ماذا كتب في الزبور 6؟
لقد خلصنا في مقالتنا السابقة إلى الزعم بأن الأمم السابقة لم تبدّل كلام الله ولكنّها حرّفت كلمات الله، وزعمنا كذلك أن التحريف لا يعني استبدال اللفظ بلفظ آخر، لأن ذلك – بمفردات القرآن الكريم- يعني تبديلاً وليس تحريفاً، والله نفسه قد تعهد في أكثر من موضع في كتابه الكريم بأن لا تبديل لكلماته:
لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
وإنما قد يتم التحريف (والذي هو من صنعة العلماء فقط) بطريقتين وهما:
(1) المراوغة في معاني الألفاظ نفسها، فاللفظ نفسه يحمله كل واحد منهم على نحو ما يحب ويرغب دون دليل على زعمه من كتاب الله يثبت ما ذهب إليه، وعندها يحدث خلطاً في الألفاظ يصعب على الناس التمييز بينها، فمن من أهل العلم (والعامة على حد سواء) يستطيع التفريق بين الذكر والقرآن والفرقان مثلاً؟ فلا أظن أنّ أهل الإسلام قد استطاعوا الخروج بتعريفات واضحة مميزة لكل واحدة من هذه الألفاظ التي غالباً ما حملوها على الإجمال وليس التفصيل، فكثير منهم يظن أنّ القرآن والذكر والفرقان هم جميعاً الشيء نفسه، وهذا بالضبط ما نفهم من معنى التحريف الذي يتحدث عنه النص القرآني، فالتحريف يكون بحمل الألفاظ على بعضها البعض دون تمييز يبيّن الاختلاف،
(2) إخفاء تلك الكلمات باستخدام وسيلة لتكون حاجزاً بين الناس ومعرفة كلمات الله على حقيقتها، وقد يكون ذلك الحاجز وسيلة ملموسة كتلك التي تستخدمها المرأة لتخفي زينتها (وهو ما فعله أهل الإنجيل عندما لم تكن النسخ من الكتاب متوافرة عند العامة حتى ضاع النص الأصلي)[1]، وقد يكون الإخفاء بالنفس أو الصدر، وذلك بعدم البوح به على العامة والتستر عليه بدوافع عدم إثارة الشبهات حول الدين. ففي صدور أهل العلم كثير من الإشكالات التي يعلمون أنها لازالت غير مفهومه (لهم ولغيرهم)، ولكنّهم بدل أن يظهروها للناس ليتفكروا بها، ما انفكوا يبذلون قصارى جهدهم للتستر عليها، ويكأنهم بفعلتهم هذه يستطيعون حجب المعرفة عن الناس وإلى الأبد. هيهات!
وخلصنا إلى الزعم أنّ كل هذه الوسائل في التحريف لم تكن حكراً على الأمم التي سبقتنا كاليهود والنصارى (وإن كانوا هم السبّاقون في ذلك)، فلقد وقعنا - نحن المسلمين- في الفخ نفسه الذي أوقع علماء بني إسرائيل العامة من الناس فيه، فهم قد حرّفوا التوراة والإنجيل ، وبالمنطق نفسه فقد حرّف علماء المسلمين القرآن وإنْ لم يبدّلوا كلماته. فلا أحد (يهودياً كان أو نصرانياً أو مسلماً) يستطيع تبديل كلمات الله، فالله قد تعهد بحفظ كلماته (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)، ولكن أهل العلم – على وجه التحديد- يستطيعون تحريفها. وقد فعلوا.
وليس أدل على معنى التحريف - الذي نفهمه من كلام الله - من تحريف علماء المسلمين للآية الكريمة التي نتحدث عنها وهي الآية التي ورد فيه التعهد الإلهي بحفظ الذكر من الكتاب:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
فعلماء الإسلام لم يبدلوا كلمة الذكر بكلمة القرآن، فلا نجد نسخة واحدة من المصحف تستخدم لفظة القرآن بدل لفظة الذّكر في هذه الآية الكريمة، ولا نجد أحداً من علماء المسلمين يقرأ الآية بلفظة القرآن بدّل لفظة الذكر، ولو فعل طالب في الصف الخامس ج ذلك، لأوقفه كل طلاب صفه (وإن كان المعلم غارقا في هموم ديونه المتراكمة وبصيص الأمل في الزيادة المرتقبة التي يتناقل الناس أخبارها منذ ثلاث سنين خلت) ليصححوا له الخطأ الذي وقع فيه، ولذكّروه جميعاً بأن اللفظ هو الذّكر وليس القرآن. ولو أخطأ من يَؤم الناس في الصلاة فتلفظ بمفردة القرآن بدل الذّكر عندما كان يقرأ هذه الآية الكريمة في الصلاة الجهورية، لتعالت الأصوات من الصف الأخير قبل أن يتمكن من يتولى من يقف وراء الإمام مباشرة لتصحيح الخطأ الذي وقع فيه الإمام.
ولكن بالرغم من هذا الالتزام العظيم بالنص كما يجب، فإن علماء الإسلام قد حرّفوا كلمة الذّكر عندما زعموا أنها القرآن نفسه في جميع تأويلاتهم وتفسيراتهم للآية الكريمة (انظر تفاسير العلماء المسلمين جميعاً لهذه الآية الكريمة)، فغرسوا تلك الفكرة في أذهانهم وفي أذهان كافة أبناء الإسلام، حتى لم يعد هناك من يشكك في فهمهم ذاك (إلا رشيد الجراح وقلة ممن يغرّدون خارج السرب).
