة هو الباطل بدليل قوله تعالى:
فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( 117 ) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا ◌ۖ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
118- يَعْمَ لُونَ ( 118 ) الأع ا رف 117
السؤال: كيف أبطل الله سحرهم؟
رأينا: مما لا شك فيه أن الحق يتحقق بكلمات الله:
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ
( ا لحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ الأنفال ( 7
فعندما ألقى موسى عصاه وقع الحق بكلمات الله:
فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( 117 ) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا ◌ۖ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
118- يَعْمَ لُونَ ( 118 ) الأع ا رف 117
ولا شك كذلك أن ما جاء به السحرة هو الباطل، فكيف يبطل الله الباطل؟ قال تعالى:
( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ الأنبياء ( 18 ◌ۚ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ اَ زهِقٌ
نعم، تلك هي طريقة إبطال الباطل، أن يُقذف بالحق، لذا نحن نطن بأنه لو انتفت قدرة السحرة على السحر في الأصل لما تم – في ظننا- إبطالها، لانّ ذلك لم يكن يتطلب قذفه بالحق، ولربما ما تيسر لنا عندها معرفة ذلك الحق، فحتى يعلّمنا الله الحق كان لا بد من وجود الباطل الذي لا يبطل إلا بقذفه بالحق، ونحن نعلم أن الحق من الله، وأنّ السحر الذي هو الباطل من الشياطين مصداقاً لقوله تعالى:
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ ◌ۖ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُ ولَا إِنَّمَا نَحْنُ ◌ۚ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَ لَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا ◌ۚ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ◌ۖ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ
◌ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَ اَ رهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ◌ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ◌ۚ بِإِذْنِ اللَّهِ
( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ البقرة ( 102 ◌ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
فموسى تلقى العلم من ربه، وتلقى السحرة علمهم من الشياطين، ولا شك أن علم الله حقيقي، ولكن علم الشياطين وهمي، فحتى نتلقى علم الله لا بد من وجود علم الشياطين، ليحدث الصراع بين الحق والباطل، ولكن لحظة أن يُقذف الباطل بالحق تتهاوى قدرات المبطلين ويبين ضعفها.
افتراء من عند أنفسنا: إن مراد القول هنا هو أن معنى قوله تعالى "مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُإِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُه" لا يكون بانتفاء قدرة السحرة على الإلقاء وحدوث السحر، وإنما يكون إبطاله بقذفه بالحق كما حصل في قصة موسى والسحرة في يوم الزينة. والفائدة من ذلك تتمثل في أن الله سيعلمنا الحق بكلماته التي يقذف بها الباطل فيبطل (فالله أسأل أن يعلمني كلماته الحق التي يقذف بها على الباطل ليدمغه فإذا هو زاهق، إنه هو العليم الحكيم).
*** *** ***
وهنا نتوقف مع ملحوظ طريف في قصة عصا موسى مع السحرة ربما تدعم افتراءنا هذا، فلقد ورد في كتاب الله أن عصا موسى تحولت مرة إلى أفعى ومرة إلى ثعبان ومرة كأنها جان:( فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ طه ( 20
( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الأع ا رف ( 107
( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُ بِينٌ الشع ا رء ( 32
يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ ◌ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِ اً ر وَلَمْ يُعَقِّبْ ◌ۚ وَأَلْقِ عَصَاكَ
( لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ النمل ( 10
إِنَّكَ ◌ۖ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ◌ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِ اً ر وَلَمْ يُعَقِّبْ ◌ۖ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
( مِنَ الْآمِنِينَ القصص ( 31
وسؤالنا هو: لماذا تغيّر اللفظ في هذه الآيات: حية وثعبان وكأنها جان؟
لنبدأ النقاش بتحول العصا كَأَنَّهَا جَانٌّ، فلا شك عندنا أن عصا موسى لم تتحول إلى جان ولكنها كانت كأنها جان (كَأَنَّهَا جَانٌّ)، فالكاف للتشبيه، ونحن نفترض (مفترين القول) أن التشبيه في القرآن يحصل بسبب عجز لغوي 2: فالحية كانت تهتز كشيء ما، ولكن بسب عجز اللغة العربية التي لا تحمل في قاموسها المفردة الحقيقية التي يمثلها ذلك التحول، كان استخدام التشبيه مسوغاً لتقريب الصورة إلى الأذهان، فها هو موسى يضرب البحر بعصاه، فينفلق البحر نصفين فكان كل فرق كالطود العظيم:
فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ◌ۖ فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ
( الشع ا رء ( 63
فكل فرق لم يكن طودا حقيقياً ولكن كان شيئاً آخر، وأقرب صورة لذاك الشيء هو الطود، ولكن لما عجزت اللغة العربية عن توفير تلك المفردة في قاموسها، كان استخدام التشبيه أمرا مبررا (لا مفر منه ما دام أن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين)، وإلاّ لِمَ لمْ يخبرنا الله ماذا كان ذلك الشيء فعلا ؟
رأينا: نحن نفتري الظن أن المفردة الحقيقة التي تحول لها ذلك الشيء لم تكن متوافرة في العربية وأن أقرب مفردة لها في العربية هي الطود، فيحصل التشبيه باستخدام أداة التشبيه (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان جدلية المجاز والحقيقة في القرآن).
