هل لعلم الله حدود؟ جدلية القلب والعقل (3)
لقد زعمنا في مقالاتنا
السابقة أن قلب الإنسان هو المكان الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يدخله، فالله سبحانه وتعالى يتعامل مع قلب الإنسان من الخارج، ويحدث البلاء لإخراج مكنون ذلك القلب، فإن كان ما فيه خيراً خرج خيراً، وإن كان غير ذلك خرج على تلك الشاكلة، وكل إنسان يُحاسَب على ما يخرج من قلبه، فالله لا يحاسب الناس على ما بقي مدفوناً في قلوبهم، ولكنه يحدث البلاء والفتنة ليخرج ما في القلوب، ويبدأ الحساب على ما يخرج منها، حتى وإن تم إخفاءه في الصدر أو في النفس، لأن الصدر أو النفس لا يحجبان علم الله، ولكنهما بكل تأكيد يحجبان علمنا نحن البشر. فنحن لا نستطيع أن نعلم ما يخفي إنسان ما في صدره أو في نفسه، ولا يحيط علمنا إلا بما يقوم الإنسان بفعله (أي بين يديه) أو ما يكون قد فعله من قبل (أي من خلفه).
افتراء من عند أنفسنا (1): نحن نفتري الظن أن علم الله يختلف عن علم الإنسان بحدود توافر المعلومة على النحو التالي:
علم الإنسان: لا يحيط إلا بما بين أيديهم وما خلفهم
علم الله: يحيط ب
1. لما في صدورهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ آل عمران (118)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ غافر (19)
2. لما في نفوسهم
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ۚ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ۚ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ البقرة (235)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
3. لما بين أيديهم وما خلفهم
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ البقرة (255)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا طه (110)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ الأنبياء (28)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ الحج (76)
افتراء من عند أنفسنا (2) أما العلم الذي لا يحيط به أحد (حتى الإله نفسه) فهو علم ما في قلوبهم
وذكرنا في مقالتنا السابقة كذلك أن الشيطان لا يستطيع أن يدخل إلى قلب الإنسان وإنما يبقى عمله مقتصراً على الوسوسة التي تحدث في الصدر أو النفس:
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ الناس (5)[1]
ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يقيم الحجة على الشيطان يوم القيامة في أنه هو (أي الشيطان) سبب المعصية، بل العكس تماماً، فالشيطان هو من سيقيم الحجة على العاصي المخالف لأمر ربه، لأن حياكة المعصية لا تحدث مع الشيطان، وإنما تحصل داخل قلب الإنسان الذي لا يستطيع الشيطان الولوج إليه، فليس للشيطان سبيل إلا على من كان في قلبه الاستعداد للمعصية، فمتى أخرجها من قلبه إلى صدره بادره الشيطان بالوسوسة، وبهذا الفهم نستطيع أن نتصور حجة الشيطان على العصاة المذنبين وهم جميعاً في نار جهنم:
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إبراهيم (22)
نعم، الشيطان ليس سبب المعصية، وإنما هو المغذي لها بعد أن كانت قد أحيكت في القلب وفي النفس وخرجت إلى الصدر، فسبب المعصية هو قلب الإنسان ونفسه، فالشيطان لا يقوم بأكثر من دعوة الإنسان للمعصية بالوسوسة بالصدر، ولهذا لا يمكن أن يقع اللوم فيها على الشيطان، لأنه ببساطة ليس مسئولا عنها، فليس للشيطان سلطان على الإنسان قبل أن يبادر الإنسان بنفسه في ولاية الشيطان، مصداقاً لقوله تعالى:
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) النحل
دعاء: أللهم إنا نعوذ بك أن نتولى (نحن) الشيطان ونعوذ بك من سلطان الشيطان علينا
فيتمثل سلطان الشيطان (على الذين هم به مشركون) بالدعوة فقط، فالإنسان العاصي هو من يتولى الشيطان أولاَ قبل أن يصبح للشيطان سلطان عليه، فإن لم يتولى الإنسانُ الشيطانَ لا يمكن أن يكون للشيطان سلطان عليه، فولاية الشيطان (التي يقوم بها الإنسان برغبة منه) تسبق سلطان الشيطان عليه، وكل ما يحتاجه الإنسان ليتخلص من ذلك السلطان هو أمر بسيط جداً، ألا وهو: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فنحن نعلم بصريح اللفظ القرآني أن كيد الشيطان ضعيف:
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا النساء (76)
فالإستعاذة بالله من الشيطان كافية لدحره ورجوعه خاسئاً مهزوماً، ولكن عندما لا يكون عند الإنسان الاستعداد للاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فهو يكون - بلا شك- ممن يتلون الشيطان مصداقاً لقوله تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وهم بالتأكيد أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، والذين يصبح للشيطان سلطان عليهم بعد ولايتهم هم للشيطان.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن علم الشيطان يحيط بـ
1. بما بين أيديهم وما خلفهم
2. لما في صدورهم
ولكنه لا يتعدى إلى النفس أو إلى القلب
ولهذا نجد المؤمنين الذين فهموا هذه الحقيقة لا يحمّلوا الشيطان المسؤولية الأولى في وقوعهم في المعصية، وإنما حمّلوها أنفسهم، وما كان إقحام الشيطان في الموضوع إلا من باب تغذية المعصية التي وقعت في قلبهم أولاً وخرجت إلى نفوسهم ثانياً، وأخفيت في صدورهم ثالثاً، عندها فقط علم الشيطان بها فأخذ يوسوس للإنسان عما يجول في صدره، فها هو آدم وزوجه يعودوا إلى ربهم بالتوبة قائلين:
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) الأعراف
فبالرغم من وسوسة الشيطان، إلاّ أنهم حمّلوا أنفسهم مسؤولية المعصية، فصحيح أن الله سبحانه كان قد نهاهما عن إطاعة وسوسة الشيطان، إلا أنها لم تكن السبب الأول في الوقوع في المعصية، ولكن كانت نفسيهما (أو بكلمات أدق قلبيهما من قبل) هي المسئولة عن ذلك، بدليل أنهم أنفسهم أقروا بذلك بالقول: "قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا". فنحن نفهم أن مشكلة آدم في الأكل من الشجرة بدأت قبل أن يوسوس الشيطان لهما بالمعصية لأن الشيطان يستطيع أن يلج إلى صدر آدم، ولكنه بالتأكيد لم يكن يستطيع الولوج إلى قلب آدم ولا إلى نفسه، فما دام أنّ حياكة الأمر تتم في القلب قبل أن تنتقل إلى الصدر، يصبح من الطبيعي الافتراض أن أمر الأكل من الشجرة قد خالج قلب آدم قبل أن يدفعه الشيطان إليه.