وقد كان جلّ ردنا عليهم في مقالتنا السابقة يتمحور حول إثارة التساؤل التالي: إذا كان الذّكر هو القرآن نفسه (كما تزعمون)، وإذا كان تعهد الله بحفظ الذّكر هو تعهده بحفظ القرآن (كما تظنون)، فلم لم يستخدم الله اللفظ نفسه للحديث عن حفظ القرآن وحفظ الذّكر؟ وما الفائدة من استخدام لفظ الذّكر على وجه التحديد للحديث عن الحفظ؟ إن عدم التحريف – في رأينا- يعني التوقف عن التلاعب بمعاني الألفاظ، فالذّكر هو الذّكر والقرآن هو القرآن، ولا يجب الخلط، فهما كينونتان مختلفتان وإن تشابهتا كثيرا؟ فصحيح أن التفاح يشبه البرتقال في الشكل والحجم والصنف و...الخ، إلا أنّهما شيئان مختلفان: هذا تفاح وذاك برتقال، وشتان بين الاثنين. (انظر المقالة السابقة ماذا كتب في الزبور5؟)
وهذه النتيجة تعيدنا إلى لبِّ النقاش الذي بداءناه حول قول الحق في كتاب الكريم:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
لنخرج بالنتيجة التالية التي تختلف بشكل جذري عن كل ما هو سائد في الفكر الديني الإسلامي منذ قرون طويلة من الزمن: الذكر ليس القرآن والله لم يتعهد بحفظ القرآن ولكنه تعهد بحفظ الذّكر فقط
الدليل
لو دققنا في الآيتين الكريمتين التاليتين لوجدنا فرقاً جوهرياً قلما وقف عنده أهل الدراية من علماء المسلمين، والفرق يتمثل في التنبه إلى من أنزل الله عليه الذكر ومن أنزل عليه القرآن:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)
لاحظ أنه في حين أن النص القرآني يبين صراحة أن القرآن قد أنزله الله على محمد بدليل بشكل خاص حرف الجر على (كما يحب أهل العربية أن يسموه) في قوله " عَلَيْكَ"، لم يأتي صريح اللفظ كذلك في الآية التي تتحدث عن تنزيل الذكر. لنخلص إلى الافتراء الخطير جداً الذي هو بلا شك من عند أنفسنا بالقول: في حين أن القرآن نزل خصيصاً على محمد لم يكن الذكر كذلك، فالذكر ليس – في ظننا- خاصاً بنبي ولا رسول بعينه.
فما هو الذكر؟
إنه رسالة الله التي أنزلها على جميع رسله، لذا فإننا نتجرأ على الزعم بأنّ الذّكر موجود في القرآن، والذّكر موجود في التوراة، والذّكر موجود في الإنجيل، والذّكر موجود في زبر الله جميعاً التي أرسل بها أنبياءه إلى عبادة كافة. وقد تعهد الله بحفظ كلماته التي أنزلها على عباده من خلال رسله منذ الأزل في قوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
فالقرآن الكريم ليس عبارة عن ذكر فقط، بل هو ذكر وآيات:
ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
فمحمد قد نزل عليه الذّكر:
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
ونزل ذِكر مثله على موسى وأخيه هارون، والمقارنة معقودة في قوله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
فالذي نزل على محمد هو ذكر خاص به وبقومه:
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
لذا، نجد لزاماً التوقف هنا للتأكيد على فكرة ردّدناها مراراً وهي أن هذه التجاوزات (أو التحريفات) لم تتوقف عند مفردة الذكر فحسب، بل تعدّتها إلى كل مفردات الكتاب تقريباً، فلو سألت علماء المسلمين عن الفرقان لقالوا لك أنّه القرآن الكريم، ولكنّك إن ذكّرتهم بالآية الكريمة التالية، للجو في طغيانهم يعمهون:
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
ولوقعوا وأوقعوا غيرهم (خاصة من يصدّقهم دون تدبر) في حيرة لا يستطيعون بعدها أن يبيّنوا للناس كيف أن الفرقان هو القرآن في الوقت الذي يقول الله بصريح اللفظ في كتابه أنه قد آتى موسى الفرقان؟! من يدري!
إنّ ما يهمنا أن نخلص إليه هنا هو القول بأن إبدال لفظةٍ بلفظةٍ مشابهة لها عند تفسير المفردات القرآنية المقصودة لذاتها هو التحريف بعينه، فعندما تزعم أنّ القرآن هو الذّكر أو أن القرآن هو الفرقان، ولا تبيّن للناس الفرق بينهما، فإنك بفعلتك تلك تحرّف الكلم عن مواضعه أو من بعد مواضعه مصداقاً لقوله تعالى:
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المائدة 13
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ المائدة 41
ولكن السؤال الذي لم نجب عليه بعد هو: إنْ صح ما تزعم – يقول بعضهم- بأن القرآن شيء والذّكر شيء آخر وإن تشابها كثيراً، فما الفرق بينهما؟ فما هو الذّكر؟ وما هو القرآن؟ وكيف يختلف الأول عن الثاني؟
رأينا
القرآن: هو ما نزل على محمد فقط
الذّكر: هو ما نزل على جميع رسل الله (بمن فيهم محمد)
الدليل
أما الدليل على أن القرآن الكريم قد نزل على محمد بشكل خاص فإننا نقدم السياقات القرآنية التي ورد فيها ذكر لمفردة القرآن ونتحدى أن يجد أحد فيها إشارة إلى أن الكلام يخص غير النبي محمد وقومه، فقد وردت مفردة القرآن بصيغة التعريف (القرآن):
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَايُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البقرة 185
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا النساء 82
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ المائدة 101
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۚ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُل لَّا أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌمِّمَّا تُشْرِكُونَ الأنعام 19
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوابِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة 111
وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ يونس37
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ يوسف 3
إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا الإسراء 9
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا الإسراء 41
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا الإسراء 45
وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا الإسراء 46
