ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود
بسم الله الرحمن الرحيم
الرواسي والجبال
هذه المقالة هي جزء من بحث الطالب سامي الخوالدة لنيل درجة الماجستير في اللغويات من قسم اللغة الإنجليزية في جامعة اليرموك تحت عنوان: تحديد مراد الألفاظ عن طريق ترابط النص الكلي تحت إشراف د. رشيد الجراح (للاطلاع على النص الكامل باللغة الإنجليزية أضغط على الرابط التالي:http://faculty.yu.edu.jo/raljjara/default.aspx?pg=0e4b7c6e-2481-44ad-bd48-24abd5a896a7
(ملاحظة لا يجوز الاقتباس إلا بذكر المصدر)
أما بعد،
حاول الباحث في هذا الجزء من الدراسة التفريق بين مفردتين قرآنيتين غالباً ما فُسِّرت الواحدة منهما بالأخرى، والكلمتان هما مفردة الجبال ومفردة الرواسي، وكانت الغاية المرجوة هي محاولة الوصول إلى المعنى الحقيقي لكلا الكلمتين، وذلك بإبراز الفروق الدقيقة بينهما، وبالتالي محاولة إعادة تسليط الضوء على الآيات الكريمة التي وردت فيها هذه المفردات من جديد علّنا نستطيع الخروج باستنباطات تساعد في تعميق الفهم وتهذيب المعرفة الدارجة، وقد نبعت دوافع الباحث للتصدي لهذا المبحث من ملاحظات عامة أبرزها:
- عدم تفريق كثير من كتب التفسير بين الكلمتين، فغالباً ما فسّرت كلمت الرواسي بالجبال والعكس صحيح، والقارئ مدعو لمراجعة أمهات كتب التفسير للتأكد من زعمنا هذا.
- أما السبب الأكثر إلحاحاً خاصة للطالب الذي تخصص في لغة أجنبية كاللغة الإنجليزية (مجال تخصص الباحث) فهو ترجمة مثل هذه المفردات إلى تلك اللغة الأجنبية. فبعد تفقدنا لترجمات القرآن الكريم العديدة وجدنا أن المفردتين غالباً ما نقلتا إلى اللغة الإنجليزية بمفردة واحدة وهي كلمة mountains، وهذا لا شك يسبب إشكالا كبيرا لأصحاب اللغة الانجليزية عند الاطلاع على النسخة المترجمة للقرآن الكريم، الأمر الذي يفقد النص جزءاً كبيراً من قدسيته ودلالته التي لا يجب التفريط بها. انظر على سبيل المثال كيف تمت ترجمة كلمة الرواسي في الآية الأولى وكيف تمت ترجمة كلمة الجبال في الآية الثانية:
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الرعد، 3)
And it is He Who spread out the earth, and placed therein firm mountains and rivers and of every kind of fruits He made Zawjain Ithnaîn (two in pairs - may mean two kinds or it may mean: of two varieties, e.g. black and white, sweet and sour, small and big). He brings the night as a cover over the day. Verily, in these things, there are Ayât (proofs, evidence, lessons, signs, etc.) for people who reflect.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا" (الكهف، 47)
And (remember) the Day We shall cause the mountains to pass away (like clouds of dust), and you will see the earth as a levelled plain.
وتنبع أهمية مثل هذه الدراسات في إمكانية الوصول إلى معنى أكثر دقة وتميزاً ربما يسهم في حل كثير من مشاكل التفسير والترجمة للغات الأخرى، والأهم من ذلك كله بناء عقائد سليمة مستنبطة من مصدر التشريع الأول وهو كتاب الله.
ملخص البحث
بعد إجراء دراسة تحليله لنصوص الآيات الكريمة (TEXT ANALYSIS) التي وردت فيها مفردتا الجبال والرواسي بطريقة الإحالة النصية (INTERTEXTUALITY)، خلصت الدراسة إلى نتائج عدة تخص الفروقات بين الرواسي والجبال، نذكر أهمها:
· الجبال والرواسي كينونتان مختلفتان مترابطتان
· للجبال خصائص مميزة تجعلها تختلف عن الرواسي
· تختلف الجبال عن الرواسي من حيث الشكل
· تختلف الجبال عن الرواسي من حيث المكان.
· للجبال وظائف تختلف عن الوظائف التي أنيطت بالرواسي.
