معنى حرف الجر "على" في العربية 1
تناقش الدراسة الحالية معنى حرف الجر "على" في العربية،
لتخلص إلى نتيجة مفادها أن لحرف الجر "على" (كما لكل كلمات اللغة) معنى واحد حقيقي، وليس له أي معنى مجازي كما خلصت معظم الدراسات السابقة، والمعنى الذي توصلنا إليه لمعنى حرف الجر على هو "النظرة الدائمة المسيطرة". وقد خلصنا إلى هذا الفهم بعد دراسة استخدامات حرف الجر "على" في العربية، وجاءت فكرة الدراسة هذه مدفوعة في الأساس من الإشكالات التي خلّفتها الأفهام السائدة لمعاني حرف الجر "على" في النصوص القرآنية، التي سنتعرض لها لاحقاً، وقد كان الإطار النظري الذي انطلقنا منه في استقصاء (استنباط) معنى حرف الجر "على" مستنداً إلى ما خلصنا إليه في مقالتنا السابقة تحت عنوان "جدلية الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم" والتي خلصت بالزعم أن القرآن الكريم يخلو من المجاز، وكل ما فيه من لفظ يجب أن يؤخذ على الحقيقة (للإسهاب في هذا الموضوع انظر مقالتنا السابقة).
توطئة: تفنيد الفكر السائد
لقد شكّلت مثل هذه القضية معضلة مستعصية أطاحت بالفرق والمذاهب الإسلامية، ربما نتيجة فهمهم المغلوط – في رأينا- لمعنى حرف الجر "على" كما يرد في السياقات القرآنية، ولعل القضية الأكثر تعقيداً كانت تلك التي خصت النقاش الذي دار بين العلماء منذ قرون خلت حول قضية الاستواء على العرش كما وردت في قوله تعالى:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الأعراف (54)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ يونس (3)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ الرعد (2)
الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ طه (5)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا الفرقان (59)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ السجدة (4)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الحديد (4)
وقد انتهى السجال عند كثير من المسلمين (العامة منهم والخاصة) بمقولة ابن تيمية الشهيرة "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب"، فظن كثير من الناس أن الجدال قد حسم لصالح هذه الفئة، وأخذ الكثيرون يرفضون الدخول في مثل هذا الجدل ظانين أن النتيجة محسومة باستحالة معرفة كيفية الاستواء، ففي كلمات فقيهم جاء الاعتقاد جازماً بأن "الكيف مجهول"، ولكن الجزء الأخطر – في نظرنا- في تلك المقولة الشهيرة هو قوله بأن "السؤال عنه بدعة": لقد حرّم فقيههم السؤال أو حتى التفكر بهذا الأمر، وربما – في رأي متبعيه- يقذف كل من يخوض في هذا الجدل في نار جهنم وبئس المصير.
ولما كانت عقيدتنا تتلخص بأن ليس من حق بشر على وجه هذه المعمورة (كائن من كان) أن يحرّم علينا بحثنا عن الحقيقة، نجد لزاماً مخالفة ابن تيمية الرأي (مع التأكيد على احترامنا للرجل) لنثير هذا التساؤل من جديد ظانين أن بإمكاننا (بحول الله وتوفيقه) فتح آفاق جديدة في البحث، ربما تسعف في القادم من الأيام من ينفذ من خلالها إلى ما يأذن الله له به من علم.
لماذا؟
إننا نعتقد أن معظم السجال الذي دار في قضية الاستواء بين الطرفين قد فشل فشلاً ذريعاً – في رأينا- لسبب بسيط واحد ألا وهو انطلاقهم من افتراض خاطئ، فقد كان افتراضهم مبني على الفهم الخاطئ لمعنى حرف الجر "على" في العربية. وقد تلخص موقف الطرفين في إثبات أو نفي الوجود الفيزيائي للذات الإلهية فوق العرش، فطائفة منهم ترى ذلك لأن صريح اللفظ يقول أن الله قد استوى "على" العرش، وأخرى تنكر ذلك لموقف عقائدي يتلخص باستحالة أن يحتوى (يحتمل) العرش (وهو من مخلوقات الله) الذات الإلهية (وهو الخالق). ونحن نرى أن الطرفين كانا مخطئين لأنهم انطلقوا في الأساس من الفهم السائد بأن حرف الجر على يحمل في ثناياه معنى "الفوقية". لذا ظن المدافعون عن الرأي الأول بأن الذات الإلهية فوق العرش بمعنى الوجود الفيزيائي، وظن الطرف الثاني استحالة ذلك لأن المخلوق لا يمكن أن يحتوي الخالق.