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ۚ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ۚ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا الإسراء 60
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا الإسراء 82
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا الإسراء 88
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا الإسراء 89
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا الكهف 54
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا طه114
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا الفرقان 32
إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ النمل 76
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ النمل 92
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ القصص 85
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ الروم58
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْلَكُنَّا مُؤْمِنِينَ سبإ 31
إِنَّكَ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) يس 1-3
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الزمر 27
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فصلت 26
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ الأحقاف 29
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ق 45
لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ الحشر 21
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُمِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَاتُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المزمل 20
وقد وردت كذلك بصيغة التنكير (قرآناً):
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يوسف 2
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَاصَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ الرعد 31
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا الإسراء 106
وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا طه 113
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍبَعِيدٍ فصلت 44
وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ الشورى 7
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا الجن 1
وجاءت بصيغة التنكير (قران)
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يونس (15)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ يونس (61)
الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الحجر (1)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا الإسراء (78)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ يس (69)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة 17-19
إنّ جل ما يهمنا في هذا المقام هو الفهم بأن هذا القرآن قد نزل على محمد فقط، وربما يصدق ظننا هذا ما جاء في الآية الكريمة التالية التي نظن أنها قاطعة الدلالة بأن القرآن قد نزل خصيصاً على محمد:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا الإنسان (23)
وقد جعله الله قرآناً عربياً على وجه التحديد، فقد كان في الكتاب الأم ولكن الله نقله من صورته الأصلية في ذلك الكتاب (الذي لا ريب فيه) إلى صيغة جديدة بلسان عربي:
ولكن الكثيرون سيثرون التساؤل التالي: فأين الذّكر إذاً (إن كان مختلفاً عن القرآن – كما تزعم)؟
الجواب: إن كل ما نزل على محمد من ربه هو قرآن ولكن ليس كل ما نزل على محمد هو ذكر، فالذكر جزء من القرآن وليس القرآن كله، وذلك الجزء من القرآن (الذي هو ذكر) هو ما تكفل الله بحفظه فقط، ولكن كيف؟
إن هذا الزعم يعيدنا إلى فهم ماهيّة الذكر، لنطرح السؤال التالي: كيف يختلف الذّكر عن القرآن؟
إن الجواب على هذا التساؤل موجود - في رأينا - في السياقات القرآنية التي سنتناول بعض منها في الحال.
أولاً، لنقرأ قول الحق في الآية الكريمة التالية، علّنا نخرج ببعض الاستنباطات التي قد ترشدنا – بحول الله- إلى فهم الحقائق كما يجلّيها النص القرآني نفسه لا كما نحبها نحن أن تكون، قال تعالى:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
إن أبسط ما يمكن أن ترشدنا إليه هذه الآية الكريمة هو الهدف من إنزال الذّكر، فالله يقول لنبيه بأنه قد أنزل إليه الذّكر (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) والهدف من ذلك التنزيل هو (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، أليس كذلك؟
ألا تثير هذه الآية الكريمة التساؤل التالي: كيف بالذّكر أن يبيّن للناس ما نزّل إليهم؟ فما الذي نزّل إليهم حتى يقوم الذكر بتبيانه؟ أليس هو القرآن؟ أليس ما نزّل إليهم هو القرآن؟ إذاً ألا نفهم بأن الذكر هو تبيان للقرآن؟
لنتذكر دائماً هذه الغاية من تنزيل الذكر، ولننطلق منها لنتدبر بعض الجزئيات في هذه الآية الكريمة، فـ لربما يساعدنا فهم هذه الجزئيات على فهم النص الأوسع بشكل أكثر دقة.
الجزئية الأولى
لنبدأ بقول الحق وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فمهمة محمد من تلقي الذكر من ربه لم تكن لإبلاغ الناس بشيء جديد لم يسبق ورود خبره، وإنما كانت " لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ".
ولو تدبرنا النص أكثر لـ ربما فهمنا أن مهمة محمد بعد أن نزل إليه الذكر لم تكن محصورة بتبيان الأمر للمسلمين وإنما للناس " لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ"، سواءً كانوا مسلمين أو نصارى أو يهود أو حتى ممن لا يؤمنون بهذه الديانات المعروفة. فلو كان التبيان المكلف به النبي في هذه الآية الكريمة خاصاً بالمسلمين لـ ربما جاء النص على نحو لتبين لهم ما نزل إليهم أو لتبين للذين أمنوا ما نزل إليهم، وهكذا.
