كم لبث نوح في قومه؟
الجواب "أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا"، أليس كذلك؟
ولكن ألم يستوقف عمر نوح الكثيرين؟ ألم يتساءل الكثيرون: كيف عاش نوح تلك الفترة الطويلة؟ هل كان ذلك العمر طبيعياً في تلك الحقبة من الزمن؟ أم هل هو نوح فقط من عاش ذلك العمر الطويل وكفى بينما كان متوسط أعمار قومه كغيرهم من الأمم؟ لا شك أنّ تلك الأسئلة خاطرت الكثيرين، ولربما أخذها البعض إيماناً يقينياً فصدقوا بها كما هي، وشكك الآخرون بها متسلحين بالدليل العلمي في إستحالة مثل هذا الأمر، ووقع الصراع بين الطرفين، ينتظر كل طرف أنْ يثبت أنّه هو (وليس خصمه) على صواب، ولكننا نعتقد أنّ الطرفين قد غفلوا عن دراسة عمر نوح دراسة حقيقية توضح ماهية عمر نوح الذي يتحدث عنه النص القرآني.
إننا نعتقد أنّ هناك إشارات نصية(referents) في كتاب الله تفضي - بلا شك- إلى تسليط الضوء على الموضوع بطريقة مختلفة قد تسعف في فهم النص القرآني بشكل أكثر دقة، ولنبدأ بإثارة تلك الإشارات ومتابعتها، سأئلين الله عز وجل أنْ يوصلنا إلى مبتغانا.
لعل الكثيرين الذين يتفحصون النص القرآني قد استوقفتهم بعض الفاظ الآية نفسها التي تتحدث عن عمر نوح عليه السلام، قال تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
ونورد هنا إشارتين أساسيتين وهما: أولاً، قوله تعالى " فَلَبِثَ فِيهِمْ"، وسؤالنا عن سبب تحديد العمر بقوله "فِيهِم"، أي لِمَ لَمْ يكن النص على نحو "فلبث ألف سنة إلا خمسين عاماً"؟ وعندها يكون المعنى على الإطلاق،
ثانياً، لقد إستوقفنا قوله تعالى: "إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا"، وسؤالنا هو: لم تبدلت لفظة السنة بالعام؟ فهل لبث نوح في قومه تسعماية وخمسين عاماً أم تسعماية وخمسين سنة؟ "وما الفرق؟" ربما يرد البعض مستغرباً، وحتى يتبين القارىء الكريم ما نقصد ندعوه لمقارنة هذه الآية الكريمة بآية أخرى في كتاب الله تحدثت عن السنة:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
ففي حين أنً الزيادة التي حصلت في حالة أهل الكهف لم تحدد بالعام (فلَمْ يأتي قوله تعالى على نحو "وازدادوا تسعة أعوام" مثلاً)، جاء النقصان في حالة نوح متبوعاً بكلمة "عاماً"، ولنتدبر كذلك تفسير يوسف عليه السلام لرؤيا الملك مركزين على التبديل في الكلمتين:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
فهل ياترى تفيد كلمة عام ما تفيده كلمة سنة؟ أي هل العام سنة والسنة عاما؟ وإن كان كذلك فلِمَ التبديل؟ إننا نعتقد أنّ كلمة عام تختلف عن كلمة سنة، وكل منهما له إستخدامه الذي لا يجب أنْ يختلط مع غيره. فلقد كان الخطأ الأكبر الذي وقع به الناس أنهم حسبوا عمر نوح على النحو التالي:
1000-50= 950
وغفلوا أنّ طرفي المعادلة مختلفة، 1000 سنة يطرح منها 50 عاما، فلو كانت على نحو 1000 سنة إلا خمسين سنة أو 1000 عام إلا خمسين عاماً لسلّمنا بالأمر ولقلنا لاريب في أنْ يطرح طرفي المعادلة من بعضهما، ولكن لمّا كان الطرفان مختلفين كان لزاماً توحيد طرفي المعادلة قبل إجراء عملية الطرح (وباستخدام اللغة الرياضية نقول لا يمكن أنْ نطرح س من ص إلاّ إذا كانت قيمة كل متغير معروفة)، فلقد درّستنا معلمة الصف الأول إبتدائي (ب) أنه لا يجوز لنا أنْ نطرح تفاحاً من برتقال أو العكس، فنحن نظن أنّ الفكري الإسلامي الرياضي لم يتجاوز بعد مرحلة الصف الأول إبتدائي (ب). ولتقريب الصورة إلى الأذهان، تصور معي لو أنّ أحدهم قال لك أنّ عمري 1000 عمرة إلاّ خمسين حجة فهل يكون الناتج 950 عمرة أو حتى 950 حجة، الجواب بكل تأكيد لا، لأنّ العمرة لا تساوي حجة والحجة لا تساوي عمرة حتى لو كان الحاج يعتمر كل مرة يحج فيها، أليس كذلك؟
وحتى لو سلمنا بما إفترضه غيرنا أنّ العام هجري والسنة ميلادية فيبقى المنطق قائماً بأنْ لا يطرح العام الهجري من السنة الميلادية لانهما غير متساويين، فهل يجوز أنْ نطرح العام الذي يتراوح بين 354-355 يوماً من السنة التي تتأرجح على 365 يوماً؟!
وهنا أيضاً نثبت خطأ ما ذهب إليه الكثيرون أنْ السنة تدل على الشدة والعام يدل على الوفرة والخير العميم الذي ظنوا أنّ سورة يوسف تبيّنه، فنرد عليهم بالقول بنفس السورة أنّ كلمة السنة أستخدمت في حالتي الشدة والرخاء:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
لتدل الأولى على السبع بقرات السمان (سبع سنبلات خضر) وتدل الأخرى على السبع بقرات العجاف (سبع سنبلات يابسات):
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
فلب القول أنّ الفهم الحقيقي للإستخدام القرآني لمفردة العام ومفردة السنة سيدلنا على الفرق بينهما ومن ثم تحديد قيمة كل متغير: طول العام وطول السنة، ليكون ناتج الطرح محدداً بعد معرفة قيمة المتغيرات في طرفي المعادلة:
1000 سنة – 50 عاما = ( ) عاماً
أو
1000 سنة – 50 عاما = ( ) سنة
إنّ سؤالنا الأول يتمحور حول تحديد عمر نوح عليه السلام بقوله تعالى "فِيهِم"، أي لِمَ لَمْ يكن النص على نحو "فلبث ألف سنة إلا خمسين عاماً"؟ وعندها يكون المعنى على الإطلاق، خصوصاً إذا علمنا أنّ صيغة "لبث في" غالباً ما ترد لتتبع بالمكان، قال تعالى:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
أما لبث الزمانية، فترد دونما تحديد:
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
وترد متبوعة بتعبير يدل على الزمن:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا النازعات (46)
وسؤالنا مرة اخرى عن سبب تحديد عمر نوح بقوله " فِيهِمْ"
العام مذكر والسنة مؤنث، أليس كذلك؟ ولكن المسألة -لا شك- أكبر من ذلك، فلا بد من فهم السياقات القرآنية التي ورد فيها كل لفظ وتدبرها ومحاولة ربطها ببعضها حتى نستجلي تصوراً أكثر وضوحاً للأمر، فهناك بعض الإستخدامات التي تحيّر الألباب، والتي لا بد من التفكر بها حتى يتجلى الفهم، ونبدأ أولاً بقوله تعالى في محكم التنزيل:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
ففي هذا السياق القرآني يخبرنا الله تعالى أنّ أصحاب الكهف قد لبثوا في كهفهم "ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا"، أليس كذلك؟ ولكن القارىء البسيط – من مثلي- تربكه الآية التالية بأن الله يقول "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا"، وسؤالنا هو: أليس الله هو نفسه من قال أنّ أصحاب الكهف قد لبثوا تلك الفترة الزمنية دونما أدنى شك؟ فلِمَ يعود ليقول أنّ الله هو من يعرف الفترة الزمنية التي قضوها في كهفهم؟ أليست هي ثلاثمئة سنين وازدادوا تسعاً؟ ألم نعلم نحن كذلك تلك الفترة عندما أخبرنا الله بها؟ فكيف إذاً يمكن تفسير أنّ الله هو من حدد تلك الفترة رقمياً ثم يعود ليقول هو أعلم بما لبثوا؟ ولا ننسى كذلك أنّ الله قد قال قبل ذلك في نفس السورة:
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
إننا نجتهد القول أنّ الله قد عاد ليقول "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" بعدما أعلمنا بالفترة الزمنية بالتحديد "ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا" لأنه إستخدم لفظة السنة على وجه الخصوص، ولو جاءت كلمة "عام" في هذا السياق بدلاً من السنة لما تبعها قوله تعالى " قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا"، كما في قوله تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
فلب القول أنه عندما جآءت لفظة السنة محددة رقمياً أتبعها الله بقوله "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا"، ولكن عندما جآءت لفظة العام محددة رقمياً لم يتبعها مثل ذلك القول.
