# لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟
قال تعالى في القرآن الكريم على لسان لوط:
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ هود (78)
قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ الحجر (71)
نتناول في هذا البحث سؤالاً غاية في الإثارة وهو: لماذا قدمّ لوط بناته بدلاً من ضيوفه يوم أن جاءه قومه يهرعون إليه؟
وقد جاء بحثنا هذا مدفوعاً بمشاهدة بسيطة تتمثل في أن الغالبية الساحقة من الناس درجوا على أفهام قديمة منعتهم عن طرح مثل هذه الأسئلة، إما للحرج الذي يمكن أن تسببه في حالة طرحها، أو لظنهم بصعوبة إيجاد التفسيرات المرضية لها، وكانت النتيجة أن سكت عنها العامة ورضي أهل العلم بما توافرلهم من تفسيرات أزماناً طويلة، فما وضعوها على طاولة البحث كثيراً. فقد وجدت أن مجرد طرح مثل هذا السؤال يثير عند الكثيرمن الناس الحنق والاحتقان، لدرجة أن النقاش – حتى في قاعة الدرس- يأخذ طابع الشخصنة (أي يصبح قضية شخصية وكأنها بحث في خصوصيات تصل إلى درجة المحرمات)، والتشكيك (ويكأن لسان حالهم يقول بأن الهدف من طرح مثل هذا التساؤل لا يعدو أكثر من قدح في كلام الله أوتشكيك في أفعال رسل الله).
ونحن نؤكد بأننا لا نثير هذه القضايا لمثل ما ظن كثير من الناس، وإنما لغرض العلم والبحث عن الحقيقة، فنحن طلاب علم ننشد المعرفة لا أكثر، وفي الوقت ذاته فإننا لا ندّعي بأن ما تحصل لنا من فهم أفضل مما كان عند من سبقونا، ولا نثير هذه القضايا لفتح باب الشبهات (كما يرغب الكثيرون أن ينعتونا)، ولكنّنا نثيرها لظننا أنه لا زال هناك متسع من المكان للنظر إلى هذه القضايا من زوايا جديدة قد تفتح (بحول الله وتوفيقه) أفاقاً جديدة من البحث والدراسة، خاصة لطلاب العلم الراغبين في الوصول إلى المعرفة الحقيقية، وممن لا يرضون أن تقف عجلة المعرفة عند أقدام أشخاص معينين.
أما بعد،
لعل أبرز التساؤلات التي سنقحم أنفسنا فيها هنا هي:
1. هل من المنطقي أن يقدّم نبي الله لوط بناته بدلاً عن ضيوفه؟
2. وإن كان كذلك، فلماذا فعل ذلك؟
3. ألم يكن يخشى أن يقبل القوم المبادلة؟
4. ألم يؤمر بأن يسر بأهله أجمعين قبل بزوغ شمس اليوم التالي؟
5. كيف سيهرب في الصباح الباكر مع كل أهله لو قبل القوم المبادلة؟
6. لماذا عرض على القوم مبدأ المبادلة ورسل الله (الموكلون بإيقاع العذاب على القوم) في بيته؟
7. الخ.
إذن، لنبدأ بالتساؤل الجوهري وهو: هل من المنطقي (أو لنقل الطبيعي) أن يقدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟
رأينا: لا، لا أظن أن من الفطرة السليمة أن يتقبل الرجل (أي رجل) التضحية ببناته بدلاً من ضيوفه، فلا أظن أن درجة الكرم يجب أن تصل بالإنسان أن يضحي بـ "عرضه" للحفاظ على كرامة ضيوفه. ولا أخال أن رجلاً منّا (نحن المسلمين) قد يفعل مثل ذلك، فلو أصبح أمامك الخيار على نحو أن تضحي بضيوفك أو ببناتك، فلا أخال أن أحداً يمكن أن يضحي بعرضه، أليس كذلك؟
أما السبب الآخر الذي استوقفنا طويلاً وأثار الريبة في نفوسنا (وبالتالي الرغبة في طرح السؤال على غيرنا) حول فعلة نبي الله لوط تلك فقد تمثل في توقيت التضحية بالبنات، ولتوضيح الفكرة دعنا نقدم السياق القرآني التالي من صورة الحجر الذي يصور لنا ما حدث أدق تصوير، لنطرح من خلاله بعد ذلك عدة تساؤلات حول دوافع لوط للتضحية ببناته، قال تعالى:
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
*** *** ***
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
*** *** ***
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) الحجر 57-71
فلو أشغلنا التفكير في هذا السياق القرآني، لربما استطعنا أن نقسمه إلى عدة مراحل:
1. مرحلة وجود رسل الله في ضيافة إبراهيم وإخبارهم نبي الله بهلاك قوم لوط ونجاة لوط وأهله (إلا امرأته)
2. مرحلة وصول الملائكة بيت لوط وإخبارهم إياه بقضاء الله بهلاك القوم وضرورة أن يسر بأهله قبل بزوغ شمس اليوم التالي
3. مرحلة قدوم قوم لوط طالبين الضيوف وعرض لوط بناته بدلاً عن ضيوفه
المرحلة الأولى: خطاب الملائكة مع إبراهيم بخصوص لوط قبل ذهابهم إلى قوم لوط (الآيات 57-60):
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
إن ما يهمنا في هذا الجزء من الخطاب القرآني هو إثارة تساؤل واحد وهو: لماذا أخبر الملائكةً إبراهيمَ بهلاك زوجة لوط بشكل خاص؟ فلقد وردت القصة في سياق قرآني آخر يبين فيه إخبار الملائكة لإبراهيم بهلاك امرأة لوط مع الهالكين:
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
لو دققنا في الحوار الذي حصل بين إبراهيم من جهة والملائكة من جهة أخرى بخصوص لوط وقومه لوجدنا فيه شيئاً من الغرابة، فإبراهيم يذكّر الملائكة بأن تلك القرية التي قضى الله بهلاكها فيها لوط:
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) هود
فلماذا يذكّر إبراهيم رسل الله (لا بل ويجادلهم) بلوط وقومه؟
والأغرب من مجادلة إبراهيم هو – في رأينا- رد الملائكة على استفسار إبراهيم:
قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
إن ما يثير حفيظتنا (وبالتالي دافعيتنا للتفكر) في رد الملائكة هو إخبارهم إبراهيم بهلاك امرأة لوط على وجه التحديد مع الهالكين. ألم يكن يكفي – نحن نتساءل- أن ينتهي الخطاب عند قولهم "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا" وكفى؟ فلماذا تبرع الملائكة لإبراهيم بمعلومات إضافية تخص امرأة لوط على وجه التحديد، فزادوا القول "لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ"، والآن لنطرح التساؤل السابق نفسه مرة أخرى: لماذا يخبر الملائكةُ إبراهيمَ خبرَ هلاك امرأة لوط؟
رأينا: إننا نظن أنه كان يكفي الملائكة أن ترد على إبراهيم بالقول: "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا" وكفي لو لم يكن هناك حاجة (وحكمة عظيمة) من وراء إخبارهم إياه بقصة امرأة لوط.
النتيجة الأولى: لقد كان خبر امرأة لوط قد وصل إبراهيم الذي يسكن بعيداً عن لوط وقومه (تدبر عزيزي القارئ هذه الفكرة جيداً حتى نعود إليها لاحقاً)
المرحلة الثانية: وصول الملائكة بيت لوط وتحاورهم معه وإخبارهم إياه بما ستؤول إليه الأمور:
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
فها هم الملائكة يخبرون لوطاً بأمرهم (فهم رسل ربه) وهدفهم من هذه الزيارة:
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
وإخبارهم إياه بما يجب عليه أن يفعل هو وأهله:
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
والنتيجة التي ستؤول إليها الأمور في نهاية زيارتهم هذه:
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
النتيجة الثانية: لوط يعلم علم اليقين أن القوم لا محالة هالكين
المرحلة الثالثة: قدوم القوم طالبين الغلمان وعرض لوط عليهم مبدأ المبادلة:
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
ونزيد على ذلك بالقول أن طمأنة الملائكة لوطاً قد حصلت مرة أخرى يوم أن جاءه قومه يهرعون إليه:
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
النتيجة الثالثة: لوط يعرض مبدأ المبادلة وهو يعلم مصير القوم ومأمور بأن يسر بأهله بجنح من الليل
وهنا نطرح التساؤل الذي لا مفر منه وهو: لماذا يقدّم لوط بناته لقومه وقد أخذ من الملائكة تعهداً ربانياً بهلاك القوم أجمعين ومأمور بأن يسر بأهله جميعاً بقطع من الليل؟ ألم يكن لوط يثق بكلام رسل ربه؟
رأينا: ما كان لوط سيقدم بناته فداء لضيوفه بعد أن علم بخبر رسل ربه لو لم يكن من وراء ذلك قصة كبيرة وحكمة عظيمة، تتطلب أن نجهد أنفسنا بالبحث عنها. فما هي تلك القصة؟
سنقدم في هذا الجزء رؤيتنا الخاصة بقصة لوط مع قومه وامرأته وبناته، محاولين استنباط الأحداث من السياقات القرآنية فقط، جاهدين قدر المستطاع الابتعاد عن موروثات يهود وتحريفاتهم التي نظن أن جزءاً كبيراً منها قد وجد طريقه إلى الفكر الإسلامي يوم أن عجز علماء الإسلام تقديم التفسيرات المرضية لمثل هذه القصص القرآنية لأتباع هذا الفكر الديني. وهنا لابد أن نؤكد أكثر من مرة أن ما سنقدمه لا يعدو أكثر من اجتهاد قابل للقبول والرد، فهو بكل تأكيد ليس أكثر مما نظن أنه موجود في كتاب الله. ونسأل الله أن يهدينا سبيله فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه غير الحق، إنه هو السميع المجيب.
أما بعد،
إننا نظن أن الخطاب بين لوط من جهة وقومه من جهة أخرى يوم جاءوه يهرعون إليه كان يكتنفه الغموض، فكان الخطاب بينه وبين قومه يجرى على شكل شيفرة من الألغاز تتطلب أن تفك أسرارها، فكان من وراء كل كلمة – نحن نرى- لغزا كبيرا يحتاج إلى تفصيل إن نحن أردنا أن نفهم حقيقة ما جرى في تلك الحادثة، لا بل وربما نستطيع (بحول الله وتوفيقه) أن نصل من خلال ذلك إلى ما يمكن أن يساعدنا في حل ألغاز أخرى (أو على الأقل تناولها من زوايا جديدة) غاية في الأهمية في الفكر الديني، سنتناول منها بعد أن نخلص من هذا المبحث مبحثين آخرين وهما:
1. لماذا أسكن إبراهيم زوجته وطفله في واد غير ذي زرع؟
2. لماذا قلّب محمد وجهه في السماء حتى تحققت رغبته في تغيير القبلة التي كان عليها فترة من الزمن؟
قصة لوط مع قومه وامرأته وبناته
رأينا: إننا نظن أن مفتاح الإجابة على كل التساؤلات السابقة حول قصة لوط مع قومه وامرأته وبناته يكمن في كلمة واحدة ألا وهي الخيانة.
خيانة نساء الأنبياء
ما هي كيفية خيانة نساء الأنبياء؟
هذا - بلا شك - موضوع غاية في الخطورة في الطرح، لما يمكن أن يترتب عليه من أفهام مغلوطة عند كثيرين ممن لا يجيدون سوى اتهام الآخرين بالإلحاد والكفر والزندقة، وهم الذين لا يكلّفون أنفسهم عناء القراءة ومحاولة الفهم (ويكتفون بما يمكن أن ينقله لهم كاذب عن كاذب)، ربما لظنّهم أن العلم لا يمكن أن يعثر عليه إلا في بطون الكتب الصفراء التي اهترأت أوراقها ومات مؤلفوها منذ قرون طويلة. لذا ما كنا لنتناول مثل هذا الموضوع لولا ظننا أن لدينا ما يمكن أن نقدمه لتسليط الضوء على القضية من زوايا جديدة قد تسعف في تفسير كثير من الإشكالات، ولنبدأ بالخيانتين الأشهر التي تحدث عنهما القرآن بصريح اللفظ وهما خيانة امرأة نوح وخيانة امرأة لوط في قوله تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ التحريم (10)
فلقد تطرقنا في مقالات سابقة لنا عن قضية خيانة امرأة نوح، وركّزنا على الزعم بأن امرأة نوح قد خانت نوحا بفرجها، وكانت نتيجة تلك الخيانة –في ظننا- ذلك الولد الذي قال الله عنه بصريح اللفظ القرآني أنه ليس من أهل نوح:
وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
ومن أراد التفصيل في هذا الموضوع فإننا ندعوه لقراءة مقالتنا تحت عنوان (من هي زوجة موسى؟ وسفينة نوح ونظرية تكون القارات، وثلاثية المرأة). إن ما يهمنا القول هو حصول الخيانة الزوجية من قبل امرأة نوح، وبالمقابل فإن خيانة امرأة لوط قد أثبت بصريح اللفظ القرآني وقرنت بخيانة امرأة نوح في الآية نفسها:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
وجاء الحديث عن خيانة امرأة نوح وامرأة لوط ليقابل على النقيض منه طهر امرأة فرعون ومريم بنت عمران:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
ولو دققنا النظر في الآية التي تتحدث عن مريم لوجدنا الحديث واضحاً خاصاً طهارة الفرج على وجه التحديد " الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا" لنخلص إلى النتيجة التي لا مفر منها (مهما حاول أهل العلم ليّ عنق النص)[1]: إنها طهارة الفرج مقابل الخيانة الزوجية.