نتيجة: عصا موسى إذاً لم تكن جان ولكن كانت كأنها جان، كما يجب أن لا ننسى أيضاً أن عصا موسى لم تكن تشبه الجان على الكليّة (أي في كل شيء)، وإنما كانت تشبه الجان في شيء واحد فقط وهو الاهتزاز، مصداقاً لقوله تعالى: فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ
ولكن- مما لا شك فيه- أن عصا موسى كانت حية وكانت ثعبان على الحقيقة والكليّة، ولنرقب الدقة المتناهية في اللفظ القرآني:
( فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّة تَسْعَىٰ طه ( 20
( فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الأع ا رف ( 107
السؤال: ما فائدة أن يشبه الله لنا عصا موسى بالجان ونحن أصلاً لا نستطيع أن نتخيل تلك المخلوقات؟ فهل يعرف أحد منا ماهية الجان حتى يستطيع أن يتخيل كيف تحولت عصا موسى في ذلك الموقف؟
رأينا: نحن نظن أن في هذا التشبيه القرآني فائدة مزدوجة تتمثل في أنها تبين لنا ماهية تلك العصا كما تبين لنا ماهية الجآن في آن واحد، فنحن كما يقول المثل الشعبي نصيد عصفورين بحجر واحد، ولكن كيف ذلك؟
افتراء من عند أنفسنا: لو تدبرنا الموقف جيداً وفهمناه على حقيقته ستتكشف لنا حقائق كثيرة غابت عن الأذهان قروناً من الزمن، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن طرح السؤال التالي ربما يفتح آفاقاً جديدة في الفهم، والسؤال هو: لماذا تحولت العصا كأنها جآن على وجه التحديد؟ فلماذا لم تتحول كأنها أسد أو كأنها نمر أو كأنها تمساح مرعب أو كأنها ديناصور منقرض؟
رأينا: إن الإجابة على هذا التساؤل تكمن في طرح سؤال آخر وهو: أين ألقى موسى عصاه عندما أمره الله بذلك؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن عصا موسى قد تحولت إلى جان على وجه التحديد لأن الله أمره أن يلقيها في النار التي كانت حاضرة هناك:
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَ الَمِينَ ( 8) يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا
يَا مُوسَىٰ ◌ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِ اً ر وَلَمْ يُعَقِّبْ ◌ۚ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 9) وَأَلْقِ عَصَاكَ
لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ( 10 ) النمل
وهذا في ظننا هو ما جعل موسى يخاف ويولي مدبرا ولم يعقب، فلا أخال أن موسى بشدته وقوته المعهودة يمكن أن يولي دبره (بالرغم من الحضور الإلهي) من مجرد رؤية حية أو ثعبان، ولكن لا شك عندنا أن موسى قد رأى بأم عينه ما يمكن أن يجعله يهرب بالرغم من أن الله نفسه هو من يخاطبه في تلك اللحظة:
إِنَّكَ ◌ۖ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ◌ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِ اً ر وَلَمْ يُعَقِّبْ ◌ۖ وَأَنْ أ لقِ عَصَاكَ
مِنَ الْآمِنِينَ ( 31 ) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 32 ) القصص ◌ۚ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ◌ۖ
افتراء من عند أنفسنا: نحن نتخيل الآن ماهية العصا على أنها كالجان لأنها كانت مشتعلة بسبب أنها ألقيت في النار، فخرجت تتلوى كالثعبان في حركته. ونفهم كذلك ماهية الجان على أنه يتلوى كالأفعى أو كالثعبان الذي يشبه العصا (التي تشبه في شكلها الثعبان)، ولكن الفرق الوحيد هو في أنه يكون مشتعلاً مادام أن الجان قد خلق أصلاً من نار:
( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ الحجر ( 27
وسنرى لاحقاً بحول الله وتوفيقه علاقة ذلك بخروج يد موسى بيضاء من غير سوء:
فَذَ انِكَ بُرْهَانَانِ ◌ۖ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ
( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 32 ◌ۚ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
(دعاء: فالله وحده أسأل أن يأذن لي بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو العليم الحكيم)
وهنا يبرز التساؤل المثير التالي: لماذا تحولت عصا موسى مرة أفعى ومرة ثعبان؟ فهل الأفعى ثعبان وهل
الثعبان أفعى؟
ربما من خلال طرحنا السابق نستطيع أن نحل هذه الإشكالية، ولكن كيف؟
راينا: نحن نتمثل التصوّر التالي لما حدث: ما دام أن علم موسى كان مصدره الله، والله يحق الحق بكلماته، فموسى كان إذن يستخدم كلمات الله الحقيقية، ولا شك أنّ الله عنده الكلمات الحقيقية التي بها يتحقق ما يريد:
( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَ اَ ردَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس ( 82
فيكون موسى قد تعلّم من ربه كيف تنقلب العصا إلى شيء آخر، فيستطيع بذلك أن يحولّ العصا إلى ما يريد باستخدام الكلمات الحقيقية، كأن تكون أفعى أو ثعبان، فإذا أ رادها حيّة كانت حيّة، وإذا أرادها ثعبان كانت كذلك، فموسى إذاً يمتلك العلم الحقيقي وليس العلم الوهمي.
