ماذا كُتِبَ في الزبور4؟ الذكر
قبل التقدم بالنقاش حول موضوع الصلاح الذي بدأنا نتعرض له في نهاية مقالتنا السابقة (ماذا كتب في الزبور 3؟)
التي كانت تتصدى لتجلية بعض معاني مفردة الزبور على وجه التحديد، وخلصنا فيها إلى الزعم بأنّ الزبور الذي كتبت فيه سنّة وراثة الأرض لم يكن زبور داوود وإنما الزبور الأم (السجل) الذي انبثقت منه كل الزبر التي جاءت بها رسل الله من ربهم مصداقاً لقوله تعالى:
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ آل عمران (184)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ فاطر (25)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) النحل 43-44
نجد لزاماً العودة إلى مفردات الآية نفسها لنرى أن الدور قد حان الآن للتعرض لمفردة الذكر في آية وراثة الأرض:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الأنبياء (105)
لنطرح السؤال التالي: ما هو الذكر؟
بادئ ذي بدء، قبل الخوض في هذا النقاش نجد لزاماً القول بأننا سنقحم أنفسنا في مواضيع غاية في الخطورة، وذلك لأن أراءنا ستخالف معظم (إن لم يكن كل) اعتقادات أهل الإسلام على اختلاف فرقهم وطوائفهم، لذا فإننا نؤكد على أمرين اثنين:
1. إن ما سنزعم لا يمثل الإسلام على حقيقته، ولا ندعي أنه موجود فعلاً في كتاب الله، وإنما يمثل فقط ما فهمناه نحن من ما هو موجود في كتاب الله، فهذه آراء قابلة للتمحيص والتدقيق، قد تثبت صحة بعضها ويبين خطأ أكثرها.
2. إن هذه الأفهام تمثل عقيدتنا التي نؤمن بها، لذا فإننا لن نتخلى عنها بسهوله (رضي من رضي وغضب من غضب)، ولكننا على استعداد لتخلي عنها (لا بل والقذف بها في سلة المهملات recycle bin) متى ثبت بالدليل من كتاب الله أنها خاطئة، فجميع الأدلة التي نسوقها لترويج فكرتنا مأخوذة من كتاب الله، ولا نرضى بدليل أقل من ذلك ليدحضها. فمن يحاول أن يدحض هذه الأفكار فعليه أن يحضر دليله من كتاب الله، أما من ظن أن ما في بطون الكتب من الأحاديث التي قد لا يتفق على درجة صحتها أهل الاختصاص أنفسهم، أو من كتب تفاسير حبلى بتحريفات بني إسرائيل فذاك شأنه ولن نكلف أنفسنا عناء الرد.
أما بعد،
زعمنا رقم (1): الذكر ليس القرآن
إنّ أول ما يصار إلى نقاش حول موضوع الذكر تطرح على الفور فكرة غاصت في أعماق عقيدتنا بأن الذكر هو القرآن وأن القرآن هو الذكر، ونحن نرى أن هذا الخلط كان سبباً رئيسياً في إعاقة التفكير في الاتجاه الصحيح، وأول هذا الخلط الذي يرد على لسان الصغير والكبير، العالم والمتعلم، ما يخص الاعتقاد اليقيني عند المسلمين بأنّ الله قد حفظ هذا القرآن من التحريف والتبديل، ودليلهم على ذلك ما جاء في قول الحق في الآية الكريمة التالية التي ستحتل حيزاً بارزاً في نقاشنا هنا:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر (9)
فعلماء المسلمين (وعامتهم على حد سواء) ما انفكوا يوماً عن الاعتقاد اليقيني بأن الله قد تكفّل لهم حفظ كتابهم بدليل هذه الآية الكريمة، ونحن نجد لزاما الوقوف طويلاً لتصحيح هذا الخطأ في الفهم (وبالتالي في العقيدة)، ولسان حالنا يقول إننا نظن أن الله لم يتكفل بحفظ القرآن الكريم. زعم خطير، أليس كذلك؟
ليس جديداً أن نذكر بأن من أصعب المهام على كاتب (من وزن الريشة - أو الذبابة على أحسن تقدير- من مثلي) أن ينبري لتصيح خطأ إن كان شائعاً بين الناس، وتصبح المهمة أقرب إلى المستحيل (وربما المغامرة التي قد لا تحمد عقباها) إن كان ذلك الخطأ يمثل جزءً من الموروث العقائدي للناس، فـ لربما تحتاج إلى مؤلفات ومؤلفات لتصحيح خطأ بسيط نشأ عليه الناس وقبلوه دون تدبر، ناهيك أن يكون هذا الخطأ أصلاً من أصول العقيدة، ونحن نفهم مقدار الجلبة التي يمكن أن يحدثها زعمنا الذي ننوي أن نقحم أنفسنا فيه، وذلك بسبب ما يمكن أن يترتب عليه من تبعات جمّة، ولكن لمّا كنّا نتحدث عن العقيدة نفسها، فلا مجال للمجاملة أو الدوران، فعقائد الناس يجب أن تكون واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار (إلا لمن كانت التقيا أصلاً من أصول عقيدته)، ولكن لمّا كانت مهمتنا هي فهم الحقائق بغض النظر عن العواقب التي يمكن أن تؤول الأمور إليها، كان لزاماً علينا أن نضع كل المعتقدات (جلّها ودقّها) على طاولة البحث، نصدّق منها ما يصدقه قولُ ربنا، ونترك ما أدخله الناس فيها من انحرافات لا تستند إلى مرجعية موثوقة. وأول هذه المزاعم التي سنقدمها ونحاول الدفاع عنها الزعم التالي:
زعمنا رقم (1): الله لم يتكفل بحفظ القرآن
إننا نؤمن إيماناً مطلقاً أن الله لم يتكفل حفظ القرآن الكريم كما يحب المسلمون أن يروجوا لتلك الفكرة التي استحوذت على تفكيرهم قروناً من الزمن!!