لماذا هذا الطرح؟
غالباً ما كان الاحتجاج لدى أهل العلم قائماً على ظنهم باستحالة أن تقوم امرأة نبي بخيانة النبي خيانة الفرج، وهنا نطرح قضيتين اثنتين لنرد زعمهم ذاك، وهما:
1. أيهما أعظم ذنباً – يا سادة- الزنا أم الكفر؟ لماذا يتقبل علماؤنا الإجلاء أن تكون زوجة النبي كافرة ولا يتقبلون فكرة أن تكون زانية، ألم يثبت الله في الآية نفسها أنّ أولئك النساء اللواتي وقعن في خيانة أنبياء الله في نار جهنم وبئس المصير في الآية القرآنية التي تحدثت عن خيانتهما:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
أليس في ذلك تساؤل مشروع؟!
2. غالباً ما سوق كثير من أهل العلم الإدعاء بأن خيانة امرأة لوط كانت من باب أنها أسرت للقوم (أي أفسدت للقوم) خبر الضيوف في بيت مَنْ مِنَ المفترض أن يكون زوجها (وهو نبي الله لوط)[2]، فنقول لهؤلاء العلماء: ألا ترون – يا سادة- أنكم تنعتون المرأة بتهمة أشد قسوة من جريمة خيانة الفرج (أي الخيانة الزوجية نفسها)، ولكن كيف؟ ألا ترون يا سادة أن المرأة – حسب ظنكم- لم تقع في فاحشة الزنا فحسب (ربما بسبب ضعف في الإرادة أو شهوة عابرة)، ولكنها كانت تقوم بتسويق الفاحشة، فكيف بامرأة نبي – نحن نتساءل فقط- أن تذهب إلى قوم تعلم فعلهم للمنكرات (اللواط) لتخبرهم بأن في بيت زوجها ما يطلبون (من الغلمان)؟ أيهما أشد وأعظم ذنباً أن تقع المرأة في الفاحشة كما نظن نحن أم أنها كانت تسوق وتروج للفاحشة كما زعمتم (عن غير قصد بالطبع). فنقول لكثير من علمائنا الإجلاء ما يلي: إن كنا نحن نظن أن المرأة قد وقعت بالخيانة (الخيانة التي تحدث عنها النص القرآني بلا زيادة أو نقصان ولا تحريف)، فأنتم قد ظننتم بأن المرأة كانت تروج للرذيلة (ولعمري فإن إجرامنا أكثر رأفة بالأنبياء من عملكم):
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ سبأ (25)
رد على من ظن بأن لوطا قدّم بناته للقوم من أجل الزواج بهن
كثير ما ردد أهل العلم القول بأنّ لوطا قد قدّم بناته للقوم ليتزوجوا بهنّ، فهم يظنون أنّ لوطا لم يقدم بناته للقوم ليقترفوا فاحشة الزنا، فلا يعقل أن يقدم نبي الله بناته للقوم ليقترفوا الفاحشة، فهم يحاولون تبرير ما فعل نبي الله عندما ضحّى ببناته لإنقاذ ضيوفه، أليس كذلك؟
رأينا: إن هذا منطق جميل ومقبول لولا أن النص القرآني نفسه لا يدعم مثل هذا الفهم، ولكن لماذا؟
الجواب: لو دققنا النظر مليّا في النص لوجدنا أن القوم قد جاءوا لوطاً وهم "يهرعون إليه"، أليس كذلك؟ ألا يدلنا هذا النص القرآني على أن العدد كان كبيراً جداً (فمفردة القوم تدل على الكثرة، ومفردة يهرعون تزيد الطين بله، فهم بالإضافة للكثرة متلهفين للظفر بالغنيمة وعلى عجلة من أمرهم)، ولا أظن أن من جاء هارعاً (إن صحّ القول) يمكن أن يعطي نفسه فرصة التفكر:
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) الصافات 69-71
لنخلص إلى نتيجة أن القادمين كانوا كثيرين في العدد (فهم قوم)، متعجلين أمرهم، لا يمكن أن يعطوا أنفسهم فرصة التدبر والتعقل (يُهْرَعُونَ)، فليس فيهم رجل رشيد (على الأقل مثلي):
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ هود (78)
وهنا نبادر القارئ الكريم بالتساؤل التالي: كم كان عدد بنات لوط؟ هل كان عند لوط من البنات ما يكفي القوم؟! وإن لم يكن عنده العدد الكافي، فمن من القوم سيتزوج بهنّ؟! ومن من القوم سيرضى أن يرجع خال اليدين: لا يظفر بالغلمان ولا بنصيبه من بنات لوط؟!
النتيجة: لا أظن أن لوطا كان سيضحي ببناته لكل القوم بهذه الطريقة وهو يعرف كثرة عددهم!
ثم، ماذا سيفعل لوط لو أن القوم قبلوا المبادلة؟ فهل كان لوط سيضحي ببناته (اللاتي سيبعثهن مع القوم إن هم قبلوا المبادلة) وهو يعلم أن القوم لا محالة هالكين في الصبح القريب؟ فأين ستذهب بنات لوط لو قبل القوم عرض لوط وأخذوا البنات بدلاً من الضيوف؟ وكيف سيتصرف لوط في الصباح الباكر وهو مأمور أن يسر بأهله جميعاُ في جنح الليل قبل بزوغ فجر اليوم التالي؟ فهل كان لوط سيذهب يبحث عن بناته عند القوم ليهرب بهن خلسة في جنح الظلام قبل بزوغ فجر الغد الموعود؟ ألم يكن يعلم أنه ستكون بناته في هيئة وحال غير تلك التي كن عليها لحظة أن سلمهنّ بيديه للقوم؟!
هذه الأسئلة (وغيرها) تثير بمجملها الشك حول الهدف الحقيقي الذي قدّم لوط بناته للقوم ليكف أذى قومه عن ضيوفه. لذا فإننا سنحاول النبش في مفردات هذه الآيات الكريمة من جديد، باحثين عن السبب الحقيقي الذي دفع بلوط لتقديم بناته فداء لضيوفه، سألين الله أن يأذن لنا بشيء من علمه، إنه هو العليم الخبير.
تأويل من عند أنفسنا
بادئ ذي بدء، لا بد من ربط الأمر برمته مع زعمنا الذي افترينا من عند أنفسنا والذي يدور حول خيانة امرأة لوط التي تحدثنا عنه سابقاً، فامرأة لوط كانت – في نظرنا- خائنة الفرج، فلقد ارتكبت الفاحشة مع غير زوجها، لذا فإننا سنتجرأ على البوح بالافتراء التالي (راجين أن تتسع صدوركم لقبول تخريفاتنا ولو بعضاً من الوقت لنرى ما ستؤول إليه الأمور لاحقاً):
الإفتراء: لا نستغرب أن تكون بنات لوط ليسوا من صلبه بالضبط كما زعمنا عند الحديث عن ابن نوح
فكما كان ابن نوح نتاج الخيانة الزوجة فإننا لا نستبعد احتمالية أن تكون بنات لوط نتاج الخيانة الزوجية، فكما ظن نوح أن ذلك الولد هو ابنه فنادى ربه قائلاً:
وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
جاء الرد الإلهي الفوري:
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) هود
ولو دققنا النظر ملياً في الرد الإلهي لوجدنا الله ينهى نوح عن السؤال عن ما ليس لنوح علم به:
فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
وهنا ربما نصل إلى نقطة مفصلية في البحث تتمثل بالتساؤل التالي: إذا كان نوح على غير علم بخيانة امرأته (ويؤكد هذا الظن قول الحق فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، فهل كان لوط على غير علم بخيانة امرأته؟
رأينا: كلا وألف كلا، لقد كان لوط على يقين بخيانة امرأته، فهو لا يحتاج من أحد أن يؤكد له خبر الخيانة تلك، فخبر امرأت لوط كان قد وصل قوم إبراهيم لدرجة أن الملائكة أخبرت إبراهيم – كما شرحنا سابقاً- بأن أهل لوط ناجين ولكن امرأته من الهالكين، ولا نجد أن إبراهيم قد جادل الملائكة بعد أن جاءه التطمين الإلهي على لسان رسل الله بنجاة لوط وأهله أجمعين باستثناء امرأة لوط التي ستكون من الهالكين)، ولنقرأ النص القرآني مرة أخرى:
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
النتيجة: لقد كانت خيانة امرأت لوط غير خافية على القوم ويعلم لوط نفسه حقيقة خيانتها، وكان خبرها قد وصل إبراهيم نفسه لدرجة أن إبراهيم لم يبد غرابة من ذلك.
وسنرى بعد قليل كيف يمكن أن تفسر هذه النتيجة – التي افتريناها من عند أنفسنا- الحكمة من تقديم لوط بناته بدلاً من ضيوفه.
ولكن قبل ذلك، ربما يعترضنا البعض بالقول: دعنا نصدقك القول ولو للحظة بأن البنات لم يكنّ من صلب الرجل (لوط)، فهو إذاً يقدم البنات للقوم لأنهن لسن من صلبه، هل هذا ما تريد أن تقوله؟ ولكن ألا ترى أنك تتهم الرجل بأن لا رأفت ولا إنسانية فيه؟ كيف بنبي الله (لوط) أن يضحى ببنات بريئات (حتى لو كانت والدتهم خائنة) من أجل أن يدفع الأذى عن ضيوفه؟ لقد كان الأولى بنبي الله أن يدافع عن هؤلاء البنات كما يدافع عن ضيوفه؟
فنرد على هذا التساؤل المشروع جداً بالقول: لماذا لم يحاول لوط الدفاع عن عرضة؟ لقد كان الأولى بلوط أن يموت دفاعاً عن عرضه إن كان فعلاً يريد إنقاذ ضيوفه؟ ثم لننظر كيف كانت ردة فعل الرجل بعد أن رفض القوم طلب المبادلة:
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
فردة فعل لوط لا تشير بأن الرجل قد بذل أدنى درجات المقاومة الجسدية للدفاع عن ضيوفه أو عن بناته، وجل ما فعل كان أمنية بتوافر القوة لديه أو أن يأوي إلى ركن شديد.
ويأتي التطمين الإلهي على لسان رسله مرة أخرى بأن القوم لن يصلوا إليه، وأن امرأته لا محالة مع الهالكين، أليس كذلك؟
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
وهنا نثير تساؤلاً آخر وهو: لِمَ لم يبد لوط أدنى درجات الاستغراب على مصير امرأته؟ لم لم يجادل لوط الملائكة بشأن امرأته؟ فنحن نعلم أن الرجل – قد لا يستغني بهذه السهولة عن زوجته، ولنتذكر قصة نوح مرة أخرى، ألم ينادي نوح ربه بشأن ابنه، فلم لم ينادي لوط ربه بشأن امرأته؟[3]
رأينا: إننا نظن أن نوحا لم يكن لديه علم بشأن خيانة امرأته (وجل ما كان لديه هو شك بخيانتها، فنادى ربه بطريقة مثيرة كان الهدف منها هو التحقق من ظنه بخصوص نسب ولده فقال منادياً ربه:
وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ هود (45)
فجاءت الحقيقة التي لا جدال فيها من ربه مباشرة:
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ... هود (46)
وفي الوقت ذاته يأتيه الزجر الإلهي أن لا يتمادى في السؤال عن ما ليس له به علم مكملاً الآية نفسها:
... فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هود (46)
(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان من هي زوجة موسى، وسفينة نوح ونظرية تكون القارات وثلاثية المرأة)
أما لوط، فقد كان يعلم خبر خيانة زوجته، لذا فإننا نرى أنه لم يكن بحاجة إلى دليل على ذلك، فخبرها كان – كما ذكرنا سابقاً- قد وصل إبراهيم، فلم يجادل الملائكة بشأنها ولم ينادي ربه فيها قبل وقوع العذاب على القوم ولا بعد وقوعه.
النتيجة (1): لو كانت البنات من صلب لوط لما تجرأ على التضحية بهن من أجل إنقاذ ضيوفه بهذه السهولة
النتيجة (2): فحتى لو كن من غير صلبه، فلا أظن أن لوطا سيأخذ البنات بذنب والدتهن، فهو يعلم أن كل نفس بما كسبت رهينة، لذا فهو لن يزر وازرة وزر أخرى
السؤال: لماذا قدّم نوح البنات فداءً للضيوف إذاً؟
الجواب: لمحاولة الوصول إلى إجابة لهذا التساؤل، نحن مدعوون لقراءة النص مرة أخرى مركزين على الألفاظ كما وردت، فلا نحاول أن نزيد عليها ولا أن ننقص منها كما يفعل الكثيرون عندما يحاولون إقحام النص القرآني بما ليس فيه.