والمدقق في السياقات القرآنية يجد أن عصا موسى انقلبت إلى حية تسعى لحظة أن أمره الله أن يلقيها، قال تعالى:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ ( 17 ) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ
◌ۖ أُخْرَىٰ ( 18 ) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ ( 19 ) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ( 20 ) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ
20- سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ ( 21 ) طه 17
ولكن عندما ذهب موسى إلى فرعون وقدّم له الآية البينة على صدق دعوته، ألقى عصاه فإذا هي ثعبان:
وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 104 ) حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ
قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْ اَ رئِيلَ ( 105 ) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ ◌ۚ
107- كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 106 ) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( 107 ) الأع ا رف 104
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( 29 ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ( 30 ) قَالَ
32- فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 31 ) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( 32 ) طه 29
فعندما كان الأمر للعصا بالتحول صادرا من الله تحولت إلى:
فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ
وعندما صدر الأمر للعصا بالتحول في بلاط فرعون (وأحسب أن الأمر صدر من موسى نفسه) تحولت إلى:
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
فموسى إذاً لم تكن مهمته فقط إلقاء العصا، وإلا لتحولت العصا إلى حية تسعى في كل مرة يلقي موسى عصاه، ولكنه كان يفعل أكثر من ذلك، فهو يصدر لها الأمر بالتحول، لذا تحولت إلى ثعبان بدل أن تكون حية، والدليل على ما نزعم هو ما فعل السامري بتلك العصا يوم أن وقعت في يده، فاستطع أن يخرج للقوم (ليس حية ولا ثعبان) بل عجلاً جسداً له خوار (انظر مقالتنا تحت عنوان باب الس امري). وهناك سنتابع الحديث عن عصا موسى مفترين الظن أن مفردة حية لا تعني مؤنث ثعبان كما ربما يفهم العامة، ولكن مفردة حية تعني فقط أن الحياة قد دبت فيها، لذا ندعو القارئ الكريم متابعة تصورنا لعصا موسى تحت ذلك الباب إن هو أراد الاستزادة من تخريصاتنا هذه). أما هنا فنحن منشغلين بالسؤال عن الفرق بين علم موسى من جهة وتخاريف السحرة من جهة أخرى.
فالمدقق في النص القرآني يجد أن حبال السحرة وعصيّهم لم تتحول إلى حية تسعى أو إلى وثعبان مبين، وجل ما عملوه هو أنهم سحروا أعين الناس بحركة تشبه حركة الأفعى:
( ... فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْ رِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ طه ( 66
والسبب في ذلك – كما نزعم- هو أنّ السحرة لا يعلموا الكلمات الحقيقية التي بها يتم التحول الحقيقي، ولكنهم يملكوا الطريقة الوهمية التي تسحر أعين الناس، ولا تستطيع تحويل الشيء نفسه على الحقيقة.
ولكن الملحوظ الدقيق الذي نود التركيز عليه هنا (وهو ما يهم غرض بحثنا هذا) هو أننا نزعم أنّ تحقيق المراد في الحالتين (الحقيقية متمثلة بما فعل موسى والوهمية بما كان يفعل السحرة) يتم باستخدام "الكلمات" أو اللغة، فمن تعلم الكلمات من الله فهو بلا شك يمتلك "القول الحق"، ومن تعلم الكلمات من الشياطين فقد تعلم السحر، فهم يعلّمون الناس السحر، والفرق بين الحالتين هو بالتأكيد الفرق بين الحق والباطل، فتحقيق المراد بالكلمات "اللغة" هو لبّ عقيدتنا، وهو مقصد علمنا كلّه، فلا يمكن أن يتيسّر للناس الحياة الكريمة "الحياة الرغد" دون الحصول على ذلك العلم، وهو لا شك علم موجود بين أيدينا لا بد من أن نستخدمه ليتم لنا السبق على جميع أهل الأرض، جنّها وٕإنسها، وسنستطيع تخطي كل الحضارات مهما وصلت تلك الحضارات من الرقي والتقدم بأدوات العلم المادي إن نحن بحثنا عن علمنا في ذلك الاتجاه- (للمزيد حول هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان النظرية العالمية- الفصل الأول والثاني).