عندما كنت أصرّح بمثل هذه العقيدة على جمع من الناس للمرة الأولى (حتى لو كان الحضور من أهل الاختصاص أو من هم في مهنة البحث عن المعرفة كطلبة الدراسات العليا في الجامعة التي أدرّس فيها) كانت الدنيا تقوم (ونادراً ما تقعد) فوق رأسي، ويذهب أكثرهم إلى الاعتقاد بأن هذا الدكتور قد أصابه شيء من مس الشيطان، فهو بحاجة إلى شيء من الرقيا الشرعية (وبالرغم من استعدادي لتلقي العلاج إلا أني لم أجد أحدا منهم ينبري برقياه التي ربما تسعفني للخروج من هذا الهذيان والجنون)، ويكتفي أغلبهم بالشتم من وراء الظهر (بالطبع كالعادة!!)، ويذهب أكثرهم إلى نعت هذا الدكتور تارة بالمس والجنون، وتارة أخرى بالإلحاد والكفر (وأنا لازلت لا أفهم أي منها يمكن أن ينطبق على حالتي، لكني على يقين باستحالة الاثنين معاً، فالمجنون أو الممسوس غير مكلف أصلاً ليتم نعته بالكفر، أليس كذلك؟).
لكن بالرغم من كل تلك الجعجعة التي أسمع، يعجزوا أن يقدموا لي طحيناً رداً على استفسار بسيط لا يحتاج إلى كثير عناء وجلبة، ويتمثل الاستفسار بالتساؤل التالي: هل قال الله فعلاً أنه قد تكفل بحفظ القرآن الكريم؟
وهنا ينبري الجميع للرد بالإيجاب مستذكرين على الفور قول الحق في كتابه الكريم:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر (9)
وهنا ما يكون مني إلا أن أرد عليهم بتساؤل أكثر بساطة من سابقه وهو: أين القرآن في الآية الكريمة؟ أي أين لفظ مفردة القرآن نفسها في الآية السابقة؟
وهنا يرد الجميع بالقول: ألا ترى أنه الذكر؟ ويكأن لسان حالهم يقول أن مفردة الذكر في الآية السابقة هي القرآن ذاته؟
لكنني لا أتوقف عند ذلك وأتابع استفساراتي: لم قال الله أنه قد حفظ الذكر ولم يقل أنه قد حفظ القرآن بصريح اللفظ؟ ولنتدبر الآية جيداً مرة أخرى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر (9)
فأين القرآن في الآية؟ لم لم يقل الله شيئاً كهذا:
إنا نحن نزلنا القرآن وإنا له لحافظون؟
وهنا ينهال عليّ الجميع بالاتهام بأني غير مطلع، لا أستطيع أن أميز، وليست عندي القدرة على فهم كتاب الله، وما يكون منهم إلا أن يتبرعوا لي بتفسير تلك الآية الكريمة بقولهم بأن مفردة الذكر التي وردت في الآية الكريمة تعني القرآن، فبالنسبة لهم الذكر هو القرآن، ومادام أن الله قد تعهد بحفظ الذكر فهو إذاً قد تعهد بحفظ القرآن؟ استنباط عظيم، سبحان الله! القرآن هو الذكر!