· الجبال على أنواع متعددة بينما الرواسي هي نوع واحد فقط.
الشرح بالدليل
الافتراء رقم 1: الجبال ليست جزءا من الأرض.
لقد جرت العادة عند الكثيرين على اعتبار الرواسي والجبال جزءا لا يتجزأ من الأرض، وربما لم يلتفت أهل التفسير للتحقق من هذه الجزئية بعرضها على سياقات الكتاب الكريم، فأسقطوا أفهامهم الشعبية على النص القرآني دون تهذيب معرفتهم بالدليل المستنبط من كتاب الله. ونحن نزعم الظن أن المدقق في آيات القران الكريم ربما يصل إلى نتيجة بسيطة تتمثل في أنه من الاستحالة بمكان اعتبار الجبال والرواسي جزءا من الأرض. فهما - في ظننا- كينونتان منفصلتان عن الأرض، والآية الكريمة التالية ربما تشير - حسب فهمنا - إلى الدليل الذي يمكن أن يثبت زعمنا هذا، قال تعالى:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب، 72)
تبين هذه الآية الكريمة حقيقة واضحة تتمثل بأن الله تعالى قد عرض الأمانة (قبل أن يحملها الإنسان) على ثلاث كينونات هي:
· السماوات
· الأرض
· الجبال
فسؤالنا الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا كانت الجبال جزءا من الأرض، فـ لِم يأتي ذكرها في الآية الكريمة بعد ذكر الأرض مباشرة؟ ألا يكفي أن تكون الآية على نحو " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض"، وبالتالي تكون الجبال مشمولة بالخطاب ما دام أنها - كما يتصور الكثيرون- جزءا من الأرض؟
رأينا: نحن نزعم القول أن الآية الكريمة تتحدث عن كينونات ثلاث مختلفة عن بعضها البعض، اختلافاً يجعل كل واحدة منها مؤهلة لحمل الأمانة التي عرضها الله عليها لو أنها تقبلتها، فلو تقبلت الجبال مثلاً حمل الأمانة، لكانت الجبال (ولا شيء غير الجبال) مسئولة عنها، ولما كانت الأرض ستحاسب عليها، والعكس صحيح بالنسبة للسموات والأرض، فلو تقبلت الأرض حمل الأمانة لما كانت الجبال مسئولة عن تحمل تبعات قرار الأرض، وهكذا. لقد ذكرت الآية أن هناك ثلاث كينونات تختلف عن بعضها البعض: السماء، الأرض، الجبال. ولا يجب خلط بعضها ببعض دون تمييز يبيّن الحكمة في التفصيل القرآني.
الافتراء رقم 2: الجبال كينونة منفصلة عن الأرض.
لقد شكّلت الآية الكريمة السابقة دافعاً محفزاً لنا للبحث في جميع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجبال والأرض للتحقق من صحة زعمنا السابق، فوجدنا الفصل بين الجبال والأرض واضحاً في سياقات قرآنية عديدة، والقارئ مدعو لمراجعة ما جاء في مقالة د. رشيد الجراح تحت عنوان "ماذا كتب في الزبور؟" للتفصيل في معنى مفردة الأرض. أما بحثنا هذا فينصبّ جلّه على محاولة تمييز مفردة الجبال والرواسي على وجه التحديد.
لقد جاء الفصل بين الأرض والجبال في أكثر من موقع في كتاب الله، قال تعالى:
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (الحاقة: 14)
لا أتوقع أن القارئ الكريم ربما يغفل عن الحقيقة الصارخة التي تؤكدها هذه الآية الكريمة والتي تتمثل في الفصل الواضح بين الأرض من جهة والجبال من جهة أخرى، فلو كانتا كينونة واحدة – نحن نزعم الظن- لما تطلب ذلك الفصل بينهما مادام أن المصير واحد (فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ) كما جاء في الآية السابقة. فالآية تبين بما لا يدع مجالاً للتأويل أن الله تعالى يخبر عن ما ستؤول إليه الأرض والجبال في ذلك اليوم الرهيب. فالأرض ستحمل وستدك، وذلك بالضبط هو مصير الجبال، ستحمل أيضاً وستدك. إن أبسط ما يمكن استنباطه من هذه الآية الكريمة هو أن الجبال والأرض كينونتان متصلتان لكنهما مختلفتان ، وإلاّ لانتفت – في ظننا- الحاجة إلى ذكرهما ككينونتين منفصلتين (لو كانت الجبال جزءاً من الأرض) مادام أن الحدث الواقع عليهما هو نفسه (الدك).
