قصة يونس - الجزء الرابع
قصة يونس – الجزء الرابع
حاولنا في نهاية الجزء السابق تسويق افتراءنا الذي مفاده أن هناك نوعان من أهل العلم، وهم:
- العلماء اللذين يبتغون الفتنة ويبتغون تأويله، وهم المدافعون عن دين آبائهم وأجدادهم سواء صحت عقائدهم أم لم تصح
- العلماء الراسخون في العلم اللذين يبحثون عن الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، وهم الباحثون عن دين الله الحق.
وظننا أن الراسخين في العلم منهم هم الذين يعلمون تأويله، وافترينا القول بأنهم يستطيعون ذلك بسبب ما وهبهم الله من "الحكم"، وهي الحالة التي تقل درجة عن (وتسبق) مرحلة الرسالة. فمن آتاه الله حكما وعلما هو من يقل درجة عن مرحلة من كان رسولا من الله إلى الناس.
وحاولنا ربط ذلك بقصة يونس الذي ذهب مغاضبا. فافترينا الظن من عند أنفسنا أنه لمّا ذهب يونس مغاضبا كان عنده الحكم، ولكنه لم يصبر لذلك، بدليل ما جاء في الآية الكريمة التالية:
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
كما افترينا الظن بأن يونس لم يكن بعد قد اجتباه ربه بالرسالة، ليكون رسولا إلى قومه، وما عاد يحمل رسالة ربه إليهم إلا بعد حادثة الحوت. وانظر – إن شئت- ترتيب الأحداث الذي تصوره الآيات الكريمة التالية:
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
وبعد مناقشة (ربما غير دقيقة) للأحداث كما تخيلناها، انتهينا إلى تسجيل الافتراءات التالية:
- لم يكن يونس قد أصبح رسولا عندما ذهب مغاضبا
- كان يونس لا زال في مرحلة الحكم عندما ذهب مغاضبا
- استعجل يونس الرسالة
- تأخر تكليفه بالرسالة
- ظن يونس أنه لن يكون رسولا
- خرج يونس من قومه لهذا السبب، فذهب مغاضبا
- نزل يونس عند رغبة بعض من كان حوله من المنافقين والكافرين
- لم يكن من اللذين صبروا لحكم ربه، أي لم يكن من اللذين يملكون الحكم، فيصبرون على تبعاته.
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
- لم يكن يونس من أولى العزم من الرسل مادام أنه لم يصبر لحكم ربه
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
- الخ
وحاولنا – بناء على هذا التصور المفترى- طرح تساؤلات أخرى ذات صلة بالموضوع لمتابعة النقاش فيها في هذا الجزء الجديد وفي الأجزاء القادمة من المقالة نفسها، نذكر منها:
- لماذا لم يصبر يونس لحكم ربه؟
- ما الذي أخرجه من قومه؟ أي لماذا ذهب مغاضبا؟
- إلى أين ذهب مغاضبا؟
- كيف حصل الأمر على أرض الواقع؟
- لماذا ذهب إلى البحر عندما خرج من عند قومه؟
- ولماذا ساهم؟
- وكيف ساهم؟
- وكيف كان من المدحضين؟
- ولماذا عاد إلى ربه بعد أن التقمه الحوت؟
- ولماذا عاد إلى قومه بعد ذلك؟
- ولماذا نفع قوم يونس إيمانهم؟
- الخ
وقد أنهينا ذلك الجزء من المقالة بافتراء الظن بأن الإجابة على مثل هذه التساؤلات (كما نتخيلها) تحتاج إلى ربط خيوط هذه القصة مع قصة موسى وشخصية فرعون، لأننا نظن أن شخصية يونس تتطابق تماما مع شخصية فرعون (وإن تعاكست معها في المقدمة والخاتمة) وأن أحداث قصة يونس تكاد تتطابق في كثير من جوانبها مع أحداث قصة موسى مع فرعون. وهذا ما سنقحم أنفسنا في الدفاع عنه في النقاش التالي.
أما بعد،
الباب الأول: لماذا لم يصبر ذو النون لحكم ربه؟
رأينا: مادام أن ذا النون لم يصبر لحكم ربه، فلابد (نحن نستنبط – ربما مخطئين) أن الله قد وهب له ذلك الحكم، أو على الأقل أن الرجل كان يعرف حكم ربه وكان من المفترض أنه سيصبر له. لذا نحن نفتري الظن بناء على ذلك أن ذا النون كان:
- على علم بحكم ربه
- أنه كان مؤمنا
الدليل
نحن نظن أننا نستطيع أن نجلب على الأقل دليلين اثنين يثبتان زعمنا هذا.
الدليل الأول: لقد كان ذو النون من المسبحين قبل أن يلتقمه الحوت، وكان ذلك هو سبب نجاته من بطن الحوت:
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
الدليل الثاني: أن القرية التي كان يعيش فيها ذو النون كانوا مؤمنين.
السؤال: وأين الدليل أن قوم ذي النون كانوا في سابق عهدهم مؤمنين؟
جواب مفترى: نحن نجد الدليل على ذلك في الآية الكريمة التالية:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
نتيجة مفتراة: كانت قرية ذي النون هي القرية الوحيدة التي نفعها إيمانها فكُشِف عنها عذاب الخزي في الحياة الدنيا بعد ان كان واقعا بهم.
السؤال: لماذا جاء هذا الاستثناء لقرية يونس على وجه التحديد؟ ألا يبرز هنا سؤال كبير جدا يتعلق بالعدل الإلهي: لماذا نفع قرية ذي النون إيمانهم؟ أليس العدل الإلهي هو ما تصوره الآية الكريمة التالية التي تخط واحدة من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل؟
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
فلو دققنا في هذه الآية الكريمة لوجدنا أنه ما أن يأتي قوما ما العذاب حتى يؤمنوا، ولكن هل ينفع مثل هذا الإيمان من نزل العقاب الإلهي بحقهم؟
أليست تلك سنة الله في عباده:
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) يونس (97)
كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (2002)
ألم يقل موسى ذلك بصريح اللفظ القرآني؟
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يونس (88)
أليس هذا ما حصل مع قوم فرعون فعلا؟ ألم يؤمن فرعون نفسه عندما أدركه الغرق ورأى العذاب بأم عينه؟
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يونس (90)
السؤال المثير هو: لماذا نفع قرية يونس (على وجه التحديد) إيمانهم بينما لم ينفع قوم نوح أو قوم لوط أو قوم صالح أو قوم شعيب، الخ؟ هل في ذلك تحيّز إلهي لهؤلاء القوم من دون الأقوام الأخرى؟ ألا يمكن أن يظن البعض (خاصة المجادلون في آيات الله) أن هذا يمكن أن يقدح في العدل الإلهي "المفترض أن يكون مطلقا"؟ ربما يحاول البعض أن يتحدى بالسؤال.
رأينا: نحن نعتقد جازمين إن هذا الطرح يدعونا إلى النبش في القصة من بدايتها وحتى نهايتها بكل دقة وموضوعيه، فنحاول طرح جميع التساؤلات، ومحاولة الإجابة عليها، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا، وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يهدينا لأقرب من هذا رشدا، وأن يزدنا علما – آمين.
أما بعد،
السؤال 1: لماذا نفع يونس إيمانه فنجّاه الله بينما لم ينفع فرعون إيمانه كما نفع يونس؟ هل في ذلك تحيز إلهي لشخص يونس؟
السؤال 2: لماذا نفع قرية يونس إيمانهم فكشف عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا بينما لم ينفع الأمم الأخرى إيمانهم بعد وقوع العذاب عليهم؟
السؤال 3: ما الخصوصية التي تمتع بها يونس وقومه حتى جاءهم هذا الاستثناء الإلهي؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الذي حدث مع يونس وقريته لم يكن استثناء، وأنه لا يتعارض مع سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول، وأن ذلك لا يقدح بالعدل الإلهي المطلق مادام أن سنن الله الكونية لا تتبدل ولا تتحول.
السؤال: كيف يكون ذلك؟ ألم يقع عذاب الخزي عن قوم يونس؟ ألم يكشف عنهم عذاب الخزي بعد أن آمنوا؟ إذن، ألم ينفع قوم يونس إيمانهم فكشف عنهم عذاب الخزي؟ فلماذا لم ينفع الأمم الأخرى إيمانهم بعد أن وقع عليهم العذاب؟
السؤال المربك: ألا يجدر بنا المقارنة بين قوم يونس والأمم الأخرى في ذلك؟
قرية يونس: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
الأمم الأخرى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
رأينا المفترى: نحن نظن أن المتدبر لهذه الآيات الكريمة ربما يجد على الفور أن هناك فرقا جوهريا بين قوم يونس من جهة وجميع الأقوام الأخرى التي نزل بها عذاب الله من جهة أخرى. وهذا الفرق هو (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) السبب الحقيقي في أن نفع قرية يونس على وجه التحديد إيمانهم، فكُشف عنهم عذاب الخزي بعد أن وقع عليهم.
السؤال: ما الفرق؟ ربما يريد صاحبنا أن يسأل.
رأينا المفترى: لو دققنا في جميع السياقات القرآنية لوجدنا أن كل الأقوام التي نزل بها عقاب من ربها كانت أقواما كافرة (غير مؤمنة) وما آمنت إلاّ لحظة أن رأت أن عذاب ربها لا محالة واقع بهم، أي حصل إيمانهم لحظة وقوع العذاب بهم. وهذا هو نوع الإيمان (نحن نفتري القول) الذي لن ينفع. وانظر -عزيزي القارئ – إن شئت- في السياق القرآني التالي جيدا:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
نتيجة مهمة جدا: فجميع الأقوام الأخرى التي نزل بها عذاب من ربها لم تكن تؤمن إلا بعد رؤية العذاب الأليم:
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) يونس (97)
كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (2002)
لتكون النتيجة المفتراة من عند أنفسنا عن هذه الأقوام هي على النحو التالي: عندما ينزل العقاب الإلهي بقوم ما، ويرى القوم (بأم أعينهم وهم لازالوا على كفرهم) أن العذاب لا محالة نازل بهم (بعد أن يأتيهم بغتة من حيث لم يحتسبوا)، فإنهم يلجئون إلى الإيمان بما كانوا به مشركين، ظانين أن مثل هذا الإيمان في مثل هذه الظروف القائمة ربما ينفعهم، ولكن مثل هذا الإيمان لم يكن لينفعهم، لأن تلك سنة الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
السؤال المعاكس: لماذا إذن نفع قوم يونس إيمانهم؟
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن قوم يونس كانوا مؤمنين من ذي قبل.