ولكن القارىء يتسآءل مستغرباً: ولم ذلك؟ فنقول هناك إشارات أخرى في كتاب الله تثبت صحة ما ندعي، قال تعالى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ
مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)
إنّ هذه الآيات القرآنية تشير إلى حقيقة جلية وهي أنّ السنة (مفرد سنين) هي من حساب البشر "أي مقدرة تقديراً"، فهناك يوم عند ربنا كالف سنة مما نعد، وهناك يوماً كـ خمسين ألف سنة مما نعد، والله جعل الليل والنهار لنعلم عدد السنين والحساب، ولكنّ السؤال البسيط هو: هل إستطعنا نحن البشر أنْ نتوصل إلى حساب الليل والنهار (الزمن) حساباً صحيحاً؟ قال تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ (20)
وربما ظن البعض أنّ حسابنا للزمن دقيق، فنرد بالقول ولكن هل حسابنا للزمن كحساب ربنا له؟ الجواب هو النفي قطعاً. وقد يقول البعض وما علاقة ذلك بموضوع السنة والعام؟ نقول إنّ المتدبر للآيات القرآنية يدرك فوراً أنّ السنة هي من حساب البشر وليست من حساب رب العالمين، ولذا فعندما قال تعالى:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
تبعها فوراً بقوله:
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
ليقول لنا هم فعلاً لبثوا "ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا" من حسابكم أنتم ولكن الله وحده هو من يعرف الزمن الحقيقي الذي لبثوه في حسابه هو " قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" .
وقد يدركنا البعض بالقول: ولكن كيف هو حساب الله للزمن إنْ كان يختلف عن حسابنا؟ نقول لمن أراد المعرفة دعنا نتدبر الآية الجميلة التالية:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
يقرر الله أنّ عدة الشهور هي إثنا عشر شهرا، وقد يقول البعض: أليس ذلك هو العام؟ فالعام إثنا عشر شهرا، أليس كذلك؟ نقول نعم، هو كذلك، فالله سبحانه يحسب الزمن بالعام، فإذا ورد لفظ العام لا يتبعها تشكيك بالفترة الزمنية كما في قوله تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
ففي هذا المثال يخبرنا الله أنّه أمات الرجل مئة عام (فتلك فترة محددة) ولذا لم يتبعها الله بقوله "والله أعلم بما لبث" كما كان الحال عند الحديث عن اهل الكهف، والسبب -كما ذكرنا سابقاً- هو أنّ السنة من حساب البشر بينما العام من حساب رب البشر، فالعام هو إثنا عشر شهراً في حساب الله، أما السنة فهي من حساب بني البشر، ولذا فهي تختلف من إمة إلى أخرى، فالسنة الميلادية مثلاً (وإن كانت إثنا عشر شهراً) تختلف عن السنة الهجرية (وإن كانت هي كذلك إثنا عشر شهراً)، فحساب البشر يختلف بإختلاف المجتمعات، ولذا فإنّ الشعوب المختلفة لها حساباتها المختلفة للسنة، فهناك السنة العربية وهناك السنة الميلادية (الغربية) وهناك السنة الفرعونية والهندية والصينية وهكذا، وهذا يعيدنا فوراً إلى الحديث عن علاقة ذلك بموضوعنا الرئيسي وهو عمر نوح عليه السلام، لنقول:
أنّ نوحاً عاش في قومه ألف سنة (مما يعدون) إلا خمسين عاما (من حساب رب العالمين)
ولذا جاء قوله تعالى " فَلَبِثَ فِيهِمْ"، أي من حسابهم هم، وليس من حساب قوم إبراهيم أو قوم موسى أو قوم عيسى أو حتى قوم محمد (عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم السلام)، فهي إذاً ألف سنة من حساب أمة نوح أنفسهم، وما نحن بحاجة إليه هو تحديد السنة النوحية، فإذا إستطعنا معرفة كم طول السنة بناءاً على حساب قوم نوح نستطيع تحديد عمر نوح بدقة متناهية.
كيف يتم حساب السنة في المجتمعات المختلفة؟
ولنبدأ القصة في المجتمع الذي عاش به يوسف عليه السلام حيث ترد حسبة الزمن الأولى في كتاب الله، قال تعالى:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
إذاً فالمجتمع كان زراعياً، فقوله "قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا" أي سبعة مواسم متتالية، فتكون كل سنة عبارة عن موسم زراعي واحد، ففي السنة هناك موسم زراعي واحد وهو زراعة المحاصيل التي لها سنابل:
"... فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ..."
" ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ" وهذا يعني بلا شك سبعة مواسم جدب وقحط، ونتوقف لنسأل القارىء سؤالاً بسيطاً وهو: هل الحذف هنا يقدر بلفظة السنة أم العام؟ أي هل يفهم قوله تعالى على نحو "ثم يأتي من بعد ذلك سبع سنين شداد" أم على نحو "ثم يأتي من بعد ذلك سبعة أعوام شداد؟ لاشك أنّ القليل القليل ربما يجادل في ذلك، فالحذف هو "سبع سنين شداد" وليس سبعة أعوام، والدليل اللغوي واضح جداً: فكلمة "سبع" مذكرة فتكون بذلك الكلمة المحذوفة- حسب قواعد العدد العربية- لاشك مؤنثة، وكلمة سنة –كما أسلفنا- مؤنثة بينما كلمة عام مذكرة، ولكن السؤال المفاجىء هو: فما قصة العام التي وردت بعد ذلك في نفس السياق القرآني:
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
نقول حتى نفهم ذلك فعلينا تدبر مفردات الآية نفسها، فالله يقرر أنّ في ذلك العام الذي سيغاث فيه الناس سيقوم الناس بعملية العصر "وَفِيهِ يَعْصِرُونَ"، وسؤالنا هو: ما دخل المحاصيل الحقلية التي لها سنابل بعملية العصر؟ فماذا سيعصر القوم؟ ويأتي الجواب في نفس السورة على لسان صاحب يوسف في السجن، قال تعالى:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
إذاً، ففي مجتمع يوسف كان هناك موسمان زراعيان: موسم الحصاد (ممثلاً بالسنابل والخبز) وموسم العصير (ممثلاً بالعصير والخمر)، لذا فالزراعة الحقلية هي سنة والعصير هو سنة ولكنّ الإثنتان لا يكونان في نفس السنة وإنما في نفس العام، فالعام فيه أكثر من موسم زراعي واحد بينما السنة هي موسم زراعي واحد، وقد يرد البعض بالقول: وأين الدليل على ذلك؟ فما علاقة السنة بموسم الزراعة؟ فنقول دعونا نتدبر قوله تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
وسؤالنا هو: ما معنى قوله "أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ"؟ أليست هي الجدب والقحط بالمواسم الزراعية؟ ولنتدبر الدقة في اللفظ القرآني، فهي "سنين" وليست سنة، والسؤال التالي هو: لماذا؟ لأن العام الواحد يحتمل أكثر من موسم واحد (أي فيه سنين)، ولهذا كان القحط والجدب الذي نزل على آل فرعون هو في كل المواسم الزراعية حتى في العام الواحد، فهناك قحط في المحاصيل الحقلية وقحط في المحاصيل الشجرية وقحط في المحاصيل الشتوية والصفية وهكذا، وإن كانت جميعها في عام واحد، فلو جاء النص القرآني على نحو "ولقد أخذنا آل بفرعون بالسنة" لفهمنا أن الجدب والقحط قد ألم بموسم واحد فقط كمحصول القمح مثلاً، ولكانت بقية المواسم (السنين) غير ذلك، ولهذا نفهم قوله تعالى في سورة الكهف:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
فلو جاء قوله تعالى على نحو "ثلاثمئة سنة" لفهمنا أنّ مكثهم في الكهف كان ثلاثمئة موسم كموسم العنب أو الزيتون أو القمح، بينما هو ثلاثمئة سنين، أي كل المواسم في العام الواحد. ولكن قارن عزيزي القارىء ذلك بعمر نوح:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
فهنا جاء اللفظ "سنة" وليس "سنين" لأنّ نوحاً عاش ألف سنة وليس سنين، أي ألف موسم زراعي وليس ألف مواسم (أعوام) زراعية؟ فإذا كانت السنة عندهم موسم زراعي واحد تكون السنة تساوي عاماً كاملاً، وإذا كان عندهم موسمين زراعيين تكون كل سنتين عاما (مفصلات على النحو التالي: من موسم القمح وحتى موسم القمح التالي سنة، ومن موسم العنب حتى موسم العنب التالي سنة، فيكون العام الواحد فيه سنتان وإن كان كل منهم يحتاج إلى دورة كاملة)، وإذا كان لديهم ثلاث مواسم زراعية تكون كل ثلاث سنين عاما، وإذا كانوا يتمتعون بإربع مواسم زراعية يكون العام أربع سنين وهكذا. ففي حالة يوسف كان العام سنتين (سنة المحاصيل الحقلية وسنة أشجار الثمار التي تعصر كالعنب)، فالمطر الذي سينزل ستكون فائدته على المحاصيل الحقلية ذات السنابل وسيكون كذلك ذات فائدة على شجر المحاصيل التي تعصر. ولذا عندما جاء الحديث عن المحصولين معاً تغير اللفظ من كلمة سنة إلى كلمة عام:
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
ولنرقب الدقة القرآنية عند الحديث عن مواضيع لاعلاقة لها بالمواسم الزراعية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
فلا يحق للمشركين أن يقربوا المسجد الحرام طوال العام " عَامِهِمْ" وليس في موسم معين "سنة"، وكذلك التحريم والتحليل، وكذلك فتنتهم، وكذلك فصال الإنسان"، فهي جميعاً تتحدث عن العام بطوله وليس عن السنة، فلو جاء اللفظ مثلاً على نحو "فلا يقربوا المسجد الحرام بعد سنتهم هذه" لفهمنا أنّ التحريم كان في موسم من مواسم العام وليس العام كله بناء على حسابهم هم للسنة. وإنما التحريم كان في فترة الإثني عشر شهراً (العام بطوله).
ولنتدبر أيضاً قوله تعالى:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى طه (40)
وسؤالنا هو: أليست الفترة التي قضاها موسى في أهل مدين معروفة؟ ألم يقل الله تعالى في محكم التنزيل:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ... القصص (27)
فلم استخدم لفظ "السنين" بدلاً من "العام" في قوله " فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ"؟ الجواب كلا، فالفترة التي قضاها موسى في أهل مدين لم تكن محددة لقوله تعالى:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ القصص (27)
فالفترة كانت من ثمان إلى عشر حجج (أعوام) وبالتالي يستحيل إستخدام لفظ العام، ويصار إلى إستخدام لفظ السنة، فالسنة غير محددة (لأنها تختلف من أمة إلى أخرى) بينما العام محدد، لذا جآءت الروعة القرآنية في قوله تعالى:
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113)
فلو كان الناس جميعهم يعرفون بالتحديد الفترة التي قضوها لاستخدم لفظ العام، ولكنهم لا يعرفون ذلك فكان جوابهم " قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ" لتؤكد فكرة عدم الدقة في المعرفة البشرية للزمن، ولكن من الجميل أيضاً معرفة تتمة الآية وهي "فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ"، فهناك عادين وليس عاد واحد، وذلك لأنّ لكل أمة عادّهم الذي قد لا ينظر إلى الزمن بنفس الطريقة التي ينظر بها غيره، ففي حين أنّ السنة الملادية –كما أسلفنا- إثنا عشر شهراً والسنة الهجرية إثنا عشر شهراً كذلك لكنهما لا يتطابقان لا في البداية ولا في النهاية ولا حتى في حساب الشهر الواحد، فالإنسان العربي قد يعيش سبعين سنة في عدّه التي قد تعادل ثمانين أو لربما ستين سنة في عدّ غيره، وبهذا يتفاوت حساب العمر من أمة إلى أخرى، ولنتدبر قوله تعالى:
غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
أليس الله من يعلم الفترة الزمنية بالتحديد متى ستغلب الروم؟ فلم عبر عنها بقوله "فِي بِضْعِ سِنِينَ"؟ أي لم لم يحددها بالضبط؟ فنقول لنتذكر أنّ الخطاب موجه إلى النبي محمد وقومه ولكنه بخصوص أمة أخرى وهي الروم، فـ بم إذاً سيتم تحديد الفترة الزمنية بحساب قوم محمد أم بحساب الروم ولكل منهم حسابه الذي لا يتطابق مع الآخر؟ فلو جاء التحديد بالرقم بحساب قريش ولنقل سبع سنين مثلاً لقالت الروم (وكذلك الأمم الخرى) أنّ النبؤءة لم تتحقق لأنّ إنتصارهم كان بعد ثمان أو ست سنين من حسابهم هم، ولو جاءت محددة بالرقم بحساب الروم ولنقل ثمان سنين لقالت قريش أنّ النبؤة لم تصدق لأنّ إنتصار الروم كان في سنتهم السابعة، وتخيل معي ردة فعل الأمم الأخرى مادام حسابهم للزمن يميزهم عن الأمم الأخرى، لذا جاءت الدقة القرانية على نحو "في بضع سنين" لتحسبها كل أمة بطريقتها ما دامت السنة تختلف من أمة إلى أخرى، وبالتالي نصل إلى مبتغانا: لقد عاش نوح ألف سنة من حساب قومه.
لقد توصلنا إلى الفهم أنّ السنة تختلف من أمة إلى أخرى، بينما العام ثابت وهو إثنا عشر شهراً. وبالتالي يكون عمر نوح كما أسلفنا الف سنة من حساب قومه (بدليل أنه لبث فيهم)، يطرح منه خمسين عاما، فتكون الحسبة على النحو التالي:
1000 سنة نوحية – خمسين عاما
1000 (س شهر) – (50 × 12 شهر)
فإذا كانت السنة في قوم نوح هي إثنا عشر شهراً مثل العام يكون نوح قد عاش فعلاً تسعماية وخمسين عاماً، ولكن مادام أنه قد عاش ألف سنة إلا خمسين عاما فهذا يدل على أنّ العام يختلف عن السنة وإلاّ لما تغير اللفظ (كما الحال في أهل الكهف)، وبالتالي فنحن بحاجة لحساب عمر نوح إما بالسنة أو بالعام (بواحدة من الطرق)، فالقرآن الكريم قدّم لنا عمر نوح باستخدام السنة والعام معاً "أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا"، فالسؤال المفاجىء للباحث بعلوم القرآن هو: هل عاش نوح تسعماية وخمسين سنة أم تسعماية وخمسين عاما؟
لقد درج جل الفكر الإسلامي إلى عدم التميز (إلا بحفنة من المعاني المجازية التي قلما ترضي حتى من يقدمها) بين اللفظين، وها نحن نقدم هنا تمييزاً حقيقياً بينهما.
فلنحسب عمر نوح الحقيقي بالبحث عن طول السنة التي كان يحسبها قومه، فلقد ذكرنا آنفاً أنّ مجتمع نوح قد تميز بوفرة مياه الأمطار وكثرة الأنهار وفساحة الأرض الممتدة والجبال العالية وكثرة الأموال ووفرة اليد العاملة:
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
فعندما تتوافر هذه الظروف جميعها، يصبح من الطبيعي إستغلال جميع المواسم الزراعية، فتكثر المحاصيل الحقلية والشجرية ويصبح هناك أكثر من موسم زراعي، أي أكثر من سنة، فلا عجب أنْ يكون هناك موسمان أو ثلاثة أو حتى أربعة مواسم زراعية، فإذا كان هناك موسمان كان العام سنتان وإذا كان هناك ثلاثة مواسم أصبح العام ثلاث سنين وإذا كان هناك أربعة مواسم أصبح العام أربع سنين.
فتصبح إحتمالات عمر نوح على النحو التالي:
(1000 × 1) – 50 = 950 عاما
(1000 × ½ ) - 50 = 450 عاما
(1000 × ⅓) - 50 = 283.333 عاما
(1000 × ¼ ) - 50 = 200 عاما
فالإحتمالات هي أنّ نوحاً قد عاش تسعماية وخمسين عاماً أو 450 عاماً أو 283 عاماً أو 200 عاما، وما نحن بحاجة له هو البحث عن طول السنة النوحية لنقرر عندها كم كان عمر نوح محسوباً بالعام.
والدقة تستلزم أيضاً القول أن السنة الزراعية تحسب بدورة الشمس بينما العام يحسب بدورة القمر (ولا علاقة له بالمواسم الزراعية)، وما دامت دورة القمر أقل من دورة الشمس بحوالى عشرة أيام تصبح عملية الطرح النهائية تستوجب أخذ الفارق بعين الإعتبار الذي سنحسبه في نهاية الأمر.
ونكتفي هنا إلى الإشارة إلى أنّه بتوافر عوامل الزراعة كالأمطار (يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا) والأنهار (وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) والأرض الخصبة الممتدة (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) والجبال العالية الشجرية (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء) ووفرة المال والأيدي العاملة (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) تكون الفصول جميعها مواسم زراعية ناجحة وتتنوع المحاصيل الزراعية، ونحن نعلم أنّ الزراعة تكون على واحدة من الأشكال التالية:
زراعة موسم واحد في العام وبهذا تكون المجتمعات تحسب العام سنة والسنة عاما
زراعة موسمين في العام الواحد، فتكون سنة المزارع في العام مرتين
زراعة فصلية في العام الواحد، فتكون زراعة دائمة وهي على مدار الفصول الأربعة، فتتكرر سنة المزارع في العام الواحد أربع مرات، ولازالت كثير من المجتمعات تحسب الزمن بناءاً على مواسمها الزراعية.
ففي حين أنّ العام كان في أرض عزيز مصر- وهي الأرض التي لا تتوافر بها عوامل نجاح الزراعة كما تتوافر في أرض قوم نوح- موسمان (السنابل والعصير) تكون الزراعة في قوم نوح أكثر من موسمين، فهي إذاً فصلية، فيكون العام الواحد أربعة مواسم (سنين)، ويكون عمر نوح هو الإحتمال الأخير (200) عاما.
نعم ذلك هو عمر نوح، وذلك هو عمر طويل مقارنة بعمر قومه والأقوام الأخرى، فلو كان نوح قد عاش ما يقرب ألف عام كما يظن البعض بينما كانت أعمار قومه عادية كباقي الأمم لكان هناك –على أقل تقدير- معضلتان أساسيتان وهما (1) من هم قومه الذين اهلكهم الطوفان، فلا شك أنّ نوحاً قد عايش بذلك أجيالاً وليس جيلاً واحدا و (2) ألم يكن عمر نوح بحد ذاته سيشكل دليلاً كافياً على صدق رسالته؟ فكيف ستكذب الغالبية الساحقة من قومه من عاش هذا العمر الطويل جداً بين ظهرانيهم؟ فإن كان كذبه جيل كان سيصدقه أجيال.
أما إذا كان ذلك عمر نوح وعمر الغالبية من قومه لما كان الله سيتحدث عن عمر نوح في سياق الحديث عن دعوته، فالله سبحانه لم يتحدث عن عمر أي نبي آخر بشكل محدد بعدد السنين والأعوم، فما الداعي أنْ يتحدث عن عمر نوح على وجه التحديد؟ فقد يرد البعض بالقول لأنه كان نبياً معمرا، فنقول ألم يكن إبراهيم نبياً معمراً؟
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)
ألم يعمر يعقوب طويلاً، وهو الذي عاش حتى أصبح من ولده (وليس أكبرهم) عزيز مصر؟
ألم يكن زكريا معمرا وهو الذي دعا ربه الذرية بعدما بلغ من الكبر عتيا؟
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
ألم يكن شعيب نبياً معمرا، وبناته هم من رعوا الغنم عندما كان ابوهم شيخاً كبيرا؟
وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
ولكن مَن مِن هولاء تم تحديد عمره بالأرقام؟ فقط نوح.
ولنحسب عمر نوح (عليه السلام) من هذا المنظور، فلقد عاش نوح ألف موسم زراعي، وما دامت الزراعة في تلك الأرض كما أسلفنا فصلية، تكون الحسبة على النحو التالي:
(1000 × ¼ ) = 250 سنة ميلادية
وبحساب ذلك بالأيام، يكون 250 سنة شمسية ميلادية تساوي
250 × 365 = 91250 يوماً
ولكن ينقض من ذلك 50 عاماً، ونحن نعرف أنّ العام القمري ينقص حوالي عشرة أيام عن السنة الشمسية، فتكون فترة الخمسين عاما تساوي:
50 × 355 = 17750 يوماً
وعندما نطرح هذا الرقم من مجموع الأيام التي عاشها نوح (91250 )، تصبح النتيجة على النحو التالي:
91250- 17750 = 73500
فلقد عاش نوح (73500) يوما، ولحساب السنة الميلادية، يقسم ذلك الرقم على 365 فتكون النتيجة على النحو التالي:
73500 ÷ 365 = 201.3698630سنة ميلادية (والله أعلم)
وهذا عمر طويل مقارنة بأعمار البشرية منذ بدء الخليقة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو العمر الذي لن يستطيع الإنسان تجاوزه بأدواته المادية وإنْ تطورت، وهو العمر الذي جعل نوحاً معمراً في قومه ومعمراً مقارنة بالإمم الأخرى، وهو العمر الذي لن ينتفي معه الدليل الإيماني العلمي، فلا شك أنّ نوحا قد عاصر برسالته جيلاً وليس أجيالاً من قومه، فالجيل الذي جاءته الرسالة هو نفس الجيل الذي وقع عليه العذاب الرباني لمّا كذب رسالة نبيهم لهم.
أسأل الله أن أعلم منه ما لا تعلمون، وكفى بالله رقيبا. وكفى بالله شهيدا، وكفى بالله وكيلا، وكفى بالله حسيبا، وكفى بالله نصيرا.
ملاحظة: للحصول على النص الكامل بإطاره النظري، يرجى الإتصال بالمولف على بريده الإلكتروني
د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن
على بريده الإلكتروني التالي:
rsaljarrah@yahoo.com
أو أنقر على صفحته الإلكترونية على العنوان التالي:
http://faculty.yu.edu.jo/RALJJARA/default.aspx?pg=bf322587-7a53-4485-b9ca-6c0583bf5748
ولكن ألم يستوقف عمر نوح الكثيرين؟ ألم يتساءل الكثيرون: كيف عاش نوح تلك الفترة الطويلة؟ هل كان ذلك العمر طبيعياً في تلك الحقبة من الزمن؟ أم هل هو نوح فقط من عاش ذلك العمر الطويل وكفى بينما كان متوسط أعمار قومه كغيرهم من الأمم؟ لا شك أنّ تلك الأسئلة خاطرت الكثيرين، ولربما أخذها البعض إيماناً يقينياً فصدقوا بها كما هي، وشكك الآخرون بها متسلحين بالدليل العلمي في إستحالة مثل هذا الأمر، ووقع الصراع بين الطرفين، ينتظر كل طرف أنْ يثبت أنّه هو (وليس خصمه) على صواب، ولكننا نعتقد أنّ الطرفين قد غفلوا عن دراسة عمر نوح دراسة حقيقية توضح ماهية عمر نوح الذي يتحدث عنه النص القرآني.
إننا نعتقد أنّ هناك إشارات نصية(referents) في كتاب الله تفضي - بلا شك- إلى تسليط الضوء على الموضوع بطريقة مختلفة قد تسعف في فهم النص القرآني بشكل أكثر دقة، ولنبدأ بإثارة تلك الإشارات ومتابعتها، سأئلين الله عز وجل أنْ يوصلنا إلى مبتغانا.
لعل الكثيرين الذين يتفحصون النص القرآني قد استوقفتهم بعض الفاظ الآية نفسها التي تتحدث عن عمر نوح عليه السلام، قال تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
ونورد هنا إشارتين أساسيتين وهما: أولاً، قوله تعالى " فَلَبِثَ فِيهِمْ"، وسؤالنا عن سبب تحديد العمر بقوله "فِيهِم"، أي لِمَ لَمْ يكن النص على نحو "فلبث ألف سنة إلا خمسين عاماً"؟ وعندها يكون المعنى على الإطلاق،
ثانياً، لقد إستوقفنا قوله تعالى: "إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا"، وسؤالنا هو: لم تبدلت لفظة السنة بالعام؟ فهل لبث نوح في قومه تسعماية وخمسين عاماً أم تسعماية وخمسين سنة؟ "وما الفرق؟" ربما يرد البعض مستغرباً، وحتى يتبين القارىء الكريم ما نقصد ندعوه لمقارنة هذه الآية الكريمة بآية أخرى في كتاب الله تحدثت عن السنة:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
ففي حين أنً الزيادة التي حصلت في حالة أهل الكهف لم تحدد بالعام (فلَمْ يأتي قوله تعالى على نحو "وازدادوا تسعة أعوام" مثلاً)، جاء النقصان في حالة نوح متبوعاً بكلمة "عاماً"، ولنتدبر كذلك تفسير يوسف عليه السلام لرؤيا الملك مركزين على التبديل في الكلمتين:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
فهل ياترى تفيد كلمة عام ما تفيده كلمة سنة؟ أي هل العام سنة والسنة عاما؟ وإن كان كذلك فلِمَ التبديل؟ إننا نعتقد أنّ كلمة عام تختلف عن كلمة سنة، وكل منهما له إستخدامه الذي لا يجب أنْ يختلط مع غيره. فلقد كان الخطأ الأكبر الذي وقع به الناس أنهم حسبوا عمر نوح على النحو التالي:
1000-50= 950
وغفلوا أنّ طرفي المعادلة مختلفة، 1000 سنة يطرح منها 50 عاما، فلو كانت على نحو 1000 سنة إلا خمسين سنة أو 1000 عام إلا خمسين عاماً لسلّمنا بالأمر ولقلنا لاريب في أنْ يطرح طرفي المعادلة من بعضهما، ولكن لمّا كان الطرفان مختلفين كان لزاماً توحيد طرفي المعادلة قبل إجراء عملية الطرح (وباستخدام اللغة الرياضية نقول لا يمكن أنْ نطرح س من ص إلاّ إذا كانت قيمة كل متغير معروفة)، فلقد درّستنا معلمة الصف الأول إبتدائي (ب) أنه لا يجوز لنا أنْ نطرح تفاحاً من برتقال أو العكس، فنحن نظن أنّ الفكري الإسلامي الرياضي لم يتجاوز بعد مرحلة الصف الأول إبتدائي (ب). ولتقريب الصورة إلى الأذهان، تصور معي لو أنّ أحدهم قال لك أنّ عمري 1000 عمرة إلاّ خمسين حجة فهل يكون الناتج 950 عمرة أو حتى 950 حجة، الجواب بكل تأكيد لا، لأنّ العمرة لا تساوي حجة والحجة لا تساوي عمرة حتى لو كان الحاج يعتمر كل مرة يحج فيها، أليس كذلك؟
وحتى لو سلمنا بما إفترضه غيرنا أنّ العام هجري والسنة ميلادية فيبقى المنطق قائماً بأنْ لا يطرح العام الهجري من السنة الميلادية لانهما غير متساويين، فهل يجوز أنْ نطرح العام الذي يتراوح بين 354-355 يوماً من السنة التي تتأرجح على 365 يوماً؟!
وهنا أيضاً نثبت خطأ ما ذهب إليه الكثيرون أنْ السنة تدل على الشدة والعام يدل على الوفرة والخير العميم الذي ظنوا أنّ سورة يوسف تبيّنه، فنرد عليهم بالقول بنفس السورة أنّ كلمة السنة أستخدمت في حالتي الشدة والرخاء:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
لتدل الأولى على السبع بقرات السمان (سبع سنبلات خضر) وتدل الأخرى على السبع بقرات العجاف (سبع سنبلات يابسات):
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
فلب القول أنّ الفهم الحقيقي للإستخدام القرآني لمفردة العام ومفردة السنة سيدلنا على الفرق بينهما ومن ثم تحديد قيمة كل متغير: طول العام وطول السنة، ليكون ناتج الطرح محدداً بعد معرفة قيمة المتغيرات في طرفي المعادلة:
1000 سنة – 50 عاما = ( ) عاماً
أو
1000 سنة – 50 عاما = ( ) سنة
*** *** ***
أولاً: فَلَبِثَ فِيهِمْ
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)إنّ سؤالنا الأول يتمحور حول تحديد عمر نوح عليه السلام بقوله تعالى "فِيهِم"، أي لِمَ لَمْ يكن النص على نحو "فلبث ألف سنة إلا خمسين عاماً"؟ وعندها يكون المعنى على الإطلاق، خصوصاً إذا علمنا أنّ صيغة "لبث في" غالباً ما ترد لتتبع بالمكان، قال تعالى:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
أما لبث الزمانية، فترد دونما تحديد:
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
وترد متبوعة بتعبير يدل على الزمن:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا النازعات (46)
وسؤالنا مرة اخرى عن سبب تحديد عمر نوح بقوله " فِيهِمْ"
ثانيا: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا
فما هو العام وما هي السنة؟العام مذكر والسنة مؤنث، أليس كذلك؟ ولكن المسألة -لا شك- أكبر من ذلك، فلا بد من فهم السياقات القرآنية التي ورد فيها كل لفظ وتدبرها ومحاولة ربطها ببعضها حتى نستجلي تصوراً أكثر وضوحاً للأمر، فهناك بعض الإستخدامات التي تحيّر الألباب، والتي لا بد من التفكر بها حتى يتجلى الفهم، ونبدأ أولاً بقوله تعالى في محكم التنزيل:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
ففي هذا السياق القرآني يخبرنا الله تعالى أنّ أصحاب الكهف قد لبثوا في كهفهم "ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا"، أليس كذلك؟ ولكن القارىء البسيط – من مثلي- تربكه الآية التالية بأن الله يقول "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا"، وسؤالنا هو: أليس الله هو نفسه من قال أنّ أصحاب الكهف قد لبثوا تلك الفترة الزمنية دونما أدنى شك؟ فلِمَ يعود ليقول أنّ الله هو من يعرف الفترة الزمنية التي قضوها في كهفهم؟ أليست هي ثلاثمئة سنين وازدادوا تسعاً؟ ألم نعلم نحن كذلك تلك الفترة عندما أخبرنا الله بها؟ فكيف إذاً يمكن تفسير أنّ الله هو من حدد تلك الفترة رقمياً ثم يعود ليقول هو أعلم بما لبثوا؟ ولا ننسى كذلك أنّ الله قد قال قبل ذلك في نفس السورة:
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
إننا نجتهد القول أنّ الله قد عاد ليقول "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" بعدما أعلمنا بالفترة الزمنية بالتحديد "ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا" لأنه إستخدم لفظة السنة على وجه الخصوص، ولو جاءت كلمة "عام" في هذا السياق بدلاً من السنة لما تبعها قوله تعالى " قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا"، كما في قوله تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
فلب القول أنه عندما جآءت لفظة السنة محددة رقمياً أتبعها الله بقوله "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا"، ولكن عندما جآءت لفظة العام محددة رقمياً لم يتبعها مثل ذلك القول.