إذاً، هل يتقبل علماؤنا الأجلاء أن نستبدل كلمة الذكر التي وردت في الآية الكريمة بمفردة القرآن مادام أن المفردتين ترجعان إلى الكينونة نفسها؟ هل نستطيع أن نقرأ الآية الكريمة على النحو:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا القرآن وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر (9)
لا، لا يمكن، سيرد الجميع، لا يمكن أن تسد مفردة مكان مفردة أخرى، أليس هذا ما نشأنا عليه؟
سبحان الله لا يمكن أن تسد مفردة مكان مفردة أخرى لكن القرآن هو الذكر- ودبّر حالك!
هل هذا- يا سادة - منطق سليم؟ أم هل هي سياسة الخاوة (بالأردنية) أي بدك تقبلها هيك و... على راسك؟
لا يا سادة يجب أن نتفق أولاً عند أبسط أبجديات الحوار: إما أن تكون كل مفردة في كتاب الله مفردة مقصودة لذاتها ولا يمكن استبدالها بمفردة أخرى وهنا نجد لزاماً الإيمان بأن الذكر ليس القرآن وأن القرآن ليس الذكر، فكل واحدة منهما لها معناها الذي يجب أن يميزها عن الأخرى،
أو أن نتنازل عن هذا المبدأ، ونؤمن بالافتراض القائم على أساس أن ليس كل كلمة في كتاب الله مفردة مقصودة بذاتها، ويمكن أن تسد بعض المفردات محل بعضها البعض، وهنا فقط يمكن أن نتقبل فكرة أن يكون القرآن هو الذكر أو أن الذكر هو القرآن.
أما أنا، فقد اتخذت موقفي العقائدي الذي لا يمكن أن أتزحزح عنه حتى لو وضعوا القمر في يميني والشمس في يساري (أو العكس): كل مفردة في كتاب الله مقصودة لذاتها ويستحيل أن تحل مفردة أخرى محلها، لذا فإنني أفهم أن القرآن ليس الذكر وأن الذكر ليس القرآن، فالقرآن هو القرآن والذكر هو الذكر.
النتيجة: إن صح هذا الزعم، نجد لزاماً الاعتقاد بأن الله قد تكفل بحفظ الذكر ولم يتكفل بحفظ القرآن وذلك بنص صريح اللفظ في الآية الكريمة نفسها:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر (9)
ولو أنّ الله قد تكفل فعلاً بحفظ القرآن لجاء اللفظ على نحو
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا القرآن وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
ولو تكفل الله بحفظ القرآن وحفظ الذكر (أي الاثنين معاً) لورد في كتابه الكريم آيتان (وليس آية واحدة) تنص إحداهما على حفظ القرآن، وتنص الأخرى على حفظ الذكر، لأننا نعلم كم تتكرر الآيات في كتاب الله، فلقد وردت قصة موسى مثلاً مرات ومرات في كتاب الله واختلفت الألفاظ (وإن تشابهت) في معظم السياقات القرآنية (والحكمة كل الحكمة تكمن في فهم ذلك التشابه والهدف من الاختلاف).
إن هذا المنطق –على ركاكته- يوصلنا إلى السؤال الذي لا مفر منه وهو: ما الفرق بين القرآن والذكر؟ أو بكلمات أكثر دقة: ما هو القرآن؟ وما هو الذكر؟
فحتى أشد المتيقظين لخطر رشيد الجراح، المنافحين عن دين آبائهم وأجدادهم طرحوا مثل هذه التساؤلات، فكما يقول المثل الشعبي الأردني (الشمس ما بتتغطى بالغربال)، فهذا المنطق غالباً ما يثير فضول حتى من ظن في نفسه أن الله قد آتاه اليقين وقد خرط نسخة من مفتاح الجنة ووضعها في جيبه، ليدخل فيها من تطابقت آراءه واعتقاداته مع آراء صاحب المفتاح، ويذود عن حوضها من اختلف معهم في الرأي والاعتقاد. أما أن فأقول لكل من كانت في جيبه نسخة من ذلك المفتاح: أسألك الله أن لا تفتح لي الباب الذي وكلت به أنت إن أنا طرقته، لأنني ما انفككت عن الاعتقاد اليقيني بأن الذكر الذي تكفل الله بحفظه ليس هو القرآن الكريم، وهذا زعم قد لا يرضى الغالبية الساحقة من أهل الإسلام، علماء وعامة.