وبهذا الفهم ربما يبين لنا وجاهة السبب الذي من أجله يوجّه الله نبيه وأتباعه إلى سؤال أهل الذكر:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ النحل (43)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الأنبياء (7)
فكما نحن أهل الذكر، فهم أيضاً أهل الذكر، وكما يجب علينا أن نسألهم، فعليهم كذلك أن يأخذوا مما عندنا لأنّه كما يبيّن لنا فهو كذلك يبيّن لهم ما نزّل إليهم. فهذه رسالة سماوية واحدة، مصدرها واحد، وهدفها واحد، لذا فهي تفسر بعضها بعضا. وقد أخفقوا هم في فهم الذّكر بالضبط كما أخفقنا نحن في فهمه:
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا
لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ
إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ
وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ۚ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ
أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ۖ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ۗ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ۖ فَهُم مُّعْرِضُونَ
مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
فحتى قوم نوح جاءهم نبيهم نوح بذكر من ربهم:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) الأعراف 59-64
وكذلك كان الحال بالنسبة لقوم عاد:
وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ۖ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
إن خلاصة القول هو أن الذكر الذي بين أيدينا لا يخص المسلمين فقط وإنما هو للعالمين أجمعين، فقد جاء قوم محمد ذكر من ربهم كما جاء الأقوام السابقة ذكر من ربهم، فأصبح الذكر عالمياً:
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
النتيجة: الذكر هو رسالة ربانية أنزلها على جميع عباده وتكفل بحفظها
الجزئية الثانية
ولو أمعنا التفكر في جزئية أخرى في هذا النص وهي اختلاف اللفظ بين تنزيل الذكر وتنزيل القرآن لوجدنا أن الله يستخدم لفظتين في هذه الآية الكريمة وهما أنزل للحديث عن الذكر (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) ونزّل عند الحديث عن القرآن (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
وقد تطرقنا في مقالة سابقة لنا عن الفرق بين أنزل ونزّل، وزعمنا الفهم أن الفرق قد يكمن في الطريقة، فأنزل تعنى أن الشيء قد جاء كجملة واحدة، بينما قد تعني نزّل أن النص قد جاء على أكثر من مرحلة. ولمّا كان الذكر هو موجود في الزبور (الكتاب السجل) من قبل أن ينزّل القرآن وقد أنزله الله على أقوام كثيرين قبلنا، فقد جاء دفعة واحدة لا يمكن تجزئته، بينما لما كان القرآن خاصاً بهذه الأمة فقد جاء تنزيله على دفعات:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا
فالقرآن لم ينزل جملة واحدة لأنه خاص بأمة محمد، فالله يطلب من الذين أمنوا مع محمد أن لا يستعجلوا بالسؤال عن كل شيء لأنه حين ينزل القرآن "حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ" (أي يكون قد أكتمل نزوله) ويصبح بين أيديهم كجملة واحدة، ستكون الأمور جلية حينئذ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ المائدة 101
النتيجة: القرآن لم ينزل جملة واحدة ولكنه أكتمل مع إتمام النبي محمد لرسالته (فهو رسالة محلية خاصة بأمة محمد)، والله قد أمر النبي بأن لا يعجل به:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
وسنرى لاحقاً (إن أذن الله لنا بشيء من علمه ) كيف يمكن التفريق بين القرآن كما نزل على قلب محمد والقرآن الذي تم تفريقه ليقرأ على الناس على مكث:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
ولكن الذّكر كان موجوداً كجملة واحدة من قبل بعثة محمد (فهو عالمياً خاصاً بكل الأمم)، وهذا الجزء من القرآن هو ما تعهد الله بحفظه.
ولكن، توقف يا رجل! ألا تهذي، كيف تفصل بين الذّكر والقرآن؟ وأين هو ذلك الجزء من القرآن الذي تعهد الله بحفظه (الذّكر)؟ وأين ذلك الجزء الذي لم يتعهد الله بحفظه (القرآن)؟
الجواب: لقد فهمنا من آية سابقة أن الهدف من إنزال الذّكر هو تبيان ما نزّل إلى الناس من ربهم، فالذّكر هو ذلك الجزء من القرآن الذي يبين للناس ما نزل إليهم:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وهناك سياقات كثيرة في كتاب الله قد تدعم زعمنا بأن الذكر هو تبيان (لنقل تجاوزاً) السبب أو الحكمة من وراء أمر شق على الناس فهمه، فعندما لا يفهم الناس السبب وراء أمر ما، فهم بحاجة إلى الذكر الذي يقدم لهم التفسير الإلهي ليبين لهم ذلك الأمر على حقيقته، وهذا بالضبط ما نفهمه من معنى الذكر. ، ولكن أين الدليل على هذا القول؟
الجواب: لنبدأ بالآية الكريمة التالية:
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا الكهف 70
لا أشك أنّ غالبية أبناء المسلمين يعلمون الحادثة التي جاءت هذه الآية الكريمة لتتحدث عنها، إنّها قصة موسى مع ذلك العبد الصالح الذي سافر موسى مع فتاه طالباً صحبته، أليس كذلك؟ فلنتفكر بهذه الآية من هذا الجانب: موسى يطلب من الرجل أن يتبعه ليتعلّم منه موسى مما علّمه الله:
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
ولكن الرجل لا يتقبل صحبة موسى على الفور، بل شكك بقدرة موسى على الصبر على صحبته:
قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
ولما أصر موسى على الرجل طالباً صحبته:
قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
جاء طلب الرجل من موسى على نحو أن لا يسأله عن شي حتى يحدث هو لموسى منه ذكراً:
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا
والآن لنسأل: ما معنى ذكراً في هذه الآية الكريمة؟ ألا تعني أن الرجل يطلب من موسى أن لا يسأله عن سبب قيامه بعمل يعمله حتى يقوم الرجل نفسه بتبيانه لموسى؟ وها هو موسى لا يصبر على ما فعل الرجل، فكلما كان يقوم الرجل بعمل ما، يتعجل موسى للاستفسار عن سببه (أي ذكره)، فيزجر الرجلُ موسى على تسرعه لمعرفة السبب أو العلة (ذكرا).
ويتكرر هذا الزجر ثلاث مرات: عند خرق السفينة، وعند قتل الغلام، وعند بناء الجدار، فكان موسى يطلب في كل مره أن يحدث له الرجلُ من الأمر ذكرا (أي الإحاطة بالأمر خبرا)، ولما لم يصبر موسى على صحبة الرجل، قام الرجل في نهاية الرحلة فأحدث لموسى من تلك الأمور الثلاثة تعليلاً، أي تعليلاً يبين له السبب الذي دفعه للقيام بكل عمل أقدم عليه، أي أصبح موسى يحيط بالأمر خبرا، فخلاصة القول هي أن الرجل قد أحدث لموسى تعليلاً عن ما فعل (لأن موسى لم يكن يعرف السبب من وراء قيام الرجل بذلك – فهو لا يحيط بالأمر خبرا)، أليس كذلك؟ ولكن لا ننسى أن الرجل قد أكّد لموسى بأن ذلك التعليل (أي التفسير) لم يكن من عنده بل من عند ربه الذي علّمه:
... وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
النتيجة: الذكر هو ما يشبه التأويل ولكنه ليس كأي تأويل، إنه التأويل الرباني للأحداث، فما أقدمه أنا من تفسير لحدث ما هو تأويل، وما تقدمه أنت هو تأويل، وما يقدمه نبي من الله هو تأويل، ولكن التأويل الذي يصدر من عليم خبير هو ذكر وذلك لأنه التأويل الحق الذي لا جدال فيه.