ولو أمعنا التفكر في الآية الكريمة التالية لربما تأكد الظن عندنا بضرورة الفصل بين الكينونتين، قال تعالى:
ويَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدً (الكهف، 47).
فالله يخبر عن ذلك اليوم الذي ستسير فيه الجبال ولا تسيّر الأرض ولكنها ستكون حينئذ بارزة فقط، ولقد وردت فكرة حركة الجبال (دون الأرض) في أكثر من سياق قرآني:
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (التكوير، 3)
وسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (النبأ، 20)
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (الطور،10 )
ولا يتوقف الأمر عند تسير الجبال دون الأرض، ولكن انظر إلى ما ستؤول إليه الجبال على وجه التحديد كما تصور ذلك الآيات الكريمة التالية:
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (المرسلات، 10)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (طه 105)
والآيات الكريمة التالية تشير إلى أن مصير الأرض غير مصير الجبال، ففي حين أن الأرض ستنشق، فإن الجبال ستخر هدّا:
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (مريم، 90)
وفي حين أن الأرض سترجف فإن الجبال ستصير إلى كثيباً مهيلا:
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً (المزمل، 14)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أنه عندما يتكلم الله عن الأرض والجبال فإنه يتكلم عن شيئين مختلفين وإن كانا متصلين، فالذي سيحصل للجبال قد لا يحصل للأرض، وعندما يخبر الله عن حدث ما على أنه حدث لا محالة حاصل لكل من الأرض والجبال معاً، فانه يبين ذلك بذكر المفردتين معاً كما في الآيات الكريمة التالية:
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً (المزمل 14)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (الحاقة، 14)
الرواسي
إلقاء الرواسي في الأرض
فكما حاولنا في الجزء السابق أن نبين أن الجبال ليست جزءا من الأرض، فإننا سنحاول في هذا الجزء أن نبين أن الرواسي أيضاً ليست جزءا من الأرض. فعند استعراض الآيات الكريمة التي تتحدث عن الرواسي نجد الفصل واضحاً بين الأرض من جهة والرواسي من جهة أخرى: ولنستعرض أولاً الآيات التي تتحدث عن الرواسي:
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (الحجر،19)
وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (النحل،15)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون" (الرعد،3)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ فصلت 10
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ لقمان 10
لا أظن - عزيزي القارئ- أن الأمر يمكن أن يفوت كل من دقق وأمعن التفكر في هذه الآيات الكريمة حتى يصل إلى الاستنباط الذي مفاده أن الرواسي لم تخلق مع الأرض ولم تكن جزءا من الأرض أصلاً، وليس أدل على ذلك - في ظننا- من وجود فعل الإلقاء، فالله قد ألقى في الأرض رواسي بعد أن كانت أصلاً "أرضاً"، فنحن نظن أنه بعد أن خلق الله الأرض قضى أمره بإلقاء الرواسي فيها. فالرواسي شيء والأرض شيء آخر. فلو كانت الرواسي جزءا من الأرض لما ذكر الله تعالى الفعل "ألقى"، ولربما توقف اللفظ عند ذكر الأرض فقط لتكون شاملة لكل ما عليها. وحتى تتضح الفكرة أكثر ما علينا إلا أن نتتبع معنى الفعل "ألقى" لنصل إلى هذه الحقيقة الصارخة. (للتفصيل في معنى الفعل ألقى، أدعو القارئ الكريم إلى الرجوع إلى مقالة د. رشيد الجراح تحت عنوان"ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته (4)" على الموقع التالي:
وخلاصة القول تتمثل - برأي الكاتب- بأن الإلقاء يحتاج إلى مهارة فائقة، وأن الإلقاء يكون من الأعلى إلى الأسفل. ولو دققنا النظر في جميع السياقات التي تتحدث عن إلقاء الرواسي مليّاً لوجدنا أن الإلقاء كان في الأرض (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ ) ولم يكن الإلقاء إليها (كما كان في حالة إلقاء كتاب سليمان الذي طار به الهدهد إلى أهل سبأ مثلاً)، ولم يكن على الأرض، ويقودنا هذا الطرح إلى إثارة السؤال التالي: هل خلقت الجبال والرواسي مع الأرض ؟ هل كان خلق الجبال والرواسي كخلق الأرض ؟