الذكر: ليس القرآن
دعنا نثير بعض التساؤلات التي من خلالها ربما نستطيع أن نلقي بظلال الشك على الاعتقاد بأن القرآن هو الذكر، ولنبدأ السؤال الأول من مضمون نص الآية الكريمة التالية:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
تدبر – عزيزي القارئ هذين السياقين جيداً، وحاول أن تربط الأمور بعضها ببعض. الخطاب لا شك موجه إلى النبي محمد (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ)، أليس كذلك؟ وفحوى الرسالة أن الله قد أرسل قبله رجالاً فأوحى إليهم (إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)، والطلب هو أن يتحقق النبي ومن معه من ذلك بسؤال أهل الذكر (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). وهنا نطرح التساؤل الذي أوقعني – وقد يوقعكم أنتم أيضاً في حيرة- كيف بالله يطلب من محمد وأصحابه أن يسألوا أهل الذكر؟ أليس محمد –حسب ما فهموا وأفهمونا- هو من نزل عليه القرآن (الذكر حسب ظنهم)؟ فكيف إذاً يطلب الله من محمد وصحبه في موضعين من كتابه الكريم أن يسأل أهل الذكر إن كان هو أصلاً أهل الذكر؟
ولا أفهم كيف ذهب كثير من المفسرين إلى الاعتقاد بأن أهل الذكر هم العلماء، وظنوا أن على الناس أن يسألوا العلماء عن ما لا يعلمون، ولا أخال أن هذا يروق إلا لمقدمي برامج اسألوا أهل الذكر على شاشات التلفزة لأن ذلك يعطيهم الشرعية في إصدار الفتاوى (ولكني لا زلت مصراً على موقفي القديم أن عليهم استبدال اسم البرنامج ذاك باسم جديد، وأقترح أن يسموه يسعد دينك على غرار البرنامج الناجح يسعد صباحك، ربما تكون تلك تسمية أكثر وجاهة لأنه على الأقل لن يكون مرتبطاً بفترة زمنية محددة).
إن من الصعب عليّ أن أفهم أن محمد هو من نزل عليه الذكر وفي الوقت ذاته يطلب الله من محمد وأتباع محمد أن يسألوا أهل الذكر، فلا نفهم كيف يمكن أن يطلب الله من نبيه وصحبه أن يسألوا أهل الذكر، فهل يحتاج محمد بن عبد الله أن يسأل أولئك النفر الذين يسمون أنفسهم بالعلماء؟
لا، لا، توقف يا رجل، ما الذي تقول؟ ألا تفهم أن الخطاب موجه فقط لنا نحن (عامة المسلمين) وليس للنبي؟ آه، لقد غفلت!
ولكن، كيف فهمت – يا رحمك الله- أن ذلك الخطاب موجه فقط لعامة المسلمين؟ ولم استثنيت النبي من الخطاب هنا؟ ألم يقل الله في كتابه العزيز مخاطباً محمداً على وجه التحديد:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يونس (94)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ الزخرف (45)
أليس الطلب موجهاً هنا للنبي نفسه؟ لِمَ لا يكون الطلب موجهاً للنبي ومن معه في الآية التي تتحدث عن أهل الذكر؟
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) النحل 43-44
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الأنبياء (7)
لنتوقف هنا لننتقل إلى سياق قرآني آخر نثير من خلاله سؤالاً آخر ربما يزيد من شكنا بأن الذكر هو القرآن نفسه، قال تعالى:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الأنبياء (105)
تأمل – عزيزي القارئ الآية جيداً، ألا تدل الآية أن الكتابة في الزبور قد حصلت بعد الكتابة في الذكر؟ فكيف يمكن أن يكون الذكر هو القرآن إلا أن يكون القرآن قد سبق الزبور؟! فحتى لو سلمنا بمنطقهم (الخاطئ) بأن الزبور هو كتاب داوود فكيف يمكن أن يكون القرآن (الذكر) قد سبق الزبور؟ (انظر مقالتنا ماذا كتب في الزبور 3؟ لترى أن تلك الكتابة لم تكن في زبور داوود)
والآية الكريمة التالية تثير تساؤلاً ثالثاً حول أن يكون الذكر هو القرآن نفسه:
ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ آل عمران (58)
كيف يمكن فهم أن الذكر هو القرآن وفي الوقت ذاته أن ما ينزل على محمد هو (1) من الآيات و (2) من الذكر الحكيم؟ فهل القرآن شيئان: آيات وذكر؟ من يدري!
النتيجة: الذكر ليس القرآن
إن هذه التساؤلات وغيرها تنتهي بنا إلى الاعتقاد الجازم بأن القرآن شيء والذكر شيء وآخر، وقد تعهد الله بحفظ الذكر ولم يتعهد بحفظ القرآن، وما علينا إلا أن ننبري لنبحث عن الذكر الذي تعهد الله بحفظه لنميزه عن القرآن الذي ظن معظم أهل الإسلام أن الله قد تعهد بحفظه (وهو في الحقيقة لم يفعل).