موقفنا: نحن نظن أن الفهم الحقيقي لاستواء الذات الإلهية على العرش يستحيل أن يحصل مادام الفهم لمعنى حرف الجر "على" مغلوطاً، فلابد من تصحيح فهمنا لمعنى "على" أولاً، لنتمكن بعدها من معرفة كيفية الاستواء. وبعد الشرح سنصل إلى النتيجة التي مفادها أن الرحمن مستوياً على العرش ولكنه ليس موجود فيزيائيا فوقه.
دحض الآراء السابقة
دحض الرأي الأول: يمكن دحض رأي الفريق الأول الذي ظن بأن الذات الإلهية موجود فوق العرش وجوداً فيزيائياً من كتاب الله نفسه، قال تعالى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ غافر(7)
وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ الحاقة (17)
فالحقيقة القرآنية التي تصورها هذه الآيات الكريمة المتمثلة بأن الملائكة تحمل العرش يستحيل أن يستقيم معها فكرة وجود الرحمن فوق العرش وجوداً فيزيائيا، وإلاّ لكان لزاماً أن نفهم أن الملائكة التي تحمل العرش هي تحمل الذات الإلهية في الوقت نفسه، وعندها يصبح الرب وكأنه عاجز عن الحركة يحتاج إلى من يحمله، وهذا لا يستقيم مع ما تصوره الآية الكريمة التالية:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ الأنعام (158)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
البقرة (210)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ
(23) الفجر
فالله إذاً لن يأتي محمولا في ذلك اليوم على العرش (لأن من يأتي محمول "سيجيء به" كما في حالة جهنم مثلاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ)، وإنما سيأتي بنفسه (وَجَاءَ رَبُّكَ) تصحبه الملائكة "فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ" (وسنتعرض في مقالة أخرى لمعنى حرف الجر "في" لنحاول الخوض في سؤال مفاده: كيف سيأتي الله في ظلل من الغمام لنبين أن معنى حرف الجر "في" لا يحمل معنى الاحتواء كما يتصوره غالبية الناس، وسنحاول إثبات أن حرف الجر "في" يعنى حجب الرؤيا، وسنبين أننا عندما نقول أن فلانا في الدار ليس لتصوير أنه موجود داخلها وإنما لنبين أنه لا يمكن رؤيته من قبل الآخرين مادام أنه فيها)
وهناك دليل آخر من كتاب الله على استحالة الوجود الفيزيائي للذات الإلهية فوق العرش وهو ما جاء في قوله تعالى:
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الزمر (75)
فكيف إذاً بالملائكة ستحيط بالعرش والرحمن من فوقه؟! فالقول أن الإله موجود وجوداً فيزيائياً فوق العرش يترتب عليه الاعتقاد بأن الملائكة تحيط بالذات الإلهية وذلك لإحاطتهم بالعرش مصداقاً لقوله تعالى (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ).
الفصل بين الذات الإلهية والعرش
إن الفهم الذي نحاول تسويقه هنا عند حديثنا عن الاستواء على العرش هي حتمية انفصال العرش عن صاحب العرش، فهذا أمر وارد بصريح اللفظ القرآني، فها هم من ينفذون أوامر سليمان يأتون له بعرش بلقيس فقط، وليس ببلقيس جالسة على عرشها:
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ النمل (38)
لذا عندما قدمت هي على سليمان، جاءت بنفسها منفصلة عن عرشها الذي كان قد سبقها:
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ۚ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ النمل (42)
ويستبين الفصل بين عرش الرحمن والذات الإلهية عندما تصور لنا الآية الكريمة التالية مكان وجود العرش، فيستحيل بذلك أن يفهم أن الذات الإلهية موجودة فوق العرش وجوداً فيزيائياً:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ هود (7)
وتتضح صورة الفصل أكثر في مشهد الخلق الأول:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة (29)
وتتأكد الصورة في مشهد يوم القيامة:
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ الأنبياء (104)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ الزمر (67)
وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ الحاقة (17)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الزمر (75)
فالمدقق في الآية الكريمة السابقة يجد أن ثمانية من الملائكة تحمل العرش في ذلك اليوم، وستكون بقية الملائكة حافين من حول العرش، وسيكون الرحمن (الملك) على أرجائها مطويات السموات بيمينه والأرض جميعاً قبضته.