السؤال: ما الذي حصل إذن؟
رأينا المفترى: لو تدبرنا هذا المنطق المفترى (على علاّته) لربما وجدنا أنه يفسر لنا الفرق بين ما حصل مع يونس نفسه وما حصل مع فرعون. فبالرغم أن الرجلين قد غرقا، ولا شك عندنا أن غرق يونس كان أشد (وأكثر خطورة) من غرق فرعون، وذلك لأن يونس قد ابتلعه الحوت بعد أن غرق في البحر، ليكون في ظلمات أشد من الظلمة التي أحاطت بفرعون عندما غرق:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
لتكون النتيجة المفتراة هي: لم يكن ذو النون في ظلمة واحدة عندما غرق ولكنه كان في ظلمات البحر:
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
السؤال: لماذا حصلت النجاة الكلّية لـ ذي النون بالرغم من غرقه واستقراره في بطن الحوت داخل البحر؟
الجواب: لأنه كان من المسبحين:
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
نتيجة مفتراة: حصلت النجاة لـ ذي النون من الغرق فخرج من بطن الحوت سالما لأنه كان في سابق عهده من المسبحين (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)، ولو أنه لم يكن كذلك للبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ). ولو تفقدنا السياق القرآني التالي الذي جاء خاصا بحادثة ذي النون لوجدنا أن ذا النون كان فعلا من المؤمنين:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
نتيجة 1: كان ذو النون في سابق عهده من المسبحين
نتيجة 2: كان ذو النون في سابق عهده من المؤمنين
السؤال: ولماذا لم تحصل نجاة مشابهة لفرعون؟ ألم يشهد فرعون بأنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل؟ ألم يكن من المسلمين؟
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
رأينا: نحن نظن أن الإجابة على ذلك قد جاءت واضحة في الآية اللاحقة على الفور:
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) يونس
نتيجة 1: كان فرعون في سابق عهده من المفسدين
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن النجاة لفرعون لم تحصل كما حصلت لذي النون لأن فرعون كان في سابق عهده من المفسدين
استنباط تخيلي: نحن نتخيل بأنه لو كان فرعون في سابق عهده من المسبحين أو لو أنه كان من المؤمنين (كما كان ذو النون) لحصلت له النجاة من الغرق كما حصلت لـ ذي النون حتى ولو أدركه الغرق
السؤال: كيف يمكن أن تخيل ما حصل مع ذي النون إذن؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: كان يونس في قومه من المسبحين قبل أن يذهب مغاضبا، وكان قومه من المؤمنين، فحصلت حادثة ما قلبت الأمور رأسا على عقب، وأدت تلك الحادثة (نحن نفتري القول) إلى حصول مشكلتين متزامنتين، وهما:
- خروج يونس من بين قومه، فذهب مغاضبا
- ارتداد قوم يونس عن الإيمان
وكان نتيجة ذلك الوضع الجديد (وهو ذهاب ذي النون وارتداد قومه عن الإيمان) أن وقع العذاب الإلهي على الطرفين: على يونس من جهة وعلى قريته من جهة أخرى. وكان العذاب الذي وقع حينئذ على النحو التالي:
- كان عقاب يونس على نحو أن غرق بالماء كما حصل مع فرعون نفسه، وزاد الطين بلّة أن التقمه الحوت بعد ذلك
- وقوع عذاب الخزي على قوم يونس.
السؤال: ما الذي حصل بعد ذلك؟
رأينا المفترى 1: تراجع ذي النون، فعاد إلى ربه، فألقي في العراء سقيما، وأنبتت عليه شجرة من يقطين حتى شفي، ثم بعثه الله رسولا إلى قومه.
رأينا المفترى 2: ما أن عاد ذو النون رسولا إلى قومه حتى آمنوا من جديد، وهناك كشف عنهم عذاب الخزي الذي وقع بهم بعد ذهاب يونس مغاضبا، فآمنوا من جديد. وربما لهذا السبب (نحن نفتري الظن) نفع هؤلاء القوم إيمانهم لأنهم كانوا مؤمنين من ذي قبل:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
السؤال المربك: لماذا خرج يونس من قومه مغاضبا؟ أو بكلمات أكثر دقة نحن نسأل: ما الذي حدث على أرض الواقع حتى دفع بيونس أن يخرج مغاضبا من عند قومه؟
رأينا المفترى والخطير جدا جدا: نحن نظن أن الحاجة تدعو إلى عقد مقارنة مباشرة بين ذي النون من جهة وفرعون من جهة أخرى. لنفتري القول من عند أنفسنا أن الذي أخرج يونس من قومه، فذهب مغاضبا، هو الشيء نفسه الذي أخرج فرعون من قومه: إنه اللحاق بالرسول الذي بعث إليهم.
- لم أفهم شيئا. يقول صاحبنا. ما الذي تريد أن تقوله؟ هل يمكن أن تكون أكثر وضوحا؟
جواب مفترى: نحن نجد لزاما في هذه اللحظة الوقوف عند محطة جديدة وهي محاولة ربط خيوط عنكبوتيه بين شخصية يونس من جهة وفرعون من جهة أخرى، وذلك لظننا أن المقارنة قد عقدت بينهما في كتاب الله في عبارة (وَهُوَ مُلِيمٌ) التي وردت في الآيتين الكريمتين التاليتين فقط:
ذو النون: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
فرعون: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
مقارنة يونس مع فرعون
لو حاولنا عقد مقارنة بين ذي النون من جهة وفرعون من جهة أخرى لوجدنا بينهما تقاطعات عديدة.
أولا، كلاهما غرق في البحر (وَهُوَ مُلِيمٌ):
ذي النون: فالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
فرعون: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
ثانيا، كلاهما كادت أن تكون نهايته الكليّة على شكل الغرق في البحر
ثالثا، كلاهما دعا ربه في تلك اللحظة، فجاء دعاء ذي النون على النحو التالي:
... فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
وجاء دعاء فرعون على النحو التالي:
... حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
رابعا، حصلت النجاة لفرعون بالبدن فقط ليكون لمن خلفه آية:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس
بينما حصلت النجاة لذي النون بالكليّة:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
خامسا، كان سبب عدم نجاة فرعون بالكلية لأنه كان في سابق عهده من المفسدين:
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) يونس
بينما كان سبب نجاة ذي النون بالكلية لأنه كان في سابق عهده من المسبحين:
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
فكان العدل الإلهي في ذلك مطلق لأن إيمان فرعون في تلك اللحظة لم يكن لينفعه، مصداقا لقوله تعالى:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)
وهكذا كان ما حل بقوم فرعون، فلم يكن لينفعهم إيمانهم لأنهم ببساطة لم يكونوا مؤمنين من ذي قبل، وما آمنوا إلا بعد أن رأوا العذاب الأليم، وكان ذلك استجابة إلهية لدعوة موسى نفسه:
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) يونس
فمضت فيهم سنة الله الكونية التي كانت ماضية في الأمم الأخرى، وهي أن الإيمان لحظة رؤية العذاب لا ينفع:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) يونس (97)
كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (2002)
أما ما نفع ذا النون فهو إيمانه السابق، وهكذا كان الذي نفع قريته، فلقد نفعهم إيمانهم السابق، وما أن عاد إليهم ذو النون رسولا وآمنوا من جديد حتى كشف الله عنهم عذاب الخزي الذي حل بهم في غيابه:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
إن هذا الطرح (على ركاكته) يثير كثيرا من التساؤلات التي لابد من الوقوف عندها، نذكر منها:
- ما هو الشيء الذي أغضب ذي النون حتى جعله يذهب مغاضبا؟
- ولماذا تراجع قومه عن إيمانهم حتى وقع عليهم عذاب الخزي؟
-ولماذا آمنوا مرة أخرى بعد أن أرسل إليهم ذو النون رسولا؟
- وكيف كُشف عنهم عذاب الخزي حينئذ؟
- الخ.
افتراء خطير جدا جدا لا تصدقوه: نحن نظن أن ذلك كان بسبب ذي النون نفسه. ولكن كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن مكانة ذي النون في قومه كانت متطابقة تماما مع مكانة فرعون في قومه. فذو النون هو (في ظننا) كبير قومه، وهو سيدهم، وهو ربهم الذي يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه، فهو إذن (نحن نتخيل) مطاع فيهم بكل ما يقول ويفعل. فإن هو آمن فهم يؤمنون، وإن هو كفر فهم يكفرون. وهذا (نحن نظن) ما كان من أمر فرعون.
الدليل
لو تدبرنا جميع السياقات القرآنية الخاصة بإرسال موسى وأخيه هارون، لوجدنا أن المهمة موجهة أساسا إلى شخص فرعون نفسه:
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17)
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (24)
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
ثم جاءت بعد ذلك لتخص فرعون وملئه فقط:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ يونس (75)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(45) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
ولا نجد في النص القرآني (على مساحته) أن مهمة موسى كانت موجهة إلى قوم فرعون. بل على العكس، فالذي وجدناه في سورة يونس على وجه التحديد هو أن دعاء موسى عليهم بالعذاب كان موجها إلى فرعون وملئه فقط:
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يونس (88)
ليكون السؤال هو: لماذا؟ لماذا لم يبعث الله موسى وأخاه هارون إلى قوم فرعون كما كانت رسالات جميع الرسل اللذين سبقوا أو اللذين لحقوا؟ ولماذا كانت رسالة موسى موجهة أساسا إلى فرعون نفسه ثم إلى فرعون وملئه بعد ذلك؟ نحن نسأل.
رأينا المفترى: لأن قبول فرعون بالرسالة وقبول ملئه من بعده بتلك الرسالة يعني قبول قومه جميعا بها.
السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: لأن قوم فرعون (نحن نفتري الظن) كانوا قوما يأتمرون بأمر فرعون وينتهون بنهيه، وليس أدل على ذلك مما كان يفعله فرعون بهم كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية:
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
نتيجة مفتراة مهمة جدا: لمّا كان قوم فرعون قوما فاسقين، ولما كان قوم فرعون من اللذين يمكن استخفافهم، لم يكونوا أصحاب مبدأ واضح غير إتباع ما كان يمليه عليهم فرعون نفسه، وليس أدل على ذلك من نفوذ فرعون حتى في ملئه، وانظر – في السياق التالي:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (39)
فإذا كان هذا هو حال ملأ فرعون في حضرة فرعون، فما بالك بنفوذ فرعون في قومه؟ هل كان يتجرأ أحد أن يعصي أمر فرعون؟ ولننظر ماذا كان يمكن أن يكون مصير من خالف أمر فرعون كالسحرة اللذين خروا سجدا:
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (71)
ولننظر إلى ردة فعل السحرة على كلام فرعون هذا:
قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
نتيجة مهمة جدا جدا وخطيرة جدا: قضاء هذه الحياة الدنيا كانت بأمر فرعون نفسه
استنباط مفترى: لمّا كان قضاء هذه الحياة الدنيا بأمر فرعون نفسه، لم يكن ليتجرأ أحد أن يخالف أمر فرعون لأن خاتمته ستكون وخيمة تتمثل بإنهاء حياته. لذا كان فرعون من أصحاب العقيدة التي مفادها أنه يحيي ويميت كالذي حاج إبراهيم في ربه:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
السؤال: ماذا لو فعلا تذكر فرعون أو خشي بعد دعوة موسى له؟
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
فما الذي كان سيفعله قومه؟
رأينا: نحن نفتري الظن بأن فرعون لم يكن ليجد عناء كبيرا في التلاعب بقومه كيفما يشاء، فقابلية الفسق متوافرة عندهم، والطاعة العمياء له هي ديدنهم، والاستخفاف بهم هي سياسة فرعون تجاههم. لذا كانت رسالة موسى وأخيه هارون (نحن نفتري القول) موجهة لشخص فرعون نفسه ثم لملأ فرعون من بعده، لأن دعوة قوم فرعون هي تحصيل حاصل. فالقرار بيد فرعون، وهو الذي سيوجههم حسب ما يراه مناسبا لهم.
تخيلات مفتراة: كان نفوذ فرعون في قومه نفوذا هائلا، فالطاعة العمياء هي سلوك قومه، وكان فرعون هو الشخص الوحيد القادر على اتخاذ القرار النهائي بخصوص إيمانهم أو كفرهم جميعا، وهو الذي أوقع قومه في الفخ، فما آمنوا وذلك لأنهم كانوا قوم سوء فاسقين، لذا ستكون مهمة فرعون في الآخرة هي أنه يقدم قومه ليوردهم النار:
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
ففرعون هو من أوقع قومه في شرك سوء أعمالهم (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)، لذا ستكون مهمته في الآخرة أن يدلهم (فَأَوْرَدَهُمُ) على المكان الذي يستحقونه (النَّارَ).