(وسنحاول لاحقاً بحول الله وتوفيقه أن نميز بين الذكر والتأويل بالتفصيل عند التعرض لقصة موسى مع صاحبه، لذا فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً)
دليل آخر
وها هم نفر من يهود (ومعهم بعض المشركين) يطلبوا من محمد أن يخبرهم عن ذاك الرجل الذي آتاه الله من كل شيء سبباً، فيأتي الرد ألإلهي على هذا النحو:
فما معنى أن يتلو عليهم منه ذكرا؟ لقد شرح الله لهم بالتفصيل اللازم دون زيادة لا تفيد أو نقصان يضر قصة ذلك الرجل، فما جاء بعد هذه الآية الكريمة كان تفسيراً (أو لنقل توضيحاً) لخبر ذلك الرجل الذي كان قد أقلقهم خبره، ولكنه ليس كأي تفصيل بل هو التفصيل الحق الذي لا جدال فيه.
فمفردة الذكر تعني – في فهمنا لاستخداماتها القرآنية- توضيح أو تفصيل الحادثة، فنص الحادثة نفسها هو قرآن، ولكن العلة أو السبب من ذلك هو ذكر. فحد السرقة هو قطع اليد، ولكن السبب من وراء ذلك هو ذكر، وصوم رمضان هو تكليف قرآني ولكن السبب من وراءه هو ذكر، والزواج بأكثر من امرأة واحدة هو خبر قرآني، ولكن السبب من وراء ذلك هو ذكر، وهكذا.
وربما لهذا، فإن السبب الذي يفسر حدث إلهي لا يمكن أن يختلف من أمة إلى أمة، فهو موجود عند الله في السجل الأول لا يمكن أن يختلف من ديانة إلى آخر، فالتأويل الرباني لتعدد الزوجات لا يمكن أن يكون شيئا في شريعة محمد وشيئا آخر في شريعة موسى، وهكذا الأمر بالنسبة لكل تكليف أو أمر رباني.
ولا يظنن أحد بأننا نقصد أن الذكر هو جزء من حرفية الكلام موجودة في القرآن، فالنص كله قرآن، ولكن الحكمة الصحيحة (أو السبب الحقيقي أو التأويل الرباني الذي لا جدال فيه) الذي يجب أن تستنبط من كل السياقات القرآنية لتعليل (أو لإيجاد السبب الحقيقي) أمر ما هو الذكر.
وبهذا الفهم ربما نستطيع تسليط الضوء على آية عظيمة في كتاب الله قلّ ما يستطيع تفصيلها (انظر تأويلات من سبقونا أولاً)، وهي قوله تعالى أكثر من مرة في السورة نفسها:
فكيف يمكن أن نفهم أن الله قد يسّر القرآن للذكر في الوقت الذي ما انفك علماء الإسلام يروجون لمقولتهم أن القرآن هو الذكر نفسه؟ فإن كان القرآن هو الذكر فكيف بالله يقول وَلَقَدْ يَسَّرْنَاالْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ؟ أفهمونا ولكم من الله الأجر!
رأينا: إننا نؤمن إيماناً يقينياً أن القرآن هو كل ما أنزل على محمد من ربه من أول حرف إلى آخر حرف بلا زيادة أو نقصان، ولكننا نؤمن كذلك –كما ترشدنا الآيات السابقة- أن الله قد يسر هذا القرآن للذكر، فكيف يكون ذلك؟
الجواب: إن السبب الحقيقي الذي يعلل حدث أو تكليف أو أمر رباني في كتابه الكريم موجود في الكتاب من بدايته حتى نهايته، فالقرآن الكريم كتلة واحدة لا يؤخذ بعضها ويترك بعضها الآخر (COHERENT WHOLE باللسان الأعجمي)، وهو يفسر بعضه البعض، فقد يفسر خبر قرآني ورد في سورة البقرة ما جاء في آل عمران والنساء والبروج، وهكذا. والله يخبرنا بأن هذا التفسير (التأويل الرباني لكل شيء) موجود في كتابه لأن الله قد يسره للذكر، وما دام أن الله قد يسره، فهو سهل بسيط يخلو من التعقيد واللّف والدوران، فهو بسيط لا يصعب على الناس فهمه، ولا يحتاج إلى كثير عناء لترويجه، فهو يروج نفسه بنفسه.
وأين الدليل على ذلك؟
لقد جاء معنى التيسير في أكثر من موضع في كتاب الله:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البقرة (185)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ البقرة (196)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة (280)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا الكهف (88)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا مريم (97)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) طه 25-27
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا الطلاق (4)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ۖ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا الطلاق (7)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المزمل (20)
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) عبس 19-21
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9) الأعلى 7-9
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) الانشراح 5-6
إن جميع هذه السياقات القرآنية تدلنا أن التيسير يدل على السهولة والتوافر، فما هو ميسر فهو سهل المنال، ولكن لا يظنن أحد بأنه لا يحتاج إل جهد، فالله يريد بنا اليسر في صيامنا شهر رمضان، ولكن هل يأتي ذلك بدون جهد؟
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البقرة (185)
كذلك هو – في ظننا- الذكر من القرآن، هو سهل يسير على من بذل جهداً للوصول إليه، ويصبح سهلاً يسيراً على الفهم عندما يبين. فالمطلوب منا هو البحث عن ذلك الذكر (الحكمة الربانية) في كتاب الله نفسه لأنها متوافرة فيه، فإنٍ نحن أردنا أن نفهم سبب تعدد الزوجات فنحن إذاً نحتاج إلى الذكر لتعدد الزوجات، فذاك –لا شك- موجود في كتاب الله، وتحتاج إلى جهد للوصول إليها، وإنْ نحن سألنا عن الذكر في حد الزنا، فذاك في كتاب الله سهل يسير، وهكذا. ولكن ما أن يبين ذلك الذكر (أي العلة الصحيحة من كتاب الله) حتى يكتشف الناس كم هي سهلة ميسرة، فيتقبله الناس بكل سهوله ويتركون ما عداه حتى لو كان ذلك من بنات أفكار أكثر أهل الأرض معرفة.