وقد يبادرنا البعض بالسؤال: هل هذا ممكن؟ هل فعلاً لهذا الكلام أصل في عقيدتنا؟ فنرد بالقول نعم، هناك أصل متين لمثل هذا القول في كتاب الله الكريم، فنحن نقرأ موقفنا هذا في ضوء ما نفهم من قوله تعالى:
وَلَا يَحْسَبنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا سَبَقُوْا اِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُوْنَ الأنفال 60
فهذه الآية الكريمة تقرر ثلاثة أمور ظاهرة لنا:
أولا : أنه من قبيل الحسبة القول أن الذين كفروا قد سبقونا وأنهم بذلك يعجزون
ثانياً: أن الذين كفروا قد سبقوا
ثالثاً: أنهم لا يعجزون
ولنبدأ بمحاولتنا تبيان ذلك على التوالي، فالآية الكريمة تبيّن أنه من قبيل الحسبة القول أن الذين كفروا قد سبقونا وأنهم بذلك يعجزون، ونحن نفهم قول الله تعالى "وَلَا يَحْسَبَنَّ " على أنه من قبيل الخطأ في التقدير والفهم الاعتقاد أنّ الذين كفروا سبقوا وأنهم معجزون، فما معنى "الحسبان أو الحسبة" كما يرد في القرآن الكريم؟
إننا نظن أن مفردة "يَحْسَبَنَّ " ومشتقاتها- كما نفهمها في النص القرآني- تعني الخطأ في التقدير، فالقرآن الكريم يقابل بين مفردتين متضادتين وهما الحسبة (أو الحسبان؟) من جهة والتقدير من جهة أخرى، فنحن نفهم أنّ هناك تقدير صحيح حقيقي وحسبة وهمية خاطئة، أما التقدير الصحيح فيرد في القرآن الكريم بلفظ "التقدير" ومشتقاته، وأما الحسبة الخاطئة فترد بلفظ "الحسبة" ومشتقاتها.
تفنيد الفكر الشعبي السائد
لو أنت سألت أحدهم عن الحساب والحسبة لظن أن فيها الدقة، فهناك علم الحساب، ونحن البشر عندما نقوم بحساب شيء ما فإننا نتوخى الدقة فيه، كان تحسب مثلاً ثمن سلعة معينة، عندها تحضر الآلة الحاسبة وتبدأ بإدخال الأرقام بكل عناية ودقة تستوجب الوصول إلى الرقم المنشود بلا زيادة أو نقصان، أليس كذلك؟
ولكن بالمقابل، عندما نقوم بتقدير القيمة فإننا لا نولي الدقة كثير عناية ونكتفي أن نصل إلى رقمي تقريبي، مادام أن الأمر قد صار من باب التقدير، وهنا نطرح السؤال التالي على الفور: هل هذا هو معنى "حسب ويحسب وحسبان، ومشتقاتها في كتاب الله؟ وهل هكذا يكون التقدير في كتاب الله؟
راينا: عندما قرأنا آيات الكتاب الكريم وجدنا أن الأمر على المعكوس، ففي حين أن الناس يظنون أن في الحساب دقة متناهية وفي التقدير تضيع تلك الدقة، وجدنا أن كتاب الله يبين لنا - بما لا يدع مجالاً للشك- بأن عدم الدقة (لا بل الظن) يدخل في الحسبة ومشتقاتها (سواء كان في فعل حَسَب أو حَسِب)، بينما تكون أقصى درجات الدقة متوافرة في التقدير.
الدليل
لنستعرض السياقات القرآنية التي يرد فيها لفظ "الحسبة" و"التقدير" لتميز المعنى لكل منهما:
الحسبة
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّ اَّ رءُ وَزُلْزِلُوا ◌ۖ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
( أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ البقرة ( 214 ◌ۗ حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ
لِلْفُقَ اَ رءِ الَّذِيْنَ اُحْصِرُوْا فِىْ سَبِيْلِ اللّٰهِ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ ضَرْبًا فِىْ الْاَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ اَغْنِيَاءَ مِنَ
لُوْنَ النَّاسَ اِلْحَ افً ا وَمَا تُنْفِقُوْا مِنْ خَيْرٍ فَاِنَّ اللّٰهَ بِه عَلِيْ ◌َ ◌ٔ لَا يَسْ ◌ۚ تَعْرِفُهُمْ بِسِيْمٰهُمْ ◌ۚ التَّعَفُّفِ
البقرة 273
وَيَقُوْلُوْنَ هُوَ مِنْ عِنْدِ ◌ۚ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتٰبِ ◌ۚ وَاِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيْقًا يَّلْونَ اَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتٰبِ لِتَحْسَبُوْ هُ مِنَ الْكِتٰبِ
ن آل عم ا رن 78 ◌ْ وَيَقُوْلُوْنَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُوْ ◌ۚ اللّٰهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّٰ ه
آل عم ا رن ◌ۙ ءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ ◌ٓ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوْا فِىْ سَبِيْلِ اللّٰهِ اَمْوَاتًا بَلْ اَحْيَا
169
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِ ين ◌ۚ وَلَا يَحْسَبَنَّ ا لَّذِيْنَ كَفَرُوْۤا اَنَّمَا نُمْلِىْ لَهُمْ خَيْرٌ لِّاَنْفُسِهِمْ اِنَّمَا نُمْلِىْ لَهُمْ لِيَزْدَادُوْۤا اِثْمًا
آل عم ا رن 178