نتيجة 1: لم يكن فرعون يستطيع أن يوقع قومه في شراكه لولا أنهم كانوا مستعدين لذلك، وهو في ذلك يتبع نهج سيده من قبله، إبليس:
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
نتيجة 2: كان فرعون شخصا صاحب مكانة عظيمة في قومه، فهو الرب المطاع في كل ما يقول ويفعل، وذلك لأنه رجل على علم:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (39)
نتيجة 3: كانت لمكانة فرعون في قومه وللعلم الذي تميّز به عليهم من جهة وباستعدادهم للفسق من جهة أخرى الآثار الكبيرة في استخفافهم:
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
نتيجة (4) استطاع فرعون أن يكسب لنفسه مكانة في الآخرة تختلف عن مكانتهم، ففي حين أنه سيوردهم النار، إلا أننا نجد أن مصير فرعون نفسه غير واضح بالنسبة لنا؟ فهل سيرد النار مع قومه مثلا؟
رأينا المفترى: كلا، فنحن لم نجد في النص القرآني ما يشير بصريح اللفظ إلى ما ستكون عليه حال فرعون في يوم القيامة.
السؤال: ما هو مصير فرعون يوم القيامة؟
رأينا: إن هذا السؤال يدعونا إلى الخروج في "نزهة فكرية" لبعض الوقت قبل أن نعود منها إلى صلب الموضوع وهو مقارنة حال ذي النون بحالة فرعون.
باب الشفاعة المزعومة
بداية، نحن نجد لزاما التذكير مرات ومرات بأن كلامنا على كليته وفي تفصيلاته لا يعدو أكثر من تصورات فكرية قد لا تمت لعقائد الناس بصلة، وهي غير ملزمة لأحد ما لم يجد أنه مقتنع بها من تلقاء نفسه، وليتذكر كل من يقرأ في كلامنا هذا الآية الكريمة السابقة التي تصوّر دعوة إبليس لمن اتبعه:
... وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ...
كما يجب أن نلفت انتباه الناس إلى أننا لا نملك صكوك غفران لندخل بها الناس الجنة أو نخرجهم منها، فنحن لسنا وكلاء الله على الأرض، ونحن لسنا من أصحاب مفاتح أبواب الجنة وأبواب النار التي "صكّت ثم وزّعت على بعض منهم" ليفتحوا بها لمن يشاءون من عباد الله وليغلقوا بها على آخرين. فأمر الجنة والنار (في عقيدتنا) متروك لله وحده، فهو صاحب القرار الأول والأخير في ذلك. وما نفعله نحن في هذا الجانب لا يتعدى أن يكون أكثر من رأي فكري قابل للتصحيح بعد أن يوضع على طاولة النقاش (ربما من باب "الترف الفكري")، مادام أن سادتنا العلماء أهل الدراية لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وقتلوها بحثا وتمحيصا – كما يزعم تلاميذهم النجباء. أما نحن، فإننا نحاول التسلق على أطراف بنيانهم الراسخ في الأرض المتفرع في السماء، علّنا نجد شيئا من المتردم الذي يمكن ترميمه. لذا سنحاول التعرض إلى سؤال بسيط يتعلق بقضية الشفاعة للعباد عند ربهم. محاولين أن نطرح تصورنا المفترى من عند أنفسنا لهذه القضية التي نظن أننا نخالف فيها الفكر الإسلامي السائد بمجمله. لذا نحن بداية نلتمس العذر من تلاميذ سادتنا العلماء أهل الدراية أن لا يحملوا كلامنا هذا محمل الجد إن هم وجدوا أننا قد "سفهنا" تراث آبائهم وأجدادهم، وليعتبروا ذلك من باب الترف الفكري الذي قد يضل طريقه كثيرا وقلما يصيب الهدف المنشود.
(دعاء: فالله أسأل أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يعلمنا قول الحق فلا نفتري عليه الكذب، وأن يهدينا لأقرب من هذا رشدا – آمين)
أما بعد،
السؤال: هل يستطيع أحد أن يتدخل في أمر دخول العباد الجنة أو النار؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا، فليس لأحد غير الله نفسه الحق في اتخاذ قرار بدخول أحد الجنة أو النار.
السؤال: ولكن، هل يستطيع أحد أن يشفع لأحد في ذلك؟
رأينا الخطير جدا جدا جدا: لا، لا يستطيع أحد أن يتدخل في ذلك إلا لمن أذن له الرحمن.
السؤال: ومن سيأذن له الرحمن بذلك؟
جواب: من رضي له قولا
السؤال: وما معنى ذلك؟
رأينا المفترى: ليس هناك شفاعة لأحد بأحد.
السؤال: ما الذي تقول يا رجل؟ هل جننت؟ ألن يشفع لنا نبينا يوم الدين؟ أليس هو النبي الذي سيظل يقول في ذلك الموقف: "أمتي، أمتي"؟ وماذا عن الورود على الحوض؟!
رأينا: نحن نريد أن نطرح على العامة سؤالا واحدا علّهم يثيرونه على مسامع أهل العلم (وتلاميذهم النجباء) في كل محفل من محافلهم، والسؤال هو: ما الفرق بين الشفاعة التي يتحدث عنها الفكر الإسلامي والخلاص الذي جاء في الفكر المسيحي مثلا؟ لماذا نتقبل نحن المسلمين فكرة أن يكون محمد هو شفيع لنا يوم الدين ولا نتقبل فكرة أن يكون المسيح هو مخلص البشرية من الظلم الذي وقع بهم؟
استدراك مفترى: لعلي أدرك مقدار الحماقة (وربما الجهالة) التي ألقي نفسي بها عندما أتجرأ على طرح هذا الموضوع بهذه الصورة الرعناء، وذلك لأن الغالبية من الناس (نحن نظن) لن يصبروا لحكم ربهم، ليستبينوا ما ستؤول إليه النتائج في نهاية المطاف، وسيكتفون (كما يفعلون في الغالب) باجتزاء النصوص من سياقاتها الكلّية، للخروج بالأكاذيب التي يروجونها من عند أنفسهم عن ما نفتري من أقوال من عند أنفسنا. فهم يضعون الكلام في أفواه غيرهم ويقولونهم ما لم يقولوا عندما سينطلق بعضهم ليحدث الناس بأن رشيد الجراح (هذا المخبول) يضع الفكر الإسلامي في متاهات الفكر المسيحي، ظانين بأن رشيد الجراح يحاول أن يبرر ما يفعله أهل الديانة المسيحية، الخ. لكنهم لن ينتظروا أن يقرءوا الجملة الواضحة التالية جيدا: ما يعتقد به المسلمون في هذه الجزئية (أي الشفاعة) لا يختلف قيد أنملة (في ظننا) عن ما يعتقد به النصارى في الجزئية نفسها تحت مسميات مختلفة. فإذا كانت تسمى عند المسلمين "شفاعة" فهي تسمى عند أهل الديانة النصرانية "خلاص". -وإذا كان محمد هو شفيع المسلمين، فإن المسيح هو مخلص النصارى (لا بل والبشرية بأكملها). ولو أمعنا التفكر في الموقفين، لربما وجدنا أن الهدف واحد، ألا وهو: وجود وسيط بين العباد وربهم، فالوسيط في الفكر الإسلامي محمد بينما الوسيط في الفكر المسيحي هو عيسى بن مريم، أليس كذلك؟
رأينا: نحن نعتقد أن كلا الفكرين (الإسلامي والنصراني) قد انحرفا عن جادة الصواب في هذه الجزئية، وذلك لأنه ببساطة لا وسيط بين الله وعباده.
الدليل
لما كنا لا نقحم أنفسنا في شغل غيرنا، فإننا سنوجه سهام نقدنا إلى أنفسنا لنستبين حالنا قبل أن نهاجم غيرنا. فمن كان بيته من الزجاج لا يحذف بيوت الآخرين بالحجارة (كما يقول المثل الشعبي الإنجليزي). ونحن لا نجد أكثر بلاغة للرد على الفكر النصراني لدحض فكرة المخلص من قول الله تعالى في كتابه الكريم:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
فلو دققنا في الآية الأخيرة من هذا المشهد الحواري بين عيسى بن مريم ورب عيسى بن مريم لوجدنا أن المسيح ابن مريم ينأى بنفسه أن يتدخل في مصير هؤلاء، لأن الأمر متروك بكليته لصاحب القرار في ذلك وهو الله نفسه:
إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نؤمن يقينا بأن عيسى بن مريم لم يكن ليخلص أحدا من مصير هو يستحقه في يوم الفزع الأكبر
السؤال: إذا كنا نعتقد أن عيسى لا يقدر على ذلك، فلم نؤمن (كما علمنا سادتنا أهل الدراية) أن محمدا قادر على ذلك؟ من يدري؟!
افتراء 1: بداية نحن لم نجد في كتاب الله دليلا وحدا صريحا على ما يسميه سادتنا العلماء بالشفاعة، ومن عنده هذا الدليل فإننا سنكون له شاكرين ونعده أن نضرب بقولنا هذا عرض الحائط على الفور
افتراء 2: كان معظم الدليل الذي يتناقله أهل العلم في هذا الخصوص مبني على ما وصل إليهم من أحاديث يظنون أنها مرفوعة إلى النبي نفسه
افتراء 3: لو تدبرنا جملة الأحاديث في هذا الصدد لوجدنا أنها تتضارب مع بعضها البعض. ففي حين أن هناك كم لا يستهان به من الأحاديث التي تصور شفاعة النبي محمد لأمته يوم القيامة، نجد أن هناك أحاديث أخرى تتضارب معها بشكل لا لبس فيه. ودعنا نقدم بعض الأمثلة على ذلك:
عن أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } فقال :(( يا معشر قريش – أو كلمة نحوها – اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنك من الله شيئا ))
(المصدر:صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 2753 حديث صحيح)
ثم نجد الحديث رقم 1051 حديثا مرفوعا
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ غَسَّانَ ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِي الطَّرِيفِيِّ الْكَبِيرِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْعَامِرِيِّ الْكُوفِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا فَطْرِيٌّ الْحَسَّابِ ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حُذَيْفَةَ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، وَالْعَبَّاسُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِهِ , وَفَاطِمَةُ عَنْ يَسَارِهِ ، قَالَ : يَا فَاطِمَةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : " اعْمَلِي لِلَّهِ خَيْرًا , إِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " .
نتيجة: في هذه الأحاديث يثبت النبي الكريم أنه لا يُغني عن عمّه العباس من الله شيئا ولا عن عمته صفيه ولا حتى عن ابنته فاطمة نفسها.
افتراء 4: ولكن نجد - في المقابل- الأحاديث المشهورة التالية التي تصور شفاعة النبي الكريم لأمته جميعا:
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ) فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَنَا فَقُلْنَا لَهُ : يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ ، فَقَالَ: هِيهْ ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَانْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ : هِيهْ فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا فَقَالَ لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا ، قُلْنَا : يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثْنَا ، فَضَحِكَ وَقَالَ : خُلِقَ الإِنْسَانُ عَجُولا مَا ذَكَرْتُهُ إِلا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ قَالَ : ( ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ) رواه البخاري (7510) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي ، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ ، فَيَقُولُ النَّاسُ : أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : عَلَيْكُمْ بِآدَمَ فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام . . . ثم ذكر الحديث إلى قوله : فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى ) رواه البخاري 4712.
وعن ابن عباس –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي وَلَا أَقُولُهُنَّ فَخْرًا بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ فَأَخَّرْتُهَا لِأُمَّتِي فَهِيَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَاجْتَمَعَ وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى إِذَا صَلَّى وَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيْلَةَ خَمْسًا مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، أَمَّا أَنَا فَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ، وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لَمُلِئَ مِنْهُ رُعْبًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ أَكْلَهَا، كَانُوا يُحْرِقُونَهَا، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسَاجِدَ وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ قِيلَ لِي: سَلْ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ، فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ".