خلق الأرض
جاء ذكر "خلق الأرض والسموات" في سياقات كثيرة من كتاب الله الكريم، فقال تعالى:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الأعراف 54
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ التوبة 36
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ يونس 3
وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ هود 7
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً الفرقان 59
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ النمل 60
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ العنكبوت 44
وربما لا يجد القارئ للنص القرآني صعوبة في الفهم أن الآيات الكريمة السابقة جميعها تصور أن الله قد خلق كينونتين هما (1) السموات و (2) الأرض، وحصل كل ذلك بطريقة الخلق، بدليل أن جميع الآيات السابقة وردت بلفظ "خَلَقَ" (لمعرفة معنى "خلق" يرجى مراجعة مقاله د. رشيد الجراح "مصادر التشريع في الإسلام"). كما تبين الآيات الكريمة حقيقة ربما يصعب المجادلة فيها وهي: ما أن تم خلق السموات والأرض حتى جاء الاستواء على العرش:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
(للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالات د. رشيد الجراح تحت عنوان: معنى حرف الجر على في العربية و مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته7: باب العرش)
إن ما نودّ أن نجلب انتباه القارئ الكريم إليه هنا هو أنّ العرش كان (قبل خلق السموات والأرض) على الماء:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
ولا تشير الآيات الكريمة أن الله كان حينئذ مستوياً عليه بعد، وقد حصل الاستواء على العرش – في ظننا- بعد أن تم خلق السماوات والأرض. ولكن ما علاقة هذا بالموضوع قيد الدراسة ؟ فما الذي نريد أن نبينه من هذا الطرح؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم الظن أن الجبال والرواسي لم تكن موجودة عند هذه المرحلة (أي لحظة أن خلق الله السموات والأرض)، فالله لم يذكر الجبال والرواسي عند خلقة السموات والأرض. ولكن الله يذكر أن الجبال قد جاءت إنزالا، لتتكوّن الصورة في ذهننا على النحو التالي:
1. العرش كان على الماء
3. ارتفع العرش للاستواء عليه، فدعت الحاجة لتثبيت الأرض حينئذ
4. أنزل الله كينونة لتثبيت الأرض، فدخل جزء منها في الأرض (فكانت رواسي) وبقي جزء منها فوق الأرض (فكانت جبالاً)
تنزيل الجبال
لم نجد آية واحدة في كتاب الله تشير بأن الجبال قد أوجدت بطريقة الخلق، ولكنها جاءت بصيغة الإنزال ثم الجعل، فما الذي يمكن أن نفهمه من ذلك؟
رأينا: جاءت مفردة " خَلَقَ" (بالإضافة إلى السموات والأرض كما أوردنا سابقاً) مع أشياء كثيرة:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة 21
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ آل عمران 59
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً النساء 1
وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ الحجر 27[2]
وهنا نريد أن نطرح سؤالاً ربما يقودنا –إنْ صحّ ظننا- إلى الغاية من إيجاد الجبال : لماذا لم تكن الجبال حاضرة عندما خلق الله السموات والأرض؟ وبكلمات أخرى نسأل: لماذا لم ينزل الله الجبال إلا بعد أن خلق السموات والأرض واستوى على العرش؟
جواب: يقودنا هذا التساؤل على الفور للحديث عن الهدف الذي من أجله أوجد الله الجبال أصلاً، فلا شك عندنا أن الله قد أوجد الجبال لغاية مهمة أنيطت بها، فلا شي جاء عبثا، وهو ما يدعونا إلى تقديم الافتراء التالي الذي هو من عند أنفسنا: إن الهدف من إيجاد تلك الكينونة كان –نحن نزعم القول- من أجل تثبيت الأرض، فجاء إيجاد الجبال- برأينا- لكي تحمي الأرض من الحركة العمودية (فلا تبرز إلى الأعلى) أو الحركة الأفقية (فلا تميد بنا).
