# قصة موسى 1: دافع فرعون في تقتيل أبناء بني إسرائيل
حاولنا في مقالة سابقة التمييز بين المعرفة من جهة ونكران الشيء من جهة أخرى كما يظهر التقابل بينهما في الآية الكريمة التالية:
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ يوسف (58)
وكان الغرض حينئذ التفريق بين العلم من جهة والمعرفة من جهة أخرى، فظننا أن الله الذي يعلم لا يحتاج أن يعرف، لأن علم الله لا يحتاج إلى دليل، ولا يحتاج إلى جهد يبذل، وهو دون أدنى شك الأحسن الذي لا يمكن أن يجرى عليه التعديل أو الإضافة.
افتراء قديم من عند أنفسنا: لذا نحن نحمل في قلوبنا العقيدة التي مفادها أن ربنا لا يبذل جهداً ولا يحتاج إلى توافر الدليل لكي تتحصل له المعلومة، والمعلومة المتوافرة بين يديه هي الأحسن، ولهذا – نحن نؤمن- أن ربنا لا يعرف ولكنه يعلم، ومن أراد أن يتحدى عقيدتنا هذه فعليه أن يأتي بأحسن منها، هذا والله أعلم
(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: هل لعلم الله حدود؟ و قصة يوسف (1): أحسن القصص)
وسنحاول في هذا الجزء الحديث عن نقيض المعرفة وهو النكران، لندخل من خلال ذلك إلى قصة موسى بتفاصيلها كما نفهمها نحن من السياقات القرآنية الكثيرة التي ترد فيها، والتي لا نظن أنها كانت أحسن القصص لأن تفصيل القصة لم يأتي جملة واحدة في مكان واحد من كتاب الله كما هو الحال بالنسبة لقصة يوسف التي بلا شك – عندنا- كانت القصة الأحسن في كتاب الله كله.
أما بعد
النكران أو التنكير
سؤال: ما نقيض من يعلم
جواب: من لا يعلم
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الزمر (9)
سؤال: وما نقيض من يعرف؟
جواب: من ينكر
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ يوسف (58)
نتيجة مفتراة: من لا يعرف شيئاً فهو له منكرا، لأن النكران – في ظننا- هو نقيض المعرفة، كما يمكن أن نفهمه من الآيات الكريمة التالية:
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ المؤمنون (69)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ يوسف (58)
فها هو إبراهيم ينكر القوم الذين جاءوه بالبشرى وبخبر هلاك قوم لوط:
فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ هود (70)
وها هو لوط ينكرهم أيضاً:
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) الحجر
ولا شك أن نكران القوم كان سببه عدم معرفتهم، فإبراهيم لم ينكر القوم إلا بعد أن رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام الذي قدّمه لهم. فلربما أن إبراهيم كان يظنهم في بداية الزيارة ضيوفاً عاديين، ولكن ما هي إلا سويعات (بعد أن ذبح لهم العجل وقدّمه لهم) حتى تحصل لإبراهيم الدليل (فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ) بأنهم ليسوا كذلك، أي لم يكونوا ضيوفاً عاديين. فما يكون منه حينئذ إلا أن ينكرهم ويوجس منهم خيفة (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)، ولكن حتى يزول نكران إبراهيم لهم (أي عدم معرفته بهم) جاءه الخبر منهم مباشرة (قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ)، وهذا بالفعل ما حصل للوط، فلقد جاءه الخبر اليقين منهم بعد أن كان قد نكرهم:
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ
تبعات هذا الافتراء
أولاً، وربما يفسر مثل هذا الافتراء بعض ما جاء في الآية الكريمة التالية التي نظن أن سادتنا العلماء قد أخفقوا في إيصال المراد منها للناس:
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
فانظر عزيزي القارئ أولا ما جاء في أمهات كتب التفاسير إن أردت أن ترى الاختلاف بين ما قالوا هم من علم وما سنقدم نحن من ظنون وافتراءات.
السؤال: لماذا صوت الحمير على وجه التحديد هي أنكر الأصوات؟
رأينا: لما كان الإنكار هو عكس المعرفة نحن نظن أن صوت الحمير هو الأنكر لأنه الأصعب في تمييز ما فيه، ولكن كيف؟
افتراء من عند أنفسنا: لو أنت سمعت صوت دابة أخرى (كالقط أو الكلب مثلاً) لربما استطعت أن تميز (أي أن تفهم) شيئاً ما في نبرة صوته كأن يكون جائعاً مثلاً أو خائفاً أو أنه يعاني من المرض أو البرد أو أن عنده رغبة جنسية، وهكذا، فأصوات الدواب الأخرى تتفاوت في الحاجة التي تنتظرها الدابة والتي من أجلها انفجر صوتها، ولكن الأمر بالنسبة للحمار فهو – برأينا- مختلف، فنبرة صوت الحمار هي واحدة لا تتغير بغض النظر عن حاجته، فسواء كان الحمار جائعاً أو راغباً في تحقيق شهوته الجنسية انطلق صوته بصوت يكاد يكون هو نفسه لا تفاوت فيه في جميع حالاته.
نتيجة مفتراة: نحن نتجرأ على هذا الافتراء بأن النكران (أو الإنكار) هو عكس المعرفة التي ربما يمكن من خلالها الوصول الغاية المنشودة وحتى بعض التفاصيل، فإبراهيم ينكر ضيوفه لأنه لا يعرف من هم ولا يعرف الغاية من قدومهم إليه وليس عنده تفاصيل عن أسباب زيارتهم المفاجئة لهم، وكذلك الحال بالنسبة للوط، وإخوة يوسف ينكرونه لأنهم لا يستطيعون أن يعرفوا أخوهم الذي عرفهم (فلم ينكرهم)، فلربما ضاعت (مع تقدم العمر بيوسف) جميع التفاصيل التي كانت من الممكن أن تدلّهم عليه، فهو كان لازال غلاماً صغيراً عندما ألقوه في غيابت الجب، وعندما يكبر الطفل لا شك تتغير جميع تفاصيل شكله التي كان عليها، ولكن الأمر بالنسبة للكبار يختلف بعض الشيء، فلابد أن بعض إخوة يوسف كانوا قد وصلوا إلى سن يصبح التغيير في البنية الخارجية أقل شدة من حالة الغلام الصغير، لذا نحن نظن أن هناك فيما تبقى من تفاصيل هيئتهم وشكلهم وربما عددهم ما يمكن أن يدلّ يوسف عليهم، ولا شك أن يوسف لم تكن تنقصه الفراسة والذكاء ليستطلع خبرهم بما تبقى في ذهنه من تلك الصورة القديمة المطبوعة عنده عن إخوته.
ثانياً، لابد من التأكيد من خلال هذا الافتراء الذي نقدمه هنا على فكرة طرحناها سابقاً تتمثل في زعمنا أن المعرفة ربما لا تؤدي بالناس إلى الهداية، ولكن كيف؟
جواب: من المفترض أنه ما أن يتحصل للإنسان المعرفة بشيء (كان قد نكره من ذي قبل) حتى يكون قد وصل إلى الهداية، ولكن هل هذا فعلاً ما يحصل؟ هل فعلاً عندما يتحصل للإنسان المعرفة بشيء قد نكره من ذي قبل يسلك طريق الهداية؟
الجواب: كلا، وألف كلا. فها هم أهل الكتاب- كما جاء في كتاب الله- يعرفونه كما يعرفون أبناءهم:
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ البقرة (146)
وهم قد ينكرون بعضه:
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ۚ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ ۚ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ الرعد (36)
وها هم الكثيرون منهم يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) النحل
وتكون أشد درجات الاستهجان بمن ينكر ما أنزل الله:
وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ الأنبياء(50)
ثالثاً، نحن نفهم من السياقات القرآنية أن الإنكار وظيفة يقوم بها القلب:
إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ النحل (22)
قصة موسى مع صاحبه
إنْ صحّت افتراءاتنا هذه، فإنها تقودنا إلى إشكالية كبيرة تثيرها الآية الكريمة التالية التي تبيّن لنا ما قاله موسى لذاك الرجل الذي ذهب هو بنفسه طالباً صحبته:
فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا الكهف (74)
السؤال: كيف يتهم موسى الرجلَ الذي صاحبه بأن قتله للغلام كان شيئاً نكرا؟
رأينا: نحن نظن أن هذا هو بالضبط ما كان يقصد موسى أن يقوله للرجل الذي قتل العلام، فنحن نقرأ في كتاب الله أن موسى يرى في قتل الرجل للغلام شيئاً نكرا:
فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا الكهف (74)
فيسبب هذا الذي قاله موسى غضباً – في ظننا- شديداً للرجل، ويرد على موسى بلهجة أكثر حدة من رده السابق عندما سأله موسى عن السبب الذي دفعه لخرق السفينة. فعندما سأله عن خرق السفينة جاء رد الرجل على سؤال موسى على النحو التالي:
فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا الكهف (72)
ولكن عندما سأله عن سبب قتله للغلام، جاء رده أكثر شدة وزجراً لموسى وكان على النحو التالي:
فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
ولو دققنا في اللفظ في رده الأول ورده الثاني لوجدنا أنه يستخدم لهجة التخصيص الموجّهة لموسى شخصياً مدلّلاً على ذلك بمفردة "لَكَ". انظر الفرق بين الردين:
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
لاحظ الفرق في اللفظ، فماذا كانت غاية الرجل عندما استخدم مفردة "لَكَ" في رده الثاني؟
رأينا: نحن نتخيل الموقف على النحو التالي: أولاً، موسى يظن أن الرجل قد قتل الغلام وهو يعرف أن قتل نفس بغير نفس أمر لا يجوز:
قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا
ويكأن موسى يتهم الرجل أنه قد فعل شيئاً خاطئاً مع معرفته المسبقة بأن هذا الفعل خاطئ، أي ويكأن موسى يتهم الرجل بتقصد الإساءة، وبالتالي بأنه قد قتل الغلام على غير هدى. فالذي يعرف أن شيئاً ما هو عمل خاطئ ومع ذلك يقدم على فعله (أي ينكره) فهو بلا شك شخص على غير هدى، مصداقاً لقوله تعالى:
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ النحل (83)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ المؤمنون (69)
فها هو سليمان يطلب من الملأ أن ينكروا لها عرشها لينظر أتهتدي أم من تكون من اللذين لا يهتدون:
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ النمل (41)
نتيجة: الذي ينكر الشيء بعد معرفة فإنه بلا شك يكون من الذين لا يهتدون
أما الذي يعلم الشيء ويفعل غيره فإنه من الظالمين:
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (145)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن موسى ربما لم يتهم الرجل بالظلم (عكس ما يعلم) لأن موسى يعلم أن الرجل على علم، ولكنّه اتهم الرجل بأنه قد فعل شيئاً نكراً (أي عكس ما يعرف)، وهو بالتالي يفعل شيئاً نكرا. وهذا – في ظننا- ما أغضب الرجل غضباً شديداً، فالرجل أصلاً يقوم بذلك الفعل (الذي هو في ظاهره فعل خاطئ) ولكنه يقوم بذلك عن علم:
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
ثانياً، نحن نزعم الظن أن الرجل يوجّه الخطاب بالتخصيص لموسى باستخدام ضمير المخاطب "لَكَ" هنا في حادثة قتل الغلام على وجه التحديد (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) ربما ليذكّره بأنك أنت يا موسى آخر من يحق له أن يقدّم نصيحة كهذه. ويكأن الرجل – نحن نتخيل فقط- يقول لموسى: الآن تنصحني أنت يا موسى بأن قتل النفس بغير نفس هو شيء نكرا؟ ألا تذكر (يا موسى) يوم أن وكزت الرجل فقضيت عليه لا لشيء وإنما لأن واحداً من شيعتك استغاثك عليه؟
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ القصص (15)
ثم، ألا تذكر يا موسى أنك أردت أن تبطش بنفس أخرى في اليوم التالي لولا أن ذلك الرجل نبّهك إلى سوء تلك الفعلة؟
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ القصص (19)
ونحن نظن كذلك أن خطاب الرجل مع موسى جاء هذه المرة ليدل على أن موسى ربما تجاوز كل الخطوط الحمراء المسموح بها، لأنه ما كان لمثل موسى – برأينا- أن يقع بمثل هذا المحظور، لأن في ذلك اتهام مباشر للرجل في عقيدته، ولكن كيف؟
نحن لا نظن أن رجل آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علماً قد يغفل ولو للحظة واحدة عن السنة الإلهية التي كتبها الله منذ اللحظة الأولى التي حصلت فيها جريمة قتل على الأرض، فبعد أن طوعت نفس ولد آدم قتل أخيه فقتله:
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
جاءت السنة الإلهية على هذا النحو:
مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
والمدقق في السياق القرآني نفسه يجد أن الله يتحدث عن من يقتل نفساً بغير نفس من باب محاربة الله والفساد في الأرض.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن صاحب موسى قد بلغ به الغضب من موسى مبلغاً دفع بموسى أن يشترط هو على نفسه مفارقة الرجل إن وقع بعد ذلك في محظور آخر:
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا الكهف (76)
النتيجة: نحن نفتري القول أن الرجل أراد هذه المرّة أن يوجّه رسالة قوية إلى موسى بأن قصة القتل على وجه التحديد هي آخر مجال يمكن أن يقدم فيه موسى النصيحة لأحد. لقد كان الأجدر بك يا موسى – نحن نتخيل الرجل يقول- أن تذكّر نفسك بأن قتل النفس بغير نفس هو شيء نكرا قبل أن تذكّر به غيرك. كما يجب عليك يا موسى أن لا تتهمني بأني أقتل من باب قتل نفس بغير نفس لأن من يفعل ذلك فكأنما قتل الناس جميعاً. والله أعلم.
السؤال: لماذا قتل الرجل الغلام إذن؟ ولماذا ظن موسى أن هذا شيء نكرا؟ وكيف نفهم تأويل الرجل لقتل الغلام كما ورد في الآية الكريمة التالية:
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
سؤال: هل هذا سبب كاف أن يدفع بالرجل لأن يقتل الغلام؟ ولماذا رضي موسى بهذا التأويل؟ وكيف فهم موسى أصلاً تأويل الرجل لهذه الحادثة؟
هذا ما سنحاول النبش فيه في هذه المقالة عن قصة موسى ولكن هناك حلقات ذهنية أخرى لابد من تفقدها أولاً ليتم ربطها مع السؤال قيد البحث. ولنبدأ بإثارة هذه الحلقات الذهنية طارحين أسئلة ربما تبادرت إلى ذهن العامة، ونظن أنهم لم يجدوا عند أهل العلم إجابات شافية تلبي رغبة الباحث منهم عن الحقيقة.
أما بعد،
قصة موسى1: باب الطفولة
عند قراءة قصة موسى مع ذلك الرجل الذي ذهب موسى بنفسه ليطلب صحبته ليتلقى على يديه العلم:
قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا الكهف (66)
تطير إلى ذهن القارئ للنص القرآني (بغض النظر عن عقيدته) تساؤلات كبيرة جداً تتعلق بشخصية ذلك الرجل نذكر منها:
- من هو ذلك الرجل الذي ذهب موسى ليطلب صحبته والتعلم على يديه؟
- وكيف برجل لا نعلم من أين جاء يلقّن نبي الله وكليمه دروساً في العلم؟
- والأهم من ذلك: كيف نستطيع أن نفهم أن ما قام به الرجل من خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار يقع في باب العلم؟
- فلماذا خرق السفينة ومن أين جاءه العلم بذلك؟
- ولماذا قتل الرجل الغلام؟ وأين يكمن العلم في قتل غلام ربما لم يبلغ بعد سن التكليف؟ وهل ما قاله الرجل لموسى فيما يخص تلك الحادثة في نهاية الرحلة يبرر فعلاً قتل نفس بغير نفس كما ظن موسى؟
- ولماذا بنى الجدار؟
- ولماذا طلب موسى منه أن يأخذ الأجر على بناءه للجدار مادام أن الجدار يعود ليتيمين في المدينة؟ فهل وصل الأمر بموسى أن يطلب أجراً من أيتام يقوم بعمل شيء لهم؟
- وماذا سنستفيد نحن من قراءة هذه الحوادث والعلم عنها؟ هل فيها ما ينفعنا في حياتنا المعاصرة بعد قرون طويلة من حصولها؟
- الخ.
الفكر السائد: غالباً ما غلّف أهل الدراية تفسيراتهم لهذه الأحداث التي يرد ذكرها في كتاب الله بالعقائد المسبّقة التي تفسر كل ما لا يمكن تفسيره عندهم. فهم – كما زعمنا على الدوام- يفسرون الغيبيات بالغيبيات، فالقصة نفسها في كتاب الله قد أشكلت على العامة من مثلي، ولكني في الوقت ذاته لا أجد في تفسيرات أهل الدراية (سادتنا العلماء) لهذه القصص ما يجعل الصورة أكثر وضوحاً، أو ما يمكن أن يزيل الإرباك الذي يقع في نفسي عندما أقرأها من كتاب الله لوحدي. إن أكثر ما فعله سادتنا العلماء على مر القرون أنهم عندما يتحدثون عن قتل ذلك الرجل للغلام مثلاً يأخذون ذلك من باب الوازع الإيماني العقائدي، فيجوزوا للرجل ما لا يجوّزون لغيره بالرغم من عدم معرفتهم بالسبب الحقيقي من وراء عمله ذاك، فيصبّوا على الرجل كل عبارات المديح والثناء والتعجب الحميد من فعلته تلك، أليس كذلك؟
ولكنهم – بالمقابل- عندما يتحدثون عن قتل فرعون مثلاً لأبناء بني إسرائيل يأخذون ذلك من باب وازع الكفر والإلحاد، فلا يجوزوا لفرعون فعلته تلك بالرغم من عدم معرفتهم أيضاً بالسبب من وراء قيام فرعون بذلك. فينصبّوا على الرجل بكل عبارات الذم والقدح والتعجب المستهجن من فعلته تلك، أليس كذلك؟
رأينا: ألا يحق لنا نحن العامة أن نتساءل فقط: هل فهم علماؤنا الأجلاء فعلاً لم قتل صاحب موسى الغلام؟ وهل أسعفونا بما أذن الله لهم به من علم لنفهم نحن العامة ما حصل فعلاً؟ وهل فهم علماؤنا الأجلاء لم كان فرعون يقتّل أبناء بني إسرائيل؟ وهل أسعفونا بعلم أذن الله لهم به لنفهم نحن الفرق بين الحالتين؟
موقفنا
أولاً، نحن نظن (بافتراء من عند أنفسنا) أن علماءنا الأجلاء لم يسعفونا بشيء سوى أنهم زادوا الطين بلّة فوق رؤوسنا عندما أضافوا لنا جهلاً على جهلنا لمّا لم يفسروا لنا القصة القرآنية على حقيقتها ولم يفسحوا لنا المجال أن نتفكر بها بأنفسنا. فمن يستطيع بعد قرون من الزمن أن يقدّم قوله على قول فلان وقول ابن فلان أو ابن علاّن...؟ ألم توكل هذه الأمة موروثها العقائدي إلى طائفة من الناس ظنوا أنهم مؤتمنين عليه؟ فماذا كانت النتيجة بعد قرون طويلة من الزمن؟ هل نستطيع أن نفهم آية واحدة في كتاب الله على حقيقتها كما أرادها الله إلا بعد المرور طوعاً أو كرهاً بما جادت به عقول أهل الدراية ونقله عنهم أهل الرواية؟ ولكن السؤال الأكبر يبقي على النحو التالي: وهل فعلا جادت عقولهم بشيء أصلاً يستحق المرور عليه؟ من يدري؟!!!
رأينا: نحن نظن أن الحاجة ماسّة لدحض الموروث العقائدي الذي وصلنا من عند أهل الدراية من خلال أهل الرواية جملة وتفصيلاً، وإعادة النبش عن تفاصيل القصة نفسها في مفردات الآيات القرآنية الكريمة دون الالتفات إلى آراء البشر السابقة باهتمام أكثر مما يجب، لأننا نظن (كاذبين بالطبع) أنه لا يوجد في كلامهم ما يمكن أن يسمن أو أن يغني من جوع.
ثانياً، نحن نظن أن من أراد أن يدخل على النص القرآني ليفهمه، فلا يجب أن يدخل عليه وفي رأسه عقائد مسبّقة تفسر ما لا يمكن تفسيره من خلالها. فمثلاً نحن لا نتزحزح عن موقفنا المبدئي الذي مفاده بأن القتل هو قتل بغض النظر عمن قام به، ولابد من إيجاد التبرير المرضي سواء كان من قام به مؤمنا كموسى أو صاحبه أو كافرا كفرعون وغيره، فمن أراد أن يتصدى لتفسير هذه القصص فعليه أن يبيّنها للناس بالدليل الذي لا يمكن رده، وهو الدليل المستنبط من كتاب الله نفسه. فأنا لا أقبل أن تفسر لي قتل صاحب موسى للغلام فقط من باب الوازع الإيماني لأنك تعرف أن الرجل كان مؤمنا، وفي الوقت ذاته لا أقبل أن تفسر لي سبب قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل من باب العقيدة التي مفادها أن فرعون كان كافراً وكفى.
ثالثاً، لابد من رد كلام أهل الدراية (مهما كان مصدره) إن لم تكن تدعمه الحجة المستنبطة من كتاب الله، فقول البشر (مهما علا شأنهم) ليس حجة على كتاب الله، ولكن كتاب الله هو الحجة على قول كل البشر مهما بلغوا من العلم والمعرفة. فتفسير هذه القصص لا يكون بشيء مثل "قال فلان..." وروى فلان عن فلان...". فليقل من شاء أن يقول، وليروي من شاء أن يروي، فمن لا يملك الدليل والحجة فلا أظن أن كلامه يمكن أن يعتد به، وأظن أن recycle bin هي أفضل مكان يخزن به كلام لا تدعمه الحجة من كتاب الله. فنحن نطلب من القارئ الكريم أن لا يلق بالاً لأي افتراء نقدمه من عند أنفسنا ما لم يكن يدعمه الدليل المستنبط من كتاب الله.
هذه من أبجديات عقيدتنا، وهذا ما سنحاول أن نلتزم به عندما ندخل إلى قصة قتل الغلام على يد صاحب موسى. لذا فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً.
أما بعد،
السؤال قيد البحث: كيف نفهم حوادث القتل كما ترد في كتاب الله؟
جواب: لابد من ملاحظة السيناريوهات الثلاثة التالية التي ترد جميعها في كتاب الله:
(1) سيناريو موسى: موسى قتل نفساً فاستغفر ربه (وأراد أن يقتل الأخرى) فكان رسولا
(2) سيناريو صاحب موسى: صاحب موسى قتل نفساً (ولم يستغفر ربه) فكان صاحب علم يطلب موسى العلم عنده
(3) سيناريو فرعون: فرعون قتل أنفس (ولم يستغفر ربه) فكان من الضالين المضلين
السؤال: ما قصة القتل؟ وكيف يمكن تبريرها في كل حالة من هذه الحالات الثلاثة؟
(هذا ما سنتناوله في مقالاتنا هذه الخاصة بقصة نبي الله موسى بحول الله وتوفيقه، لذا فالله أسأل أن يقضي أمره فينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بعلم لا ينبغي لغيري إنه هو السميع المجيب).
أما بعد،
افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأنه إن استطعنا (بحول الله وتوفيقه) أن نفهم السبب الذي من أجله كان يقتّل فرعون أبناء بني إسرائيل لربما وصلنا إلى إجابة أكثر دقة للسؤال عن سبب قتل هذا الرجل لذاك الغلام، وإنّ أقل ما يمكن أن نبوح به حتى الساعة من عقيدة (وهي لا شك منحرفة عند أهل العلم) أنه لو كان قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل هو من باب قتل نفس بغير نفس لما دعت الحاجة أن يرسل الله رسولين يدعوانه لأن يتذكر أو أن يخشى، أو أن يطلب الله منهما أن يقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو أن يخشى:
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
لأن السؤال الذي كان سيطرح حينئذ هو: وماذا لو فعلاً تذكّر فرعون أو خشي؟ أين ستذهب دماء أولئك الذين قتلهم فرعون من أبناء بني إسرائيل؟ ولا يجب أن ننسى أن موسى نفسه قد قتل نفساً (ربما بغير نفس)، فاستغفر ربه، فغفر الله له:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
فهل – يا ترى- لو استغفر فرعون ربه (بعد كل هذا التقتيل لأبناء بني إسرائيل) هل كان الله سيغفر له؟
ولماذا أصلاً غفر الله لموسى؟ وماذا عن دم ذلك الرجل الذي وكزه موسى فقضى عليه؟ وماذا لو فعلت أنا مثل تلك الفعلة؟ هل يكفي أن استغفر ربي ويذهب دم من قتلت هباءً منثورا؟
رد أهل العلم: لعلي أخمن أن رد أهل الدراية سيكون على النحو التالي: لكن الله يعلم في علمه الأزلي أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى، فبعث الله لفرعون رسولين ليقيم عليه الحجة.
رأينا: ما شاء الله!!! جواب مفحم، أليس كذلك؟
ولكن - يا سادة- هل يستطيع فرعون (أو أي شخص آخر) أن يجادل في علم الله الأزلي؟ ألم يقرأ هؤلاء العلماء ما جاء في الآيات الكريمة التالية؟
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا النساء (79)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) النساء
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ۚ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ۖ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) يونس
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ۚ قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ الرعد (43)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) الإسراء
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا الفتح (28)
ثم – يا سادة – ألم تكن سنة الله الكونية على نحو أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
فما بال الله إذاً يرسل رسولين لفرعون على وجه الخصوص؟ هل لفرعون خصوصية تميزه عن كل أمم الأرض؟
ثم، ما بال الله – يا سادة- لا يرسل رسولاً أو اثنين لكل طاغية متكبر في الأرض؟ وهل تجبر فرعون مثلاً أكثر مما تجبر طواغيت العرب والمسلمين على مر الزمن؟ يكفي – بالنسبة لي- أن فرعون كان يستشير ملئه، لا بل ويأخذ الأذن منهم لتنفيذ مراده:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ غافر(26)
صحيح أن فرعون قد استخف قومه فأطاعوه، ولكن هل فرعون هو وحده من استخف قومه من أهل الحكم والملك؟ فليلق من أراد أن يجادل نظرة واحدة على خارطة العالم السياسية ولينظر أين هم حكام الأرض الذين لا زالوا (بعد الآلف القرون) يستخفون بقومهم ربما أكثر من استخفاف فرعون بقومه!!!
رأينا: إن استخفاف فرعون بقومه لم يكن ليحصل لولا أن قومه كانوا – كما يبيّن صريح اللفظ القرآني- قوماً فاسقين:
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ الزخرف (54)
وليلق من أراد أن يجادل نظرة على خريطة العالم السكانية، ولينظر أين هي شعوب الأرض الأكثر فسقاً على وجه الأرض!!!
ثم - يا سادة- مادام الأمر كذلك، وأن الله (حسب ظنكم) قد بعث لفرعون رسولين ليقيم عليه الحجة، فما ذنب موسى أن يجهد نفسه ويعرّض حياته وحياة أخيه للخطر مادام أن النتيجة محسومة في علم الله الأزلي؟ ألم يدب الخوف في قلب موسى لحظة أن طلب الله منه أن يذهب وأخيه إلى فرعون ليقولا له قولاً لينا:
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا ۖ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ۖ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) الشعراء
لِمَ إذن لَمْ يسأل موسى ربه – نحن نتساءل فقط- عن النتيجة؟ لمَ لمْ يسأل موسى ربه سؤالاً كهذا مثلاً: هل (يا رب) موجود في علمك الأزلي أن فرعون سيتذكر أو سيخشى؟ وهل يستحق فرعون فعلاً أن نبذل عليه جهداً ما دام أنه في علمك الأزلي لن يتذكر ولن يخشى؟
ثم – يا سادة- ما دام أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى (كما يظن علماؤنا الأجلاء أنه موجود في علم الله الأزلي)، فلم نطق فرعون بكلمة الإيمان لحظة أن أدركه الغرق؟
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يونس (90)
ولم جاء الرد الإلهي على إيمانه بأنك تأخرت يا فرعون في ذلك:
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يونس (91)
ولم أنجاه الله ببدنه نتيجة لذلك ليكون لمن خلفه آية؟
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ يونس (92)
رأينا المفترى: نحن لا نتخذ مثل هذه العقيدة السائدة الموروثة عن سادتنا العلماء، ونظن – بالمقابل- أن الله قد أرسل لفرعون رسولين لأن فرصة تذكر فرعون وخشيته كانت واردة جداً، وليس أدل على ذلك من كلمة الإيمان التي نطق بها فرعون في نهاية المطاف. ونحن نظن أن الله ما كان ليضع موسى وأخاه هارون في مسرحية معدّة فصولها مسبقاً. والأهم من ذلك بالنسبة لنا في هذا المقام هو أننا نعتقد جازمين أن قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل لم يكن من باب قتل النفس بغير نفس، ولكنه كان قتلاً عن علم، لذا نحن نؤمن يقيناً أنه لو تذكر فرعون وخشي بعد أن بعث الله موسى وأخاه هارون رسولين إلى فرعون فاستغفر ربه على فعلته تلك لغفر الله له ذلك بالضبط كما حصل في حالة استغفار موسى ربه بعد أن قتل الرجل. (وهذا ما سنحاول تقديم الدليل عليه لاحقاً بحول الله وتوفيقه).
نتيجة مفتراة خطيرة جداً جداً: نحن نفتري الظن بأن فرعون كان عنده (1) دافعاً و(2) علماً هما اللذان جعلاه يقتّل أبناء بني إسرائيل، ونحن نفتري الظن أن دافع فرعون للقتل ربما كان يواز الدافع الذي من أجله قتل موسى رجلاً من آل فرعون وإقدامه على قتل آخر في اليوم التالي (كلام خطير، أليس كذلك؟)
كما أننا نفتري الظن أيضاً بأن علم فرعون ربما كان يواز علم صاحب موسى الذي قتل الغلام الذي لقياه في الطريق (كلام أخطر، أليس كذلك؟)
سؤال: ربما يرد البعض على افتراءاتنا هذه على الفور بالقول: إذا كان عند فرعون دافع لقتل أبناء بني إسرائيل، فماذا كان دافعه ذاك؟ وإذا كان فرعون على علم، فماذا كان علمه؟ وما هو مصدر علمه؟
دافع فرعون في قتل أبناء بني إسرائيل
لنبدأ أولاً بالسؤال الخاص بدافع فرعون أن يقتّل أبناء بني إسرائيل وذلك بطرح السؤال الذي غالباً ما أثار الناس التساؤل التالي حوله: لماذا كان يقدم فرعون على قتل أبناء بني إسرائيل؟ هل من المنطق أن يقدم "إنسان" ( بغض النظر عن عقيدته) على قتل الأطفال لمجرد حبه للقتل؟ يمكن أن أصدق أن يقدم الإنسان على قتل إنسان آخر إن كان قد بلغ من العمر مبلغ الرجال كما يحصل في العادة، ولكن هل قتل الأطفال بحد ذاته سلوك يمكن أن يتقبله الطبع البشري؟
الخ.
المشكلة الأولى: رؤيا أم نبوءة؟
غالباً ما سوّق أهل الدراية في الفكر الإسلامي سبب قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل بشيء مما تناقله بعض اليهود في قصصهم، فهم يروجون للفكرة الشعبية التي مفادها أن "كهنة" (أو أهل علم ذلك الزمان) قد قدّموا لفرعون نبوءة مفادها أن طفلاً من بني إسرائيل سيولد وسيسلبه ملكه، لذا عمد فرعون حينئذ إلى قتل كل مواليد بني إسرائيل في ذلك الزمان، بينما ظنّ آخرون من أهل الدراية أن فرعون نفسه قد رأى في منامه ما سيحل ببلاده من الدمار بسبب مولود من بني إسرائيل، فعمد إلى قتلهم جميعاً. فانظر - عزيزي القارئ- ما جاء عند ابن كثير مثلاً في تفسير الآية الكريمة التالية:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ البقرة (49)
تفسير ابن كثير
يقول تعالى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب أي خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة وهكذا جاء حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال " يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم " وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى وبه الثقة والمعونة والتأييد . ومعنى يسومونكم يولونكم قاله أبو عبيدة كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها قال : عمرو بن كلثوم : إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا وقيل معناه يديمون عذابكم كما يقال سائمة الغنم من إدامتها الرعي. نقله القرطبي وإنما قال هاهنا " يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم " ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله " يسومونكم سوء العذاب" ثم فسره بهذا لقوله هاهنا " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " وأما في سورة إبراهيم فلما قال " وذكرهم بأيام الله " أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك " يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم " بعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل . وفرعون علم كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا وكسرى لمن ملك الفرس وتبع لمن ملك اليمن كافرا والنجاشي لمن ملك الحبشة وبطليموس لمن ملك الهند ويقال : كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان وقيل : مصعب بن الريان فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح وكنيته أبو مرة وأصله فارسي من اصطخر وأيا ما كان فعليه لعنة الله وقوله تعالى " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " قال ابن جرير وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى " بلاء من ربكم عظيم " قال نعمة وقال مجاهد " بلاء من ربكم عظيم " قال نعمة من ربكم عظيمة وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي وغيرهم وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " وقال " وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون " قال ابن جرير وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء قال زهير بن أبي سلمى : جزى الله بإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو قال فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده وقيل المراد بقوله " وفي ذلكم بلاء " إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء قال : القرطبي وهذا قول الجمهور ولفظه بعد ما حكى القول الأول ثم قال : وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هاهنا في الشر والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان.
ثم قارن ذلك بما جاء عند ابن كثير نفسه في تفسير الآية الكريمة التالية التي تتحدث أيضاً عن تقتيل فرعون لأبناء بني إسرائيل:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ القصص (4)
تفسير ابن كثير
قال تعالى : " إن فرعون علا في الأرض " أي تكبر وتجبر وطغى " وجعل أهلها شيعا " أي أصنافا قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته وقوله تعالى : " يستضعف طائفة منهم " يعني بني إسرائيل وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال ويكدهم ليلا ونهارا في أشغاله وأشغال رعيته ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيي نساءهم إهانة لهم واحتقارا وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه أن يوجد منهم غلام يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه . وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخذها جارية فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك مصر على يديه فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون فاحترز فرعون من ذلك وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل ولن ينفع حذر من قدر لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب
موقفنا: نحن لا ندري ما كان سبب تقتيل فرعون لأبناء بني إسرائيل: أهي رؤية فرعون نفسه كما جاء في تفسير آية البقرة أم نبوءة من حوله عن ما كان يتدارسه بنو إسرائيل من قول إبراهيم الخليل؟ من يدري!!!
المشكلة الثانية: لماذا موسى وليس هارون؟
ولما فاجأ العامة أهل العلم بالسؤال عن هارون قائلين: لماذا إذن لم يقتل فرعونُ هارونَ (شقيق موسى) مادام أنه كان يقتّل أبناء بني إسرائيل؟ انبرى الأفذاذ من أهل الدراية بالجواب العظيم الذي يسلب عقل كل ذي لب فقالوا: أن فرعون كان يقتّل أبناء بني إسرائيل عاماً ويذرهم عاما، فجاء مولد موسى في العام الذي كان من المفترض أن يقتل فرعون المواليد فيه، بينما ولد هارون في العام الذي لم يكن يقتل أبناء بني إسرائيل فيه؟
- ما شاء الله!!! ألا ترى عزيزي القارئ هذه العبقرية الخالدة؟! من يدري!!!
موقفنا: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
فهمنا المفترى للسبب الذي من أجله كان يقتل فرعون أبناء بني إسرائيل
موقفنا: نحن نظن أن كل ما جاء في كتب التفاسير حول هذه الجزئية لا يعدو أكثر من أساطير محرفة عن موروثات الأمم السابقة التي كانت أصلاً قد حرفت من ذي قبل، فلقد أضاف علماؤنا الأجلاء (مع خالص احترامنا وتقديرنا لشخصياتهم وليس لعلمهم) تخريفاً إلى تحريف سابق، لذا نحن نرى أن الحاجة ملحّة للعودة بهذه الأسئلة إلى نقطة البداية ليكون محور النقاش منصباً على ما يمكن أن يدعمه الدليل المستنبط من كتاب الله وحده. والله أسأل أن يأذن لنا بشيء من علمه لنقول عليه الحق فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو السميع المجيب
أما بعد،
أولاً، نحن نعتقد أن فرعون لم يكن يقتل أبناء بني إسرائيل عاماً ويذرهم عاماً، وإنما كان يقتل أبناء بني إسرائيل على الدوام، ولو رجعنا إلى آيات الكتاب الكريم التي تتحدث عن تقتيل فرعون لأبناء بني إسرائيل لما وجدنا فيها إشارة إلى هذا التناوب المزعوم في أعوام القتل:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
نتيجة: نحن نظن أن فرعون وقومه كانوا يذبحون أبناء بني إسرائيل على الدوام، وما كانوا يبقون منهم أحدا. فلِمَ إذن – يسأل صاحبنا- لَمْ يقتل فرعونُ هارونَ (شقيق موسى)؟
للإجابة على هذا السؤال نرى أن الافتراءات التالية التي هي من عند أنفسنا ربما تستحق من القارئ الكريم التأمل ولو قليلاً:
افتراء 1: نحن نفتري الظن بأن موسى هو الأخ الأكبر لهارون، فهارون أصغر من موسى بالسن، والدليل على ذلك يأتي من ظننا الافتراضي الذي مفاده بأنه لو كان هارون أكبر من موسى بالسن لما أقدم موسى على أن يجر أخاه الأكبر (هارون) برأسه أو أن يأخذ بلحيته وبرأسه معاً:
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الأعراف (150)
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي طه (94)
فلا أخال أن الأخ الأصغر (مهما كانت الحجة أو المسوغ) يمكن أن يقدم على فعل كهذا بأخيه الأكبر، ولكن لمّا كان موسى - في ظننا- أكبر سناً من أخيه هارون ربما نجد للأمر تبريراً.
كما يمكن أن نستنبط من بعض السياقات القرآنية أن هارون لم يغادر أرض مصر عندما فعل موسى فعلته وقتل رجلا من آل فرعون:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ القصص (15)
السؤال: ما دام أن موسى (أخ هارون) قد قتل رجلاً من آل فرعون، فلم إذاً لم يأخذ فرعون (أو قومه) هارونَ بفعلة أخيه؟ أليس الإخوة شركاء في الدم؟ وإذا كان هارون من شيعة موسى فلم لم يقم أهل المقتول بالثأر من موسى على الأقل بدم أخيه مادام أن موسى قد هرب من مصر؟ والأهم من هذا كله، كيف يجرؤ موسى على الهرب بعد فعلته هذه ويترك أخاه خلفه؟ ألم يكن يخشى أن يأخذ القوم أخاه هارون بسوء فعلته هو (موسى)؟
افتراء 2: نحن نفتري الظن أن فرعون لم يقدم على قتل هارون (بالرغم مما فعل أخوه موسى) لأن هارون لم يكن أصلاً من ذرية بني إسرائيل الذين كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وبكلمات أكثر دقة نقول لم يكن هارون من آل موسى.
- ما الذي تقوله يا رجل؟ هل أنت بكامل قواك العقلية؟ أليس موسى هو شقيق هارون؟ فكيف بك تقول أن هارون ليس من بني إسرائيل إذن؟
جواب: نعم، هارون هو أخ موسى ولكنه ليس من طائفة بني إسرائيل الذين كان فرعون يقتّل أبناءهم ويستحي نسائهم؟
- وكيف يمكن أن يستقيم ذلك؟ هل هذه أحجية؟
جواب: لا، هي ليست أحجية، ولكن هذا ما نظن أن القرآن يثبته، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نفتري الظن بأن هارون هو أخ موسى من أمه ولكنه ليس أخوه من أبيه، فموسى وهارون هم أخوة في الأم ولكنهما ليسوا إخوة في الأب، لذا كان لكل واحد منهم أب يختلف عن أب الآخر وإن كان الاثنان يشتركان في الأم، لذا كان كل واحد منهم ينحدر من آل يختلف عن آل الآخر، فهناك آل موسى وهناك آل هارون كما نجد ذلك بصريح اللفظ القرآني:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ البقرة (248)
دقق – عزيزي القارئ- جيداً بمفردات هذه الآية الكريمة لنطرح عليك بعدها التساؤل التالي: لماذا هناك آل لموسى وهناك آل لهارون مادام أن الاثنين هم إخوة؟[1]
أن افتراءنا هذا بأن موسى وهارون تجمعهما فقط أخوة الأم تدعمه آيات كريمة من كتاب الله:
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الأعراف (150)
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي طه (94)
فبعيداً عن التحليق في عالم المجازات وسماء الاستعارات، نحن نقرأ بصريح اللفظ القرآني أن هارون نفسه يقول بملء فيه لموسى " يَا ابْنَ أُمَّ"، لذا نحن نفهم أن الرابط بين موسى وأخيه هارون هو رابط قادم من طرف الأم، وليس رابطاً قادم من طرف الأب.
تبعات هذا الظن
ربما يفسر لنا هذا الظن لِمَ لَمْ يأت ذكر لوالد موسى في كتاب الله كله، ولِمَ كان أشخاص القصة هم أمه وأخته فقط.
لقد تحدثنا في مقالة سابقة لنا عن هذه الجزئية، وزعمنا الظن أن والدة موسى قد تزوجت (بذي الكفل) بعد أن وقع موسى في بيت فرعون، فآثرت أن تبقى قريبة من ولدها، وكان هذا الرجل (نبي الله ذو الكفل) هو صاحب البيت الذي كفل موسى:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ طه (40)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) القصص
وكان ذو الكفل هذا رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه لأسباب سنتعرض لها لاحقاً:
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن حديثاً كهذا وعلماً كهذا لا يمكن أن يصدر إلا عن صاحب علم عظيم (وقد تعرضنا لهذه القضية سابقة في مقالتنا تحت عنوان: لماذا قدم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟ لذا نحن نرى الضرورة تستدعي أن يعود القارئ الكريم إلى تلك المقالة للبحث عن الأدلة التي تدعم افتراءنا هذا، كما سنتابع الحديث لاحقاً عن تفاصيل أخرى حول قصة نبي الله ذو الكفل بحول الله وتوفيقه، لذا فالله أسأل أن يأذن لنا بشيء من علمه)
ونحن نظن أن قرية فرعون هذه هي القرية التي أرسل الله لها رسولين (موسى وهارون) وعززهما بثالث (ذي الكفل):
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ۚ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
فنحن نفتري الظن أنه ما من قرية أرسل الله إليها رسولين سوى قرية فرعون، وعززهما الله بثالث وهو ذو الكفل (والد نبي الله هارون أخ موسى من أمه وليس من أبيه). فلقد كان ذو الكفل يخفي شخصيته وهويته حتى بعث الله موسى وأخاه هارون رسولين إلى فرعون، ولمّا كذّب القوم المرسلين عززهما الله بثالث، فكان خطابه لهم واضحاً كما يرد في الآيات القرآنية التي تصور موقف هذا الرجل.
افتراء من عند أنفسنا: لقد كان ذو الكفل من آل فرعون وكان يكتم إيمانه عن القوم، وآثر أن يبقي مجهول الاسم حتى يضمن سلامة موسى عندما يكون هو صاحب البيت الذي كفل موسى. وما أظهر إيمانه إلا بعد رجوع موسى رسولاً إلى فرعون ومعززاً بأخيه هارون. ولو تابعنا النص القرآني الذي يأتي مباشرة بعد الآيات السابقة لوجدنا الحديث يجري عن هذا الشخص الذي جاء من أقصى المدينة يحمل تلك الرسالة إلى فرعون وملئه:
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
ولو قرأنا قول الرجل كما جاء في سورة غافر لوجدنا أنه يتحدث عن علم ما كان من الأمم السابقة وعلم ما سيحل بآل فرعون من العذاب إن هم أنكروا وكذبوا دعوة المرسلين:
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
وفي هذه اللحظة فقط علم فرعون كيف كان مكر الله (لأن الله هو خير الماكرين)، فلقد فهم فرعون أن هذا الرجل الذي من قومه هو من تستتر على موسى كل هذه الفترة الطويلة من الزمن، وهو من كان الرأس المدبر لكل ما حلّ بفرعون بسبب موسى، عندها لم يتردد فرعون أن يقتله بعد أعلن إيمانه صراحة على الملأ:
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
السؤال: كيف حدث كل هذا من وراء فرعون؟ ألم يكن فرعون يعلم بما يدور حوله؟ من الذي دبر المؤامرة كلها ضد فرعون؟
فرعون: رواية جديدة مفتراة من عند أنفسنا
من هو فرعون؟
لعلنا لا نختلف في أن فرعون كان هو حاكم مصر المطلق زمن نبي الله موسى:
وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
ولكن بالرغم أن فرعون كان له ملك مصر إلا أنه لم يكن ملك مصر ولكنه كان فرعون مصر، فلماذا؟ ومن أين حصل فرعون على ملك مصر؟
جواب: إن المتدبر للنص القرآني يجد أن الرسول الذي سبق موسى في أرض مصر هو نبي الله يوسف ابن يعقوب ابن اسحق ابن إبراهيم، أليس كذلك؟ ولعلنا لا نختلف أن في زمن نبي الله يوسف كان من يحكم مصر يلقب بالملك، وليس أدل على ذلك من الملك صاحب الرؤيا التي فسّرها يوسف له:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
وكان تفسير هذه الرؤيا هو السبب المباشر الذي من أجله قرّب يوسف إليه:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
فالملك لا شك استخلص يوسف لنفسه، فأصبح يوسف منذ ذلك الوقت من أكثر الناس المقربين إليه، حتى طلب يوسف نفسه من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لما يتمتع به من الحفظ والعلم:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
ولما استقر الأمر ليوسف في مصر، وحصل أن جاء إخوته (والقصة بتفاصيلها معلومة للجميع)، طلب يوسف من إخوته أن يأتوا بأهلهم جميعاً إلى أرض مصر:
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
وما أن حظروا بصحبة أبيهم يعقوب حتى كان العرش قد استتب ليوسف في أرض مصر:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وفي تلك الأيام كان بنو إسرائيل في قمة مجدهم في أرض مصر، فكانوا هم سادتها وملوكها، ملك بدأ بيوسف:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
واستمر قسطاً من الزمن:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
ملحوظ مهم جداً: لو راقبنا هاتين الآيتين الكريمتين لوجدنا أن بني إسرائيل كانوا ملوكاً في أرض غير الأرض المقدسة، فأين كان ملكهم إذن؟
افتراء من عند أنفسنا: لقد كانوا ملوكاً في أرض مصر
وهنا تبدأ المشكلة الأولى التي نود التعرض لها ونظن أنها ذات علاقة وثيقة بقصة بني إسرائيل في أرض مصر وسببا رئيساً في استعبادهم هناك. فما هي تلك المشكلة؟
رأينا المفترى: ما أن هلك يوسف حتى أصبح الصراع في بني إسرائيل على النحو التالي:
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)
دقق – عزيزي القارئ- في هذا السياق القرآني وحاول أن تتفكر في سبب الربط بين هلاك يوسف (34) وطلب فرعون من هامان أن يبني له صرحاً ليبلغ الأسباب (الآية 36).
لو تدبرنا النص جيداً لوجدنا أن الآية التي تتوسطهما (الآية 35) تحل الإشكال برمته، ولكن كيف؟
لنتدبر الآية جيداً:
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أنه ما أن هلك يوسف حتى أصبح الجدال في بني إسرائيل ليس على الملك وإنما على النبوة (حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا)، فلقد ساد في فكر الإسرائيليين في أرض مصر أن النبوة قد انقطعت بعد يوسف، ويكأنهم يقولون أن يوسف هو آخر رسل الله، ولكن جدالهم هذا كان من باب الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ.
نتيجة مفتراة: لقد كان محور النقاش (وبالتالي الخلاف) في بني إسرائيل حينئذ حول سؤال مفاده: هل سيبعث الله رسولاً من بعد يوسف؟
وكان ظن القوم أن الله لن يبعث رسولاً من بعد يوسف.
مفارقة مهمة جداً: ولا شك عندنا أن بني إسرائيل كان ظنهم على الدوام أن رسل الله لابد أن يكونوا من بينهم، فلقد عمد بنو إسرائيل إلى رفض كل رسول لا يبعث من بين ظهرانيهم، فهم قد احتجوا حتى على عيسى بن مريم (مادام أنه ليس من آل يعقوب) واحتجوا على محمد ما دام أنه ليس من بني إسرائيل، وهكذا.
إن مفاد القول هو أن حديث بني إسرائيل كان عن النبوة فيهم بعدما استتب الأمر بالملك لهم في أرض مصر، وهنا سيبرز السؤال التالي: وماذا عن المصريين أهل البلاد الأصليين؟ هل تظنون أنهم (وإن قبلوا حكم يوسف لهم فترة من الزمن) سيقبلون بحكم بني إسرائيل وإلى الأبد؟ وإذا كانوا قد سلّموا لهم بالملك فما بال النبوة تكون أيضاً حكراً في بني إسرائيل؟ هل الدنيا (الملك) لبني إسرائيل؟ وهل الآخرة (النبوة) لبني إسرائيل أيضاً؟ هل سيبقى الآخرون مجرد خدماً لبني إسرائيل؟ ما هذا التحيّز الإلهي لبني إسرائيل؟ ربما سأل بعضهم.
ألا تظنون - يا سادة- أن مثل هذه الأفكار لم تخالج المصريين الأصليين أصحاب البلد الذين "سلب" منهم ملك مصر على يد بني إسرائيل؟
رأينا: نحن نظن أن هذا كان سبباً رئيسياً في أن الذي كان يحكم مصر أيام موسى كان فرعوناً ولم يكن ملكاً: إنه الانقلاب العسكري على الحكم.
نعم، نحن نفتري الظن أن المصريين أهل البلد لم يطيقوا ذرعاً ببني إسرائيل بعد زمن من هلاك يوسف، فأخذوا يدبّرون الأمر حتى استطاعوا الإطاحة بالنظام الملكي الذي كان سائداَ زمن نبي الله يوسف في أرض مصر، وبدل أن يستمر النظام ملكياً في تسميته أصبح فرعونياً، بالضبط كما يحصل في حالة الانقلاب على العائلات الحاكمة الملكية، فما أن يتم الإطاحة بالملكية حتى تحل "الجمهورية" محلها، لقد كانت "جمهورية" المصريين (إن صح القول) بعد يوسف فرعونية في طابعها وتسميتها، لأن الفراعنة هم من قاد التمرد ضد الإسرائيليين الملكيين. ولا أظن أن أسم فرعون نفسه (كلقب) يخلو من عنصر التمرد.
ولما وصل الفراعنة إلى سدة الملك أخذوا ينتقموا أشد الانتقام من أعدائهم اللدودين وهم الإسرائيليين، فاستعبدوهم (أي اتخذوهم عبيداً)، ولكنهم لم يتوقفوا عند هذا الحد، بل كان هدفهم القضاء المبرم على سلالة الإسرائيليين الذين لم يبطنوا فكرة استعلائهم على أمم الأرض الأخرى. ولو تدبرنا السياقات القرآنية الخاصة باستعباد بني إسرائيل في أرض مصر لوجدنا أن من كان يقتل أبناء بني إسرائيل في أرض مصر ليس فرعون مصر فقط وإنما آل فرعون:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
ولو تأملنا السياق القرآني التالي على وجه التحديد لوجدنا أن تقتيل أبناء بني إسرائيل من قبل فرعون جاء بتحفيز من آل فرعون أنفسهم:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
فآل فرعون كان دائمين على تقتيل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ)، ولما تلكأ فرعون قليلاً عن الاستمرار في ذلك الفعل جاء التحريض واضح من القوم (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، فاستأنف فرعون هذا فعل التقتيل (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)، ولكن سطوة آل فرعون على بني إسرائيل كانت سابقة (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ). (وسنرى لاحقاً بحول الله وتوفيقه تبعات هذا الأمر على بعثة الرسل إلى فرعون، فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً).
افتراء من عند أنفسنا: ما أن وصل الفراعنة (المصريين الأصليين) إلى سدة الحكم حتى صدر المرسوم الفرعوني (رقم ) القاضي باجتثاث الإسرائيليين عن بكرة أبيهم، فكان القرار الذي اتخذه الفراعنة بالإجماع وليس فقط من قبل فرعون نفسه هو تقتيل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم. ولا أظن أن هذا غريب في حالة الثورات العسكرية التي تقلب نظام حكم سائد ليحل محله نظام حكم جديد. فقتل فرعون لأبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم هو من باب ما يفعل العدو بعدوه في وقت الحرب.
من المسئول عن تقتيل أبناء بني إسرائيل؟
لا شك عندنا أن فرعون كان المسئول الأول عن تقتيل أبناء بني إسرائيل، ولا شك عندنا أن آل فرعون هم من كانوا دائمين التحريض على الاستمرار في تقتيل أبناء بني إسرائيل. ولكن هذا في ظننا كان من قبيل ما يفعل العدو بعدوه. ولكن لابد لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل فرعون يقوم بفعلته تلك، وعن الذي دفعه إلى القيام بذلك؟
افتراء خطير جداً جداً: نحن نظن أن هناك(وبالإضافة إلى فرعون وقومه) من يجب أن يتحمل قسطاً من المسؤولية فيما حل ببني إسرائيل في أرض مصر، فلا نلقي باللائمة كلها على فرعون وآله، فمن يا ترى يجب أن يتحمل جزءاَ من المسؤولية عن ما حل ببني إسرائيل في أرض مصر؟
رأينا المفترى (المكذوب): نحن نرى (كاذبين بالطبع) أن يعقوب النبي ويوسف الرسول يتحملان قسطاً من المسؤولية (كلام خطير جداً، أليس كذلك؟) ولكن كيف؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من العودة إلى قصة موسى وطرح التساؤل التالي:
إلى أين كان موسى متجهاً بعد أن أنهى عقد عمله مع شعيب؟ هل كان موسى قاصداً العودة إلى أرض مصر؟ ألم يخرج موسى منها خائفاً يترقب؟ فكيف سيعود إليها ومعه أهله؟ هل كان يظن أن فرعون (وآل فرعون) قد نسوا ثأرهم القديم؟
رأينا: نحن نفتري الظن أن موسى ما كان ينوي العودة إلى أرض مصر بعد أن قفل راجعاً من أرض مدين، ونحن نظن أنه كان يقصد الذهاب إلى الأرض المقدسة فقط، وما كان موسى سيسلم نفسه (وأهله معه) لقمة سائغة لفرعون وقومه.
الدليل
لو تدبرنا السياق التالي لربما وجدنا الإشارة واضحة جداً إلى مثل هذا المعنى:
وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
دقق – عزيزي القارئ- في هذا السياق القرآني جيداً: ألا ترى أن موسى يخاف العودة إلى أرض مصر بسبب الذنب الذي يقع على عاتقه لفرعون وآله؟ ألا ترى أنه يتردد في الذهاب حتى بالأمر الإلهي له؟ فهل - يا ترى- كان سيذهب برجليه إلى هناك ليضع نفسه (وأهله معه) في أيدي قوم فرعون؟
رأينا: لا أظن ذلك.
ولو تابعنا النص القرآني نفسه لوجدنا أن مهمة موسى في الذهاب إلى مصر لمقابلة فرعون كان هدفها الأول هو أن يرسل معه بني إسرائيل. فانظر إلى الحوار الإلهي مع موسى:
قَالَ كَلَّا ۖ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ۖ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
سؤال: فماذا إذن كان هدف ذهاب موسى إلى فرعون وقومه في أرض مصر؟
جواب: ليرسل معه بني إسرائيل (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)
سؤال: وأين سيذهب موسى ببني إسرائيل؟ أي إلى أين سيرسلهم معه؟
جواب: إلى الأرض التي كتب الله لكم:
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
سؤال: لماذا سيطلب موسى من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل إلى الأرض التي كتب الله لهم؟
رأينا: لم يخرج بنو إسرائيل من الأرض التي كتب الله لهم إلا كان الهوان والذل من نصيبهم، فمتى خرج بنو إسرائيل من الأرض التي كتب الله لهم حتى أصبحوا مستعبدين في الأرض (يقتل رجالهم وتستحيى نساؤهم).
افتراء من عند أنفسنا خطير جداً: نحن نظن أن مهمة موسى كانت تكمن في تصحيح "الخطأ" الذي وقع به يعقوب ويوسف، ولكن كيف؟
رأينا: نحن نحمل العقيدة أن الأرض المقدسة خير من أرض مصر بدليل أن الله قد باركها وأنزل على القوم فيها المّن والسلوى، وعندما طلب الناس الثوم والبصل ونحوهما لما كانون يسكنون الأرض المقدسة، طلب الله منهم أن يهبطوا مصراً:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
ولا أظن أن نبياً كيعقوب أو أن رسولاً كيوسف يمكن أن يغفلا عن حقيقة أن الله قد كتب لبني إسرائيل الأرض المباركة، فكيف بهم إذن يتنازلون عن تلك الأرض في سبيل المكوث في أرض مصر؟
رأينا المفترى (الكاذب): نحن نفتري الظن بأن حب يوسف للملك:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وشوق يعقوب إلى رؤية ولقاء ولده يوسف:
وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
قد كانا سبباً في استعباد بني إسرائيل في أرض غير الأرض التي كتب الله لهم. لذا نحن نتجرأ على الافتراء الكاذب الذي هو بلا شك من عند أنفسنا بأن نبي الله يعقوب ورسول الله يوسف قد قدّما مصلحتهما الشخصية على المصلحة العامة لبني إسرائيل، لقد كان الأولى بنبي الله يعقوب أن لا يهبط أرض مصر ببني إسرائيل (إن كان يرغب الذهاب بنفسه لروية ولده)، كما كان الأجدر برسول الله يوسف أن لا يطلب من إخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين، وأن يذهب هو للقاء والده ولا ينتظر في مكان عرشه ليأتي والده العجوز من بعيد قادماً إليه، فنحن نستغرب أن يأتي الوالد (العجوز) متكبدا أعباء السفر للقاء ولده الشاب (وسنتعرض لهذه الجزئية بتفصيل أكثر في مقالاتنا الخاصة بقصة يوسف لاحقاً، فالله أسأل أن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع المجيب)
وربما من هذا الباب تأتي مهمة موسى في أرض مصر التي جاءت في الآية الكريمة التالية:
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
افتراء من عند أنفسنا: لقد كانت مهمة موسى تكمن في العودة ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة لأن وجودهم في غيرها قد سبب لهم الاستعباد في الأرض:
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
فكيف حصل كل ذلك؟
نحن نتخيل السيناريو على النحو التالي: ما أن أصبح بنو إسرائيل هم ملوك مصر حتى وقع صراع بين المصريين (الفراعنة) والإسرائيليين، فكانوا شيعاً:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
فكان موسى ومن معه في شيعة (وكانت الطائفة المستضعفة منهم) وكان فرعون في شيعة أخرى، ووقعت العداوة بين الطرفين، وليس أدل على ذلك من حادثة القتل التي فعلها موسى بنفسه:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
لقد كان من شيعة موسى الطائفة المستضعفة في أرض مصر، فدب الخلاف في أرض مصر بسبب الصراع على الملك، فما كان من موسى إلا أن ينتصر لطائفته، فقيامه بوكز الرجل وقتله لم يكن مدفوعاً إلا لمجرد أنه من شيعته ولمجرد أن الشخص الآخر من عدوه، أليس كذلك؟
إن صح منطقنا المفترى هذا، فإنه يحطنا عن الافتراء الأكثر خطورة التالي: لقد كان دافع موسى في القتل هو نفسه دافع فرعون للقتل، لقد قتل موسى الرجل الذي من عدوه نصرة للرجل الذي من شيعته، وهذا بالضبط – في رأينا- ما كان يقوم به فرعون، لقد كان يقتّل الرجال الذين من عدوه نصرة لشيعته. إنها الحرب التي لا هوادة فيها، فإما أن تقتل وإما أن تقتل.
ولا يظنن أحد بأن فعلة موسى تلك كانت من قبيل الصدفة، وذلك لأن موسى هَمّ بالقتل مرة أخرى في اليوم التالي مدفوعاً بنفس السبب السابق:
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
افتراء خطير من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أنه لو لم يتراجع موسى في تلك اللحظة عن خطأه لأصبح نسخة طبق الأصل عن فرعون، فالفرق بين الحالتين يتمثل – برأينا- في أن موسى قد أقر بخطئه فتراجع عنه في الحال، وندم على فعلته فاستغفر ربه على ذنبه:
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
واتخذ على نفسه عهداً أن لا يكون ظهيراً للمجرمين بغض النظر عن شيعتهم:
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
لأن هدف موسى كان الإصلاح كما جاء على لسان الرجل الذي أراد موسى أن يبطش به في اليوم التالي:
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
بينما استمر فرعون – بالمقابل- في الفساد، ليكون جباراً في الأرض:
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الأعراف (103)
۞ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الأعراف (142)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ يونس (81)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) يونس
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
لذا نحن نتخيل أنه لو تراجع فرعون عن فعلته وأقر بخطئه وندم عليه واستغفر ربه صادقاً بأن لا يكون ظهيراً للمجرمين (كما فعل موسى) لوجد الله غفوراً رحيماً.
نتيجة مفتراة: لقد دارت حرب طاحنة بين شيعة موسى وشيعة فرعون، وكان هدف فرعون هو اجتثاث بني إسرائيل من الأرض، فأمعن في التقتيل فكان من المفسدين، بينما كان موسى يقف في الطرف الآخر، ويتخذ من الإصلاح منهجا، وما كان هدفه تقتيل من هم من أعدائه، لأن هدفه كان الإصلاح في الأرض. لذا نتخيل ما حصل على النحو التالي:
تربى موسى في قوم فرعون:
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
فلبث سنين من عمره في بيت الذي كفله من آل فرعون وهو – في ظننا- نبي الله ذو الكفل (ولم يكن قد أصبح نبياً بعد):
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ (40)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
فكان أهل هذا البيت من الناصحين لموسى، ولما كبر موسى ورأى بأم عينه ما يصنع فرعون وقومه ببني إسرائيل، لم يتقبل هذا العمل، فكان من الخارجين على الحكم، المريدين للإصلاح، لذا عاش موسى فترة من الزمن متخفياً بعيداً عن المدينة التي تربى فيها يناصب فرعون وجنوده العداء، وهذه العداوة واضحة من قبل أن يقدم موسى على قتل الرجل الذي من عدوه:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن موسى قد ناصب فرعون وقومه العداوة بسبب ما كان يفعل فرعون من إفساد في الأرض منذ أن آتاه الله حكماً وعلماً، وكان ذلك يوم أن بلغ موسى أشده:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) القصص
فموسى كان خارجاً عن حكم فرعون مناصباً له العداء من ذي قبل، وبكلمات أخرى نقول لقد كانت ثورة موسى ضد فرعون ثورة سياسية، يقوم به من أراد الإصلاح ضد الحاكم المفسد في الأرض.
ونحن نفتري الظن بأنه قد استقر في ذهن موسى من أهل البيت الذين كانوا يكفلونه أنه هو نفسه من ذرية بني إسرائيل الذين يستعبدهم فرعون في أرض مصر، فموسى تربى عند أمه الحقيقة في بيت من بيوت آل فرعون:
فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
ولما رأى موسى استعباد آل فرعون لبني إسرائيل، رفض موسى فعلة فرعون تلك، وخرج عليه ليناصر الفئة المغلوبة ضد الفئة الظالمة، وكان أول نتائج تلك المناصرة أن وقع في فعل القتل بنفسه:
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) الشعراء
وما أن قتل موسى الرجل حتى جاءه رجل من أهل البيت الذين كانوا له ناصحين ليخبره بما يدبر الملأ له:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)[2]
فخرج موسى إلى أرض مدين، وعندما عاد من هناك مرّ بالواد المقدس طوى فكانت الرسالة:
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16) طه
وكان من أهم أهداف تلك الرسالة هدفان رئيسان وهما:
1. أن يقولا لفرعون قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى:
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ (45) قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)
2. إخراج بني إسرائيل من أرض مصر والعودة بهم إلى الأرض التي كتب الله لهم:
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (48)
ونحن نتخيل الموقف على نحو أنه لو وافق فرعون على خروج موسى ببني إسرائيل لما تضاعفت المشكلة لأن في دعوة موسى تلك إقرار من موسى لفرعون بملك مصر مقابل عودة بني إسرائيل إلى الأرض التي كتب الله لهم.
افتراء خطير جداً: إن هذا الظن يعيدنا إلى الافتراء السابق الخطير الذي قدمناه سابقاً والذي مفاده أن مهمة موسى كانت تكمن في إصلاح الخلل الذي أحدثه تصرف يعقوب النبي ويوسف الرسول.
لماذا رسولين وليس رسول واحد؟
نحن نعلم أن السنة الإلهية هي على النحو التالي:
مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا الإسراء (15)
فلماذا إذن بعث الله لفرعون (على وجه التحديد) رسولين؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة يمكن أن تستنبط من الآية الكريمة التالية:
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
انظر عزيزي القارئ ما جاء عند ابن كثير مثلاً عن معنى فصاحة اللسان:
وأخي هارون هو أفصح مني لسانا " وذلك أن موسى عليه السلام كان في لسانه لثغة بسبب ما كان تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين التمرة أو الدرة فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه فحصل فيه شدة في التعبير ولهذا قال : " واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري " أي يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد ولهذا قال : " وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا " أي وزيرا ومعينا ومقويا لأمري يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد ولهذا قال : " إني أخاف أن يكذبون " وقال محمد بن إسحاق" ردءا يصدقني " أي يبين لهم عني ما أكلمهم به فإنه يفهم عني ما لا يفهمون
السؤال: من أين قصة اللثغة التي سببتها الجمرة؟ وما قصة الجمرة والتمرة؟ هل هي من تحريفات يهود أم تخيلات أهل الصحراء في أيام الصيف الصافية؟ من يدري!!!
ألم يقرأ هؤلاء قول الحق عن موسى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
ثم يا سادة- كيف وصلت الجمرة على يد الطفل موسى؟ الم يمسكها بيده – يقول صاحبنا خالد؟ هل من مسك الجمرة بيده يمكن أن يصبر عليها حتى يضعها في فمه؟ ألا يلقى الإنسان بفطرة الجمرة إلى الأرض بعد أن يمسكها بيده؟ فكيف به ينقلها إلى فمه؟ أم هل كانت برداَ وسلاماً في يده ثم ما أن وصلت إلى فمه حتى أصبحت ملتهبة حارقة؟ هل هذا علم يؤخذ به؟ وهل هذا علم يستحق أن يكتب في بطون الكتب ويدرّس للناس قروناً من الزمن؟ من يدري!!!
والسؤال الأكبر: كيف يبعث الله موسى رسولاً ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم وهو يعاني من اللثغة؟
افتراءات من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة، ولابد من فهم معنى فصاحة اللسان كما ترد في السياقات القرآنية، فمتى يكون الإنسان فصيح اللسان؟ ومتى تضيع فصاحة اللسان؟
رأينا: نحن نظن أن فصاحة لسان هارون لم تكن بسبب قدرته على الكلام كما يظن البعض وذلك لأن قدرة هارون على الكلام (أو فصاحته) قد تهاوت تماماً أمام فعلة السامري، فما نفعت القوم في شيء، ولو كانت المسألة متعلقة بالقدرة الكلامية كما يفهما العامة لما وقف هارون صامتاً لا يفعل شيئاً يحد من خطر السامري في غياب موسى، ولكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا شهد موسى لأخيه هارون بفصاحة اللسان؟
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
لقد تحدثنا في مقالة سابقة لنا تحت عنوان علم اللغة عن معنى مفردة اللسان، لذا نحن ندعو القارئ الكريم للعودة إلى تلك المقالة لما فيها من تفاصيل ربما تسعف في فهم الصورة بشكل أفضل. لكن ما يهمنا هنا هو التركيز على كيفية أن يكون هارون أكثر فصاحة من موسى.
رأينا: نحن نظن أن الإجابة ربما تستنبط من الآية الكريمة التالية:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
دقق- عزيزي القارئ- بمفردات الآية الكريمة التالية لنطرح الاستنباطات التالية:
1. كل رسول يأتي بلسان قومه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)
2. تكمن مهمة الرسول في أن يبين لهم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)
3. كانت مهمة موسى تكمن في أن يخرج قومه الذي كان آل فرعون يسمونهم سوء العذاب (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)
السؤال: من هم إذن قوم هارون اللذين سيبين لهم؟ ألم يرسل الله كل رسول بلسان قومه؟ فمن هم قوم هارون؟ هل يختلف قوم موسى عن قوم هارون؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن فرعون وقومه هم قوم نبي الله هارون، بينما كان موسى مأمورا أن يخرج قومه من بني إسرائيل من أرض مصر:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
لذا نحن نفتري الظن أن موسى كان مأموراً أن يخرج بني إسرائيل من أرض مصر ويكون هو رسولهم المتحدث بلسانهم والذي يبين لهم ما نزّل إليهم من ربهم، وكان هارون – بالمقابل- رسول قوم فرعون الذي سيبقى بين ظهرانيهم ويبين لهم ما نزل إليهم من ربهم لو أن القوم تقبلوا الرسالة.
وهذا الظن ربما يفسر لنا شيئاً من معنى قول موسى:
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ"
ولكن كيف ذلك؟
رأينا: لقد كان موسى يخشى أن يكذّبه قوم فرعون (ولم يكن يخشى أن يكذبه بنو إسرائيل، فلو تدبرنا القرآن كله لما وجدنا ممانعة عند بني إسرائيل لدعوة موسى). لذا كان موسى بحاجة إلى شخص يتحدث بلسان آل فرعون الذين يخشى أن يكذبوه، وهنا نتوقف لنطرح افتراءاتنا لمعنى فصاحة اللسان كما نفهمها من السياق القرآني.
الفصاحة
ما معنى أن يكون الإنسان فصيح اللسان؟ ومتى يكون الإنسان فصيح اللسان؟ ومتى تغيب الفصاحة؟ هل كانت الفصاحة تنقص نبي الله موسى؟
رأينا: هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، لقد كان موسى فصيح اللسان، ولكنه طلب شخصاً أكثر منه فصاحة في قوم لا يتحدث موسى لسانهم وهم قوم فرعون، ولكن كيف؟
رأينا: نحن نظن أن فصاحة اللسان لا تكون بتحدث اللغة فقط، ولكن بمعرفة العادات والتقاليد والثقافة، الخ.، والأهم من ذلك كله هو أن يكون للإنسان أحقية في أن يتكلم بلسان القوم. لذا فإن فصاحة الإنسان تبين في قومه لأنه يعرف تفاصيل حياتهم ويستطيع أن يخاطبهم بكل صراحة وقوة حجة، لأن الغريب عن القوم تبقى فصاحته منقوصة مهما بلغت قدرته اللغوية في التعبير، ولو حاول الإنسان أن يتحدث بين قومه (وفي عشيرته باللسان الأردني) لتحدث بلسان حالهم، ولا يستطيع الآخرون المزاودة عليه أو التستر على أشياء تخص القوم بأكملهم، فكل فرد في القوم يعرف خبايا وأسرار قومه، ومن هنا يستطيع أن يخاطبهم بطريقة مباشرة وفاعلة ومؤثرة، ولكن الغريب عن القوم لا يستطيع فعل ذلك.
والقارئ الكريم يستطيع التأكد من هذه المزاعم بمراقبة الانتخابات الأردنية ذات الطابع العشائري بامتياز، ففي حين أن الخطاب على العامة يكون (من قبل المرشحين) بالشعارات البراقة:
إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
وما أن يجتمع بقومه (عشيرته) حتى تبين النوايا الحقيقية في إعلاء اسم العشيرة (القوم) ومنافسة العشائر (الأقوام) الأخرى، وهكذا. إن مراد القول هو أن الحديث بين أفراد العشيرة الواحدة (القوم) يتسم بالصراحة والحجة والفصاحة خاصة إذا كان كل الحاضرين هم من نفس العشيرة (أو القوم أو الـ آل).
افتراء من عند أنفسنا: لذا نحن نفتري الظن أنه مادام أن هارون من آل يختلف عن آل موسى كان لزاماً أن يكون هناك من يتحدث إلى آل موسى وأن يكون هناك من يتحدث إلى آل هارون. ولما كان موسى هو رسول بني إسرائيل كان هو الأفصح لساناً بينهم، ولكنه ليس الأفصح لساناً بين آل فرعون. وبنفس المنطق نستطيع القول أنه لما كان هارون هو الأفصح لساناً بين قومه (آل فرعون) كان هو رسولهم الذي يستطيع أن يبين لهم ولكنه في الوقت ذاته لم يكن الأفصح لساناً بين قوم موسى (بني إسرائيل). فرسول القوم هو أفصحهم.
وربما يفسر لنا مثل هذا الظن لم سكت فرعون عن قتل هارون مادام أنه كان يقتل أبناء بني إسرائيل أصلاً. فلو كان هارون من آل موسى لما تردد فرعون أن يناصبه العداء أو أن يقتله كما كان يفعل مع أبناء بني إسرائيل:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
فسكوت فرعون عن قتل هارون (أخ موسى) وطلب موسى من ربه أن يشد عضده بأخيه لأنه أفصح منه لساناً ومكوث هارون في أرض مصر حتى بعد خروج موسى منها وهو مدين للقوم بالدم تشكل جميعها أسباباً كافيه أن نعتقد بأن صلة القرابة بين موسى من جهة وأخيه هارون من جهة أخرى كانت مبنية على رابط الأم:
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
وربما يفسر لنا هذا الظن لم سكت هارون (بالرغم من فصاحة لسانه) عندما أضل السامري بني إسرائيل في غياب موسى:
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
فلو دققنا في الآية الكريمة لوجدنا أن هارون يقول لموسى بأني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي، لذا نحن نؤمن أن دافع هارون في السكوت على القوم وعدم اللحاق بأخيه بعد وقوع ضلالة السامري لهم كانت خوفاً من وقوع الفرقة بين بني إسرائيل. ولكن كيف؟
رأينا: نحن نظن أن الذين خرجوا مع موسى من أرض مصر لم يكونوا جميعاً ينتسبون بالدم على بني إسرائيل وليس أدل على ذلك مما فعل السحرة الذين جمعهم فرعون من كل مكان:
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) الأعراف
وما رأى السحرة بأم أعينهم ما يستطيع موسى أن يفعله بعصاه حتى انقلبوا على فرعون وأعلنوا إيمانهم بموسى:
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (122)
فتوعدهم فرعون بالعذاب الشديد:
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
ولكن ذلك لم يمنعهم عن إشهار إيمانهم لا بل وتحدي أمر فرعون:
قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
ولا شك عندنا أن هناك من آل فرعون من كان يكتم إيمانه، ولا يرضى بما فعل سفيههم، فخرجوا جميعاً من أرض مصر مؤمنين برسالة موسى وأخيه هارون.
ولما وقعت الفتنة من الله للقوم بسبب عجلة موسى (انظر مقالتنا تحت عنوان: باب السامري) والضلالة من السامري:
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
لم يستطع هارون أن يحدث تأثيراً في القوم بالرغم من فصاحته:
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
وذلك لأن جزءاً كبيراً من القوم ليسوا بقومه، فالغالبية الساحقة منهم هم من آل موسى وليس من آل هارون، لذا كانت الغلبة لآل موسى على آل هارون، ومن هنا جاء – في ظننا- قول فرعون أن القوم قد استضعفوه وكادوا يقتلونه:
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل السيناريو الذي حصل في القوم في غياب موسى على النحو التالي:
يطلب موسى من أخيه أن يخلفه:
وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
يستطيع السامري أن يحدث الضلالة بينهم بسبب الذي أخرجه لهم من حلي القوم:
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ (88)
يتدخل هارون ليحد من خطر السامري، وليكف لجام الفتنة:
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
فلا ينجح هارون في ذلك ويصر القوم على العكوف على العجل حتى يرجع موسى:
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ (91)
وهنا يدب الخلاف في القوم، وتحاول طائفة أن تستضعف طائفة أخرى، فتم استضعاف هارون لأنه لم يكن من آل موسى، فلا يوجد في الجمع الكثيرون الذين يستطيعون الدفاع عنه:
قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
وللحديث بقية
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
10 آذار 2013
[1] (للتفصيل حول من هم آل الرجل وأهل الرجل وقوم الرجل، الخ. انظر مقالتنا تحت عنوان من هي زوجة موسى ومقالتنا باب السامري)
[2] سنتعرض بحول الله وتوفيقه إلى شخصية هذا الرجل لاحقاً، فالله أسأل أن يأذن لي بعلم لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع المجيب.