ومما لا شك فيه أن الذكر (أي التأويل الرباني وليس تأويلات البشر وتخريفاتهم) هو فقط ما يلجم الناس جميعاً، فمهما تحدث الناس عن الحكمة من تعدد الزوجات دون دليل على زعمهم من كتاب الله نفسه بقي قولهم محل شك لدى الكثيرين، ولكن سيقتنع الجميع بذلك التعليل إن كان هو الذكر (أي السبب الرباني الحقيقي)، إي إن كان هو ما اختطه الله حقاً في كتابه الكريم، لأنه يكون بذلك هو الذكر بعينه. فتعليل الله مقنع للجميع (حتى وإن لم يقبلوا به) لأنه يقيم الحجة عليهم، وتعليل البشر يخصهم أنفسهم ولا يلزم الناس قبوله.
ولكن من الذي يستطيع الوصول إلى الذّكر من القرآن؟
تتحدث الآية الكريمة نفسها أن الذي يستطيع أن يصل إلى الذّكر من القرآن (وإن كان يسيرا) يجب أن يكون مدّكرا، فالله يبحث عن المدّكر الذي يستطيع القيام بذلك، ولنقرأ الآية مرة أخرى لنرى حقيقة هذا الزعم:
(دعاء: أللهم آمين آمين آمين، أللهم تقبلني في المدّكرين، واجعلني من أهل الذكر، واجعلني لأهل الذكر إماماً)
فما معنى المدّكر؟ أو من هو المدّكر (بالدال وليس بالذال)؟
رأينا: المدّكر هو الذي يتذكر فيصل إلى المعلومة الصحيحة بسرعة شديدة بسبب حدث آخر ذكّره بها.
وأين الدليل (أو الذّكر: التعليل الصحيح من كتاب الله) على ذلك؟
لا شك أن هناك علاقة بين التذكّر والتدكّر (إن صح القول)، فهناك المذّكر (بالذال):
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ الغاشية 21
وهناك المدّكر (بالدال):
ولكن ما الفرق بينهما؟
جواب: يكمن الفرق – في ظننا- في أن الذي يتذكر لا شك يبذل جهداً حتى يستطيع استرجاع معلومة قديمة، وقد يستغرق وقتاً طويلاً في تذكرها، وقد لا يكون أضاع تلك المعلومة من قبل ولكنه فقط نسيها:
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ
ولكن الذي يتدّكر (بالدال) يكون قد نسي المعلومة لأنها أضاعها، وهو بحاجة أن يسترجعها، ولكن حتى يتم له ذلك (أي استرجاع المعلومة الموجودة سابقاً)، لا بد أن تحصل حادثة أخرى لتذكّره بتلك المعلومة القديمة، فيحصل عنده التدكّر (بالدال) كتذكر جاء فجاءة وبسرعة بسبب مثير لها، وقد يرد البعض بالقول: وأين الدليل على مثل هذا القول؟
رأينا: ذلك موجود في كتاب الله في قصة يوسف، فـ لعلّنا لم ننسى بعد ما قال يوسف للرجل الذي فسّر له الحلم وهما في السجن وظنّ الرجل أنّه ناج:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ يوسف 42
فيوسف يطلب من الرجل أن يذكر خبره عند ربه (الملك):
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ
فينسي الشيطانُ الرجلَ خبرَ يوسف كليّاً، فلا يذكره عند ربه سنين من الزمن:
فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
ويحدث أن يرى الملك نفسه حلماً يصعب على كل من حوله أن يفسره له، ويأتي هذا الخبر كالصاعقة على ذلك الرجل فيتذكر أمر يوسف الذي صاحبه في السجن وقد برع في تفسير الرؤيا له ولكل من صاحبه السجن:
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يوسف 4
ولو دققنا جيداً في اللفظ فإننا نجد أن الله يصور ذلك المشهد على أنه إدّكار (إن صح القول) وليس تذكر، فالرجل لم يتذكر ولكنه ادّكر :
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ
إن هذه الآية الكريمة تدلنا على أنّ الادّكار هو تذكر خبر كان موجودا سابقاً تم نسيانه بالكلّية[3]، فجاءت حادثة أخرى (مثير أو stimulus باللسان الأعجمي) جعلت الشخص الذي نسيها يتذكر ذلك الحدث مرة واحدة، فيصبح ذلك ادّكارا وليس تذكراً.
والآن لنعود إلى الآية التي انطلقنا منها في البداية متسلحين بهذا الفهم لنجد أن تفسيرها –في نظرنا- يصبح غاية في البساطة والسهولة:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ القمر 17
فالله قد يسر القرآن (أي جعله سهلاً) للذكر (لتبيان السبب الحقيقي وإيجاد التأويل الرباني لكل شيء)، ولكن لا يستطيع القيام بذلك إلا من ادكر (فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، فالذي يبحث عن الذكر في القرآن لن يجده إلا فجأة وبشكل سريع بسبب حدث آخر يذكرك فيه.