وعن أبي ذر –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ونصرت بالرعب فيرعب العدو من مسيرة شهر وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وقيل لي : سل تعطه واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي في القيامة وهي نائلة - إن شاء الله- لمن لم يشرك بالله شيئا )، أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (6462)، والبزار في "مسنده" (4077).
وعن أبي موسى –رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُعْطِيتُ خَمْسًا بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِمَنْ كَانَ قَبْلِي وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ شَهْرًا وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ سَأَلَ شَفَاعَةً وَإِنِّي أَخْبَأْتُ شَفَاعَتِي ثُمَّ جَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا"
السؤال المثير: لماذا أعطيت الشفاعة لهذا النبي من دون أنبياء الله ورسله السابقين؟ وفي الوقت ذاته نحن نتساءل: كيف يمكن أن نربط ذلك بالآية الكريمة التالية؟
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
ألم يكن المسيح كذلك؟
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (75)
نتيجة مفتراة: لم يكن عيسى بن مريم أكثر من رسول خلت من قبله الرسل، أليس كذلك؟
نتيجة مفتراة: لم يكن محمد أكثر من رسول قد خلت من قبله الرسل، أليس كذلك؟
السؤال المربك للفكر المسيحي والإسلامي الدارج: لماذا الخصوصية لهذين الرسولين الكريمين، إذن؟ فهل لهما خصوصية محدده تختلف عن الآخرين من أولي العزم من الرسول: موسى وإبراهيم ونوح؟
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
وهم اللذين أخذ الله ميثاقهم جميعا:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (7)
افتراء 6: لعل جميع الافتراءات السابقة يمكن القفز عنها وتجاوزها (إذا كنا لا نريد الدخول في هذه الجدلية) لو أننا لم نجد الآية الكريمة التالية التي تصور بشكل لا لبس فيه حال محمد في الآخرة:
قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9)
استنباطات مفتراة بناء على فهمنا (ربما الخاطئ) لما جاء في هذه الآية الكريمة:
محمد لم يكن بدعا من الرسل، لأن الرسل قد خلت من قبله (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ)
محمد لا يدري ما يفعل به (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي)
محمد لا يدري ما يفعل بنا (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)
محمد لا يتبع إلا ما يوحى إليه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ)
محمد ليس أكثر من نذير مبين (وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ)
الخ.
ليكون السؤال الذي يجب أن يوجّه الجميع (العالم منهم والمتعلم على حد سواء) هو: إذا كان محمد لا يدري ما سيفعل به يوم القيامة (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)، فكيف تتوقع أن يكون شفيعا لغيره؟ من يدري؟!
افتراء 7: نحن نفتري القول أن عقيدتنا تلخصها الآيات الكريمة التالية:
وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (41)
السؤال المربك: إن صح ما تزعم، من أين جاءت فكرة الشفاعة إذن؟ وما هي عواقبها؟ وهل جميع الأحاديث التي وردت في هذا الجانب هي أحاديث غير صحيحة؟ ألم ترد في صحيح البخاري ومسلم وكثير من كتب السنن؟ ربما يريد محاورنا أن يسأل.
رأينا المفترى: لو تدبرنا موضوع الشفاعة جيدا لربما وجدنا على الفور أن الأمر لم يقف عند شخص محمد بذاته، بل تعداه إلى أبعد من ذلك بكثير حتى أصبح لكل طائفة ولكل فرقة من فرق أهل الدين شفيعها. فها هم المدافعون عن "آل البيت" مثلا يرون أنّ شخصا محددا من أهل البيت (الحسين بن علي) هو طريقهم إلى الجنة وهو طريق غيرهم (الذين لا يؤمنون بذلك) إلى النار. وهذه معظم الفرق التي تدعي أن منهجها هو الإسلام تتسابق (وإن لم تنطق بها صراحة) في تسمية أئمتها وآياتها ومشايخها شفعاء لهم عند ربهم. ومنهج الغالبية منهم يلخصه أحد علمائهم قائلا: "ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ فإن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان". الخ.
السؤال: ما الذي يريدونه من وراء ذلك؟ لماذا تصرّ الغالبية الساحقة من الفرق الإسلامية على ذلك؟
رأينا المفترى والخطير جدا: إنها التبعية المطلقة بالانقياد لهم بعد الاستخفاف بالناس بالضبط كما فعل فرعون نفسه.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
استنباطات مفتراة
- كان صوت فرعون هو الصوت المسموع في ملئه وفي قومه
- كان فرعون هو من يتخذ القرار لهم
- كان فرعون هو صاحب الحجة
- لم يخرج من ملأ فرعون ومن قومه من يخالفه الرأي أو من لا يقبل بحجته
- استطاع فرعون أن يستخفهم
- كان قوم فرعون قوما فاسقين
- الخ
السؤال: كيف استطاع فرعون أن يستخف قومه؟ وكيف استطاع أن ينجح في ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الأمر له وجهان:
الوجه الأول يتعلق بقومه
الوجه الثاني يتعلق بفرعون نفسه
أما بخصوص قومه، فهم كانوا قوما فاسقين:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
لذا كانوا على استعداد للضلالة:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
ولما كانوا قوما فاسقين، لم يكونوا مؤهلين لهداية من الله، لأن الله لا يهدي القوم الفاسقين. واقرأ – إن شئت- قوله تعالى:
ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
وذلك لأن الأمور الدنيوية هي – على الدوام- الهمّ الأكبر للقوم الفاسقين:
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
هذا ما يخص قومه، أما بالنسبة لفرعون نفسه فقد كان شخصا عالما مدركا لما يدور حوله:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
لذا نجد أنفسنا واقعين في هذا السيناريو الذي يتكرر أمام أعيننا صباح مساء، السيناريو المتمثل بشخص يملك علما يدور في فلكه أشخاص كثيرون يفتقدون هذه البضاعة. ليكون السؤال في مثل هذا الموقف هو: كيف ستكون العلاقة بين الطرفين (العالم مقابل العامة من الناس)؟
نتيجة مفتراة: استطاع صاحب العلم (فرعون) أن يتلاعب بعقول اللذين من حوله لأنهم لا يملكون العلم مثله. لتكون النتيجة على النحو التالي: يستطيع صاحب العلم في كل وقت وحين أن يستخف بمن حوله إذا لم يكونوا من أصحاب العلم مثله، وإذا كان استعدادهم للفسق متوافرا.
السؤال: لماذا؟ وكيف؟
رأينا المفترى: نحن نفتري القول من عند أنفسنا أن أهل العلم يستطيعون الاستخفاف بمن حولهم عندما يتكبرون على الناس (كما فعل فرعون)، وعندها يكون هدفهم هو انقياد الناس لهم انقيادا أعمى، كانقياد القطيع للراعي. فكيف سيفعلون ذلك؟
عودة على بدء
نعود إلى صلب موضوع النقاش بالنتيجة المفتراة التالية: عندما كان فرعون هو صاحب القرار في ملئه وفي قومه كانت الرسالة الإلهية موجهة بشكل رئيسي لشخص فرعون:
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17)
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (24)
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
ثم لفرعون وملئه فقط:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ يونس (75)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(45) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
وذلك لأن قبول فرعون لتلك الدعوة الإلهية على لسان الرسل تعني قبول ملئه وقومه بها. لذا كان إيمان القوم أجمعين مرتبطا بإيمان فرعون نفسه وكان كفرهم مرتبطا بكفره. فهم إذن رهن إشارة من أصبعه، يحركهم كيفما شاء، وذلك لامتلاكه العلم الذي ينقصهم، فيستطيع بما لديه من العلم أن يتلاعب بعقولهم كيفما شاء.
السؤال: ما علاقة هذا كله بقصة يونس (موضوع النقاش في هذه المقالة)؟
جواب مفترى: نحن نؤمن أنه لمّا آثر عدم تلبية دعوة الرسل، نبذ في اليم وَهُوَ مُلِيمٌ:
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
وهذا ما حصل بالضبط مع يونس، فقد استقر في بطن الحوت على تلك الشاكلة (وَهُوَ مُلِيمٌ)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
تساؤلات
- لماذا كادت أن تكون نهاية ذي النون كنهاية فرعون؟
- ما معنى أن كلاهما كان مليما؟
- ولماذا غرق فرعون وانتهى أمره في الحال؟
- لماذا نجا ذو النون وعاد رسولا إلى قومه؟
- لِم لم تتطابق نهايتهما بالرغم أن قصتهما (كما نزعم) كانت متطابقة؟
- لماذا آمن قوم يونس فكشف عنهم العذاب؟
- لم لم يحصل لآل فرعون ما حصل لقوم ذي النون؟
- وأخيرا: ما الذي كان يمكن أن يحصل لو أن فرعون فعلا تذكر أو خشي؟
- الخ.
دعنا نقفل النقاش في هذا الجزء من المقالة بالتصور التالي عن قصة ذي النون: كان ذو النون شخصا ذا مكانة مرموقة في قومه، وكان رجلا على علم، بينما كان من حوله يأتمرون بأمره وينهون بنهيه (بالضبط كما كان فرعون في قومه)، وذلك لأنه ينقصهم العلم الذي كان يحيط به ذلك الرجل. لذا فقد جمع ذو النون (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) بين يديه شيئين اثنين: الحكم والملك (كما كان فرعون في قومه). والحالة هذه، لم يكن ليجرؤ أحد من قومه على مخالفة أمره، فأصبحوا جميعا طوع أمره. لذا لمّا كان ذلك الرجل (أي و النون) من المسبحين ومن المؤمنين، كان قومه جميعا كذلك، فكانوا قوما مؤمنين. واستمر الأمر على تلك الشاكلة (نحن لا زلنا نتخيل) حتى حصل أمر كبير جدا فقلب الأمور كلها رأسا على عقب، فكان نتيجة ذلك أن ذهب ذو النون مغاضبا، فترك قومه وخرج باتجاه البحر كما فعل فرعون، وهناك كادت أن تكون نهايته وإلى الأبد. وفي تلك الأثناء (أي في غياب ذي النون بعيدا عن قومه)، تراجع القوم عن إيمانهم فوق عليهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، وبقوا على تلك الشاكلة (أي تحت وطأة عذاب الخزي) حتى عاد إليهم يونس نفسه مرة أخرى كرسول من رب العالمين، وهنا عاد قومه إلى الإيمان من جديد، فنفعهم إيمانهم على عكس جميع الأمم الأخرى التي وقع عليها العذاب:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
وذلك لأن تلك الأمم ما آمنت من قبل، وما آمنت إلا لحظة أن رأوا بأس ربهم لا محالة نازل بهم:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)
فكانت تلك سنة الله الكونية التي لا تتبدل: أن لا ينفع قوما إيمانهم لحظة وقوع العذاب
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) يونس (97)
كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (2002)
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يونس (88)
إلا أن يكونوا قد آمنوا من قبل كقوم يونس مثلا:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
تساؤلات
- ما الشيء الذي أغضب ذي النون حتى ذهب مغاضبا؟
- لماذا توجه صوب البحر؟
- لماذا ساهم؟
- كيف ساهم؟
- لماذا كان من المدحضين؟
- كيف حصل ذلك؟
- ما وجه الشبه في ذلك بينه وبين فرعون؟
- لماذا نجاه الله من الغم؟
- لماذا عاد رسولا إلى قومه
- ما وجه الاختلاف في ذلك مع فرعون؟
- من أين كان مصدر علم الرجل؟
- لماذا لم يصبر لحكم ربه؟
- هل كان من أولي العزم من الرسل مادام أنه لم يصبر؟
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
الخ.