ولكن القارىء يتسآءل مستغرباً: ولم ذلك؟ فنقول هناك إشارات أخرى في كتاب الله تثبت صحة ما ندعي، قال تعالى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ
مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)
إنّ هذه الآيات القرآنية تشير إلى حقيقة جلية وهي أنّ السنة (مفرد سنين) هي من حساب البشر "أي مقدرة تقديراً"، فهناك يوم عند ربنا كالف سنة مما نعد، وهناك يوماً كـ خمسين ألف سنة مما نعد، والله جعل الليل والنهار لنعلم عدد السنين والحساب، ولكنّ السؤال البسيط هو: هل إستطعنا نحن البشر أنْ نتوصل إلى حساب الليل والنهار (الزمن) حساباً صحيحاً؟ قال تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ (20)
وربما ظن البعض أنّ حسابنا للزمن دقيق، فنرد بالقول ولكن هل حسابنا للزمن كحساب ربنا له؟ الجواب هو النفي قطعاً. وقد يقول البعض وما علاقة ذلك بموضوع السنة والعام؟ نقول إنّ المتدبر للآيات القرآنية يدرك فوراً أنّ السنة هي من حساب البشر وليست من حساب رب العالمين، ولذا فعندما قال تعالى:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
تبعها فوراً بقوله:
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
ليقول لنا هم فعلاً لبثوا "ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا" من حسابكم أنتم ولكن الله وحده هو من يعرف الزمن الحقيقي الذي لبثوه في حسابه هو " قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" .
وقد يدركنا البعض بالقول: ولكن كيف هو حساب الله للزمن إنْ كان يختلف عن حسابنا؟ نقول لمن أراد المعرفة دعنا نتدبر الآية الجميلة التالية:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
يقرر الله أنّ عدة الشهور هي إثنا عشر شهرا، وقد يقول البعض: أليس ذلك هو العام؟ فالعام إثنا عشر شهرا، أليس كذلك؟ نقول نعم، هو كذلك، فالله سبحانه يحسب الزمن بالعام، فإذا ورد لفظ العام لا يتبعها تشكيك بالفترة الزمنية كما في قوله تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
ففي هذا المثال يخبرنا الله أنّه أمات الرجل مئة عام (فتلك فترة محددة) ولذا لم يتبعها الله بقوله "والله أعلم بما لبث" كما كان الحال عند الحديث عن اهل الكهف، والسبب -كما ذكرنا سابقاً- هو أنّ السنة من حساب البشر بينما العام من حساب رب البشر، فالعام هو إثنا عشر شهراً في حساب الله، أما السنة فهي من حساب بني البشر، ولذا فهي تختلف من إمة إلى أخرى، فالسنة الميلادية مثلاً (وإن كانت إثنا عشر شهراً) تختلف عن السنة الهجرية (وإن كانت هي كذلك إثنا عشر شهراً)، فحساب البشر يختلف بإختلاف المجتمعات، ولذا فإنّ الشعوب المختلفة لها حساباتها المختلفة للسنة، فهناك السنة العربية وهناك السنة الميلادية (الغربية) وهناك السنة الفرعونية والهندية والصينية وهكذا، وهذا يعيدنا فوراً إلى الحديث عن علاقة ذلك بموضوعنا الرئيسي وهو عمر نوح عليه السلام، لنقول:
أنّ نوحاً عاش في قومه ألف سنة (مما يعدون) إلا خمسين عاما (من حساب رب العالمين)
ولذا جاء قوله تعالى " فَلَبِثَ فِيهِمْ"، أي من حسابهم هم، وليس من حساب قوم إبراهيم أو قوم موسى أو قوم عيسى أو حتى قوم محمد (عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم السلام)، فهي إذاً ألف سنة من حساب أمة نوح أنفسهم، وما نحن بحاجة إليه هو تحديد السنة النوحية، فإذا إستطعنا معرفة كم طول السنة بناءاً على حساب قوم نوح نستطيع تحديد عمر نوح بدقة متناهية.
كيف يتم حساب السنة في المجتمعات المختلفة؟
ولنبدأ القصة في المجتمع الذي عاش به يوسف عليه السلام حيث ترد حسبة الزمن الأولى في كتاب الله، قال تعالى:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
إذاً فالمجتمع كان زراعياً، فقوله "قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا" أي سبعة مواسم متتالية، فتكون كل سنة عبارة عن موسم زراعي واحد، ففي السنة هناك موسم زراعي واحد وهو زراعة المحاصيل التي لها سنابل:
"... فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ..."
" ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ" وهذا يعني بلا شك سبعة مواسم جدب وقحط، ونتوقف لنسأل القارىء سؤالاً بسيطاً وهو: هل الحذف هنا يقدر بلفظة السنة أم العام؟ أي هل يفهم قوله تعالى على نحو "ثم يأتي من بعد ذلك سبع سنين شداد" أم على نحو "ثم يأتي من بعد ذلك سبعة أعوام شداد؟ لاشك أنّ القليل القليل ربما يجادل في ذلك، فالحذف هو "سبع سنين شداد" وليس سبعة أعوام، والدليل اللغوي واضح جداً: فكلمة "سبع" مذكرة فتكون بذلك الكلمة المحذوفة- حسب قواعد العدد العربية- لاشك مؤنثة، وكلمة سنة –كما أسلفنا- مؤنثة بينما كلمة عام مذكرة، ولكن السؤال المفاجىء هو: فما قصة العام التي وردت بعد ذلك في نفس السياق القرآني:
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
نقول حتى نفهم ذلك فعلينا تدبر مفردات الآية نفسها، فالله يقرر أنّ في ذلك العام الذي سيغاث فيه الناس سيقوم الناس بعملية العصر "وَفِيهِ يَعْصِرُونَ"، وسؤالنا هو: ما دخل المحاصيل الحقلية التي لها سنابل بعملية العصر؟ فماذا سيعصر القوم؟ ويأتي الجواب في نفس السورة على لسان صاحب يوسف في السجن، قال تعالى:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
إذاً، ففي مجتمع يوسف كان هناك موسمان زراعيان: موسم الحصاد (ممثلاً بالسنابل والخبز) وموسم العصير (ممثلاً بالعصير والخمر)، لذا فالزراعة الحقلية هي سنة والعصير هو سنة ولكنّ الإثنتان لا يكونان في نفس السنة وإنما في نفس العام، فالعام فيه أكثر من موسم زراعي واحد بينما السنة هي موسم زراعي واحد، وقد يرد البعض بالقول: وأين الدليل على ذلك؟ فما علاقة السنة بموسم الزراعة؟ فنقول دعونا نتدبر قوله تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
وسؤالنا هو: ما معنى قوله "أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ"؟ أليست هي الجدب والقحط بالمواسم الزراعية؟ ولنتدبر الدقة في اللفظ القرآني، فهي "سنين" وليست سنة، والسؤال التالي هو: لماذا؟ لأن العام الواحد يحتمل أكثر من موسم واحد (أي فيه سنين)، ولهذا كان القحط والجدب الذي نزل على آل فرعون هو في كل المواسم الزراعية حتى في العام الواحد، فهناك قحط في المحاصيل الحقلية وقحط في المحاصيل الشجرية وقحط في المحاصيل الشتوية والصفية وهكذا، وإن كانت جميعها في عام واحد، فلو جاء النص القرآني على نحو "ولقد أخذنا آل بفرعون بالسنة" لفهمنا أن الجدب والقحط قد ألم بموسم واحد فقط كمحصول القمح مثلاً، ولكانت بقية المواسم (السنين) غير ذلك، ولهذا نفهم قوله تعالى في سورة الكهف:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
فلو جاء قوله تعالى على نحو "ثلاثمئة سنة" لفهمنا أنّ مكثهم في الكهف كان ثلاثمئة موسم كموسم العنب أو الزيتون أو القمح، بينما هو ثلاثمئة سنين، أي كل المواسم في العام الواحد. ولكن قارن عزيزي القارىء ذلك بعمر نوح:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
فهنا جاء اللفظ "سنة" وليس "سنين" لأنّ نوحاً عاش ألف سنة وليس سنين، أي ألف موسم زراعي وليس ألف مواسم (أعوام) زراعية؟ فإذا كانت السنة عندهم موسم زراعي واحد تكون السنة تساوي عاماً كاملاً، وإذا كان عندهم موسمين زراعيين تكون كل سنتين عاما (مفصلات على النحو التالي: من موسم القمح وحتى موسم القمح التالي سنة، ومن موسم العنب حتى موسم العنب التالي سنة، فيكون العام الواحد فيه سنتان وإن كان كل منهم يحتاج إلى دورة كاملة)، وإذا كان لديهم ثلاث مواسم زراعية تكون كل ثلاث سنين عاما، وإذا كانوا يتمتعون بإربع مواسم زراعية يكون العام أربع سنين وهكذا. ففي حالة يوسف كان العام سنتين (سنة المحاصيل الحقلية وسنة أشجار الثمار التي تعصر كالعنب)، فالمطر الذي سينزل ستكون فائدته على المحاصيل الحقلية ذات السنابل وسيكون كذلك ذات فائدة على شجر المحاصيل التي تعصر. ولذا عندما جاء الحديث عن المحصولين معاً تغير اللفظ من كلمة سنة إلى كلمة عام:
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
ولنرقب الدقة القرآنية عند الحديث عن مواضيع لاعلاقة لها بالمواسم الزراعية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
فلا يحق للمشركين أن يقربوا المسجد الحرام طوال العام " عَامِهِمْ" وليس في موسم معين "سنة"، وكذلك التحريم والتحليل، وكذلك فتنتهم، وكذلك فصال الإنسان"، فهي جميعاً تتحدث عن العام بطوله وليس عن السنة، فلو جاء اللفظ مثلاً على نحو "فلا يقربوا المسجد الحرام بعد سنتهم هذه" لفهمنا أنّ التحريم كان في موسم من مواسم العام وليس العام كله بناء على حسابهم هم للسنة. وإنما التحريم كان في فترة الإثني عشر شهراً (العام بطوله).
ولنتدبر أيضاً قوله تعالى:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى طه (40)
وسؤالنا هو: أليست الفترة التي قضاها موسى في أهل مدين معروفة؟ ألم يقل الله تعالى في محكم التنزيل:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ... القصص (27)
فلم استخدم لفظ "السنين" بدلاً من "العام" في قوله " فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ"؟ الجواب كلا، فالفترة التي قضاها موسى في أهل مدين لم تكن محددة لقوله تعالى:
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ القصص (27)
فالفترة كانت من ثمان إلى عشر حجج (أعوام) وبالتالي يستحيل إستخدام لفظ العام، ويصار إلى إستخدام لفظ السنة، فالسنة غير محددة (لأنها تختلف من أمة إلى أخرى) بينما العام محدد، لذا جآءت الروعة القرآنية في قوله تعالى:
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113)
فلو كان الناس جميعهم يعرفون بالتحديد الفترة التي قضوها لاستخدم لفظ العام، ولكنهم لا يعرفون ذلك فكان جوابهم " قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ" لتؤكد فكرة عدم الدقة في المعرفة البشرية للزمن، ولكن من الجميل أيضاً معرفة تتمة الآية وهي "فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ"، فهناك عادين وليس عاد واحد، وذلك لأنّ لكل أمة عادّهم الذي قد لا ينظر إلى الزمن بنفس الطريقة التي ينظر بها غيره، ففي حين أنّ السنة الملادية –كما أسلفنا- إثنا عشر شهراً والسنة الهجرية إثنا عشر شهراً كذلك لكنهما لا يتطابقان لا في البداية ولا في النهاية ولا حتى في حساب الشهر الواحد، فالإنسان العربي قد يعيش سبعين سنة في عدّه التي قد تعادل ثمانين أو لربما ستين سنة في عدّ غيره، وبهذا يتفاوت حساب العمر من أمة إلى أخرى، ولنتدبر قوله تعالى:
غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
أليس الله من يعلم الفترة الزمنية بالتحديد متى ستغلب الروم؟ فلم عبر عنها بقوله "فِي بِضْعِ سِنِينَ"؟ أي لم لم يحددها بالضبط؟ فنقول لنتذكر أنّ الخطاب موجه إلى النبي محمد وقومه ولكنه بخصوص أمة أخرى وهي الروم، فـ بم إذاً سيتم تحديد الفترة الزمنية بحساب قوم محمد أم بحساب الروم ولكل منهم حسابه الذي لا يتطابق مع الآخر؟ فلو جاء التحديد بالرقم بحساب قريش ولنقل سبع سنين مثلاً لقالت الروم (وكذلك الأمم الخرى) أنّ النبؤءة لم تتحقق لأنّ إنتصارهم كان بعد ثمان أو ست سنين من حسابهم هم، ولو جاءت محددة بالرقم بحساب الروم ولنقل ثمان سنين لقالت قريش أنّ النبؤة لم تصدق لأنّ إنتصار الروم كان في سنتهم السابعة، وتخيل معي ردة فعل الأمم الأخرى مادام حسابهم للزمن يميزهم عن الأمم الأخرى، لذا جاءت الدقة القرانية على نحو "في بضع سنين" لتحسبها كل أمة بطريقتها ما دامت السنة تختلف من أمة إلى أخرى، وبالتالي نصل إلى مبتغانا: لقد عاش نوح ألف سنة من حساب قومه.
كيف نحسب عمر نوح
لقد توصلنا إلى الفهم أنّ السنة تختلف من أمة إلى أخرى، بينما العام ثابت وهو إثنا عشر شهراً. وبالتالي يكون عمر نوح كما أسلفنا الف سنة من حساب قومه (بدليل أنه لبث فيهم)، يطرح منه خمسين عاما، فتكون الحسبة على النحو التالي:
1000 سنة نوحية – خمسين عاما
1000 (س شهر) – (50 × 12 شهر)
فإذا كانت السنة في قوم نوح هي إثنا عشر شهراً مثل العام يكون نوح قد عاش فعلاً تسعماية وخمسين عاماً، ولكن مادام أنه قد عاش ألف سنة إلا خمسين عاما فهذا يدل على أنّ العام يختلف عن السنة وإلاّ لما تغير اللفظ (كما الحال في أهل الكهف)، وبالتالي فنحن بحاجة لحساب عمر نوح إما بالسنة أو بالعام (بواحدة من الطرق)، فالقرآن الكريم قدّم لنا عمر نوح باستخدام السنة والعام معاً "أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا"، فالسؤال المفاجىء للباحث بعلوم القرآن هو: هل عاش نوح تسعماية وخمسين سنة أم تسعماية وخمسين عاما؟
لقد درج جل الفكر الإسلامي إلى عدم التميز (إلا بحفنة من المعاني المجازية التي قلما ترضي حتى من يقدمها) بين اللفظين، وها نحن نقدم هنا تمييزاً حقيقياً بينهما.