مثال
عندما تقرأ قول الحق مثلاً:
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ فاطر 28
وترى أن الله يفصل بين الناس والدواب والأنعام على أنها كينونات ثلاثة مختلفة (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ)، يجد لزاماً من أراد أن يدّكر (بالدال) أن هذا الفصل الرباني بين الدواب والأنعام يذكّره على الفور بأمر قلما يدرك أهميته كثير من الناس (على سهولته)، وهو ما جاء في قول الحق في الآية الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ المائدة 1
ليرى بأم عينه ذكراً إلهياً (أي تفصيلاً صحيحاً) لأمر أشكل على الناس كثيراً مفاده السؤال التالي: لماذا نأكل هذا ولا نأكل ذاك (مما يسميه الناس تجاوزاً أو تحريفاً الحيوانات[4])؟ لماذا نأكل البقر ولا نأكل الحمير مثلاً؟ وما أن تدقق جيداً بالآية الكريمة حتى تجد الذّكر (أي التفسير الحقيقي) يتمثل في أنّ الله قد أحل لنا أكل الأنعام "أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ"، (ولكنه لم يحل لنا أكل الدواب)، فيثور بذلك التساؤل التالي: لماذا أحل الله لنا أكل الأنعام ولم يحل لنا أكل البهائم؟ وهنا يجد من أراد أن يدّكر نفسه أمام معلومة تستحق المتابعة والبحث والتفصيل، فيكمل رحلته في البحث عن الذكر (السبب الحقيقي الذي اختطه الله بنفسه وليس ما يظنه الناس أنه السبب الحقيقي من عند أنفسهم) فلا يفوته قول الحق في موضع آخر من كتابه:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ يس 71
فالأنعام قد خلقها الله (ومن عنده من ملائكته الذين لا يعصونه ما أمرهم) بأيديهم، فكل ما فيها يصبح صالحاً للاستخدام. ولو تقدمنا أكثر في البحث عن الذكر (السبب الحقيقي) عن ذلك، لوجدنا الحق يقول:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الأعراف 197
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا الفرقان 44
فنحن نذبح الأنعام لنأكلها لأن الأنعام لا تعقل ولا ترى ولا تسمع حتى لو كان لها قلوب وعيون وآذان.
(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان تحريم لحم الخنزير)
والأمثلة على مثل هذا الاستنباط وافرة في كتاب الله، ولكن ما يهمنا هنا هو الزعم:
1. أن الاستنباط إن كان صحيحاً فيجب أن يكون فيجب أن يكون بسيطا لا يدعو إلى عناء كبير لفهمه، يستطيع فهمه أكثر أهل العلم تخصصاً وأقلهم معرفة بالشريعة وذلك لأنه يحاكي أمر حياتهم، فهو الحجة الدامغة التي لا يستطيع كل مؤمن بهذا الكتاب أن يرفضها وذلك مصداقاً لقوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ).
2. إن من لديه القدرة على استنباط الذكر من القرآن يجب أن تكون لديه القدرة على ربط الأحداث بعضها مع بعض، فهو - بكلمات القرآن - يجب أن يكون مدّكرا، فالله ينادي تلك الفئة من الناس على وجه التحديد للقيام بهذا المهمة:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ
(دعاء: أللهم رب تقبلني في المدكرين)
3. إن مفردة الذّكر متعلقة بمفردات أخرى تتشابه معها في اللفظ، وتتشابك معها في المعاني، نذكر منها على سبيل المثال مفردات مثل يذكر ويتذكر ويذّكر، وهكذا، وهنا نجد لزاماً الوقوف عندها لتبيان بعض جوانب التشابه والاختلاف، علّنا نستطيع – بحول الله- الخروج ببعض الاستنباطات عن مفردة الذّكر التي نحاول التعرض لجوانبها الكثيرة في هذا الجزء من البحث.
يَذْكُرُونَ (بتسكين الذال)
وردت هذه المفردة ومشتقاتها في كتاب الله كثيراً لتدلنا على معنى نقل الخبر أو حتى طرحه أمام الناس:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ
وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ ۚ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
والأمثلة على مثل هذا المعنى وافرة في كتاب الله
يَتَذَكَّرُونَ (بفتح الذال)
جاءت هذه المفردة ومشتقاتها لتدل على تذكر ما كان قد وقع سابقاً:
وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖوَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْمِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَمِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّاتَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗوَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
يَذَّكَّرُون (بتشديد الذال)
وردت هذه المفردة ومشتقاتها لتدل على معنى ثالث غير المعنيين السابقين، فلنتدبر الآيات أولا ثم ننطلق للتعليق عليها، لأننا نظن أن هذه هي المفردة المتعلقة بالذّكر، مدار البحث هنا:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗوَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ
هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ
مما لا شك فيه – عندنا- أن هذا الاستخدام للمفردة لا تعني سرد المعلومة أو الخبر (بمني يذْكر)، ولا باسترجاع المعلومة من النسيان (بمعنى يتذَكر)، ولكن بمعنى ثالث يتعلق بـ بتدبر المعلومة (يذّكر- تشديد الذال)، فما الفرق بين هذه الألفاظ الثلاث التي وردت جميعها في كتاب الله، ونعيدها هنا مع مثال واحد من كتاب الله على كل واحدة منها:
يَذْكُرُونَ
وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ ۚ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
يَتَذَكَّرُونَ
وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖوَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
يَذَّكَّرُونَ
وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
إن ما يهمنا القول هو أن مفردة الذّكر التي نتصدى لتبيان بعض معانيها تتعلق بالمفردة الثالثة يَذَّكَّرُونَ، التي تدعو إلى التدبر بالبحث عن الذكر من كتاب الله نفسه، الأمر الذي يشجعنا على سرد كل السياقات القرآنية التي وردت فيها هذه المفردة لتسعفنا – بحول الله- لتسليط الضوء على معناها:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗوَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ
هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ
فالسياقات القرآنية التي ترد فيها مفردة تذّكر (بتشديد الذال) تدعو جميعها إلى التدبر، ولا شك أنها تشكل في مجملها لغزاً (كما يحب البعض أن يسميه) يحيّر الناس منذ الأزل، فمن أراد أن يحل مثل هذه الألغاز (إن صح القول)، فلابد أن يذّكر، إلا أن الله قد قصر هذه النعمة على فئة محددة من الناس وهم أولي الألباب:
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
فليس كل شخص قادر على أن يذّكر بالرغم من أن الله قد يسر القرآن للذّكر. لكن كل شخص قادر على استيعاب الذّكر متى ما انكشف بكل يسر وسهوله.
