صلاة الاستسقاء 3
خلصنا في مقالتنا السابقة إلى الاعتقاد بأن للدعاء (خلافاً للرسائل الأرضية)
ثلاثة أركان أساسية فقط، هي الداع والمدعو والرسالة، وليس هناك ناقل (أو وساطة) بين العبد وربه، لذا كان لزاماً أن يكون الخلل الذي نجم عنه عدم الاستجابة الربانية لدعاء العبد في واحدة من أطراف الرسالة الثلاث هذه، وقد تحصل لنا الإيمان اليقيني أن الخلل لا يمكن أن يكون في طرف المدعو وهو الإله نفسه،
لأن الله قد جعل إجابة الدعاء من سننه الكونيّة التي لا تبديل لها ولا تحويل، فالإله لا يعجزه استجابة طلب من يدعوه، ولا ينقص ذاك من ملكه شيئاً، وهو الذي قطع على نفسه بأن يستجيب دعوة الداع إذا دعاه، قال –تعالى-:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)البقرة
لا بل فقد كان الكرم الإلهي يتمثل في حث عباده على الدعاء، وإلزام نفسه بالإجابة، قال تعالى:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)غافر
وقد بان لنا عدم وجود مثال واحد في كتاب الله يطلب فيه مخلوق شيئاً من ربه ولا يجيب الله طلبه ذاك في الحال. لذا فقد خلصنا إلى النتيجة التي مفادها أن الخلل لا يكمن في طرف المدعو، وإنما في واحد من الطرفين المتبقيين وهما الداع (الإنسان الذي يدعو ربه) أو الرسالة (الدعاء نفسه).
وبعد تفقد طرف الداع (أو الإنسان الطالب) تبين لنا صحة زعمنا باستحالة أن يكون الخلل في هذا الطرف، فحاولنا رد الفكر السائد الذي يربط الدعاء بالوازع الإيماني عند الداع، فبعد تفقد السياقات القرآنية التي تبين استجابة الله لطلب الخلق، أصبح جلياً لنا أن الله قد استجاب طلب كل من دعاه بغض النظر عن الوازع الإيماني لذاك الطالب. فكان التنوع واضحاً في شخصية الطالب، فقد أجاب الله طلب أشد الخلق عداوة له وهو إبليس:
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)ص
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)البقرة
فبالرغم من كفر إبليس (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) وحصول العداوة الربانية له نتيجة كفره ذاك (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)، كانت الإجابة الربانية لطلب إبليس متحصلة دون تأجيل ولا تأخير:
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) الحجر 36-38
وتوافرت الأدلة على استجابة الله كذلك دعاء عباده الصالحين من الأنبياء، كدعاء ذا النون وأيوب وزكريا وموسى، واستجاب الله كذلك دعاء الناس العاديين، كدعاء امرأة عمران وأهل الكهف، وحتى دعاء المنافقين كالذين دعوا الله مخلصين له الدين بصيغة لئن... ثم ارتدوا على أعقابهم بعد الاستجابة الربانية الايجابية لدعائهم.
وبناءً عليه، فقد خلص موقفنا من الدعاء إلى الاعتقاد المبدئي في رفضنا (جملة وتفصيلاً) الموقف الصريح أو الضمني الذي يتبناه كثير من أهل الفكر الإسلامي المتمثل في ربط استجابة الدعاء بالوازع الإيماني عند الداع، وذلك لأنّ الأمثلة وافرة في كتاب الله التي ترد مثل ذاك الطرح.
افتراء من عند أنفسنا: والحالة كذلك، كان لزاماً أن نفترض أن الخلل الذي ينجم عنه عدم الاستجابة الربانية الايجابية والفورية للدعاء تكمن في الطرف الثالث والأخير وهو الرسالة نفسها، فالرسالة هي – في ظننا- سبب البلاء الذي نعاني منه، وتصحيح الخلل يتطلب البحث عنه في الموطن الصحيح، فحتى يستجيب الله دعاءنا لابد من تصحيح الرسائل التي نبعثها لله، فمادامت الرسالة غير صحيحة لا يمكن – نحن نفتري القول- أن نتوقع الاستجابة الربانية، لذا يجب علينا إمعان التفكير في شكل ومضمون رسائلنا التي نبعثها صباح مساء، والتي أظن أنها لا تتجاوز رؤوسنا في طريقها إلى الطرف الآخر وهو الإله الواحد الأحد.
إنّ هذا الزعم يتطلب منّا البحث في ماهية الرسالة التي يجب أن نبعثها إلى ربنا في كل ما نطلب منه حتى تتحصل الاستجابة الفورية لنا، ولكي يتم لنا ذاك، فإننا نرى أن المنفذ الحقيقي الذي يوصلنا إلى غايتنا هو الدراسة الدقيقة للرسائل التي بعثها غيرنا وتمت الاستجابة الربانية لهم بما طلبوا. لهذا تصبح جميع الرسائل التي بعثها خلق الله إلى ربهم (والمتوافرة لنا في كتاب الله) محل الدراسة الدقيقة التي نسأل الله أن يهدينا إليها، فمنهجيتنا إذاً تتلخص في تناول كل دعاء تمت الإجابة الربانية عليه بشيء من التفصيل، لنخلص منها جميعاً – إن أذن الله لنا بشيء من علمه - إلى الأركان الأساسية الواجب توافرها في أي رسالة من الخلق إلى الخالق إن كان المراد هو الرد الايجابي من الخالق إلى الخلق.
أما بعد،
التمييز بين الدعاء والتمني
غالباً ما خلط الناس بين الدعاء (كطلب يقصد منه الإجابة) والتمني (الذي لا يمكن أن تتحصل من وراءه الإجابة الربانية). فمعظم طلبات الناس التي يظنون أنها تقع في باب الدعاء ليست أكثر من تمنيات لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تنتج عنها استجابة ربانية، وحتى لا يبقى هذا الكلام في إطاره النظري لابد من تقديم الدليل العملي على التفريق بين الدعاء من جهة والتمني من جهة أخرى، وهنا سنقدم عدة أمثلة من كتاب الله قد تبدو للوهلة الأولى أنها طلبات لم تتحصل الاستجابة عليها، ولكنها في الحقيقة لا تعدو أكثر من أمنيات لا تتطلب الإجابة الربانية أصلاً.
فها هي مريم بنت عمران التي نعرف جميعاً قصتها، تتلفظ بالكلمات التالية التي ربما يظن البعض أن الله لم يستجيبها:
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)مريم
نحن نفتري الظن أن مريم هنا تتمنى (ولا تطلب)، فهي تتمنى لو أنها ماتت قبل هذه الحادثة، وليس أدل على ظننا هذا من صيغة الكلام الذي قالته مريم، فهي تقول بملء فيها يَا لَيْتَنِي، ولما كان هذا لا يعدو أكثر من أمنية لم تتحقق لها كما تمنت، فالله لم يستجيب طلبها ذاك، وإنما جاءها التطمين الإلهي على غير ما تمنت:
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)مريم
فلو كان كلام مريم ذاك يقع في باب الدعاء، لتطلّب الاستجابة الربانية عليه بأن أماتها قبل تلك الحادثة.
نتيجة مفتراة: لا تتوجه إلى ربك بصيغة " يَا لَيْتَنِي" ثم تتوقع منه أن يجيب طلبك على نحو ما تمنيت، لأن الله الذي تعهد باستجابة الدعاء لم يلزم نفسه بإجابة الأمنيات.
وها هو نبي الله لوط يتمنى ولا يطلب:
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ هود (80)
ونحن نظن أن طلبه جاء على صيغة أمنية بدليل (لَوْ أَنَّ لِي)، فلم يكن الرد الإلهي بمنحه تلك القوة التي تمناها، وإنما جاء على غير ما طلب:
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) هود
نتيجة مفتراة: لا تتوجه إلى ربك بصيغة "لَوْ أَنَّ لِي" ثم تتوقع منه أن يجيب طلبك على نحو ما تمنيت، لأن الله الذي تعهد باستجابة الدعاء لم يلزم نفسه بإجابة الأمنيات.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أنه من قبيل الاستحالة أن يعتبر ما جال في خاطر مريم بنت عمران في تلك اللحظة وتلفظت به، أو ما راود لوط ونطق به، هو من باب الدعاء، وإلا لكان لزاماً أن نفترض أن الله لم يجب دعاءهما على نحو ما رغبوا وتمنوا. والجميل في التصوير القرآني أننا سنجد لاحقاً عند تفقد صيغ الدعاء التي تمت الاستجابة الربانية لها بالإيجاب لا تتطابق بأي شكل من الأشكال مع الصيغة التي غلفت بها مريم رغبتها تلك أو الصيغة التي تلفظ بها لوط في تلك اللحظة.