وهنا سيبادرنا الجميع بالقول: ما الفرق بين القرآن والذكر إذاً؟
وهنا يحين الوقت أن نقدم زعمنا الثاني:
الزعم رقم (2): القرآن هو ذكر (وليس الذكر)
لقد خلصنا - حتى اللحظة- إلى الزعم بأن الذكر ليس القرآن، فالذكر شيء والقرآن شيء آخر، وقد تعهد الله بحفظ الذكر ولم يتعهد بأي موضع في كتابه الكريم بحفظ القرآن، وهنا ربما تثور الدنيا ولا تقعد فوق رأس رشيد الجراح، ولكني أطلب من القارئ الكريم التريث قليلاً ليفهم ما أقول.
نعم الذكر ليس القرآن، ولكن القرآن ذكر، هذه أحجية، أليس كذلك؟ الذكر ليس هو القرآن ولكن القرآن ذكر، هل هذا كلام مفهوم؟ ألا تهذي يا رجل؟
حتى يصار إلى محاولة فهم هذا الزعم علينا أن نتدبر بعض السياقات القرآنية التي تتحدث عن القرآن نفسه، ولنبدأ بالسياق التالي:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
ما الذي يمكن أن نفهمه من هذه الآية الكريمة وخاصة قول الحق "وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ"؟ أليس هذا قول صريح في كتاب الله بأن القرآن الذي نزل على محمد هو ذكر، وإذا كان هذا القرآن هو ذكر، فهل يعني أنه الذكر بعينه؟ الجواب كلا، فما دام أن هذا القرآن ذكر (وليس الذكر)، فلا ضير أن يكون هناك ذكر غيره، فكما القرآن ذكر فالتوراة ذكر والإنجيل ذكر ، وهكذا. والدليل على صحة ما نزعم هو ما جاء في السياق نفسه مكملاً للآيات السابقة في قوله تعالى "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ"، فما بال الأقوام الأخرى إذاً؟ ألم يأتها ذكر من ربها؟ ولو تدبرنا السياق القرآني نفسه لوجدنا أنه يبدأ على النحو التالي:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ
ألا ترى –عزيزي القارئ- أن الله قد آتى موسى وهارون ذكراً كما آتى محمداً ذكرا؟
إن أبسط ما يمكن أن نخلص إليه من هذا النقاش هو القول بأن كل كتاب أنزله الله على رسله هو ذكر (وليس الذكر) تعهد الله بحفظه، فكما أن القرآن الكريم ذكر نزل على محمد وتعهد الله بحفظه، فالتوراة ذكر والإنجيل ذكر وهكذا، ولكن ليس أي منها الذكر بعينه.
نتيجة كبيرة جداً: إن صح ما نزعم، فهذا يعني أن الله الذي تكفل بحفظ الذكر لم يتكفل فقط بحفظ القرآن (كما يحب علماء المسلمين أن يروجوا لبضاعتهم لظنهم أن الذكر هو القرآن)، بل تكفل الله بحفظ الذكر الموجود في كل كتبه التي أنزلها على رسله إلى أقوامهم. فالله قد تكفل بحفظ الذكر من القرآن (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) وليس القرآن كله، كما كان قد تكفل بحفظ الذكر من التوراة وليس التوراة كله، وتكفل بحفظ الذكر من الإنجيل وليس الإنجيل كله، وهكذا. فالذكر هو ما تكفل الله بحفظه في كل الكتب التي بعث الله بها رسله إلى أقوامهم.
ولكن توقف لحظة وانتبه لما تقول: كيف بالله يتكفل بحفظ الذكر من التوراة وقد حرّفت تلك الكتب؟ ألا ترى أنك توقع نفسك في شرك ربما يصعب الخروج منه؟
نقول كلا، لقد تكفل الله بحفظ الذكر الموجود في كل كتبه التي أرسل بها رسله إلى أقوامهم بالرغم من تحريف تلك الأقوام لما جاء به رسلهم، ولكن كيف يستقم هذا مع ذاك؟ ألا ترى أنك لا زلت تهذي؟!