هذه جملة من التساؤلات التي سنحاول الخوض فيها في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيق منه. فالله وحده أسأل أن يعلمني الحق فلا أفتري عليه الكذب، وأن ينفذ مشيئته بالإذن لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو العليم الحكيم – آمين
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
23 كانون أول 2014
الجزء الثالث الجزء الخامس
حاولنا في نهاية الجزء السابق تسويق افتراءنا الذي مفاده أن هناك نوعان من أهل العلم، وهم:
- العلماء اللذين يبتغون الفتنة ويبتغون تأويله، وهم المدافعون عن دين آبائهم وأجدادهم سواء صحت عقائدهم أم لم تصح
- العلماء الراسخون في العلم اللذين يبحثون عن الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، وهم الباحثون عن دين الله الحق.
وظننا أن الراسخين في العلم منهم هم الذين يعلمون تأويله، وافترينا القول بأنهم يستطيعون ذلك بسبب ما وهبهم الله من "الحكم"، وهي الحالة التي تقل درجة عن (وتسبق) مرحلة الرسالة. فمن آتاه الله حكما وعلما هو من يقل درجة عن مرحلة من كان رسولا من الله إلى الناس.
وحاولنا ربط ذلك بقصة يونس الذي ذهب مغاضبا. فافترينا الظن من عند أنفسنا أنه لمّا ذهب يونس مغاضبا كان عنده الحكم، ولكنه لم يصبر لذلك، بدليل ما جاء في الآية الكريمة التالية:
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
كما افترينا الظن بأن يونس لم يكن بعد قد اجتباه ربه بالرسالة، ليكون رسولا إلى قومه، وما عاد يحمل رسالة ربه إليهم إلا بعد حادثة الحوت. وانظر – إن شئت- ترتيب الأحداث الذي تصوره الآيات الكريمة التالية:
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
وبعد مناقشة (ربما غير دقيقة) للأحداث كما تخيلناها، انتهينا إلى تسجيل الافتراءات التالية:
- لم يكن يونس قد أصبح رسولا عندما ذهب مغاضبا
- كان يونس لا زال في مرحلة الحكم عندما ذهب مغاضبا
- استعجل يونس الرسالة
- تأخر تكليفه بالرسالة
- ظن يونس أنه لن يكون رسولا
- خرج يونس من قومه لهذا السبب، فذهب مغاضبا
- نزل يونس عند رغبة بعض من كان حوله من المنافقين والكافرين
- لم يكن من اللذين صبروا لحكم ربه، أي لم يكن من اللذين يملكون الحكم، فيصبرون على تبعاته.
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
- لم يكن يونس من أولى العزم من الرسل مادام أنه لم يصبر لحكم ربه
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
- الخ
وحاولنا – بناء على هذا التصور المفترى- طرح تساؤلات أخرى ذات صلة بالموضوع لمتابعة النقاش فيها في هذا الجزء الجديد وفي الأجزاء القادمة من المقالة نفسها، نذكر منها:
- لماذا لم يصبر يونس لحكم ربه؟
- ما الذي أخرجه من قومه؟ أي لماذا ذهب مغاضبا؟
- إلى أين ذهب مغاضبا؟
- كيف حصل الأمر على أرض الواقع؟
- لماذا ذهب إلى البحر عندما خرج من عند قومه؟
- ولماذا ساهم؟
- وكيف ساهم؟
- وكيف كان من المدحضين؟
- ولماذا عاد إلى ربه بعد أن التقمه الحوت؟
- ولماذا عاد إلى قومه بعد ذلك؟
- ولماذا نفع قوم يونس إيمانهم؟
- الخ
وقد أنهينا ذلك الجزء من المقالة بافتراء الظن بأن الإجابة على مثل هذه التساؤلات (كما نتخيلها) تحتاج إلى ربط خيوط هذه القصة مع قصة موسى وشخصية فرعون، لأننا نظن أن شخصية يونس تتطابق تماما مع شخصية فرعون (وإن تعاكست معها في المقدمة والخاتمة) وأن أحداث قصة يونس تكاد تتطابق في كثير من جوانبها مع أحداث قصة موسى مع فرعون. وهذا ما سنقحم أنفسنا في الدفاع عنه في النقاش التالي.
أما بعد،
الباب الأول: لماذا لم يصبر ذو النون لحكم ربه؟
رأينا: مادام أن ذا النون لم يصبر لحكم ربه، فلابد (نحن نستنبط – ربما مخطئين) أن الله قد وهب له ذلك الحكم، أو على الأقل أن الرجل كان يعرف حكم ربه وكان من المفترض أنه سيصبر له. لذا نحن نفتري الظن بناء على ذلك أن ذا النون كان:
- على علم بحكم ربه
- أنه كان مؤمنا
الدليل
نحن نظن أننا نستطيع أن نجلب على الأقل دليلين اثنين يثبتان زعمنا هذا.
الدليل الأول: لقد كان ذو النون من المسبحين قبل أن يلتقمه الحوت، وكان ذلك هو سبب نجاته من بطن الحوت:
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
الدليل الثاني: أن القرية التي كان يعيش فيها ذو النون كانوا مؤمنين.
السؤال: وأين الدليل أن قوم ذي النون كانوا في سابق عهدهم مؤمنين؟
جواب مفترى: نحن نجد الدليل على ذلك في الآية الكريمة التالية:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
نتيجة مفتراة: كانت قرية ذي النون هي القرية الوحيدة التي نفعها إيمانها فكُشِف عنها عذاب الخزي في الحياة الدنيا بعد ان كان واقعا بهم.
السؤال: لماذا جاء هذا الاستثناء لقرية يونس على وجه التحديد؟ ألا يبرز هنا سؤال كبير جدا يتعلق بالعدل الإلهي: لماذا نفع قرية ذي النون إيمانهم؟ أليس العدل الإلهي هو ما تصوره الآية الكريمة التالية التي تخط واحدة من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل؟
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
فلو دققنا في هذه الآية الكريمة لوجدنا أنه ما أن يأتي قوما ما العذاب حتى يؤمنوا، ولكن هل ينفع مثل هذا الإيمان من نزل العقاب الإلهي بحقهم؟
أليست تلك سنة الله في عباده:
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) يونس (97)
كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (2002)
ألم يقل موسى ذلك بصريح اللفظ القرآني؟
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يونس (88)
أليس هذا ما حصل مع قوم فرعون فعلا؟ ألم يؤمن فرعون نفسه عندما أدركه الغرق ورأى العذاب بأم عينه؟
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يونس (90)
السؤال المثير هو: لماذا نفع قرية يونس (على وجه التحديد) إيمانهم بينما لم ينفع قوم نوح أو قوم لوط أو قوم صالح أو قوم شعيب، الخ؟ هل في ذلك تحيّز إلهي لهؤلاء القوم من دون الأقوام الأخرى؟ ألا يمكن أن يظن البعض (خاصة المجادلون في آيات الله) أن هذا يمكن أن يقدح في العدل الإلهي "المفترض أن يكون مطلقا"؟ ربما يحاول البعض أن يتحدى بالسؤال.
رأينا: نحن نعتقد جازمين إن هذا الطرح يدعونا إلى النبش في القصة من بدايتها وحتى نهايتها بكل دقة وموضوعيه، فنحاول طرح جميع التساؤلات، ومحاولة الإجابة عليها، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا، وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يهدينا لأقرب من هذا رشدا، وأن يزدنا علما – آمين.
أما بعد،
السؤال 1: لماذا نفع يونس إيمانه فنجّاه الله بينما لم ينفع فرعون إيمانه كما نفع يونس؟ هل في ذلك تحيز إلهي لشخص يونس؟
السؤال 2: لماذا نفع قرية يونس إيمانهم فكشف عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا بينما لم ينفع الأمم الأخرى إيمانهم بعد وقوع العذاب عليهم؟
السؤال 3: ما الخصوصية التي تمتع بها يونس وقومه حتى جاءهم هذا الاستثناء الإلهي؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الذي حدث مع يونس وقريته لم يكن استثناء، وأنه لا يتعارض مع سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول، وأن ذلك لا يقدح بالعدل الإلهي المطلق مادام أن سنن الله الكونية لا تتبدل ولا تتحول.
السؤال: كيف يكون ذلك؟ ألم يقع عذاب الخزي عن قوم يونس؟ ألم يكشف عنهم عذاب الخزي بعد أن آمنوا؟ إذن، ألم ينفع قوم يونس إيمانهم فكشف عنهم عذاب الخزي؟ فلماذا لم ينفع الأمم الأخرى إيمانهم بعد أن وقع عليهم العذاب؟
السؤال المربك: ألا يجدر بنا المقارنة بين قوم يونس والأمم الأخرى في ذلك؟
قرية يونس: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
الأمم الأخرى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
رأينا المفترى: نحن نظن أن المتدبر لهذه الآيات الكريمة ربما يجد على الفور أن هناك فرقا جوهريا بين قوم يونس من جهة وجميع الأقوام الأخرى التي نزل بها عذاب الله من جهة أخرى. وهذا الفرق هو (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) السبب الحقيقي في أن نفع قرية يونس على وجه التحديد إيمانهم، فكُشف عنهم عذاب الخزي بعد أن وقع عليهم.
السؤال: ما الفرق؟ ربما يريد صاحبنا أن يسأل.
رأينا المفترى: لو دققنا في جميع السياقات القرآنية لوجدنا أن كل الأقوام التي نزل بها عقاب من ربها كانت أقواما كافرة (غير مؤمنة) وما آمنت إلاّ لحظة أن رأت أن عذاب ربها لا محالة واقع بهم، أي حصل إيمانهم لحظة وقوع العذاب بهم. وهذا هو نوع الإيمان (نحن نفتري القول) الذي لن ينفع. وانظر -عزيزي القارئ – إن شئت- في السياق القرآني التالي جيدا:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
نتيجة مهمة جدا: فجميع الأقوام الأخرى التي نزل بها عذاب من ربها لم تكن تؤمن إلا بعد رؤية العذاب الأليم:
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) يونس (97)
كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (2002)
لتكون النتيجة المفتراة من عند أنفسنا عن هذه الأقوام هي على النحو التالي: عندما ينزل العقاب الإلهي بقوم ما، ويرى القوم (بأم أعينهم وهم لازالوا على كفرهم) أن العذاب لا محالة نازل بهم (بعد أن يأتيهم بغتة من حيث لم يحتسبوا)، فإنهم يلجئون إلى الإيمان بما كانوا به مشركين، ظانين أن مثل هذا الإيمان في مثل هذه الظروف القائمة ربما ينفعهم، ولكن مثل هذا الإيمان لم يكن لينفعهم، لأن تلك سنة الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
السؤال المعاكس: لماذا إذن نفع قوم يونس إيمانهم؟
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن قوم يونس كانوا مؤمنين من ذي قبل.