فقبل أن يستوي الله على العرش الذي كان أصلاً على الماء، لم يكن هنالك – في ظننا- حاجة لوجود الجبال، وذلك لأن مهمة تثبيت الأرض كانت منوطةً بالعرش الذي كان على الماء، فالعرش قد ثبّت الأرض لكي لا تتحرك عموديا أو أفقياً (لمزيد من التفاصيل انظر مقالة د. رشيد الجراح تحت عنوان "سفينة نوح ونظرية تكون القارات من منظور قراني" . على الموقع التالي: http://faculty.yu.edu.jo/raljjara/default.aspx?pg=bf322587-7a53-4485-b9ca-6c0583bf5748
وهنا نعرض ما قاله الكاتب عن مسألة وجود العرش على الماء، فهو يزعم القول:
" لقد كانت القارات جميعها كتلة واحدة متماسكه لا تنفصل لأنه كان هناك على المحيط (الكتلة المائية الأضخم) ضغطاً يوازي الضعط الذي تشكله كتلة اليابسه على الصفائح القارية (وأصبحت تعرف بنظرية Plate Tectonics theory of التي تطورت عن نظرية continental drift)، وبالإلتزام بالقاعدة العلمية التي تقول "أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار" فإنه عندما ذهب ذلك الضعط الموازي أحدث ضغطاً هائلاً على الصفائح من طرف اليابسه مما أدى بها إلى التصدع وبالتالي حدوث الشقوق في مناطق الفصل (rip-zones) التي أدت بأحجام هائلة من اليابسة أنْ تنفصل عن بعضها ، وذلك لأنّ قيم توزيعات الارتفاع والانخفاض distribution of heights and depths (كما لاحظ Wegener) تختلف بين اليابسة والمحيط".
فالكاتب يظن أن العرش كان موجودا على سطح الماء الموجود على سطح الكرة الأرضية[3]. ونستطيع أن نقول أن العرش كان يعمل على تشكيل ضغط على اليابسة ، وكان هذا الضغط – في ظن الكاتب- يعمل على تثبيت الأرض من التحرك إلى اليمين والشمال أو البروز إلى الأعلى. وبعد أن استوى الله على العرش وانتثرت الأرض، فتفتت أجزاء متبعثرة، أصبح من الضروري تنزيل الجبال كي تعمل على تثبيت الأرض، ولتأكيد ذلك، فلنقرأ الآية الكريمة التالية:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ فاطر 27
نحن نزعم الظن أن فعل التنزيل "أَنزَلَ" قد ورد في هذه الآية الكريمة للماء من جهة لتقوم بوظيفة إخراج الثمرات، وللجبال من جهة أخرى لتقوم بمهمة انتيطت بها، فما هي تلك الوظيفة؟
إلقاء الرواسي
قبل الخوض في تفاصيل الإجابة على هذا التساؤل لابد من التعرض أولاً إلى مفردة الرواسي من هذا الجانب ، فالرواسي جاءت بطريقة الإلقاء والجعل، ولم تأتي بطريقة الخلق، ولنقرأ السياقات القرآنية الخاصة بإيجاد الرواسي جميعها:
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (الحجر،19)
وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (النحل،15)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون" (الرعد،3)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ فصلت 10
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ لقمان 10
وهنا نريد التعرف على كيفية إيجاد الرواسي، فنحن نزعم الظن أن الجبال والرواسي كينونتان متصلتان مختلفتان من حيث الوظيفة والشكل والخصائص، وسنحاول تبيان كيف تم إيجاد الرواسي وسبب أن تكون متصلة بالجبال.
عند استعراض آيات الكتاب الكريم نجد أن هناك مفردتان استخدمتا عند الحديث عن الجبال وعن الرواسي، والمفردتان هما: أنزل (للجبال) و ألقى (للرواسي)، فكيف أنزل الله الجبال؟ و كيف ألقى الله الرواسي؟ وفي الوقت ذاته نجد أن مفردة "جعل" جاءت لكليهما. فكيف جعل الله الجبال؟ وكيف جعل الرواسي؟
افتراء من عند أنفسنا: نريد أن نفتري القول بأن الرواسي كانت جزءا من الجبال، فلقد نزلت جميعها كينونة واحدة، فدخل جزء كبير منها (بطريقة الإلقاء) في الأرض، فأصبحت تلك الأجزاء الداخلية تسمى رواسي، وربما يؤكد زعمنا هذا ما جاء في قوله تعالى:
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا النازعات 32
وفي هذا دليل – نحن نفتري القول- أن جزءاً من تلك الجبال قد دخل في باطن الأرض، وما تبقى فوق الأرض ولم يدخل فيها هو ما يمكن أن نطلق عليه أسم الجبال، وهو الجزء الذي نستطيع أن نراه، ونسكنه، الخ.