(دعاء: أللهم رب أسألك أن أكون من أولي الألباب الذين يذّكرون)
والأكثر غرابة أن ردة الفعل على الوصول إلى الذّكر قد لا تكون طبيعية عند الغالبية العظمى من الناس، فقد ينعتوا من يقوم بذلك بالجنون، فإذا ما قال رشيد الجراح – مثلاً- على ملأ من الناس (خاصة في قاعة الدرس) أن النساء ليسوا من الناس، رأيت الكثيرين ينظرون إليه بعين السخرية والتندر ظانين أنه يسخر من النساء أو أنه يقول ذلك ليثير الضحك والمرح في قاعة الدرس، ولكنّه عندما يفاجئهم بطلب إمعان التفكّر والتدبّر في قول الحق:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
ويسألهم كيف يمكن أن تكون النساء من الناس والله يقول أن النساء شهوة للناس (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ)، رأيت الوجوم يخيم على المكان، ورأيت الدهشة في أعينهم وقد سكتت ألسنتهم كأن على رؤوسهم الطير، ويكأنهم يقرؤون هذه الآية الكريمة على بساطتها وسهولة فكرتها للمرة الأولى في حياتهم.
والأكثر غرابة أن مثل هذه التذّكرات (إن صح القول) تزيد كثيرا من الناس طغياناً وإعراضاً، فهذا نفر غير قليل منهم يرد بالقول (بعد أن رأى الذّكر بأم عينه) وبعد هول الصدمة ليجادل: كيف لا تكون النساء من الناس؟ وكيف بالله يعتبر النساء متاعاً للحياة الدنيا كما الأنعام أو الخيل المسومة أو الحرث؟ فيأخذهم مثل هذا الذّكر (السبب الحقيقي) إلى الطغيان بدل الهداية مصداقاً لقول الحق:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا
فهم قد غفلوا أن سؤالهم هذا يجب أن يدفعهم إلى البحث عن الذكر فيه، فلا شك أن لكل سؤال يثار ذكر إلهي (أي تبرير إلهي) يبين ماهيته، فبدل أن يعمل هؤلاء الناس فكرهم في البحث عن الذكر، تأخذهم العزة بالإثم فيكون جل همهم المجادلة وليس المعرفة، فنقول: لا هدى الله من كان الجدال هو أكثر همه.
لكن تجد – بالمقابل- قليل من الناس يفرح بمثل هذا الذّكر، ويكأنّه قد وجد ضالته التي كان على الدوام يبحث عنها، لا بل ويطالب بالمزيد من مثل ذلك، فهو يتلقاها كما تتلقى الأرض العطشى ماء السماء.، فنقول: نسأل الله الذّكر لمن أراد العلم وتبيان الحق.
وللحديث بقية
8 كانون ثاني 2012
[1] في حين أننا نجد الله يتحداهم أن يأتوا بالتوراة ليتلوها ليبين كذب دعواهم في قوله تعالى:
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ آل عمران (93)
لا نجد مثل هذا التحدي خاصاً بالإنجيل، فالله لم يتحداهم بأن يأتوا بالإنجيل، والسبب في ذلك – في رأينا- أن أهل الإنجيل قد أضاعوا النص الأصلي للكتاب، وقدموا تحريفاتهم (أي المعاني التي فهموها هم) للنص الأصلي بلغات أخرى غير لغة الإنجيل الأم وهي الآرامية.
[2] قد يثير البعض هنا التساؤل حول هذه الآية الكريمة ظانين بأنها تدل على حفظ القرآن، فنرد بالقول كلا، لأن كلمة محفوظ في هذه الآية تصف اللوح (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) بدليل الحركة الإعرابية وهي الكسر، فلو كانت كلمة محفوظ تصف القرآن لكانت مرفوعة لأن الصفة تتبع الموصوف بالحركة، فلو تدبرنا الحركة الإعرابية على مفردة نحاس في قوله تعالى:
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
لاستطعنا أن نفهم أنها غير معطوفة على مفردة النار ولكنها معطوفة على مفردة شواظ، فلو كانت معطوفة على مفردة نَارٍ لجاءت مجرورة ولأصبح المعنى على نحو أن الله سيرسل عليهم شواظ من نار وشواظ من نحاس، ولكن لما جاءت مرفوعة كان لزاماً أن نفهم أنها معطوفة على مفردة شُوَاظٌ ولأسبح المعنى على نحو أن الله سيرسل عليهم شواظ من نار من جهة ونحاس من جهة أخرى، فهناك نحاس ولكن ليس هناك شواظ من نحاس.
[3] ولكن يجب التأكيد على أن النسيان لا يعني أن الأمر قد ذهب من التفكير بدليل:
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24)
وسنتعرض لمعنى مفردة النسيان لاحقاً بحول الله وتوفيقه
[4] هذه ليست حيوانات (كما يرغب الناس أن يسموها) وإنما هي بهائم، ونحن نتحدى أن يجد أحد مفردة الحيوانات مستخدمة في كتاب الله. فالأنعام والدواب معاً هي بهائم، والله قد أحل لنا بهيمة الأنعام ولكنه لم يحل لنا بهيمة الدواب.