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ يَبْخَلُوْنَ بِمَاۤ اٰتٰ ٮهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِه هُوَ خَ ي اً ر لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُ م سَيُطَوَّقُوْنَ مَا بَخِلُوْا
بِه يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَ لِلّٰهِ مِيْ اَ رثُ السَّمٰوٰتِ وَالْاَرْضِ وَاللّٰهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِ ير آل عم ا رن 180
◌ۚ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ يَفْرَحُوْنَ بِمَاۤ اَتَوْا وَّيُحِبُّ ونَ اَنْ يُّحْمَدُوْا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوْا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَا ب
وَلَهُمْ عَذَابٌ ا ليم آل عم ا رن 188
◌ۢ وَاللّٰهُ بَصِيْرٌ ◌ وَحَسِبُوْۤا اَلَّا تَكُوْنَ فِتْنَةٌ فَعَمُوْا وَصَمُّوْا ثُمَّ تَابَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوْا وَصَمُّوْا كَثِيْرٌ مِّنْهُمْ
بِمَا يَعْمَلُوْنَ المائدة 71
ءَ مِنْ دُوْنِ اللّٰهِ وَيَحْسَبُوْنَ اَنَّهُمْ ◌ٓ فَرِيْقًا هَدٰى وَ فَرِيْقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلٰلَةُ اِنَّهُمُ اتَّخَذُوْا الشَّيٰطِيْنَ اَوْلِيَا
مُّهْتَدُوْنَ الأع ا رف 30
اَمْ حَسِبْتُمْ اَنْ تُتْرَكُوْا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّٰهُ الَّذِيْنَ جٰهَدُوْا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوْا مِنْ دُوْنِ اللّٰهِ وَلَا رَسُوْلِه وَلَا الْمُؤْمِنِيْنَ
بِمَا تَعْمَلُوْن التوبة 15 ◌ۢ وَلِيْجَة وَاللّٰهُ خَبِيْرٌ
◌ۙ وَلَا تَحْسَ بنَّ اللّٰهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظّٰلِمُوْنَ اِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيْهِ الْاَبْصَارُ
إب ا رهيم 42
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللّٰهَ مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه اِنَّ اللّٰهَ عَزِيْزٌ ذُوْ انتِقَامٍ إب ا رهيم 47
د. رشيد الج ا رح مركز اللغات
جامعة اليرموك-الأردن
كَانُوْا مِنْ اٰيٰتِنَا عَجَبًا الكهف 9 ◌ۙ اَمْ حَسِبْتَ اَنَّ اَصْحٰبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيْمِ
وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِ اَ رعَيْهِ بِالْوَصِيْ د لَوِ ◌ۖ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِيْنِ وَ ذَاتَ الشِّمَالِ ◌ۖ وَ تَحْسَبُهُمْ اَيْقَاظًا وَّهُمْ رُقُوْدٌ
اطَّلَعْتَ عَلَ يهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِ اَ ر اً ر وَّلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا الكهف 18
ءَ اِنَّاۤ اَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكٰفِرِيْنَ نُزُ لا ◌ٓ اَفَحَسِبَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْۤا اَنْ يَّتَّخِذُوْا عِبَادِىْ مِنْ دُوْنِىْۤ اَوْلِيَا
الكهف 102
الَّذِ يْنَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِىْ الْحَيٰوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُوْنَ اَنَّهُمْ يُحْسِنُوْنَ صُنْعًا الكهف 104
المؤمنون 55 ◌ۙ اَيَحْسَبُوْنَ اَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِه مِنْ مَّالٍ وَّبَنِيْنَ
اَفَحَسِبْتُمْ اَنَّمَا خَلَقْنٰكُمْ عَبَثًا وَّاَنَّكُمْ اِلَيْنَا لَا تُرْجَعُوْنَ المؤمنون 115
ءُوْ بِالْاِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُ م لَا تَحْسَبُوْ هُ شَ اًّ ر لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُ م لِكُلِّ امْرِىٍٴ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ ◌ٓ اِنَّ الَّذِيْنَ جَا
وَالَّذِىْ تَوَلّٰى كِبْرَه مِ نْهُمْ لَه عَذَابٌ عَظِيْ م النور 11 ◌ۚ مِنَ الْاِثْمِ
وَّهُوَ عِنْدَ اللّٰهِ عَظِيْ م ◌ۖ اِذْ تَلَقَّوْنَه بِاَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُوْلُوْنَ بِاَفْوَاهِكُمْ مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِه عِلْمٌ وَّتَحْسَبُوْنَه هَيِّنً ا
النور 15
ا وَّ وَجَدَ ◌ً ◌ٔ ءَه لَمْ يَجِدْهُ شَيْ ◌ٓ ءً حَتّٰىۤ اِذَا جَا ◌ٓ بِقِيْعَةٍ يَّحْسَبُه الظَّمْاٰنُ مَا ◌ۢ وَالَّذِيْنَ كَفَرُوْۤا اَعْمَا لُهُمْ كَسَ اَ ربٍ
النور 39 ◌ۙ اللّٰهَ عِنْدَه فَوَفّٰ ٮهُ حِسَابَه وَاللّٰهُ سَرِيْع الْحِسَابِ
وَمَاْوٰ ٮهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيْرُ النور 57 ◌ۚ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا مُعْجِزِيْنَ فِىْ ا لاَرْضِ