النتيجة رقم (1): الفصل بين الذات الإلهية والعرش: لذا فالرحمن –حسب هذا الفهم- موجود خارج نطاق السموات والأرض، بينما العرش موجود حالياً ضمن نطاق السموات.
دحض الرأي الثاني:
لقد كان الشعور لدى الطرف الثاني هو استحالة وجود الذات الإلهية فوق العرش وجوداً مادياً، لسبب عقائدي يتمثل في استحالة أن يحتوي المخلوق (العرش) الخالق (الله)، وبالرغم من هذه الحجة المقنعة للوهلة الأولى إلا أن أصحاب هذا الرأي لم يقدّموا الدليل على ظنهم هذا من كتاب الله، فكيف بهم إذاً يرفضون الأيمان بوجود الذات الإلهية فوق العرش وهو من يقول عن نفسه أنه قد استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض؟ فأين إذاً يكون الوجود الفيزيائي للذات الإلهية؟
لقد كان الفشل الحقيقي لأصحاب هذا الرأي يتمثل في عدم قدرتهم على الإجابة عن السؤال حول الوجود الفيزيائي للذات الإلهية، فغالباً ما تغنى أصحاب هذا الرأي بالاعتقاد اليقيني لديهم أن الله موجود في كل مكان. وقد حاولنا في مقالة سابقة لنا دحض هذا الرأي جملة وتفصيلا، وقدمنا الدليل على استحالة الوجود الفيزيائي للذات الإلهية في كل مكان. وكان لب النقاش يقتضي الفصل بين الوجود الإلهي بعلمه والوجود الفيزيائي للذات الإلهية، فكان رأينا يتمثل في أن الله موجود في كل مكان بعلمه، ولكنه غير موجود في كل مكان بذاته، وكانت قصة مواعدة الله نبيه موسى تشكل دليلاً – في نظرنا- على صحة زعمنا باستحالة الوجود الفيزيائي للذات الإلهية في كل مكان. ولا ضير أن نعيد هنا جزءاً من النقاش السابق لتوضيح الفقرة (ولكن القارئ مدعو للدخول في التفاصيل عند قراء مقالتنا تحت عنوان "أين حصلت مناداة الله نبيه موسى؟").