السؤال: ما الذي حصل إذن؟
رأينا المفترى: لو تدبرنا هذا المنطق المفترى (على علاّته) لربما وجدنا أنه يفسر لنا الفرق بين ما حصل مع يونس نفسه وما حصل مع فرعون. فبالرغم أن الرجلين قد غرقا، ولا شك عندنا أن غرق يونس كان أشد (وأكثر خطورة) من غرق فرعون، وذلك لأن يونس قد ابتلعه الحوت بعد أن غرق في البحر، ليكون في ظلمات أشد من الظلمة التي أحاطت بفرعون عندما غرق:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
لتكون النتيجة المفتراة هي: لم يكن ذو النون في ظلمة واحدة عندما غرق ولكنه كان في ظلمات البحر:
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
السؤال: لماذا حصلت النجاة الكلّية لـ ذي النون بالرغم من غرقه واستقراره في بطن الحوت داخل البحر؟
الجواب: لأنه كان من المسبحين:
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
نتيجة مفتراة: حصلت النجاة لـ ذي النون من الغرق فخرج من بطن الحوت سالما لأنه كان في سابق عهده من المسبحين (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)، ولو أنه لم يكن كذلك للبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ). ولو تفقدنا السياق القرآني التالي الذي جاء خاصا بحادثة ذي النون لوجدنا أن ذا النون كان فعلا من المؤمنين:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
نتيجة 1: كان ذو النون في سابق عهده من المسبحين
نتيجة 2: كان ذو النون في سابق عهده من المؤمنين
السؤال: ولماذا لم تحصل نجاة مشابهة لفرعون؟ ألم يشهد فرعون بأنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل؟ ألم يكن من المسلمين؟
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
رأينا: نحن نظن أن الإجابة على ذلك قد جاءت واضحة في الآية اللاحقة على الفور:
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) يونس
نتيجة 1: كان فرعون في سابق عهده من المفسدين
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن النجاة لفرعون لم تحصل كما حصلت لذي النون لأن فرعون كان في سابق عهده من المفسدين
استنباط تخيلي: نحن نتخيل بأنه لو كان فرعون في سابق عهده من المسبحين أو لو أنه كان من المؤمنين (كما كان ذو النون) لحصلت له النجاة من الغرق كما حصلت لـ ذي النون حتى ولو أدركه الغرق
السؤال: كيف يمكن أن تخيل ما حصل مع ذي النون إذن؟
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: كان يونس في قومه من المسبحين قبل أن يذهب مغاضبا، وكان قومه من المؤمنين، فحصلت حادثة ما قلبت الأمور رأسا على عقب، وأدت تلك الحادثة (نحن نفتري القول) إلى حصول مشكلتين متزامنتين، وهما:
- خروج يونس من بين قومه، فذهب مغاضبا
- ارتداد قوم يونس عن الإيمان
وكان نتيجة ذلك الوضع الجديد (وهو ذهاب ذي النون وارتداد قومه عن الإيمان) أن وقع العذاب الإلهي على الطرفين: على يونس من جهة وعلى قريته من جهة أخرى. وكان العذاب الذي وقع حينئذ على النحو التالي:
- كان عقاب يونس على نحو أن غرق بالماء كما حصل مع فرعون نفسه، وزاد الطين بلّة أن التقمه الحوت بعد ذلك
- وقوع عذاب الخزي على قوم يونس.
السؤال: ما الذي حصل بعد ذلك؟
رأينا المفترى 1: تراجع ذي النون، فعاد إلى ربه، فألقي في العراء سقيما، وأنبتت عليه شجرة من يقطين حتى شفي، ثم بعثه الله رسولا إلى قومه.
رأينا المفترى 2: ما أن عاد ذو النون رسولا إلى قومه حتى آمنوا من جديد، وهناك كشف عنهم عذاب الخزي الذي وقع بهم بعد ذهاب يونس مغاضبا، فآمنوا من جديد. وربما لهذا السبب (نحن نفتري الظن) نفع هؤلاء القوم إيمانهم لأنهم كانوا مؤمنين من ذي قبل:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
السؤال المربك: لماذا خرج يونس من قومه مغاضبا؟ أو بكلمات أكثر دقة نحن نسأل: ما الذي حدث على أرض الواقع حتى دفع بيونس أن يخرج مغاضبا من عند قومه؟
رأينا المفترى والخطير جدا جدا: نحن نظن أن الحاجة تدعو إلى عقد مقارنة مباشرة بين ذي النون من جهة وفرعون من جهة أخرى. لنفتري القول من عند أنفسنا أن الذي أخرج يونس من قومه، فذهب مغاضبا، هو الشيء نفسه الذي أخرج فرعون من قومه: إنه اللحاق بالرسول الذي بعث إليهم.
- لم أفهم شيئا. يقول صاحبنا. ما الذي تريد أن تقوله؟ هل يمكن أن تكون أكثر وضوحا؟
جواب مفترى: نحن نجد لزاما في هذه اللحظة الوقوف عند محطة جديدة وهي محاولة ربط خيوط عنكبوتيه بين شخصية يونس من جهة وفرعون من جهة أخرى، وذلك لظننا أن المقارنة قد عقدت بينهما في كتاب الله في عبارة (وَهُوَ مُلِيمٌ) التي وردت في الآيتين الكريمتين التاليتين فقط:
ذو النون: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
فرعون: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
مقارنة يونس مع فرعون
لو حاولنا عقد مقارنة بين ذي النون من جهة وفرعون من جهة أخرى لوجدنا بينهما تقاطعات عديدة.
أولا، كلاهما غرق في البحر (وَهُوَ مُلِيمٌ):
ذي النون: فالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
فرعون: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
ثانيا، كلاهما كادت أن تكون نهايته الكليّة على شكل الغرق في البحر
ثالثا، كلاهما دعا ربه في تلك اللحظة، فجاء دعاء ذي النون على النحو التالي:
... فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
وجاء دعاء فرعون على النحو التالي:
... حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
رابعا، حصلت النجاة لفرعون بالبدن فقط ليكون لمن خلفه آية:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس
بينما حصلت النجاة لذي النون بالكليّة:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
خامسا، كان سبب عدم نجاة فرعون بالكلية لأنه كان في سابق عهده من المفسدين:
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) يونس
بينما كان سبب نجاة ذي النون بالكلية لأنه كان في سابق عهده من المسبحين:
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
فكان العدل الإلهي في ذلك مطلق لأن إيمان فرعون في تلك اللحظة لم يكن لينفعه، مصداقا لقوله تعالى:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)
وهكذا كان ما حل بقوم فرعون، فلم يكن لينفعهم إيمانهم لأنهم ببساطة لم يكونوا مؤمنين من ذي قبل، وما آمنوا إلا بعد أن رأوا العذاب الأليم، وكان ذلك استجابة إلهية لدعوة موسى نفسه:
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) يونس
فمضت فيهم سنة الله الكونية التي كانت ماضية في الأمم الأخرى، وهي أن الإيمان لحظة رؤية العذاب لا ينفع:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) يونس (97)
كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (2002)
أما ما نفع ذا النون فهو إيمانه السابق، وهكذا كان الذي نفع قريته، فلقد نفعهم إيمانهم السابق، وما أن عاد إليهم ذو النون رسولا وآمنوا من جديد حتى كشف الله عنهم عذاب الخزي الذي حل بهم في غيابه:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
إن هذا الطرح (على ركاكته) يثير كثيرا من التساؤلات التي لابد من الوقوف عندها، نذكر منها:
- ما هو الشيء الذي أغضب ذي النون حتى جعله يذهب مغاضبا؟
- ولماذا تراجع قومه عن إيمانهم حتى وقع عليهم عذاب الخزي؟
-ولماذا آمنوا مرة أخرى بعد أن أرسل إليهم ذو النون رسولا؟
- وكيف كُشف عنهم عذاب الخزي حينئذ؟
- الخ.
افتراء خطير جدا جدا لا تصدقوه: نحن نظن أن ذلك كان بسبب ذي النون نفسه. ولكن كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن مكانة ذي النون في قومه كانت متطابقة تماما مع مكانة فرعون في قومه. فذو النون هو (في ظننا) كبير قومه، وهو سيدهم، وهو ربهم الذي يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه، فهو إذن (نحن نتخيل) مطاع فيهم بكل ما يقول ويفعل. فإن هو آمن فهم يؤمنون، وإن هو كفر فهم يكفرون. وهذا (نحن نظن) ما كان من أمر فرعون.
الدليل
لو تدبرنا جميع السياقات القرآنية الخاصة بإرسال موسى وأخيه هارون، لوجدنا أن المهمة موجهة أساسا إلى شخص فرعون نفسه:
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17)
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (24)
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
ثم جاءت بعد ذلك لتخص فرعون وملئه فقط:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ يونس (75)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(45) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
ولا نجد في النص القرآني (على مساحته) أن مهمة موسى كانت موجهة إلى قوم فرعون. بل على العكس، فالذي وجدناه في سورة يونس على وجه التحديد هو أن دعاء موسى عليهم بالعذاب كان موجها إلى فرعون وملئه فقط:
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يونس (88)
ليكون السؤال هو: لماذا؟ لماذا لم يبعث الله موسى وأخاه هارون إلى قوم فرعون كما كانت رسالات جميع الرسل اللذين سبقوا أو اللذين لحقوا؟ ولماذا كانت رسالة موسى موجهة أساسا إلى فرعون نفسه ثم إلى فرعون وملئه بعد ذلك؟ نحن نسأل.
رأينا المفترى: لأن قبول فرعون بالرسالة وقبول ملئه من بعده بتلك الرسالة يعني قبول قومه جميعا بها.
السؤال: لماذا؟
رأينا المفترى: لأن قوم فرعون (نحن نفتري الظن) كانوا قوما يأتمرون بأمر فرعون وينتهون بنهيه، وليس أدل على ذلك مما كان يفعله فرعون بهم كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية:
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
نتيجة مفتراة مهمة جدا: لمّا كان قوم فرعون قوما فاسقين، ولما كان قوم فرعون من اللذين يمكن استخفافهم، لم يكونوا أصحاب مبدأ واضح غير إتباع ما كان يمليه عليهم فرعون نفسه، وليس أدل على ذلك من نفوذ فرعون حتى في ملئه، وانظر – في السياق التالي:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (39)
فإذا كان هذا هو حال ملأ فرعون في حضرة فرعون، فما بالك بنفوذ فرعون في قومه؟ هل كان يتجرأ أحد أن يعصي أمر فرعون؟ ولننظر ماذا كان يمكن أن يكون مصير من خالف أمر فرعون كالسحرة اللذين خروا سجدا:
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (71)
ولننظر إلى ردة فعل السحرة على كلام فرعون هذا:
قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
نتيجة مهمة جدا جدا وخطيرة جدا: قضاء هذه الحياة الدنيا كانت بأمر فرعون نفسه
استنباط مفترى: لمّا كان قضاء هذه الحياة الدنيا بأمر فرعون نفسه، لم يكن ليتجرأ أحد أن يخالف أمر فرعون لأن خاتمته ستكون وخيمة تتمثل بإنهاء حياته. لذا كان فرعون من أصحاب العقيدة التي مفادها أنه يحيي ويميت كالذي حاج إبراهيم في ربه:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
السؤال: ماذا لو فعلا تذكر فرعون أو خشي بعد دعوة موسى له؟
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
فما الذي كان سيفعله قومه؟
رأينا: نحن نفتري الظن بأن فرعون لم يكن ليجد عناء كبيرا في التلاعب بقومه كيفما يشاء، فقابلية الفسق متوافرة عندهم، والطاعة العمياء له هي ديدنهم، والاستخفاف بهم هي سياسة فرعون تجاههم. لذا كانت رسالة موسى وأخيه هارون (نحن نفتري القول) موجهة لشخص فرعون نفسه ثم لملأ فرعون من بعده، لأن دعوة قوم فرعون هي تحصيل حاصل. فالقرار بيد فرعون، وهو الذي سيوجههم حسب ما يراه مناسبا لهم.
تخيلات مفتراة: كان نفوذ فرعون في قومه نفوذا هائلا، فالطاعة العمياء هي سلوك قومه، وكان فرعون هو الشخص الوحيد القادر على اتخاذ القرار النهائي بخصوص إيمانهم أو كفرهم جميعا، وهو الذي أوقع قومه في الفخ، فما آمنوا وذلك لأنهم كانوا قوم سوء فاسقين، لذا ستكون مهمة فرعون في الآخرة هي أنه يقدم قومه ليوردهم النار:
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
ففرعون هو من أوقع قومه في شرك سوء أعمالهم (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)، لذا ستكون مهمته في الآخرة أن يدلهم (فَأَوْرَدَهُمُ) على المكان الذي يستحقونه (النَّارَ).