ولو تفقدنا الآية الكريمة لوجدنا أن مفردة الرواسي قد صاحبت الفعل "جعل":
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون" (الرعد،3)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ فصلت 10
فكيف "جعلت الرواسي" في الأرض؟ وكيف حصل ذلك من فوقها؟
حاول د.رشيد الجراح في مقالته " مصادر التشريع في الإسلام" تبيان معنى مفردة "جعل" ومقارنتها بأفعال أخرى مثل "خلق" و "أنشأ"، حيث زعم الظن أن مفردة جعل على وجه التحديد تفيد التحويل من حالة إلى أخرى، وربما يقودنا مثل هذا الزعم إلى تقديم الافتراء التالي: تم أيجاد السموات والأرض بطريقة "الخلق" بينما تم إيجاد " الجبال والرواسي" بطريقة "الجعل".
منطقنا: ما أن خلقت السموات والأرض، ودعت الحاجة إلى تثبيت الأرض بعد ارتفاع العرش، حتى أنزل الله تلك الكينونة الهائلة التي عملت على تثبيت الأرض، وعندما دخل جزء منها في باطن الأرض حصل التحول، فجعل الجزء الذي ألقي في الأرض رواسي. وبقي جزء آخر فوقها فجعل جبالاً.[4]
وهذا يقودنا على الفور للتفريق بين الرواسي من جهة والجبال من جهة أخرى .
الفرق بين الرواسي والجبال
ذكرنا في بداية بحثنا هذا أنّ الرواسي والجبال لفظتان متشابهان ولكنهما غير متطابقتين، لذا فإن كل واحد منهما يعبر عن شيء مختلف, ولا يمكن اعتبارهما لفظين مترادفين بنفس الدلالة والمعنى، وإلا لانتفت الدقة المرجوة من اللفظ القرآني. وقد ذكرنا أيضا أنه من الخطاء أن تتم ترجمتهما إلى اللغات الأخرى بكلمة واحدة (كمفردة mountains في اللغة الإنجليزية مثلاً)، بل يجب أن تراعي الترجمة الفرق في اللفظ، حتى لا تفقد المفردات القرآنية دلالتها ومعانيها الحقيقية. والخشية كبيرة أن أهل الرواية وأهل الدراية ومن جمع بينهما لم يلتفتوا كثيراً في شروحاتهم إلى دقة الألفاظ حتى في أمهات كتب التفاسير، فذهبت تفسيراتهم على نحو أن الواحدة تفسر بالأخرى، ولكننا نظن أن الدقة تستدعي تجلية الفروقات بين الجبال والرواسي من نواحي عدة، نحاول أن نبينها وذلك بعرض السياقات القرآنية حيث ترد كل مفردة منهما.
افتراء1: الجبال والرواسي تختلف من حيث الموقع
نعم تختلف الجبال عن الرواسي من حيث الموقع بالنسبة للأرض. فالرواسي قد ألقيت في الأرض، لذا لا نستطيع أن نراها بأم أعيننا، فلا نجد آية كريمة واحدة يطلب فيها الله منا أن ننظر إلى الرواسي، كما لا نجد أن الناس (أو حتى الكائنات الأخرى) يتخذون من الرواسي بيوتاً:
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (الحجر،19)
وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (النحل،15)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون (الرعد،3)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (فصلت، 10)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (لقمان،10)
لقد ذكرنا فيما سبق أنه عندما تكلم الله عن إلقاء الرواسي جاء اللفظ مصحوباً بحرف الجر "فيها" ولم يقل عليها أو إليها. وهذا يقودنا إلى معرفة المكان الذي انتهت إليه الرواسي بعد أن ألقيت. فنحن نظن أن الرواسي قد انتهت إلى داخل الأرض، وليس أدل على ذلك من وجود حرف الجر فيها. (للتفصيل حول معاني حرف الجر انظر مقالة د. رشيد الجراح تحت عنوان: معنى حرف الجر على في العربية)
أما بالنسبة للجبال، فدعنا نقرأ الآيات التالية، لنخرج باستنباطات نظن أنها غاية في الأهمية لأغراض التفريق بين المفردتين.