فالله يواعد نبيه موسى أن يلقاه في مكان ما، ويأتي موسى مسرعاً، فيبادره ربه بالسؤال التالي:
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ طه (83)
فيرد موسى على سؤال ربه بالقول:
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ طه (84)
وهنا نطرح سؤالنا الذي نظن أنه يلقي بظلال الشك على الاعتقاد السائد بالوجود الإلهي في كل مكان على النحو التالي: إذا كان الله – كما يظن الكثيرون- موجودا في كل مكان، فلم يضطر موسى أن يذهب إليه؟ ثم كيف بموسى يقول لله "عجلت إليك" إن كان الله فعلاً موجوداً في كل مكان؟ ثم لم لا يتم اللقاء في المكان الذي كان يتواجد به موسى بدل أن يجهد موسى نفسه أربعين لليلة سائرا على قدميه، ويترك قومه من وراءه ليفتنهم السامري؟ ألا يكفي موسى كل ذاك الترحال الذي أمضى قسطاً كبيرا من حياته فيه؟ (للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان أين حصلت مناداة الله نبيه موسى)
أما الدليل الثاني الذي نسوقه لتمرير رأينا في أن الله ليس موجوداً في كل مكان هو الحكمة من وجود الملائكة، إننا نعتقد أنه لو صح زعمهم بأن الله موجود في كل مكان بذاته لانتفت الحكمة من وجود الملائكة أصلاً، فما فائدة الملائكة إن كان الله فعلاً موجودا في كل مكان؟ ما الذي ستفعله الملائكة؟ (للتفصيل في هذه القضية انظر سلسلة مقالتنا تحت عنوان هل لعلم الله حدود؟)
النتيجة رقم (2): الله ليس موجود بذاته في كل مكان
نخلص إذاً من دحضنا لموقف الطرف الأول ودحضنا لموقف الفريق الثاني إلى موقف جديد ربما يكون مغايراً لكل ما سلف يتمثل في الزعم التالي: الله ليس فوق العرش، فالعرش موجود ضمن نطاق السموات، والله موجود بذاته خارج نطاق السموات والأرض، لذا فهو ليس موجود في كل مكان بذاته. فأين هو إذاً؟
الجواب: مستوياً على العرش؟
- ولكن كيف؟
إن مثل هذا السؤال يدعونا إلى التفكر بمعنى هذه العبارة التي وردت في القرآن الكريم سبع مرات (ولا أخال أن أحداً يمكن أن يخطئ سبب ورودها سبع مرات على وجه التحديد في كتاب الله).
إنّ الدعوة إلى إمعان التفكر بمعنى قوله تعالى " ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ" يتطلب بداية تحديد معاني مفردات ثلاثة وهي:
1. استوى
2. على
3. العرش
وهذا بالضبط ما نحاول أن نقحم أنفسنا فيه قبل القفز إلى اتخاذ مواقف عقائدية ربما تدعونا إلى التخلي عن معظم آراء واعتقادات الفرق الإسلامية ذائعة الصيت.
الاستواء
ما المقصود بمفردة استوى في النص القرآني؟
إننا نظن أن مفردة الاستواء ومشتقاها – حسب فهمنا للسياقات القرآنية التي وردت فيها- تفيد "التعادل دون زيادة أو نقصان"، فإذا استوى شيء مع شيء آخر فقد تعادلا، وأما إذا لم يستويا فإنهما لا يتعادلان، فيطغى طرف على طرف، وعندها يحدث خلل يتوجب تصحيحه، ولندقق النظر في الآية الكريمة التالية:
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا النساء (95)
فالقاعدون غير أولي الضرر من المؤمنين (الطرف الأول) لا يستوون مع المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم (الطرف الثاني) بالرغم أنهم بمجموعهم مؤمنين، لذا كان لزاماً على القاعدين من المؤمنين أن يسووا الخلل الذي نجم عن عدم استواءهم مع المجاهدين إن هم أرادوا ذلك. ويمكن استقصاء هذا المعنى حتى بين طرفين متناقضين تماما، قال تعالى:
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ المائدة (100)
فالخبيث لا يستوي مع الطيب، فحتى يتعادلا لابدّ للخبيث (الطرف الأول) أن يصحح الخلل ليتعادل مع الطيب (الطرف الثاني). ويتكرر المشهد نفسه في سياقات قرآنية عديدة:
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ الأنعام (50)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ۚ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ هود (24)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الرعد (16)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ النحل (76)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فاطر (12)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) فاطر
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الزمر (9)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الزمر (29)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ۚ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ غافر (58)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ فصلت (34)
ويجب أن نلفت انتباه القارئ أن مفردة الاستواء لا تحمل في ثناياها معنى تفضيل طرف على طرف كما قد يتبادر لذهن السامع للمرة الأولى، فهذا غلط يجب الوقوف عنده قبل متابعة النقاش، فقد يظن البعض أن في قول الحق " قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ" أن في ذلك تفضيل للطيب على الخبيث (حتى وإن كان كذلك)، فنقول كلا، فلو أمعنا التفكير في بقية الآية الكريمة جيداً لوجدنا أن البعض ربما يعجبوا بالخبيث (على الطيب):
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إن ما نود إثارته من هذه السياقات القرآنية هنا هو القول أنه لو كانت مفردة الاستواء تحمل في ثناياها معنى تفضيل طرف على طرف لأصبح هناك حشو غير ضروري في قوله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ الحديد (10)
وكذلك في قوله تعالى:
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ الحشر (20)
فلم يكمل الله الآية نفسها بالقول "أصحاب الجنة هم الفائزون" إن كانت مفردة الاستواء تحمل في ثناياها معنى التفضيل؟ وبكلمات أكثر دقة فإننا نقول أنه لو كانت مفردة الاستواء تعني تفضيل طرف على آخر لكان تفضيل أصحاب الجنة على أصحاب النار أمر بديهي ولما دعت الحاجة للتأكيد على ذلك بالقول " أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ".