نتيجة 1: لم يكن فرعون يستطيع أن يوقع قومه في شراكه لولا أنهم كانوا مستعدين لذلك، وهو في ذلك يتبع نهج سيده من قبله، إبليس:
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
نتيجة 2: كان فرعون شخصا صاحب مكانة عظيمة في قومه، فهو الرب المطاع في كل ما يقول ويفعل، وذلك لأنه رجل على علم:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (39)
نتيجة 3: كانت لمكانة فرعون في قومه وللعلم الذي تميّز به عليهم من جهة وباستعدادهم للفسق من جهة أخرى الآثار الكبيرة في استخفافهم:
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
نتيجة (4) استطاع فرعون أن يكسب لنفسه مكانة في الآخرة تختلف عن مكانتهم، ففي حين أنه سيوردهم النار، إلا أننا نجد أن مصير فرعون نفسه غير واضح بالنسبة لنا؟ فهل سيرد النار مع قومه مثلا؟
رأينا المفترى: كلا، فنحن لم نجد في النص القرآني ما يشير بصريح اللفظ إلى ما ستكون عليه حال فرعون في يوم القيامة.
السؤال: ما هو مصير فرعون يوم القيامة؟
رأينا: إن هذا السؤال يدعونا إلى الخروج في "نزهة فكرية" لبعض الوقت قبل أن نعود منها إلى صلب الموضوع وهو مقارنة حال ذي النون بحالة فرعون.
باب الشفاعة المزعومة
بداية، نحن نجد لزاما التذكير مرات ومرات بأن كلامنا على كليته وفي تفصيلاته لا يعدو أكثر من تصورات فكرية قد لا تمت لعقائد الناس بصلة، وهي غير ملزمة لأحد ما لم يجد أنه مقتنع بها من تلقاء نفسه، وليتذكر كل من يقرأ في كلامنا هذا الآية الكريمة السابقة التي تصوّر دعوة إبليس لمن اتبعه:
... وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ...
كما يجب أن نلفت انتباه الناس إلى أننا لا نملك صكوك غفران لندخل بها الناس الجنة أو نخرجهم منها، فنحن لسنا وكلاء الله على الأرض، ونحن لسنا من أصحاب مفاتح أبواب الجنة وأبواب النار التي "صكّت ثم وزّعت على بعض منهم" ليفتحوا بها لمن يشاءون من عباد الله وليغلقوا بها على آخرين. فأمر الجنة والنار (في عقيدتنا) متروك لله وحده، فهو صاحب القرار الأول والأخير في ذلك. وما نفعله نحن في هذا الجانب لا يتعدى أن يكون أكثر من رأي فكري قابل للتصحيح بعد أن يوضع على طاولة النقاش (ربما من باب "الترف الفكري")، مادام أن سادتنا العلماء أهل الدراية لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وقتلوها بحثا وتمحيصا – كما يزعم تلاميذهم النجباء. أما نحن، فإننا نحاول التسلق على أطراف بنيانهم الراسخ في الأرض المتفرع في السماء، علّنا نجد شيئا من المتردم الذي يمكن ترميمه. لذا سنحاول التعرض إلى سؤال بسيط يتعلق بقضية الشفاعة للعباد عند ربهم. محاولين أن نطرح تصورنا المفترى من عند أنفسنا لهذه القضية التي نظن أننا نخالف فيها الفكر الإسلامي السائد بمجمله. لذا نحن بداية نلتمس العذر من تلاميذ سادتنا العلماء أهل الدراية أن لا يحملوا كلامنا هذا محمل الجد إن هم وجدوا أننا قد "سفهنا" تراث آبائهم وأجدادهم، وليعتبروا ذلك من باب الترف الفكري الذي قد يضل طريقه كثيرا وقلما يصيب الهدف المنشود.
(دعاء: فالله أسأل أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يعلمنا قول الحق فلا نفتري عليه الكذب، وأن يهدينا لأقرب من هذا رشدا – آمين)
أما بعد،
السؤال: هل يستطيع أحد أن يتدخل في أمر دخول العباد الجنة أو النار؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا، فليس لأحد غير الله نفسه الحق في اتخاذ قرار بدخول أحد الجنة أو النار.
السؤال: ولكن، هل يستطيع أحد أن يشفع لأحد في ذلك؟
رأينا الخطير جدا جدا جدا: لا، لا يستطيع أحد أن يتدخل في ذلك إلا لمن أذن له الرحمن.
السؤال: ومن سيأذن له الرحمن بذلك؟
جواب: من رضي له قولا
السؤال: وما معنى ذلك؟
رأينا المفترى: ليس هناك شفاعة لأحد بأحد.
السؤال: ما الذي تقول يا رجل؟ هل جننت؟ ألن يشفع لنا نبينا يوم الدين؟ أليس هو النبي الذي سيظل يقول في ذلك الموقف: "أمتي، أمتي"؟ وماذا عن الورود على الحوض؟!
رأينا: نحن نريد أن نطرح على العامة سؤالا واحدا علّهم يثيرونه على مسامع أهل العلم (وتلاميذهم النجباء) في كل محفل من محافلهم، والسؤال هو: ما الفرق بين الشفاعة التي يتحدث عنها الفكر الإسلامي والخلاص الذي جاء في الفكر المسيحي مثلا؟ لماذا نتقبل نحن المسلمين فكرة أن يكون محمد هو شفيع لنا يوم الدين ولا نتقبل فكرة أن يكون المسيح هو مخلص البشرية من الظلم الذي وقع بهم؟
استدراك مفترى: لعلي أدرك مقدار الحماقة (وربما الجهالة) التي ألقي نفسي بها عندما أتجرأ على طرح هذا الموضوع بهذه الصورة الرعناء، وذلك لأن الغالبية من الناس (نحن نظن) لن يصبروا لحكم ربهم، ليستبينوا ما ستؤول إليه النتائج في نهاية المطاف، وسيكتفون (كما يفعلون في الغالب) باجتزاء النصوص من سياقاتها الكلّية، للخروج بالأكاذيب التي يروجونها من عند أنفسهم عن ما نفتري من أقوال من عند أنفسنا. فهم يضعون الكلام في أفواه غيرهم ويقولونهم ما لم يقولوا عندما سينطلق بعضهم ليحدث الناس بأن رشيد الجراح (هذا المخبول) يضع الفكر الإسلامي في متاهات الفكر المسيحي، ظانين بأن رشيد الجراح يحاول أن يبرر ما يفعله أهل الديانة المسيحية، الخ. لكنهم لن ينتظروا أن يقرءوا الجملة الواضحة التالية جيدا: ما يعتقد به المسلمون في هذه الجزئية (أي الشفاعة) لا يختلف قيد أنملة (في ظننا) عن ما يعتقد به النصارى في الجزئية نفسها تحت مسميات مختلفة. فإذا كانت تسمى عند المسلمين "شفاعة" فهي تسمى عند أهل الديانة النصرانية "خلاص". -وإذا كان محمد هو شفيع المسلمين، فإن المسيح هو مخلص النصارى (لا بل والبشرية بأكملها). ولو أمعنا التفكر في الموقفين، لربما وجدنا أن الهدف واحد، ألا وهو: وجود وسيط بين العباد وربهم، فالوسيط في الفكر الإسلامي محمد بينما الوسيط في الفكر المسيحي هو عيسى بن مريم، أليس كذلك؟
رأينا: نحن نعتقد أن كلا الفكرين (الإسلامي والنصراني) قد انحرفا عن جادة الصواب في هذه الجزئية، وذلك لأنه ببساطة لا وسيط بين الله وعباده.
الدليل
لما كنا لا نقحم أنفسنا في شغل غيرنا، فإننا سنوجه سهام نقدنا إلى أنفسنا لنستبين حالنا قبل أن نهاجم غيرنا. فمن كان بيته من الزجاج لا يحذف بيوت الآخرين بالحجارة (كما يقول المثل الشعبي الإنجليزي). ونحن لا نجد أكثر بلاغة للرد على الفكر النصراني لدحض فكرة المخلص من قول الله تعالى في كتابه الكريم:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
فلو دققنا في الآية الأخيرة من هذا المشهد الحواري بين عيسى بن مريم ورب عيسى بن مريم لوجدنا أن المسيح ابن مريم ينأى بنفسه أن يتدخل في مصير هؤلاء، لأن الأمر متروك بكليته لصاحب القرار في ذلك وهو الله نفسه:
إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نؤمن يقينا بأن عيسى بن مريم لم يكن ليخلص أحدا من مصير هو يستحقه في يوم الفزع الأكبر
السؤال: إذا كنا نعتقد أن عيسى لا يقدر على ذلك، فلم نؤمن (كما علمنا سادتنا أهل الدراية) أن محمدا قادر على ذلك؟ من يدري؟!
افتراء 1: بداية نحن لم نجد في كتاب الله دليلا وحدا صريحا على ما يسميه سادتنا العلماء بالشفاعة، ومن عنده هذا الدليل فإننا سنكون له شاكرين ونعده أن نضرب بقولنا هذا عرض الحائط على الفور
افتراء 2: كان معظم الدليل الذي يتناقله أهل العلم في هذا الخصوص مبني على ما وصل إليهم من أحاديث يظنون أنها مرفوعة إلى النبي نفسه
افتراء 3: لو تدبرنا جملة الأحاديث في هذا الصدد لوجدنا أنها تتضارب مع بعضها البعض. ففي حين أن هناك كم لا يستهان به من الأحاديث التي تصور شفاعة النبي محمد لأمته يوم القيامة، نجد أن هناك أحاديث أخرى تتضارب معها بشكل لا لبس فيه. ودعنا نقدم بعض الأمثلة على ذلك:
عن أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } فقال :(( يا معشر قريش – أو كلمة نحوها – اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنك من الله شيئا ))
(المصدر:صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 2753 حديث صحيح)
ثم نجد الحديث رقم 1051 حديثا مرفوعا
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ غَسَّانَ ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِي الطَّرِيفِيِّ الْكَبِيرِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْعَامِرِيِّ الْكُوفِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا فَطْرِيٌّ الْحَسَّابِ ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حُذَيْفَةَ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، وَالْعَبَّاسُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِهِ , وَفَاطِمَةُ عَنْ يَسَارِهِ ، قَالَ : يَا فَاطِمَةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : " اعْمَلِي لِلَّهِ خَيْرًا , إِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " .
نتيجة: في هذه الأحاديث يثبت النبي الكريم أنه لا يُغني عن عمّه العباس من الله شيئا ولا عن عمته صفيه ولا حتى عن ابنته فاطمة نفسها.
افتراء 4: ولكن نجد - في المقابل- الأحاديث المشهورة التالية التي تصور شفاعة النبي الكريم لأمته جميعا:
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ) فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَنَا فَقُلْنَا لَهُ : يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ ، فَقَالَ: هِيهْ ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَانْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ : هِيهْ فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا فَقَالَ لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا ، قُلْنَا : يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثْنَا ، فَضَحِكَ وَقَالَ : خُلِقَ الإِنْسَانُ عَجُولا مَا ذَكَرْتُهُ إِلا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ قَالَ : ( ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ) رواه البخاري (7510) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي ، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ ، فَيَقُولُ النَّاسُ : أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : عَلَيْكُمْ بِآدَمَ فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام . . . ثم ذكر الحديث إلى قوله : فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى ) رواه البخاري 4712.
وعن ابن عباس –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي وَلَا أَقُولُهُنَّ فَخْرًا بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ فَأَخَّرْتُهَا لِأُمَّتِي فَهِيَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَاجْتَمَعَ وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى إِذَا صَلَّى وَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيْلَةَ خَمْسًا مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، أَمَّا أَنَا فَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ، وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لَمُلِئَ مِنْهُ رُعْبًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ أَكْلَهَا، كَانُوا يُحْرِقُونَهَا، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسَاجِدَ وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ قِيلَ لِي: سَلْ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ، فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ".