أولاً، الجبال يمكن أن يراها الإنسان بأم عينه:
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ النمل (88)
الجبال يمكن أن يتخذ الناس منها بيوتاً:
وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ. (الحجر،82)
وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ. النحل(81)
ويمكن أن تتخذ منها الكائنات الأخرى بيوتاً كالنحل مثلاً:
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. (النحل،68)
افتراء 2: الرواسي تختلف عن الجبال في الشكل
ولو دققنا النظر في الآية الكريمة التالية لوجدنا أن الجبال هي تلك الكينونة التي تظهر فوق السطح، فالآية الكريمة تؤكد أن ما يشبه "شكل الجبل" يمكن أن يتكون على سطح الماء كما كان الحال يوم طوفان نوح:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (هود،42)
وهذا يقودنا إلى تقديم الافتراء التالي: الجبل هي ذلك الجزء الظاهر فوق الأرض والذي يمكن أن يُتّخذ منه بيتاً للإنسان وللنحل، أما الرواسي – بالمقابل- فهي تلك الأجزاء الداخلية المتجذرة في بطن الأرض حيث لا يمكن رؤيتها ولا يمكن أن نتخذ منها بيتا ولا نستطيع حتى أن ننحت منها بيوتا. وللتوضيح دعنا نعرض صورة توضيحية تبين موقع كل من الجبال والرواسي.
افتراء 3: الجبال تختلف عن الرواسي من حيث الوظيفة
نحن نظن أن إلقاء الرواسي وتجذرها بالأرض كان ضروريا من أجل أن تقوم بالوظيفة التي أوجدت من أجلها, وبالنسبة للجبال فان وجودها فوق الأرض بالشكل الذي أراده الله هو أيضا ضروري من أجل القيام بواجبها الذي أوجدت من أجله. وللأسف لم نجد في كتب التفاسير وفي المعاجم اللغوية إشارات لبيان الفرق بينهما. فما هي وظيفة الرواسي؟ وما وظيفة الجبال؟
وظيفة الرواسي
لمعرفة وظيفة الرواسي، ظننا أن الآيات الكريمة التالية تسلط الضوء على الأمر:
وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (النحل 15)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (الأنبياء31 )
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (لقمان 10)
بيّنت الآيات الكريمة السابقة جميعها الوظيفة التي من أجلها ألقى الله الرواسي في الأرض، ألا وهي حماية الأرض من أن تميد بنا (أَن تَمِيدَ بِكُمْ )، فنحن نظن أنه لو لم يتم إلقاء الرواسي في الأرض لمادت الأرض بنا، ولكن كيف؟
جواب: نستطيع تبسيط الصورة بالقول أنه لو لم يكن هناك رواسي لتحركت الأرض بالاتجاهات الأربعة (شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً)، فالرواسي تشد كتلة الأرض معاً لتبقيها كتلة واحدة متماسكة، ولو دققنا في اللفظ أكثر لوجدنا أن مفردة الرواسي لم تفرد في القرآن الكريم (أي لم ترد بصيغة المفرد)، فهناك دائماً رواسي، ولو حاولنا ربط ذلك بحجم الرواسي (حيث أنها كثل ضخمة داخل الأرض)، لربما خرجنا بالاستنباط الذي مفاده أن الرواسي جميعها كتلة متصلة مع بعضها البعض، أي أنها جميعها تمثل كتلة واحدة مرتبطة ممتدة داخل الأرض، تمنع الأرض من أن تميد بنا، وبكلمات أخرى فهي تعمل على منع الأرض من التحرك أفقيا بأي اتجاه.