فلنحسب عمر نوح الحقيقي بالبحث عن طول السنة التي كان يحسبها قومه، فلقد ذكرنا آنفاً أنّ مجتمع نوح قد تميز بوفرة مياه الأمطار وكثرة الأنهار وفساحة الأرض الممتدة والجبال العالية وكثرة الأموال ووفرة اليد العاملة:
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
فعندما تتوافر هذه الظروف جميعها، يصبح من الطبيعي إستغلال جميع المواسم الزراعية، فتكثر المحاصيل الحقلية والشجرية ويصبح هناك أكثر من موسم زراعي، أي أكثر من سنة، فلا عجب أنْ يكون هناك موسمان أو ثلاثة أو حتى أربعة مواسم زراعية، فإذا كان هناك موسمان كان العام سنتان وإذا كان هناك ثلاثة مواسم أصبح العام ثلاث سنين وإذا كان هناك أربعة مواسم أصبح العام أربع سنين.
فتصبح إحتمالات عمر نوح على النحو التالي:
(1000 × 1) – 50 = 950 عاما
(1000 × ½ ) - 50 = 450 عاما
(1000 × ⅓) - 50 = 283.333 عاما
(1000 × ¼ ) - 50 = 200 عاما
فالإحتمالات هي أنّ نوحاً قد عاش تسعماية وخمسين عاماً أو 450 عاماً أو 283 عاماً أو 200 عاما، وما نحن بحاجة له هو البحث عن طول السنة النوحية لنقرر عندها كم كان عمر نوح محسوباً بالعام.
والدقة تستلزم أيضاً القول أن السنة الزراعية تحسب بدورة الشمس بينما العام يحسب بدورة القمر (ولا علاقة له بالمواسم الزراعية)، وما دامت دورة القمر أقل من دورة الشمس بحوالى عشرة أيام تصبح عملية الطرح النهائية تستوجب أخذ الفارق بعين الإعتبار الذي سنحسبه في نهاية الأمر.
ونكتفي هنا إلى الإشارة إلى أنّه بتوافر عوامل الزراعة كالأمطار (يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا) والأنهار (وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) والأرض الخصبة الممتدة (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) والجبال العالية الشجرية (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء) ووفرة المال والأيدي العاملة (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) تكون الفصول جميعها مواسم زراعية ناجحة وتتنوع المحاصيل الزراعية، ونحن نعلم أنّ الزراعة تكون على واحدة من الأشكال التالية:
زراعة موسم واحد في العام وبهذا تكون المجتمعات تحسب العام سنة والسنة عاما
زراعة موسمين في العام الواحد، فتكون سنة المزارع في العام مرتين
زراعة فصلية في العام الواحد، فتكون زراعة دائمة وهي على مدار الفصول الأربعة، فتتكرر سنة المزارع في العام الواحد أربع مرات، ولازالت كثير من المجتمعات تحسب الزمن بناءاً على مواسمها الزراعية.
ففي حين أنّ العام كان في أرض عزيز مصر- وهي الأرض التي لا تتوافر بها عوامل نجاح الزراعة كما تتوافر في أرض قوم نوح- موسمان (السنابل والعصير) تكون الزراعة في قوم نوح أكثر من موسمين، فهي إذاً فصلية، فيكون العام الواحد أربعة مواسم (سنين)، ويكون عمر نوح هو الإحتمال الأخير (200) عاما.
نعم ذلك هو عمر نوح، وذلك هو عمر طويل مقارنة بعمر قومه والأقوام الأخرى، فلو كان نوح قد عاش ما يقرب ألف عام كما يظن البعض بينما كانت أعمار قومه عادية كباقي الأمم لكان هناك –على أقل تقدير- معضلتان أساسيتان وهما (1) من هم قومه الذين اهلكهم الطوفان، فلا شك أنّ نوحاً قد عايش بذلك أجيالاً وليس جيلاً واحدا و (2) ألم يكن عمر نوح بحد ذاته سيشكل دليلاً كافياً على صدق رسالته؟ فكيف ستكذب الغالبية الساحقة من قومه من عاش هذا العمر الطويل جداً بين ظهرانيهم؟ فإن كان كذبه جيل كان سيصدقه أجيال.
أما إذا كان ذلك عمر نوح وعمر الغالبية من قومه لما كان الله سيتحدث عن عمر نوح في سياق الحديث عن دعوته، فالله سبحانه لم يتحدث عن عمر أي نبي آخر بشكل محدد بعدد السنين والأعوم، فما الداعي أنْ يتحدث عن عمر نوح على وجه التحديد؟ فقد يرد البعض بالقول لأنه كان نبياً معمرا، فنقول ألم يكن إبراهيم نبياً معمراً؟
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)
ألم يعمر يعقوب طويلاً، وهو الذي عاش حتى أصبح من ولده (وليس أكبرهم) عزيز مصر؟
ألم يكن زكريا معمرا وهو الذي دعا ربه الذرية بعدما بلغ من الكبر عتيا؟
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
ألم يكن شعيب نبياً معمرا، وبناته هم من رعوا الغنم عندما كان ابوهم شيخاً كبيرا؟
وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
ولكن مَن مِن هولاء تم تحديد عمره بالأرقام؟ فقط نوح.
ولنحسب عمر نوح (عليه السلام) من هذا المنظور، فلقد عاش نوح ألف موسم زراعي، وما دامت الزراعة في تلك الأرض كما أسلفنا فصلية، تكون الحسبة على النحو التالي:
(1000 × ¼ ) = 250 سنة ميلادية
وبحساب ذلك بالأيام، يكون 250 سنة شمسية ميلادية تساوي
250 × 365 = 91250 يوماً
ولكن ينقض من ذلك 50 عاماً، ونحن نعرف أنّ العام القمري ينقص حوالي عشرة أيام عن السنة الشمسية، فتكون فترة الخمسين عاما تساوي:
50 × 355 = 17750 يوماً
وعندما نطرح هذا الرقم من مجموع الأيام التي عاشها نوح (91250 )، تصبح النتيجة على النحو التالي:
91250- 17750 = 73500
فلقد عاش نوح (73500) يوما، ولحساب السنة الميلادية، يقسم ذلك الرقم على 365 فتكون النتيجة على النحو التالي:
73500 ÷ 365 = 201.3698630سنة ميلادية (والله أعلم)
وهذا عمر طويل مقارنة بأعمار البشرية منذ بدء الخليقة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو العمر الذي لن يستطيع الإنسان تجاوزه بأدواته المادية وإنْ تطورت، وهو العمر الذي جعل نوحاً معمراً في قومه ومعمراً مقارنة بالإمم الأخرى، وهو العمر الذي لن ينتفي معه الدليل الإيماني العلمي، فلا شك أنّ نوحا قد عاصر برسالته جيلاً وليس أجيالاً من قومه، فالجيل الذي جاءته الرسالة هو نفس الجيل الذي وقع عليه العذاب الرباني لمّا كذب رسالة نبيهم لهم.
أسأل الله أن أعلم منه ما لا تعلمون، وكفى بالله رقيبا. وكفى بالله شهيدا، وكفى بالله وكيلا، وكفى بالله حسيبا، وكفى بالله نصيرا.
ملاحظة: للحصول على النص الكامل بإطاره النظري، يرجى الإتصال بالمولف على بريده الإلكتروني
د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن
على بريده الإلكتروني التالي:
rsaljarrah@yahoo.com
أو أنقر على صفحته الإلكترونية على العنوان التالي:
http://faculty.yu.edu.jo/RALJJARA/default.aspx?pg=bf322587-7a53-4485-b9ca-6c0583bf5748