وعن أبي ذر –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ونصرت بالرعب فيرعب العدو من مسيرة شهر وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وقيل لي : سل تعطه واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي في القيامة وهي نائلة - إن شاء الله- لمن لم يشرك بالله شيئا )، أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (6462)، والبزار في "مسنده" (4077).
وعن أبي موسى –رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُعْطِيتُ خَمْسًا بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِمَنْ كَانَ قَبْلِي وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ شَهْرًا وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ سَأَلَ شَفَاعَةً وَإِنِّي أَخْبَأْتُ شَفَاعَتِي ثُمَّ جَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا"
السؤال المثير: لماذا أعطيت الشفاعة لهذا النبي من دون أنبياء الله ورسله السابقين؟ وفي الوقت ذاته نحن نتساءل: كيف يمكن أن نربط ذلك بالآية الكريمة التالية؟
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
ألم يكن المسيح كذلك؟
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (75)
نتيجة مفتراة: لم يكن عيسى بن مريم أكثر من رسول خلت من قبله الرسل، أليس كذلك؟
نتيجة مفتراة: لم يكن محمد أكثر من رسول قد خلت من قبله الرسل، أليس كذلك؟
السؤال المربك للفكر المسيحي والإسلامي الدارج: لماذا الخصوصية لهذين الرسولين الكريمين، إذن؟ فهل لهما خصوصية محدده تختلف عن الآخرين من أولي العزم من الرسول: موسى وإبراهيم ونوح؟
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
وهم اللذين أخذ الله ميثاقهم جميعا:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (7)
افتراء 6: لعل جميع الافتراءات السابقة يمكن القفز عنها وتجاوزها (إذا كنا لا نريد الدخول في هذه الجدلية) لو أننا لم نجد الآية الكريمة التالية التي تصور بشكل لا لبس فيه حال محمد في الآخرة:
قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9)
استنباطات مفتراة بناء على فهمنا (ربما الخاطئ) لما جاء في هذه الآية الكريمة:
محمد لم يكن بدعا من الرسل، لأن الرسل قد خلت من قبله (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ)
محمد لا يدري ما يفعل به (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي)
محمد لا يدري ما يفعل بنا (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)
محمد لا يتبع إلا ما يوحى إليه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ)
محمد ليس أكثر من نذير مبين (وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ)
الخ.
ليكون السؤال الذي يجب أن يوجّه الجميع (العالم منهم والمتعلم على حد سواء) هو: إذا كان محمد لا يدري ما سيفعل به يوم القيامة (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)، فكيف تتوقع أن يكون شفيعا لغيره؟ من يدري؟!
افتراء 7: نحن نفتري القول أن عقيدتنا تلخصها الآيات الكريمة التالية:
وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (41)
السؤال المربك: إن صح ما تزعم، من أين جاءت فكرة الشفاعة إذن؟ وما هي عواقبها؟ وهل جميع الأحاديث التي وردت في هذا الجانب هي أحاديث غير صحيحة؟ ألم ترد في صحيح البخاري ومسلم وكثير من كتب السنن؟ ربما يريد محاورنا أن يسأل.
رأينا المفترى: لو تدبرنا موضوع الشفاعة جيدا لربما وجدنا على الفور أن الأمر لم يقف عند شخص محمد بذاته، بل تعداه إلى أبعد من ذلك بكثير حتى أصبح لكل طائفة ولكل فرقة من فرق أهل الدين شفيعها. فها هم المدافعون عن "آل البيت" مثلا يرون أنّ شخصا محددا من أهل البيت (الحسين بن علي) هو طريقهم إلى الجنة وهو طريق غيرهم (الذين لا يؤمنون بذلك) إلى النار. وهذه معظم الفرق التي تدعي أن منهجها هو الإسلام تتسابق (وإن لم تنطق بها صراحة) في تسمية أئمتها وآياتها ومشايخها شفعاء لهم عند ربهم. ومنهج الغالبية منهم يلخصه أحد علمائهم قائلا: "ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ فإن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان". الخ.
السؤال: ما الذي يريدونه من وراء ذلك؟ لماذا تصرّ الغالبية الساحقة من الفرق الإسلامية على ذلك؟
رأينا المفترى والخطير جدا: إنها التبعية المطلقة بالانقياد لهم بعد الاستخفاف بالناس بالضبط كما فعل فرعون نفسه.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
استنباطات مفتراة
- كان صوت فرعون هو الصوت المسموع في ملئه وفي قومه
- كان فرعون هو من يتخذ القرار لهم
- كان فرعون هو صاحب الحجة
- لم يخرج من ملأ فرعون ومن قومه من يخالفه الرأي أو من لا يقبل بحجته
- استطاع فرعون أن يستخفهم
- كان قوم فرعون قوما فاسقين
- الخ
السؤال: كيف استطاع فرعون أن يستخف قومه؟ وكيف استطاع أن ينجح في ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الأمر له وجهان:
الوجه الأول يتعلق بقومه
الوجه الثاني يتعلق بفرعون نفسه
أما بخصوص قومه، فهم كانوا قوما فاسقين:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
لذا كانوا على استعداد للضلالة:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
ولما كانوا قوما فاسقين، لم يكونوا مؤهلين لهداية من الله، لأن الله لا يهدي القوم الفاسقين. واقرأ – إن شئت- قوله تعالى:
ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
وذلك لأن الأمور الدنيوية هي – على الدوام- الهمّ الأكبر للقوم الفاسقين:
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
هذا ما يخص قومه، أما بالنسبة لفرعون نفسه فقد كان شخصا عالما مدركا لما يدور حوله:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
لذا نجد أنفسنا واقعين في هذا السيناريو الذي يتكرر أمام أعيننا صباح مساء، السيناريو المتمثل بشخص يملك علما يدور في فلكه أشخاص كثيرون يفتقدون هذه البضاعة. ليكون السؤال في مثل هذا الموقف هو: كيف ستكون العلاقة بين الطرفين (العالم مقابل العامة من الناس)؟
نتيجة مفتراة: استطاع صاحب العلم (فرعون) أن يتلاعب بعقول اللذين من حوله لأنهم لا يملكون العلم مثله. لتكون النتيجة على النحو التالي: يستطيع صاحب العلم في كل وقت وحين أن يستخف بمن حوله إذا لم يكونوا من أصحاب العلم مثله، وإذا كان استعدادهم للفسق متوافرا.
السؤال: لماذا؟ وكيف؟
رأينا المفترى: نحن نفتري القول من عند أنفسنا أن أهل العلم يستطيعون الاستخفاف بمن حولهم عندما يتكبرون على الناس (كما فعل فرعون)، وعندها يكون هدفهم هو انقياد الناس لهم انقيادا أعمى، كانقياد القطيع للراعي. فكيف سيفعلون ذلك؟
عودة على بدء
نعود إلى صلب موضوع النقاش بالنتيجة المفتراة التالية: عندما كان فرعون هو صاحب القرار في ملئه وفي قومه كانت الرسالة الإلهية موجهة بشكل رئيسي لشخص فرعون:
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17)
اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (24)
اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)
وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
ثم لفرعون وملئه فقط:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ يونس (75)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(45) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
وذلك لأن قبول فرعون لتلك الدعوة الإلهية على لسان الرسل تعني قبول ملئه وقومه بها. لذا كان إيمان القوم أجمعين مرتبطا بإيمان فرعون نفسه وكان كفرهم مرتبطا بكفره. فهم إذن رهن إشارة من أصبعه، يحركهم كيفما شاء، وذلك لامتلاكه العلم الذي ينقصهم، فيستطيع بما لديه من العلم أن يتلاعب بعقولهم كيفما شاء.
السؤال: ما علاقة هذا كله بقصة يونس (موضوع النقاش في هذه المقالة)؟
جواب مفترى: نحن نؤمن أنه لمّا آثر عدم تلبية دعوة الرسل، نبذ في اليم وَهُوَ مُلِيمٌ:
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
وهذا ما حصل بالضبط مع يونس، فقد استقر في بطن الحوت على تلك الشاكلة (وَهُوَ مُلِيمٌ)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
تساؤلات
- لماذا كادت أن تكون نهاية ذي النون كنهاية فرعون؟
- ما معنى أن كلاهما كان مليما؟
- ولماذا غرق فرعون وانتهى أمره في الحال؟
- لماذا نجا ذو النون وعاد رسولا إلى قومه؟
- لِم لم تتطابق نهايتهما بالرغم أن قصتهما (كما نزعم) كانت متطابقة؟
- لماذا آمن قوم يونس فكشف عنهم العذاب؟
- لم لم يحصل لآل فرعون ما حصل لقوم ذي النون؟
- وأخيرا: ما الذي كان يمكن أن يحصل لو أن فرعون فعلا تذكر أو خشي؟
- الخ.
دعنا نقفل النقاش في هذا الجزء من المقالة بالتصور التالي عن قصة ذي النون: كان ذو النون شخصا ذا مكانة مرموقة في قومه، وكان رجلا على علم، بينما كان من حوله يأتمرون بأمره وينهون بنهيه (بالضبط كما كان فرعون في قومه)، وذلك لأنه ينقصهم العلم الذي كان يحيط به ذلك الرجل. لذا فقد جمع ذو النون (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) بين يديه شيئين اثنين: الحكم والملك (كما كان فرعون في قومه). والحالة هذه، لم يكن ليجرؤ أحد من قومه على مخالفة أمره، فأصبحوا جميعا طوع أمره. لذا لمّا كان ذلك الرجل (أي و النون) من المسبحين ومن المؤمنين، كان قومه جميعا كذلك، فكانوا قوما مؤمنين. واستمر الأمر على تلك الشاكلة (نحن لا زلنا نتخيل) حتى حصل أمر كبير جدا فقلب الأمور كلها رأسا على عقب، فكان نتيجة ذلك أن ذهب ذو النون مغاضبا، فترك قومه وخرج باتجاه البحر كما فعل فرعون، وهناك كادت أن تكون نهايته وإلى الأبد. وفي تلك الأثناء (أي في غياب ذي النون بعيدا عن قومه)، تراجع القوم عن إيمانهم فوق عليهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، وبقوا على تلك الشاكلة (أي تحت وطأة عذاب الخزي) حتى عاد إليهم يونس نفسه مرة أخرى كرسول من رب العالمين، وهنا عاد قومه إلى الإيمان من جديد، فنفعهم إيمانهم على عكس جميع الأمم الأخرى التي وقع عليها العذاب:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
وذلك لأن تلك الأمم ما آمنت من قبل، وما آمنت إلا لحظة أن رأوا بأس ربهم لا محالة نازل بهم:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)
فكانت تلك سنة الله الكونية التي لا تتبدل: أن لا ينفع قوما إيمانهم لحظة وقوع العذاب
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) يونس (97)
كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (2002)
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يونس (88)
إلا أن يكونوا قد آمنوا من قبل كقوم يونس مثلا:
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)
تساؤلات
- ما الشيء الذي أغضب ذي النون حتى ذهب مغاضبا؟
- لماذا توجه صوب البحر؟
- لماذا ساهم؟
- كيف ساهم؟
- لماذا كان من المدحضين؟
- كيف حصل ذلك؟
- ما وجه الشبه في ذلك بينه وبين فرعون؟
- لماذا نجاه الله من الغم؟
- لماذا عاد رسولا إلى قومه
- ما وجه الاختلاف في ذلك مع فرعون؟
- من أين كان مصدر علم الرجل؟
- لماذا لم يصبر لحكم ربه؟
- هل كان من أولي العزم من الرسل مادام أنه لم يصبر؟
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
الخ.
هذه جملة من التساؤلات التي سنحاول الخوض فيها في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيق منه. فالله وحده أسأل أن يعلمني الحق فلا أفتري عليه الكذب، وأن ينفذ مشيئته بالإذن لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو العليم الحكيم – آمين
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح
23 كانون أول 2014
الجزء الثالث الجزء الخامس