وظيفة الجبال
ولكن هل هذه هي وظيفة الجبال كما تصورها آيات الكتاب الحكيم؟
جواب: كلا، للجبال (بحكم موقعها وشكلها بالنسبة للأرض) وظيفتها التي تختلف تماما عن وظيفة الرواسي, وربما نستطيع أن نستنبط وظيفة الجبال من خلال الآية الكريمة التالية:
وَالْجِبَالَ أَوْتَادا (النبأ، 7)
فهذه الآية تبين أن الجبال تعمل أوتاد نظن أنها تعمل على تثبت الأرض حتى لا تبرز إلى الأعلى, ولكن كيف؟ فهل هذه الآية تكفي لإثبات صدق زعمنا هذا؟
تأتي الآية الكريمة التالية لتبين لنا ما يمكن أن يحصل للأرض عندما تزول الجبال, حيث تظهر وظيفة الجبال جلية بالنسبة للأرض، يقول تعالى:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (الكهف،47)
دقق- عزيزي القارئ - في هذه الآية الكريمة لتجد أنه ما أنْ تسيّر الجبال حتى تبرز الأرض. فنحن نفهم هذا السياق القرآني على نحو أن الجبال (الأوتاد) تدك الأرض إلى أسفل حتى لا تبرز إلى الأعلى، فهي تحمي الأرض من الحركة العمودية على غير الرواسي التي - كما ذكرنا سابقاً- تحمي الأرض من الحركة الأفقية. نعم، ستبرز الأرض وترتفع إلى الأعلى عندما يسيّر الله الجبال. وربما يفسر لنا مثل هذا الفهم جزء من الحكمة الإلهية في تصوير الجبال على أنها أوتادا.
نتيجة مفتراة: نستطيع القول الآن أن الرواسي تعمل على حماية الأرض من أن تميد بنا (أي حتى لا تتحرك أفقياً), وأن وظيفة الجبال هي حماية الأرض من أن تبرز (فلا ترتفع إلى الأعلى).
افتراء 3: الجبال تختلف عن الرواسي في النوع
بما أن الهدف من هذا البحث هو الوقوف على كل ما نستطيع استقصاءه من المعاني الحقيقية لكل من مفردتي الجبال والرواسي وبيان الفرق بينهما, فإن الضرورة تستدعي الخوض في أدق الاختلافات, وهنا نود الوقوف على فرق بين الجبال والرواسي يتعلق بالنوع. فالقرآن الكريم الذي لم يفرد الرواسي (ويذكرها على الدوام بصيغة الجمع) لا يصورها على أنها أنواع متعددة، فهي على الدوام في كتاب الله على نوع واحد فقط. أما الجبال - بالمقابل- فجاءت في النص القرآني بصيغة الجمع (جبال) وبصيغة المفرد (جبل) كما بيّنت الآيات الكريمة، ونحن نكاد نجزم الظن أن هناك أكثر من نوع واحد من الجبال، فهناك ثلاث أنواع من الجبال كما نفهم ذلك من الآية الكريمة التالية:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . (فاطر،27)
ويمكن توضيح ذلك بالصور على النحو التالي:
·جدد بيض
·حمر مختلف ألوانها
·غرابيب سود
نعم هنالك ثلاث أنواع للجبال نراها بأم أعيننا وهي الجبال الجليدية البيضاء (جُدَدٌ بِيضٌ) كما هو ظاهر بالصورة الأولى، وهي جبال بيض جدد لأنها – برأينا- تتجدد كل عام مع موسم الشتاء. وهنالك أيضا جبال حمراء بدرجات مختلفة كالتي نعرفها في بلادنا وتظهر في الصورة الثانية (وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا). كما أن هنالك أيضا جبال سوداء بالكامل (وَغَرَابِيبُ سُودٌ). فالأبيض أبيض لا درجات تفاوت فيه، ولا تفاوت كذلك في اللون الأسود، ولكن هناك تفاوت فقط في درجات اللون الأحمر، قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . (فاطر،27)
وللحديث بقية
المدّكرون: سامي الخوالدة & رشيد الجراح
بقلم: سامي الخوالدة
إشراف: د. رشيد الجراح
راجعها ودققها: د. رشيد الجراح
[1] الأرض في النص القرآني تعنى اليابسة فقط
[2] أظن أن الحاجة تتطلب النبش في العلاقة بين الخطاب الإلهي مع الكائنات التي خلقها (كالجن والإنس والدواب)، وعدم وجود خطاب إلهي مباشر مع الكائنات التي جُعِلت أو التي أنزلت كالأنعام
[3] لابد من التفريق بين عبارة الكرة الأرضية التي نستخدمها نحن الناس ومفردة الأرض كما ترد في السياقات القرآنية، فمفردة الأرض لا تعني إلا اليابسة في النص القرآني.
[4] وربما لا يجب أن يفوتنا أن نحاول فهم وتعليل سبب استخدام كلمة جبل بصيغة المفرد (جبل) وبصيغة الجمع (جبال)، بينما جاء استخدام مفردة الرواسي بصيغة الجمع على الدوام.
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ هود 43
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة 260
وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الأعراف 171