ربما، لكن تمهل قليلاً، وانظر ما ستؤول إليه الأمور بعد طرح سؤال واحد: ماذا نقصد نحن المسلمين عندما نقول أن الأمم السابقة قد حرّفت كتب الله التي جاء بها رسله إليهم؟ ماذا نقصد عندما نقول أن اليهود قد حرفوا التوراة أو أن النصارى قد حرفوا الإنجيل؟
ما معنى تحريف؟
يظن كثير من أبناء المسلمين (علماء وعامة) أن اليهود والنصارى قد غيروا بعض ما أنزل الله عليهم، فأصبحت كتبهم محرّفة لا ترقى أن تكون كتباً إلهية يمكن الوثوق بما هو مكتوب فيها، وأن ما هو موجود فعلاً فيها حتى الساعة لم يعد يعبر عن حرفيّة ما أنزل الله فيها على رسله، فهم يظنون أن اليهود مثلاً قد أضافوا على التوراة شيئاً لم يكن موجودا فيه وأنهم قد حذفوا منه شيئاً كان موجوداً في نسخته الأصلية التي جاء بها موسى من ربه، والمنطق نفسه يطبقوه على الإنجيل، لذا لم تعد هذه الكتب – في نظرهم- صالحة أن تسمى كتباً ربانية يحتج بما فيها، أليس هذا ما نفهم نحن عامة المسلمين عندما نتحدث عن صحة تلك الكتب التي سبقت؟
رأينا: هذا كلام عار عن الصحة لا يدعمه شيء في كتاب الله (أي القرآن)، فهذا ليس أكثر من ما فهم كثير من علماء الإسلام خطأً عن ما جاء في القرآن وليس ما ينص عليه القرآن نفسه، فنحن نظن أن القرآن – كما سيوضح النقاش لاحقاً- لا يدعم مقولة علماء الإسلام تلك إطلاقاً، بل على العكس تماماً فإن القرآن الكريم يثبت أن أهل الكتب السابقة كالتوراة مثلاً لم يحذفوا منه شيئاً ولم يزيدوا عليه شيئاً. فالتوراة هو التوراة كما نزل على موسى. كلام خطير جداً، أليس كذلك؟
ولكن توقف قليلاً، ألم يحرفوا التوراة بنص القرآن الكريم؟ كيف تقول مثل هذا الكلام والقرآن نفسه يؤكد في أكثر من موطن أنهم قد حرفوا كلام الله؟
نعم لقد حرفوا التوراة، لكنهم لم يزيدوا فيه شيئاً ولم ينقصوا منه شيئا.
كيف يكون ذلك؟ أي كيف يستقيم الزعم أنهم حرفوا التوراة لكنهم لم يزيدوا فيه شيئا ولم ينقصوا منه شيئا؟
إن هذا ما سنحاول تبيانه في هذه الصفحات: أهل الكتب السابقة لم يضيفوا فيها شيئاً لم يكن موجود فيها ولم يحذفوا شيئا كان موجوداً فيها ولكنهم مع ذلك حرفوا تلك الكتب!
الدليل
لكي يصبح الكلام مفهوماً فإننا نرى الحاجة أولاً إلى التميز بين مفردتين مهمتين وردتا في كتاب الله عن هذا الموضوع وهما مفردة التحريف ومفردة التبديل التي غالباً ما خلط الناس (العامة وأهل العلم على حد سواء) بينهما، ولعلنا نجزم أن الغلط الذي وقع فيه علماء المسلمين (وأوقعوا الناس فيه) قد نبع من عدم قدرتهم على التميز بين هاتين المفردتين، وسنحاول في السطور التالية التميز بينهما لنرى الفرق الذي ربما يحدثه مثل هذا الفهم في عقائد الأمة بأكملها.
وقبل الخوض في تفاصيل الفرق بين الأمرين لابد من البوح بأن موقفنا العقائدي الذي سيتمحور حوله جلّ النقاش التالي يتمثل بما يلي: الأمم سابقة حرّفت كلام الله لكنّها لم تبدل كلام الله، وشتان بين التبديل والتحريف
التبديل: الأمم السابقة لم تبدّل كلام الله
التبديل هو – في نظرنا- إحلال شيء مكان شيء آخر. ولنستعرض جميع السياقات القرآنية التي تتحدث عن التبديل من كتاب الله، ثم نرى ما الذي يمكن أن نفهمه من معنى التبديل.
فها هم بنو إسرائيل يطلبوا من نبيهم تبديل شيء بشيء آخر:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ البقرة 61
وها هم يتبدلون الكفر بالإيمان:
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ البقرة 108
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة 181
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ البقرة 211
وها هم يتبدلون الخبيث بالطيب:
وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا النساء 2
والله لا شك مبدل جلودهم التي أهلكتها النار بجلود أخرى ليذوقوا العذاب:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا النساء 56
والله لا شك يبدل مكان السيئة بالحسنة:
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ الأعراف 95
والله يتوعد أن يستبدل قوم غيرهم:
إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ التوبة 39
ويستنكر الله عليهم أنهم قد بدلوا نعمة الله كفراً:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ إبراهيم 28
والله – لا شك- مبدل الأرض غير الأرض في ذلك اليوم الرهيب:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ إبراهيم 48
والآيات الكريمة كثيرة تؤكد في مجملها على معنى إحلال شيء جديد محل شيء قديم، وتدعو القارئ أن لا يمر عليها مرور الكرام بل إلى تدبرها جميعاً ليرى وجاهة ما نزعم:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الكهف 50
أَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا الكهف 81
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ النور 55
إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الفرقان 70
إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ النمل 11
مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا الأحزاب 23
لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا الأحزاب 52
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ سبأ 16
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ غافر 26
هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم محمد 38
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ الواقعة 61
عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا التحريم 5
عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ القلم 32
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ المعارج 41
نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ۖ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا الإنسان 28
دقق – عزيزي القارئ – في جميع السياقات السابقة جيداً لتجد بنفسك أنّ التبديل يعني إحلال شيء جديد محل شيء قديم، فهم يطلبون استبدال الذي هو أدنى (الثوم والبصل، الخ) بما كان لديهم من خير (المن والسلوى)، والله يتوعد نساء النبي الحاليات بنساء جدد خير من السابقات، والله قد أبدل القوم جنتين ذواتي خمط بجنتيهما القديمات، وهكذا.