أما المثال الآخر الذي نقدمه فهو مثال دعوة أو طلب زكريا الذي قدمناه سابقاً ولكننا سنعيده هنا لنتفحصه من هذا الجانب. ربما يعلم الجميع أن الاستجابة الربانية لطلب زكريا أن يرزقه الذرية التي ترثه قد تحصلت له بعد أن بلغ من الكبر عتيّا، وهنا نطرح التساؤل التالي: هل فعلاً لم يتوجه زكريا إلى ربه طالباً الذرية إلا بعد أن بلغ من الكبر عتيّاً؟ فقد قال الله في حقه:
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) آل عمران
إننا نظن أن الذرية الصالحة ربما لم تفارق فكر زكريا طوال سنين زواجه، فمن غير الطبيعي الافتراض بأن الفكرة قد وقعت في قلبه في تلك اللحظة فقط، فطلبها من ربه حينئذ، فتمت الاستجابة لها في الحال، فذاك أمر ينافي منطق الحياة وطبيعة البشر، ولكننا نظن أن الفكرة حتى وإن وقعت في قلب الرجل قبل تلك اللحظة فقد كانت تراوده من باب التمني فقط، ولم تنتقل إلى باب الدعاء إلا في تلك اللحظة عندما استجاب الله دعاءه وهو ما نظن أنه أحد الأسباب التي دعت لوجود مفردة هنالك في ذلك السياق القرآني، وبكلمات أخرى نقول ربما كانـ زكريا ن يتمنى الذرية الطيبة، ولكنه لم يترجم أمنيته تلك إلى دعاء إلاّ في تلك اللحظة، وهنا تبرز الدقة والروعة القرآنية في تصوير المشهد في الآية الكريمة نفسها، قال –تعالى-:
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ
فما فائدة مفردة " هُنَالِكَ " في هذا السياق القرآني؟ إننا نفهم المعنى على النحو التالي: لقد كانت فكرة الذرية الطيبة واقعة في قلب الرجل ولكنه لم يطلبها من ربه على صيغة دعاء إلا "هُنَالِكَ"، أي في ذاك المكان وفي تلك اللحظة. ولمن لماذا؟ أي لماذا في تلك اللحظة بالذات أصبحت فكرة الذرية الصالحة في قلب زكريا واقعة في باب الدعاء بعدما مكثت سنين طويلة من عمره في باب التمني كما نزعم؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة على هذا السؤال متوافرة في الآية الكريمة التالية حيث علّل زكريا طلبه للذرية في تلك اللحظة على وجه التحديد:
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)مريم
ولمّا كان زكريا قد خاف الموالي (وهي في زعمنا ذرية مريم القادمة)، طلب من ربه الوليّ الذي لا يرثه هو فقط وإنما يرث من آل يعقوب أيضاً:
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)مريم
افتراء من عند أنفسنا: إنه الصراع بين آل يعقوب وآل عمران (وهذا ما سنحاول أن نخوض في تفاصيله - إن أذن الله لنا بشيء من علمه- عندما نتحدث عن المسيح عيسى بن مريم، فالله أسأل أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع المجيب).
نتيجة مفتراة: إن زعمنا هذا يوصلنا إلى الاعتقاد التالي: لا يستجيب الله أمانيك وإنما يستجيب دعاءك، فمهما تحصل لديك من أمنيات فإن الله لم يتعهد على نفسه أن يجيبها، ولكنه تعهد على نفسه أن يستجيب دعائك، لذا جاءت الدقة القرآنية في قوله تعالى:
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)النمل
فالمدقق في هذه الآية الكريمة يجد المعنى واضحاً من وجود عبارة مثل "إِذَا دَعَاهُ" في هذا السياق القرآني، فلو كانت تلك العبارة غير ضرورية لجاء قول الحق على نحو:
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ ... وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ
فالله إذاً لا يجيب المضطر لمجرد أنه مضطر مادام أنه يتمنى، فلا تتم الإجابة الربانية – نحن نفتري القول- إلا تحت شرط أن يكون المضطر قد دعاه، وهذا المعنى واضح جلي في آية إجابة الدعاء التي قدمناها في مقالتنا السابقة، ولا ضير أن نعيدها هنا لتأكيد الفكرة نفسها:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)البقرة
فلقد حاولنا أن نوضح في المقالة السابقة أن ورود عبارة " إِذَا دَعَانِ " في هذه الآية الكريمة لا يمكن أنها جاءت من باب التكرار والحشو في الكلام، وإنما هي ضرورة لا يتم المعنى المراد بدونها، فحسب الآية الكريمة لا تكون الإجابة الربانية حاصلة إلا تحت شرط توجه السائل (الداع) إلى ربه بالدعاء (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، إن عدم توجه العبد إلى ربه بالدعاء يعني أن رغبة الشخص لا تتجاوز أن تندرج تحت باب التمني. وليس أدل على صحة منطقنا هذا من قصة نبي الله يعقوب، ولكن كيف؟
نحن نفهم أن حزن نبي الله يعقوب على فقدان يوسف قد بلغ منه ما بلغ حتى فقد بسببه بصره:
وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
لذا لا يمكن أن يتحدانا أحد بالقول أن يعقوب لم يكن يتمنى عودة يوسف، وهو الذي لم يفقد الأمل أصلاً بأن يوسف لم يمت ولا زال على قيد الحياة، وهو نفسه من طلب من أبناءه أن يذهبوا فيتحسسوا من يوسف:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) يوسف
ولكن هل سأل أحدنا سؤالا بسيطا مثل هذا: لِم لَم يرجع يوسف إلى حضن أبيه وهو الذي ما انفك يبكيه صباح مساء؟
رأينا: لأن يعقوب لم يدعو ربه أبداً أن يعيد له ولده المفقود. وما فعل ذلك إلا بعد أن فقد ولده الآخر عندما قال:
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)يوسف
فنحن نفهم أنه حتى لو كان يعقوب يتمنى عودة ابنه، فإن الله لم يتكفل له بتلك العودة ما دام أنه لم يترجم رغبته وأمنيته تلك إلى دعوة حقيقية. فالاستجابة الربانية مشروطة إذاً بدعاء العبد، فذاك هو حق الله على العبد:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)غافر
وقد يرد البعض بالقول: ولماذا لم يدعو نبي الله يعقوب ربه أن يعيد له ولده المفقود؟ ألم يكن يعرف كيف يدعو ربه؟ لم صبر كل هذه السنين على فراق ولده وربما كان يستطيع أن يستعيده بدعوة ربه؟
رأينا: هذا ما سنناقشه عند الحديث عن قصة يوسف بحول الله وتوفيق منه، لذا فالله أسأل أن يأذن لي بعلم من لدنه، إنه هو السميع المجيب.
نتيجة: من لا يدعوا الله، عليه أن لا يتوقع الرد من خالقه.
وفي هذا الإطار نقدم مثاليين أخريين على صحة ما نزعم، ولكن يجدر الإشارة إلى أننا قد قدمنا هذين المثاليين في مقالة سابقة تحت عنوان: مقالة في تفضيل الرسل بعضهم على بعض مع عدم التفريق بينهما.
أما المثال الأول فهو من سيرة نبي الله نوح عليه السلام ، بينما يأتي المثال الثاني من حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام.
مثال نوح
تساؤلات: ألم يكن نوح راغباً في هداية ولده؟ ألم يجتهد في حث ابنه على الركوب معه والنجاة من الغرق؟ لم لم يحقق الله لنوح ما كان يريد إذاً؟
ربما يلحظ القارئ المتدبر للسياقات القرآنية لقصة نوح أمراً غايةً في الدقة والروعة في القرآن الكريم ملخصه أنّ نوحاً عليه السلام عندما عاد إلى الله في ابنه لم يعد إليه طالباً هداية ولده على صيغة دعاء، بل عاد إليه محاوراً متسائلاً، فالقراءة المتأنية للآية القرآنية تشير أنّ نوحاً لم يدعو الله أنْ ينجي له ابنه، بل سرد السبب الذي (حسب ظنه) يجب أنْ يتخلص ابنه من الغرق:
"وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي ..." هود 45
لذا فإننا نجزم أنه من باب الخطأ الظن أنّ ذلك دعاء من نوح لنجاة ابنه من الغرق، فالمدقق في الآية نفسها يجد أن الآية الكريمة لم تأتي على صيغة طلب الوالد بنجاة الولد، ولو أمعنا التفكير في الرد الإلهي على زعم نوح لتبيّن لنا أن نوحا لم يقدم الأمر على أنه طلب، فالله الذي يعلم خائنة الأنفس وما تخفي الصدور يرد بما يناسب الخطاب، أليس كذلك؟ لذا جاء الرد الإلهي على نحو أنّك مخطئ يا نوح في استنتاجك:
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هود 46
فالله – لا شك- يرد على السؤال كما يجب أن يكون الرد، فلا يمكن أن يقبل الله رجاء نوح في ابنه إذا كان سؤال نوح نفسه لا يحمل معنى الرجاء (أو الطلب)، فالرد – لا شك- من جنس الطلب. ونحن نكاد نجزم هنا أنّه لو جاء طلب نوح على صيغة دعاء بأنّه لا حول له ولا قوة, وأنّ الله هو الذي يملك القدرة على هداية ابن نوح، وأنّ نوحاً يطلب ذلك من ربه مباشرة في صيغة دعاء كما فعل زكريا مثلاً، لكان الجواب الإلهي على ذلك إيجابياً, والقارئ مدعو ليعقد هنا مقارنة في هذا السياق بين نداء نوح ربه من جهة ونداء أيوب ويونس وزكريا من جهة أخرى:
نداء نوح
"وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي ..." هود 45
نداء أيوب وذا النون وزكريا:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 83الأنبياء
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ 87الأنبياء
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ 89الأنبياء
ففي حين أن دعوة أيوب وذا النون وزكريا تبعتها الاستجابة الفورية:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ 84الأنبياء
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ 88الأنبياء
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ 90الأنبياء
لم تحصل مثل هذه الاستجابة في حالة نوح عليه السلام، وخلاصة القول أنّ نوحاً لم يدع ربه في أمر نجاة ابنه من الغرق، ولكنه حآج ربه في نجاة ابنه، ولقد افترضنا أنّه لو توجه نوح إلى ربه بالدعاء لاستجاب الله طلبه. والدليل على ذلك أنّ نوحاً عندما توجّه إلى ربه بالدعاء لهلاك قومه، نجد أنّ الله قد استجاب دعاءه في الحال. وفي هذا السياق يسرد القرآن الكريم قصة دعاء نوح على قومه، فقد ذكر الأسباب الموجبة لهلاكهم، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام:
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) نوح 5-7
ولكنّ نوحاً لم يتوقف عند ذلك، بل أردف هذه الحجج بالدعاء إلى الله بهلاكهم[1]:
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا 26نوح
وقد يسأل البعض: لماذا لم يدعو نوح ربه أن ينجي له ولده؟
رأينا: لأن نوح كان يشك أن ولده ليس ابنه الحقيقي، وإنما هو عمل غير صالح، فما كان راغباً حقاً بنجاته قبل أن يبين له أصله (للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان سفينة نوح ونظرية تكون القارات، وكم لبث نوح في قومه، وثلاثيةالمرأة، وغيرها).
مثال إبراهيم:
تساؤلات: ألم يكن إبراهيم راغباً في هداية والده؟ لم لم يلبي الله سبحانه تلك الرغبة لنبيه؟ كم حاول إبراهيم أن يثني والده عن الكفر؟ هل نجح في ذلك؟ الجواب كلا، فلقد بقى والده على كفره، لا بل فلقد ناصب إبراهيمَ العداء إن هو لم يتركه وشأنه:
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)مريم
السؤال: لم إذاً لم تتحقق رغبة إبراهيم في هداية والده؟
الجواب: لأن تلك كانت فقط رغبة (أمنية) لم يترجمها إبراهيم إلى دعاء، ولكن كيف ذاك؟
نقول - بادئ ذي بدء - أنّ القرآن الكريم لا يذكر بأي موضع أنّ إبراهيم عليه السلام قد دعا لأبيه بالنجاة، بل جُلّ ما حصل هو أنّ إبراهيم قد وعد أبيه بالاستغفار له:
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) مريم
ولمّا حصل فعلاً أنّ توجه إبراهيم بالدعاء إلى الله طالباً الهداية، جاء طلبه على النحو التالي::
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ 35إبراهيم
فإبراهيم إذاً لم يتوجه قط إلى الله تعالى بدعاء مفاده أن يترك والده عبادة الأصنام، وإنما خص نفسه وبنيه فقط بتلك الدعوة (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ), فالذين يظنون أنّ الله لم يتقبل دعاء إبراهيم لأبيه يقعون في الخطأ لأنّ إبراهيم لم يتوجه أصلاً إلى الله بالدعاء لأبيه بترك عبادة الأصنام. وهنا قد يرد البعض بالقول: ولكنّ إبراهيم قد طلب الاستغفار لأبيه، ألا يكفي ذلك لإجابة الدعاء؟ قال تعالى:
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)الشعراء
فنرد بالقول أن هذا السؤال المشروع ينقلنا إلى موضوع الحديث عن شروط قبول الدعاء الذي سنتعرض له لاحقاً، لذا سيتم إثارة هذا التساؤل مرة أخرى لنرى لِمَ لمْ تتم الاستجابة الربانية على طلب إبراهيم هذا بالرغم أنه جاء من قبيل الدعاء.
المهم بالموضوع هنا التأكيد على أن هناك فرقاً شاسعاً بين التمني والطلب (أو الدعاء)، فالله لم يتخذ سنة على نفسه بتحقيق أمنيات الناس ولكنه اتخذ سنة على نفسه في إجابة طلبات (أو دعاء العباد)، وهناك فرق كبير بين هذه وتلك.
ولو دققنا النظر في واقع حياة الناس لوجدنا أن كل الناس لديهم نفس الأمنيات تقريباً كالحصول على المال والجاه والمنصب والصحة، الخ. قال تعالى:
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)فصلت
ولكن هل تتحقق لكل الناس تلك الأمنيات على نحو ما يحبوا ويرغبوا، إن حصول الناس على تلك "الأمنيات" يقع ضمن نطاق نواميس الكون المرتبطة بالمسببات والنتائج، وهذه أمور يشترك بها البشر جميعاً، ويتنافسون في الحصول عليها ضمن سنن الله الكونية، فمن طلب المال، واجتهد في الحصول عليه، وسلك طريق الحصول عليه تحصل له المال، وهكذا.
ولكننا عندما نتحدث عن الدعاء فإننا نتحدث عن حصول الأمر على غير سنن الله الكونية التي يعرفها الناس ويتشاركون بها جميعاً. إن سؤالنا الذي نحاول الحصول على إجابة شافية له هو: هل يمكن أن يحصل شخص ما على المال بغير تلك الطرق المتعارف عليها بين الناس مثلاً؟ أو بكلمات أكثر دقة، هل يمكن الحصول على المال بالدعاء؟
جواب: نعم، ولكن ذلك يتطلب منك الدعاء، فالمطلوب ممن أراد ذلك هو أن ينقل تلك الرغبة من إطار الأمنيات إلى إطار الدعاء، فإن أنت توجهت إلى ربك طالباً المال على صيغة دعاء، فستحصل عليه بكل تأكيد، وهذا ينطبق على الصحة والمنصب وغيرها، ولكن كيف؟
أما بعد،
ما هو الدعاء؟
أو بكلمات أخرى، ما هي الشروط الواجب توافرها في الطلب ليقع ضمن إطار الدعاء المستجاب؟ لا شك أن هناك شروطاً إن هي توافرت في صيغة الطلب الذي تتوجه به إلى الله الواحد الأحد، فإن ذلك الطلب سيكون مجاباً بلا تأخير ولا تبديل. فالله لن يؤخر لك أجره إلى يوم القيامة ولن يبدلك به شيئاً آخر لم تطلبه أنت.
الشرط الأول: الدعاء يتطلب إيمان الربوبية فقط
إننا زعم الفهم أن الدعاء يقع ضمن إطار إيمان الربوبية فقط، فالمدقق في جميع صيغ الدعاء التي جاء الرد الرباني عليها بالإيجاب يجد أنها كانت تتضمن إيمان الداع بربوبية المدعو، ولندقق النظر في بعض تلك الأدعية مركزين على هذا الجانب:
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فحتى دعاء إبليس بأن ينظره الله إلى يوم الوقت المعلوم جاء مقترناً بالاعتراف بربوبية المدعو:
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
ونحن ندعو القارئ الكريم إلى تفقد جميع صيغ الدعاء التي وردت في كتاب الله من هذا المنظور، ونتحدى أن يجد في أي منها داعياً يلجأ إلى ربه متسلحاً بغير سلاح الإيمان بربوبيته، لذا يخلو القرآن الكريم من أي دعاء فيه إقرار بإلوهية المدعو.
الفرق بين إيمان الربوبية وإيمان الإلوهية فيما يخص الدعاء المستجاب
إن هذا التمييز الذي نقدمه هنا ربما يسلط الضوء على إشكالية كبيرة في الفكر الديني، وربما يقدم حلاً لسؤال خالج الكثيرين من أبناء المسلمين (العامة وأهل العلم منهم)، سؤالاً مفاده: لم لا يحقق الله دعاء المسلمين بالنصر على أعدائهم؟ ألم ندعو نحن المسلمين الله أن ينصرنا على اليهود مثلاً؟ ألم ندعو للمجاهدين بالنصر على الكفار؟ ولكن، ألا تتوالى الهزائم على هذه الأمة بالرغم من كثرة دعائنا؟ كيف يمكن أن نفسر كثرة دعائنا بالنصر على أعدائنا ولا نزداد إلا هزيمة وخذلانا؟ ألا تنفجر حناجر خطباء المسلمين على المنابر بالدعاء إلى الله أن يأخذ اليهود والنصارى أخذ عزيز مقتدر؟ ألم يدعوا عليهم بأن يرمل الله نساءهم وييتّم أطفالهم؟ ولكن، أين – يا ترى- تكثر الأرامل واليتامى، في العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا، أم في السويد والدنمرك وسويسرا؟ ربي، ما الذي يجري؟
إننا نزعم أن الإيمان بأن الدعاء يتطلب إيماناً بربوبية المدعو تحل مثل هذه الإشكالية برمتها، ولكن كيف؟
أما بعد،
لا أود أن أدخل في تفاصيل العقيدة بالتمييز بين أنواع الإيمان (إيمان الربوبية والإلوهية والصفات)، ولكن سأقدم الموضوع بشيء من التبسيط الذي يناسب القارئ غير المتخصص وذلك لأن الأمر لا يهم أهل الاختصاص فقط، وإنما هو قضية تشغل فكر الجميع.
إن من بديهيات العقيدة التي نؤمن بها هو إن الإله هو رب البشر جميعاً (المؤمن منهم والكافر)، أليس كذلك؟ لذا فإننا نعتقد أنه ما دام أن الدعاء يتطلب إقراراً بربوبية المدعو فقط، فإن الإجابة الربانية تتحصل لكل من يؤمن بربوبية الإله. وبناءً عليه، فكما نؤمن نحن المسلمين بربوبية الخالق، يؤمن اليهود بذلك، ويؤمن النصارى بذلك، ويؤمن كثير من الكفار بذلك. فنشترك نحن الخلق جميعاً (بغض النظر عن مسميات عقائدنا) في هذا النوع من الإيمان، لذا فكما يستجيب الله دعاءنا، يستجيب دعاءهم، وكما ندعو نحن ربنا أن ينصرنا، فهم بلا شك يدعو ربهم أن يحقق النصر لهم، وكما نتوقع أن يتقبل الله دعاءنا، يتقبل الله دعاءهم، فقبول الدعاء ليس حكراً على المسلم، وليس أدل على ذلك من دعاء إبليس، فلو كانت استجابة الدعاء مقتصرة على المسلمين، لما كان هناك تبرير لقبول الله دعاء إبليس، في الوقت الذي شهد الله بنفسه أن إبليس كان من الكافرين:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)البقرة
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)ص
إن مراد القول هو أن فكرنا الديني الذي يمثله كتابنا الكريم (وليس عقول مشايخنا الأجلاء) يفرض علينا الإيمان بأن قبول الدعاء غير خاص بالمسلمين، وإنما هو حق البشر كافة على ربهم، فهو حق لكل من آمن بربوبية الإله. وبكلمات أخرى فهو حق المخلوق على الخالق، فمن غير المنطقي أن تقضي مشيئة الله أن يعمر هذا الكون المؤمن وغير المؤمن، ثم يكون قبول الدعاء خاصاً بالمؤمن، لأنّ ذلك يعني القضاء التام على غير المؤمنين، فلو كان الله لا يقبل الدعاء إلا من المؤمن لخلت الأرض على مدى التاريخ من كل عنصر غير مؤمن، ولكن لمّا قضت مشيئة الله أن تعمر هذه الأرض بالمؤمن والكافر:
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
كانت سنة الله أن يتقبل الدعاء من غير المؤمن كما يتقبلها من المؤمن.
ولتبسيط الأمر فإننا نسرد المثال التالي (ولله المثل الأعلى)، فإن رب الأسرة لا يحرم من الميراث من كان عاقاً له من أبناءه (أرجو أن لا تقتبس هذه العبارة بمعزل عن النص، ليروج البعض- كما فعلوا أكثر من مرة- لفكرة تنصير أو تهويد أو تشييع أو تسنيين أو تكفير رشيد الجراح- وهو الذي لا يعترف بهم جميعاً لأن دينه مسلماً حنيفاً فقط)، فعاطفة الأبوة لديه أقوى بكثير من واجب الابن تجاه والده، فعند تقسيم تركته لا يجوز له أن يخص أكثر أولاده طاعة له بشيء من تركته يزيد على نصيب أكثرهم عقوقاً له، وبنفس المنطق، فالخلق جميعاً سواسية أمام الله في عمارة الأرض، لذا كان لزاماً أن يتشاركوا فيها بغض النظر عن عقيدتهم، ولكن التفضيل بينهم يكون في الدار الآخرة.
وربما يحل مثل هذا الطرح إشكالية الإجابة على سؤال كهذا: لم لا يستجيب الله دعاءنا بالنصر على أعدائنا؟ لِمَ تتوالى الهزائم على هذه الأمة بالرغم من كثرة دعائها؟
جواب: لأننا كما ندعو نحن ربنا أن ينصرنا، يدعوا هم كذلك ربهم بأن ينصرهم، فتتساو الفرص بيننا وبينهم، فتكون الغلبة ليس للدعاء وإنما لمن يملك القوة ورباط الخيل. ولو كان نصر الفئة المؤمنة على الفئة غير المؤمنة يتم بالدعاء، لما كان هناك مبرراً أن يطلب منا ربنا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)الأنفال
فمن ظن أن دعاء النبي كان سبباً في نصر المسلمين في بدر مثلاً، فعليه أن يبيّن لنا ويفهمنا أين إذاً ذهب دعاؤه في أحد. من يدري!!!
متى يكون الدعاء مفيداً في المواجهة من الأعداء؟
لا شك يكون ذلك مفيداً فعلاً إن كان الأعداء لا يملكون إيمان الربوبية، ولا يتوجهوا لربهم بالنصر، عندها نكون نحن نمتلك سلاحاً لا يمتلكوه هم، ولكن إذا توجهوا هم إلى ربهم كما نفعل نحن لتساوينا جميعاً في هذا السلاح، ولفقد تأثيره وأهميته، فالله لا شك يجيب دعوة المضطر، وليس بالضرورة أن يكون هذا المضطر مؤمناً أو مشركاً بالله أو حتى كافراً بربه، المهم بالموضوع هو أن يكون موقناً أن له رباً، وأن هذا الرب قادر على إجابة دعوته بغض النظر عن الطريقة التي يعبد فيها ربه، فالمسلم له منهج وشرعة تختلف عن منهاج وشرعة اليهودي أو النصراني أو البوذي أو المشرك، ولكنهم يتساوون جميعاً في إيمان الربوبية، فيستحقوا أن يجيب الله دعاءهم جميعاً.
والملفت للانتباه في سياقات الدعاء في القرآن الكريم هو خلو الدعاء من ذكر اسم الله، فلا نجد أحداً يتوجه إلى الله بصيغة دعاء مثل: يا الله هب لي، أو يا الله لا تذر على الأرض... الخ، ولا نجد أن الدعاء مرتبطا بصفات الله وأسماءه الحسنى، فلا نجد دعاءً على نحو: يا رحمن هب لي... أو يا منتقم لا تذر على الأرض...، وهكذا. لذا جاءت مثل هذه الصيغ في القرآن في مجمل الحديث عن الدعاء على أنها غير مهمة بحد ذاتها، قال تعالى:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (110)الإسراء
ولكننا نجد ارتباطاَ لا تكاد تفك عراه بين الدعاء وربوبية المدعو على نحو "قال رب... ". ولو أمعنا التفكير في هذا الموضوع وتساءلنا: هل يختلف رب نوح عن رب إبراهيم أو رب زكريا أو رب يونس أو حتى رب إبليس؟
الجواب كلا، فهو الإله الواحد الأحد، ولكن بالرغم من ذلك، لم يستخدم أي منهم اسم ربه الأعلى في الدعاء ولا صفاته، وتوجه كل منهم إلى ربه بصيغة المفرد، فيونس يقول "رب..." ، وإبراهيم يقول "رب ..."، وزكريا يقول "رب..."، وامرأة عمران تقول "رب..."، وقال إبليس من قبل "رب..."، وهكذا.
وعندما أخطأ آدم وزوجه وأكلا من الشجرة رجعا إلى ربهم ليطلبوا منه قبول التوبة بصيغة المثنى:
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)الأعراف
خطبة قصيرة: عزيزي المسلم، ليكن كتابك هو هاديك، ولتكن سير أنبياء الله هي واسطتك، لذا عندما تتوجه إلى ربك بالدعاء فليس من الضرورة بمكان أن تتوجه إليه بصفته الإله الواحد الأحد، وليس بالضرورة أن تستخدم اسماً محددا من أسماءه الحسنى، ولا حتى بصفته رباً لكل الخلق، ولكن توجه إليه كما توجه إليه عباده جميعاً بصفته رباً لك وحدك (كما هو رب غيرك)، لذا يجب أن تكون صيغة الدعاء المقبول مبنيّة على الاعتقاد الجازم بأنك تتوجه إلى ربك على النحو التالي:
رب................................
وللحديث بقية صلاة الاستسقاء الجزء الرابع
_________________
[1] للتطرق لهذا الموضوع من جوانبه المختلفة ندعو القارئ الكريم إلى العودة إلى المقالة تلك: مقالة في تفضيل بعض الرسل مع عدم التفريق بينهم.
ثلاثة أركان أساسية فقط، هي الداع والمدعو والرسالة، وليس هناك ناقل (أو وساطة) بين العبد وربه، لذا كان لزاماً أن يكون الخلل الذي نجم عنه عدم الاستجابة الربانية لدعاء العبد في واحدة من أطراف الرسالة الثلاث هذه، وقد تحصل لنا الإيمان اليقيني أن الخلل لا يمكن أن يكون في طرف المدعو وهو الإله نفسه،
لأن الله قد جعل إجابة الدعاء من سننه الكونيّة التي لا تبديل لها ولا تحويل، فالإله لا يعجزه استجابة طلب من يدعوه، ولا ينقص ذاك من ملكه شيئاً، وهو الذي قطع على نفسه بأن يستجيب دعوة الداع إذا دعاه، قال –تعالى-:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)البقرة
لا بل فقد كان الكرم الإلهي يتمثل في حث عباده على الدعاء، وإلزام نفسه بالإجابة، قال تعالى:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)غافر
وقد بان لنا عدم وجود مثال واحد في كتاب الله يطلب فيه مخلوق شيئاً من ربه ولا يجيب الله طلبه ذاك في الحال. لذا فقد خلصنا إلى النتيجة التي مفادها أن الخلل لا يكمن في طرف المدعو، وإنما في واحد من الطرفين المتبقيين وهما الداع (الإنسان الذي يدعو ربه) أو الرسالة (الدعاء نفسه).
وبعد تفقد طرف الداع (أو الإنسان الطالب) تبين لنا صحة زعمنا باستحالة أن يكون الخلل في هذا الطرف، فحاولنا رد الفكر السائد الذي يربط الدعاء بالوازع الإيماني عند الداع، فبعد تفقد السياقات القرآنية التي تبين استجابة الله لطلب الخلق، أصبح جلياً لنا أن الله قد استجاب طلب كل من دعاه بغض النظر عن الوازع الإيماني لذاك الطالب. فكان التنوع واضحاً في شخصية الطالب، فقد أجاب الله طلب أشد الخلق عداوة له وهو إبليس:
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)ص
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)البقرة
فبالرغم من كفر إبليس (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) وحصول العداوة الربانية له نتيجة كفره ذاك (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)، كانت الإجابة الربانية لطلب إبليس متحصلة دون تأجيل ولا تأخير:
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) الحجر 36-38
وتوافرت الأدلة على استجابة الله كذلك دعاء عباده الصالحين من الأنبياء، كدعاء ذا النون وأيوب وزكريا وموسى، واستجاب الله كذلك دعاء الناس العاديين، كدعاء امرأة عمران وأهل الكهف، وحتى دعاء المنافقين كالذين دعوا الله مخلصين له الدين بصيغة لئن... ثم ارتدوا على أعقابهم بعد الاستجابة الربانية الايجابية لدعائهم.
وبناءً عليه، فقد خلص موقفنا من الدعاء إلى الاعتقاد المبدئي في رفضنا (جملة وتفصيلاً) الموقف الصريح أو الضمني الذي يتبناه كثير من أهل الفكر الإسلامي المتمثل في ربط استجابة الدعاء بالوازع الإيماني عند الداع، وذلك لأنّ الأمثلة وافرة في كتاب الله التي ترد مثل ذاك الطرح.
افتراء من عند أنفسنا: والحالة كذلك، كان لزاماً أن نفترض أن الخلل الذي ينجم عنه عدم الاستجابة الربانية الايجابية والفورية للدعاء تكمن في الطرف الثالث والأخير وهو الرسالة نفسها، فالرسالة هي – في ظننا- سبب البلاء الذي نعاني منه، وتصحيح الخلل يتطلب البحث عنه في الموطن الصحيح، فحتى يستجيب الله دعاءنا لابد من تصحيح الرسائل التي نبعثها لله، فمادامت الرسالة غير صحيحة لا يمكن – نحن نفتري القول- أن نتوقع الاستجابة الربانية، لذا يجب علينا إمعان التفكير في شكل ومضمون رسائلنا التي نبعثها صباح مساء، والتي أظن أنها لا تتجاوز رؤوسنا في طريقها إلى الطرف الآخر وهو الإله الواحد الأحد.
إنّ هذا الزعم يتطلب منّا البحث في ماهية الرسالة التي يجب أن نبعثها إلى ربنا في كل ما نطلب منه حتى تتحصل الاستجابة الفورية لنا، ولكي يتم لنا ذاك، فإننا نرى أن المنفذ الحقيقي الذي يوصلنا إلى غايتنا هو الدراسة الدقيقة للرسائل التي بعثها غيرنا وتمت الاستجابة الربانية لهم بما طلبوا. لهذا تصبح جميع الرسائل التي بعثها خلق الله إلى ربهم (والمتوافرة لنا في كتاب الله) محل الدراسة الدقيقة التي نسأل الله أن يهدينا إليها، فمنهجيتنا إذاً تتلخص في تناول كل دعاء تمت الإجابة الربانية عليه بشيء من التفصيل، لنخلص منها جميعاً – إن أذن الله لنا بشيء من علمه - إلى الأركان الأساسية الواجب توافرها في أي رسالة من الخلق إلى الخالق إن كان المراد هو الرد الايجابي من الخالق إلى الخلق.
أما بعد،
التمييز بين الدعاء والتمني
غالباً ما خلط الناس بين الدعاء (كطلب يقصد منه الإجابة) والتمني (الذي لا يمكن أن تتحصل من وراءه الإجابة الربانية). فمعظم طلبات الناس التي يظنون أنها تقع في باب الدعاء ليست أكثر من تمنيات لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تنتج عنها استجابة ربانية، وحتى لا يبقى هذا الكلام في إطاره النظري لابد من تقديم الدليل العملي على التفريق بين الدعاء من جهة والتمني من جهة أخرى، وهنا سنقدم عدة أمثلة من كتاب الله قد تبدو للوهلة الأولى أنها طلبات لم تتحصل الاستجابة عليها، ولكنها في الحقيقة لا تعدو أكثر من أمنيات لا تتطلب الإجابة الربانية أصلاً.
فها هي مريم بنت عمران التي نعرف جميعاً قصتها، تتلفظ بالكلمات التالية التي ربما يظن البعض أن الله لم يستجيبها:
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)مريم
نحن نفتري الظن أن مريم هنا تتمنى (ولا تطلب)، فهي تتمنى لو أنها ماتت قبل هذه الحادثة، وليس أدل على ظننا هذا من صيغة الكلام الذي قالته مريم، فهي تقول بملء فيها يَا لَيْتَنِي، ولما كان هذا لا يعدو أكثر من أمنية لم تتحقق لها كما تمنت، فالله لم يستجيب طلبها ذاك، وإنما جاءها التطمين الإلهي على غير ما تمنت:
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)مريم
فلو كان كلام مريم ذاك يقع في باب الدعاء، لتطلّب الاستجابة الربانية عليه بأن أماتها قبل تلك الحادثة.
نتيجة مفتراة: لا تتوجه إلى ربك بصيغة " يَا لَيْتَنِي" ثم تتوقع منه أن يجيب طلبك على نحو ما تمنيت، لأن الله الذي تعهد باستجابة الدعاء لم يلزم نفسه بإجابة الأمنيات.
وها هو نبي الله لوط يتمنى ولا يطلب:
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ هود (80)
ونحن نظن أن طلبه جاء على صيغة أمنية بدليل (لَوْ أَنَّ لِي)، فلم يكن الرد الإلهي بمنحه تلك القوة التي تمناها، وإنما جاء على غير ما طلب:
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) هود
نتيجة مفتراة: لا تتوجه إلى ربك بصيغة "لَوْ أَنَّ لِي" ثم تتوقع منه أن يجيب طلبك على نحو ما تمنيت، لأن الله الذي تعهد باستجابة الدعاء لم يلزم نفسه بإجابة الأمنيات.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أنه من قبيل الاستحالة أن يعتبر ما جال في خاطر مريم بنت عمران في تلك اللحظة وتلفظت به، أو ما راود لوط ونطق به، هو من باب الدعاء، وإلا لكان لزاماً أن نفترض أن الله لم يجب دعاءهما على نحو ما رغبوا وتمنوا. والجميل في التصوير القرآني أننا سنجد لاحقاً عند تفقد صيغ الدعاء التي تمت الاستجابة الربانية لها بالإيجاب لا تتطابق بأي شكل من الأشكال مع الصيغة التي غلفت بها مريم رغبتها تلك أو الصيغة التي تلفظ بها لوط في تلك اللحظة.
أما المثال الآخر الذي نقدمه فهو مثال دعوة أو طلب زكريا الذي قدمناه سابقاً ولكننا سنعيده هنا لنتفحصه من هذا الجانب. ربما يعلم الجميع أن الاستجابة الربانية لطلب زكريا أن يرزقه الذرية التي ترثه قد تحصلت له بعد أن بلغ من الكبر عتيّا، وهنا نطرح التساؤل التالي: هل فعلاً لم يتوجه زكريا إلى ربه طالباً الذرية إلا بعد أن بلغ من الكبر عتيّاً؟ فقد قال الله في حقه:
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) آل عمران
إننا نظن أن الذرية الصالحة ربما لم تفارق فكر زكريا طوال سنين زواجه، فمن غير الطبيعي الافتراض بأن الفكرة قد وقعت في قلبه في تلك اللحظة فقط، فطلبها من ربه حينئذ، فتمت الاستجابة لها في الحال، فذاك أمر ينافي منطق الحياة وطبيعة البشر، ولكننا نظن أن الفكرة حتى وإن وقعت في قلب الرجل قبل تلك اللحظة فقد كانت تراوده من باب التمني فقط، ولم تنتقل إلى باب الدعاء إلا في تلك اللحظة عندما استجاب الله دعاءه وهو ما نظن أنه أحد الأسباب التي دعت لوجود مفردة هنالك في ذلك السياق القرآني، وبكلمات أخرى نقول ربما كانـ زكريا ن يتمنى الذرية الطيبة، ولكنه لم يترجم أمنيته تلك إلى دعاء إلاّ في تلك اللحظة، وهنا تبرز الدقة والروعة القرآنية في تصوير المشهد في الآية الكريمة نفسها، قال –تعالى-:
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ
فما فائدة مفردة " هُنَالِكَ " في هذا السياق القرآني؟ إننا نفهم المعنى على النحو التالي: لقد كانت فكرة الذرية الطيبة واقعة في قلب الرجل ولكنه لم يطلبها من ربه على صيغة دعاء إلا "هُنَالِكَ"، أي في ذاك المكان وفي تلك اللحظة. ولمن لماذا؟ أي لماذا في تلك اللحظة بالذات أصبحت فكرة الذرية الصالحة في قلب زكريا واقعة في باب الدعاء بعدما مكثت سنين طويلة من عمره في باب التمني كما نزعم؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة على هذا السؤال متوافرة في الآية الكريمة التالية حيث علّل زكريا طلبه للذرية في تلك اللحظة على وجه التحديد:
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)مريم
ولمّا كان زكريا قد خاف الموالي (وهي في زعمنا ذرية مريم القادمة)، طلب من ربه الوليّ الذي لا يرثه هو فقط وإنما يرث من آل يعقوب أيضاً:
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)مريم
افتراء من عند أنفسنا: إنه الصراع بين آل يعقوب وآل عمران (وهذا ما سنحاول أن نخوض في تفاصيله - إن أذن الله لنا بشيء من علمه- عندما نتحدث عن المسيح عيسى بن مريم، فالله أسأل أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع المجيب).
نتيجة مفتراة: إن زعمنا هذا يوصلنا إلى الاعتقاد التالي: لا يستجيب الله أمانيك وإنما يستجيب دعاءك، فمهما تحصل لديك من أمنيات فإن الله لم يتعهد على نفسه أن يجيبها، ولكنه تعهد على نفسه أن يستجيب دعائك، لذا جاءت الدقة القرآنية في قوله تعالى:
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)النمل
فالمدقق في هذه الآية الكريمة يجد المعنى واضحاً من وجود عبارة مثل "إِذَا دَعَاهُ" في هذا السياق القرآني، فلو كانت تلك العبارة غير ضرورية لجاء قول الحق على نحو:
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ ... وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ
فالله إذاً لا يجيب المضطر لمجرد أنه مضطر مادام أنه يتمنى، فلا تتم الإجابة الربانية – نحن نفتري القول- إلا تحت شرط أن يكون المضطر قد دعاه، وهذا المعنى واضح جلي في آية إجابة الدعاء التي قدمناها في مقالتنا السابقة، ولا ضير أن نعيدها هنا لتأكيد الفكرة نفسها:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)البقرة
فلقد حاولنا أن نوضح في المقالة السابقة أن ورود عبارة " إِذَا دَعَانِ " في هذه الآية الكريمة لا يمكن أنها جاءت من باب التكرار والحشو في الكلام، وإنما هي ضرورة لا يتم المعنى المراد بدونها، فحسب الآية الكريمة لا تكون الإجابة الربانية حاصلة إلا تحت شرط توجه السائل (الداع) إلى ربه بالدعاء (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، إن عدم توجه العبد إلى ربه بالدعاء يعني أن رغبة الشخص لا تتجاوز أن تندرج تحت باب التمني. وليس أدل على صحة منطقنا هذا من قصة نبي الله يعقوب، ولكن كيف؟
نحن نفهم أن حزن نبي الله يعقوب على فقدان يوسف قد بلغ منه ما بلغ حتى فقد بسببه بصره:
وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
لذا لا يمكن أن يتحدانا أحد بالقول أن يعقوب لم يكن يتمنى عودة يوسف، وهو الذي لم يفقد الأمل أصلاً بأن يوسف لم يمت ولا زال على قيد الحياة، وهو نفسه من طلب من أبناءه أن يذهبوا فيتحسسوا من يوسف:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) يوسف
ولكن هل سأل أحدنا سؤالا بسيطا مثل هذا: لِم لَم يرجع يوسف إلى حضن أبيه وهو الذي ما انفك يبكيه صباح مساء؟
رأينا: لأن يعقوب لم يدعو ربه أبداً أن يعيد له ولده المفقود. وما فعل ذلك إلا بعد أن فقد ولده الآخر عندما قال:
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)يوسف
فنحن نفهم أنه حتى لو كان يعقوب يتمنى عودة ابنه، فإن الله لم يتكفل له بتلك العودة ما دام أنه لم يترجم رغبته وأمنيته تلك إلى دعوة حقيقية. فالاستجابة الربانية مشروطة إذاً بدعاء العبد، فذاك هو حق الله على العبد:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)غافر
وقد يرد البعض بالقول: ولماذا لم يدعو نبي الله يعقوب ربه أن يعيد له ولده المفقود؟ ألم يكن يعرف كيف يدعو ربه؟ لم صبر كل هذه السنين على فراق ولده وربما كان يستطيع أن يستعيده بدعوة ربه؟
رأينا: هذا ما سنناقشه عند الحديث عن قصة يوسف بحول الله وتوفيق منه، لذا فالله أسأل أن يأذن لي بعلم من لدنه، إنه هو السميع المجيب.
نتيجة: من لا يدعوا الله، عليه أن لا يتوقع الرد من خالقه.
وفي هذا الإطار نقدم مثاليين أخريين على صحة ما نزعم، ولكن يجدر الإشارة إلى أننا قد قدمنا هذين المثاليين في مقالة سابقة تحت عنوان: مقالة في تفضيل الرسل بعضهم على بعض مع عدم التفريق بينهما.
أما المثال الأول فهو من سيرة نبي الله نوح عليه السلام ، بينما يأتي المثال الثاني من حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام.
مثال نوح
تساؤلات: ألم يكن نوح راغباً في هداية ولده؟ ألم يجتهد في حث ابنه على الركوب معه والنجاة من الغرق؟ لم لم يحقق الله لنوح ما كان يريد إذاً؟
ربما يلحظ القارئ المتدبر للسياقات القرآنية لقصة نوح أمراً غايةً في الدقة والروعة في القرآن الكريم ملخصه أنّ نوحاً عليه السلام عندما عاد إلى الله في ابنه لم يعد إليه طالباً هداية ولده على صيغة دعاء، بل عاد إليه محاوراً متسائلاً، فالقراءة المتأنية للآية القرآنية تشير أنّ نوحاً لم يدعو الله أنْ ينجي له ابنه، بل سرد السبب الذي (حسب ظنه) يجب أنْ يتخلص ابنه من الغرق:
"وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي ..." هود 45
لذا فإننا نجزم أنه من باب الخطأ الظن أنّ ذلك دعاء من نوح لنجاة ابنه من الغرق، فالمدقق في الآية نفسها يجد أن الآية الكريمة لم تأتي على صيغة طلب الوالد بنجاة الولد، ولو أمعنا التفكير في الرد الإلهي على زعم نوح لتبيّن لنا أن نوحا لم يقدم الأمر على أنه طلب، فالله الذي يعلم خائنة الأنفس وما تخفي الصدور يرد بما يناسب الخطاب، أليس كذلك؟ لذا جاء الرد الإلهي على نحو أنّك مخطئ يا نوح في استنتاجك:
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هود 46
فالله – لا شك- يرد على السؤال كما يجب أن يكون الرد، فلا يمكن أن يقبل الله رجاء نوح في ابنه إذا كان سؤال نوح نفسه لا يحمل معنى الرجاء (أو الطلب)، فالرد – لا شك- من جنس الطلب. ونحن نكاد نجزم هنا أنّه لو جاء طلب نوح على صيغة دعاء بأنّه لا حول له ولا قوة, وأنّ الله هو الذي يملك القدرة على هداية ابن نوح، وأنّ نوحاً يطلب ذلك من ربه مباشرة في صيغة دعاء كما فعل زكريا مثلاً، لكان الجواب الإلهي على ذلك إيجابياً, والقارئ مدعو ليعقد هنا مقارنة في هذا السياق بين نداء نوح ربه من جهة ونداء أيوب ويونس وزكريا من جهة أخرى:
نداء نوح
"وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي ..." هود 45
نداء أيوب وذا النون وزكريا:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 83الأنبياء
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ 87الأنبياء
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ 89الأنبياء
ففي حين أن دعوة أيوب وذا النون وزكريا تبعتها الاستجابة الفورية:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ 84الأنبياء
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ 88الأنبياء
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ 90الأنبياء
لم تحصل مثل هذه الاستجابة في حالة نوح عليه السلام، وخلاصة القول أنّ نوحاً لم يدع ربه في أمر نجاة ابنه من الغرق، ولكنه حآج ربه في نجاة ابنه، ولقد افترضنا أنّه لو توجه نوح إلى ربه بالدعاء لاستجاب الله طلبه. والدليل على ذلك أنّ نوحاً عندما توجّه إلى ربه بالدعاء لهلاك قومه، نجد أنّ الله قد استجاب دعاءه في الحال. وفي هذا السياق يسرد القرآن الكريم قصة دعاء نوح على قومه، فقد ذكر الأسباب الموجبة لهلاكهم، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام:
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) نوح 5-7
ولكنّ نوحاً لم يتوقف عند ذلك، بل أردف هذه الحجج بالدعاء إلى الله بهلاكهم[1]:
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا 26نوح
وقد يسأل البعض: لماذا لم يدعو نوح ربه أن ينجي له ولده؟
رأينا: لأن نوح كان يشك أن ولده ليس ابنه الحقيقي، وإنما هو عمل غير صالح، فما كان راغباً حقاً بنجاته قبل أن يبين له أصله (للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان سفينة نوح ونظرية تكون القارات، وكم لبث نوح في قومه، وثلاثيةالمرأة، وغيرها).
مثال إبراهيم:
تساؤلات: ألم يكن إبراهيم راغباً في هداية والده؟ لم لم يلبي الله سبحانه تلك الرغبة لنبيه؟ كم حاول إبراهيم أن يثني والده عن الكفر؟ هل نجح في ذلك؟ الجواب كلا، فلقد بقى والده على كفره، لا بل فلقد ناصب إبراهيمَ العداء إن هو لم يتركه وشأنه:
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)مريم
السؤال: لم إذاً لم تتحقق رغبة إبراهيم في هداية والده؟
الجواب: لأن تلك كانت فقط رغبة (أمنية) لم يترجمها إبراهيم إلى دعاء، ولكن كيف ذاك؟
نقول - بادئ ذي بدء - أنّ القرآن الكريم لا يذكر بأي موضع أنّ إبراهيم عليه السلام قد دعا لأبيه بالنجاة، بل جُلّ ما حصل هو أنّ إبراهيم قد وعد أبيه بالاستغفار له:
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) مريم
ولمّا حصل فعلاً أنّ توجه إبراهيم بالدعاء إلى الله طالباً الهداية، جاء طلبه على النحو التالي::
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ 35إبراهيم
فإبراهيم إذاً لم يتوجه قط إلى الله تعالى بدعاء مفاده أن يترك والده عبادة الأصنام، وإنما خص نفسه وبنيه فقط بتلك الدعوة (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ), فالذين يظنون أنّ الله لم يتقبل دعاء إبراهيم لأبيه يقعون في الخطأ لأنّ إبراهيم لم يتوجه أصلاً إلى الله بالدعاء لأبيه بترك عبادة الأصنام. وهنا قد يرد البعض بالقول: ولكنّ إبراهيم قد طلب الاستغفار لأبيه، ألا يكفي ذلك لإجابة الدعاء؟ قال تعالى:
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)الشعراء
فنرد بالقول أن هذا السؤال المشروع ينقلنا إلى موضوع الحديث عن شروط قبول الدعاء الذي سنتعرض له لاحقاً، لذا سيتم إثارة هذا التساؤل مرة أخرى لنرى لِمَ لمْ تتم الاستجابة الربانية على طلب إبراهيم هذا بالرغم أنه جاء من قبيل الدعاء.
المهم بالموضوع هنا التأكيد على أن هناك فرقاً شاسعاً بين التمني والطلب (أو الدعاء)، فالله لم يتخذ سنة على نفسه بتحقيق أمنيات الناس ولكنه اتخذ سنة على نفسه في إجابة طلبات (أو دعاء العباد)، وهناك فرق كبير بين هذه وتلك.
ولو دققنا النظر في واقع حياة الناس لوجدنا أن كل الناس لديهم نفس الأمنيات تقريباً كالحصول على المال والجاه والمنصب والصحة، الخ. قال تعالى:
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)فصلت
ولكن هل تتحقق لكل الناس تلك الأمنيات على نحو ما يحبوا ويرغبوا، إن حصول الناس على تلك "الأمنيات" يقع ضمن نطاق نواميس الكون المرتبطة بالمسببات والنتائج، وهذه أمور يشترك بها البشر جميعاً، ويتنافسون في الحصول عليها ضمن سنن الله الكونية، فمن طلب المال، واجتهد في الحصول عليه، وسلك طريق الحصول عليه تحصل له المال، وهكذا.
ولكننا عندما نتحدث عن الدعاء فإننا نتحدث عن حصول الأمر على غير سنن الله الكونية التي يعرفها الناس ويتشاركون بها جميعاً. إن سؤالنا الذي نحاول الحصول على إجابة شافية له هو: هل يمكن أن يحصل شخص ما على المال بغير تلك الطرق المتعارف عليها بين الناس مثلاً؟ أو بكلمات أكثر دقة، هل يمكن الحصول على المال بالدعاء؟
جواب: نعم، ولكن ذلك يتطلب منك الدعاء، فالمطلوب ممن أراد ذلك هو أن ينقل تلك الرغبة من إطار الأمنيات إلى إطار الدعاء، فإن أنت توجهت إلى ربك طالباً المال على صيغة دعاء، فستحصل عليه بكل تأكيد، وهذا ينطبق على الصحة والمنصب وغيرها، ولكن كيف؟
أما بعد،
ما هو الدعاء؟
أو بكلمات أخرى، ما هي الشروط الواجب توافرها في الطلب ليقع ضمن إطار الدعاء المستجاب؟ لا شك أن هناك شروطاً إن هي توافرت في صيغة الطلب الذي تتوجه به إلى الله الواحد الأحد، فإن ذلك الطلب سيكون مجاباً بلا تأخير ولا تبديل. فالله لن يؤخر لك أجره إلى يوم القيامة ولن يبدلك به شيئاً آخر لم تطلبه أنت.
الشرط الأول: الدعاء يتطلب إيمان الربوبية فقط
إننا زعم الفهم أن الدعاء يقع ضمن إطار إيمان الربوبية فقط، فالمدقق في جميع صيغ الدعاء التي جاء الرد الرباني عليها بالإيجاب يجد أنها كانت تتضمن إيمان الداع بربوبية المدعو، ولندقق النظر في بعض تلك الأدعية مركزين على هذا الجانب:
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فحتى دعاء إبليس بأن ينظره الله إلى يوم الوقت المعلوم جاء مقترناً بالاعتراف بربوبية المدعو:
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
ونحن ندعو القارئ الكريم إلى تفقد جميع صيغ الدعاء التي وردت في كتاب الله من هذا المنظور، ونتحدى أن يجد في أي منها داعياً يلجأ إلى ربه متسلحاً بغير سلاح الإيمان بربوبيته، لذا يخلو القرآن الكريم من أي دعاء فيه إقرار بإلوهية المدعو.
الفرق بين إيمان الربوبية وإيمان الإلوهية فيما يخص الدعاء المستجاب
إن هذا التمييز الذي نقدمه هنا ربما يسلط الضوء على إشكالية كبيرة في الفكر الديني، وربما يقدم حلاً لسؤال خالج الكثيرين من أبناء المسلمين (العامة وأهل العلم منهم)، سؤالاً مفاده: لم لا يحقق الله دعاء المسلمين بالنصر على أعدائهم؟ ألم ندعو نحن المسلمين الله أن ينصرنا على اليهود مثلاً؟ ألم ندعو للمجاهدين بالنصر على الكفار؟ ولكن، ألا تتوالى الهزائم على هذه الأمة بالرغم من كثرة دعائنا؟ كيف يمكن أن نفسر كثرة دعائنا بالنصر على أعدائنا ولا نزداد إلا هزيمة وخذلانا؟ ألا تنفجر حناجر خطباء المسلمين على المنابر بالدعاء إلى الله أن يأخذ اليهود والنصارى أخذ عزيز مقتدر؟ ألم يدعوا عليهم بأن يرمل الله نساءهم وييتّم أطفالهم؟ ولكن، أين – يا ترى- تكثر الأرامل واليتامى، في العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا، أم في السويد والدنمرك وسويسرا؟ ربي، ما الذي يجري؟
إننا نزعم أن الإيمان بأن الدعاء يتطلب إيماناً بربوبية المدعو تحل مثل هذه الإشكالية برمتها، ولكن كيف؟
أما بعد،
لا أود أن أدخل في تفاصيل العقيدة بالتمييز بين أنواع الإيمان (إيمان الربوبية والإلوهية والصفات)، ولكن سأقدم الموضوع بشيء من التبسيط الذي يناسب القارئ غير المتخصص وذلك لأن الأمر لا يهم أهل الاختصاص فقط، وإنما هو قضية تشغل فكر الجميع.
إن من بديهيات العقيدة التي نؤمن بها هو إن الإله هو رب البشر جميعاً (المؤمن منهم والكافر)، أليس كذلك؟ لذا فإننا نعتقد أنه ما دام أن الدعاء يتطلب إقراراً بربوبية المدعو فقط، فإن الإجابة الربانية تتحصل لكل من يؤمن بربوبية الإله. وبناءً عليه، فكما نؤمن نحن المسلمين بربوبية الخالق، يؤمن اليهود بذلك، ويؤمن النصارى بذلك، ويؤمن كثير من الكفار بذلك. فنشترك نحن الخلق جميعاً (بغض النظر عن مسميات عقائدنا) في هذا النوع من الإيمان، لذا فكما يستجيب الله دعاءنا، يستجيب دعاءهم، وكما ندعو نحن ربنا أن ينصرنا، فهم بلا شك يدعو ربهم أن يحقق النصر لهم، وكما نتوقع أن يتقبل الله دعاءنا، يتقبل الله دعاءهم، فقبول الدعاء ليس حكراً على المسلم، وليس أدل على ذلك من دعاء إبليس، فلو كانت استجابة الدعاء مقتصرة على المسلمين، لما كان هناك تبرير لقبول الله دعاء إبليس، في الوقت الذي شهد الله بنفسه أن إبليس كان من الكافرين:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)البقرة
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)ص
إن مراد القول هو أن فكرنا الديني الذي يمثله كتابنا الكريم (وليس عقول مشايخنا الأجلاء) يفرض علينا الإيمان بأن قبول الدعاء غير خاص بالمسلمين، وإنما هو حق البشر كافة على ربهم، فهو حق لكل من آمن بربوبية الإله. وبكلمات أخرى فهو حق المخلوق على الخالق، فمن غير المنطقي أن تقضي مشيئة الله أن يعمر هذا الكون المؤمن وغير المؤمن، ثم يكون قبول الدعاء خاصاً بالمؤمن، لأنّ ذلك يعني القضاء التام على غير المؤمنين، فلو كان الله لا يقبل الدعاء إلا من المؤمن لخلت الأرض على مدى التاريخ من كل عنصر غير مؤمن، ولكن لمّا قضت مشيئة الله أن تعمر هذه الأرض بالمؤمن والكافر:
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
كانت سنة الله أن يتقبل الدعاء من غير المؤمن كما يتقبلها من المؤمن.
ولتبسيط الأمر فإننا نسرد المثال التالي (ولله المثل الأعلى)، فإن رب الأسرة لا يحرم من الميراث من كان عاقاً له من أبناءه (أرجو أن لا تقتبس هذه العبارة بمعزل عن النص، ليروج البعض- كما فعلوا أكثر من مرة- لفكرة تنصير أو تهويد أو تشييع أو تسنيين أو تكفير رشيد الجراح- وهو الذي لا يعترف بهم جميعاً لأن دينه مسلماً حنيفاً فقط)، فعاطفة الأبوة لديه أقوى بكثير من واجب الابن تجاه والده، فعند تقسيم تركته لا يجوز له أن يخص أكثر أولاده طاعة له بشيء من تركته يزيد على نصيب أكثرهم عقوقاً له، وبنفس المنطق، فالخلق جميعاً سواسية أمام الله في عمارة الأرض، لذا كان لزاماً أن يتشاركوا فيها بغض النظر عن عقيدتهم، ولكن التفضيل بينهم يكون في الدار الآخرة.
وربما يحل مثل هذا الطرح إشكالية الإجابة على سؤال كهذا: لم لا يستجيب الله دعاءنا بالنصر على أعدائنا؟ لِمَ تتوالى الهزائم على هذه الأمة بالرغم من كثرة دعائها؟
جواب: لأننا كما ندعو نحن ربنا أن ينصرنا، يدعوا هم كذلك ربهم بأن ينصرهم، فتتساو الفرص بيننا وبينهم، فتكون الغلبة ليس للدعاء وإنما لمن يملك القوة ورباط الخيل. ولو كان نصر الفئة المؤمنة على الفئة غير المؤمنة يتم بالدعاء، لما كان هناك مبرراً أن يطلب منا ربنا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)الأنفال
فمن ظن أن دعاء النبي كان سبباً في نصر المسلمين في بدر مثلاً، فعليه أن يبيّن لنا ويفهمنا أين إذاً ذهب دعاؤه في أحد. من يدري!!!
متى يكون الدعاء مفيداً في المواجهة من الأعداء؟
لا شك يكون ذلك مفيداً فعلاً إن كان الأعداء لا يملكون إيمان الربوبية، ولا يتوجهوا لربهم بالنصر، عندها نكون نحن نمتلك سلاحاً لا يمتلكوه هم، ولكن إذا توجهوا هم إلى ربهم كما نفعل نحن لتساوينا جميعاً في هذا السلاح، ولفقد تأثيره وأهميته، فالله لا شك يجيب دعوة المضطر، وليس بالضرورة أن يكون هذا المضطر مؤمناً أو مشركاً بالله أو حتى كافراً بربه، المهم بالموضوع هو أن يكون موقناً أن له رباً، وأن هذا الرب قادر على إجابة دعوته بغض النظر عن الطريقة التي يعبد فيها ربه، فالمسلم له منهج وشرعة تختلف عن منهاج وشرعة اليهودي أو النصراني أو البوذي أو المشرك، ولكنهم يتساوون جميعاً في إيمان الربوبية، فيستحقوا أن يجيب الله دعاءهم جميعاً.
والملفت للانتباه في سياقات الدعاء في القرآن الكريم هو خلو الدعاء من ذكر اسم الله، فلا نجد أحداً يتوجه إلى الله بصيغة دعاء مثل: يا الله هب لي، أو يا الله لا تذر على الأرض... الخ، ولا نجد أن الدعاء مرتبطا بصفات الله وأسماءه الحسنى، فلا نجد دعاءً على نحو: يا رحمن هب لي... أو يا منتقم لا تذر على الأرض...، وهكذا. لذا جاءت مثل هذه الصيغ في القرآن في مجمل الحديث عن الدعاء على أنها غير مهمة بحد ذاتها، قال تعالى:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (110)الإسراء
ولكننا نجد ارتباطاَ لا تكاد تفك عراه بين الدعاء وربوبية المدعو على نحو "قال رب... ". ولو أمعنا التفكير في هذا الموضوع وتساءلنا: هل يختلف رب نوح عن رب إبراهيم أو رب زكريا أو رب يونس أو حتى رب إبليس؟
الجواب كلا، فهو الإله الواحد الأحد، ولكن بالرغم من ذلك، لم يستخدم أي منهم اسم ربه الأعلى في الدعاء ولا صفاته، وتوجه كل منهم إلى ربه بصيغة المفرد، فيونس يقول "رب..." ، وإبراهيم يقول "رب ..."، وزكريا يقول "رب..."، وامرأة عمران تقول "رب..."، وقال إبليس من قبل "رب..."، وهكذا.
وعندما أخطأ آدم وزوجه وأكلا من الشجرة رجعا إلى ربهم ليطلبوا منه قبول التوبة بصيغة المثنى:
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)الأعراف
خطبة قصيرة: عزيزي المسلم، ليكن كتابك هو هاديك، ولتكن سير أنبياء الله هي واسطتك، لذا عندما تتوجه إلى ربك بالدعاء فليس من الضرورة بمكان أن تتوجه إليه بصفته الإله الواحد الأحد، وليس بالضرورة أن تستخدم اسماً محددا من أسماءه الحسنى، ولا حتى بصفته رباً لكل الخلق، ولكن توجه إليه كما توجه إليه عباده جميعاً بصفته رباً لك وحدك (كما هو رب غيرك)، لذا يجب أن تكون صيغة الدعاء المقبول مبنيّة على الاعتقاد الجازم بأنك تتوجه إلى ربك على النحو التالي:
رب................................
وللحديث بقية صلاة الاستسقاء الجزء الرابع
_________________
[1] للتطرق لهذا الموضوع من جوانبه المختلفة ندعو القارئ الكريم إلى العودة إلى المقالة تلك: مقالة في تفضيل بعض الرسل مع عدم التفريق بينهم.