اَمْ تَحْسَبُ اَنَّ اَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُوْنَ اَوْ يَعْقِلُوْنَ اِنْ هُمْ اِلَّا كَالْاَنْعَامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ سَبِيْ لا الفرقان 44
فَلَمَّا اَ رَتْه حَسِبَتْه لُجَّة وَّكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَ ا قَالَ اِنَّه صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّنْ قَوَارِيْرَ ◌ۚ قِيْلَ لَهَا ادْخُلِىْ الصَّرْ ح
قَالَتْ رَبِّ اِنِّىْ ظَلَمْتُ نَفْسِىْ وَ اَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمٰنَ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰلَمِيْ ن النمل 44
بِمَا ◌ۢ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَ ةً وهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَا ب صُنْعَ اللّٰهِ الَّذِىْۤ اَتْقَنَ كُلَّ شَىْ ء اِنَّه خَبِيْرٌ
تَفْعَلُوْنَ النمل 88
اَحَسِبَ النَّاسُ اَنْ يُّتْرَكُوْۤا اَنْ يَّقُوْلُوْۤا اٰمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُوْ ن العنكبوت 2
ءَ مَا يَحْكُمُوْ ن العنكبوت 4 ◌ٓ اَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ السَّيِّاٰتِ اَنْ يَّسْبِقُوْنَا سَا
وَاِنْ يَّاْتِ الْاَحْ اَ زبُ يَوَدُّوْا لَوْ اَنَّهُمْ بَادُوْنَ فِىْ الْاَعْ اَ ربِ يَسْاَلُوْنَ عَنْ ◌ۚ يَحْسَبُوْنَ الْاَحْ اَ زبَ لَمْ يَذْهَبُوْا
كُمْ وَلَوْ كَانُوْا فِيْكُمْ مَّا قٰتَلُوْۤا اِلَّا قَلِيْلا الأح ا زب 20 ◌ِ ٮٕ◌ٓ بَا ◌ۢ اَنْ
وَاِنَّهُمْ لَيَصُدُّوْنَهُمْ عَنِ السَّبِيْلِ وَيَحْسَبُوْنَ اَنَّهُمْ مُّهْتَدُوْن الزخرف 37
اَمْ يَحْسَبُوْنَ اَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوٰ ٮهُمْ بَلٰى وَ رسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُوْن الزخرف 80
ءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُ م ◌ٓ سَوَا ◌ۙ اَمْ حَسِبَ الَّذِيْنَ اجْتَرَحُوْا السَّيِّاٰتِ اَنْ نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِيْنَ اٰمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصّٰلِحٰتِ
ءَ مَا يَحْكُمُوْ ن الجاثية 21 ◌ٓ سَا
اَمْ حَسِبَ ا لَّذِيْنَ فِىْ قُلُوْبِهِمْ مَّرَضٌ اَنْ لَّنْ يُّخْرِجَ اللّٰهُ اَضْغَانَهُم محمد 29
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّٰهُ جَمِيْعًا فَيَحْلِفُوْنَ لَه كَمَا يَحْلِفُوْنَ لَكُ م وَيَحْسَبُوْنَ اَنَّهُمْ عَلٰى شَىْءٍ اَلَاۤ اِنَّهُمْ هُمُ الْكٰذِبُ ون
المجادلة 18
ءِ جُدُرٍ بَاْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيْ د تَحْسَبُهُمْ جَمِيْعًا وَّقُلُوْبُهُمْ ◌ٓ لَا يُقَاتِلُوْنَكُمْ جَمِيْعًا اِلَّا فِىْ قُرًى مُّحَصَّنَةٍ اَوْ مِنْ وَّ اَ ر
الحشر 14 ◌ۚ شَتّٰى ذٰلِكَ بِاَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُوْنَ
وَاِذَا اَ رَيْ تَهُمْ تُعْجِبُكَ اَجْسَامُهُمْ وَاِنْ يَّقُوْلُوْا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَاَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَ ةٌ يَّحْسَبُوْنَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ
هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُ م قَاتَلَهُمُ اللّٰه اَنّٰى يُؤْفَكُوْنَ المنافقون 4
اَيَحْسَبُ الْاِ نسَانُ اَلَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَه القيامة 3
اَيَحْسَبُ الْاِنْسَانُ اَنْ يُّتْرَكَ سُدً ى القيامة 36
اِذَا اَ رَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنْثُوْ اً ر الانسان 19 ◌ۚ وَيَطُوْفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُوْنَ
البلد 5 ◌ۘ اَيَحْسَبُ اَنْ لَّنْ يَّقْدِرَ عَلَيْهِ اَحَدٌ
اَيَحْسَبُ اَنْ لَّمْ يَرَهۤ اَحَدٌ البلد 7
الهمزة 3 ◌ۚ يَحْسَبُ اَنَّ مَالَهۤ اَخْلَدَه
لاحظ - عزيزي القارئ- أن جميع السياقات القرآنية التي ترد فيها مشتقات (حسب) تؤكد معنى الخطأ في التقدير، وذلك أمر بشري، لأنّ البشر يعلمون فقط ظاهر الأشياء، وهم على غير دراية حقيقية بمضامينها، لذا فهم يحسَبون أو يحسِبون. فالجبال في ظاهرها جامدة، وجمع المال خير، وأخطأت ملكة سبأ في تقدير ما رأت (فحسبته لجة وهو في الحقيقة ليس كذلك)، والظمآن يحسب السراب ماءً، والناظر إلى أهل الكهف على هيئتهم تلك يحسبهم رقود، وحسب الكثيرون أن من يقتل في سبيل الله هو في عداد الأموات، وحسب الكافرون أنهم يحسنون صنعا، الخ.