والآن لنطرح التساؤل الكبير: هل هناك نص في كتاب الله يثبت لنا أن أهل الكتاب قد بدّلوا كلام الله؟ أي أنهم قد أدخلوا شيئاً جديداً مكان شيء سبقه. نحن نتحدى أن يجد القارئ لكتاب الله نصاً صريحاً يبين أن القوم قد بدّلوا كلام الله. إن جل ما يمكن أن نجده حول هذا التحدي هو قول الحق:
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا الفتح 15
ولو تدبرنا هذه الآية جيداً لوجدنا أن جلَّ ما كان لدى القوم (أي قوم وليس فقط اليهود والنصارى) هو الإرادة بتبديل كلام الله (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ)، ولكن هل يعني ذلك أنهم قد بدّلوه فعلاً؟ كلا، وألف كلا، فإرادة القيام بعمل ما لا يعني أن الفعل قد حصل (للتفصيل حول موضوع الإرادة ندعو القارئ إلى مراجعة مقالتنا تحت عنوان مقالة في التسيير والتخيير)
وهنا ربما يرد من أراد الفهم (وليس من يريد الجدال) بالتساؤل التالي: لِمَ لَمْ يبدل القوم كلام الله؟ إي ما الذي يمنعهم من القيام بذلك؟
نقول أن الجواب على مثل هذا التساؤل قد ورد في كتاب الله أكثر من مرة، ولنمعن التفكير بالآيات الكريمة التالية:
لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يونس 64
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الأنعام 15
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ الأنعام 34
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا الكهف 27
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ق 29
ألا تدلنا هذه الآيات الكريمة على واحدة من سنن الله الكونية: لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، فمن يستطيع أن يبدل كلامات الله بعد هذا التعهد الذي قطعه الله على نفسه؟!
والآن – يا سادة- أليس التوراة والإنجيل –مثلاً- كلمات من الله أنزلها على رسله؟ فإن كانت كذلك، فمن يستطيع إذاً أن يبدل كلمات الله تلك؟!
الجواب: لا يستطيع كائن من كان أن يبدل كلمات الله، لأن الله وحده هو من يستطيع تبديل كلماته:
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ النحل 101
فحتى النبي لا يستطيع القيام بذلك إلا بوحي من الله (وليس من تلقاء نفسه):
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يونس 15
لكن ربما يستطيع البشر أن يبدلوا قولاً (إن لم يكن كلام الله نفسه) كما في قوله تعالى:
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ البقرة 59
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ الأعراف 162
ولكن حتى تبديل هذا القول (لاحظ الفرق هنا، فالتبديل ليس لكلمات الله ولكن لقول ما) كانت نتيجته وخيمة (فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ). وسنناقش لاحقاً الفرق بين القول والكلام.
النتيجة: أهل الكتاب لم يبدلوا كلمات الله (التوراة والإنجيل) لأنهم – ببساطة- لا يستطيعون فعل ذلك، فلا أحد (كائن من كان) يستطيع تبديل كلمات الله مصداقاً لقوله تعالى:
لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يونس 64
تساؤلات
إن هذه النتيجة التي توصلنا إليها ربما تدعمها بعض التساؤلات التي يمكن استنباطها من كتاب الله نفسه ولنبدأ بالتساؤل الأول:
(1) إذا كانت تلك الكتب السابقة قد بُدِّلت (بمعنى التبديل الذي يرد في كتاب الله وهو إحلال شيء محل شيء آخر) كما يزعم المسلمون، فلم يطلب الله من نبيه أن يسأل من أنزلت عليهم تلك الكتب ليثبت من خلالها صدق دعوته؟
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يونس (94)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ البقرة (41)
ألا يقرأ هؤلاء كتبا محرفة – كما يفهم ذلك علماء المسلمين؟ فكيف بالنبي أن يسأل (كشهادة) من يقرأ كتاباً محرفاً ليثبت من خلالها صدق دعواه؟ هل تقبل أصلاً شهادة من أناس كهؤلاء مادامت أن معرفتهم صادرة من كتب قد تم تبديل ما فيها؟ وكيف بالله يتحداهم أن يأتوا بكتبهم ليتلوها ليبين من خلالها صدق رسالة محمد؟ وهل تبين صدق رسالة محمد إن استندت على شهادة أناس مصدر معلوماتهم غير صحيحة؟
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ
فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ آل عمران (93)
وكيف يشهد الله لهم بأن التوراة فيها حكم الله إن كانوا فعلاً قد غيروا ما فيها؟
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ المائدة (43)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ المائدة (44)
والآن لنستعرض الآيات الكريمة من كتاب الله التي تثبت أن القرآن الكريم يصدق ما في الكتب التي بين أيديهم:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) البقرة
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ البقرة (89)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ البقرة (91)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ البقرة (101)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ آل عمران (81)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا النساء (47)
(2) ألم يشهد الله أن عيسى بن مريم قد جاء ليصدّق ما بين يديه من التوراة:
وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ المائدة (46)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ الصف 6
أم أن ذلك يعني أن مسألة التبديل بدأت فقط بعد قدوم عيسى بن مريم؟ فهل كانت التوراة غير مبدلة طوال تلك الفترة التي تفصل بين عيسى وموسى وبدأ التبديل بعد قدوم عيسى؟ أي هل بدأ التبديل فقط بعد رسالة عيسى؟
(3) لنصدق – لفترة قصيرة- رواية المسلمين بأن التوراة قد بدّلت، فماذا نفعل بقول الحق في الآية الكريمة التالية:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
ألم يعلِّم الله عيسى بن مريم التوراة كما علّمه الإنجيل؟ ألا يعني ذلك أنه حتى لو سلمنا بمقولة المسلمين أن التوراة قد تم تبديلها (أو تبديل جزءاً منها) قبل مجيء عيسى بن مريم ألا تدل الآية السابقة أن عيسى بن مريم قد عاد بعلم التوراة كما جاء بعلم الإنجيل (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ )؟ فلقد جاء عيس بن مريم بعلم ذلك الكتاب من المصدر الرباني الذي نزل على موسى، فالله نفسه الذي كان قد علّم موسى التوراة وهو نفسه من عاد ليعلم عيسى بن مريم التوراة، وهذا يعني أن عيسى بن مريم قد جاء بالنص الصحيح الذي كان عند موسى نفسه، فمتى إذاً بدأ التبديل (الذي أفنيتم الأجيال وأنتم تروجون له) يا علماء الإسلام؟
(4) وكيف نفهم قول الله أنه أنزل هذا الكتاب على محمد ليصدق ما بين يديه من الكتاب إن كان ذاك الكتاب أصلاً مبدلاً؟
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
وكيف بالله يطلب من هؤلاء القوم أن يقيموا التوراة والإنجيل إن كان أصلاً كتاباً مبدلاً؟
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
وكيف بالله يطلب منهم الإيمان بما نزل على محمد لأنه يصدق ما بين أيديهم؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا النساء (47)
(5) وكيف يستقيم المعنى أن القوم قد بدلوا التوراة ولا زال الله يشهد عليهم في كتابنا العزيز أن كتابهم لازال مكتوب فيه خبر ذلك النبي الأمي؟ فلو كان القوم قد بدلوا لحذفوا خبر ذلك النبي الأمي من كتابهم، أليس كذلك؟
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
وهنا سيرد الجميع بالقول: وأين هو إن صح ما تزعم؟
الجواب: هو موجود في كتابهم، فهم لم يبدلوه (فهو لازال موجوداً حتى الساعة) ولكنهم حرّفوه. وسنناقش في مقالتنا اللاحقة –بحول الله– معنى التحريف الذي اقترفته أيدي أهل الكتاب، لنرى أننا نحن المسلمين قد فعلنا الفعلة نفسها.
وربما نكتفي أن ننهي هذا الجزء من المقالة بتدبر الآيتين الكريمتين التاليتين:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)
راقب الآيات جيدا لنطرح عليك السؤال التالي: على من نزل القرآن؟ وعلى من نزل الذكر؟
جواب: ففي حين أن القرآن قد نزل خصيصاً على محمد، جاء الذكر غير متحدد بنبي بعينه، فلماذا؟
رأينا: لأن الذكر قد نزل على جميع أنبياء الله، ولكن لماذا؟
رأينا: لأن للذكر مهمة خاصة لابد لكل نبي أن يمتلكها، فما هي؟
افتراء من عند أنفسنا: إنه التبيان للناس ما نزل إليهم من ربهم:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
وللحديث بقية
بقلم د. رشيد الجراح