صلاة الاستسقاء 7
تعرضنا في مقالتنا السابقة إلى قوله تعالى
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا
وخلصنا إلى أن الزواج الذي ستنتج عنه الذرية هو الزواج الذي يقع بين ذكر وأنثى، وأما إذا لم يحصل الزواج بين ذكر وأنثى فإن النتيجة ستكون العقم لا محالة، وعرضنا السيناريوهات الثلاث للعقم وهي على النحو التالي:
1. زواج يقع بين رجل (ليس بذكر) وامرأة أنثى، وفي هذه الحالة لا يكون لدى الرجل المشيئة بالإنجاب بينما تكون المشيئة بالإنجاب عند المرأة متوافرة (كزواج زكريا)
2. زواج يقع بين رجل ذكر وامرأة (ليست بأنثى) وفي هذه الحالة يكون الرجل لديه المشيئة بالإنجاب بينما لا يكون لدى المرأة المشيئة بالإنجاب (كزواج إبراهيم وسارة)
3. زواج يقع بين رجل (ليس بذكر) وامرأة (ليست بأنثى) وفي هذه الحالة لا يكون لدى الرجل المشيئة بالإنجاب والمرأة ليس لديها المشيئة بالإنجاب أيضاً (كزواج فرعون)
وتعرضنا في مقالتنا السابقة بشيء من التفصيل للسيناريو الأول وذلك بتقديم مثال زواج زكريا، وزعمنا الفهم أن العقم في حالة زكريا كان بسبب زكريا نفسه، ولم يكن لزوجته دخل فيه، وما تغيرت حال زكريا إلا بعد أن غيّر زكريا ما في نفسه. وسنتعرض للحالتين الأخريان بشيء من التفصيل، علنا نستطيع – بحول الله- الخروج بأفهام جديدة حول موضوع العقم.
زواج إبراهيم وسارة
إننا نعلم أن زواج إبراهيم بسارة قد عانى من العقم قسطاً من الزمن، فلم ينتج عنه إنجاب إلا بعد أن بلغ إبراهيم سن الشيخوخة، مصداقاً لما جاء في كتاب الله على لسان زوجته العجوز:
قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)هود
فتحصل لهما إسحق كهبة من الله. ولكن لماذا تأخر الإنجاب حتى تقدم بهما السن؟ وكيف حدث؟
إننا نزعم الفهم أن العقم الذي كان سبباً في تأخر الإنجاب في ذلك الزواج كان مصدره الزوجة سارة ولم يكن لإبراهيم دخل فيه، وبمفرداتنا الجديدة فقد كان إذاً زواجاً بين رجل ذكر (قادر على الإنجاب) وامرأة ليست بأنثى (امرأة غير قادرة على الإنجاب)، وقد تحصل لنا هذا الفهم من مجموع الآيات ذات الصلة بالموضوع، نطرح أولها الآيات الكريمة التالية:
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) الذاريات
إن أبسط ما يمكن أن نخرج به من هذا السياق القرآني هو اعتراف امرأة إبراهيم من نفسها أنها هي عجوز عقيم، وتعرضنا في مقالتنا السابقة إلى التمييز بين العقيم والعاقر، فامرأة إبراهيم كانت عقيم، لا تنجب، ولكنها لم تكن عاقرا، وهذا الطرح يثير التساؤل التالي: لم نسبت امرأة إبراهيم العقم لنفسها؟ ولِمَ لم تحمّل زوجها جزءً من المسؤولية في عدم الإنجاب؟
رأينا: إننا نفهم هذا من السياق الأوسع لقصة إبراهيم، فهو الذي كان قد رزق الذرية من امرأة أخرى، فقبل أن يرزق إبراهيم بغلام عليم من هذه العجوز العقيم كان قد رزق بغلام حليم من امرأة أخرى:
البشرى بالغلام العليم (إسحق)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) الحجر
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) الذاريات
نتيجة: فالغلام العليم (أي إسحق) هو ما تحصّل لإبراهيم من الذرية من هذه العجوز
البشرى بالغلام الحليم (إسماعيل)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
نتيجة: فالغلام الحليم (إسماعيل) هو الذي ساقه أبوه للذبح، وهو الذي فُدي بذبح عظيم. صحيح أن ذلك تحصل له على الكبر ولكن مما لاشك فيه أن ذلك قد حصل قبل أن يبلغ سن الشيخوخة، لربما قد تحصل له ذلك وهو لم يزل فيه شيء من الذكورة، والمدقق في آخر هذا السياق القرآني يجد أن البشرى بإسحق قد جاءت بعد محنته التي تعرض لها عندما طلب منه أن يذبح ذاك الغلام الحليم (إسماعيل) الذي كان قد رزق به من ذي قبل.
ولو راقبنا ردة فعل إبراهيم على بشرى الملائكة في الحالتين لوجدنا اختلافاً كبيرا، ففي حين لم يكن الاستغراب بادياً من إبراهيم يوم أن بشروه بالغلام الحليم:
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ...
كان الاستغراب واضحاً في ردة فعل إبراهيم يوم أن بشروه بالغلام العليم:
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
ونحن هنا نتساءل عن سبب استغراب إبراهيم من هذه البشرى، إننا نظن أن السبب يكمن في أن إبراهيم لم يكن يشغله موضوع الذرية هذه المرة، ولكنه كان مشغول التفكير بهدف الزيارة التي تحصلت له من أولئك الرسل، لذا لم يعط إبراهيم البشرى كثير اهتمام، وصرف تفكيره إلى موضوع عذاب قوم لوط، وهذا جلي في الآيات الكريمة التالية[1]:
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) العنكبوت
فلم يجادل إبراهيم الملائكة في موضوع البشرى ولكنّه جادلهم في موضوع قوم لوط:
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
وهنا نثير التساؤل التالي: لِمَ لَمْ يصرف إبراهيم تفكيره إلى موضوع البشرى؟ ولم لم يبد فرحه بها كما يجب؟
الجواب: لأن إبراهيم لم يكن عقيما، وقد تحصل له الذرية (الغلام الحليم) من ذي قبل، فقد جاء مولد إسحق نافلة (أي زيادة):
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)الأنبياء
ولكن لمّا كان إسحق نافلة لإبراهيم ولم يكن نافلة لامرأته سارة (فهي لم ترزق الذرية بعد)، فقد صرفت هي جل تفكيرها لهذا الموضوع، فأخذت تجادل الملائكة في موضوع البشرى، فمن يمعن التفكير في السياق الذي سبق جدال إبراهيم في قوم لوط، يجد الحوار الذي حصل بين رسل الله وامرأة إبراهيم واضحاً:
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) هود
فإبراهيم يجادل (يحاور) الملائكة في موضوع قوم لوط، بينما كان جل الحوار بين رسل الله وامرأة إبراهيم منصبّاً حول موضوع البشرى.
إننا نخلص إلى القول أن الإنسان يعطي اهتماماً أكبر للشيء الذي يخصه على وجه التحديد (أو الشيء الذي يشغل تفكيره)، فموضوع الذرية (الإنجاب) هو ما كان يشغل تفكير امرأة إبراهيم، بينما لم يكن ذلك من عظيم اهتمامات إبراهيم (على الأقل في ذاك الوقت بالذات)، بل على العكس تماماً، فلقد شكّك إبراهيم بأن خبر ولادة الطفل العليم هو بشرى له، فجاءت ردة فعله على النحو التالي:
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
فالمدقق في النص جيداً يجد ويكأن إبراهيم يقول للملائكة: وما دخلي أنا بهذا الأمر؟.
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
إننا نظن أنه لو كان العقم مصدره إبراهيم نفسه لأعطى موضوع البشرى اهتماماً أكبر، ولظهر ذاك في ردة فعله، ولكن امرأته هي من أسرّها خبر البشرى، فانعكس ذلك في تصرفاتها وفي حوارها:
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) هود
إن ردة فعل إبراهيم تلك تدلنا على أن إبراهيم لم يكن مضطراً لتغيير مشيئته في موضوع الإنجاب، ولكن زوجته هي من كانت بحاجة إلى ذلك، فردة فعلها تبين أنها كانت دائمة التفكير منشغلة البال بموضوع الذرية، لذا جاءت ردة فعلها لتصور استغرابها لما ستحصل عليه مطابقا تماما لردة فعل زكريا يوم جاءته البشرى بالذرية، فبعد أن دعا زكريا ربه للحصول على الذرية الطيبة واستجاب الله طلبه، جاءت ردة فعله على النحو التالي:
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) آل عمران
وهكذا كانت ردة فعل زوجة إبراهيم:
قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)هود
إن هذا يدعونا إلى الاستنتاج أن العقم في حالة زكريا كان مصدره زكريا نفسه، أما العقم في حالة إبراهيم فكان بسبب امرأته، لذا جاءت ردة فعل زكريا وردة فعل امرأة إبراهيم متطابقة، لأنها ردة فعل المتلهف المحتاج، المبتهج بالخبر السعيد.
أما إبراهيم نفسه فقد استنكر أن يكون ذلك الخبر هو بشرى له فقد جاء رده على النحو التالي:
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
زواج فرعون
أما السيناريو الثالث والأخير للعقم فهو الزواج الذي يحصل بين رجل (ليس بذكر) وامرأة (ليست بأنثى)، فيكون الطرفان سبباً في العقم، ولا يمكن أن يتحصل الإنجاب إلا يوم أن يغير الطرفان مشيئتهما، وسنقدم مثال فرعون على هذا النوع من العقم.
لقد تطرقنا في مقالة سابقة لنا إلى موضوع علاقة فرعون بامرأته (والقارئ الكريم مدعو لقراءة تلك المقالة تحت عنوان: من هي زوجة موسى). ولا نجد ضيراً أن نعيد هنا الملامح الرئيسة لتلك العلاقة ما دام أن الهدف هنا هو تسليط الضوء على هذه العلاقة من زاوية العقم- موضوع بحثنا هنا.
أما بعد،
فلقد زعمنا في مقالتنا تلك أن عقدة فرعون تمثلت في عدم ذكورته، فقد كان رجلاً لا يستطيع القيام بواجباته الزوجية في الفراش، لذا لم يكن له ذرية، وكان ذلك – حسب فهمنا- سبباً رئيسياً في نقمته وتجبره، وهو الأمر الذي كان فرعون يحاول التستر عليه، ولم يطّلع عليه إلا شخص واحد وهو امرأته. وقد قدمنا الأدلة التالية على زعمنا هذا.
1. قبول فرعون بفكرة التبني ونزوله عند رغبة زوجته (وإن خالفت رغبته ومصلحته)
2. لم يرد في القران الكريم أن لفرعون أهل أو بني ولكن ورد في القرآن أن لفرعون آل وقوم.
ولمّا كان الدليل الأول لا يحتاج إلى تبرير، فهو أمر معلوم بالضرورة للجميع، فإننا سنقف مليّا عند الدليل الثاني لنسوّقه بالحجة والدليل من كتاب الله. فلقد ذكرنا –في مواضع سابقة- أنّ أهل الرجل هم من يسكنون معه في بيت واحد، وأهل المدينة يسكنون في مكان واحد، وأهل السفينة يركبون جميعاً على ظهرها، ولكن السؤال البسيط الذي نثيره هنا في خضم حديثنا عن الحياة الشخصية لفرعون هو: لِمَ لَمْ يرد في كتاب الله أنّ لفرعون أهل بالرغم من معرفتنا أن فرعون كان رجلاً متزوجا؟
الجواب: إننا ندعي أنّ الرجل لا يكون له أهل إلاّ إذا كان له (بالإضافة لزوجته) ذرية من البنين والبنات:
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)النمل
قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
فلقد ركب نوح وأهله في السفينة ولم تكن امرأته معهم:
حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
ونجا لوط وأهله من العذاب ولم تنجو امرأته:
وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
أما في حالة فرعون، فإذا ما استثنينا امرأته (وإن كانت على النقيض من امرأة نوح وامرأة لوط) فأين أهله؟
رأينا: نعم، لقد كان فرعون بلا أهل (أي بلا ذرية يقطنون في نفس البيت معه ومع امرأته)، ولهذا جاء طلب زوجة فرعون عندما وقع الغلام (موسى) في يدها على النحو التالي:
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)القصص
فلم يرد فرعون طلبها على الرغم من شكّه (لا بل من يقينه) بأن الغلام من بني إسرائيل الذين كان يقتّل أبنائهم، وقد يقول قائل: كيف تزعم أنهم كانوا يعلمون أنّ الغلام من بني إسرائيل وهم قد وجدوه في اليم؟ فنقول أن ذلك واضح من الكلام الذي ورد على لسان امرأة فرعون، فلقد قالت المرأة " قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا"، فنحن نتساءل هنا عن سبب ورود عبارة "لَا تَقْتُلُوهُ"، أي لم اضطرت المرأة أن تقول لا تقتلوه لو أنهم لم يهمّوا أصلاً بقتله؟ فلِمَ يهموا بقتله (لتتدخل هي وتنقذه من ذلك القتل بتدبير ربها) لو لم يكونوا على يقين أن الطفل من ذرية بني إسرائيل؟ فهل كان فرعون يقتل أطفالا من غير ذرية بني إسرائيل؟
رأينا: إن كلام امرأة فرعون هذا يبيّن لنا أنها هي نفسها تعلم أنّ الغلام من بني إسرائيل، فقالت "لَا تَقْتُلُوهُ" (وهو ما كان مصير أبناء بني إسرائيل على يد فرعون وآله)، فلو كان القوم غير موقنين أن الغلام من بني إسرائيل لما همّوا أصلاً بقتله ولربما جاء ردها على النحو التالي:
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ... عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
ولكنها "منعتهم من قتله" بقولها لهم " لَا تَقْتُلُوهُ"، وأتبعت طلبها هذا بالحجج التالية:
- عَسَى أَن يَنفَعَنَا
- أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا
فعندها سكت فرعون وألجم عن الرد، وما كان أحد من الملأ سيتجرأ على رفض طلبها بعد أن سكت فرعون نفسه وأُخرس، والسؤال هو لم استسلم الرجل- وأقصد فرعون- بهذه السهولة لطلب امرأته على الرغم من شدته المعهودة، وعلى الرغم من جدّيّة الأمر بالنسبة له ولمستقبله السياسي على أرض مصر؟ فيأتي الجواب – حسب ظننا- في قوله تعالى "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ".
فمن الذين كانوا لا يشعرون؟ وما المقصود بذلك؟
رأينا: إننا نعتقد أنه التهديد المبطن من الزوجة لزوجها دون علم الحاضرين. نعم، لقد هددت امرأة فرعون زوجها بما لا يشعر به الحاضرون، ولكن ماذا كان ذلك التهديد؟ فلنكرر ردها كاملاً لنتأمله بشيء من الدقة والرويّة:
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)القصص
لقد قالت للملأ أنْ يتركوا الغلام "موسى" فلا يقتلوه "عَسَى أَن يَنفَعَنَا" وهنا وقف والتفاف، فهي- كزوجة فرعون إله المصريين في ذاك الزمان- لا تحتاج أن تبرر للملأ سبب عدم قتل الطفل، فيكفيها أن تأمرهم بأن لا يقتلوه وكفى، ولكنها بحاجة أن تبرر رغبتها في عدم قتل الطفل أمام شخص واحد وهو فرعون نفسه، فالتفتت إلى زوجها وخاطبته دون أن يشعر الحاضرون بقولها "عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا"، فسكت الرجل وما نطق، فلا نجد في كتاب الله رداً لفرعون على كلام امرأته.
ولكن لماذا؟ فلقد حدث الحوار بينها وبين زوجها دون معرفة الحاضرين من القوم، والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية نفسها "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، فها هي قصة النملة التي طلبت من بقية النمل الاختباء حتى لا يحطمهم جنود سليمان وهم لا يشعرون:
حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ النمل (18)
وها هو يوسف يتلقى البشرى من ربه بوجود إخوته ولكن "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ":
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)يوسف
وها هي أخت موسى نفسه تقص أثر أخيها (يوم ألقته أمه في اليم) وهم لا يشعرون:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) القصص 10-11
إننا نعتقد أنّ زوجة فرعون اختارت أن يكون ذلك حديثاً جانبياً مع زوجها دون سمع الحاضرين لأن الأمر غاية في الخصوصية: إنه ما يخص الحياة الزوجية، وهي العلاقة الجنسية بين المرأة وزوجها على وجه التحديد، فنحن نظن أنّه حتى لو كانت وسائل التعرف على العقم متوافرة في ذلك الزمن، لما كانت امرأة فرعون بحاجة لها لأنّ زوجها لا يستطيع حتى أنْ يطلب الإنجاب من غيرها (وهو فرعون ذاك الزمان)؟ فهل - يا ترى- من كان في جبروت فرعون يعجزه أنْ يطلب الولد من غيرها؟ ثم، لم يسمح لها أنْ تتبنى غلاما (حتى وإن كان من ذرية بني إسرائيل)؟ ولنفترض أنها كانت هي سبب العقم وعدم الإنجاب، فلم يقبل أنْ ترد بقولها "قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ"؟ فإن كان الغلام قرة عين لها لأنها لا تنجب، فلِمَ يكون قرة عين لفرعون إنْ كان يستطيع الإنجاب؟ ولو كان الأمر يتوقف عند هذا الحد، فلم لا يرد عليها بتبني من ليس من بني إسرائيل؟ ألم يكن قادراً على أنْ يحضر لها ما تشاء من الغلمان من غير بني إسرائيل؟
رأينا: كلا، لقد كان ذلك مطلب امرأته ورغبتها وما كان يستطيع أنْ يرد طلبها ذاك في تلك اللحظة خوفاً من أنْ ينكشّف أمر أدهى وأعظم يخص فرعون نفسه. إننا نعتقد أنّ فرعون كان يفتقد ما يستطيع أنْ يقدمه الزوج لامرأته في الفراش حتى تنجب. نعم، لقد كان فرعون يفتقد الذكورة التي يسكت بها زوجته، فما كان أحد ممن حوله يعلم سر فرعون وضعفه هذا سوى امرأته، ولم يكن فرعون يحتمل أنْ يتفشى ذلك السر بين القوم.
لا بل إننا نظن أن الرجل لم يكن سويّاً في فراشه مع زوجته، فاستخدم الأساليب التي ضجرت منها الزوجة نفسها حتى آثرت الموت على الحياة:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
والسؤال هو: ماذا عمل فرعون حتى طلبت المرأة النجاة منه ومن عمله؟ لربما ظن البعض أنه ظلم فرعون، ولكن هل كان فرعون فعلاً يظلم امرأته؟ ألم يكن طلبها مجاب؟ وأي شيء أعظم من أنْ يقبل فكرة أنْ لا يقتل وليد بني إسرائيل الذي سيقف له نداً عنيداً يسلبه ملك مصر كله[2]؟!
رأينا: كلا، لقد عاشت امرأة فرعون مع زوجها فترة طويلة من الزمن، وتحملت ربما ما لا تستطيع امرأة أخرى أنْ تتحمله من رجل لا يقدم لزوجته حقها في فراشه، لا بل على العكس لربما تحملت منه ما لا يجب أنْ يكون، فقد تحملت ما يمكن أنْ يفعله رجل يعجز أمام امرأته أنْ يثبت لها ذكورته بالطريقة الطبيعية المشروعة.
فتخيل رجل بعظمة فرعون وجبروته وهو الذي كان يقنع كل من حوله أنه إله المصريين كلهم:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)القصص
نقول تخيل رجلاً بهذا الجبروت يجد نفسه عاجزاً في فراش امرأته، فماذا تتوقع أن يفعل؟
الجواب: لقد فعل كل ما يمكن أن يخطر ببال حتى طلبت المرأة نفسها أن تنجو ولو بالموت من عمله:
رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
نعم إننا نظن أن تلك كانت عقدة فرعون، إنها العقدة الجنسية، ونحن نظن أن تلك العقدة التي تكررت في كثير من الأعمال الأدبية إنما هي مستوحاة (أو مسروقة من عقدة فرعون هذه). فكما سرق التلفزيون الأردني بمسلسلاته البدوية فكرة ملاقاة البطل الشجاع البطلة الجميلة الذكية على عين الماء من قصة موسى مع زوجته عندما وجدها (وأختها) على بئر مدين، سرق هؤلاء الأدباء عقدة فرعون ونسبوها إلى أوديب وأخضعوها إلى التحليل الفرويدي النفسي. ما علينا!!!
المهم في بحثنا هنا هو الحقيقة القرآنية في عدم ورود عبارة أهل فرعون في كتاب الله، ويثبت طرحنا هذا خلو القرآن الكريم كذلك من عبارة بني فرعون، فنحن نفهم أنّ هذه اللفظة تعني الذرية:
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78)
فبني آدم هم ذرية آدم وبني إسرائيل هم ذرية إسرائيل، ولكن لم يكن لفرعون بني (أي ذرية) وذلك لأنه كان يعجز عن إنجابها.
وفي الوقت الذي لا نجد في كتاب الله أن لفرعون أهل أو بني ، نجد أنه كان لفرعون بالمقابل آل (آل فرعون):
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
فمن هم آل الرجل؟
فبالرغم أنّ موسى وهارون هم إخوة إلاّ أنّ لكل منهم آل:
وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
لقد كان لفرعون أقرباءه ولكن لم يكن له أهل أو بني، وهذا ربما يفسر إصرار فرعون على الكفر والتجبر: إنها عقدة العجز (عجزه أنْ يكون زوجاً طبيعياً، وعجزه أنْ يكون رجلاً ذكراً، وعجزه أنْ يكون أباً)، فخرج على قومه بعد أن حشرهم قائلاً:
فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ النازعات (24)
والدليل القرآني الآخر الذي نقدمه على عجز فرعون الجنسي، وبالتالي عقدته التي كان يخفيها ويحاول أن يتكبر ويتجبر وهو يعلم بقرارة نفسه ضعفه الحقيقي هو ما ورد في الآيات الكريمات التالية:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وهنا نطلب من القارئ الكريم إمعان النظر بأحد الفروق بين ما ورد في الآية (10) التي تتحدث عن امرأة نوح وامرأة لوط وما ورد في الآية (11) التي تتحدث عن امرأة فرعون، ففي حين جاء عند الحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط أنهما كانتا تحت زوجيهما (وهنا أركز على مفردة تحت) لم ترد تلك المفردة عند الحديث عن امرأة فرعون، وسؤالنا هو: لماذا؟ أي لماذا لا يذكر القرآن الكريم أن امرأة فرعون كانت تحت زوجها كما كان الحال بالنسبة لمرأة نوح وامرأة لوط؟
لقد درج جلّ الفكر الإسلامي على تفسير ذلك مجازياً، ومراد قولهم أنه لا يستساغ أن يكون المؤمن تحت الكافر، ولكننا نرد على مثل هذا التصور بأن هناك الآلف (بل ملايين) الحالات التي يكون المسلم مستضعفاً مقهوراً، ولا أود الدخول في جدلية هذا المنطق، ولكن ما أود إثارته هنا هو أن نقرأ الآيات على الحقيقة وليس على سبيل المجاز[3] فنقول: يذكر القرآن الكريم بصريح اللفظ أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت زوجيهما ولم تكن امرأة فرعون تحت زوجها، أليس كذلك؟ ولنربط هذا الأمر بموضوع العلاقة الزوجية الحميمة، ألا تكون المرأة تحت زوجها في الفراش؟ أو لنقل بكلمات أكثر دقة، ألا يتطلب إنجاب الأطفال أن تكون المرأة تحت زوجها؟ بكل تأكيد، لقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط تحت زوجيهما فكانت النتيجة أن كان لنوح أهل وأن كان للوط أهل:
حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)هود
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)المؤمنون
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)العنكبوت
ولكن لم يكن لفرعون أهل (ذرية من صلبه) لأن امرأته لم تكن يوماً تحته، والنتيجة أن فرعون كان عاجزاً جنسياً أن يجعل من امرأته منجبة للأطفال، لذا طلبت منه (دون أن يشعر القوم) أن يبقي على حياة طفل من بني إسرائيل لتتبناه، فما كان منه أن يرد طلبها خوفاً أن يفتضح المستور.