وها هو ذا النون يدرك خطأ ما فعل فيعود إلى ربه تائباً بالقول:
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الأنبياء (87)
نعم، إنه يحمّل نفسه مسؤولية ما فعل، ولا يتحجج بالشيطان ليخلي مسؤوليته من الأمر.
وها هو موسى يفهم ما فعل، فيعود إلى ربه فوراً بالتوبة غير متعلل ولا متحجج بوسوسة الشيطان:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
صحيح أن موسى أقر بأن ذلك الفعل هو من عمل الشيطان، ولكنه لم يحمّل الشيطان مسؤولية فعلته تلك، بل كان على درجة كافية من الفهم والجرأة أن يتحمل تلك المسؤولية عندما قال "رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي"، ولم يقل مثلاً "ربي إن الشيطان قد ظلمني". فكما أنّ الظلم لم ينسب لله مصداقاً لقوله تعالى:
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ آل عمران (117)
نجد أن الله ينسب الظلم للإنسان نفسه، ولا نجد في كتاب الله نسبة الظلم إلى الشيطان إطلاقاً، فقد وردت فكرة ظلم الإنسان نفسه عشرات المرات في كتاب الله، وفي جميعها ينسب الله ظلم الإنسان للإنسان نفسه، فالإنسان هو من يظلم نفسه، نستعرض بعضها لـتأكيد الفكرة التي نحاول تجليتها، قال تعالى:
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُبِينًا النساء (153)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ۚ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ التوبة (70)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ۖ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا
جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ هود (101)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ النحل (33)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ النحل (61)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ۖ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
النحل (118)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ الرعد (6)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ العنكبوت (40)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ الروم (9)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ الزخرف (76)
والدقة تستدعي القول أن الإنسان يظلم نفسه، لنطرح هنا التساؤل التالي: كيف يمكن أن نفهم أن الإنسان يظلم نفسه؟ وبكلمات أخرى، من هو الظالم ومن هو المظلوم؟ لاشك أن نفس الإنسان هي المظلومة، أليس كذلك؟ فمن الذي ظلمها؟ الإنسان، ولكن كيف يكون ذلك؟ إننا نؤكد أنه يجب التميز بين من يقوم بالظلم في الإنسان، ومن يقع عليه الظلم في الإنسان، وإننا نفهم الأمر على النحو التالي: إن قلب الإنسان هو الذي استقر الظلم فيه، فكانت النتيجة أن قلب الإنسان يظلم نفس الإنسان، وهذا يستدعي التميز بين نفس الإنسان المظلومة، وقلب الإنسان الظالم.
ولو راقبنا ما حصل في مثل هذه الحالات عندما بادر كل منهم بالإقرار بذنبه وتحمّل مسؤولية ما صنع، ومن ثم طلب المغفرة من الله على سوء ما صنعوا، نجد ملحوظا غاية في الجمال والروعة، ألا وهو: الاستجابة الربانية لهم بالغفران، فالله قد غفر لآدم وزوجه، وغفر لذي النون، وغفر لموسى على الفور، ونحن نفهم أنه لو أصرّ أي منهم على أن تلك المعصية كانت بسبب الشيطان لما كانت الاستجابة الربانية له بالإيجاب، لأنّ ذلك يعطي مؤشراً قوياً أن قلب ذلك الإنسان لازال يكابر ويعاند، وسنجد لاحقاً أن صلاح الإنسان أو فساده مرهون بحالة قلبه. ولكن كيف ذلك؟
قبل الولوج في هذه الجزئية نجد أنه من المفيد تلخيص النقاش السابق بالجدول التالي:
علم الله | علم الشيطان | علم البشر | العلم المكنون الذي لا يعلمه أحد |
1. لما بين أيديهم وما خلفهم 2. لما في صدورهم 3. لما في نفوسهم | 1. لما بين أيديهم وما خلفهم 2. لما في صدورهم | 1. لما بين أيديهم وما خلفهم | لما في قلوبهم |
الوسوسة
نحن نظن أن الدقة تستدعي تدبر مفردة الوسوسة كما ترد في كتاب الله، لنجد أن الوسوسة تصدر من جهتين اثنتين، وهما الشيطان والنفس، قال تعالى:
(1) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)
(2) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ق (16)
وكلاهما بهذه الوسوسة يأمر بالسوء، فالشيطان يأمر بالسوء والفحشاء:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) البقرة
وكذلك هي النفس في أغلب حالاتها:
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ يوسف (53)
ولكن يبقى السؤال الأهم هو: هل تلك الوسوسة ملزمة للإنسان؟
رأينا: كلا، بدليل أنها جاءت على شكل أمر، وفي هذا المقام نتوقف قليلاً لنشير إلى أن هناك (ربما) خطأ يقع فيه الكثير من الناس في فهم معنى "الأمر" كما يرد في كتاب الله، فالغالبية من الناس تظن أن الأمر يعني الإلزام، وهذا خطأ نظن أن من الواجب تصحيحه قبل أن نحاول فهم الكيفية التي يأمرنا الشيطان بها بالسوء والفحشاء وكيفية أن تكون النفس أمارة بالسوء.
السؤال: كيف يحدث الأمر؟
إننا نظن أن مفردة الأمر في كتاب الله لا تحمل في ثناياها معنى الإلزام، وإنما تحمل معنى التخيير فقط، فحتى الأمر الإلهي- على ما نظن- لا يعني الإلزام بأي حال من الأحوال، وبكلمات أخرى فإننا نزعم أنه حتى لو صدر الأمر من الله نفسه فإن ذلك لا يعني الإلزام وحصول الأمر كما أراده الله، وقد يستغرب البعض مثل هذا القول ظانين أننا نقدم رأياً شخصياً، فنقول كلا إن هذا ما يمكن أن يفهم من مواطن كثيرة في كتاب الله، ولنقدم بعضها ليستيقن القارئ من صحة ما نزعم، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا النساء (58)
أليس هذا أمر إلهي؟ ألم يأمرنا الله إذاً - بصريح اللفظ القرآني- أن نؤدي الأمانات إلى أهلها، وأن نحكم بين الناس بالعدل؟ ولكن كم مرة – يا ترى- تخلفنا عن أداء الأمانة؟ وكم مرة وقع الظلم الذي جاء الأمر الإلهي لينهانا عنه؟ وبكلمات أخرى هل نفذ الأمر الإلهي كما أراده الله؟
ولنعرض مثال آخر ربما يكون أكثر وضوحاً لتبين زعمنا في أن الأمر حتى لو جاء من الله نفسه قد لا ينفذ، فها هو الله نفسه يأمر إبليس بالسجود لآدم:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ الأعراف (12)
أليس هذا أمر صادر من الله نفسه لإبليس؟ فهل لو كان الأمر الإلهي ملزما، أكان إبليس (أو غيره) يستطيع التخلف عن تنفيذه؟ إن هذه الأمثلة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الأمر في النص القرآني لا يعني الإلزام وإنما التخيير.
وبمثل هذا الفهم نعود إلى سياق الحديث عن أمر الشيطان بالسوء والفحشاء وإلى النفس الأمارة بالسوء في قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) البقرة
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ يوسف (53)
رأينا: إن أبسط ما يمكن أن نخلص إليه هو أن أمر الشيطان بالسوء وأمر النفس بالسوء لا تعني الإلزام للإنسان، فلا يستطيع الإنسان أن يحتج بأن السوء الذي فعله هو بسبب الشيطان، وذلك لأن فعل الشيطان جاء من باب الأمر الذي لا يعني – بأي حال من الأحوال- الإلزام بدليل أن الناس (وإبليس) لم ينصاعوا حتى للأمر الإلهي.
نستنتج من النقاش السابق أن مهمة الشيطان لا تكمن إذاً في إيقاع الناس بالمعصية، وإنما يأمرهم بها بحثهم عليها بعد أن تكون قد تولدت من قلوبهم فخرجت لتحاك في نفوسهم وربما أخفيت في نفوسهم أو في صدورهم، فها هو الشيطان نفسه يذكّر آدم وزوجه بالأمر الرباني في النهي عن الأكل من الشجرة:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)
فالشيطان إذاً لم يأخذ آدم وزوجه على حين غرة، فهو بذلك لا يتحمل المسؤولية الأولى في الإيقاع بهم، وإذا ما علمنا أن وسوسة الشيطان تحصل في الصدر، مصداقاً لقوله تعالى:
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) الناس
فإنّ مخالفة الأمر الرباني بالأكل من الشجرة قد تمت حياكته في قلب آدم وزوجه قبل أن يصل إلى صدريهما ليتمكن الشيطان بعدئذ من الوسوسة لهما ويزينه لهما، وبهذا الفهم فإننا ندرك أن الشك في قلب آدم قد وقع (أو أنه كان موجودا) قبل أن ينبري الشيطان لزينه لهما، فنحن لا ننسى أن مهمة الشيطان كانت منذ اللحظة الأولى تتمثل في تزين المعصية وليس في الإيقاع فيها:
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ الحجر (39)
وبهذا المنطق انتقلت قصة المعصية من آدم إلى ذريته، فجاءت الدقة القرآنية قي تصوير قتل ولد آدم أخيه على النحو التالي:
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ المائدة (30)
فليس الشيطان هو إذاً من أوقع الرجل في جريمة قتل أخيه، وإنما هو (أي الأخ) من يتحمل كامل المسؤولية في قتل أخيه، لهذا أصبح من النادمين، فلو كان الشيطان سبب المعصية التي يرتكبها الإنسان لما كان هناك حاجة لأن يندم الإنسان على معصية فعلها، وإنما يأتي الندم بعد المعصية بسبب إدراك الإنسان لخطأ هو من أقدم عليه قبل أن يحثه عليه الشيطان بالوسوسة وبالتزيين.
نستنتج من الطرح السابق أن قلب الإنسان هو من يجب أن يتحمل مسؤولية المعصية أولاً ثم نفسه، ويتم الحساب الرباني على ما بدر عن قلب الإنسان، فإن كان خيرا فهو خير، وأن كان غير ذلك فلا يلومنّ إلا قلبه ونفسه الأمارة بالسوء، وهذا ترداد لقول يوسف عليه السلام في حادثته مع امرأة العزيز:
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ يوسف (53)
والله سبحانه يحدث الفتنة والبلاء لاستخراج مكنون ذلك القلب حتى يتم العلم به، وبالتالي محاسبة خلقه بناء على ما صدر عن قلوبهم، وانتقل إلى نفوسهم ثانياً وصدورهم ثالثاً، وحتى ما ظهر بين أيديهم ومن خلفهم أخيرا، والمفارقة أن الله لم يذكر سبباً لتعليل علمه بما في الصدر أو النفس أو ما بين يدي الإنسان وما خلفه، ولكن كان هناك تعليل متكرر للعلم الرباني لما في قلب الإنسان، الذي جاء في مثل قوله تعالى:
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ آل عمران (140)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) آل عمران
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ المائدة (94)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ العنكبوت (11)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ الحديد (25)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ محمد (31)
ولربما هذا هو السبب المباشر لفتنة الله:
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ العنكبوت (3)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ محمد (31)
ولهذا كان رد إبليس يوم أن طرده الله وأخرجه على النحو التالي:
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ۖ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
نعم، لقد قعد إبليس لآدم وذريته صراط الله المستقيم، ونحن لا نشك في فهم أن الصراط المستقيم هو الحد الفاصل بين الخير والشر، ولو دققنا النظر في فحوى ذلك الحوار لوجدنا الرد الإلهي يمثّل ذلك بالتبعية، فالإنسان يتبع الشيطان، ولكن ما يجب التذكير فيه هو أن تلك التبعية لا يمكن أن تحدث إن لم يكن الإنسان راغباً فيها من ذي قبل، فأنت تتبع من تجد أنه ملائم لهواك وميولك، لهذا نجد أن الذين اتبعوا لم تكن لهم الحجة الدامغة على الذين اتبعوهم في ذلك الحوار القرآني:
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
فلا شك أن إبليس (الشيطان) سيتبرأ من الذين اتبعوه كما تبرأ كل الذين اُتُبعوا من الذين اتبعوا، ولكن النتيجة الحتمية أنّ تلك الحجة لم تنقذهم من النار، فالكل فيها يتحاجون:
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) غافر
إن مراد القول هو أن قلب الإنسان هو المسئول الأول عن عمل الإنسان سواء كان خيراً أو شراً، ولن تغني تلك الحجج الواهية شيئاً، فالقلب هو محط الإيمان والكفر، وما هو موجود فيه لا يمكن أن يعلمه أحد حتى يخرج منه، ولو دققنا النظر في قوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
نجد أن علم الله بالذين آمنوا وبالمنافقين يكون بعد إحداث الفتنة، وعندها يتحصل العلم الرباني لما في قلوب العالمين. فعلم الله يبدأ عندما تنتقل المعلومة من القلب إلى الصدر بعد إحداث الفتنة، وهذا بالضبط ما نفهم من قوله تعالى:
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِنْكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
وقد يرد البعض علينا بالقول أن كلامك هذا محض هراء، فالله يعلم ما في القلوب حتى ولو لم يخرج منها أي شيء، فنقول لهم دعونا نوافقكم الرأي للحظة ونطرح السؤال التالي: ما فائدة علم الله بما في قلوب الناس إذا كان الله لن يحاسبهم عليه حتى يخرج منها؟ فيردوا علينا بالقول أن ذلك من كمال علم الله، فهم يظنون أن الزعم بأن الله لا يعلم ما في القلوب هو من باب القدح بكمال علم الله، فنرد عليهم بالقول أنكم مخطئون في فهمكم هذا، بل هو العكس تماماً، فعدم علم الله لما في قلوب الناس لا يقدح بكمال علم الله في شيء، ولنطرح عليكم التساؤل التالي:
أليس الله على كل شيء قدير؟ هل يشك أحد أن قدرة الله لا يحدها شيء؟ الجواب هو النفي قطعاً، فقدرة الله مطلقة، فإذا كان هذا صحيحا (أن قدرة الله لا يحدها شيء كما نؤمن جميعاً)، فلم يحتاج الله إلى الملائكة لتبليغ الرسالة؟ ولم يحتاج الله إلى الملائكة لكتابة أعمال العباد؟ ولم يحتاج الله للملائكة لإيقاع العذاب على الكافرين؟ ولم يحتاج الله الملائكة لحمل عرشه؟ ولم يحتاج الله الملائكة إلى ...؟ فهل استخدام الله لملائكته يقدح في كمال قدرته؟ فكما إن استخدام الملائكة في تنفيذ أوامره لا يقدح في كمال قدرته، فإن عدم علم الله بما في قلوب العالمين لا يقدح في كمال علمه.
ثم لنطرح سؤالاً أكثر جرأة، ألم يقل الله تعالى في أكثر من موطن من كتابه العزيز أن أمره ينفذ بكن فيكون:
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس (82)
إذا كان الأمر على تلك الشاكلة، فكيف يمكن التوفيق بين هذا القول والحقيقة التي لا يمكن المجادلة فيها أن الله قد خلق السموات والأرض في ستة أيام؟
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ق (38)
لقد تكررت هذه الفكرة في سبعة مواطن من كتاب الله، ولعل الجميع يأخذها بإيمان لا لبس فيه ولا ريبة. لهذا، ألا يحق لنا أن نطرح التساؤل التالي: هل يقدح القول أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام في كمال قدرته الكونية "كن فيكون"؟ فكما يفهم الناس أن هذا لا يقدح في تلك القدرة اللامتناهية، فإن عدم علم الله لما في قلب الإنسان لا يقدح في كمال ذلك العلم اللامتناهي.
مقارنة: أبو لهب وفرعون
ولكن قد يحتج البعض علينا بالقول أن الله يعلم ما في قلوب الناس متسلحين بالدليل الذي يمكن استنباطه من قوله تعالى:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
فمراد قولهم هو: إذا كان الله لا يعلم ما في قلوب الناس (كما تزعم في مقالاتك هذه)، فكيف ينزل الله آية تدل على أن نهاية أبي لهب محتومة؟ ألا تدل هذه الآية أن الله قد علم ما في قلب أبي لهب وامرأته، فكانت النتيجة المحتومة لهم أن يصلوا ناراً ذات لهب؟
نقول كلا وألف كلا، فالله لم يعلم ما في قلب أبي لهب وإنما علم ما بدر من قلب أبي لهب، ولكن كيف؟
إننا نرد السؤال بالسؤال: إذا كان الله يعلم ما في قلب أبي لهب، ألم يكن يعلم ما في قلب أبي جهل أو أمية بن خلف أو أبو سفيان ابن حرب؟ لِمَ لمْ ينزل الله سبحانه قرآناً يتلى بكفر أبي جهل وأمية بن خلف؟ ولِمَ لمْ ينزل قرآناً يتلى بإسلام أبي سفيان وزوجه هند؟ ألم يسلما بعد الفتح؟ وإذا كان الله قد أنزل قرآناً يتلى بكفر أبي لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، لم لم ينزل قرآناً يتلى بإسلام عمه الثاني العباس بن عبد المطلب وهما حتى اللحظة كانا لازالا على دين قومهم وجاهليتهم؟ وإذا كان الله يعلم ما في قلوب الناس لم لم ينزل قرآناً يتلى بكفر من كفر وقرآناً يتلى بإسلام من أسلم؟ وبكلمات أدق لم أختص أبي لهب بذلك؟
رأينا: لا شك - أولاً وقبل كل شيء- أن نعي أنّ الله قد أنزل قرآنا يتلى بحق آخرين، ولعلنا نجمع على أن القرآن الكريم قد تحدث كثيراً بحق فرعون مثلاً، فما أفرد القرآن مساحة فيه كما فعل بحق فرعون، ونحن في هذا المقام نسأل: ألم يكن الله يعلم ما في قلب فرعون؟ لم يأمر الله موسى وأخيه هارون أن يذهبا إلى فرعون ويدعوانه إلى ربه؟ لم لم يقضي الله أمره فيه كما فعل بحق أبي لهب، وكفى؟ لا بل ربما يكون ردة فعل البعض القول: أن الله قد "بالغ" في دعوة فرعون في الكم والكيف، فالله قد بعث له أكثر من نبي، وأرسل له معهم الآيات والبينات، التي لم تفلح جميعها في ثنيه عن عناده ومكابرته، أما في الكيف فلربما يشعر البعض أن الله كان "يتمنى" إسلام فرعون، ولنمعن التفكير في الطلب الإلهي من نبيه موسى وأخيه هارون في كيفية دعوة فرعون:
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
إن المدقق في النص القرآني يجد شيئاً غاية في الغرابة وهو قول الحق: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ، ألا يعلم الله ما في قلب فرعون؟ فكيف إذاً يقول "لَعَلَّهُ" والتي تدل بكل حال على عدم التيقن من حتمية ما ستؤول إليه الأمور؟
افتراء من عند أنفسنا: إن الجواب الذي نقدمه هنا هو إن الله لم يكن يعلم ما في قلب فرعون، ولو علم ما في قلبه لاتخذ قراراً حاسماً بأن فرعون لن يؤمن كما كان فعلاً من أمره، وربما لما بعث له الرسل لدعوته إلى الإيمان. فنحن نعلم بنص القرآني الكريم أنه إذا تحصل العلم الرباني بأن القوم لن يؤمنوا يقع عليهم العذاب على الفور:
وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ هود (36)
ولكن يبقى السؤال قائماً: كيف تقول أن الله لم يكن يعلم ما في قلب فرعون، وفي الوقت ذاته أنزل قرآناً يتلى بحق أبي لهب وهذه الأقوام التي حسم الله أمره فيه بعدم إيمانهم؟
رأينا: إن الجواب الذي نقدمه هنا بسيط للغاية، ويتمثل في فهم زعمنا السابق وهو: إنّ الله لا يعلم ما في القلوب ولكنه يطلع على القلوب، فالله لم يعلم ما في قلب فرعون ولكنه أطلع على قلب أبي لهب. هذه أحجية، فلسفة كلامية لا نرغبها، أليس كذلك؟
نقول كلا وألف كلا، هذه دقة في فهم الألفاظ التي يجب الوقوف عندها وتجليتها لتبين المعاني ويزيل اللبس والتشابه، وقبل أن أقدم الشرح المفصل في هذه القضية سأعرج على قضية أخرى تفيدنا في كيفية الوقوف عند أدق الألفاظ التي ربما تشكل على الكثيرين، ومراد قولنا هو أن الدقة في فهم الألفاظ تزيل الإبهام.
مثال:
قال تعالى في محكم التنزيل:
... وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا النساء (78)
ثم أتبع هذه الآية على الفور بقوله تعالى:
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا النساء (79)
دقق – عزيزي القارئ- في الآية 78، ألا تجد أن الله ينسب الحسنة والسيئة لنفسه "قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"؟ ثم دقق – حماك الله- في الآية 79، ألا تجد أن الله ينسب الحسنة لنفسه بينما ينسب السيئة للإنسان "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ"؟
السؤال: كيف إذاً يمكن التوفيق بين ما جاء في الآية الكريمة 78 وما تبعها في الآية 79؟
جواب: إن حل المسألة غاية في البساطة إن نحن حملنا كلام الله محمل الجد، ودققنا النظر في ألفاظه، نستطيع حينها تجلية الأفهام وإزالة التشابه الذي ربما يربك الكثيرين، فحتى لا يبقى كلامنا في إطاره النظري نقول أننا لو دققنا النظر لوجدنا فرقاً في اللفظ واضح تمام الوضوح في الآيتين الكريمتين، والفرق هو ورود كلمة "عِنْدِ" في الآية 78، وورود كلمة "فَمِنْ" في الآية 79. فالله سبحانه في الآية 78 يقر حقيقة لا جدال فيها وهي أن الحسنة والسيئة كل من عند الله (نعم من عند الله) ولكن الحسنة فقط هي من الله (نعم من الله)، أما السيئة فهي من الإنسان (نعم من الإنسان). فالآيتان الكريمتان يدعواننا إذاً إلى التمييز بين ما هو من عند الله وما هو من الله، وهناك فرق عظيم بين أن يكون الشيء مثلا من عندك (ولله المثل الأعلى) أو أن يكون منك. فانا قد أكون تناولت الشيء من عندك، ولكنك ربما لا تكون مسئولا عنه، أما إذا كان الشيء منك مباشرة فإنك بلا شك تتحمل كامل المسؤولية فيه. فلو أخذت أنا سكيناً من عندك وقمت بطعن شخص بتلك السكين فهل يل ترى تتحمل أنت مسؤولية فعلتي تلك؟ ولكن لو كانت السكين منك (كأن تكون أنت من أعطيتني تلك السكين)، فلا شك أنك تتحمل ولو جزءاً من تلك المسؤولية، فالله إذاً ليس مسئولاً عن السيئة لأنها من عنده فقط وليست منه، ولكنه مسئول عن الحسنة لأنها من عنده ومنه.
لذا فإننا عندما ندعو إلى التفريق بين ما هو من عند الله وما هو من الله لا يكون ذلك من باب فلسفة الكلام، وإنما هي من باب الدقة في تمييز الألفاظ، فأنا شخصياً كنت أرد بطريقة قوية وربما فضّة بعض الشيء إذا ما قال أحدهم بعد حصول حادث طريق مثلاً أن ذلك من الله، فأرد على الفور بأن ذلك ليس من الله، وأن هذا ليس أكثر من افتراء على الله، فما تكون ردة فعل من يسمع مثل قولي هذا- في غالب الأحيان- إلا أن ينعتني بعدم الإيمان بالقدر وربما أحياناً بالإلحاد، وتكتمل الصورة السلبية عني عندما يحصل أحياناً أن أقول إذا ما حدث مكروه ما أنّ ذلك من عند الله، فما يكون منهم إلا أن ينعتوني ليس فقط بالإلحاد وإنما بالجنون، ظانين أني أقول المتناقضات، فلمثل هؤلاء لا أجد رداً أفضل مما جاء في الآية الكريمة نفسها وهي قوله تعالى "فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا".
نعم، ذلك – برأينا- هو فقه الحديث، إنه دقة التمييز في الألفاظ، وبالتالي دقة المعاني التي تحملها تلك الألفاظ في ثناياها.
وبمثل فقه الحديث هذا نعود إلى زعمنا السابق الذي ظن البعض أنه من باب فلسفة الكلام ألا وهو قولنا: أن الله لم يكن يعلم ما في قلب فرعون ولكنه اطلع على قلب أبي لهب، وهذا هو الفرق!
ما الفرق بين أن يعرف الله ما في قلب الإنسان وأن يطلع الله على قلب الإنسان؟
هناك فرق عظيم بين الحالتين، فمعرفة ما في قلب الإنسان تتطلب الولوج إلى داخله، ولكن الإطلاع على قلب الإنسان لا يكون بأكثر من التعرف عليه من الخارج.
وسنعيد هنا بعض ما زعمناه في مقالتنا السابقة حول كيفية تعامل الله مع قلب الإنسان من الخارج، وقد كان جل الافتراض هو أن الله يتعامل مع قلب الإنسان من الخارج، قال تعالى:
خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ البقرة (7)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا النساء (155)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ۚ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام (25)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ الأنعام (46)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) الأعراف
وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰأَدْبَارِهِمْ نُفُورًا الإسراء (46)
وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا الكهف (14)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا الكهف (57)
كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الروم (59)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ محمد (16)
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ المنافقون (3)
كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ المطففين (14)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) الشعراء
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ القصص (10)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ غافر (35)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۖ فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ ۗ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ الشورى (24)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ الجاثية (23)
تدل الآيات الكريمة السابقة جميعها على أن الله سبحانه يختم على قلب الإنسان، ويطبع على قلبه، ويجعل على قلبه أكنة، ويربط على قلبه، وهكذا، ألا ترى – عزيزي القارئ- أن هذه الآيات جميعها تصور كيف يتعامل الله مع قلب الإنسان الكافر من الخارج، والجميل في الأمر أنه لا يوجد في كتاب الله آية واحدة تصور دخول الله إلى قلب الإنسان الكافر (ولكن هناك فرصة أن يدخل الله إلى قلب الإنسان المؤمن)، وجل ما نجد أنه إذا أراد الله أن يدخل شيئاً في قلب الإنسان الكافر يتم ذلك عن بعد، ولنمعن التفكير في مفردة "سألقي" في قوله تعالى:
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
والقارىء مدعو لمراجعة فهمنا لمعنى مفردة الإلقاء كما وردت في مقالتنا السابقة.
ولكن يبقى السؤال الكبير: لماذا لا يدخل الله إلى قلب الإنسان ليستجلي ما فيه؟ لقد ذكرنا في مقالتنا الأولى أن القلب ليس تجويفاً فارغاً كالصدر أو النفس وإنما هو كتلة واحدة متماسكة، وقلب الكافر على وجه الخصوص يكون من الصلابة لدرجة تفوق صلابة الحجارة مصداقاً لقوله تعالى:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ البقرة (74)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المائدة (13)
فالقلب إذاً - بصريح اللفظ القرآني- قد يكون أشد قسوة من الحجارة، وهو مقفل محكم الإغلاق، قال تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا محمد (24)
ولهذا لا يستطيع أحد الولوج إلى داخله، فقد جاءت معظم الآيات القرآنية التي تتحدث عن القلب (خاصة قلب الكافر) لتتعامل معه من الخارج، وبالمقابل فإن قلب الإنسان المؤمن –على عكس قلب الكافر- يكون وجلاً، خاشعاً:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الأنفال (2)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ الحج (35)
وهذه المقارنة واضحة جلية في قوله تعالى:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ الحديد (16)
فالمؤمنون قلوبهم خاشعة وجله، أما الفاسقون فقلوبهم قاسية متحجرة، ولهذا عندما يطّلع الله على قلوب العالمين ويجدها قد أصبحت قاسية صلبه كالحجارة أو أشد قسوة، فلا يكون هناك حاجة للدخول إليها، فالخارج ينبئ عن ما في الداخل، وبهذا الفهم يمكن أن نعود لحل إشكالية أبي لهب وفرعون التي بدأنا النقاش حولها.
افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم فهم الفرق بين حالة أبي لهب وحالة فرعون على النحو التالي: لقد اطلع الله على قلب أبي لهب فوجده قد أصبح صلباً كالحجارة أو أشد قسوة، عندها ختم على قلبه وأنزل قرآناً يتلى بحقه أنه سيصلى ناراً ذات لهب، وكذلك هو الأمر عندما اطلع على قلب قوم نوح أو ابن نوح أو امرأة نوح و امرأة لوط وغيرهم، فكان القرار الإلهي أن هؤلاء لن يؤمنوا لأن قلوبهم وصلت إلى درجة من الصلابة والقسوة ما يفوق صلابة الحجارة، وبهذا استحقت أن تغلّف، ويطبع عليها، وتختم، وعندها لا يمكن أن يكون هناك رجعة إلى الوراء. ولهذا يمكن أن يتفكر أحدنا بالسيناريو التالي: ألم يكن يستطيع أبو لهب أن يرد على هذا التنزيل الإلهي بإعلان إسلامه؟ ألا يستطيع حينها أن يحرج فكرة الإسلام كلها؟ ولكن لماذا لم يفعل؟ الجواب: لأن قلبه كان قد أقفل في تلك اللحظة، فهو لا يستطيع الرجوع إلى الوراء قيد أنمله:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) البقرة
لاحظ – عزيزي القارئ- كيف يصور القرآن الكريم أن ذلك الختم يأتي بعد أن يكونوا قد كفروا، فاستحقوا بذلك أن تقفل قلوبهم، فلم تعد النذر تفيدهم في شيء، فإنذارهم أو عدم إنذارهم سيان، لأن قلوبهم قد تحجرت، فاستحقت بذلك أن تختم، وهذا ما كان من أمر أبي لهب، أو ابن نوح مثلاً.
وبالمقابل، فإنه عندما اطلع الله على قلب أبي جهل أو العباس بن عبد المطلب أو أبو سفيان بن حرب، وجده لم يصل بعد إلى تلك الدرجة من الصلابة التي تستدعي أن تقفل وتختم، فلا زال هناك بارقة أمل بأن القلب لم "يتحجر" –إن صح القول – بعد، لذا لا يمكن أن ينزل الله قرآناً يؤكد كفرهم أو إسلامهم، فالاحتمال بكلا الاتجاهين لازال واردا، فكانت النتيجة أن كفر أبو جهل وأسلم العباس وأبو سفيان.
وهذا- على ما نظن- ما كان من أمر فرعون، فالله سبحانه كان قد اطلع على قلب فرعون من الخارج كما يطلع على قلوب الناس أجمعين، فوجده لم يصل بعد إلى درجة الصلابة التي يمكن أن يحسم أمر فرعون بالكفر، فلا زال هناك بارقة أمل بإيمانه، لهذا جاء القول الرباني واضحاً تمام الوضوح على نحو:
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
لاحظ - عزيزي القارئ- كيف يطلب الله من موسى وأخيه هارون تليين القول لفرعون فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، ومن ثم يؤكد الله احتمالية (لَعَلَّهُ) أن يصدّق فرعونُ قولَهما، فتكون النتيجة إيجابية على نحو يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ. ونحن نملك بعض الأدلة من كتاب الله تثبت زعمنا أن قلب فرعون لم يصل بعد درجة الصلابة التي لا رجعة فيها، كما حصل في حالة أبي لهب.
أما الدليل الأول فيتمثل في قبول فرعون أن لا يقتل ذلك الوليد الذي عثر عليه في اليم، وهو على يقين بأنه من أبناء بني إسرائيل نزولاً عند رغبة امرأته، فبالرغم من كل التقتيل الذي أوقعه فيهم إلا أنه لا زال هناك بارقة أمل بأن يتراجع، إن قبول فرعون حجة امرأته يعني أن قلبه لم يستنفذ إمكانية أن يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ.
ثانياً، لم يقدم فرعون على قتل موسى في الحال يوم أن تحداه وأصبح يشكل خطراً واضحاً على ملكه، وإنما طلب من القوم الإذن بقتل موسى:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ غافر (26)
وسؤالنا في هذا المقام هو: هل يحتاج فرعون أخذ الأذن من أحد ليقتل من يعارضه أو من يشكل خطراً على ملكه؟
ثالثا، لا أخال أن فرعون كان قد حسم أمره بقتل موسى، فكم مرة سنحت الفرصة لفرعون أن يمسك بموسى فيقتله، لكنه كان في كل مرة يقبل التحدي مع موسى ولا يقدم على قتله، فهل سأل أحدنا نفسه السؤال التالي: لماذا لم يقتل فرعونُ موسى عندما تمكن منه في عقر داره؟ ألم يحظر موسى بنفسه إلى بلاط فرعون؟ لقد كان الجواب الجاهز من علماء الأمة على مثل هذا السؤال هو أن ذلك كان بسبب حفظ الله لموسى، فنرد على مثل هذا المنطق بالسؤال نفسه: لماذا إذاً لم يحفظ الله نبيه يحيى ويحميه من ذلك الطاغية الذي قطع رأسه؟ ولماذا لم يحفظ الله الكثير من أنبياءه الذين أقر الله نفسه في كتابه أنهم قد قتلوا على أيدي الظالمين خصوصاً من بني إسرائيل؟
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ البقرة (91)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ آل عمران (183)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ آل عمران (181)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا النساء (155)
إذن، نستميح السادة العلماء العذر لنخالفهم الرأي مرة أخرى، فالله لا يحمي هذا ويترك ذاك، ولو كان الله حارساً شخصياً (حاشاه جل وعلى) لحمى جميع أنبياءه ورسوله، لتكون تلك سنة الله التي لا تبديل لها.
ونعود للسؤال نفسه: لماذا قبل فرعون التحدي مع موسى في الأساس ولم يقدم على قتله في كل مرة سنحت له الفرصة بذلك؟ فلقد ظن موسى وأخيه هارون أن فرعون لا محالة قاتلهما، فقالا:
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45)
ولكن الله المطلع على القلوب كان قد طمأنهما على النحو التالي:
قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)
فلماذا جاء تطمين من الله بأن فرعون لن يقتلهما؟ لاحظ – عزيزي القارئ- أن الله لم يتعهد بحمايتهما، وجل ما قاله لهما هو "قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ"، إننا نظن أن الجواب يكمن في اطلاع الله على قلب فرعون، فعلم أن قلب فرعون لم يصل إلى تلك الدرجة من الصلابة التي لا رجعة فيها.
فالله سبحانه لم يكن ليضيع لفرعون بصيص الأمل ذاك، مصداقاً لقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا النساء (40)
فقدّم له الآيات البينات حتى يتنامى ذاك الأمل ويكبر، ولهذا نجد أن الله لم يعاقب فرعون بالرغم من كل ما فعل، فقد قتّل أبناء بني إسرائيل، وضيّق الخناق على موسى ومن معه، وفوق كل ذلك فقد ادعى لنفسه الأولوهية:
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَىٰ أَنْ تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ (20) فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ (22) فَحَشَرَ فَنَادَىٰ (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24) النازعات
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ القصص (38)
فبالرغم من كل هذه الذنوب وعظمها لم يتخذ الله القرار بكفر فرعون حتى اللحظة الأخيرة (أي حتى أقدم فرعون على هلاكه بيده)، ولو أمعنا النظر لوجدنا أن الله لم يغرق فرعون، حتى دخل فرعون بنفسه إلى البحر، فلقد كان يرى بأم عينه إنشقاق البحر، فلم يقدم على الدخول في تلك المغامرة؟
رابعاً، لعل المدقق في مفردات الآية الأخيرة يجد الحجة الواضحة التي تدعم زعمنا أن قلب فرعون لم يصل بعد إلى درجة قسوة القلب النهائية، فها هو يرد على دعوى موسى بالقول:
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ
فهو إذاً لم يتيقن من درجة التكذيب بما جاء به موسى، فكان كلامه ظنياً، لأن هناك في قلبه –برأينا- شيء من التصديق، ولكنها المكابرة والمعاندة التي منعته من إتباع بصيص الأمل ذاك:
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ القصص (39)
فبالرغم أن فرعون كان يدعي الأولوهية إلا أنه يعلم في قرارة نفسه أنه ليس إله، وعلى الرغم من كل محاولاته في تعمية قومه، إلا أن الكلمات قد فلتت منه لتكشف عن سريرته، فخاطب القوم عن موسى بلغة الظن وليس اليقين:
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ
وإني- بدوري- لأظن أن بعض الحاضرين أدركوا هذه الحقيقة، فأمنوا بدعوة موسى:
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ غافر (28)
لاحظ كيف يتحدث الرجل بلغة الشرط متسلحاً بظن فرعون، فلو كان فرعون متيقناً من كذب موسى عازماً على قتله لما استطاع أحد من حاشيته أن يبوح بمثل هذا الكلام في مجلسه.
واخيراً، فليس أدل على بصيص الأمل الذي كان الله يريد أن ينميّه لفرعون مما بدر من فرعون في نهاية المطاف (أي في اللحظات الأخيرة)، فبعد أن تيقن فرعون من غرقه كانت ردت فعلته على النحو التالي:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
نعم لقد صدر من فرعون ما لم يكن بالحسبان: إنه الإقرار بإفراد الإلوهية لـ إله بني إسرائيل، ويأتي السؤال الذي لا مفر منه على النحو التالي:
لماذا حسم الله الأمر بكفر أبي لهب وامرأته ولم يحسمه بشأن أبي جهل أو أمية بن خلف؟ ولماذا لم يحسم الله الأمر بكفر فرعون بالرغم من كل مكابرته وعصيانه وهو من قال أنا ربكم الأعلى؟ فنحن نعلم أن أبي لهب لم يدّعي الإلوهية بينما ادعى فرعون الإلوهية، ولا شك أن ذنب فرعون أعظم بكثير من ذنب أبي لهب؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم أن الجواب بسيط وهو على النحو التالي: إن الله لا يدخل إلى قلوب العالمين ليطلع على ما فيها، لذا فهو لم ينسب لنفسه العلم بإسلامهم أو بكفرهم، فحتى فرعون نفسه لم ينسب الله لنفسه العلم بكفره مسبقاً، بل بعث إليه الرسل وكان الحال على نحو "لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ"، فلم يختم على قلبه حتى أقدم هو على هلاكه بنفسه
إن زعمنا هذا ربما يحل إشكالات كثيرة في الفكر الديني سنتعرض لبعضها:
1. قضية التسيير والتخيير (انظر مقالتنا تحت عنوان مقالة في التسيير والتخيير)
2. لقد غالى الكثيرون من أبناء الإسلام في قضية العلم بالغيب دون وجود نص، حتى نسبوه لبعض الناس، ولا شك أن بعض علماء الإمامية الأثنى عشرية مثلاً قد نسبوا علم ما كان وما يكون وما هو كائن لشخص الإمام، ونحن نرد عليهم بالنصوص الواضحة في كتاب الله أن الله نفسه يحدث البلاء ليمحص ما في القلوب ليحصل له العلم بما سيصدر عن الإنسان من فعل، فكيف يكون ذلك لبعض من خلقه؟ أي كيف يمكن أن يتحصل للناس (أو حتى للبشر) ما لم يتحصل لرب الناس؟
3. الفتنة الإلهية: لماذا يحدث الله الفتنة أو البلاء؟
لقد خالج الكثيرون سؤالا مفاده: لماذا يقع البلاء على البعض ولا يقع على البعض الآخر؟ فكم مرة يردد الناس كلاماً كأن يقولوا أن هؤلاء الكفرة يعيشون حياة هنيئة قلما تصاب بالفتن والبلاء، بينما يعيش كثير من أبناء المسلمين حياة مليئة بالفتن والبلاء، وفي الوقت نفسه تجد مثل هذا التصور في قول بعضهم الآخر أن الإنسان المؤمن يعيش حياة هنيئة سعيدة، ويقابل ذلك خطب المشايخ في أن أشد الناس بلاءً هم الأنبياء، فيقع الناس في حيص بيص، في من يفتن ومن لا يفتن، في من يتنعم بالحياة الرغد ومن حياته كلها بلاء وشدة، وهناك إشارات في كتاب الله على كل هذه الملاحظات، وسنحاول التعرض لها تباعاً، ولكن قبل أن ندلوا بدلونا في هذا الموضوع، دعونا نعيد الفكرة الرئيسة التي حاولنا الدفاع عنها في بحثنا هذا ألا وهي: أن الله يطلع على القلوب من الخارج، فتبين تلك القلوب على هيئات ثلاث:
1. قلوب كافر (كالحجارة أو أشد قسوة)
2. قلوب مؤمنة وجلة خاشعة مستيقنة
3. وقلوب مرتابة مترددة (بين الحالتين السابقتين)
ونحن نزعم أن البلاء (الفتنة) لا تصيب القلوب الكافرة التي وصلت من القسوة إلى درجة الحجارة أو أشد قسوة، فتلك قلوب تستحق أن يطبع الله عليها بكفرها، ليقع عليها العذاب، فالله إذا ليس بحاجة أن يبتلي ما في تلك القلوب، فكفرها واضح بيّن، لذا فإن الكافرين الذين وصلوا في كفرهم إلى هذه الدرجة يتنعمون برغد الحياة، مصداقاً لقوله تعالى:
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِنْ كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) الزخرف
وهذا ينطبق على النقيض من ذلك، القلب المؤمن المستيقن، فإذا كان قلب الإنسان وجلا مستيقنا، بائناً ما فيه، فلا حاجة لله أن يبتليه.
ولكن الله يوقع البلاء على من لازال في قلبه بعض الريبة (حتى وإن كانت أقل القليل)، ولعلنا نطرح سؤالاً غريباً ربما نستطيع فهمه من هذا المنظور، ألا وهو: لماذا ابتلى الله آدم بالأكل من الشجرة؟ ولماذا ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده؟ وهكذا.
إن الجواب من هذا المنظور بسيط للغاية، فلقد اطلع الله على قلب كل منهم، فوجد أن فيه بعض الريبة، ولم يكن مستيقناً تماماً، لذا كان لزاماً أن يخرج الله ما في قلوبهم، فتقبل آدم لوسوسة الشيطان يشير إلى ما كان في قلبه، ولقد صرح إبراهيم بذلك الشيء الذي خاطر قلبه، فكان الحوار الرباني مع إبراهيم على النحو التالي:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة (260)
ولو دققنا في هذا الحوار لوجدنا أنه يثير تساؤلات عدة حاولنا الإجابة عنها في بحثنا هذا، ومنها:
1. إذا كان الله يعلم ما في قلب إبراهيم، فلم يسأله سؤالاً كهذا: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟
2. وإذا كان الله فعلا يعلم ما في قلب إبراهيم، فلِمَ لمْ يكن رد إبراهيم كما كان رد عيسى عليه السلام عندما سأله الله سؤالاً مشابهاً؟
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
وبكلمات أخرى، لم لم يقل إبراهيم لربه أنك تعلم ما في قلبي ولا أعلم ما في قلبك؟ لاحظ كيف أن الحديث في حالة إبراهيم كانت عن القلب وما فيه، ولكن الحوار مع عيسى كان عن النفس، وشتان بين ما في القلب وما في النفس.
3. لم جاء رد إبراهيم على نحو: قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فما هي الطمأنينة التي كان ينشدها إبراهيم؟ إنها طمأنينة القلب، وهذا يعني أن قلب إبراهيم قد خالجه بعض الشك، ولا ننسى أن ذلك الشك كان بعد حواره مع النمرود، الحوار الذي كان جله حول من يحيي ومن يميت، فبالرغم أن إبراهيم هو من استخدم دليل أن الله يحيي ويميت ليقيم الحجة على النمرود نجد أنه عاد هو بنفسه ليسأل الله عن كيفية إحياء الموتى
لذا نجد أن قلب إبراهيم لم يعد كما كان يوم أن جاء الله بقلب سليم في بداية تعرفه على ربه، والحالة هذه كان لابد من البلاء أن يقع على هذا النبي، فكان البلاء على نحو أن يذبح ولد، ولا شك أن ذلك كان حملاً ثقيلاً على إبراهيم، لم ينجو منه إلا بعد أن اسلم قلبه كاملاً لله، وأذعن لذلك البلاء العظيم:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) الصافات
وللحديث بقية
بقلم د. رشيد الجراح
[1] هناك نوع أخر من الوسوسة وهي وسوسة النفس، قال تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ق (16)