نتيجة: كلما وردت لفظة الحسبة ومشتقاتها في القرآن الكريم ارتبطت بالبشر وكان عامل الخطأ متوافر فيها على الدوام.
عودة على بدء
وَلَا يَحْسَ بنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا سَبَقُوْا اِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُوْنَ الأنفال 60
ولكن ما يهمنا هنا هو أن الكافرين يحسبون أنهم سبقوا (وهذا هو الخطأ الذي وقعوا به كما وقعوا في غيره من باب نظرتهم المقتصرة على ظاهر الأمور أي الحسبة)، فهم عندما يرون التفوق العلمي والتكنولوجي (وحتى التربوي والأخلاقي) الذي تحصَل لهم، مقارنة مع ظاهر المقابل عند الأمم الأخرى، لا شك سيظنون أنهم فعلا قد سبقوا، ولكن الله يطمئن القلب المؤمن بالقول أن ذلك ليس أكثر من حسبة (أي خطأ في التقدير):
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا سَبَقُوْا اِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُوْنَ الأنفال 59
وهنا يجب التنبيه إلى أمرين اثنين، وهما أن البعض قد يظن أن ذلك الخطأ في التفكير يقع فيه الكافرون فقط، وثانيهما أن البعض قد يظن أن الآية تتحدث عن الآخرة، فنرد على ذلك بما يلي: من الجدير في الانتباه أنَ هذه الحسبة لم تقع في قلوب الكافرين فقط، وإنما قد تقع كذلك حتى في قلوب المؤمنين، فالله سبحانه يوجه الخطاب في آية أخرى للمؤمنين أن لا يقعوا في ذلك الخطأ في التقدير كما يقع الكافرين فيه، قال تعالى:
( وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ النور ( 57 ◌ۖ ومَأْوَاهُمُ النَّارُ ◌ۚ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ
فالخطاب هنا موجه للمؤمنين الذين ربما يتبادر لتفكيرهم أن الكافرين قد سبقوا خصوصاً إذا ما قاسوا الأمور على ظاهرها. ويجد المدقق في هذه الآية الكريمة أن ذلك الإعجاز المزعوم للذين كفروا هو من أمر الدنيا، وذلك في قوله تعالى (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا مُعْجِزِيْنَ فِىْ الْاَرْضِ )، أما ما يخص الآخرة فهم بلا شك (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) كما تنص الآية الكريمة، ففي هذه الآية تطمينٌ من الله للمؤمنين أنه مهما بلغ الذين كفروا من التفوق (والنتيجة السبق) في هذه الحياة الدنيا فهم غير معجزين، فنقول للذين قنطوا من أن تلحق هذه الأمة بركب الحضارة لتباري الأمم الأخرى، لا بل ولتتفوق عليهم جميعاً، أنهم بذلك إنما يحسبون (أي يقعون
في خطأ التقدير)، فالله سبحانه قد أقسم بأنّ كلمته الحق سوف تظهر ولو كره الكافرون.
(دعاء: أسأل الله وحده أن يعلمني كلماته الحق التي بها نسبق الذين كفروا لأننا نعلم أنه لا يعجزون، إنه هو السميع المجيب)
وحري بنا أن نستعرض خيارات الأمة في هذا المجال، فلقد قدّم علماء الأمة خيارات متباينة لحال هذه الأمة عندما أرادوا أن يضعوها في ميزان الحضارة العالمية مع الأمم الأخرى، فكانت أبرز الأطروحات على النحوالتالي:
1. ظن البعض أن اللحاق بركب المدنية الحديثة أمر مستحيل، فتفوق الأمم الأخرى علينا واضح لا يمكن مجاراته أو حتى اللحاق به، فكان الخيار لديهم هو الإقرار بالتبعية، وتقبل الحال كما هو في واقع الأشياء، فكانت نظرتهم واقعية بحته مدعومة بالمشاهدات المادية التي يستحيل إنكارها.
2. ذهب آخرون إلى أن التفوق المدني للأمم الأخرى هو تفوق محسوم لصالح الغرب، فما ينبغي علينا هو دعوتهم للإسلام، فإن هم أصبحوا مسلمين تحول ذلك التفوق بأكمله لصالحنا (فنكون بذلك قد امتلكنا ما لديهم بكل يسر وسهوله).
3. ذهب فرق ثالث إلى إمكانية اللحاق بالأمم الأخرى إن نحن اجتهدنا في استخدام التكنولوجيا والعلم كما يجب، وقد يتحصل ذلك لنا في غضون فترة زمنية معقولة.