ويتكرر مثل هذا السيناريو في قوله تعالى:
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا النساء (95)
فلو كانت مفردة الاستواء تحمل في ثناياها معنى التفضيل لما كان هناك ضرورة لوجود تكملة للآية الكريمة على نحو "فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً".
ولا يعني الاستواء أن يكون الطرفان متناقضين كالتناقض بين الخبيث والطيب أو بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، أو الحسنة والسيئة، فقد يكون الطرفان من نفس النوع كذاك الذي بين القاعدين من المؤمنين والمجاهدين أو بين البحر العذب والبحر المالح:
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ
فالاستواء يمكن أن يكون بين أي كينونتين، لذا عندما قال الله "الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ"، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال الإشارة إلى مفاضلة بين الرحمن من جهة والعرش من جهة أخرى، ولكن جل ما يمكن أن نفهمه هو حصول حالة الاستواء (أي الثبات): ثبات العرش بسبب ذلك التعادل الذي فرضه الله عليه.
النتيجة (3): العرش في حالة ثبات بسبب استواء الرحمن عليه
ثانياً، يجد المدقق في السياقات القرآنية لمعنى الاستواء في الآيات السابقة حقيقة ثابتة وهي أن الاستواء لا يعني التعادل في الكمية أو الحجم، قال تعالى:
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ
فالمقارنة عقدت بالرغم من قلة طرف (الطيب) وكثرة طرف آخر (الخبيث)، والمقارنة حدثت بين أصحاب الجنة وأصحاب النار بالرغم أنهم غير متساويين في العدد.
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ
وكذلك هو الحال بالنسبة للبحرين، فقد يكون أحدهما أكبر حجماً من الآخر:
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ
لذا لا يجب أن يفهم من كلامنا عند الحديث عن استواء الرحمن على العرش التوازن الكمي أو النوعي بين المستوي (الذات الإلهية) والمستوى عليه (العرش)، فالرحمن قد وسع كل شي وهو أكبر من كل شي، ولكن بالرغم من ذلك فالاستواء حاصل، فلا يستطيع العرش أن يفلت من مكانه بسبب الاستواء المفروض عليه من الذات الإلهية.
لذا فالاستواء يعني – حسب فهمنا- الثبات على الحال، فالشيء المستوي لا يصبح مستوياً حتى يصل إلى درجة الاستقرار أو الثبات، وقد قدمنا في مقالة سابقة لنا مثل هذا الفهم عندما تحدثنا عن استواء نوح ومن معه على الفلك ومن ثم استواء سفينتهم على الجودي. ولا ضير في إعادة جزء من القصة هنا (ولكن للدخول في التفاصيل نرجو مراجعة مقالتنا تحت عنوان سفينة نوح ونظرية تكون القارات) لنفهم ما حصل في حالة نوح وسفينته، ومن ثم الخروج باستنتاجات ربما تفيدنا لفهم كيفية استواء الرحمن على العرش.
فالله يطلب من نوح شكر ربه بعد أن يكون قد استوى ومن معه على الفلك:
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ المؤمنون (28)
إن أبسط ما يمكن أن نفهمه من هذا السياق القرآني هو وصول نوح ومن معه إلى حالة الثبات على ظهر السفينة، فلا يمكن أن نفهم أنه قد حصل استواء لنوح ومن معه على الفلك إن كانوا لازالوا في حالة تحضير أو تجهيز لركوب السفينة. فمن استوى منهم على الفلك فقد أنهى علاقته مع خارجها وأصبح جاهزاً للانطلاق. ومن استوى على ظهر الأنعام فقد ركبها واستقر به الحال على ظهرها:
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) الزخرف 12-13
فسفينة نوح لم تصل إلى مرحلة الاستواء إلا بعد أن قضي الأمر:
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هود (44)
ولا بد من الإشارة هنا أن الاستواء لا يمكن أن يتم إذا كان الشيء في غير مكانه المخصص له، فحتى تستوي السفينة لابد أن تتواجد في مكان فيه مقومات الاستواء للسفينة، وبهذا الفهم فإننا نذهب إلى معارضة كل ما ذهب إليه المفسرون السابقون من قول حول المكان الذي استوت عليه سفينة نوح، فقد ظن كثير منهم أن السفينة قد استوت على جبل لظنهم أن مفردة "الجودي" التي ورد ذكرها في القرآن هي جبل (إننا نعتقد أن معظم آرائهم تلك كانت مبنية على تفسيرات وقصص يهود، والقارئ مدعو لمراجعة الموسوعة اليهودية - على سبيل المثال - ليرى بأم عينه مقدار النقل الذي أخذه علماء الإسلام من تفسيرات أهل الكتاب)، ونحن نستغرب القول بأن مفردة الجودي تعني جبلاً لسبب بسيط وهو: هل يمكن أن تستوي سفينة على جبل؟ لقد بينّا في مقالة سابقة لنا أنه حتى تستوي السفينة فلابد من أن توجد في مكانها المناسب الذي يمكّنها من الاستواء (الاستقرار)، لذا يستحيل أن تستوي السفينة (أي سفينة، ناهيك عن سفينة بحجم سفينة نوح تحمل من كل شيء زوجين اثنين وتجري بهم في موج كالجبال) إلا على الماء، فالماء هو المكان المناسب بالنسبة للسفينة لكي تستوي، لذا فإننا نعتقد جازمين أن الجودي (المكان الذي استوت عليه السفينة) هو جسم مائي وليس جبلاً كما ظن الأقدمون (للتفصيل حول هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان سفينة نوح ونظرية تكون القارات)
والحالة هذه فإن الاستواء – في رأينا- يعني الوصول إلى حالة الاستقرار، أي النقطة التي تقل فيها التقلبات، ويمكن أن ندعم زعمنا هذا ببعض السياقات القرآنية التي تتحدث عن العمر، فبالرغم من أن شخصاً ما قد يصل من المرحلة العمرية درجة بلوغ الأشد، لكنه ربما لا يكون مستوياً، فالقرآن الكريم يدعونا إلى التمييز بين مرحلتين عمريتين وهما:
1. أن يبلغ الإنسان أشده
2. أن يبلغ الإنسان أشده ويستوي
ونستطيع أن نفهم الفرق بين الحالتين عندما نستعرض ما ذكره القرآن الكريم عن نبيين عظيمين وهما يوسف وموسى عليهما السلام، ففي حالة يوسف تحدث القرآن عنه عندما "بلغ أشده" فقط، قال تعالى:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يوسف (22)
أما في حالة موسى فقد بلغ أشده واستوى، قال تعالى:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ القصص (14)
وربما يسعفنا مثل هذا التمييز أن نفهم متى يجب أن يدفع لليتيم ماله، فالمتتبع للنص القرآني يجد أن دفع مال اليتيم إلى اليتيم يصبح واجباً فور أن يبلغ أشده، فالاستواء ليس شرطاً لنقل ملكية مال اليتيم إلى اليتيم:
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الأنعام (152)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا
الإسراء (34)
ففي ذلك فرق واضح بين أن يبلغ الإنسان أشده و أن يبلغ أشده ويستوي، فالإنسان عندما يبلغ أشده تبدأ علامات الاستواء بالظهور (كالرشد مثلاً، وتميز الخير من الشر، وهكذا)، لذا قال تعالى في معرض الحديث عن دفع مال اليتيم:
وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ۚ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
فبمجرد أن يبلغ الإنسان النكاح وتبدأ أمارات الرشد في الظهور يصبح لزاماً دفع ماله إليه، ولكن مثل هذه الإشارات لا تصل إلى ذروتها إلا بعد زمن، وذلك ما نفهمه من معنى الاستواء (للتفريق بين هذه الفئات العمرية ندعو القارئ لمراجعة مقالتنا تحت عنوان من هي زوجة موسى)
ما علاقة مثل هذا الفهم بمحاولتنا هنا الإجابة على التساؤل الخاص باستواء الرحمن على العرش؟
إن ربط هذا الفهم بذاك السؤال يتطلب مراقبة النص القرآني مراقبة دقيقة وإثارة تساؤل جديد وهو: لم قال الله تعالى في كتابه الكريم في أكثر من موطن عند الحديث عن الاستواء "ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ"؟ وبكلمات أكثر دقة، ما فائدة وجود مفردة "ثم" في السياقات القرآنية التي تحدثت عن استواء الرحمن على العرش، وسنعيدها هنا لتمحيصها من هذا الجانب:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الأعراف (54)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ يونس (3)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ الرعد (2)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا الفرقان (59)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ السجدة (4)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الحديد (4)
فلو تأملنا قصة استواء الرحمن على العرش لوجدناها قد وردت في الكتاب العزيز في سبع آيات (أليست السموات سبعاً؟)، ولو تأملنا ورود مفردة "ثم" التي تفيد الانتقال أو التدرج لوجدناها قد وردت في ست آيات من الآيات السبعة السابقة. لذا فعندما اكتمل استواء الرحمن على العرش في السماء السابعة (أي في آخر مرحلة من مراحل الاستواء) جاء قوله على هذا النحو:
الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ طه (5)
وهنا فقط خلت جملة الاستواء من المفردة التي تدل على الانتقال "ثم"، ونحن هنا نثير تساؤلاً أكثر قوة وهو: لم جاءت مفردة "ثم" في هذه السياقات الستة؟ ألم يكن العرش موجوداً من ذي قبل؟ فأين كان؟ وكيف أصبح؟
للإجابة على هذا التساؤل لابد من النبش في الدلالات التي تثيرها مفردات الآية الكريمة التالية:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ هود (7)
إن المدقق في هذه الآية الكريمة يجد - بما لا يدع مجالاً للشك- بأن العرش كان لحظة أن خلق الله السموات والأرض على الماء، ولكن الآيات الكريمة التي تتحدث عن الاستواء تصور ذلك بعد الانتهاء من خلق السموات والأرض بدلالة ورود كلمة "ثم" التي تفيد الانتقال:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الأعراف (54)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ يونس (3)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ الرعد (2)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا الفرقان (59)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ السجدة (4)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الحديد (4)
لذا كان العرش عندما خلق الله السموات والأرض على الماء، أليس كذلك؟ ولكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ إن هذا السؤال يجلب فيه ثناياه السؤال عن الفرق بين استواء الرحمن على العرش كما ورد في كتاب الله في سبعة سياقات قرآنية ذكرناها آنفاً، واستواء الرحمن إلى السماء كما جاء في قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة (29)
ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت
فيرد الاستواء إلى السماء في الكتاب العزيز مرتين فقط (بينما ورد الاستواء على العرش بالمقابل سبع مرات)، ونحن نفهم من هذه السياقات القرآنية أن الاستواء إلى السماء حصل مرتين، وهنا يجب التمييز بين الاستواء إلى السماء يوم أن كانت كتلة واحدة:
ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ،
والاستواء إلى السماء لحظة أن قضاهن الله سبع سموات:
ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
فحصل ذلك في يومين فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ، ونحن نستطيع تصور المشهد على النحو التالي:
كان العرش بداية على الماء ولكن لما استوى الله إلى السماء وقضاهن سبع سموات كان لزاماً ارتفاع العرش ارتفاعاً تدريجيا، فارتفع أولاً إلى السماء الأولى واستوى الرحمن عليه " ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ"، ثم إلى الثانية "ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ"، فالثالثة "ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ"، فالرابعة "ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ"، فالخامسة "ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ"، فالسادسة "ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ"، إلى أن وصل إلى السابعة فكانت الصورة على نحو " الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ"
لقد كان استواء الرحمن على العرش يحدث في كل مرة يرتفع العرش من سماء إلى السماء التالية وذلك لضرورة تثبيت العرش، فالعرش كان على الماء ولم يكن مستوياً (مستقراً) دون استواء الرحمن عليه، ولما ارتفع إلى السماء الأولى كان استواء الرحمن عليه ضرورة لتثبيته (أي في حالة الاستقرار والثبات في تلك اللحظة)، وحصل ذلك في السماء الثانية والثالثة حتى السماء السابعة، وقد يرد البعض بالقول: لم لم يحصل كل ذلك دفعة واحدة؟ لم جاء تدريجياً على هذا النحو؟ فنرد عليه بالقول أن الإجابة على مثل هذا التساؤل موجودة في الآية التي تليها مباشرة، وكل ما هو مطلوب هو إمعان التفكير بمفردات الآية جيداً، وربط الآيات مع بعضها البعض:، فلنقدم الآيتين معاً مرة أخرى ونتأملهما جيداً:
ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت
لقد كان انتقال العرش انتقالاً تدريجياً من سماء إلى سماء "ليتم وحي الله في كل سماء أمرها". فما فائدة العرش إن لم يكن لتلك الغاية؟
وعند التدقيق في السياقات القرآنية المرتبطة بهذا الموضوع نجد لزاماً التعرض للآية الكريمة التالية، ومن ثم ربطها بقضية استواء الرحمن على العرش، قال تعالى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا الطلاق (12)
فالآية الكريمة تشير إلى أن الله قد خلق سبع سموات وعرش واحد، وقد بينا أن العرش قد انتقل انتقالاً تدريجياً من سماء إلى أخرى حتى بلغ السماء السابعة، ولكن الآية السابقة تثير تساؤلاً جديداً وهو أن الله (كما خلق سبع سموات) خلق من الأرض مثلهن، فأين إذا تلك الأراضين السبعة (إن صح القول)؟
إن المتتبع لقصة ارتفاع العرش من سماء إلى سماء واستواء الرحمن على العرش في كل سماء لكي يوحي في كل سماء أمرها وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا يبين لنا أن كل سماء كان لها أرضها الخاصة بها، فالسماء الدنيا لها أرضها، والسماء الثانية لها أرضها، وهكذا. وهذا الكلام يمكن فهمه من قوله تعالى:
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت
وربط ما تتضمنه هذه الآية الكريمة مع ما صرحت به الآية السابقة في قوله تعالى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
فالسماء الدنيا قد زينت بمصابيح وحفظا، لذا فقد أوحى الله في كل سماء أمرها، وهذا ربما يجيب على احتمالية وجود كائنات غيرنا في هذا الكون، ولكننا نزعم أنه إن صح هذا الاعتقاد فسيكون ذلك ليس ضمن نطاق سمائنا الدنيا (لأن السماء الدنيا لها أرض واحدة، والقارئ مدعو لمراجعة جميع الآيات التي تتحدث عن الحياة الدنيا)، ولكن قد يكون ضمن نطاق السماء الثانية والثالثة وهكذا (للتفصيل حول هذا الموضوع انظر فهمنا لقصة يأجوج ومأجوج الذي قدمناه ضمن مقالة لنا تحت عنوان "مصادر التشريع في الإسلام")
إنّ ما يهمنا هنا هو الحديث عن عرش واحد انتقل من سماء إلى سماء، واستوى الرحمن عليه في كل سماء حتى أوحى فيها أمرها، ولما كان بحثنا هنا يخص السياقات القرآنية التي تتحدث عن الاستواء على العرش، نجد لزاماً (بعد التعرض لمفردة الاستواء) أن ننتقل للحديث عن مفردة العرش كما ترد في السياقات القرآنية لنجيب على تساؤلين اثنين وهما:
1. ما هو العرش؟
2. لم العرش؟
لنخلص إلى القول أن العرش هو "مكان الحكم"، وهو ما يفسر حتمية نزوله في يوم الحساب الأكبر:
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ الزمر (75)
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) الحاقة 16-19
وللحديث بقية