إن الحديث السابق يفضي إلى النتيجة الحتمية وهي عدم قدرة فرعون على الإنجاب، فتقبل طلب امرأته أن تتبنى طفلاً من بني إسرائيل. والمدقق في النص القرآني يجد أن فرعون لم يغير مشيئته تلك، فلم يتوجه إلى ربه بالدعاء طالباً الذرية، ولم تعمد امرأة فرعون (وهي المرأة المؤمنة) إلى طلب الذرية من ربها كما فعل زكريا مثلاً، ربما ليقينها أنها حتى لو فعلت هي ذلك فلن يتم لها الحصول على ما تريد لأنها بحاجة ليس فقط أن تغير ما في نفسها هي، وإنما ما في نفس زوجها كذلك، فزواجهما يعاني من العقم في كلا الاتجاهين، وبالتالي فطلب الذرية يصبح أصعب من الحالتين السابقتين، لأننا في هذه الحالة بحاجة إلى تغيير ما في نفس الرجل (الذي لا ينجب) وكذلك ما في نفس الزوجة (التي لا تنجب).
وللحديث بقية
_________________
[1] وربما نرى لاحقاً أن إبراهيم قد فهم من البشرى ما لم يفهمه غيره، ولم يكن مرحباً بها لأنها ستجلب له المحنة في قادم الأيام.
[2] وقد يرد البعض بالقول ولكن فرعون لم يكن يعلم أنْ الغلام من بني إسرائيل، فنقول كلا، فحتى لو افترضنا أنه لم يكن يعلم ذلك، فكيف يمكن اكتشاف الأم الحقيقية لطفل ما؟ أليست هي الرضاعة؟ فلب القول أنه عندما رفض الطفل تقبل الرضاعة من النساء جميعاً، وقبل رضاعة امرأة بعينها من بني إسرائيل، فهل كان ذلك سينطلي على متكبر جبار مثل فرعون؟ ألم يكن سيساوره الشك ليتحقق من الأمر بنفسه؟ ثم لندقق في قول زوجته "لا تقتلوه"، وسؤالنا هو: لماذا طلبت منهم أن لا يقتلوا الطفل؟ إننا نظن أن طلبها هذا جاء بعد أن استقر لدى فرعون وملئه أن هذا الطفل من بني إسرائيل، ولو كانوا على يقين أنه ليس من بني إسرائيل لما كان هناك داع لإثارة موضوع قتله حتى تتدخل الزوجة لتنقذه، لقد قبل فرعون السكوت على ما لا يسكت عليه فقط تلبية لرغبة زوجته؟ ولكن السؤال الأكبر هو: هل كان فرعون مضطراً لتلبية رغبة زوجته؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، يأتي السؤال الذي لا مفر منه والذي نحاول الإجابة عليه في هذا الطرح وهو: لماذا؟
[3] للتفصيل في هذا الموضوع نطلب من القارئ الكريم الرجوع إلى مقالتنا تحت عنوان "جدلية الحقيقة والمجاز"