مثال رقم (1)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ المائدة (27)
سنقدم هذا المثال لتبيان منهجيتنا في البحث الذي تتمثل بالالتزام بحرفية النص، منتقدين في الوقت ذاته منهجية من سبقونا خصوصاً من كانوا يقحمون النص القرآني بما ليس فيه، وهم يظنون أنهم بفعلتهم تلك يخدمون النص ويفسرونه على حقيقته، ونحاول هنا أن نبيّن أن ذلك الإقحام لا يخدم النص القرآني في شيء، بل على العكس فهو يشوّه الصورة الحقيقية التي أرادها الله بكلماته، فكتاب الله كامل لا نقص فيه ولا زيادة عليه، فإقحام النص بما ليس فيه يؤدي إلى العبث فيه (لا بل وتحريفه)، الأمر الذي يسبب – كما سنرى بعد قليل- فقدان الثقة بتفسيرات العلماء لحظة أن تكون هناك جرأة في طرح السؤال (حتى وإن لم يكن هناك إجابة بديلة).
قصة الغراب
إن أشهر ما انتشر من تفسير علمائنا الأجلاء لقصة ابني آدم مع الغراب كان على النحو التالي:
يقتل واحد من ولدي آدم أخيه، لا يعرف القاتل ما يفعل بجثة أخيه، يبعث الله غرابين فيقتل أحدهما الأخر ويدفنه بالتراب، فيتعلم ولد آدم كيفية الدفن للميت (أو لجثة الميت)[4]، أليس هذا ما تناقل (على الأقل العامة من الناس) عن خبر تلك القصة؟ (انظر تفاسير القرآن الكريم المختلفة)
السؤال: إنّ جل ما نود إثارته هو سؤال واحد، أظن أنه كفيل بإلقاء ظلال الشك على كل ما قاله أسيادنا ومشايخنا العلماء، حتى وإن لم يكن لدينا تفسير مرض لتلك الحادثة يكون بديلاً عن ما ظنوا.
السؤال: النص القرآن يتحدث عن غراب واحد، فمن أين جاء أسيادنا العلماء بالغراب الثاني؟
ولننظر إلى الآية الكريمة جيداً:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
إذاً، الله يبعث غراباً واحداً، وولد آدم (القاتل) يتعلم من هذا الغراب، فأين يا ترى الغراب الثاني الذي تحدث عنه أسيادنا (وتاج رؤوسنا، باللسان المصري)؟!
وهنا ستنهمر التساؤلات الأخرى بغزارة جريان الأنهار في أيام الفيضان، فلنطرح التساؤلات الأكثر غرابة: كيف سيعلّم غراب واحد القاتل كيفية الدفن؟ وكيف فهم القاتل الدرس وتعلم طريقة الدفن من غراب واحد بعثه الله ليبحث في الأرض؟ وماذا فعل ذلك الغراب حتى تعلم القاتل طريقة الدفن على الفور؟ و ... و... الخ؟
إن جل ما هو موجود في النص القرآني حول هذا الموضوع هو قول الحق:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ
فلا نجد إلا حديثا عن غراب واحد (دقق ملياً بالضمائر في يَبْحَثُ و لِيُرِيَهُ)، فلو كان هناك غرابان (كما جاء في كثير من تفاسير من سبقونا) لوجدنا ذلك بصريح اللفظ (أو على الأقل باستخدام الضمائر كأن يقول مثلاً يبحثان بدلا من يَبْحَثُ، و ليرياه بدلاً من لِيُرِيَهُ)، وهكذا.
وهنا سيقاطعنا الكثير بالقول: إذاً كيف حدث أن تعلم القاتل الدرس من غراب واحد؟
إن أهم ما نريد إيصاله للناس هو أن الفكر الذي ساد قروناً من الزمن يمكن دحضه بسؤال واحد لو أعطينا لأنفسنا فرصة التفكر بشيء من الحرية، أليس كذلك؟
أما ما يخص الإجابة على سؤال صاحبنا عن كيفية حصول القصة، فإننا نرى أن بامكاننا الآن (وعلى عجل) أن نقدم تصورنا للقصة، ولربما يكون أفضل (وإن لم يكن صحيحاً) من كل تصورات من سبقونا، وجلّ ما يتطلب منا الأمر هو الالتزام بالنص كما هو، فلا نتبرع أن نزيد فيه من عندنا، ولا ننقص منه ما هو موجود فيه، وإليكم يا سادة فهمنا الخاطئ لتلك القصة (ونترك لكم مهمة المفاضلة بين ما قالوا هم وما نفتري نحن):
لقد تحدث الله عن غراب واحد، فلا أظن أن من الحكمة أن نزيدهم من عندنا غراباً آخر لا لشيء وإنما لنستطيع أن نفسر النص كما نريد، إننا نظن أن التفسير الأفضل والأكثر إقناعاً سيأتي عندما يكون هناك التزام بمفردات النص، ولكن كيف؟
رأينا: لندع الحديث هنا عن معنى الغراب، فلقد ظن كثير من الناس أن الغراب هو ذلك الطائر المعروف لديهم بسواده (والذي هو نذير شؤم عند الكثيرين منهم)، فحاولوا تفسير القصة بناء على ذلك الفهم، أقول لن أغوص في الحديث عن معنى مفردة الغراب هنا وسأكتفي بتصديق ظنكم للحظة لأطرح التساؤل المشروع التالي:
ماذا فعل الغراب حتى تعلم القاتل منه طريقة الدفن تلك؟
الجواب: لقد كان الغراب يبحث في الأرض، لا أكثر:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ
فما معنى أن يبحث الغراب في الأرض؟
إننا نظن – كما ظننتم- أن البحث في الأرض هو الحفر في الأرض، أليس كذلك؟
ولكن إن كان جل ما فعل الغراب هو البحث في الأرض، فكيف تعلّم القاتل من ذلك طريقة الدفن؟
الجواب: لا بد من طرح تساؤلات أخرى: لم يبحث الغراب في الأرض؟ أو متى يمكن أن يبحث الغراب في الأرض؟ أليس من الممكن أن الغراب كان يبحث عن الماء مثلاً؟ أليس من الممكن أن الغراب كان يبحث عن الطعام مثلاً؟ أليس من الممكن أن الغراب كان يريد قضاء حاجته (كما يفعل الناس عندما يذهبون إلى الخلاء، أو كما تفعل بعض القطط عندما تقضي حاجتها)؟ الخ.
هذه جميعها تصورات ممكنه، ولكن دعنا نركز أكثر على الموضوع نفسه، لو كان الغراب يبحث عن شراب أو عن طعام أو يريد قضاء حاجة، الخ. هل كان من الممكن أن يتعلم القاتل من فعلة الغراب تلك طريقة للتخلص من جثة أخيه بمواراتها بالتراب على الفور؟
الجواب، كلا، لا أظن أن القاتل كان يستطيع أن يستنبط من ذلك الفعل حاجته إلى دفن جثة أخيه في التراب (وحتى لو فعل فلا نجد في النص نفسه ما يدلنا على أن القاتل قد بذل جهداً ليتفكر في ما فعل الغراب ثم يستنتج من تلقاء نفسه ما يجب عليه فعله). لذا، إننا نظن أن الغراب قد قام بأكثر من ذلك حتى فهم الرجل (القاتل) طريقة الدفن على الفور (ربما دون جهد ذهني كبير)، ولكن كيف؟
الجواب: لو راقبنا سلوك كثير من الحيوانات (وربما بعض الطيور لمن أراد أن يكون الغراب طيراً) لوجدنا أن بعض الحيوانات (خاصة المفترسة منها) تقوم بدفن الجثث في التراب، فغالباً ما يقوم الحيوان المفترس بدفن فريسته (التي اصطادها) في مكان ما ليعود إليها بعد حين ويستخرجها من التراب ليأكلها عند الحاجة، وغالباً ما يقوم الحيوان المفترس بإخراج الجثة التي دفنها في التراب بعد حين. لذا فإننا نرى أن الغراب (وهو غراب واحد) قد قام بواحدة من هذين السناريوهين حتى تعلم ولد آدم (القاتل) طريقة الدفن على الفور:
1. إننا نظن أن القصة كانت على تلك الشاكلة، فالغراب (كحيوان مفترس) كان يملك جثة افترسها، فقام بدفنها في التراب ليعود إليها بعد حين، وما أن رأى ابن آدم طريقة الغراب في دفن تلك الجثة حتى تعلم الدرس على الفور
2. وربما يكون السيناريو الآخر على نحو أن الغراب (الحيوان المفترس) كان قادماً من بعيد لا يحمل جثة، فأخذ يبحث في الأرض (أي يحفر الأرض) حتى تمكن من استخراج جثة كان قد دفنها من ذي قبل، فما أن رأى ولد آدم ما فعل الغراب حتى تعلم الدرس على الفور.
ماذا ترون يا سادة؟!
مثال (2): الالتزام بمعاني الألفاظ كما تستنبط من كتاب الله نفسه لا كما نظنها نحن
ولا نقف عند هذا الحد بالحض على حمل النص على ما هو عليه دون إدخال غير مبرر من عند أنفسنا، فلا نتحدث عن غرابين اثنين في حين أن النص القرآني تحدث بصريح اللفظ عن غراب واحد كما بينّا في المثال رقم (1) السابق، حتى لا نقع في إشكالات يصعب بعدها الخروج من المأزق، لنزيد القول أننا يجب أن نفهم أيضاً الكلمات على حرفيتها، فلا نضيف فيها من عند أنفسنا، ولا نسقط عليها أفهاما ألفناها من عندنا كما سنبين في المثال رقم (2) بعد قليل، بل يجب استنباط معاني الألفاظ من كتاب الله نفسه، ومن ثم وجوب الوقوف عند تلك المعاني الحقيقية للمفردات، فلا نأخذ المعاني لمفردات القرآن العظيم كما يطيب لنا أن نفهمها، ولنقدم المثال التالي للتدليل على صحة هذا الاعتقاد، قال تعالى:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمً (24)الأحزاب
فالآية الكريمة تؤكد أن الله قد يعذب المنافقين أو قد يتوب عليهم إن هو شاء، أليس كذلك؟
فكيف إذن يمكن أن نوفّق بين ما جاء في هذه الآية الكريمة وقول الحق عن المنافقين في قوله تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)الفتح
أو قوله تعالى:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)النساء
السؤال: كيف يمكن أن نوفّق بين ما جاء في آية الأحزاب باحتمالية أن يتوب الله على المنافقين، وما جاء في آيتي الفتح والنساء بتأكيد وقوع العذاب على المنافقين؟
إن هذا السؤال يدعونا إلى تدبر مفردات الآيات الكريمة جيداً وأن لا نحملها على المعاني المألوفة لدينا (والتي غالباً ما تكون مغلوطة). ففهم الآية يتطلب الوقوف عند معانيها الحقيقية، ولكن كيف؟
غالباً ما حمل الناس (وخاصة العامة منهم) الآية الكريمة التي تؤكد وجود المنافقين في الدرك الأسفل من النار على أنها دليل على شدة العذاب الذي سيقع عليهم في النار بعد يوم الحساب، حتى ذهب بعضهم إلى الظن بأن عذاب المنافقين قد يكون أشد من عذاب الكفار أنفسهم (ما دام أنهم في الدرك الأسفل من النار)، ونحن إذ لا ننفي أو نؤكد مثل هذا الظن إلا أننا سـ نتساءل: كيف يمكن الزعم بأن عذاب المنافقين هو الأشد (لوجودهم في الدرك الأسفل من النار) والله نفسه يتحدث عن عذاب آل فرعون – على سبيل المثال- على النحو التالي؟
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
فلا أظن أن آل فرعون كانوا من المنافقين، ولكنهم كانوا كافرين ظالمين، أليس كذلك؟
وكيف يمكن أن نفهم أن عذاب المنافقين هو الأشد والله يقول عن عذاب الكافرين بأنه الأشد في الآية الكريمة التالية؟
ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
وكيف يمكن أن نتقبل فكرة أن عذاب المنافقين هو الأشد (لأننا فهمنا ذلك من وجودهم في الدرك الأسفل من النار)، ونحن نعلم كيف توعّد الله أصحاب المائدة إن هم كفروا؟
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ
المائدة (115)
إنّ الخروج من مثل هذه التساؤلات بحلول مرضية يتمثل – في رأينا- في تبني منهجية بحثية بسيطة تتلخص في عدم إقحام النص بأفهام من عند أنفسنا لا يدعمها النص القرآني نفسه.
لقد أخطأ الكثيرون – في رأينا- عندما ظنوا أن الدرك الأسفل هو أشد العذاب، فلا أعرف لِمَ ربط كثير من الناس الوجود في الدرك الأسفل من النار مع فكرة العذاب الأشد، فهل لو كنت أنت في الطابق الأرضي (أو تسوية البناية مثلاً)، هل يعني ذلك أنك في المكان الأسوأ؟ كلا، فقد يكون الدرك الأسفل (لنقل الطابق الأرضي تجاوزاً) أكثر آماناً من بقية الطوابق الأخرى خصوصاً إذا ما وقع خطب على البناية بأكملها[5].
المهم في الموضوع هو التأكيد على أن المنافقين (فهم على الأقل عندهم مثقال ذرة من إيمان) لن يتلقوا عذاباً أشد من عذاب الكافرين (وإن كان جميعهم سيعذب في نهاية المطاف)، ولكن يبقى التساؤل المشروع الذي انطلقنا منه وهو محط تفكيرنا في هذه المرحلة من البحث: إنْ كان المنافقون سيعذبون في نهاية الأمر، فكيف يؤكد الله احتمالية أن يتوب عليهم في قوله تعالى:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
الأحزاب (24)
إننا نؤكد أن فهم المفردات بمعانيها القرآنية سيخرجنا من مثل هذه التناقضات الظاهرة التي أوقعنا بها كثير من أهل العلم عندما لم يبيّنوها للناس، ولكن كيف؟
إننا نظن أن دراسة متأنية لمعنى مفردة العذاب (يُعَذِّبَ) ومفردة التوبة (يَتُوبَ) اللتان وردتا في الآية نفسها من السياقات القرآنية ستحل الإشكالية برمتها. وهو ما سنقحم أنفسنا فيه في الصفحات القليلة التالية. ولنبدأ بمفردة العذاب.
العذاب (يُعَذِّبَ)
إننا نفهم من السياقات القرآنية مجتمعة أنّ العذاب قد يحصل في الدنيا أو في الآخرة مصداقاً لقوله تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)آل عمران
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)التوبة
قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87)الكهف
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)السجدة
كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)القلم
وقد يصعب أحيانا التمييز إذا ما كان ذلك العذاب سيحصل في الدنيا أو في الآخرة أو في الحالتين معاً في بعض السياقات القرآنية:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا النساء 173
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا الفتح 6
قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الفتح 16
ولكن هناك سياقات قرآنية تتحدث عن العذاب الذي قد يحصل في الدنيا فقط:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ البقرة (49)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ الأنفال 33
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الأنفال 34
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ التوبة 14
إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ التوبة 39
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ التوبة 55
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ التوبة 85
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ النور (8)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ سبأ (14)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الأحقاف (24)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ المجادلة 8
وهناك سياقات أخرى تؤكد حصول العذاب في الآخرة:
ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ البقرة (85)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ البقرة (114)
خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ البقرة (162)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا النساء (56)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا الفرقان (69)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ غافر (49)
لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا الفتح 17
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ الغاشية (24)
فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ الفجر (25)
ويأتي العذاب مقترناً بالمغفرة، فهناك سياقات قرآنية تشير إلى أن العذاب المقترن بالمغفرة (أو الرحمة) مرتبطاً ارتباطاً لا انفكاك فيه مع المشيئة[6]:
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة 284
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ آل عمران 129
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ المائدة 18
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ المائدة 40
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا الإسراء 54
يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ العنكبوت 21
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الفتح 14
النتيجة رقم (1): العذاب قد يحصل في الدنيا وقد يحصل في الآخرة، فالله قد يوقع عذابه على فئة من الناس في الدنيا وسيعذب بعضهم في الآخرة
معنى التوبة في النص القرآني
إذا كان الحديث عن مفردة العذاب قد أوصلنا إلى نتيجة أن هناك عذاب في الدنيا وهناك عذاب في الآخرة، فماذا عن التوبة؟
افتراء من عند أنفسنا: لفهم معنى التوبة في السياقات القرآنية، فإننا نرى وجوب التميز بدايةً بين التوبة من جهة والمغفرة من جهة أخرى، فغالباً ما يخلط الناس (ربما عن غير قصد) بين التوبة والمغفرة، ظانين أنهما مفردتان لمعنى واحد، إلا أننا نرى أنهما مفردتان بمعنيين متشابهين ولكنهما مختلفين.
ولكن أين الدليل على ذلك؟ وكيف يمكن التمييز بينهما؟
الجواب: لقد اقترنت مفردة العذاب في السياقات القرآنية المتعددة تارة بالمغفرة كما في قوله تعالى:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وتارة أخرى بالتوبة كما في قوله تعالى:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
استناداً على ما جاء في هاتين الآيتين الكريمتين، فإننا نستطيع أن نزعم القول بأن أهل العلم (وبالتالي من يتبعهم من العامة) لم يميزوا كثيراً بين مفردتين رئيسيتين في النص القرآني وهما: التوبة والمغفرة، فلو سألت أحدهم سؤالاً مثل: ما الفرق بين أن يغفر الله لك أو أن يتوب الله عليك؟ لربما لا تجد عندهم تمييزاً واضحاً بين الحالتين. وهذا ما يدعونا إلى طرح السؤال نفسه بطريقة أخرى: هل التوبة هي المغفرة نفسها؟ وهل المغفرة هي التوبة نفسها؟ وإن كان هناك فرق بينهما، فما هو؟
الفرق بين التوبة والمغفرة
السؤال: ما الفرق بين أن يتوب الله علينا و أن يغفر الله لنا؟
الجواب: إننا نظن أن من أهم ما يميز التوبة عن المغفرة هو أن التوبة أمر يخص ما يمكن أن يحصل في الدنيا بينما تتعلق المغفرة بما يمكن أن تؤول إليه الأمور في الآخرة[7]
الدليل: لإثبات مثل هذا الظن فإننا بحاجة أن نتحدث عن مفردة العذاب التي غالباً ما اقترنت – كما ذكرنا سابقاً- بالتوبة تارة وبالمغفرة تارة أخرى في السياقات القرآنية، ثم نحاول ربط ذلك بالفرق بين التوبة والمغفرة في النص القرآني. منطلقين من الافتراض النظري التالي: إن اقترنت مفردة العذاب بالمغفرة يكون الحديث عن العذاب الذي سيكون في الآخرة، وإن اقترنت بالتوبة يكون الحديث عن العذاب الذي يمكن أن يقع في الدنيا.
المغفرة: الفرق بين الاستغفار والمغفرة
الاستغفار هو عمل يقوم به الإنسان ليكفّر عن ذنوبه التي ارتكبها من ذي قبل، ولكن مغفرة تلك الذنوب هو أمر خاص بالله وحده:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ آل عمران (135)
ونجد أن السياقات القرآنية تدعم ظننا بأن المغفرة هي حدث يحصل يوم القيامة:
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ الشعراء (82)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الصف (12)
النتيجة: الناس يستغفرون الله في الدنيا، ولكن الله قد يغفر لهم وقد لا يغفر لهم في الآخرة:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ التوبة (80)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ المنافقين (6)
التوبة: ما معنى أن يتوب الله علينا؟
رأينا: إننا نظن أن التوبة تحصل في الدنيا
لندرس معنى مفردة التوبة في نصّها القرآني، فلو أمعنا التفكر في آيات الكتاب الكريم التي تتحدث عن التوبة لوجدناه تتحدث عن عمل يحصل في الدنيا، فالناس يتوبون في الدنيا، والله يتوب على الناس في الدنيا
الدليل:
هناك سياقات قرآنية يصعب الحسم بشأنها، فلا نستطيع أن نجزم من هذه السياقات لوحدها أين يمكن أن تحصل التوبة:
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التوبة 106
لّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الأحزاب 73
ولكن – بالمقابل- هناك سياقات قرآنية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن التوبة ليست من أمر الآخرة، وإنما هي حدث يحصل في الدنيا، فلو تدبرنا السياقات القرآنية جميعها لوجدنا أن التوبة التي وردت فيها تخص عملاً يقوم به الإنسان في الدنيا، ولنقرأ بداية الآية الكريمة التالية من هذا المنظور:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء (17)
ولو تفقدنا جميع السياقات القرآنية التي وردت فيها مفردة التوبة لوجدنا هذا المعنى ظاهراً لا لبس فيه:
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 37
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 54
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 160
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ البقرة 187
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ آل عمران 89
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا النساء 16
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا النساء 146
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المائدة 34
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المائدة 39
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ۚ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ المائدة 71
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ الأنعام 54
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ الأعراف 153
فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ التوبة 5
فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ التوبة 11
لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ التوبة 117
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة 118
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هود 112
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ النحل 119
إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا مريم 60
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ طه 82
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ طه 122
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ النور 5
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ النور 31
إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الفرقان 70
وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا الفرقان 71
فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ القصص 67
أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ۚ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ المجادلة 13
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المزمل 20
النتيجة: التوبة التي وردت في جميع السياقات السابقة تخص عملاً يقوم به الإنسان في الدنيا، مصداقاً لقوله تعالى:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء (17)
ولا يتوقف النص القرآني عند هذا الحد، بل نجد الآية التي تليها مباشرة تؤكد انتفاء حصول التوبة عند حضور الموت أو بعد الموت:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا النساء (18)
والآن لنعود إلى الآية التي انطلقنا منها:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
الأحزاب (24)
لنقول أن العذاب قد يكون في الدنيا أو في الآخرة، ولكن كيف يمكن أن نحدد في كل سياق قرآني أي عذاب هو المقصود: عذاب الدنيا أم عذاب الآخرة؟
الجواب: إننا نظن أن تحديد ذلك يكون غاية في البساطة بعد هذا الطرح: فإن اقترنت مفردة العذاب بالمغفرة فذاك هو عذاب الآخرة، وإن اقترنت بالتوبة فذاك عذاب الدنيا.
لذا فإن النتيجة التي سنخلص إليها هي : ما دام أن العذاب قد اقترن بالتوبة في هذه الآية الكريمة قيد البحث (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، فذاك يعني أن العذاب المقصود في هذه الآية الكريمة هو عذاب الله الذي قد يوقعه على فئة من الناس في الدنيا، فيصبح معنى الآية الكريمة قيد البحث على النحو التالي:
الله قد يعذب فئة من الناس وهم المنافقون (في الدنيا) وقد يتوب عليهم (في الدنيا)
وينطبق نفس المنطق على الآيات الكريمة التالية:
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التوبة 106
لّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الأحزاب 73
فما دام أن هذه السياقات القرآنية تتحدث عن التوبة التي تحصل في الدنيا فإن العذاب في هذه الآيات الكريمة يخص عذاب الدنيا وليس عذاب الآخرة.
كيف يمكن ربط هذا الفهم بقوله تعالى:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا النساء (145)
لا شك أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن عذاب في الآخرة، لنخلص إلى النتيجة التالية. إن عذاب الله على المنافقين في الدنيا ليس حتمياً، فقد يعذبهم وقد يتوب عليهم، أما عذاب الله للمنافقين في الآخرة فهو حتمي إذا لم يتوبوا في الدنيا، ويصدق ظننا هذا قول الحق مكملاً الآية السابقة عن عذاب المنافقين في الدرك الأسفل، ولنعيدهما معاً لننظر إليهما بهذا المعنى الجديد:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) النساء
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) النساء
لقد قدمنا هذين المثالين (مثال الغراب) (ومثال مفردة التوبة) لنبين أن فهم النص القرآني لا يجب أن يبنى على غير النص القرآني نفسه، فلا نزيد على النص شيئاً غير موجود فيه، ولا ننقص منه شيئاً موجود فيه، ولا نسقط على الفاظ القرآني غير ما تحتمله من معاني يمكن استنباطها من النص القرآني نفسه.
وبمثل هذه المنهجية فإننا نجد أننا نستطيع قراءة الآيات التي تتحدث عن قصة لوط مع قومه وامرأته وبناته التي بدأنا بها بحثنا هذا، لننتهي - بحول الله وتوفيقه- إلى فهم القصة بطريقة جديدة (وإن لم تكن صحيحة)، المهم في نظرنا هو إفساح المجال للتفكر بهذه القضايا من منظور جديد يقلل من أفهام سابقة هي أقرب إلى الإسرائليات منها إلى حقيقة النص القرآني نفسه.
فنعود لنطرح السؤال نفسه: لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ظيوفه؟
هذا ما سنتناوله – بحول الله وتوفيقه في الجزء الثاني من هذه المقالة
فللحديث بقية
2 شباط 2012
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
[1] انظر تفسيرات العلماء عندما تحدثوا عن معاني الفرج ليتجنبوا الخوض عن المعنى الحقيقي خصوصاً في قوله تعالى:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ الأنبياء (91)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ التحريم (12)
[2] نقول أنه من المفترض أن يكون زوجها، وأن تكون هي زوجه، ولكنها في الحقيقة لم تكن زوجه ولكنها كانت امرأته فقط (للتفصيل حول الفرق بين الزوجة والمرأة انظر مقالتنا تحت عنوان ماذا ستفعل النساء في الجنة؟)
[3] تعرضنا في مقالة سابقة لمصير امرأة نوح وخلصنا إلى النتيجة التي مفادها أن امرأة نوح كانت قد ماتت قبل حصول الطوفان، لذا لا نجد لها ذكر في قصة الطوفان.
[4] للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان لماذا يدفن الناس موتاهم؟
[5] نرجو أن لا يفهم من كلامنا هذا أننا نحاول تشبيه جهنم بالبناية ذات الطوابق، ولكن جل ما نود التأكيد عليه هو أن الدرك الأسفل مكان معين في جهنم يكون مآل المنافقين، وذلك لأننا نفهم أن عذاب جهنم متفاوت مصداقاً لقوله تعالى:
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِنْ لَا تَعْلَمُونَ الأعراف (38)
[6] للتنفصيل حول معنى المشيئة في هذه السياقات القرآنية ندعو القارئ الكريم إلى قراءة سلسلة مقالاتنا تحت عنوان "هل لعلم الله حدود؟"
[7] كما يمكن أن تكون التوبة شاملة لكل ما فعل الإنسان بينما تكون المغفرة لعمل محدد بعينه، فالله يغفر لك ما فعلت عندما تستغفره، ولكن توقيت المغفرة يختلف عن توقيت التوبة، فالمغفرة من الله ستكون للناس في الآخرة بينما التوبة من الله على الناس تكون في الدنيا:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا النساء (64)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ هود (78)
قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ الحجر (71)
نتناول في هذا البحث سؤالاً غاية في الإثارة وهو: لماذا قدمّ لوط بناته بدلاً من ضيوفه يوم أن جاءه قومه يهرعون إليه؟
وقد جاء بحثنا هذا مدفوعاً بمشاهدة بسيطة تتمثل في أن الغالبية الساحقة من الناس درجوا على أفهام قديمة منعتهم عن طرح مثل هذه الأسئلة، إما للحرج الذي يمكن أن تسببه في حالة طرحها، أو لظنهم بصعوبة إيجاد التفسيرات المرضية لها، وكانت النتيجة أن سكت عنها العامة ورضي أهل العلم بما توافرلهم من تفسيرات أزماناً طويلة، فما وضعوها على طاولة البحث كثيراً. فقد وجدت أن مجرد طرح مثل هذا السؤال يثير عند الكثيرمن الناس الحنق والاحتقان، لدرجة أن النقاش – حتى في قاعة الدرس- يأخذ طابع الشخصنة (أي يصبح قضية شخصية وكأنها بحث في خصوصيات تصل إلى درجة المحرمات)، والتشكيك (ويكأن لسان حالهم يقول بأن الهدف من طرح مثل هذا التساؤل لا يعدو أكثر من قدح في كلام الله أوتشكيك في أفعال رسل الله).
ونحن نؤكد بأننا لا نثير هذه القضايا لمثل ما ظن كثير من الناس، وإنما لغرض العلم والبحث عن الحقيقة، فنحن طلاب علم ننشد المعرفة لا أكثر، وفي الوقت ذاته فإننا لا ندّعي بأن ما تحصل لنا من فهم أفضل مما كان عند من سبقونا، ولا نثير هذه القضايا لفتح باب الشبهات (كما يرغب الكثيرون أن ينعتونا)، ولكنّنا نثيرها لظننا أنه لا زال هناك متسع من المكان للنظر إلى هذه القضايا من زوايا جديدة قد تفتح (بحول الله وتوفيقه) أفاقاً جديدة من البحث والدراسة، خاصة لطلاب العلم الراغبين في الوصول إلى المعرفة الحقيقية، وممن لا يرضون أن تقف عجلة المعرفة عند أقدام أشخاص معينين.
أما بعد،
لعل أبرز التساؤلات التي سنقحم أنفسنا فيها هنا هي:
1. هل من المنطقي أن يقدّم نبي الله لوط بناته بدلاً عن ضيوفه؟
2. وإن كان كذلك، فلماذا فعل ذلك؟
3. ألم يكن يخشى أن يقبل القوم المبادلة؟
4. ألم يؤمر بأن يسر بأهله أجمعين قبل بزوغ شمس اليوم التالي؟
5. كيف سيهرب في الصباح الباكر مع كل أهله لو قبل القوم المبادلة؟
6. لماذا عرض على القوم مبدأ المبادلة ورسل الله (الموكلون بإيقاع العذاب على القوم) في بيته؟
7. الخ.
إذن، لنبدأ بالتساؤل الجوهري وهو: هل من المنطقي (أو لنقل الطبيعي) أن يقدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟
رأينا: لا، لا أظن أن من الفطرة السليمة أن يتقبل الرجل (أي رجل) التضحية ببناته بدلاً من ضيوفه، فلا أظن أن درجة الكرم يجب أن تصل بالإنسان أن يضحي بـ "عرضه" للحفاظ على كرامة ضيوفه. ولا أخال أن رجلاً منّا (نحن المسلمين) قد يفعل مثل ذلك، فلو أصبح أمامك الخيار على نحو أن تضحي بضيوفك أو ببناتك، فلا أخال أن أحداً يمكن أن يضحي بعرضه، أليس كذلك؟
أما السبب الآخر الذي استوقفنا طويلاً وأثار الريبة في نفوسنا (وبالتالي الرغبة في طرح السؤال على غيرنا) حول فعلة نبي الله لوط تلك فقد تمثل في توقيت التضحية بالبنات، ولتوضيح الفكرة دعنا نقدم السياق القرآني التالي من صورة الحجر الذي يصور لنا ما حدث أدق تصوير، لنطرح من خلاله بعد ذلك عدة تساؤلات حول دوافع لوط للتضحية ببناته، قال تعالى:
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
*** *** ***
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
*** *** ***
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) الحجر 57-71
فلو أشغلنا التفكير في هذا السياق القرآني، لربما استطعنا أن نقسمه إلى عدة مراحل:
1. مرحلة وجود رسل الله في ضيافة إبراهيم وإخبارهم نبي الله بهلاك قوم لوط ونجاة لوط وأهله (إلا امرأته)
2. مرحلة وصول الملائكة بيت لوط وإخبارهم إياه بقضاء الله بهلاك القوم وضرورة أن يسر بأهله قبل بزوغ شمس اليوم التالي
3. مرحلة قدوم قوم لوط طالبين الضيوف وعرض لوط بناته بدلاً عن ضيوفه
المرحلة الأولى: خطاب الملائكة مع إبراهيم بخصوص لوط قبل ذهابهم إلى قوم لوط (الآيات 57-60):
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
إن ما يهمنا في هذا الجزء من الخطاب القرآني هو إثارة تساؤل واحد وهو: لماذا أخبر الملائكةً إبراهيمَ بهلاك زوجة لوط بشكل خاص؟ فلقد وردت القصة في سياق قرآني آخر يبين فيه إخبار الملائكة لإبراهيم بهلاك امرأة لوط مع الهالكين:
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
لو دققنا في الحوار الذي حصل بين إبراهيم من جهة والملائكة من جهة أخرى بخصوص لوط وقومه لوجدنا فيه شيئاً من الغرابة، فإبراهيم يذكّر الملائكة بأن تلك القرية التي قضى الله بهلاكها فيها لوط:
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) هود
فلماذا يذكّر إبراهيم رسل الله (لا بل ويجادلهم) بلوط وقومه؟
والأغرب من مجادلة إبراهيم هو – في رأينا- رد الملائكة على استفسار إبراهيم:
قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
إن ما يثير حفيظتنا (وبالتالي دافعيتنا للتفكر) في رد الملائكة هو إخبارهم إبراهيم بهلاك امرأة لوط على وجه التحديد مع الهالكين. ألم يكن يكفي – نحن نتساءل- أن ينتهي الخطاب عند قولهم "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا" وكفى؟ فلماذا تبرع الملائكة لإبراهيم بمعلومات إضافية تخص امرأة لوط على وجه التحديد، فزادوا القول "لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ"، والآن لنطرح التساؤل السابق نفسه مرة أخرى: لماذا يخبر الملائكةُ إبراهيمَ خبرَ هلاك امرأة لوط؟
رأينا: إننا نظن أنه كان يكفي الملائكة أن ترد على إبراهيم بالقول: "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا" وكفي لو لم يكن هناك حاجة (وحكمة عظيمة) من وراء إخبارهم إياه بقصة امرأة لوط.
النتيجة الأولى: لقد كان خبر امرأة لوط قد وصل إبراهيم الذي يسكن بعيداً عن لوط وقومه (تدبر عزيزي القارئ هذه الفكرة جيداً حتى نعود إليها لاحقاً)
المرحلة الثانية: وصول الملائكة بيت لوط وتحاورهم معه وإخبارهم إياه بما ستؤول إليه الأمور:
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
فها هم الملائكة يخبرون لوطاً بأمرهم (فهم رسل ربه) وهدفهم من هذه الزيارة:
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
وإخبارهم إياه بما يجب عليه أن يفعل هو وأهله:
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
والنتيجة التي ستؤول إليها الأمور في نهاية زيارتهم هذه:
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
النتيجة الثانية: لوط يعلم علم اليقين أن القوم لا محالة هالكين
المرحلة الثالثة: قدوم القوم طالبين الغلمان وعرض لوط عليهم مبدأ المبادلة:
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
ونزيد على ذلك بالقول أن طمأنة الملائكة لوطاً قد حصلت مرة أخرى يوم أن جاءه قومه يهرعون إليه:
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
النتيجة الثالثة: لوط يعرض مبدأ المبادلة وهو يعلم مصير القوم ومأمور بأن يسر بأهله بجنح من الليل
وهنا نطرح التساؤل الذي لا مفر منه وهو: لماذا يقدّم لوط بناته لقومه وقد أخذ من الملائكة تعهداً ربانياً بهلاك القوم أجمعين ومأمور بأن يسر بأهله جميعاً بقطع من الليل؟ ألم يكن لوط يثق بكلام رسل ربه؟
رأينا: ما كان لوط سيقدم بناته فداء لضيوفه بعد أن علم بخبر رسل ربه لو لم يكن من وراء ذلك قصة كبيرة وحكمة عظيمة، تتطلب أن نجهد أنفسنا بالبحث عنها. فما هي تلك القصة؟
رؤية جديدة
سنقدم في هذا الجزء رؤيتنا الخاصة بقصة لوط مع قومه وامرأته وبناته، محاولين استنباط الأحداث من السياقات القرآنية فقط، جاهدين قدر المستطاع الابتعاد عن موروثات يهود وتحريفاتهم التي نظن أن جزءاً كبيراً منها قد وجد طريقه إلى الفكر الإسلامي يوم أن عجز علماء الإسلام تقديم التفسيرات المرضية لمثل هذه القصص القرآنية لأتباع هذا الفكر الديني. وهنا لابد أن نؤكد أكثر من مرة أن ما سنقدمه لا يعدو أكثر من اجتهاد قابل للقبول والرد، فهو بكل تأكيد ليس أكثر مما نظن أنه موجود في كتاب الله. ونسأل الله أن يهدينا سبيله فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه غير الحق، إنه هو السميع المجيب.
أما بعد،
إننا نظن أن الخطاب بين لوط من جهة وقومه من جهة أخرى يوم جاءوه يهرعون إليه كان يكتنفه الغموض، فكان الخطاب بينه وبين قومه يجرى على شكل شيفرة من الألغاز تتطلب أن تفك أسرارها، فكان من وراء كل كلمة – نحن نرى- لغزا كبيرا يحتاج إلى تفصيل إن نحن أردنا أن نفهم حقيقة ما جرى في تلك الحادثة، لا بل وربما نستطيع (بحول الله وتوفيقه) أن نصل من خلال ذلك إلى ما يمكن أن يساعدنا في حل ألغاز أخرى (أو على الأقل تناولها من زوايا جديدة) غاية في الأهمية في الفكر الديني، سنتناول منها بعد أن نخلص من هذا المبحث مبحثين آخرين وهما:
1. لماذا أسكن إبراهيم زوجته وطفله في واد غير ذي زرع؟
2. لماذا قلّب محمد وجهه في السماء حتى تحققت رغبته في تغيير القبلة التي كان عليها فترة من الزمن؟
قصة لوط مع قومه وامرأته وبناته
رأينا: إننا نظن أن مفتاح الإجابة على كل التساؤلات السابقة حول قصة لوط مع قومه وامرأته وبناته يكمن في كلمة واحدة ألا وهي الخيانة.
خيانة نساء الأنبياء
ما هي كيفية خيانة نساء الأنبياء؟
هذا - بلا شك - موضوع غاية في الخطورة في الطرح، لما يمكن أن يترتب عليه من أفهام مغلوطة عند كثيرين ممن لا يجيدون سوى اتهام الآخرين بالإلحاد والكفر والزندقة، وهم الذين لا يكلّفون أنفسهم عناء القراءة ومحاولة الفهم (ويكتفون بما يمكن أن ينقله لهم كاذب عن كاذب)، ربما لظنّهم أن العلم لا يمكن أن يعثر عليه إلا في بطون الكتب الصفراء التي اهترأت أوراقها ومات مؤلفوها منذ قرون طويلة. لذا ما كنا لنتناول مثل هذا الموضوع لولا ظننا أن لدينا ما يمكن أن نقدمه لتسليط الضوء على القضية من زوايا جديدة قد تسعف في تفسير كثير من الإشكالات، ولنبدأ بالخيانتين الأشهر التي تحدث عنهما القرآن بصريح اللفظ وهما خيانة امرأة نوح وخيانة امرأة لوط في قوله تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ التحريم (10)
فلقد تطرقنا في مقالات سابقة لنا عن قضية خيانة امرأة نوح، وركّزنا على الزعم بأن امرأة نوح قد خانت نوحا بفرجها، وكانت نتيجة تلك الخيانة –في ظننا- ذلك الولد الذي قال الله عنه بصريح اللفظ القرآني أنه ليس من أهل نوح:
وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
ومن أراد التفصيل في هذا الموضوع فإننا ندعوه لقراءة مقالتنا تحت عنوان (من هي زوجة موسى؟ وسفينة نوح ونظرية تكون القارات، وثلاثية المرأة). إن ما يهمنا القول هو حصول الخيانة الزوجية من قبل امرأة نوح، وبالمقابل فإن خيانة امرأة لوط قد أثبت بصريح اللفظ القرآني وقرنت بخيانة امرأة نوح في الآية نفسها:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
وجاء الحديث عن خيانة امرأة نوح وامرأة لوط ليقابل على النقيض منه طهر امرأة فرعون ومريم بنت عمران:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
ولو دققنا النظر في الآية التي تتحدث عن مريم لوجدنا الحديث واضحاً خاصاً طهارة الفرج على وجه التحديد " الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا" لنخلص إلى النتيجة التي لا مفر منها (مهما حاول أهل العلم ليّ عنق النص)[1]: إنها طهارة الفرج مقابل الخيانة الزوجية.
لماذا هذا الطرح؟
غالباً ما كان الاحتجاج لدى أهل العلم قائماً على ظنهم باستحالة أن تقوم امرأة نبي بخيانة النبي خيانة الفرج، وهنا نطرح قضيتين اثنتين لنرد زعمهم ذاك، وهما:
1. أيهما أعظم ذنباً – يا سادة- الزنا أم الكفر؟ لماذا يتقبل علماؤنا الإجلاء أن تكون زوجة النبي كافرة ولا يتقبلون فكرة أن تكون زانية، ألم يثبت الله في الآية نفسها أنّ أولئك النساء اللواتي وقعن في خيانة أنبياء الله في نار جهنم وبئس المصير في الآية القرآنية التي تحدثت عن خيانتهما:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
أليس في ذلك تساؤل مشروع؟!
2. غالباً ما سوق كثير من أهل العلم الإدعاء بأن خيانة امرأة لوط كانت من باب أنها أسرت للقوم (أي أفسدت للقوم) خبر الضيوف في بيت مَنْ مِنَ المفترض أن يكون زوجها (وهو نبي الله لوط)[2]، فنقول لهؤلاء العلماء: ألا ترون – يا سادة- أنكم تنعتون المرأة بتهمة أشد قسوة من جريمة خيانة الفرج (أي الخيانة الزوجية نفسها)، ولكن كيف؟ ألا ترون يا سادة أن المرأة – حسب ظنكم- لم تقع في فاحشة الزنا فحسب (ربما بسبب ضعف في الإرادة أو شهوة عابرة)، ولكنها كانت تقوم بتسويق الفاحشة، فكيف بامرأة نبي – نحن نتساءل فقط- أن تذهب إلى قوم تعلم فعلهم للمنكرات (اللواط) لتخبرهم بأن في بيت زوجها ما يطلبون (من الغلمان)؟ أيهما أشد وأعظم ذنباً أن تقع المرأة في الفاحشة كما نظن نحن أم أنها كانت تسوق وتروج للفاحشة كما زعمتم (عن غير قصد بالطبع). فنقول لكثير من علمائنا الإجلاء ما يلي: إن كنا نحن نظن أن المرأة قد وقعت بالخيانة (الخيانة التي تحدث عنها النص القرآني بلا زيادة أو نقصان ولا تحريف)، فأنتم قد ظننتم بأن المرأة كانت تروج للرذيلة (ولعمري فإن إجرامنا أكثر رأفة بالأنبياء من عملكم):
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ سبأ (25)
رد على من ظن بأن لوطا قدّم بناته للقوم من أجل الزواج بهن
كثير ما ردد أهل العلم القول بأنّ لوطا قد قدّم بناته للقوم ليتزوجوا بهنّ، فهم يظنون أنّ لوطا لم يقدم بناته للقوم ليقترفوا فاحشة الزنا، فلا يعقل أن يقدم نبي الله بناته للقوم ليقترفوا الفاحشة، فهم يحاولون تبرير ما فعل نبي الله عندما ضحّى ببناته لإنقاذ ضيوفه، أليس كذلك؟
رأينا: إن هذا منطق جميل ومقبول لولا أن النص القرآني نفسه لا يدعم مثل هذا الفهم، ولكن لماذا؟
الجواب: لو دققنا النظر مليّا في النص لوجدنا أن القوم قد جاءوا لوطاً وهم "يهرعون إليه"، أليس كذلك؟ ألا يدلنا هذا النص القرآني على أن العدد كان كبيراً جداً (فمفردة القوم تدل على الكثرة، ومفردة يهرعون تزيد الطين بله، فهم بالإضافة للكثرة متلهفين للظفر بالغنيمة وعلى عجلة من أمرهم)، ولا أظن أن من جاء هارعاً (إن صحّ القول) يمكن أن يعطي نفسه فرصة التفكر:
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) الصافات 69-71
لنخلص إلى نتيجة أن القادمين كانوا كثيرين في العدد (فهم قوم)، متعجلين أمرهم، لا يمكن أن يعطوا أنفسهم فرصة التدبر والتعقل (يُهْرَعُونَ)، فليس فيهم رجل رشيد (على الأقل مثلي):
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ هود (78)
وهنا نبادر القارئ الكريم بالتساؤل التالي: كم كان عدد بنات لوط؟ هل كان عند لوط من البنات ما يكفي القوم؟! وإن لم يكن عنده العدد الكافي، فمن من القوم سيتزوج بهنّ؟! ومن من القوم سيرضى أن يرجع خال اليدين: لا يظفر بالغلمان ولا بنصيبه من بنات لوط؟!
النتيجة: لا أظن أن لوطا كان سيضحي ببناته لكل القوم بهذه الطريقة وهو يعرف كثرة عددهم!
ثم، ماذا سيفعل لوط لو أن القوم قبلوا المبادلة؟ فهل كان لوط سيضحي ببناته (اللاتي سيبعثهن مع القوم إن هم قبلوا المبادلة) وهو يعلم أن القوم لا محالة هالكين في الصبح القريب؟ فأين ستذهب بنات لوط لو قبل القوم عرض لوط وأخذوا البنات بدلاً من الضيوف؟ وكيف سيتصرف لوط في الصباح الباكر وهو مأمور أن يسر بأهله جميعاُ في جنح الليل قبل بزوغ فجر اليوم التالي؟ فهل كان لوط سيذهب يبحث عن بناته عند القوم ليهرب بهن خلسة في جنح الظلام قبل بزوغ فجر الغد الموعود؟ ألم يكن يعلم أنه ستكون بناته في هيئة وحال غير تلك التي كن عليها لحظة أن سلمهنّ بيديه للقوم؟!
هذه الأسئلة (وغيرها) تثير بمجملها الشك حول الهدف الحقيقي الذي قدّم لوط بناته للقوم ليكف أذى قومه عن ضيوفه. لذا فإننا سنحاول النبش في مفردات هذه الآيات الكريمة من جديد، باحثين عن السبب الحقيقي الذي دفع بلوط لتقديم بناته فداء لضيوفه، سألين الله أن يأذن لنا بشيء من علمه، إنه هو العليم الخبير.
تأويل من عند أنفسنا
بادئ ذي بدء، لا بد من ربط الأمر برمته مع زعمنا الذي افترينا من عند أنفسنا والذي يدور حول خيانة امرأة لوط التي تحدثنا عنه سابقاً، فامرأة لوط كانت – في نظرنا- خائنة الفرج، فلقد ارتكبت الفاحشة مع غير زوجها، لذا فإننا سنتجرأ على البوح بالافتراء التالي (راجين أن تتسع صدوركم لقبول تخريفاتنا ولو بعضاً من الوقت لنرى ما ستؤول إليه الأمور لاحقاً):
الإفتراء: لا نستغرب أن تكون بنات لوط ليسوا من صلبه بالضبط كما زعمنا عند الحديث عن ابن نوح
فكما كان ابن نوح نتاج الخيانة الزوجة فإننا لا نستبعد احتمالية أن تكون بنات لوط نتاج الخيانة الزوجية، فكما ظن نوح أن ذلك الولد هو ابنه فنادى ربه قائلاً:
وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
جاء الرد الإلهي الفوري:
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) هود
ولو دققنا النظر ملياً في الرد الإلهي لوجدنا الله ينهى نوح عن السؤال عن ما ليس لنوح علم به:
فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
وهنا ربما نصل إلى نقطة مفصلية في البحث تتمثل بالتساؤل التالي: إذا كان نوح على غير علم بخيانة امرأته (ويؤكد هذا الظن قول الحق فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، فهل كان لوط على غير علم بخيانة امرأته؟
رأينا: كلا وألف كلا، لقد كان لوط على يقين بخيانة امرأته، فهو لا يحتاج من أحد أن يؤكد له خبر الخيانة تلك، فخبر امرأت لوط كان قد وصل قوم إبراهيم لدرجة أن الملائكة أخبرت إبراهيم – كما شرحنا سابقاً- بأن أهل لوط ناجين ولكن امرأته من الهالكين، ولا نجد أن إبراهيم قد جادل الملائكة بعد أن جاءه التطمين الإلهي على لسان رسل الله بنجاة لوط وأهله أجمعين باستثناء امرأة لوط التي ستكون من الهالكين)، ولنقرأ النص القرآني مرة أخرى:
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
النتيجة: لقد كانت خيانة امرأت لوط غير خافية على القوم ويعلم لوط نفسه حقيقة خيانتها، وكان خبرها قد وصل إبراهيم نفسه لدرجة أن إبراهيم لم يبد غرابة من ذلك.
وسنرى بعد قليل كيف يمكن أن تفسر هذه النتيجة – التي افتريناها من عند أنفسنا- الحكمة من تقديم لوط بناته بدلاً من ضيوفه.
ولكن قبل ذلك، ربما يعترضنا البعض بالقول: دعنا نصدقك القول ولو للحظة بأن البنات لم يكنّ من صلب الرجل (لوط)، فهو إذاً يقدم البنات للقوم لأنهن لسن من صلبه، هل هذا ما تريد أن تقوله؟ ولكن ألا ترى أنك تتهم الرجل بأن لا رأفت ولا إنسانية فيه؟ كيف بنبي الله (لوط) أن يضحى ببنات بريئات (حتى لو كانت والدتهم خائنة) من أجل أن يدفع الأذى عن ضيوفه؟ لقد كان الأولى بنبي الله أن يدافع عن هؤلاء البنات كما يدافع عن ضيوفه؟
فنرد على هذا التساؤل المشروع جداً بالقول: لماذا لم يحاول لوط الدفاع عن عرضة؟ لقد كان الأولى بلوط أن يموت دفاعاً عن عرضه إن كان فعلاً يريد إنقاذ ضيوفه؟ ثم لننظر كيف كانت ردة فعل الرجل بعد أن رفض القوم طلب المبادلة:
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
فردة فعل لوط لا تشير بأن الرجل قد بذل أدنى درجات المقاومة الجسدية للدفاع عن ضيوفه أو عن بناته، وجل ما فعل كان أمنية بتوافر القوة لديه أو أن يأوي إلى ركن شديد.
ويأتي التطمين الإلهي على لسان رسله مرة أخرى بأن القوم لن يصلوا إليه، وأن امرأته لا محالة مع الهالكين، أليس كذلك؟
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
وهنا نثير تساؤلاً آخر وهو: لِمَ لم يبد لوط أدنى درجات الاستغراب على مصير امرأته؟ لم لم يجادل لوط الملائكة بشأن امرأته؟ فنحن نعلم أن الرجل – قد لا يستغني بهذه السهولة عن زوجته، ولنتذكر قصة نوح مرة أخرى، ألم ينادي نوح ربه بشأن ابنه، فلم لم ينادي لوط ربه بشأن امرأته؟[3]
رأينا: إننا نظن أن نوحا لم يكن لديه علم بشأن خيانة امرأته (وجل ما كان لديه هو شك بخيانتها، فنادى ربه بطريقة مثيرة كان الهدف منها هو التحقق من ظنه بخصوص نسب ولده فقال منادياً ربه:
وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ هود (45)
فجاءت الحقيقة التي لا جدال فيها من ربه مباشرة:
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ... هود (46)
وفي الوقت ذاته يأتيه الزجر الإلهي أن لا يتمادى في السؤال عن ما ليس له به علم مكملاً الآية نفسها:
... فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هود (46)
(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان من هي زوجة موسى، وسفينة نوح ونظرية تكون القارات وثلاثية المرأة)
أما لوط، فقد كان يعلم خبر خيانة زوجته، لذا فإننا نرى أنه لم يكن بحاجة إلى دليل على ذلك، فخبرها كان – كما ذكرنا سابقاً- قد وصل إبراهيم، فلم يجادل الملائكة بشأنها ولم ينادي ربه فيها قبل وقوع العذاب على القوم ولا بعد وقوعه.
النتيجة (1): لو كانت البنات من صلب لوط لما تجرأ على التضحية بهن من أجل إنقاذ ضيوفه بهذه السهولة
النتيجة (2): فحتى لو كن من غير صلبه، فلا أظن أن لوطا سيأخذ البنات بذنب والدتهن، فهو يعلم أن كل نفس بما كسبت رهينة، لذا فهو لن يزر وازرة وزر أخرى
السؤال: لماذا قدّم نوح البنات فداءً للضيوف إذاً؟
الجواب: لمحاولة الوصول إلى إجابة لهذا التساؤل، نحن مدعوون لقراءة النص مرة أخرى مركزين على الألفاظ كما وردت، فلا نحاول أن نزيد عليها ولا أن ننقص منها كما يفعل الكثيرون عندما يحاولون إقحام النص القرآني بما ليس فيه.
استراحة منهجية
مثال رقم (1)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ المائدة (27)
سنقدم هذا المثال لتبيان منهجيتنا في البحث الذي تتمثل بالالتزام بحرفية النص، منتقدين في الوقت ذاته منهجية من سبقونا خصوصاً من كانوا يقحمون النص القرآني بما ليس فيه، وهم يظنون أنهم بفعلتهم تلك يخدمون النص ويفسرونه على حقيقته، ونحاول هنا أن نبيّن أن ذلك الإقحام لا يخدم النص القرآني في شيء، بل على العكس فهو يشوّه الصورة الحقيقية التي أرادها الله بكلماته، فكتاب الله كامل لا نقص فيه ولا زيادة عليه، فإقحام النص بما ليس فيه يؤدي إلى العبث فيه (لا بل وتحريفه)، الأمر الذي يسبب – كما سنرى بعد قليل- فقدان الثقة بتفسيرات العلماء لحظة أن تكون هناك جرأة في طرح السؤال (حتى وإن لم يكن هناك إجابة بديلة).
قصة الغراب
إن أشهر ما انتشر من تفسير علمائنا الأجلاء لقصة ابني آدم مع الغراب كان على النحو التالي:
يقتل واحد من ولدي آدم أخيه، لا يعرف القاتل ما يفعل بجثة أخيه، يبعث الله غرابين فيقتل أحدهما الأخر ويدفنه بالتراب، فيتعلم ولد آدم كيفية الدفن للميت (أو لجثة الميت)[4]، أليس هذا ما تناقل (على الأقل العامة من الناس) عن خبر تلك القصة؟ (انظر تفاسير القرآن الكريم المختلفة)
السؤال: إنّ جل ما نود إثارته هو سؤال واحد، أظن أنه كفيل بإلقاء ظلال الشك على كل ما قاله أسيادنا ومشايخنا العلماء، حتى وإن لم يكن لدينا تفسير مرض لتلك الحادثة يكون بديلاً عن ما ظنوا.
السؤال: النص القرآن يتحدث عن غراب واحد، فمن أين جاء أسيادنا العلماء بالغراب الثاني؟
ولننظر إلى الآية الكريمة جيداً:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
إذاً، الله يبعث غراباً واحداً، وولد آدم (القاتل) يتعلم من هذا الغراب، فأين يا ترى الغراب الثاني الذي تحدث عنه أسيادنا (وتاج رؤوسنا، باللسان المصري)؟!
وهنا ستنهمر التساؤلات الأخرى بغزارة جريان الأنهار في أيام الفيضان، فلنطرح التساؤلات الأكثر غرابة: كيف سيعلّم غراب واحد القاتل كيفية الدفن؟ وكيف فهم القاتل الدرس وتعلم طريقة الدفن من غراب واحد بعثه الله ليبحث في الأرض؟ وماذا فعل ذلك الغراب حتى تعلم القاتل طريقة الدفن على الفور؟ و ... و... الخ؟
إن جل ما هو موجود في النص القرآني حول هذا الموضوع هو قول الحق:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ
فلا نجد إلا حديثا عن غراب واحد (دقق ملياً بالضمائر في يَبْحَثُ و لِيُرِيَهُ)، فلو كان هناك غرابان (كما جاء في كثير من تفاسير من سبقونا) لوجدنا ذلك بصريح اللفظ (أو على الأقل باستخدام الضمائر كأن يقول مثلاً يبحثان بدلا من يَبْحَثُ، و ليرياه بدلاً من لِيُرِيَهُ)، وهكذا.
وهنا سيقاطعنا الكثير بالقول: إذاً كيف حدث أن تعلم القاتل الدرس من غراب واحد؟
إن أهم ما نريد إيصاله للناس هو أن الفكر الذي ساد قروناً من الزمن يمكن دحضه بسؤال واحد لو أعطينا لأنفسنا فرصة التفكر بشيء من الحرية، أليس كذلك؟
أما ما يخص الإجابة على سؤال صاحبنا عن كيفية حصول القصة، فإننا نرى أن بامكاننا الآن (وعلى عجل) أن نقدم تصورنا للقصة، ولربما يكون أفضل (وإن لم يكن صحيحاً) من كل تصورات من سبقونا، وجلّ ما يتطلب منا الأمر هو الالتزام بالنص كما هو، فلا نتبرع أن نزيد فيه من عندنا، ولا ننقص منه ما هو موجود فيه، وإليكم يا سادة فهمنا الخاطئ لتلك القصة (ونترك لكم مهمة المفاضلة بين ما قالوا هم وما نفتري نحن):
لقد تحدث الله عن غراب واحد، فلا أظن أن من الحكمة أن نزيدهم من عندنا غراباً آخر لا لشيء وإنما لنستطيع أن نفسر النص كما نريد، إننا نظن أن التفسير الأفضل والأكثر إقناعاً سيأتي عندما يكون هناك التزام بمفردات النص، ولكن كيف؟
رأينا: لندع الحديث هنا عن معنى الغراب، فلقد ظن كثير من الناس أن الغراب هو ذلك الطائر المعروف لديهم بسواده (والذي هو نذير شؤم عند الكثيرين منهم)، فحاولوا تفسير القصة بناء على ذلك الفهم، أقول لن أغوص في الحديث عن معنى مفردة الغراب هنا وسأكتفي بتصديق ظنكم للحظة لأطرح التساؤل المشروع التالي:
ماذا فعل الغراب حتى تعلم القاتل منه طريقة الدفن تلك؟
الجواب: لقد كان الغراب يبحث في الأرض، لا أكثر:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ
فما معنى أن يبحث الغراب في الأرض؟
إننا نظن – كما ظننتم- أن البحث في الأرض هو الحفر في الأرض، أليس كذلك؟
ولكن إن كان جل ما فعل الغراب هو البحث في الأرض، فكيف تعلّم القاتل من ذلك طريقة الدفن؟
الجواب: لا بد من طرح تساؤلات أخرى: لم يبحث الغراب في الأرض؟ أو متى يمكن أن يبحث الغراب في الأرض؟ أليس من الممكن أن الغراب كان يبحث عن الماء مثلاً؟ أليس من الممكن أن الغراب كان يبحث عن الطعام مثلاً؟ أليس من الممكن أن الغراب كان يريد قضاء حاجته (كما يفعل الناس عندما يذهبون إلى الخلاء، أو كما تفعل بعض القطط عندما تقضي حاجتها)؟ الخ.
هذه جميعها تصورات ممكنه، ولكن دعنا نركز أكثر على الموضوع نفسه، لو كان الغراب يبحث عن شراب أو عن طعام أو يريد قضاء حاجة، الخ. هل كان من الممكن أن يتعلم القاتل من فعلة الغراب تلك طريقة للتخلص من جثة أخيه بمواراتها بالتراب على الفور؟
الجواب، كلا، لا أظن أن القاتل كان يستطيع أن يستنبط من ذلك الفعل حاجته إلى دفن جثة أخيه في التراب (وحتى لو فعل فلا نجد في النص نفسه ما يدلنا على أن القاتل قد بذل جهداً ليتفكر في ما فعل الغراب ثم يستنتج من تلقاء نفسه ما يجب عليه فعله). لذا، إننا نظن أن الغراب قد قام بأكثر من ذلك حتى فهم الرجل (القاتل) طريقة الدفن على الفور (ربما دون جهد ذهني كبير)، ولكن كيف؟
الجواب: لو راقبنا سلوك كثير من الحيوانات (وربما بعض الطيور لمن أراد أن يكون الغراب طيراً) لوجدنا أن بعض الحيوانات (خاصة المفترسة منها) تقوم بدفن الجثث في التراب، فغالباً ما يقوم الحيوان المفترس بدفن فريسته (التي اصطادها) في مكان ما ليعود إليها بعد حين ويستخرجها من التراب ليأكلها عند الحاجة، وغالباً ما يقوم الحيوان المفترس بإخراج الجثة التي دفنها في التراب بعد حين. لذا فإننا نرى أن الغراب (وهو غراب واحد) قد قام بواحدة من هذين السناريوهين حتى تعلم ولد آدم (القاتل) طريقة الدفن على الفور:
1. إننا نظن أن القصة كانت على تلك الشاكلة، فالغراب (كحيوان مفترس) كان يملك جثة افترسها، فقام بدفنها في التراب ليعود إليها بعد حين، وما أن رأى ابن آدم طريقة الغراب في دفن تلك الجثة حتى تعلم الدرس على الفور
2. وربما يكون السيناريو الآخر على نحو أن الغراب (الحيوان المفترس) كان قادماً من بعيد لا يحمل جثة، فأخذ يبحث في الأرض (أي يحفر الأرض) حتى تمكن من استخراج جثة كان قد دفنها من ذي قبل، فما أن رأى ولد آدم ما فعل الغراب حتى تعلم الدرس على الفور.
ماذا ترون يا سادة؟!
مثال (2): الالتزام بمعاني الألفاظ كما تستنبط من كتاب الله نفسه لا كما نظنها نحن
ولا نقف عند هذا الحد بالحض على حمل النص على ما هو عليه دون إدخال غير مبرر من عند أنفسنا، فلا نتحدث عن غرابين اثنين في حين أن النص القرآني تحدث بصريح اللفظ عن غراب واحد كما بينّا في المثال رقم (1) السابق، حتى لا نقع في إشكالات يصعب بعدها الخروج من المأزق، لنزيد القول أننا يجب أن نفهم أيضاً الكلمات على حرفيتها، فلا نضيف فيها من عند أنفسنا، ولا نسقط عليها أفهاما ألفناها من عندنا كما سنبين في المثال رقم (2) بعد قليل، بل يجب استنباط معاني الألفاظ من كتاب الله نفسه، ومن ثم وجوب الوقوف عند تلك المعاني الحقيقية للمفردات، فلا نأخذ المعاني لمفردات القرآن العظيم كما يطيب لنا أن نفهمها، ولنقدم المثال التالي للتدليل على صحة هذا الاعتقاد، قال تعالى:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمً (24)الأحزاب
فالآية الكريمة تؤكد أن الله قد يعذب المنافقين أو قد يتوب عليهم إن هو شاء، أليس كذلك؟
فكيف إذن يمكن أن نوفّق بين ما جاء في هذه الآية الكريمة وقول الحق عن المنافقين في قوله تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)الفتح
أو قوله تعالى:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)النساء
السؤال: كيف يمكن أن نوفّق بين ما جاء في آية الأحزاب باحتمالية أن يتوب الله على المنافقين، وما جاء في آيتي الفتح والنساء بتأكيد وقوع العذاب على المنافقين؟
إن هذا السؤال يدعونا إلى تدبر مفردات الآيات الكريمة جيداً وأن لا نحملها على المعاني المألوفة لدينا (والتي غالباً ما تكون مغلوطة). ففهم الآية يتطلب الوقوف عند معانيها الحقيقية، ولكن كيف؟
غالباً ما حمل الناس (وخاصة العامة منهم) الآية الكريمة التي تؤكد وجود المنافقين في الدرك الأسفل من النار على أنها دليل على شدة العذاب الذي سيقع عليهم في النار بعد يوم الحساب، حتى ذهب بعضهم إلى الظن بأن عذاب المنافقين قد يكون أشد من عذاب الكفار أنفسهم (ما دام أنهم في الدرك الأسفل من النار)، ونحن إذ لا ننفي أو نؤكد مثل هذا الظن إلا أننا سـ نتساءل: كيف يمكن الزعم بأن عذاب المنافقين هو الأشد (لوجودهم في الدرك الأسفل من النار) والله نفسه يتحدث عن عذاب آل فرعون – على سبيل المثال- على النحو التالي؟
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
فلا أظن أن آل فرعون كانوا من المنافقين، ولكنهم كانوا كافرين ظالمين، أليس كذلك؟
وكيف يمكن أن نفهم أن عذاب المنافقين هو الأشد والله يقول عن عذاب الكافرين بأنه الأشد في الآية الكريمة التالية؟
ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
وكيف يمكن أن نتقبل فكرة أن عذاب المنافقين هو الأشد (لأننا فهمنا ذلك من وجودهم في الدرك الأسفل من النار)، ونحن نعلم كيف توعّد الله أصحاب المائدة إن هم كفروا؟
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ
المائدة (115)
إنّ الخروج من مثل هذه التساؤلات بحلول مرضية يتمثل – في رأينا- في تبني منهجية بحثية بسيطة تتلخص في عدم إقحام النص بأفهام من عند أنفسنا لا يدعمها النص القرآني نفسه.
لقد أخطأ الكثيرون – في رأينا- عندما ظنوا أن الدرك الأسفل هو أشد العذاب، فلا أعرف لِمَ ربط كثير من الناس الوجود في الدرك الأسفل من النار مع فكرة العذاب الأشد، فهل لو كنت أنت في الطابق الأرضي (أو تسوية البناية مثلاً)، هل يعني ذلك أنك في المكان الأسوأ؟ كلا، فقد يكون الدرك الأسفل (لنقل الطابق الأرضي تجاوزاً) أكثر آماناً من بقية الطوابق الأخرى خصوصاً إذا ما وقع خطب على البناية بأكملها[5].
المهم في الموضوع هو التأكيد على أن المنافقين (فهم على الأقل عندهم مثقال ذرة من إيمان) لن يتلقوا عذاباً أشد من عذاب الكافرين (وإن كان جميعهم سيعذب في نهاية المطاف)، ولكن يبقى التساؤل المشروع الذي انطلقنا منه وهو محط تفكيرنا في هذه المرحلة من البحث: إنْ كان المنافقون سيعذبون في نهاية الأمر، فكيف يؤكد الله احتمالية أن يتوب عليهم في قوله تعالى:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
الأحزاب (24)
إننا نؤكد أن فهم المفردات بمعانيها القرآنية سيخرجنا من مثل هذه التناقضات الظاهرة التي أوقعنا بها كثير من أهل العلم عندما لم يبيّنوها للناس، ولكن كيف؟
إننا نظن أن دراسة متأنية لمعنى مفردة العذاب (يُعَذِّبَ) ومفردة التوبة (يَتُوبَ) اللتان وردتا في الآية نفسها من السياقات القرآنية ستحل الإشكالية برمتها. وهو ما سنقحم أنفسنا فيه في الصفحات القليلة التالية. ولنبدأ بمفردة العذاب.
العذاب (يُعَذِّبَ)
إننا نفهم من السياقات القرآنية مجتمعة أنّ العذاب قد يحصل في الدنيا أو في الآخرة مصداقاً لقوله تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)آل عمران
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)التوبة
قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87)الكهف
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)السجدة
كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)القلم
وقد يصعب أحيانا التمييز إذا ما كان ذلك العذاب سيحصل في الدنيا أو في الآخرة أو في الحالتين معاً في بعض السياقات القرآنية:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا النساء 173
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا الفتح 6
قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الفتح 16
ولكن هناك سياقات قرآنية تتحدث عن العذاب الذي قد يحصل في الدنيا فقط:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ البقرة (49)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ الأنفال 33
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الأنفال 34
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ التوبة 14
إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ التوبة 39
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ التوبة 55
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ التوبة 85
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ النور (8)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ سبأ (14)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ الأحقاف (24)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ المجادلة 8
وهناك سياقات أخرى تؤكد حصول العذاب في الآخرة:
ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ البقرة (85)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ البقرة (114)
خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ البقرة (162)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا النساء (56)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا الفرقان (69)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ غافر (49)
لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا الفتح 17
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ الغاشية (24)
فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ الفجر (25)
ويأتي العذاب مقترناً بالمغفرة، فهناك سياقات قرآنية تشير إلى أن العذاب المقترن بالمغفرة (أو الرحمة) مرتبطاً ارتباطاً لا انفكاك فيه مع المشيئة[6]:
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة 284
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ آل عمران 129
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ المائدة 18
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ المائدة 40
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا الإسراء 54
يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ العنكبوت 21
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الفتح 14
النتيجة رقم (1): العذاب قد يحصل في الدنيا وقد يحصل في الآخرة، فالله قد يوقع عذابه على فئة من الناس في الدنيا وسيعذب بعضهم في الآخرة
معنى التوبة في النص القرآني
إذا كان الحديث عن مفردة العذاب قد أوصلنا إلى نتيجة أن هناك عذاب في الدنيا وهناك عذاب في الآخرة، فماذا عن التوبة؟
افتراء من عند أنفسنا: لفهم معنى التوبة في السياقات القرآنية، فإننا نرى وجوب التميز بدايةً بين التوبة من جهة والمغفرة من جهة أخرى، فغالباً ما يخلط الناس (ربما عن غير قصد) بين التوبة والمغفرة، ظانين أنهما مفردتان لمعنى واحد، إلا أننا نرى أنهما مفردتان بمعنيين متشابهين ولكنهما مختلفين.
ولكن أين الدليل على ذلك؟ وكيف يمكن التمييز بينهما؟
الجواب: لقد اقترنت مفردة العذاب في السياقات القرآنية المتعددة تارة بالمغفرة كما في قوله تعالى:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وتارة أخرى بالتوبة كما في قوله تعالى:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
استناداً على ما جاء في هاتين الآيتين الكريمتين، فإننا نستطيع أن نزعم القول بأن أهل العلم (وبالتالي من يتبعهم من العامة) لم يميزوا كثيراً بين مفردتين رئيسيتين في النص القرآني وهما: التوبة والمغفرة، فلو سألت أحدهم سؤالاً مثل: ما الفرق بين أن يغفر الله لك أو أن يتوب الله عليك؟ لربما لا تجد عندهم تمييزاً واضحاً بين الحالتين. وهذا ما يدعونا إلى طرح السؤال نفسه بطريقة أخرى: هل التوبة هي المغفرة نفسها؟ وهل المغفرة هي التوبة نفسها؟ وإن كان هناك فرق بينهما، فما هو؟
الفرق بين التوبة والمغفرة
السؤال: ما الفرق بين أن يتوب الله علينا و أن يغفر الله لنا؟
الجواب: إننا نظن أن من أهم ما يميز التوبة عن المغفرة هو أن التوبة أمر يخص ما يمكن أن يحصل في الدنيا بينما تتعلق المغفرة بما يمكن أن تؤول إليه الأمور في الآخرة[7]
الدليل: لإثبات مثل هذا الظن فإننا بحاجة أن نتحدث عن مفردة العذاب التي غالباً ما اقترنت – كما ذكرنا سابقاً- بالتوبة تارة وبالمغفرة تارة أخرى في السياقات القرآنية، ثم نحاول ربط ذلك بالفرق بين التوبة والمغفرة في النص القرآني. منطلقين من الافتراض النظري التالي: إن اقترنت مفردة العذاب بالمغفرة يكون الحديث عن العذاب الذي سيكون في الآخرة، وإن اقترنت بالتوبة يكون الحديث عن العذاب الذي يمكن أن يقع في الدنيا.
المغفرة: الفرق بين الاستغفار والمغفرة
الاستغفار هو عمل يقوم به الإنسان ليكفّر عن ذنوبه التي ارتكبها من ذي قبل، ولكن مغفرة تلك الذنوب هو أمر خاص بالله وحده:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ آل عمران (135)
ونجد أن السياقات القرآنية تدعم ظننا بأن المغفرة هي حدث يحصل يوم القيامة:
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ الشعراء (82)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الصف (12)
النتيجة: الناس يستغفرون الله في الدنيا، ولكن الله قد يغفر لهم وقد لا يغفر لهم في الآخرة:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ التوبة (80)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ المنافقين (6)
التوبة: ما معنى أن يتوب الله علينا؟
رأينا: إننا نظن أن التوبة تحصل في الدنيا
لندرس معنى مفردة التوبة في نصّها القرآني، فلو أمعنا التفكر في آيات الكتاب الكريم التي تتحدث عن التوبة لوجدناه تتحدث عن عمل يحصل في الدنيا، فالناس يتوبون في الدنيا، والله يتوب على الناس في الدنيا
الدليل:
هناك سياقات قرآنية يصعب الحسم بشأنها، فلا نستطيع أن نجزم من هذه السياقات لوحدها أين يمكن أن تحصل التوبة:
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التوبة 106
لّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الأحزاب 73
ولكن – بالمقابل- هناك سياقات قرآنية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن التوبة ليست من أمر الآخرة، وإنما هي حدث يحصل في الدنيا، فلو تدبرنا السياقات القرآنية جميعها لوجدنا أن التوبة التي وردت فيها تخص عملاً يقوم به الإنسان في الدنيا، ولنقرأ بداية الآية الكريمة التالية من هذا المنظور:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء (17)
ولو تفقدنا جميع السياقات القرآنية التي وردت فيها مفردة التوبة لوجدنا هذا المعنى ظاهراً لا لبس فيه:
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 37
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 54
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 160
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ البقرة 187
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ آل عمران 89
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا النساء 16
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا النساء 146
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المائدة 34
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المائدة 39
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ۚ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ المائدة 71
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ الأنعام 54
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ الأعراف 153
فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ التوبة 5
فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ التوبة 11
لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ التوبة 117
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة 118
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هود 112
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ النحل 119
إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا مريم 60
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ طه 82
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ طه 122
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ النور 5
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ النور 31
إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الفرقان 70
وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا الفرقان 71
فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ القصص 67
أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ۚ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ المجادلة 13
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المزمل 20
النتيجة: التوبة التي وردت في جميع السياقات السابقة تخص عملاً يقوم به الإنسان في الدنيا، مصداقاً لقوله تعالى:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء (17)
ولا يتوقف النص القرآني عند هذا الحد، بل نجد الآية التي تليها مباشرة تؤكد انتفاء حصول التوبة عند حضور الموت أو بعد الموت:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا النساء (18)
عودة على بدء
والآن لنعود إلى الآية التي انطلقنا منها:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
الأحزاب (24)
لنقول أن العذاب قد يكون في الدنيا أو في الآخرة، ولكن كيف يمكن أن نحدد في كل سياق قرآني أي عذاب هو المقصود: عذاب الدنيا أم عذاب الآخرة؟
الجواب: إننا نظن أن تحديد ذلك يكون غاية في البساطة بعد هذا الطرح: فإن اقترنت مفردة العذاب بالمغفرة فذاك هو عذاب الآخرة، وإن اقترنت بالتوبة فذاك عذاب الدنيا.
لذا فإن النتيجة التي سنخلص إليها هي : ما دام أن العذاب قد اقترن بالتوبة في هذه الآية الكريمة قيد البحث (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، فذاك يعني أن العذاب المقصود في هذه الآية الكريمة هو عذاب الله الذي قد يوقعه على فئة من الناس في الدنيا، فيصبح معنى الآية الكريمة قيد البحث على النحو التالي:
الله قد يعذب فئة من الناس وهم المنافقون (في الدنيا) وقد يتوب عليهم (في الدنيا)
وينطبق نفس المنطق على الآيات الكريمة التالية:
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التوبة 106
لّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الأحزاب 73
فما دام أن هذه السياقات القرآنية تتحدث عن التوبة التي تحصل في الدنيا فإن العذاب في هذه الآيات الكريمة يخص عذاب الدنيا وليس عذاب الآخرة.
كيف يمكن ربط هذا الفهم بقوله تعالى:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا النساء (145)
لا شك أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن عذاب في الآخرة، لنخلص إلى النتيجة التالية. إن عذاب الله على المنافقين في الدنيا ليس حتمياً، فقد يعذبهم وقد يتوب عليهم، أما عذاب الله للمنافقين في الآخرة فهو حتمي إذا لم يتوبوا في الدنيا، ويصدق ظننا هذا قول الحق مكملاً الآية السابقة عن عذاب المنافقين في الدرك الأسفل، ولنعيدهما معاً لننظر إليهما بهذا المعنى الجديد:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) النساء
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) النساء
خلاصة
لقد قدمنا هذين المثالين (مثال الغراب) (ومثال مفردة التوبة) لنبين أن فهم النص القرآني لا يجب أن يبنى على غير النص القرآني نفسه، فلا نزيد على النص شيئاً غير موجود فيه، ولا ننقص منه شيئاً موجود فيه، ولا نسقط على الفاظ القرآني غير ما تحتمله من معاني يمكن استنباطها من النص القرآني نفسه.
وبمثل هذه المنهجية فإننا نجد أننا نستطيع قراءة الآيات التي تتحدث عن قصة لوط مع قومه وامرأته وبناته التي بدأنا بها بحثنا هذا، لننتهي - بحول الله وتوفيقه- إلى فهم القصة بطريقة جديدة (وإن لم تكن صحيحة)، المهم في نظرنا هو إفساح المجال للتفكر بهذه القضايا من منظور جديد يقلل من أفهام سابقة هي أقرب إلى الإسرائليات منها إلى حقيقة النص القرآني نفسه.
فنعود لنطرح السؤال نفسه: لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ظيوفه؟
هذا ما سنتناوله – بحول الله وتوفيقه في الجزء الثاني من هذه المقالة
فللحديث بقية
2 شباط 2012
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
[1] انظر تفسيرات العلماء عندما تحدثوا عن معاني الفرج ليتجنبوا الخوض عن المعنى الحقيقي خصوصاً في قوله تعالى:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ الأنبياء (91)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ التحريم (12)
[2] نقول أنه من المفترض أن يكون زوجها، وأن تكون هي زوجه، ولكنها في الحقيقة لم تكن زوجه ولكنها كانت امرأته فقط (للتفصيل حول الفرق بين الزوجة والمرأة انظر مقالتنا تحت عنوان ماذا ستفعل النساء في الجنة؟)
[3] تعرضنا في مقالة سابقة لمصير امرأة نوح وخلصنا إلى النتيجة التي مفادها أن امرأة نوح كانت قد ماتت قبل حصول الطوفان، لذا لا نجد لها ذكر في قصة الطوفان.
[4] للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان لماذا يدفن الناس موتاهم؟
[5] نرجو أن لا يفهم من كلامنا هذا أننا نحاول تشبيه جهنم بالبناية ذات الطوابق، ولكن جل ما نود التأكيد عليه هو أن الدرك الأسفل مكان معين في جهنم يكون مآل المنافقين، وذلك لأننا نفهم أن عذاب جهنم متفاوت مصداقاً لقوله تعالى:
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِنْ لَا تَعْلَمُونَ الأعراف (38)
[6] للتنفصيل حول معنى المشيئة في هذه السياقات القرآنية ندعو القارئ الكريم إلى قراءة سلسلة مقالاتنا تحت عنوان "هل لعلم الله حدود؟"
[7] كما يمكن أن تكون التوبة شاملة لكل ما فعل الإنسان بينما تكون المغفرة لعمل محدد بعينه، فالله يغفر لك ما فعلت عندما تستغفره، ولكن توقيت المغفرة يختلف عن توقيت التوبة، فالمغفرة من الله ستكون للناس في الآخرة بينما التوبة من الله على الناس تكون في الدنيا:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا النساء (64)