وفي هذا السياق نود الإشارة أن جميع هذه الطروحات لا يدعمها الفكر الديني الذي نقدمه هنا، ولنبدأ بتبرير ما نزعم.
فـ إلى الذين يظنون أن اللحاق بالمدنية أمر مستحيل، ويظنون أن التبعية هي الواقع المحتوم على هذه الأمة، فإننا نقدم لهم الآيتين الكريمتين اللتين كنا بصدد تبيان بعض معانيهم وهما:
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا سَبَقُوْا اِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُوْنَ الأنفال 59
وَمَاْوٰ ٮهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيْرُ النور 57 ◌ۚ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا مُعْجِزِيْنَ فِىْ الْاَرْضِ
فإن هم تذرعوا بالواقعية لتبرير موقفهم، تسلحنا نحن بآيات الله هذه لنثبت أنهم فقط إنما يحسبون (أي يقعون في تقدير خاطئ) لأنهم فقط إنما يُخدعون بظاهر الأمور.
أما من ظن بأن لا مفر من تفوقهم وواجبنا أن ندعوهم إلى الإسلام ليصبحوا هم جزء منا، فإننا نظن أن هذا خطأ أكبر، فهل يمكن أن يصبح سكان الأرض كلهم مسلمين، والله سبحانه يقول:
ءَ رَبُّكَ لَاٰمَنَ مَنْ فِىْ الْاَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيْعًا اَفَاَنْتَ تُكْرِ هُ النَّاسَ حَتّٰى يَكُوْنُوْا مُؤْمِ نِيْنَ ◌ٓ وَلَوْ شأ
يونس 99
فمشيئة الله قضت أن لا يكون الناس كلهم مؤمنين، وكم قدّم أنبياء الله من آيات بينات للناس حتى يكون مؤمنين، فهل حدث ذلك ولو مرة واحدة في تاريخ البشرية الطويل؟ إذاً، يستحيل أن يتحقق مثل هذا الطرح لأن الله قدّ م للناس ما يمكن أن يهديهم إلى سواء السبيل، ولكنهم آثروا على الدوام النزول عند رغبة الشيطان.
وأما من ظن بأننا نستطيع اللحاق بركب الحضارة الغربية والتفوق عليها إن نحن تسلحنا بالتكنولوجيا والعلم كما فعلوا هم، فإننا نظن أن هذا هو الخطأ الأكبر، فنحن مهما حاولنا لن نستطيع أن نلحق بهم ناهيك عن التفوق عليهم لو استخدمنا تلك التكنولوجيا، فجل ما يمكن أن نعمل هو أن نساعدهم في تقدمهم العلمي، فلو ظهر العالم المسلم، وأبدع في علم الطب أو الهندسة أو الز ا رعة (أو أي مجال من مجالات المعرفة، فهو بذلك إنما يدعم ركب الحضارة الغربية إلى الأمام، فلن يسمى ذلك علماً من علوم المسلمين، لأن ما تحصل لهم هو أقوى بكثير من أن نغيره بشكل جذري، فنحن قد نحدث فيه تأثيرا ولكنه يبقى بصبغته الغربية بامتياز.
فما الحل؟ ألا ترى أنك لا ترضى بشيء؟ فما هو البديل (إن كان أصلاً هناك بديل)؟ يسأل صاحبنا المعهود.
نقول نعم، هناك بديل نستمد مفرداته من كتاب الله تعالى، ويتمثل هذا البديل بأن لا نعدم الإيمان بأننا سنتمكن من اللحاق بهم لا بل والتفوق عليهم، وذلك مصداقاً لقوله تعالى:
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا سَبَقُوْا اِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُوْنَ الأنفال 59
( وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ النور ( 57 ◌ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ◌ۚ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ
ولكن بشرط أن لا نستخدم أدواتهم وطرقهم في التوصل إلى المعرفة، أي أن لا نسعى إلى التفوق باستخدام علمهم والتكنولوجيا التي توصلوا هم إليها، حتى لا نكون مساعدين لهم في التقدم والرقي، إن لب القول هو أننا إنْ فكرنا في التقدم بطريقة لا تمت إلى تفكيرهم بصلة فسنكون قادرين على بناء علم جديد لا دخل لهم به، ويكون ذلك علماً خاصاً بنا بأدواته ومنتجاته، وعندها سنكون منافسين لهم لا مساعدين لهم، وربما يسأل البعض هنا ما هو ذلك العلم الذي سيكون منافساً لهم ولا يستخدم طرقهم وأساليبهم؟
رأينا: إننا نؤمن أن علمهم هو من باب الحسبة (أي القابل للخطأ)، فجل العلم المادي الغربي يرتكز على مبدأ المحاولة والخطأ، أما ما يقابل الحسبة فهو التقدير، وهو العلم الذي لا يحتمل الخطأ، وهو العلم الذي نسعى للوصول إليه، وهذا ينقلنا لاستعراض السياقات القرآنية التي ورد فيها مشتقات (قدر) لنرى المقابلة كما يصورها النص القرآني:
التقدير
سنكمل المقالة قريباً بتوفيق الله وتدبيره (فالله أسأل أن يأذن لي بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري إنه هو العليم الحكيم)
د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن